مشاهدة النسخة كاملة : الفصل الأول من رواية : وصلنا للواحة
عبده حقي
03-07-2007, 10:04 PM
عبده حقي
:os:
عبده حقي
03-07-2007, 10:10 PM
عبده حقي
وصلناللواحة
روايــــة
ملحوظة : كل تطابق بين شخوص الرواية وشخوص واقعيين يعتبرتقاطعا بالصدفة .
000000000000000000000000
هده المتاهة الجميلة والمتفردة ..السحيقة .. كانت منذ أمد بعيد تركن في ثنايا ملغزة ماأزال أجهل انتماآتها الحقيقية ، كل ماأعلمه أنها متلبسة بكل الألوان والأبعاد والسبل العنيدة التي قطعتها وحيدا مع الملائكة تارة والشياطين تارة أخرى...
كم يلزم من الوقت كي أعبر هذا الزقاق،إن مسافته لا تتعدى بضع عشرات من الأمتار ، ومع ذلك أخاله عميقا بمسافة نهر.. بل حين أرقبه من كوة الحائط المرتجلة من الأعلى ، يبدو هو الزمن كله .. ولكم تغبط نفسي نفسي كثيرا.. على هذا اللإحساس الباطني وأنا أنظر إلى الزقاق يرفل في مسافته الأسطورية، في امتلائه الباذخ...
من هنا بدأت ومن هنا قررت أن تكون البداية مرة أخرى ...
000000000000000000000000
الآن أشعر أن بوابة دائرية يمور في قامتها ضوء قيامي يغشي الأبصار .. نافورة نورانية تتموج كي تنهمرباتجاهي ، وتسحبني إلى الداخل , إلى حيث أدري ولا أدري ...
كأن صوتا خافتا يستدرجني ... فمددت يدي ، ثم انغمس دراعي ثم خطوت في توجس ، فإذا بصعقة مغناطسية تشفط جسمي كله إلى أحشاء النور القيامي ، وكانت البداية... تحت حلقة قرميدية .. انخرمت
ذات شتاء حيث كان بالإمكان رؤية زرقة السماء يسقط من خلالها النورأوالرذاذ أو مروق بعض
الطيورالقادمة من قاراتها المجهولة ، كنت أطمع في صداقتها وشدوها وألثم مناقيرها الصفراء التي تفتح لي خزائن أناشيدها الزرقاء ...
لقد سمعت النداءات مرات عديدة ، كانت في كل مرة ترجني ، تلطمني بقوة كأنما بكأس ماء بارد ، وكنت أتوقف كي أرنو إلى المسافة التي تتزيى بالسراب و الجمرات ، و كنت أشعر أنني مالك لكل
المسافة وأن المسافة امتداد لجسدي...
حين كنت أرفع عيني أرى الإطار فاغرا فاه في كل النظرات الممهورة بالحسرة ، وكنت أتخيل تلك الدمعة المتلألئة تنزلق في توأدة على الخد لتبوح بما يعتمل في النفس من مرارة . كنت دائما ألوم الجدار المقابل للسداري عن خيانته وأسأله عن تلك اليد المتلفعة بغبارالسفر.. يد أحمد.. اليد التي دست
الصورة في حقيبتها بكل هدوء وانتشاء .. وغادرت المكان...
ــ اخرس ياعثمان ، ماذا كنت ستفعل بصورة قديمة !!؟ هل كنت ستبيعها في البزارات مثل تحفة نادرة ؟!
كنت أنتفض ، أصرخ وأضرب الجدار بقبضاتي الطرية وأنا أصيح بأعلى صوتي ( لقد كانت هنا في
هذا المكان من أوعز لأحمدأن يهبها للأهالي علامة على علاقة شرعية ؟ا)
كثيرا ما كنت أتساءل هل كان بالإمكان أن أعثر عليها هنالك بعد رحلة لاتبدوآمنة في أغوارالمفازات
والعواصف الغاضبة..
ـــ ( حقا كانت صورتك رائعة ) كانت تهمس لي أمي كلما لاحظت تلك المسحة من الحزن في عيناي ، وكانت تربت على كتفي وتضمني إلى صدرها الرؤوم وأخيرا تعدني بأنها ستعمل كلما في وسعها كي
تسترجعها حين تتواأم الظروف لذلك .. ولم أكن لأثق بكلامها إذ كنت أعتبر استغفالها في ضياع الصورة مثلما تتحلل أم من وليدها في منعطف ما بالمدينة...
ولكم كنت أغبط كل الذين عبروا من هذه الباب وخرجوا منها دون أن يرنوا إلى هذا الجدارالذي
يتذكرصورة كانت قلادة على صدره.. أولاء الذين تواطؤوا على اقتراف آثامهم وأنا لم أع بعد معنى أن يكون للإنسان صورة بحجم التاريخ كله ، تختزل كل أبجدية الإنتماء ، كل ألوان الجذور وعشق إهاب البدايات...
المعطف الرمادي .. القميص الأبيض المفوف بألوان الطيف الجميلة .. الأنف المعقوف .. العينين
الصغيرتين الرانيتين إلى الأعلى . حينما كنت أمر بجانب الجدار ، كنت أشعربانخطاف مباغث يطوح
بي إلى خلاءات الغياب أو الموت المفترض ...
كنت أبحث في أشياء العالم حتى التافهة فيه ، كنت أعثر على كل شيء إلا صورتي.. ولم أشعر إلاّوأنا
أخطو حثيثا باتجاه الوالدة في المطبخ أو في السطح او في أي مكان آخر ، وما إن أبادرها بالسؤال حتى تنفض يديها مما هي منشغلة فيه وأنا أقرؤعلى شفاهها عبارات الحسرة والتهدئة وتعدني مرة أخرى أن
الصورة سوف تعود إلى مكانها على الجدار.
0000000000000000000000
دخلت إلى غرفتي ، اتكأت على حافة السداري ، كان الفراغ سيد المكان .. استدرت ، فصادفت المرآة هناك عمودية ، صامتة ترنو إلي .. بدت عميقة مثل بحر هادئ .. مثل سماء مندورة للخريف ... بدأت أتحسس أسارير السحاب وتقاسيم التشكلات الهلامية و نتوءات الحروف البرانية ... وشعرت لأول مرة كم أنا في حاجة طبيعية بل غريزية إلى صورتي الأولى !
00000000000000000000000
مازلت أذكر ذلك الصباح .. أيقظنا الوالد باكرا قبل آذان الفجر ، كانت همساته تنادينا بالأسماء ولم يكن أمر ايقاظنا باكرا يوم الأحد غريب عنا ، إذ تعودنا على ذلك منذ أن فتحنا عيوننا على العالم ، كنا نعلم في المساء أن أجسادنا الصغيرة والطرية ستخوض معركة ساخنة في موقعة الحمام ضد الأدران التي تعلق بنا طيلة الأسبوع .. وأنه سيقشرنا واحدا واحدا مثل البصل .
كان يوم أحد .. يوم يبدأ لينتهي على الموديل الفرنسي ..حلاقة رفيعة .. بدلات الأحد التي تنتظرنا على الرفوف .. أحذية الأحد .. وأخيرا عطر الأحد قبل أن تنفلت القدم إلى المتاه الخارجي .
نسير تارة إلى جانبه وتارة خلفه .. لاندري إلى أين .. كانت هذه( الإلى أين) تشغل عقولنا في ذلك
الصباح ... كنا نمشي خلفه وهو يردد علينا دون أن يستدير إلى الخلف ( احذروا بقع الطمي!! ) كان دائما يسبقنا بقامته الفارهة العريضة.. بنطلونه الضيق عند القدمين ، معطفه الأسود ، ودخان سيجارة
(كبير) يرتد إلى الخلف ، أزرق خيطا سحريا لا يستقرعلى شكل ، ونحن أبدا منبهرين بهذه الأين...
انحدرنا عبرالزقاق الضيق .. كنا متيقنين من أنه يرسم لكل واحد منا مشيته دون أن يمشي أمامه.
وصلنا إلى حانوت واطئ ، تتدلى عند بابه خيوط مشغولة من أصداف النهر ، كانت تشكل ستارا شفيفا
يسمح برؤية من وما بالداخل .
ـــ السلام عليكم ...
ــ أهلا وسهلا ، مرحبا السي ادريس ...
دلفنا الواحد خلف الآخر .. رائحة غريبة يعبق بها المكان وكان العجوز يعتمر عمامة على شكل شراع قديم، ولحية بيضاء منسدلة ومشذبة بعناية .. بشرة سمراء .. قبل عمر يده و ضمني إليه بقوة وقبل ناصيتي، ثم نهرني أبي فيما يشبه التأنيب :(ألا تقبل يده ألعفريت ؟!)
كان الحانوت يشبه ضريحا متلبسا بكل الألوان الخابية والصور القديمة والسبحات والكتب النفيسة...
اقتعد أبي كرسيا قصيرا واستند إلى الجدار، بينما كنت أحدق في هذا الفضاء الغريب .. كان رأسي يلامس من الخلف إطارا لصور حروب قديمة .. إذ تبدو بعض الخيول فقدت قوائمها .. فارس يتأبط ساقه .. شيخ يمتطي أسدا مذعنا .. سيف علي ــ كرم الله وجهه ــ الذي يقطر دما .. سرب أحصنة ذوات أجنحة بيضاء .. في الجانب المقابل صور بالأبيض والأسود ، وفي الركن تربض آلةالتصوير بثلاثة قوائم يعلوها صندوق متزيى بثوب أسود. مازال الشيخ عبدالكامل ينفث الأدخنة العبقة الشهية ويسأل أبي عن أحوال العائلة والعمل وأخبار التحريرفي الجنوب...
ـــ أجل ادعوا أنهم أحرقوهم في الثكنة !!( قال و هو يوقد عود الكبريت ) كانوا جميعا ببزاتهم الخضراء الداكنة .
ـــ ومن خطط لعملية الإقتحام ؟!
ـــ لقد تسللوا بواسطة حبال مدلاة من سورالقصبة إلى فناء الثكنة .
مسح الشيخ صدره باغتباط قائلا: وماذا بعد ؟
ـــ تفحمت الجثث واندلقت منها سوائل متخثرة و دسمة ..!
ـــ هذا يمكن أن يسرع بالجلاء والثورة قد اندلعت من الشمال إلى تخوم الجنوب من أجل الإفراج على كل المقاتلين المعتقلين والعودة من دون شروط إلى أهاليهم...
ـــ بالعكس لقد قام الفرنسيس بمداهمة جميع الأكواخ و النواويل ، أحرقوها ثم اعتقلوا كل من يدب على الأرض حتى القطط والكلاب...و...و... واندهشوا لاستعداد المتطوعين التلقائ من أجل التضحية ...
صمت السي ادريس ثم سأل الشيخ عبدالكامل الذي قام ليضبط آلة التصوير .
ـــ وعبدالسلام ؟!
ـــ.........................
لقد قضت المحكمة الفرنسية بإعدامه فجرا في جبل (النسور)
ـــ هل كان وحيدا ؟؟
ــ أجل .. بعد أن تقهقر جل الفدائيين إلى كهوف ومغارات جبل (النسور).
ما زلت أذكر ، قام الشيخ عبدالكامل، أولج دراعه في خرقة الآلة .. سمعت بعض طقطقات ، سحب من قمطرالمنضدة منديلا أبيض ومسح العين الزجاجية . تقدم نحوي ، كان أبي في تلك اللحظة يضبط مؤشر الراديو على صوت القاهرة . أقعدني الشيخ على الطابوري العالي وقال :
(الآن صرت رجلا ،.. ضع كفيك على ركبتك ). أمسك بذقني الصغير وبحركة خفيفة ووديعة رفع ذقني قليلا وقال :
حسنا .. الآن انظر إلى القمر هنالك .. نعم ، دائما إالى القمر في اللوحة أمامك .
أولج رأسه في جوف الغطاء الأسود:( باسم الله وعلى الله توكلنا .. لاتتحرك ، القمر.. القمر ... أوووب .. انتهينا، بالصحة والراحة يابني .. جيد .. سترى أنني شغلت لك أجمل صورة في زماننا.. ستفخر بها
أمام أقرانك عندما تكبر .. أليس كذلك يا السي ادريس ؟!)
لم يرد أبي ، إذ كان منشغلا بمؤشر الراديو الذي كان لايلتقط غير وشوشات وصفيرا وغنغنات...
أخرج الشيخ عبدالكامل بعض الشرائط الشفافة القديمة نقعها في الماء وعلقها على حبل بمقابض خشبية. طفق يتفحصها ...
كانت أجمل صورة وأكبر مما تخيلت ، حتى ظننت أنني خلقت من أجلها وأن الشيخ عبدالكامل لايمكن أن يكون غير بعدي الحقيقي ..جذري البعيد .. هناك في أوصال دوحتنا الوارفة .
استفقت ..ألفيت الصورة على الجدار .. هي ذي بعض مني .. بعضي الذي هوفي النهاية عين الشيخ الكامل التي لا تخطئ ويده الواثقة من ايماءتها.. كنت أرنو إليها وأخمن أنني قد بدأت منها وأنني سوف
أنتهي فيها على الجدار أمام السداري ، كانت تحييني كل فجر فتعا ودني الفكرة بأن العالم يمكن أن يتغيركله إلا هذه الصورة . إنني لاأتخيل هذا البيت بدونها، قرب السارية ، كما أنني متيقن أنها لا تتخيل البيت بدوني...كانت تكلمني تكليما و كانت أمي تلمعها كلما همت بفتح النافذة وهي تغمغم بكلام ملغز كأنه وصيتها الأخيرة.
عدت يوما إلى الشيخ ، فألفيت حانوته موصدا ، من بعيد ألفيته موصدا ، ووسط الجلبة وقيامة الشارع شعرت باغتراب . قلت في نفسي ( أيمكن ان يفعلها ، أو ربما قد يكون سافر إلى قمر آخر في سماء أخرى؟!)
دنوت ، كانت على الباب بعض التخاريم وعلى الشباك العالي نسيج عنكبوت.. ساورتني الظنون ..
قرفصت على العتبة وطفقت أنتظر.غيرأن الباب لم يفتح.. والشيخ لم يقدم .. عاودت لأيام عديدة ، في كل يوم كنت انحدرفي الزقاق مسكونا بنداءاته ، غير مكترث بما يمورمن صخب وجلبة . . كنت حين أصل وأطرق على الباب الأخضر وأختلس النظرة عبر الشقوق علني ألتمس طلعته بالداخل ، فلا أبصرهنالك في القرارة غير ظلمة مهيبة وجليلة. ..
(عن أية سماء كنت تبحث ، وكم يكفيني من الزمن كي أعثر على طيفك، وأحظى بلمسة يديك على الرأس والجبين ؟ )
(أيها الشيخ ،أخبرني لماذا نذرتني لصورتك ورحلت ؟!)
0000000000000000000000000000
ذات مساء حملت حافظتي ونزلت إلى النهر . كانت كل المراكب راسية على الرصيف الحجري تتعمد بشلال الشفق القاني ..وكانت هناك على الرابية ثلة من الصيادين يلملمون شباكهم ويعدون لوازمهم للإبحار. أسرعت الخطى نحو الأدراج التي تفضي إلى قعر النهر. نزلوا الواحد تلو الآخر إلى مركب ذي أشرعة عريضة بيضاء وصواري سامقة.. وبدا لي أن هنالك شيخا بينهم ، فخمنت أنه الشيخ عبدالكامل. وما إن طفقت أهتف بأسمه حتى كان المركب يمخرالنهر في صمت وكانت وشوشاتهم وكلامهم الهامس يصلني بالكاد .
مرت الأيام كماهي العادة ، كنت أحيانا أتخلف على موعد الدراسة .. أنزل إلى النهر.. أرسم على الدفتر وجوها لشيوخ لاأعرفهم علني أظفرفي جرة قلم عابرة بوجه الشيخ عبدالكامل، بيد أنني لم أفلح في رسم حتى تجعيدة واحد من طلعته البهية...
على الضفة الأخرى كانت هنالك لألأة تعاند ذؤابتها ظلمة المساء ، وبعض أصوات
تمتجزبخضخضات المجادف ورقرقات النهر .. فجأة وفي لحظة صفو عنت لي فكرة العبور ...
( آه ما أقساك أيها الشيخ .. ما أقساك أيها النهر.. كيف بي أن أعبرك وأنا لم أبرح بعد عتبتي الأولى ، هكذا تمضي مثل آخر ملاك ، وتتركني لقسوة الرحيل؟! )
شعرت بوخزة برد ورذاذ أيقظني من تيهاني .. قفزت من فوق الصخرة الملساء .. حملت حافظتي وعدت ...
كانت أمي تهيئ العشاء في الركن قرب الدالية .. سمعت صوت الراديو ينبعث من الغرفة .. فأيقنت أن أبي هنالك يترقب أخبار الثامنة مساءا .. اختلقت كل الأعذار البلقاء .. لو علم أبي بنزولي إلى النهر مساءا لأنبني ... بيد أنه كان منشغلا بأخبارالمساء .
أحيانا كان الراديو رحيما بي ... كان بساط ريح يعبربأبي السماوات السبع ويخترق ضباب لندن وجغرافية الشرق الملبدة بسحائب بارود حروب لاتنتهي ... ولذلك قلما ينتبه إلى تأخري ...
بت مسهدا ،.. لم يرحل غراب الأرق عن تعريشة العينين .. غمرتني نوبة تختلف بين الحمى والصقيع .. وصراخ (وردة) عمتي في الخرابة السفلية يصلني كبوق قيامة .. مبهما و غامضا ...
ــ ( آه ، لو صمتت (وردة) .. لو طارت بوم الأرق .. و لنعمت بوسنة لذيذة وهادئة ... )
استدرت وهمست لأمي ، فقامت ودثرتني بغطاء ثان ، وربتت علي قليلا . كانت آهات (وردة) مثل
ذئبة جريحة في الخرابة تصلني مروعة و محملة بأطياف الموت الرهيب ..
(وردة).. عمتي العليلة.. كنا نخشى أن نلج خرابتها في السفلي تحت حاجزخشب الأرابيسك اتقاء السقوط في فخاخ الجن الذي يسكنها ...
كثيرا ما كان أبي يستيقظ في الهزيع الليلي ، فأراه يملؤ قدح الماء ويدخل إلى بيت (وردة).. عطش (وردة) كان جنوبيا ، جافا كامتدادات البيداء..
جسد ممدد على السرير الخشبي .. بعض آثار خدوش أظافرها على الجدار حين تشتد هزات السقم
وتعلو الصراخات المتحشرجة .. يدخل أبي يطعمها حساءا دافئا وماءا وأتساءل في حيرتي ...
( أين تختبئ العفاريت حين يدلف أبي إلى الخرابة السفلى ؟!.. ألا تراه على حافة السرير الخشبي ؟! ومن أين تخترق جسدها العليل ؟! )
كنت أتساءل دائما ، مساءا .. ( ما لهذه العفاريت تهاب أبي حين يقتحم مملكتهاالمرصودة .. هل يدس تميمة واقية لانراها في زاوية من جسده تحميه من لعنة العفاريت التي قد تطوح به في فلوات الثلث الخالي...)
صرير الباب العريض .. عتمة العتبة .. أدفع بيدي إلى الداخل ، ثم أمرق مثل طائر وجل .. في كل ظلمة ، فأخالني على الفناء قد نجوت من عثرة على جسد لامرئي يتمدد بالباب ..
من خرابة (وردة) .. مغارة الجنيات، خرج أبي . تمليت في هيأته كثيرا كيما أبصر علامة ..
ندبا شيطانيا... بيد أنني ألفيته مثلما عهدته وألفته .. مثلما كان ومثلما سيبقى .. معاندا.. مقداما لايهاب
الموت ويتركني للغز السؤال ( ما الذي يحدث هناك في الخرابة ، وكيف يحسم المعركة دائما لصالحه..؟! )
(وردة) تخور على سرير الوجع .. الفقيه الذي طالع (المحلة) رآى ما لايرى .. اليوم يوم قيامة .. قال
: رآى (وردة) تسكب في الليلة المقدسة ماءا قذرا في ملاذهم ! وأمرها بين يدي كبيرهم ..الذبيحة لازمة... صمتت(وردة) وخمد الجسد الضال في بيداء العطش والأوجاع ...
على الحائط كان النعش قائما بقامة الموت .. أدركت بأن لابد مما ليس منه بد : (وردة) إذن رحلت !!
انتهى زمن الجنيات ... ورغم ذلك لم أجرؤ على اقتحام الخرابة في السفلي تحت حاجز خشب الأرابيسك...
00000000000000000000000
سمعت ذات يوم نقرا على الباب .. تمليت طويلا .. من يكون هذا القادم المتلبس بدرعات المفازات ...
وجه مغموس في لون الشمس العنيفة .. شفتان منشدختان ، مثقلتان بعراجين التمر .. كفان ضخمتان،
غليظتان تخبئان تحت اهابهاعقدا قديما مع المعول والقادوم .. عيناه ملبدتان بسحائب المأتم ... كان المنديل
المشجر بالطروز الحنائية الخافتة يزحف على صفحة الوجه القمحي مثل غيمة حبلى بشآبيب الأحزان
أحمد هذا القادم على متن ناقلة (بلقايد)... يجهش بالبكاء وهو يعانق هذا وذاك ويمجد في ليلة التأبين(وردة).
أدركت أنه لم يكن غير فرع من شجرتنا الجنوبية ...
لقد علمته (وردة) كيف يقبل على الصحراء مثل الظباء النافرة ...
لن أنسى أطباقا مشغولة من ألياف الدوم ..أتى بها مترعة بعبق الحناء العذراء وسلال تمور مختومة بشمع السعفات ...
كان بعض رسله يطرقون الباب المتداعي العريض محملين بأخبار وحكايا عن(الواحة) على متن الناقلة المهترئة الوحيدة وقتئذ .
(وردة) كانت رحما يتضور على جليد العقم .. وكان ( حماد ) زوجها وحشا ضاريا ينهش عمرها بسكاكين كلام شائك ، ويعيرها بحسناوات ( الواحة)...
ولكم طافت و تمسحت بكل الحيطان المقدسة ، وذرفت أنهارا من الدمع الفوار في كل المواسم بين
رحلتي الشتاء والصيف..ونحرت العنزات السوداء على عتبات الأولياء.. وعقدت على أغصان شجرة (للاعيشة) المعزولة الرهيبة كل ألوان الخرق المنقوعة في السماق المسحور.
كان قفل الجسد عنيدا تأتي رياحه بما لا تشتهيه سفن الليالي .. زمنئذ أطبقت على ( الواحة ) سنوات جذب .. طالما صدحت فيها الحناجرالعطشى بكل الابتهالات والتضرعات...
ولم تكن السا قية الضحلة الوحيدة كافية لانبجاس فاكهة الرواء.. كان ( حماد) يتسلق أدراج النخلة العجفاء يرنوإلى أحواض الحناء والفصة المسربلة ببروق السراب وعلى الجهة الشمالية تبدو تلال
وكثبان الرمل الفاقع مثل دناصير جاثمة ، متربصة ب( الواحة )...
ذبلت آخرالنبتات ، حتى أضلاف الصبار المرفوعة مثل صفعات هاوية على وجه الأرض ، وألقت
بظلالها الممسوخة ... وكانت أحاديث البوابات عند الظهيرة والقناديل السهرانة على لفح القيظ وصواني الشاي لا تشد عن كارثة الجفاف... بيد أن البعض كان يخمد حمأة الصهد بأمطار لم تسقط إلاّ
في سماء الأوهام.. وعن سنوات الجفاف والجوع الأسود الذي أتى على عشرات القبائل في الشمال ،
حيث زحفت عليه رياح عاد و تمود العاتية...
(حماد) وحده يخرج من جدب ليدخل في جدب ( هذه الجروة ! متى أتخلص من نباحها المسعور .. دبيبها المقرف ..) .
ذات ليلة عزم على الهجرة إلى (الغرب) .. ولم يكن (الغرب) غير الوجهة المثخنة بأنفاس السحائب
البحرية حيث يتمدد عقد المدن الراقية التي ترتع في مروج لاتنضب ، وتنهل من أنهارخيرالتمدن ... أينما ترسو الناقلة الأسبوعية كان (حماد) يلاحقها وهومتلهف ليستفسر العون عن أحوال (الغرب).. شتاؤه العدني متاجره ومارشياته الباذخة.. غوانيه ذوات البشرات المصقولة كقطع الفضة الأصيلة ... ثم ينساب الكلام ناعما وعناقيد طاجزة وأحلاما تعرج ب(حماد) إلى أعتاب الفردوس ..
وكان لايستفيق من وهمه إلا على غبار كثيف تتركه الناقلة خلفها ، وطريقا محفوفا بالصباروشجيرات الشيح اللاذغة ، يرتفع شيئا فشيئا إلى أن يخترق حافة التل الكستنائي الموحش...
(حماد) وحده يرحل كل سبت إلى (الغرب) على صهوة حديث العون المثخن برائحة (المازوت) ولكم لمح ل(وردة) بسياط الطلاق :( هنالك ــ مشيرا إلى جهة (الغرب) ــ هنالك سآتي بلالاّك... سوف ترين
يكفي فقط أن ترن جيوبي وأرتدي الكوستيم الأسود والقميص الأبيض المطوق بالفراشة السوداء وألمع الحذاء...
هي تصمت وتعقد الألم بنطاقها الأحمر.. ترفع عينيها إلى سمائها المخصوصة .. و في مرات عديدة كانت تغرق في صرعات اهتزاز ورجفات مصطخبة ويتكور الرغام في زاوية الشفة ويفسد الدمع
مجازات المرود المنقوع في الكحل الضوئ .. ويرتفع وتر الشكوى حتى تسمعه الجارات وقد ينبلج
الباب عن إحداهن على عجل متلفعة في خمارها الأسود وبين يديها مزيدا من جرعات أدواء الصبروخليطا من عصارة الأعشاب التي قد تحقن الرحم بحرارة التورم المشتهى...
سماء ( الواحة) لم تمطر ، وطريق( الغرب) موصدة بمتاريس وحراس ببنادق المكر,بعيون زرق.
قال (حماد) في نفسه:هي ذات الطريق التي عبرخلاءاتها وأحراشها السابقون منذ سنين .. وشيدوا هنالك بيوتا واطئة هي في الأصل طبعة رديئة وممسوخة لهندسة القصورعندنا ...
0000000000000000000000000
ذات ليلة تسللت (وردة) من سرير المهانة قبل أن يشرق على التل الرملي شعاع الفضيحة .. وشقت الطريق المتربة المنزوية إلى قصر (البير) حيث هناك الملجؤ الآمن عند الشريفة (ايزة).
استفاق (حماد) على صقيع غريب .. ضغط على زر مصباح يدوي ، فبدا له البيت لأول مرة خاليا
وموحشا ... ولأول مرة جعل يدرع كل الأركان وهو يهسهس باسمها ! و لأول مرة أحس بالخواء وبفزع يحتوي المكان !..ولأول مرة أحس أنه ماكان ليستوحش نفسه لو كانت (وردة) راقدة يهفو
السريربأنفاس وأريج الحناء في ضفيرتها !.. و لأول مرة برقت في فكره ومضات الزخات الأولى ، ثم تلفع في جوخه الرمادي وراح يفتش عنها في أرجاء ( الواحة)..
كان يحدق في العتمة ، ويسدد شعاع المصباح اليدوي في كل الخبايا ، ثم جعل يدق الأبواب ويهتف باسمها تحت الشرفات والنوافذ .. ثم اندفع يخور مثل ثور هائج منفلت للتو من دهليز... فبدت له عتمة
العالم مثل دفة هائلة أغلقت في عينيه بفظاظة وقوة وسرعة . استند سورا حجريا مشرفا على الحافة وطفق يلتقط أنفاسه كأنما يلتقط أشياء ثمينة انتثرت فجأة في الظلام ، وأخيرا راح يمني النفس بالوثوق المخادع لرجوع (وردة)...
قالت (ايزة) بغيظ منفوث :لا تكترثي بالأمر كثيرا، لدي كل ما تحتاجينه وسوف أدبرلك أمر السفر إلى مكناس خلسة .. هذه ستكون هي الأخيرة ...
وردت (وردة):( كيف لي أن أقطع تلك القفار ومن السيدة التي سوف ت...) وقاطعتها (ايزة) وهي تفتش في الصندوق القديم :( اصغي إلي جيدا .. سوف تتنكرين في جلباب و سلهام زوجي رحمه الله
وتعتمرين بعمامته الصفراء وتستقلين الناقلة.
ــ لكن قد يكشف ( الكريسون) تنكري وتكون الفضيحة فضائح و...
ــ الأمر بسيط جدا ..جدا .. انفحيه بعض الدراهم وسوف يبلع لسانه ويدبر لك مقعدا مواريا عن عيون الوشاة ( إنه يرى النقود ولا يرى الحافة !! )
وبدت (وردة) في نور الفنار الغازي بملامح و تقاسيم مشوبة بالوجل والتردد وهام ذهنها في تبعات
شائكة قد تلحق بها فضائح أكثر مما كابدته تحت سقف (حماد) . بيد أن (ايزة) عالجتها وعضدتها بجواب لاتحبك بلاغته سوى العجائز المكيدات الداهيات...
كان عليها أن تمكث أربعة أيام إلى أن يحين يوم قدوم الناقلة وهو يوم السوق الأسبوعي وشعرت بعد حين أن هول الفضيحة قد خفت وطأته وجعلت تهتم بأناقتها وتتعجل موعد الرحيل .
جوتيار تمر
05-07-2007, 10:28 AM
الرائع عبده حقي..
الراوية جاءت وفق معايير عالية في الارتقاءالادبي،وكذلك في التعامل الجاد والدقيق مع الشخوص
، من خلال الرؤية الجيدة والدقيقة للشخصية ومن اغلب الجوانب، بحيث تحقق الاستطرادات التي تتخلل النص تراكما هائل نستطيع ان نحدد من خلاله معالم الفكرة الاساسية و الشخصية التي يتناولها النص،
والسرد كما وجدته متلازم دقيق مرتبط منذ البداية ومتين ومتماسك ، بحيث هناك انضباط كبير في ايقاع السرد وفي تحمله لمعاناة الاستدراجات واحتوائه لعنصري الزمان والمكان مما حقق نوعا من التكامل المتميز داخل اللحمة العامة للنص .
عذرا على قصر الرد..
لان النص ارهقني بالفعل لطوله..
دمت بخير
محبتي لك
جوتيار
د. محمد حسن السمان
06-07-2007, 10:43 PM
سلام الـلـه عليكم
الأخ الفاضل الأديب عبده حقي
أغتنم فرصة مشاركتك الأولى في الواحة المباركة , لأرحب بك بين النخبة من أهل الأدب والشعر والفكر والعلم , بين أعلام أعتز بهم وأفخر , فأهلا بك .
وقد قرأت ماأطلقت عليه الفصل الأول , من رواية " وصلنا للواحة " متعرفا على أديب متفوق , متمكن من أدوات القص , يملك نفسا جميلا غنيا في امتلاك ناصية الحدث , ولغة جميلة , ولقطات تصويرية باهرة .
تقبل احترامي وتقديري
د. محمد حسن السمان
آمال المصري
30-03-2010, 11:52 AM
الأديب الرائع الأستاذ / عبده حقي
قرأت الفصل الأول من روايتك الباذخة الجمال
مما دفعني للبحث والحصول على الرواية كاملة
وسأتفرغ لقراءتها لانبهاري بلغة سموكم الشاعرية وبلاغة مفرداتكم
استمتعت سيدي الفاضل فأنا أعشق قراءة مثل تلك القصص الفريدة
وكنت أتمنى أن تمن علينا بنشر باقي الرواية
لنتعلم من فيض قلمكم الوارف
ينحني لكم الحرف والقلم
ولكم جل التقدير والاحترام
ربيحة الرفاعي
11-05-2014, 07:03 PM
قصة موفقة أدبيا، طابت سردا بانسجام حرفها وتكامل أدواته وتمكن الكاتب من التصاعد الدارمي عبر تنامي حدثي واسترجاعات مثقلة بالإشارات وشرح دقيق للشخصيات جعلها أقبل لانتحالها أو فهمها من قبل القارئ لينجح بذلك في الاندماج الكلّي مع النص
اللغة مدهشة بصورها وبراعة التعبير العميق بجمل قصية مشع محمولها
طاب لي ما قرأت
وأنتظر الكثير من هذا اليراع الرائع
تحاياي
نداء غريب صبري
08-07-2014, 06:14 PM
الفصل الأول جاء قصة جميلة
والسرد مشوق ورائع
أمتعتني قراءتها
ويهمني قراءة الرواية كاملة
شكرا لك أخي
بوركت
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir