خليل حلاوجي
01-10-2007, 10:03 AM
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
لكي نفهم مدى عمق الانقلاب للشخصية الإنسانية الذي حصل على يد رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام نورد ما نقله د. علي شريعتي في كتابه ( الإنسان والإسلام ) عن (عمر مولود) وهو يقول: (إذا أردت أن تستخدم شخصاً، وتجعله مطيعاً، وتطمئن من وفائه لك ، عليك أن تسلب منه شخصيته، لأنه إذا كانت له شخصية، لا يمكن أن يكون خادماً جيداً، ومن أجل إحكام التسلط على قوم ما، يجب أن تسلبهم شعورهم بالإنسانية، أو إضعاف هذا الشعور على الأقل، فالشخص ذو الشخصية، خادم رديء، ولكن فاقد الشخصية خادم جيد، ومطيع، ووفي، وسلس الانقياد) . وإذا كان (الأميين ) هو الوصف الذي نطق به القرآن المجيد وهو يصف القوم الذين أنزل عليهم القرآن بل ووصف النبي محمد بأنه النبي الأمي الذي نجح في إخراج الناس – كل الناس – من الظلمات إلى النور ، من النقيض إلى النقيض يقول عماد الدين خليل في كتاب مدخل إلى الثقافة الإسلامية : ( لم يكن العرب يمتلكون حضارة متميزة عندما جاءهم الإسلام بل كانوا يعيشون حالة استعارة ميكانيكية شبيهة بوضعنا زمن الصدمة الحضارية الغربية في القرنين الأخيرين) .
كان مجتمع مكة الوثني عصيا ً على الاحتكاك بغيره من مجتمعات الأرض بسبب عزلته البدوية فالله عندهم هو الحجارة في تصورهم وهو رجال القبيلة – الملأ - من قريش بحسب المصطلح القرآني وعند هذه الإشكالية جاء الإسلام ليخاطب العقلية المشوشة ويعيد صياغتها من جديد فيأخذ الإنسان ( المكي الجاهلي) من الانصياع الغريزي مجتمعيا ً للحجارة إلى التحقق بقناعات العدل الكوني في توحيد الله.لقد كان منطوق مقولة الجاهلية وهو يؤازر الظلم ينص على أن :« كذاب ربيعة أفضل من صادق مضر…».ولذا كان أمام العقل المكي التنبه للصوت السماوي حين نطقت أول حروف القرآن وشكلت مبدأ ( اقرأ) . اقرأ ما وجدت عليه آباؤك وتحقق بنفسك لمعرفة الرجال بالحق لا الحق بالرجال ولا ترضى بأي ظلم من أي سلطة فكرية ترغمك على قبول الانصياع باسم الدين – الصنم- وتحقق بنفسك من التقابل في تزييف الموائمة ما بين الله – الصنم – والإنسان القاهر الحاكم الظالم ومن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام كما قال عمر رضي الله ذلك يوما.
وعند هذا المنعطف واجه الرسول عليه الصلاة والسلام أولى الصعوبات فكيف سيستطيع انتشال العقلية البدوية- الطفولية - التي ترسخت فيها حمية الجاهلية ويجعلها تستكشف أصل وجودها في هذا الكون .. وكيف سيأخذ الإنسان المكي ليهرب به إلى التساؤل عن أصل دوره في المجتمع الإنساني والرسول لا يملك القدرة على مصارحة ومواجهة الناس وهو ملاحق ومطارد من جهاز – الملأ – الإستخباراتي ؟ ويجيبنا عن ذلك القرآن المجيد الذي أرخ الحادثة قال تعالى :{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الفتح26 .. فما هي كلمة التقوى هذه ؟
إنها النقلة من حالة الفطام والكف عن تناول غذاء الآباء الفكري إلى حالة محاولة الوقوف والمشي – كأي طفل – يريد أن يستقبل الحياة وحده من دون سلطة ومساعدة الآباء ، إنها ثلاثة وعشرون سنة من تنزيل آيات الله التي تحاول مد يد العون لهذا المتحرر عن آبائه وهي آيات رافقت هذا الوليد حيناً بعد حين نزل بها القرآن منجما ً ليؤكد ويؤرخ لهذا الميلاد العقلي التأملي المجيد يقول عماد الدين خليل ( إن نداءات القرآن المنبثقة من فعل القراءة والتفكير والتعقل والتفقه والتدبر منبثة في نسيج كتاب الله لم تخفت نبرتها أبدا ً ) .حتى رأينا القرآن وهو يتدخل في أبسط مقومات الأسرة القرآنية ويضع بيت الرسول كنموذج يحتذى به من خلال العديد من مقررات المنهج حتى قرأنا قول الله تعالى ينصح نساء النبي تجنبا ً لخطر الجاهلية الفكرية في الطريقة البدوية القديمة :{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33 ، ونراه في مواضع عدة – كما في حادثة الإفك- يهاجم طرائق تفكير الناس وهم يتعاملون مع البيت المحمدي فيقرر أن ظن الجاهلية ورمي المحصنات من المؤمنات وهنا الحادثة كانت تخص زوجة الرسول أم المؤمنين والتي أساء الناس إلى سمعتها إذ ألفوا القيل والقال وكثرة السؤال ، قال تعالى :{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }النور15فمن الجهالة أن لا يستغل الإنسان سمعه وبصره ونظره ولسانه في وظيفة التدبر والكد المعرفي فالإسلام لا يهتم بالتفاصيل إلا إذا كان لها قسط وافر من جلب منفعة أو طرد وإهمال مضرة ، لذا رأينا القرآن يخبرنا أن حادثة الإفك هي خير لنا شأنها شأن أي تجربة نتعرف من خلالها على أمراضنا الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لئلا نكرر أخطاءنا قال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }النور11
لقد أراد القرآن من المسلمين أن يهجروا طريقتهم البدوية في التفكير وهي طريقة تبسيطية ومفككة تبالغ في الظاهر وطلب مهم أن يباشروا طريقة الكسب المعرفي التجريبي من خلال التركيز على مضمون أي ظاهرة يتعرضون لها فكل حادثة هي سبب لما بعدها وهي في ذات الوقت نتيجة لما قبلها وأن الوصول إلى الحقيقة اليقينية لن يتم إلا بالطريقة الإستشرافية وإستقراء الظواهر بحثا عن شبكة العلاقات والارتباطات.
ولقد دهشت وأنا أقرأ كلام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام (إنما شفاء العي السؤال ) في الحادثة التي رواها لنا أبو داود والدار قطني من حديث جابر فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله «ص» اخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوه إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب شك من راوي الحديث على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ...»
لقد ولدت العقلية التركيبية التي أخذت بيد المكي الجاهلي ليتلمس معجزة الخلق ووحدانية الله . العقل القادر على ربط الأسباب بالمسببات أنظر إليهم وهم في أحلك ساعاتهم إذ يواجهون عدوهم في ساعة المعركة والسيوف منشغلة تبغي الرقاب يظهر إلى سطح الوعي العقلاني هذا الحوار المدهش بين طائفة تشربت بيقين العقل القادر على الإجابة للأسئلة المحيرة وبين عقل مستسلم غير قادر على التحقق بالقناعات الكافية لكشف مواطن الخلل العقلي قال تعالى :{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }آل عمران154 . إن الإنسان الذي لم تولد له هذه العقلية التركيبية مازال يعيش في الرحم الفكري للآباء بل وإنه لا زال عالةً على غيره لم تكتمل عنده مرحلة النضوج بل تراه يشعر كأنه سيموت إذا انفصل عنهم ،وهذا أمامه مرحلة الاستقلال الفكري بأن يمارس الطريقة القرآنية للتخلص من الجاهلية الفكرية
قال تعالى : { نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ }الأحقاف16
وهنا لا يتركنا القرآن عرضة للإغترار بعقلنا النقدي هذا فيقول عز وجل : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }المائدة50
إنه يحذرنا من الانتقائية في الحكم ويأمرنا أن نعطي الحواس مسؤوليتها المعرفية عن طريق التجريب قال تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36 انها دعوة للتبصر بحقيقة وجودنا وارتباطاتنا الكونية بما حولنا وكما في الفلسفة : (من عرف أين هي قدمه عرف كيف يسير إلى أين ) وعلمنا أن نتتبع بعلم مواضع أقدامنا كما نتتبع آفاق النفس والكون وتتوالى الآيات تحذرنا {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }الأنفال21 وقوله تعالى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }النحل92
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }الحشر19
لقد تنبه توينبي إلى نمطين من التعامل مع معطيات الآباء : التقليد الأعمى في مرحلة السقوط الحضاري ونمط الإقتداء بالنخبة المبدعة وخبراتها الحيوية في مرحلة النهوض الحضاري وأما القرآن فيذهب إلى أبعد من ذلك فيقرر أن الذين حرموا الإبداع أو الإقتداء بالنخبة المبدعة هم كالحيوان بل أضل قال تعالى :
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179 وقال تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44 .
وخلاصة القول أن أمام المسلم اليوم ثلاث تحديات تنقذه من جاهليته الأولى بأن يجعل حياته ( لا كهنوت ) فيها و ( لا رهبانية ) و ( لا أسرار ) .
لكي نفهم مدى عمق الانقلاب للشخصية الإنسانية الذي حصل على يد رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام نورد ما نقله د. علي شريعتي في كتابه ( الإنسان والإسلام ) عن (عمر مولود) وهو يقول: (إذا أردت أن تستخدم شخصاً، وتجعله مطيعاً، وتطمئن من وفائه لك ، عليك أن تسلب منه شخصيته، لأنه إذا كانت له شخصية، لا يمكن أن يكون خادماً جيداً، ومن أجل إحكام التسلط على قوم ما، يجب أن تسلبهم شعورهم بالإنسانية، أو إضعاف هذا الشعور على الأقل، فالشخص ذو الشخصية، خادم رديء، ولكن فاقد الشخصية خادم جيد، ومطيع، ووفي، وسلس الانقياد) . وإذا كان (الأميين ) هو الوصف الذي نطق به القرآن المجيد وهو يصف القوم الذين أنزل عليهم القرآن بل ووصف النبي محمد بأنه النبي الأمي الذي نجح في إخراج الناس – كل الناس – من الظلمات إلى النور ، من النقيض إلى النقيض يقول عماد الدين خليل في كتاب مدخل إلى الثقافة الإسلامية : ( لم يكن العرب يمتلكون حضارة متميزة عندما جاءهم الإسلام بل كانوا يعيشون حالة استعارة ميكانيكية شبيهة بوضعنا زمن الصدمة الحضارية الغربية في القرنين الأخيرين) .
كان مجتمع مكة الوثني عصيا ً على الاحتكاك بغيره من مجتمعات الأرض بسبب عزلته البدوية فالله عندهم هو الحجارة في تصورهم وهو رجال القبيلة – الملأ - من قريش بحسب المصطلح القرآني وعند هذه الإشكالية جاء الإسلام ليخاطب العقلية المشوشة ويعيد صياغتها من جديد فيأخذ الإنسان ( المكي الجاهلي) من الانصياع الغريزي مجتمعيا ً للحجارة إلى التحقق بقناعات العدل الكوني في توحيد الله.لقد كان منطوق مقولة الجاهلية وهو يؤازر الظلم ينص على أن :« كذاب ربيعة أفضل من صادق مضر…».ولذا كان أمام العقل المكي التنبه للصوت السماوي حين نطقت أول حروف القرآن وشكلت مبدأ ( اقرأ) . اقرأ ما وجدت عليه آباؤك وتحقق بنفسك لمعرفة الرجال بالحق لا الحق بالرجال ولا ترضى بأي ظلم من أي سلطة فكرية ترغمك على قبول الانصياع باسم الدين – الصنم- وتحقق بنفسك من التقابل في تزييف الموائمة ما بين الله – الصنم – والإنسان القاهر الحاكم الظالم ومن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام كما قال عمر رضي الله ذلك يوما.
وعند هذا المنعطف واجه الرسول عليه الصلاة والسلام أولى الصعوبات فكيف سيستطيع انتشال العقلية البدوية- الطفولية - التي ترسخت فيها حمية الجاهلية ويجعلها تستكشف أصل وجودها في هذا الكون .. وكيف سيأخذ الإنسان المكي ليهرب به إلى التساؤل عن أصل دوره في المجتمع الإنساني والرسول لا يملك القدرة على مصارحة ومواجهة الناس وهو ملاحق ومطارد من جهاز – الملأ – الإستخباراتي ؟ ويجيبنا عن ذلك القرآن المجيد الذي أرخ الحادثة قال تعالى :{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الفتح26 .. فما هي كلمة التقوى هذه ؟
إنها النقلة من حالة الفطام والكف عن تناول غذاء الآباء الفكري إلى حالة محاولة الوقوف والمشي – كأي طفل – يريد أن يستقبل الحياة وحده من دون سلطة ومساعدة الآباء ، إنها ثلاثة وعشرون سنة من تنزيل آيات الله التي تحاول مد يد العون لهذا المتحرر عن آبائه وهي آيات رافقت هذا الوليد حيناً بعد حين نزل بها القرآن منجما ً ليؤكد ويؤرخ لهذا الميلاد العقلي التأملي المجيد يقول عماد الدين خليل ( إن نداءات القرآن المنبثقة من فعل القراءة والتفكير والتعقل والتفقه والتدبر منبثة في نسيج كتاب الله لم تخفت نبرتها أبدا ً ) .حتى رأينا القرآن وهو يتدخل في أبسط مقومات الأسرة القرآنية ويضع بيت الرسول كنموذج يحتذى به من خلال العديد من مقررات المنهج حتى قرأنا قول الله تعالى ينصح نساء النبي تجنبا ً لخطر الجاهلية الفكرية في الطريقة البدوية القديمة :{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33 ، ونراه في مواضع عدة – كما في حادثة الإفك- يهاجم طرائق تفكير الناس وهم يتعاملون مع البيت المحمدي فيقرر أن ظن الجاهلية ورمي المحصنات من المؤمنات وهنا الحادثة كانت تخص زوجة الرسول أم المؤمنين والتي أساء الناس إلى سمعتها إذ ألفوا القيل والقال وكثرة السؤال ، قال تعالى :{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }النور15فمن الجهالة أن لا يستغل الإنسان سمعه وبصره ونظره ولسانه في وظيفة التدبر والكد المعرفي فالإسلام لا يهتم بالتفاصيل إلا إذا كان لها قسط وافر من جلب منفعة أو طرد وإهمال مضرة ، لذا رأينا القرآن يخبرنا أن حادثة الإفك هي خير لنا شأنها شأن أي تجربة نتعرف من خلالها على أمراضنا الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لئلا نكرر أخطاءنا قال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }النور11
لقد أراد القرآن من المسلمين أن يهجروا طريقتهم البدوية في التفكير وهي طريقة تبسيطية ومفككة تبالغ في الظاهر وطلب مهم أن يباشروا طريقة الكسب المعرفي التجريبي من خلال التركيز على مضمون أي ظاهرة يتعرضون لها فكل حادثة هي سبب لما بعدها وهي في ذات الوقت نتيجة لما قبلها وأن الوصول إلى الحقيقة اليقينية لن يتم إلا بالطريقة الإستشرافية وإستقراء الظواهر بحثا عن شبكة العلاقات والارتباطات.
ولقد دهشت وأنا أقرأ كلام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام (إنما شفاء العي السؤال ) في الحادثة التي رواها لنا أبو داود والدار قطني من حديث جابر فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله «ص» اخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوه إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب شك من راوي الحديث على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ...»
لقد ولدت العقلية التركيبية التي أخذت بيد المكي الجاهلي ليتلمس معجزة الخلق ووحدانية الله . العقل القادر على ربط الأسباب بالمسببات أنظر إليهم وهم في أحلك ساعاتهم إذ يواجهون عدوهم في ساعة المعركة والسيوف منشغلة تبغي الرقاب يظهر إلى سطح الوعي العقلاني هذا الحوار المدهش بين طائفة تشربت بيقين العقل القادر على الإجابة للأسئلة المحيرة وبين عقل مستسلم غير قادر على التحقق بالقناعات الكافية لكشف مواطن الخلل العقلي قال تعالى :{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }آل عمران154 . إن الإنسان الذي لم تولد له هذه العقلية التركيبية مازال يعيش في الرحم الفكري للآباء بل وإنه لا زال عالةً على غيره لم تكتمل عنده مرحلة النضوج بل تراه يشعر كأنه سيموت إذا انفصل عنهم ،وهذا أمامه مرحلة الاستقلال الفكري بأن يمارس الطريقة القرآنية للتخلص من الجاهلية الفكرية
قال تعالى : { نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ }الأحقاف16
وهنا لا يتركنا القرآن عرضة للإغترار بعقلنا النقدي هذا فيقول عز وجل : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }المائدة50
إنه يحذرنا من الانتقائية في الحكم ويأمرنا أن نعطي الحواس مسؤوليتها المعرفية عن طريق التجريب قال تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36 انها دعوة للتبصر بحقيقة وجودنا وارتباطاتنا الكونية بما حولنا وكما في الفلسفة : (من عرف أين هي قدمه عرف كيف يسير إلى أين ) وعلمنا أن نتتبع بعلم مواضع أقدامنا كما نتتبع آفاق النفس والكون وتتوالى الآيات تحذرنا {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }الأنفال21 وقوله تعالى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }النحل92
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }الحشر19
لقد تنبه توينبي إلى نمطين من التعامل مع معطيات الآباء : التقليد الأعمى في مرحلة السقوط الحضاري ونمط الإقتداء بالنخبة المبدعة وخبراتها الحيوية في مرحلة النهوض الحضاري وأما القرآن فيذهب إلى أبعد من ذلك فيقرر أن الذين حرموا الإبداع أو الإقتداء بالنخبة المبدعة هم كالحيوان بل أضل قال تعالى :
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179 وقال تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44 .
وخلاصة القول أن أمام المسلم اليوم ثلاث تحديات تنقذه من جاهليته الأولى بأن يجعل حياته ( لا كهنوت ) فيها و ( لا رهبانية ) و ( لا أسرار ) .