تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بوح "3" الاشياء



مأمون احمد مصطفى
18-08-2007, 02:22 AM
بوح

" 3 "
الأشياء

لماذا نغادر الأشياء؟ ولماذا تغادرنا الأشياء؟

حقا أنا لا اعلم عن من ماذا أتحدث، لكنها الحيرة التي تداهم النفس أحيانا، دون معنى ودون سبب، تأتي هكذا لتضع العقل والنفس أمام تساؤلات غامضة مثيرة، مجهولة معلومة، تؤلم الذات، تستنهض الوجع، ترج الصدر، حتى يبدو وكأنها تود أن تجعل ضلوع الصدر تختلف وتتداخل، تشعر بانفجار يهز الهدوء ويمحق السكينة.

تحاول أن تفرج عن نفسك قليلا، تخرج نحو الهواء المحمل بصفير الرياح وقسوة البرد النابع من الجليد والثلج، تمسك بك آلام الرقبة، ويأتي الغاز من حيث لا تعلم ليستقر في جبهتك، تقترب من الانفجار، تشعر بالرعب والهلع، تكتسحك كآبة مركزة.

ينبت السؤال من جديد، لماذا نغادر الأشياء؟

ما هي الأشياء؟ التي نغادرها، ولا نعرف عنها سوى أنها الأشياء؟

أهي الأوطان؟ أم سلاحف الطفولة؟ أم حيات الجبال التي دككنا رأسها بأحجار الصوان ثارا من الخوف والسم؟ ربما هي عيدان النرجس وزهر الدحنون؟ وربما سقوف الصفيح التي كانت تضربها حبات المطر، وكنا هروبا من المأساة نعتبر ضجيجها قطعة موسيقية، تغنى بها شعراء، ومجدها أدباء؟

ربما هي المقبرة الموغلة في الوحشة والانطواء، بالمجهول المركز من المجهول؟ وربما هي مجموعة الحراذين التي كنا نطاردها من سور إلى سور، لنذبحها ونصبغ العشب بدمائها، دون مبرر ودون سبب.

ربما هي اللوعة التي كانت تمزق وجوه الناس القاطنة المخيم، ويمكن أن تكون وحل الشتاء الذي كان يلتصق بنا ويرفض مغادرتنا.

وربما؟ وربما؟

لكننا نبقى ندور في مساحة الغموض، ويبقى في السؤال عذاب الغيب والمجهول، لماذا نغادر الأشياء؟ ونحن بالإحساس نجزم بمعرفتنا بكنه الأشياء وفحواها، لكننا حين نحاول الإجابة، الشرح، نشعر بالعجز القاتل، تنساب المسلمات من بين أيدينا كما ينساب السراب من عيون الموتي لهثا خلف ما يعرفون بأنه الماء، لكنهم لا يعترفوا، أمام انفلات الحياة من الروح، بسراب اليقين ووهم المسلمات، بل يتدافعوا نحو الوهم والسراب، بقوة الموت نحو ما قالوا بأنه الماء المنقذ من حر الصحراء وقيظ الرمل.

هي الأشياء التي تتداخل وتتشابك بأعماقنا، تماما كالأغصان المتداخلة المتشابكة بدون إرادة منها ووعي، لتشكل تعقيدا يبدو للناظر بروعة التشكيل ودقة التنظيم، لكنه لا يعرف، ولا يود أن يعترف، بان ما يعرف، اقل كثيرا من روعة التشكل وقوة التنظيم، لكنه يظل متوجا جهله بما شاهدت عينيه وما قرر عقله.

وحين تتداخل الأشياء بذاته وتتعاظم، ويشعر بالعجز عن الكشف والاكتشاف، يخرج من طور الروعة والدقة إلى طور الغموض والدهشة، ليسأل من جديد، وهو موقن بمعرفة ما يسأل عنه ، " لماذا تغادرنا الأشياء " ؟ يتنبه للسؤال فيعاود التساؤل من جديد ، " لماذا نغادر الأشياء "؟

ما هي الأشياء؟
هي الأشياء.
كيف نغادرها؟
صمت وحيرة.
كيف تغادرنا؟
صمت وحيرة.
صوت ارتطام، صراخ مجهول.
ماذا نعني بصوت ارتطام؟
وكيف يصرخ المجهول فينا؟

يعاودنا اليقين المجهول ممزوجا بأشياء، نعم بأشياء، نعرفها ولا تعرفنا.

تعرفنا ولا نعرفها.

هناك، على الشاطئ الراقد منذ أزل مجهول، تتحرك المياه بغضب وهدوء، تنفجر البراكين وتلتهب العواصف، تتكون الحياة وتنعدم، تتحرك المخلوقات برتابة وتجدد، تتداخل الأشياء، الموت والحياة، الهدوء والانفجار، يتشكل الشاطئ بالصخر المخرم، المنمنم، ويسافر الرمل عبر مسافات الأرض والزمن.

نداهم الشاطئ بزيارة، ونحن نحمل بين أيدينا كانون الشواء، نطبع الابتسامات، نغازل الرمال، تثير ذهولنا الأصداف.

تضربنا فكرة مفاجئة، من أين أتت هذه الأصداف، وكيف زحفت الرمال من بين شقوق البراكين الملتهبة، وكيف استطاعت أن تخرج من بين طيات المجهول إلى أيدينا؟

كيف نغادر الأشياء؟
كيف تغادر الأشياء ذاتها؟
كيف تغادرنا الأشياء؟

حين سقط الألم في حلق الوجود، تنامت الأشياء وتضخمت، بدأت تكبر وتتمدد، تنتشر وتتوغل بأعماق الأشياء، لتتكون أشياء وأشياء، فتتمدد هي الأخرى ، لتتكون أشياء وأشياء، وتتكون أشياء وأشياء.

وحين تعملق الألم والوجع وامتزجا بالعذاب والغموض، تناسلت الأشياء وانقسمت، تناسل المجهول وانقسام المعلوم، دخلت فينا، ودخلنا فيها، تمازجت بنا وانصهرنا فيها، عشقتنا وعشقناها.

عرفتنا
وتعمقنا جهلا بها.

- عن ماذا تتحدث؟
- عن اللاشيء.
- غريب.
- ما الغرابة في ذلك؟
- اللاشيء معدوم.
- وكيف استطعت أن تعرف العدم؟ أليس ما لا نعرف هو بغير مسمى، لأنه لا يخضع للعقل أو الإحساس ؟
- ولكن اللاشيء من العدم؟
- العدم غير موجود في ذاكرة الأشياء، لكننا نسمي اللاشيء، فهو بالتأكيد موجود.
- أين؟
- هناك وهنا، بأعماقنا الخافقة بالعجز والغموض والصغر. هناك بين الأشياء التي تبحث عنا ونبحث عنها، وهنا بين الأشياء القابعة بأعماقنا، وهنا بين الأشياء التي نقبع بأعماقها.
- أتكتب عن اللاشيء، والشيء تنساه.
- الشيء يكتب عنه كل الناس، أليس من حق اللاشيء أن أن نكتب عنه، ألا يستحق اللاشيء أن نضيع قليل القليل من المداد من اجل هيبته وغموضه.
- الشيء مدرك، واللاشيء مستتر خلف الإدراك، فلنكتب عن المدرك، لنرتقي بالشيء، لنحييه ونمنحه البريق، أما اللاشيء فليبق مطويا باللاشيء.
- هذه أنانيه.
- بل أنت عاجز عن الكتابة عن الأشياء، فالتويت نحو اللاشيء هربا من العجز والخوف.
- أوليس من حقي الالتواء نحو اللاشيء، عجزا وخوفا؟
- غريب أنت.
- بل غريب أنت.
- كيف؟
- أنت تتحدث عن الشيء، هل تعرف ما هو الشيء؟
- الشيء هو الشيء؟
- واللاشيء هو اللاشيء، اللاشيء يا صاحبي أكثر عمقا واستحقاقا بالوجود من الشيء الذي تعرفه بمقدرتك في اقتناء الجهل المبرر بالغباء والانشداه.
- دعنا نغادر الأشياء.
- دع الأشياء تغادرنا.
- كيف تغادرنا الأشياء؟
- كيف نغادر الأشياء؟
الشيء للاشيء ....
كيف أغادرك؟
اللاشيء للشيء....
كيف أغادرك؟


مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 29-06-2007

جوتيار تمر
18-08-2007, 11:44 AM
مأمون العزيز...
عشت معك هنا شكاً الاشياء بلا اشيائها...وكاني اخوض في المفاهيم الديكارتية..واعلل الاسباب والشكوك حول الاشياء واللااشياء..ومن ثم وجدتني احيانا اقترب النسبية حول رؤى الاشياء بشكل مغييرعلى حقيقتها حيث لا يمكن اطلاق صفة المطلق على الاشياء التي نراها...ثم عدت اردد اذا لم ترى الاشياء..فكيف تحصل على الحواس..الحواس هي انعكاس للواقع..وليست مجردة..ذات صفة معزولة عن الواقع..لاتحس بشيء لم تراه من قبل..اذا الاشياء تدرس بالحواس..والحواس هي اسقاطات الواقع..والاحساس بها يكون ماديا وليس غيبيا..وما اكثر ما يولد الواقع فينا من احساسات ربما نجدها اشياء..بالرغم اننا لانريدها اشياء اصلا لانها توخز العقل والوجدان الانساني..وكأننا نردد في انفسنا مقولة ديكارت:"كل ما تلتقيه، حتى الان، على انه اصدق الامور، واوثقها، قد اكتسبته بالحواس، او عن طريق الحواس، غير اني وجدت الحواس خداعة، في بعض الاوقات، ومن الحكمة الا نطمئن ابدا كل الاطمئنان الى من يخدعنا، ولو مرة واحدة."

المأمون..

رؤية في غاية الجمال للاشياء بلااشيائها

دمت بخير
محبتي لم
جوتيار

منى الخالدي
18-08-2007, 12:41 PM
فلسفة جديدة ، تنمّ عن نضج متكامل ، حيث التساؤل الأوحد في حياتنا ..
لماذا تغادرنا الأشياء؟
لأنها تريد أن تغادر
ولماذا نحن نغادرها ؟
لأننا بشر
والأنسان بطبعه لا يستقر على حال ، فيستحق أن تغادره الأشياء يوما ، وإن كانت من أعز ما يمتلكه القلب ، أو الروح..
أيها الأديب الفيلسوف
أقرأ لك دوماً ، ولا أخفي عليك أنني أستغرق في القراءة وأتعب في تحضير الرد
لأن قلمك صعب وفلسفي ، تتشابك فيه خيوط الأبداع الفلسفي الذي ليس بالسهل
توغله وتسلق أسوار أبداعه الا بجهدٍ ذاتي وهدأة للنفس التي لا تهدأ أبدا..

تحيتي وكلّ آيات إعجابي..

سهير ابراهيم
18-08-2007, 08:28 PM
قلمك مميزوائع التعبير
كلماتك احساس مرهف
ما اجملها واصدقها
اقرأها حرفا حرف
واعجز عن كتابة وصف
فعذرآ لتقصيري
مع احترامي وتقديري

د. محمد حسن السمان
18-08-2007, 09:15 PM
سلام الـلـه عليكم
الأخ الغالي الأديب الراقي مأمون أحمد مصطفى

موضوع " بوح الاشياء " , مقالة أدبية فكرية جميلة راقية , اعتمدت فلسفة ذكية حاذقة , بشكل غير معقد , وذات رسالة وهدف , والنص كتب بلغة رصينة راقية , وتم البناء بشكل لافت جدا , وهذه البناء وهذه الرصانة , هي سمة واضحة في كل الأعمال الأدبية للكاتب , وفي الحقيقة , إن الكاتب مأمون أحمد مصطفى يكاد ياسرنا باسلوبه المتميّز , فهو يمزج بين التالق الأدبي , والفلسفة الانسانية , وتقديم رسالة هادفة رفيعة المستوى , بمعنى آخر , فأن الكاتب يملك مشروعا فكريا يخدم قضية .

د. محمد حسن السمان

https://www.rabitat-alwaha.net/waha/wr.gif

مأمون احمد مصطفى
19-08-2007, 03:14 PM
العزيز جوتيار

نعم هو الشك المرافق للاشياء، الاشياء التي تعلمنا ان نعرفها كمسلمات نعيش معها ونحن لا نعرف عنها سوى انها الاشياء.

مع خالص المودة

عتيق بن راشد الفلاسي
19-08-2007, 03:24 PM
رقي في الطرح قل مثيله أخي مأمون ..دام الأدب الأصيل وأهله.

مأمون احمد مصطفى
20-08-2007, 01:24 AM
لاخت الكريمه منى

تواضع منك ان تصفي كلماتي بهذه الصفه، تحيتي لعمق نبضك واحساسك.

مع كل المودة

مأمون احمد مصطفى
20-08-2007, 03:59 PM
سهير ابراهيم.

عذرا لتقصيرنا ، وعذرا للحياة التي وجدنا بها دون ان نعرف عنها سوى اننا ندعي المعرفه.

اشكرك على هذا المرور الكريم

حوراء آل بورنو
20-08-2007, 04:54 PM
الأخ الفاضل

تعلم أني ممن يتابع دوماً ما تكتبه لأن لك أدبا يستحق المتابعة ، و الحق أني تحيرت أمام نصك هذا ؛ فقد نقلت إلينا حيرتك و أصابتنا عدوى اضطرابك .. أنت كاتب ناجح .

أتسأل " لم تغادرنا الأشياء ؟ " لسبب بسيط جدا ؛ لأن الزمن لن يتوقف مهما كانت تلك الأشياء !!!
الزمن يملك زمام الأمور و " الأشياء " ، و متى غادرنا الزمن الآني أخذ معه كل " أشيائه " و جلب معه " الأشياء " التالية .. لا تعتب على فلسفتي فلو كنا نملك قيد أنملة من تلك " الأشياء " لاتستبقى كل واحد منا أجمل " أشيائه " !!!
و لكننا - و لجهلنا - نستبقي الحزن على ما فات من " أشيائنا " الجميلة ، و نحمل الهم على " أشيائنا " الأتية .

كن بخير .

مأمون احمد مصطفى
21-08-2007, 08:48 AM
الدكتور الكريم محمد السمان

اشكرك على هذا المرور الطيب، واتمنى ان اكون على قدر الوصف، فرسالة الادب تحتاج الى ان تتبلور في ذاتي منذ زمن، ولكن بيني وبين الفكرة خلاف لا يهدأ

مع كل المودة

حسنية تدركيت
28-08-2007, 01:38 AM
أخي الفاضل هناك وراء لاشيء أشياء لانعلمها ,الله يعلمها
عالمنا محدود بادراكنا القاصر ,ويبقى لاشيء هو ذاك العالم الواسع
والشامل لكل الأشياء التي لم يصل إليها ادراكنا
تحية لحرفك المتميز جدا