تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : آه يا حيفا



مأمون احمد مصطفى
27-08-2007, 11:38 PM
آه
يا حيفا


كم أنت عزيزة، وكم أنت غالية، كم أنت عصية، وكم أنت مستعصية.

على الشاطئ، حيث يقف الرمل، وينتصب التاريخ، بين عينيك الراقصتين شعاعا من حلم يخترق الليل ويشق الظلمات، ويزهر المجهول رياضا من عشق عوسجي الطلعة، بتناغم مع قرنفل الغيب المحمل بأنات المهاجرين الرابضين على أرصفة المدن، وشواطئ الغربة، معبأين بالحنان والحنين، للنسيم المرسل من موج الغيب والمغلق، إلى مساماتهم المشرعة للخوض بحتمية الصبر واليقين، بحتمية العودة، للبرتقال والليمون، والتين والزيتون.

ترى، ألا زلت تذكرين وجهي الدامي بالشوق الخافق، بالروح الممتدة من تاريخ الهجرة، حين انكفأت على ذاتي مغادرا، من فوق ذراتك، إلى ذرات ارض، لا تشبه تفاصيلها، ومروجها، وحدائقها الغناء، وخز شوكك المبارك، وقيظ صيفك الندي، وقساوة جبالك الناعمة، يوم حملت جثتي على ظهري وجسدي، مكفنة بالخوف، وملفعة بالهزيمة، من اجل أن أحيا، بموت يضمن بقاءك في عيوني.

اغضبي علي، كيف شئت، وأنى شئت، لك الحق، كل الحق، باستخراج وجعك المعتق، عبر العصور وعبر الدهور، لتنثريه بوجهي وذاتي، بكياني، غبارا يسفع الوجه والجسد، ويدور كزوابع رملية بصدري الذي اختار ذرات ارض غير أرضك، وألوان جبال غير ألوان جبالك التي تصنع لون الكون عبيرا موشى بوجوه من ذابوا فيك طوعا واختيارا.

غادريني كزنبقة الوادي، من ذاتي إلى ذاتي، كالجذر الممتد من رحم التراب إلى رحم الصخر، ومن عين الماء إلى البئر، ومن رحيق الماضي إلى رحيق القادم، وكسٍريني كما تُكَسًر أشعة الشمس على شاطئ بحرك الحاوي أسرار الكون وغموض القمر، واسحبيني مع موجة قادمة عائدة، إلى أعماقك النقية، واغسليني بمائك وضوئك، غسيل النهر للأرض، وغسل العصفور للندى، والبلابل للآفاق، واحمليني رضيعا يرضع صدرك ويسحب من حليب عمرك وعطرك، كجني يعرف مداخل الحب وأبواب العشق في بساتين الجنان والفراديس، أو كدفقة نور تخرج من روح شهيد لا زالت معلقة كقبة الأقصى بين النجوم والشموس والأقمار، تراقب ترابك الممتص لنورها امتصاص الروح للحياة الأزلية.

واحمليني نعشا من العوسج، على كاهلك المرهق المتعب، وسيري بجثماني بكل التواءات أوردتك وشرايينك، مسيرة تقطعها أيام الخلود وتدخلها سنوات البقاء، كحسون أو كنار، يسكب صوته بمسامع الأكوان والسماوات خلودا يمتد من حيفا إلى حيفا.

كم احبك يا مدينة رحلت من مساحاتها وأرضها لتسكن سويداء الروح والقلب، لتمخر عباب محيطاتي الممتدة ولها وعشقا لأحرف اسمك المسافر دوما عبر الموانئ إلى المرفأ الأخير في عقلي المتسع لكل تضاريس أرضك وجبالك، يا وطنا تحمله عناقيد العنب وأزهار البرتقال والليمون والدراق، إلى عيني الغارقتين بكل أرصفتك وشوارعك، يا جنة الكون المقذوف في مساحات الموت والفناء، لو تعلمين فقط، كم من الدموع سكبتها في عيون الروح والقلب وأنا اجر أذيال الخيبة لأدخلك وأنت تنتفضين انتفاضة نور من مجهول اقتحم مكونات جسدك وروحك.

لو تعلمين يا حيفا، كيف يبكي الرجال أنفسهم ساعة الانكسار والهزيمة.

آه وألف آه يا موطن النجوم والشموس.

الحروف بين أناملي تتراقص كشمس فوق محيط ممتد في خاصرة الأرض، تترجرج، تتفلت، تأبى الانصياع إلى مشاعر تتلظى من حمم شوقي واشتياقي، لتغور بأعماق مجهول يسحبني نحو مجهول، فأحس نفسي تخرج من نفسي، وذاتي تخرج من ذاتي، هو التحول يا حيفا.

يا أمي...

ويا أم الأكوان والناس والأشياء، يا نورا يأتي ليزيد الكون غموضا فوق غموض.

احبك، كما لم يحبك بشر قبلي على هذه الأرض، وأعشقك بطريقة أخرى، لا تشبه عشق الناس للنساء والأوطان والأشياء، بل بطريقة أخرى، تتفردين بها بجلال هيبتك وشموخك، بجلال خصوصيتك، وخصوصية شاطئ البحر النابع من أعماق مجهولة النبع والتكوين، احبك حبا، لا تستطيع الكلمات أن تحده أو تحيطه، لا تستطيع رسمه أو وصفه، لا تستطيع ضمه أو تركه، لا تستطيع الانبهار به أو الإعجاب بتكوينه.

أنت شيء آخر، خاص، لا يخرج من النفس أو الروح، ولا يغادر العقل أو القلب.
أنت حيفا...

حيفا التي وقفت بكل ما فيها لتحتضن الأبحر والمحيطات برموش يتناثر اللؤلؤ بين وسنها وصحوها الممتد منذ الأزل إلى الأزل.

أنت حيفا التي تنسكب الدموع من اجلها دونما خجل أو حياء، دموع السماء والنيران والبراكين والزلازل، دموع الرجال والرياح والزوابع والعواصف، دموع الأمهات والليل والأسرار والنيازك، دموع الأطفال والموت والحياة والبعث القادم.

أنت حيفا.

حلم الأرض للأرض، والزيتون للزيتون، واللوز للوز، حلم التاريخ الممتد من عهد الخلق إلى يوم الساعة، وحلم الشموس المسافرة في الآفاق بحثا عن وطن في جسدك النابض تاريخا ملفعا برائحة الزعتر واليانسون والنعنع.

أنت حيفا.

الخارجة من تكوين المعتاد والمعهود، إلى تكوين الجمال المغلف بالأسرار والغموض، الموشى بهيبة البحر والصحراء، بهيبة الغيب المستتر خلف غلالات الغيب الممعن في استفزاز الأحداث والأشياء والأزمان والأمكنة، أنت سر الأرض المخفي في نواة البراكين المسجرة في قاع المحيطات إلى يوم يعرفه الغيب القادم، ليقذف حممه المباركة على حواجز الموت الذي حط فوق رباك وتلالك وهضابك، ليفتح صدر الكون لطهارة الأيام التي تلي تفجر تلك الحمم، وليزهر الزعتر واللوز بنوار يفيض بالعذرية التي يصنعها غضب البركان برحمة الحمم المطهرة للأرض.

أنت حيفا.

التي حملت خطوات أجدادي حين بدأوا يكرجون كرج الطفولة، ويضربون ضرب الشباب، ويتوأدون توأد الشيوخ، وأنت التي احتضنت أجسادهم بأعماق تربتك السمراء الفتية، لترويها بجذور الزرع والورد والياسمين.

وأنت التي بلحظة عين مخطوفة من الزمن، انسحبت خلفي يوم حملت جثماني على كاهلي وغادرتك، هاربا من موت ظل يعيش بأعماقي حتى هذه اللحظة.

لو أني بقيت فوق ترابك، فاتحا صدري للأشباح والغيلان والرصاص والقذائف، لو بقيت واشرعت أشرعتي لدوامات بحرك وهدير موجك، لكنت اليوم حيا، انبض بالروح، وأفيض بالبقاء.

لو
لو
لو


مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج-21-10-2006

جوتيار تمر
28-08-2007, 12:13 AM
العزيز مأمون...
ليس امام مقطوعتك الرائعة هذه ما اسطره..فهناك حب وعشق اكبر من كلمات قد تصف..او تغازل.. او تحبب..وانا امام مواقف كهذه اتجنب البوح..لاني اخشى ان افسد روعة النص..فقط اهمس لك بهذه الترنيمةالفوغالية التي ارددها كثيرا هنا:وتجيئ ايها الوطن المبتلي..والابتلاء محبة من الله..كالعنقاء الاسطورة التي تجيء من رماد النار.. من جمر الحرائق..تصاعد،تفرد جناحيك..تمتد امتدادك في سماء الاضلاع..وترقص رقصتك في فضاء الحنايا..آخذ زينتي،اتطهر..ابتهل ابتهاليالشاخص..ياويلي.. ويالذتي..ويااحتراقي البهي..ها انا ذا اعرج الان اليك معراجي..ياذا السناء..ياذا البراق..اني اصاعد..اني عند تخوم الوطن.


محبتي لك
جوتيار

حسنية تدركيت
28-08-2007, 01:15 AM
نص فاق الروعة , سأعود مرات إلى هذا النص الشامخ
المترع بالجمال كلما غمرني الشوق إلى فلسطين الحبيبة
وإذن ستبقى روحي محلقة هنا ,تجني بعضا من الراحة
فلتكن دوما بخير محب حيفا الوفي

مأمون احمد مصطفى
28-08-2007, 04:06 PM
جوتيار العزيز .

لهمسك معنى اتنسمه من بين الحروف.

دمت بود

حنان الاغا
28-08-2007, 05:12 PM
مأمون

منذ مدة لم أقرأ لك ، لذا تراني سعيدة الآن عندما قرأت (حيفا ).

حتى أسماء مدننا لها رنة خاصة في الأذن ووقع خاص في القلب ، وهذا ليس صدفة ، بل هو أمر قدري أن تظل هذه المدن العتيقة البديعة التي ما تزال تخفي وراء نوافذها عيون الكنعانيات ، وبين أمواجها أحياء المتوسط.
مدن الروائح المنعشة والزيت .

مدننا تبكي شوقا لنا وحنقا على غيرنا وبغضا من عدونا، تركناها نعم لكنها ما كانت لتحقد علينا ، فهي تدرك أننا بشر خوافون ، رغم حبنا لها .

كم تذكرني كلماتك بمدينتي التي لم ألتقيها أبدا .
مأمون ، هي ثرثرة ساقني إليها الموضوع .
مودتي

مأمون احمد مصطفى
29-08-2007, 10:23 AM
الاخت حسنية

اشكرك على هذا المرور الطيب واتمنى ان نمرغ وجهنا بتراب الرمال التي تخفق الما.

خليل حلاوجي
29-08-2007, 03:59 PM
نص بارع ... وأديب محتقن بالمشاعر النبيلة

سهير ابراهيم
29-08-2007, 08:50 PM
ما اجمل حروفك واروعها
وكم سعدت فيها وبجمال بوحك
وخصوصآ انها عن المدينة التي ولد فيها ابي وامي
كم احبها واحب ترابها
احترامي وتقديري

بابيه أمال
30-08-2007, 12:00 AM
يا الله كم هو رائع هذا الشعور للأرض والتراب والوطن..!!!
مأمون أيها الأديب ذا اليراع المملوء بمداد الحزن.. المدائن كما النفوس.. تحن لأبنائها.. وعسى أن تسعد حيفا يوما بمعانقة أيدي أبناء أطالوا عنها الغياب قسرا وقهرا..
لها ولكم الله ولكل مدينة وأرض عربية - حرة أو سليبة - قد حنت لأبناء يقدرون ترابها..

منى الخالدي
30-08-2007, 01:32 AM
آهٍ أيها المبدع
فكم تبدعُ وتبدع
حتى أسرفنا في محبتنا لحروفك ، وأدمنا هذا الجمال

فأنت يا أخي مثالٌ رائع للأبن البار..

كم هي فخورة بك حيفا، وكم نحن فخورون بوجودكَ بيننا

يثبت هذا النص الشامخ بشموخ الحب والعطاء

أحييكَ ألف ألف تحية ..!

حوراء آل بورنو
30-08-2007, 08:40 AM
هي رثائية باكية مبكية حد النواح على كل مفقود و فقيد ؛ الأرض و الوطن و البشر .. ، و ما أشد وجعها و الباكي رجل !
أحقاً يبكي الرجال أنفسهم ساعات الانكسار و الهزيمة ! فما بال كل أرضينا انكسرت و هزمت و هم في لهوهم ضاحكين !

أغبطك على قلم يستطيع أن يبكي .

كل التقدير .

مأمون احمد مصطفى
30-08-2007, 11:02 AM
الاخت حنان

ثرثرتك تغني كتاباتي ، فلثرثره - احيانا - وجعا يشبه وجع الرحيل


مع كل الموده

مأمون احمد مصطفى
30-08-2007, 11:04 AM
الاخ الكريم خليل


نبل منك ان تمنحني صفة النبل

مع كل الموده

مأمون احمد مصطفى
30-08-2007, 11:11 AM
الاخت حوراء

" أحقاً يبكي الرجال أنفسهم ساعات الانكسار و الهزيمة "

سؤال يستفز وجع الرجوله ، ويكسر منابت الرجوله ، ويغتال ملامح الاوطان في وجوه الرجال الساقطه دموعهم قهرا وعجزا.

ساعود حتما - اذا شاء الله - للكتابه عن ذلك حتى اخبرك واخبر القراء عن انكسار الرجال ودموعهم ونحيبهم ، ولكن ليس في رد قصير ، بل ببوح جديد انت من زرعته بذاتي.

اشكرك على كم الالم الذي خزنت بصدري بسؤاللك.

مرورك على نصوصي يشعرني بان للالم والوجع معنى يصل الى اناس يبكون البكاء.

مع المودة والتقدير والاحترام

أنس إبراهيم
30-08-2007, 11:23 AM
ما أجملها من مشاعر
وما اجملها حيفا عندما ينشد قلبك اراجيزه لأجلها أخي
تحيايت لك ولك كاتب مبدع

وفاء شوكت خضر
31-08-2007, 02:51 AM
الأخ الأديب الفاضل / مأمون أحمد مصطفى ..
كنت أود أن يكون ردي بصورة لحيفا هدية مني لك ، لكن للأسف حجم الصورة كبير ولم أستطع أن أحمله علىأي موقع .
لكن أعدك أني سأفعل المستحيل لتصغير الصور التي لدي لأزين بها هذا النص الذي يحمل رائحة تراب الأرض ةالبرتقال ..

نصوصك تأخذني دوما إلى هناك ، إلى تلك الأرض المقدسة ، الطيبة .

تقبل تحيتي ..

سحر الليالي
07-09-2007, 10:16 PM
الفاضل "مأمون":

حقيقة :أتسائل دوما عن هذا الحزن المعتكف بداخلكـ...ولعله يوما ينزاح عنك،ولكن أرى روحكـ ترتوي به ...
مقدس في بوح هذيانكـ المشتعل بكاءا المثرثر بألم الروع ــه...!
أيها المنهمك حزنا: مساءاتك وأبج ــدياتك مختلفه تحملها ملائكة الصدق لـ تنساب في أوديه الطهر وتجرف شوائب القلوب وتزيلها على ساحلك..!
هنا مرفأ حزين غامر بـ جمال ، لم تكتفي النظر اليه ،بل غاصت العقول اليه وسقطت القلوب فيه.!

بـ حق لحزنك طعم مختلفـ..!!

سلمتـ ودمت بألف خير
تقبل خالص تقديري وباقة ياسمين

د. سمير العمري
04-11-2007, 06:50 PM
نص باذخ الكلمة مفعم الحس جعلني أهم بتثبيته بمجرد قراءتي له لولا أني وجدت أن قد سبقني غيري فثبته وهو يستحق.

هنا وجدت جمال النثر معنى ومبنى فتكامل في صورة بديعة تجلت عن بهاء أصاب المشاعر بالتفاعل والتواصل. أحسنت أيها الأديب المبدع ، أحسنت جدا.

أهلا بك مبدعا دائما في أفياء واحة الخير.



تحياتي

ضحى بوترعة
04-11-2007, 07:38 PM
لتي حملت خطوات أجدادي حين بدأوا يكرجون كرج الطفولة، ويضربون ضرب الشباب، ويتوأدون توأد الشيوخ، وأنت التي احتضنت أجسادهم بأعماق تربتك السمراء الفتية، لترويها بجذور الزرع والورد والياسمين.

وأنت التي بلحظة عين مخطوفة من الزمن، انسحبت خلفي يوم حملت جثماني على كاهلي وغادرتك، هاربا من موت ظل يعيش بأعماقي حتى هذه اللحظة.


سلامي وحبي لكل حرف كتبته هنا عن حيفا

لقد اخترقني هذا النص وانا التي أعيش وجع وحب حيفا

محبتي لك

سحر الليالي
02-02-2008, 12:23 AM
لــ رفع ..!!!

لــ نبض يكتب من محبرة الدهشة ..!!