تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دعوني أمُتْ هنا!



سعيد محمد الجندوبي
09-09-2007, 04:39 PM
دعوني أمُتْ هنا!
رغم تقدّمه في السنّ وصعوبة حركته, بسبب تقوّس شديد في رجليه, فقد كان العمّ امحمّد يدير شركته بكلّ صرامة. كان يعيش من كراء كلّ أنواع الألواح الخشبيّة المستعملة في البناء. المادري كهياكل ساندة, والبلانش لقولبة الإسمنت؛ هذه سلعته الوحيدة, يقدّمها لحرفائه من البنّائين, ومن صغار المقاولين. رغم أمّيته فقد كان العمّ امحمّد يدوّن كلّ ما كان يخرج من مستودعه من الخشب على كنّشه البالي, مستعينا في ذلك بأطفال الحيّ ممّن يحسنون القراءة والكتابة. كان يملك أيضا, زياتينا في السّاحل, يزورها مرّة في السّنة لبيع محصولها, فيعود محمّلا بقوارير من الزّيت, وبأكياس من الزيتون, وبحزمة من الأوراق النّقديّة يخفيها بحرص شديد في ثنايا ملابسه. كلّ ذلك كان كفيلا لأن يضمن له ولزوجته العجوز وكذلك لابنه الشّاب المقعد حياة كريمة. واشتهر العمّ امحمّد وزوجته بين الجيران بفظاظة الخلق وبشحّ لا مثيل له؛ ولكنّ ذلك لم يكن ليَحول دون التّعايش السّلمي بينه وبين سكّان الحيّ.
ابنه مصطفى في الأربعين من العمر, أعزب ومقعد عن الحركة؛ فلقد أصيب قبل سنوات عديدة بواحد من تلك الأمراض التي لا تقتل صاحبها نهائيّا, بل تحلّ بجسده وتستوطنه فتمتصّ منه رحيق الحياة قطرة, قطرة. ورغم ذلك, فلقد كان يبدو من دماثة خلقه, ومن البسمة المرسومة دوما على وجهه البشوش, وكأنّه لم يكن شديد المعاناة من وضعه ذاك. لم يكن ذلك إلاّ في الظّاهر.
كانت أيّام مصطفى تمرّ على نفس الوتيرة: تبدأ بتصفّح الجرائد, وتنتهي بمجالسة بعض رجال الحيّ لتناول الشّاي وللخوض في السيّاسة الدوليّة, موضوعه المفضّل؛ لذلك اشترى له والده تلفازا, فكان بذلك أوّل من أدخل هذا الجهاز العجيب إلى حيّنا. كنت أصطحب والدي من حين لآخر, فأغتنم الفرصة لمشاهدة بعض البرامج التّلفزيونيّة في بيت العمّ امحِمد. وأذكر ذات يوم تجمّع فيه حول التلفاز رجال من حيّنا, وكانت وجوههم شاحبة ممتقعة, يعلوها حزن وحسرة. فهمت من بعض تعليقاتهم الخافتة بأنّ الجهاز كان يبثّ مشاهدا من جنازة رجل اسمه جمال. سألت أبي:
- من يكون جمال؟ فهمس لي, مربّتا على رأسي وكأنّه يطلب منّي أن أصمت:
- جمال عبد النّاصر... رئيس مصر يا بنيّ.
تساءلت في نفسي: "هل يموت الرّؤساء أيضا؟" فضّلت أن لا أبوح بهذا السؤال خشية أن أقطع الصمت المخيّم على المجلس, واختلست النّظر إلى مصطفى فرأيت وجهه مبلّلا بالدّموع. ثمّ اشترى والدي تلفازا, وانتقلت العدوى بعد ذلك إلى معظم الجيران, فلم يبقى بيت لم ينتأ من على سطحه هوائي. وخلى مجلس مصطفى, شيئا فشيئا, من الروّاد.
وذات يوم, بينما كنت ألعب مع صبيان حيّنا, استرعى انتباهنا مشهد غير مألوف. سيّارة بيضاء كتب عليها باللون الأحمر كلمة "إسعاف", جاءت مسرعة ومولولة لتتوقّف أمام بيت جارنا العمّ امحمّد. بعد برهة من الزّمن, خرج من البيت رجلان يرتديان ستر بيضاء ويحملان مصطفى على محفّة. كان مصطفى يبكي ويتوسّل رافعا يديه إلى السّماء, مستغيثا:
- "اتركوني هنا... لا أريد العودة إلى المستشفى... ألم يكفهم شللي هذا؟ دعوني أمتْ هنا في غرفتي... أتركوني... أتركوني..."
وغابت السيّارة عن أنظار أهل الحيّ المجتمعين بوجوم وحزن حول والديْ مصطفى المنتحبان. لم أرى مصطفى بعد ذلك اليوم, فيما عدى صورته المنتصبة فوق التلفاز. وكانت آخر مرّة دخلت فيها ذلك البيت صحبة والدي وقد تجمّع كلّ رجال الحيّ يومها حول جهاز تسجيل ينبعث منه صوت عبد الباسط عبد الصمد مرتّلا آيات قرآنيّة, وظلّ يومها التلفاز مطفأً وقد غطّت شاشته القاتمة قطعة بيضاء من القماش المشبّك, واعتلاه إطار خشبيّ مذهّب, يطلّ منه وجه مصطفى المبتسم، البشوش. كانت تلك آخر مرة أره فيها.
مرّت أشهر غادر بعدها العمّ امْحمدْ وزوجته العجوز حيّنا, بعد أن باعا ألواح الخشب إلى بعض المقاولين. وظلّ المنزل مغلقا حزينا, طيلة سنوات عديدة, إلى أن حلّت به عائلة صغيرة, قدمت للتّو من الساحل, وكان البيت نصيبها من إرث العجوز.

سعيد أبو نعسة
09-09-2007, 06:00 PM
أخي الكريم سعيد الجندوبي
قصة مؤثرة رغم أنها تسجيلية مباشرة في أسلوبها .
ما يشفع لهذا النص أنه أحالنا إلى ذكريات المجد و الفخار يوم كان جمال يزلزل اركان الغرب و الشرق بصوته فقط .
أرجو الانتباه لبعض الأخطاء النحوية و الإملائية لأنها تشوه جمال النص .
اسمك الكريم أعادني يالذكريات إلى الجميل و رقدالين يو م كنت مدرسا في ثانوية صلاح الدين و هذا ما أسعدني.
دمت مبدعا

سعيد محمد الجندوبي
09-09-2007, 06:47 PM
أخي الفاضل سعيد أبو نعسة،

أشكرك جزيل الشكر على مرورك الجميل والبنّاء بين كلماتي

ولكن لم أفهم الجملة الأخيرة من كلامك.. بماذا ذكرك اسمي؟

مع محبّتي

سعيد محمد الجندوبي

جوتيار تمر
10-09-2007, 12:39 AM
الجندوبي المبدع...
القصة تتجه نحو قصص التي تهتم بالمعيش اليومي ..ويمكن لنا ان نضعها تحت خانة القصص الوضعية .. والذي يجعلني من قول ذلك ..هو اعتمادك على الوصف في الكثير من مراحل القص/الحدث/ القصي كتقنية للسرد..وهو ما نسميه بعملية تسريد الوصف..المضمون جاء يسوغ لنا حالة من استرجاع الذكريات التي حاكت بنسيجها العنكبوتي حولنا..وكاني بها تسجل الحالات الماضية لتقارنها ضمنيا بالحاضر الجديد الذي نعيشه..السردية بصورة عامة جاءت موفقة..والبناء كان جيدا.

دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

مأمون المغازي
10-09-2007, 12:57 AM
الأستاذ القاص سعيد محمد الجندوبي

هذه زيارة للترحيب بك بيننا أيها الحبيب ، وسأعود إلى هنا مرارًا بإذن الله

محبتي واحترامي

سعيد محمد الجندوبي
13-09-2007, 10:14 PM
الجندوبي المبدع...
القصة تتجه نحو قصص التي تهتم بالمعيش اليومي ..ويمكن لنا ان نضعها تحت خانة القصص الوضعية .. والذي يجعلني من قول ذلك ..هو اعتمادك على الوصف في الكثير من مراحل القص/الحدث/ القصي كتقنية للسرد..وهو ما نسميه بعملية تسريد الوصف..المضمون جاء يسوغ لنا حالة من استرجاع الذكريات التي حاكت بنسيجها العنكبوتي حولنا..وكاني بها تسجل الحالات الماضية لتقارنها ضمنيا بالحاضر الجديد الذي نعيشه..السردية بصورة عامة جاءت موفقة..والبناء كان جيدا.
دمت بخير
محبتي لك
جوتيار


جميل حظورك بين كلماتي وتفاعلك مع النص

مع محبتي

سعيد محمد الجندوبي

سعيد محمد الجندوبي
17-09-2007, 07:31 PM
الأستاذ القاص سعيد محمد الجندوبي
هذه زيارة للترحيب بك بيننا أيها الحبيب ، وسأعود إلى هنا مرارًا بإذن الله
محبتي واحترامي


شكرا أخي مأمون على الترحيب بي بينكم على صفحات هذا المنتدى الجميل
وأرجو أن أكون عند حسن الظن

مع محبتي

سعيد

علي أسعد أسعد
17-09-2007, 08:22 PM
تحية مباركة


وكل عام وأنت بخير


لست ناقداً أنا ياسيدي لكنني أتذوق فقط هذا الفن


وأنا ممن يباركون هذا القلم الذي يعد بالكثير الكثير


فسأنتظر

سعيد محمد الجندوبي
18-09-2007, 04:06 AM
تحية مباركة
وكل عام وأنت بخير
لست ناقداً أنا ياسيدي لكنني أتذوق فقط هذا الفن
وأنا ممن يباركون هذا القلم الذي يعد بالكثير الكثير
فسأنتظر


أخي الفاضل علي أسعد أسعد

شكرا على حظورك بين كلماتي وعلى الترحيب

أرجو أن أكون عند حسن الظن

مع محبتي

سعيد محمد الجندوبي

د. نجلاء طمان
18-09-2007, 05:07 AM
المبدع الجندوبي

دعوني أمت هنا, وقصة اجتماعية اعتمدت على السردية المباشرة والمطولة في ذات الوقت. ألقت القصة الضوء على كثير من العادات والاعتيادات داخل بيئة معينة من البيئات كانعكاس على بيئات كثيرة. إن الهدف الأقوى الذي أفرزته القصة هو الشح, المتمثل في العم "محمد" بطل القصة, وقد تناول القاص هذا العامل جيدا من البداية وحتى الخاتمة التي دلت على حكمة مفادها " نقود البخيل تؤول كلها للورثة".لكن كان العمل يحتاج مزيدا من التكثيف والتركيز على المعاناة بشكل أقوى. أهلا بك جديدا

شذى الوردة ورمضان كريم وأكرم منه ربي

د. نجلاء طمان

ريمة الخاني
18-09-2007, 08:11 AM
استطعت ان تجذب الاسماع والمتابعه..
ولامست وترا حساسا عندنا..
قصه انسانيه قريبه من الذهن...
تمنيت فعلا لو ركزت على نقطة البخل
دمت بخير
وننتظر منك المزيد

سعيد محمد الجندوبي
21-09-2007, 12:49 AM
المبدع الجندوبي
دعوني أمت هنا, وقصة اجتماعية اعتمدت على السردية المباشرة والمطولة في ذات الوقت. ألقت القصة الضوء على كثير من العادات والاعتيادات داخل بيئة معينة من البيئات كانعكاس على بيئات كثيرة. إن الهدف الأقوى الذي أفرزته القصة هو الشح, المتمثل في العم "محمد" بطل القصة, وقد تناول القاص هذا العامل جيدا من البداية وحتى الخاتمة التي دلت على حكمة مفادها " نقود البخيل تؤول كلها للورثة".لكن كان العمل يحتاج مزيدا من التكثيف والتركيز على المعاناة بشكل أقوى. أهلا بك جديدا
شذى الوردة ورمضان كريم وأكرم منه ربي
د. نجلاء طمان


الأخت الفاضلة د. نجلاء طمان

أعتزّ بحظورك المتفاعل مع نصّي
كما أشكرك على ملاحظاتك البنّاءة

مع محبّتي

سعيد محمد الجندوبي

سعيد محمد الجندوبي
21-09-2007, 02:16 PM
استطعت ان تجذب الاسماع والمتابعه..
ولامست وترا حساسا عندنا..
قصه انسانيه قريبه من الذهن...
تمنيت فعلا لو ركزت على نقطة البخل
دمت بخير
وننتظر منك المزيد


أختي العزيزة ريمة الخاني

أشكر اهتمامك وتفاعلك مع النّص

أرجو أن أكون دوما عند حسن الظنّ

مع محبّتي

سعيد محمد الجندوبي

د. سمير العمري
28-07-2009, 07:07 PM
نص قصصي جميل ومعبر وفيه مقومات مميزة تضيف للنص.

لعلني فقط أشير إلى أن الشرطية في العنوان غير مناسبة للمعنى المراد والصواب أن تقول دعوني أموت هنا.

أهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.



تحياتي

ناديه محمد الجابي
02-01-2021, 12:14 PM
نص اجتماعي من البيئة التونسية ـ وقصة عميقة على بساطتها
بسرد جميل لعائلة من الواقع تقبع في الذاكرة ـ أجدت تصويرها بلغة قوية
وأسلوب متمكن لتسجل حقبة تاريخية عشتها في طفولتك بكل تفاصيلها
وما صاحبها من أحداث سياسية لتلك الفترة.
لقلمك أسلوب بارع، وتصويرك الوصفي مشبع لذائقة القارئ.
فشكرا ولقلمك البارع.
:nj::0014: