تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عودي من حيث جئتي...



سعيد محمد الجندوبي
22-09-2007, 12:32 PM
عودي من حيث جئتي...
عرفته وأنا طفل دون العاشرة. كنت آنذاك في بدايات ولعي بالمطالعة, وكان عبد الله الكيلاني المثقّف الوحيد في حيّنا. ما أن علم من أمّه, التي كانت كثيرة التردد على بيتنا, شغفي بالقراءة, حتّى طفق يعيرني كتب المغامرات من مثل سلسلتي "زومبلا" و"بلاك". كانت كلّها بالفرنسيّة, فجاءت لتكمّل ما كنت أقرأه بالعربيّة من مغامرات. لا أدري كم دام هذا التبادل الثّقافي, ولكنني متأكّد بأنّه انقطع بدون سابق إنذار, وبأنّ هذا الانقطاع خلّف في نفسي شعورا قاسيا بالحرمان.
علمت ذات يوم من أمّ عبد الله وكانت يومها قد جاءت لملاقات والدتي شاكية باكية, مفضفضة لما في قلبها من هموم, بأنّ ابنها الوحيد عزم السفر إلى فرنسا لإتمام دراسته. لم يثني التوسل ولا الدموع عبد الله عن عزمه. سافر, ولم أره منذ ذلك اليوم, ولم يبقى طافيا على سطح ذاكرتي إلاّ بقايا متناثرة من صورة الشاّب المؤدّب وبعض من مغامرات "زومبلا" و"بلاك".
مرّت بضع سنوات, وظهر عبد الله في حيّنا من جديد. كانت ملامحه قد تغيّرت, وكذلك هندامه وطريقة كلامه. ظهرت معه أيضا فتاة جميلة شقراء, عرفنا منذ الوهلة الأولى أنّها فرنسيّة, وعلمنا بعد التّحرّي (وهي صناعة شديدة الانتشار في حيّنا) أنّها خطيبته. وتمزّقت مشاعر والدته بين الفرحة بملاقات وحيدها الحبيب وبين الخوف من أن تصبه وصاحبته عين سوء (وهو من أسلحة الدمار الشّامل التي يملكها أهل حيّنا). ثمّ غاب عبد الله من جديد بعد شهر قضّاه عند والدته, وبقيت صورة واحدة له في مخيّلتي حينما رأيته صحبة خطيبته الفرنسيّة الجميلة الشقراء, وبيديهما مضربين لكرة التنّس, وعليهما ملابس رياضيّة جميلة.
وبعد سنوات طويلة نسيت خلالها عبد الله, ونسيه كذلك أهل حيّنا, ولم يعد يذكره غير والدته الملتاعة المقهورة, غبت بدوري عن الحيّ. وفي إحدى العطل الصيفيّة, وعند مغادرتي لمسرح الهواء الطلق مع أحد الأصدقاء, اعترض طريقنا رجلا مترنّحا, تبدو عليه آثار السّكر. سلّم علينا بمزيج من التلعثم والابتسام, ثمّ سألنا عن السّاعة. أجبناه, ثمّ واصلنا طريقنا بالرّغم من محاولاته تجاذب أطراف الحديث معنا. توقّف عن السير مستندا إلى عمود كهرباء, وأخذ يلوّح لنا بيده مودّعا ومغمغما:
- إلى اللقاء... أوروفوار... أولاد... بلدي... هل معكم سيجارة؟
سألت صديقي:
- من هذا؟
- دعك منه!
قال لي صديقي وقد ابتعدنا عن الرّجل:
- هذا سكّير, عربيد, يقال له عبد الله الكيلاني. هو على هذه الحال منذ عاد نهائيّا من فرنسا.
تذكرته. كتمت في نفسي ما انتابني من حيرة ومن خيبة أمل. أثناء تناول فطور الصباح, أخبرت أمّي بما شاهدت البارحة, فقصّت لي حكاية عبد الله الكيلاني من ألفها إلى ياءها:
"يا بنيّ أطلب اللّطف! لقد هاجر عبد الله ذلك الشّاب الرّصين المؤدّب إلى فرنسا حيث تزوّج من فرنسية وأنجب منها بنتا. ولكن زوجته سرعان ما انقلبت عليه, فطلّقته وطردته من البيت, محتفظة بالبنت. انسدّت في وجهه الأبواب فلجأ للشّراب, وربّما لأشياء أخرى أدهى وأمرّ. يقال أنّه طُرد من فرنسا ولم يعد له الحقّ في دخولها من جديد. لا أدري ما الذي فعله هناك. وهو على الحال التي رأيته عليها منذ عودته. مسكينة والدته, لقد حوّل حياتها إلى جحيم متواصل".
مرّت سنتان لم أزر فيهما الحيّ. وبمناسبة حفل زفاف أختي, رأيت عبد الله من جديد. كان يومها, كعادته مترنّحا, وقد وضع على رأسه قبّعة "كاوبوي" بيضاء عريضة, ونظّارات شمسيّة سوداء. أغتنم فرصة توقف الجوقة الموسيقيّة عن العزف والغناء لفترة استراحة قصيرة, فتناول الميكروفون وأخذ يغنّي بتلعثم شديد أغنية "جاري يا حمّودة" ولكن بلحن مختلف تماما, أظنّ أنّه لحن "سيدي منصور يا بابا". وانتهت الأغنية المهداة إلى أختي العروس بسقوط عبد الله من فوق المنصّة, التي لم تكن من حسن حظّه عالية جدّا. غادر عبد الله بعد ذلك الحفل وسط تصفيق وقهقهة الجميع؛ وكانت تسندانه والدته العجوز وامرأة شابّة, قصيرة القامة, علمت فيما بعد أنّها زوجته الجديدة.
فلقد قررّت والدته وقد أتعبها المرض وأنهكتها السنين تزويجه حفظا له وصيانة للإرث المتواضع من الضياع؛ فاختارت له إحدى قريباتها. وكانت هذه الأخيرة مقطوعة من شجرة, ولا أمل لها في زيجة أحسن من تلك التي عرضتها عليها العجوز. فالبنت تقدّمت في السنّ, وحظّها من الجمال غير وفير, ولكنّ طيبة قلبها وحسن تدبيرها عوّضاها عن جمالها المحدود. قبل عبد الله فكرة الزواج بها وإن على مضض, وربّما تحت تهديد والدته له بقطع إمداده بالنّقود.
وأصبحت مغامرات عبد الله المتزوّج على لسان الجميع من سكّان الحيّ. ومن أندر ما سمعته أنّه رجع بمعيّة زوجته, ذات ليلة من ليالي الصيف, حيث تكثر الأفراح والحفلات, وكان على درجة من السّكر حتّى أنّه لم يكن يقوى على السّير. وعلى مقربة من البيت توقّفت زوجته للتسليم وللحديث مع بعض الجيران الذين أجبرتهم الحرارة داخل البيوت على السهر على عتباتها, في حين واصل عبد الله طريقه رأسا نحو البيت لقضاء حاجة ملحّة. في الأثناء نسي أنّ زوجته لا تزال بالخارج, فأدار القفل من الدّاخل. وأنهت زوجته حديثها مع الجارات وأرادت الدّخول إلى بيتها فوجدت الباب مقفلا من الدّاخل. طرقت الباب بلطف ودلال, فإذا بصوت عبد الله يأتيها بتلعثم:
- أتجرئين على... العودة إلى بيت... كِ في مث... لِ هذه السّاعة المتأخ... رّة من الليل؟
أجابته وقد بدأ ينفد صبرها:
- عبد الله, إفتح الباب, كفاك مزاحا!
- أنا لا أمزح... لا مكان في هذا... البيت المح... ترم لإمرأة مثلك... لا ... تراعي مشا... عر... زوج... ها.
- عبد الله! كفانا فضائح... إفتح!
- من منّا صا... حب الفضا... ئح؟ عودي من حيث... أتيتِ... عودي إلى من كنت... عنده.
ولم يفتح عبد الله الباب إلاّ بعد ساعة كاملة من المفاوضات مع عقلاء الحيّ.

حنان الاغا
22-09-2007, 04:55 PM
الأخ الجندوبي

قرأت هذه القصة التي يوحي لي أسلوب السرد المباشر فيها أنها قصة واقعية .

سرد متماسك قوي ،ولكن الأسلوب افتقر إلى فنية العبارة .

الفكرة طريفة وجميلة فهي طرح لمشكلة اجتماعية خطيرة هي الإدمان على الكحول ، والتأثيرات السلبية التي قد تكون سببها الحياة في الغرب لمن لا يملك سلاحا من علم وثقافة وتربية .

العنوان أخي العزيز :
عودي من حيث جئتي / جئت

تحياتي وتقديري

جوتيار تمر
22-09-2007, 07:57 PM
الجندوبي المبدع...

تاملت القصة من المعيش اليومي كمادة حكائية جميلة/المداليل جاءت توضح المضمون/ والرؤية معا/ والسرد جاء وفق معيار جيد/ من حيث البناء المحكم/ وتلاحم السرد/ وتمازجه بما يجوب في خاطر وذهن الراوي/ الشخصية الاساس/ والاستقاء من المعين اليومي الحياتي كان له اثر في وضوح الفكرة/ ورغم ان السردية قد طرحت مشكلة لايمكن المرور عليها مرور الكرام/ الا ان الطرح يلزمه الكثر من العناية/ لان القصة ربما تستقي من الفلسفة/ لكنها لاتحل محلها/ والفلسفة وحدها لها الحق في طرح الاسئلة دون الالتفات الى الاجوبة/ لذا القصة كوجهة نظر شخصية تحتاج الى طرح وحل/ والحل لايأتي الا من خلال غوص دقيق لماهية الاشكال/ واظهار جيد لمكوناته/ ومن ثم ارافق ما يوحي بها/ وما يوحي برؤية ووجهة نظر السارد لها/ اعجبني ترابط النص/ اعجبني نفسك السردي الرائع/ اعجبتني الفكرة.

دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

سعيد محمد الجندوبي
23-09-2007, 01:16 PM
الجندوبي المبدع...
تاملت القصة من المعيش اليومي كمادة حكائية جميلة/المداليل جاءت توضح المضمون/ والرؤية معا/ والسرد جاء وفق معيار جيد/ من حيث البناء المحكم/ وتلاحم السرد/ وتمازجه بما يجوب في خاطر وذهن الراوي/ الشخصية الاساس/ والاستقاء من المعين اليومي الحياتي كان له اثر في وضوح الفكرة/ ورغم ان السردية قد طرحت مشكلة لايمكن المرور عليها مرور الكرام/ الا ان الطرح يلزمه الكثر من العناية/ لان القصة ربما تستقي من الفلسفة/ لكنها لاتحل محلها/ والفلسفة وحدها لها الحق في طرح الاسئلة دون الالتفات الى الاجوبة/ لذا القصة كوجهة نظر شخصية تحتاج الى طرح وحل/ والحل لايأتي الا من خلال غوص دقيق لماهية الاشكال/ واظهار جيد لمكوناته/ ومن ثم ارافق ما يوحي بها/ وما يوحي برؤية ووجهة نظر السارد لها/ اعجبني ترابط النص/ اعجبني نفسك السردي الرائع/ اعجبتني الفكرة.
دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

أستاذي الفاضل جوتيار تمر،
أعتزّ بحظورك بين كلماتي فما بلك بهذا التفاعل مع النص والوقوف المتأنّي على مواطن القوّة فيه والضعف وهذا يدلّ على تمكّنكم من فنّ|علم النقد وجدّيتكم المهنيّة فيه... وهذا وحده كفيلة لدفع عجلة الإبداع الأدبي الى الأمام. وقد أختلف معك أستاذي العزيز في نقطة طرح المشكل واتباعه بالحلّ من قبل القاص : أتصوّر أنّ من حق القاص أن يصف الوقائع كما هي من دون أن يتدخّل لتوجيه القارئ، بل يترك لهذا الأخير مساحات من الحريّة ومن الإستنتاج قد تكون متعددّة بتعدد القرّاء.. كلوحة زيتية يتفاعل معها الناظر اليها بحسب خلّفياته وثقافته واهتماماته في الحياة. ولقد لاحظت بعد نشري لهذه القصة على مواقع أخرى تنوّعا في التفاعل بتنوّع عدد القراء، فهذا يرى أنني تناولت مسألة الإدمان على الكحول، وذاك يستشف مشكلة هجرة العقول والشباب وآخر يرى مسألة الزواج من الغربيات... وهكذا...
دمت أستاذي متألّقا
مع محبّتي
سعيد محمد الجندوبي

مازن سلام
23-09-2007, 02:02 PM
السيد سعيد محمد الجندوبي المحترم
....
لفت نظري العنوان ...
من عادات أهل الواحة تنبيه صاحب أي نص , إذا تسلـّلت إلى النصوص بعض الهنات و الأخطاء.
و ما ملاحظات معظم أهل الدار إلا عن علم و تمكـّن .
فإذا أردت ـ و لستُ أكثر أهل الواحة اختصاصاً ـ أدلـّك على بعض الاشكالات في الاملاء و القواعد .
و قد سبقتني الأديبة و القاصّة السيدة حنان الاغا , و أشارت إلى العنوان .
شكراً على رحابة صدرك .
.....
كل التحية
مازن سلام

وفاء شوكت خضر
23-09-2007, 03:05 PM
الأخ الجندوبي ..

أسلوب سردي مباشر ، ترابط في تسلسل الأحداث وتمكن من إظهار الصورة بدقة ، كأني كنت أقرأ سيناريو لمشهد تمثيلي .

تقبل بمروري ..

سعيد محمد الجندوبي
26-09-2007, 04:00 PM
الأخ الجندوبي
قرأت هذه القصة التي يوحي لي أسلوب السرد المباشر فيها أنها قصة واقعية .
سرد متماسك قوي ،ولكن الأسلوب افتقر إلى فنية العبارة .
الفكرة طريفة وجميلة فهي طرح لمشكلة اجتماعية خطيرة هي الإدمان على الكحول ، والتأثيرات السلبية التي قد تكون سببها الحياة في الغرب لمن لا يملك سلاحا من علم وثقافة وتربية .
العنوان أخي العزيز :
عودي من حيث جئتي / جئت
تحياتي وتقديري



]العزيزة الفنّانة حنان الآغا،

زيارتك لنصّي لهو مصدر اعتزاز وفخر لي.
أنا أتبنّى أسلوب السرد المباشر حتّى نحافظ على نوع من التوازن داخل الطيف الأدبي العربي الذي لاحظت أنه تطغى عليه الرمزيّة والرموز.. كما أشكرك على ما أشرت غليه مت بعض الأخطاء الإملائية التي سوف نسعى إلى اصلاحها في نسخة أخرى للنص ان شاء الله...

مع محبّتي

سعيد محمد الجندوبي



[/SIZE]

حنان الاغا
26-09-2007, 04:07 PM
الأخ الأديب الجندوبي

ليس لي أي اعتراض على الأسلوب المباشر حقا ، فتنوع الأساليب أمر مطلوب حتى لا تصبح القصة خاضعة لنمط ما مثل (الموضة ) . شكرا لسعة صدرك ، فكلنا نخطىء أحيانا ،فننَبّه .
تحياتي عزيزي

ربيحة الرفاعي
06-11-2014, 09:23 PM
الفكرة محورية قيّمة تستحق عناية الأدب والإداع بألوانه باتجاه تحقيق تغيير فاعل في عقلية تستقبل الاندماج بالمجتمعات الغربية وتبني رؤاها ونقلها لديارنا كإشارة إيجابية
السرد واقعي بتصاعد درامي طيب لمادة حكائية مستقاة من الحياة اليومية ، وأداء قصّي موفّق

شاب النص ما يستدعي المراجعة لضبطه

دمت بخير

تحاياي

رويدة القحطاني
30-11-2014, 03:19 AM
قصة واقعية لكن المباشرة حدت من فنية الأسلوب واللغة
أما الفكرة فهادفة والسرد متين

آمال المصري
19-12-2015, 03:16 AM
سرد مباشر حمل مشكلة خطيرة هي زواج العربي بأجنبية وعودة بائسة بعدما سُلب منه ماله وأبنته حتى عقله الذي أتلفه الإدمان ولم يسع إلا عقدة عاد بها ليمارسها على من اختارتها له والدته لتلملم بقايا الإنسان فيه
ربما افتقر النص لعنصر المباغتة الذي ننتظره دائما في النهاية ولكن هذا لاينقص من جمال النص إذا روجع لتجنب الهنات المتفرقة
مرحبا بك أديبنا الفاضل في واحتك
تحاياي

خلود محمد جمعة
20-12-2015, 06:06 PM
قصةمن الواقع تطرح قضية اجتماعية بسرد ماتع الى نهاية خلت من عنصر المفاجأة
بوركت وتقديري

ناديه محمد الجابي
05-01-2021, 05:42 PM
قصة واقعية مؤلمة ـ أعرف حالة مشابهة مرت بنفس الظروف بالظبط..
السفر إلى الخارج والزواج من أجنبية ـ أخذت ابنته وطردته وتركته لإدمان الكحول
رجع إلى بلده ليرتكب جريمة اثناء سكره ، ويقضي بقية حياته في السجن.
سردية اعتمدت المباشرة بلا تعقيد، وبراعة في تصوير الأحداث
الفكرة جميلة، والأداء قوي، والنفس القصي والأسلوب رائعين.
تحياتي وتقديري.
:009::002::009: