المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حـبيب بـوهرور/ مقاربـة لنظـرية وسائـط العَقْلَنَة



ليلى ناسيمي
30-11-2007, 11:53 AM
منقول


ملمح وأيديولوجية الحداثة في الفكر الغربي
مقاربـة لنظـرية وسائـط العَقْلَنَة


بقلم: الدكتور حـبيب بـوهرور
ناقد و باحث أكاديمي من الجزائر


ارتبطت فكرة الحداثة في أوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي، بالعمل على تحطيم النظم القديمة التي تسّير واقع المجتمعات الأوربية، وتحدّ من قدرة الفرد، في إطار السعي إلى طمس إرادته وتجميد عقلنته، فدعت إلى انتصار العقل ومحاربة التسلط الميثيولوجي والقومي المفروضين من الخارج، فمن "المستحيل أن نطلق كلمة\"حديث\"عل مجتمع يسعى قبل كل شيء لأن ينتظم ويعمل طبقا لوحي إلهي أو جوهر قومي. ليست الحداثة مجرد تغيير أو تتابع أحداث إنها انتشار لمنتجات النشاط العقلي، والعلمية، التكنولوجية، الإدارية: فهي تتضمن عملية التمييز المتنامي لعديد من بين قطاعات الحياة الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والحياة العائلية، والدين والفن على وجه الخصوص. لأن العقلانية الأداتية تمارس عملها من داخل مجال النشاط نفسه، وهي بذلك تستبعد أن ينظم أيّ من أنماط النشاط هذه من الخارج، أي انطلاقا من اندماجه في رؤية عامة\
"1، وعليه فإن البعد الحداثي الأوربي يقوم على اعتراض كل سلوك غائي، يقوم على رصد معالم فكرية وحضارية مسبقة، كانت قد شُكّلت عبر مراحل القرون الوسطى في إطار التنظير اللاهوتي المكرس للمشروع الإلهي، لهذا \"تَحل فكرة الحداثة فكرة \"العلم\ (file://\\"العلم\)" محل فكرة \"الله\" في قلب المجتمع وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات تكنولوجية للعلم كي نتكلم عن مجتمع حديث، ينبغي أيضا حماية النشاط العقلي من الدعايات السياسية أومن الاعتقادات الدينية.\"2
من هنا بدأت بوادر الحس الثوري التحديثي تتأسس في بنية المجتمع الأوربي الثائر على قرون غُيّب فيها العقل، وُطمست فيه فلسفات التنوير، فلقد استطاع أن يتمثل الحداثة ويعيشها كثورة قائدها العقل، الرافض لكل أنماط الماضي الاجتماعي والسياسي ومعتقداته وقيوده، \"إن ما يميز فلسفة التنوير عن الفلسفة السابقة عليها عزمها على أن تمد جميع البشر بالمزايا التي كانت فيما قبل خاصة ببعض الفئات فقط و هو ما يمكن أن نسميه بالحياة طبقا للعقل\"3.
يفهم مما سبق أن الإيديولوجية الحداثية هي أيديولوجيا ترتكز على دعامتين أساسيتين، الدعامة النظرية وأساسها الدعوة إلى انتصار العقل والعمل على التحرّر من طقوس الماضي، وانتهاج نهج الثورة، ودعامة تطبيقية أساسها ممارسة التحديث ذاته أي الانتقال بالحداثة من حالة التنظير إلى حالة الفعل، ولن يستقيم هذا إلا \"بإدارة الظهر للماضي، للعصور الوسطى وبإيجاد الثقة التي كانت لدى القدماء في العقل\"4، وقد ساعد الدعامة الثانية - أي الانتقال من الحداثة إلى فعل الحداثة - تلك التغيرات العميقة في بنية المجتمعات الأوربية بعد القرن السادس عشر، خاصة إذا علمنا أن الحداثة \"كانت تتغذى من عدة منابع هي الاكتشافات العظيمة في العلوم الطبيعية، هذه الاكتشافات التي في ضوئها تغيرت نظرتنا إلى الكون وعلاقتنا به، وهي أيضا هذا التصنيع الذي حوّل النظرية إلى تطبيق، أي حوّل المعرفة العلمية إلى تقنية وأنتج ظروفا وبيئات إنسانية جديدة، وألغى ودمر أخرى قديمة، ولم يُبق على إيقاع الحياة كما كان في عصره أو قبل عصره، وإنما سرّع هذا الإيقاع فأصبحت الحياة تجري على وتيرة سريعة كأنما هي صدى لسرعة الإله، وهي هذه الثورة السكانية الهائلة التي غيرت مواطن البشر وبيئاتهم، وما صحب ذلك من نمو حضاري متسارع...هذه الأشياء تجمعت فيما يشبه السلة الواحدة التي تحمل اسم الحداثة \"5. ويعرض الدكتور هشام غصيب في كتابه \"الخطاب الفكري العربي وتحديات الحداثة\"، إلى دور فلسفة وعقيدة التنوير في نقل المجتمع الأوروبي من المجتمع الزراعي الإقطاعي البدائي محدود الأفق، إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي المتطور اللانهائي الأفق، وهو الانتقال الذي احتاج حسبه إلى أكثر من أربعة قرون على الأقل من المعاناة على جميع الصعد6، وبالتحديد فقد استلزم ثلاثة أنماط من الثورات الجذرية لكي تكتمل أعراضها فيما يأتي:
1. \"الثورات السياسية البورجوازية التي حققت كثيرا من المهمات الديموقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية(الثورة الهولندية مطلع القرن السابع عشر، الثورة الإنجليزية (1641م –1688م)، الثورة الفرنسية الكبرى (1789م-1815م)... الخ.
2. الثورات الثقافية الكبرى (النهضة الأوروبية والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، والثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر، والثورة الفلسفية التنويرية في القرن السابع عشر والثامن عشر.
3. الثورات الاقتصادية وما صاحبها من توسع جغرافي سواء في أوروبا أو خارجها خاصة الثورة الصناعية في أوروبا التي جاءت ابتداء من القرن الثامن عشر.\"7
وأعتقد أن هذه الثورات وغيرها من الصدمات الداخلية في بنية المجتمع الأوربي هي التي ساعدت على انتقال أوروبا نقلة حداثية، من مجتمع الطبيعة إلى المجتمع المدني، خاصة عندما عملت الثورة العلمية الكبرى على بعث المنهجية العلمية بصفتها قوة إنتاجية وطاقة إبداعية ومرجعية اجتماعية رئيسية،\"إذ عملت هذه الثورة الفكرية العظيمة على قلب منطق إنتاج المعرفة من منطق فقهي أو برهاني أو عرفاني إلى منطق استكشافي\". 8
ونسجل هذه الفكرة عند رايموند ويليامز *في كتابه \" طرائق الحداثة \" حيث يقرن كلمة حديث ( Modern) بمرادفها \"الآن\" كي يتسنى التمييز بين الحاضر والماضي من جهة وبين القديم والجديد من جهة أخرى، يقول: \"بدأ تعبير الحديث مرادفا بدرجة تزيد أو تنقص لتعبي \" الآن \" أواخر القرن السادس عشر، وفي كل الأحوال فقد كان من المألوف أن نُميز الفترات الزمنية التالية للعصور الوسطى والعصور القديمة \"9.
لهذا أخذت الحداثة تقترب من حالة التغيير والتمييز بحثا عن الأفضل وصولا إلى ملامسة المرغوب والتقدمي إلى حدّ بعيد،\"ولكن ما َأسرَعَ ما َغيّرَ\" الحديث\" معناه من\"الآن\" ليصبح\"الآن مباشرة\"أو حتى\"حينئذ\"، ولفترة من الزمن أصبحت دلالته تنصرف دائما إلى الماضي، الذي يصبح \" المعاصر\" مناقضا له من حيث هو حاضر.\"10
وقد ارتكز الفكر التحديثي الغربي على ركيزتين أساسيتين في رسم معالم الآفاق الحداثية داخل بنية المجتمع، ابتداء من القرن السادس عشر إلى غاية نهاية الحرب العالمية الأولى (1918م) يمكن معاينتها فيما يلي:
أ - إلغاء فكرة الذات وفكرة الله :
يرجع هذا، في تقديري، إلى ارتباط الحداثة ارتباطا وثيقا بمبدأ العقلنة المبني أساسا على رفض وتدمير الوسائط الدينية والثقافية والميثولوجية، التي تربط العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، والعمل على تكريس المفهوم العملي للحداثة والتحديث،\"باعتبارهما خلقا لمجتمع عقلاني. يتصور هذا المفهوم المجتمع أحيانا على أنه نظام ومعمار قائم على الحساب وأحيانا أخرى يجعل من العقل أداة في خدمة مصلحة الأفراد ولذتهم، وأحيانا كسلاح نقدي ضد كافة أشكال السلطة لكي يحرّر الطبيعة البشرية التي سحقتها السلطة الدينية\"11
ويفهم من هذا أن العقل التحديثي الأوروبي كان دائما يبحث عن كسر العقبات الفكرية والحضارية والثقافية التي ظلت دائما تحول دون الوصول إلى صياغة فلسفة تنويرية حداثية، تُسند فيها السلطة إلى العقل الذي بإمكانه حمايتها من تعسف الفكر الرجعي وتبعيته، خاصة عندما نجد أن \"الإيديولوجية الغربية للحداثة Modernitéوالتي يمكن أن نسميها بالحداثية Modernisme، قد ألغت فكرة الذات وفكرة الله المرتبطة بها، وبالطريقة نفسها استبدلت تشريح الجثث أو دراسة نقاط التلاحم العصبي في المخ بالتأملات حول النفس. يقول أنصار الحداثة أنه لا المجتمع ولا التاريخ ولا الحياة الفردية تخضع لإرادة كائن أسمى يجب الإذعان له، أو يمكن التأثير عليه بواسطة السحر، الفرد لا يخضع إلا لقوانين الطبيعة.\"12
من هنا أضحى الفكر الإيديولوجي الحداثي، فكرا عقلانيا بامتياز، يبشر\"بتعاليم\" عقد اجتماعي شفاف غير خاضع للوسائط الميثولوجية المعيقة لسلطة العقل. \"وما يسري على المجتمع يسري على الفرد، إذ ينبغي أن يكون تعليم الفرد بابا يحرّره من الرؤية الضيقة واللاعقلية التي تفرضها عليه أسرته وانفعالاته الخاصة، ويفتح أمامه مجالا للمعرفة العقلية والاشتراك في مجتمع ينظم نشاط العقل، وينبغي للمدرسة أن تكون مكانا للقطيعة مع وسط النشأة والانفتاح على التقدم بواسطة المعرفة والمشاركة في مجتمع قائم على مبادئ عقلية، فليس المدرس مربيا يتدخل في الحياة الخاصة للأطفال، وهم ليسوا مجرد تلاميذ: إنه وسيط بينهم وبين القيم الكونية للحّق والخير والجمال.\" 13
وأعتقد أن هذه الركيزة الحداثية، من منظور أوروبي، المبنية على رفض الدين كموروث اجتماعي وكوسيط بين الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية، هي ركيزة لا ترفض الدين كدين بدليل أنها تقرّ بحرية ربط العلاقات الروحية، في إطار ذاتي ضيق (على مستوى الفرد نفسه)، وإنما هي الرغبة العقلانية في كسر نمطية مفهومي الخير والشر ضمن حركية المجتمع الأوروبي، الذي طالما ربطهما ربطا دينيا تارة وسيكولوجيا تارة أخرى، واستبدال المفهومين الديني والسيكولوجي بالمفهوم الاجتماعي وحده لا غير، حيث \"يحل المجتمع محل الله كأساس للحكم الأخلاقي ويصبح مبدأ التفسير وتقييم السلوك أكثر من كونه موضوعا للدراسة، إن النظام الاجتماعي قد أنشئ بناء على قرار من الأفراد الذين يخضعون لسلطة الدولة أو للإرادة العامة التي تعبّر عن نفسها في العقد الاجتماعي. ولا ينبغي للنظام الاجتماعي أن يستند إلى أي شيء آخر سوى القرار الإنساني.\"14
فالفاعل الاجتماعي في إيديولوجية الحداثة الغربية هو وحده مؤسس النظام الاجتماعي والسياسي المحرك لراهن المجتمع. شريطة أن لا يُبني هذا التأسيس على أي شكل من أشكال الوسائط الميثولوجية أو اللجوء إلى المبادئ الدينية، لأن \"الإنسان ليس مخلوقا خلقه الله على شاكلته، ولكنه فاعل اجتماعي يتحدّد بأدوار معينة، أي بسلوكيات مرتبطة بموقع، وينبغي لها أن تسهم في الأداء الجيد للنظام الاجتماعي، لأن الإنسان هو من يفعله فلا يجوز له أن يبحث عن فرديته الخاصة وعن أصوله فيما وراء المجتمع أي لدى الله \"15.
وتتحدد سلطة الفاعل الاجتماعي في تجسيد ديناميكية تحديثية انطلاقا من إعلائه مسلمات الفكر الحديث، القائم على رصد قوانين الطبيعة المدركة عقليا، والتي تصبح شكلا من أشكال التشريع الاجتماعي شريطة ألاّ تلتقي في قوانينها مع الموروثات الميثولوجية والدينية الثابتة، لأن الفكر التحديثي الأوروبي وفق الفلسفة التنويرية الحداثية\"يعتبر الشعب والأمة ومجموع البشر جسدا اجتماعيا يعمل طبقا لقوانين طبيعية. وعليه أن يتخلصّ من أشكال التنظيم والسيطرة اللاعقلانية التي تحاول أن تستمد شرعيتها من وحي أومن قرار يتجاوز الإنسان\"16.
وبالرغم من العداء الفكري والرؤيوي الكبير بين البعد الحداثي، والبعد الديني والميثولوجي، إلاّ أن العديد من الدراسات تقف أمام بعض الحلقات الدينية النشطة في تطوير الفلسفة التنويرية العقلانية الأوروبية وبعثها، إلى درجة الاعتقاد بأن ثورة الحداثة ذاتها كانت نابعة من إعادة قراءة النصوص المقدسة قراءة عقلانية بعيدة عن كل المفاهيم الثابتة التي طالما أعطتها قداسة كهنوتية جامدة، \"ليست الحداثة هي القضاء على المقدّس ولكنها تنهي الزهد خارج العلم، وتحلّ محله زهدا داخل العالم، زهدا لا يكون له معنى إلاّ إذا استدعى الإلهي والمقدس بشكل أو بآخر، واستدعى في الوقت نفسه انفصال عالم الظواهر عن عالم الوحي وعن الوجود ذاته\"17.
وتتضح هذه الفكرة أكثر فأكثر في كتابات (اعترافات) القديس أوغستين*عندما يتحدى ذاته المؤمنة، ويتحدى معها سلطة الآخر الكنسية، ويتحلّل من عباءة زهده وتقواه فيسأل عن الله، باحثا عنه في أركان الطبيعة: \"سألت البحر والأخاديد، والقوى الصاعدة للحياة، فأجابون \"نحن لسنا إلهك، سألت السماء والشمس والقمر والنجوم فقالوا ليّ ونحن لسنا إلهك الذي تبحث عنه، فقلت لكل هذه الكائنات حول أطراف جسدي: إنكم لستم إلهي ولكن خبروني عنه شيئا. فصاحوا فيّ بصوت عال لقد خلقنا هو.إن سؤالي هو انتباهي وإجابتهم هي مظهرهم، فلذا توجهتُ شطر نفسي وسألتها وأنت...من أنت؟ فأجابت\"إنسان\". وهكذا تعارض في ذاتي من هو في الخارج ومن هو في الداخل، الجسد والنفس. لمن أتجه كي أبحث أن إلهي، والذي بحثت عنه من قبل بواسطة الجسد من الأرض للسماء، بعيدا قدر ما استطعت وبقدر المدى الذي تصله أشعة بصري ؟ الأفضل هو الداخل والذي تدين له كل حركات الجسد والذي يرأس، ويحكم على كل إجابة، بينما تقول السماوات والأرض وكل ما تحتوياه: نحن لسنا الله، لقد خلقنا هو\"18
لقد أقرّ "أوغستين\" في اعترافه السابق أن حركية الكون هي حركية عقلية ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظام العقلي للخلق ذاته لأنه لم يستطع كما يوضح النص السابق أن يجد إجابة عن أسئلته التي وجهها لمخلوقات الله، لكونها لا تملك الإجابة، فهي مثله مخلوقة بناء على قدرة وقوى غيبية، لهذا لجأ إلى البحث عن الله في ذاته أولا لاعتقاده أن سلطة الخلق والإبداع والتغيير تنطلق من الداخل، أي البحث عن نور العقل في الإنسان.
ب- فلسفات القرن التاسع عشر الميلادي :
كان لاختفاء الوسائط الميثولوجية والدينية في تحديد العلاقات بين الفكر الاجتماعي العقلاني وسيرورة المجتمع، أثر كبير في فكّ سحر التصورات الدينية للعالم واعتماد مقاييس عقلانية بشرية شملت مختلف مجالات الحياة، \"مما هيأ أوروبا لمجالات من القيم الثقافية المناهضة لما كان سائد قبلها\"19، خاصة عندما ارتبط الفكر الحداثي الأوروبي منذ النهضة الأوروبية بمبدأ الهدم والتأسيس، الذي تمثل في إطار نظرية التقدم والتجاوز عند فلاسفة المرحلة ومفكريها، وعلى رأسهم (هيجل 1770م-1831م) و(داروين 1809م–1882م)و(كارل ماركس 1818م–1883م)*. حيث عمل كل واحد منهم على تأسيس مفهومه المعرفي المشكّل لملمح الحداثة انطلاقا من واقع المجتمع.
ويعرض الأستاذ محمد بنيس في كتابه \"الشعر العربي المعاصر، بنايته وإبدالاتها\" في جزئه الرابع المتعلق بقضية مساءلة الحداثة، إلى تحليل هذه المفاهيم المعرفية. فرأى أن\"هيجل\ قد بنى فلسفته حول التاريخ،\"اعتمادا على فرضية \"التحول\" و\"التجاوز\"، فالتاريخ بالنسبة إليه ذو غاية، ومن ثم فإن فهم كل واقعة لا يتم إلا من خلال صيرورتها التاريخية السائرة حتما بصيغة متصاعدة نحو غايتها، ضمن الكلية الكونية، وهو بذلك تجلّ للمطلق، كَتَجَسْدُن متقدم لتجاوز الاغتراب، وذلك عن طريق القانون الجدلي للتجاوز. والجدل هو بطبيعة الحال قانون الحركة المتّجهة نحو الأمام، والتي تتجاوز باستمرار تناقضاتها، والتاريخ بهذا المعنى هو عملُ العقل الذي يحقّق فكر المطلق الذي ينحو نحو إنجاز الحرية الفردية والجماعية\"20. وينتقد آلان تورين فلسفة الطموح التاريخي عند هيجل وفق ما عرضنا سابقا (في فقرة محمد بنيس)، قائلا إن فلسفة التاريخ عنده قائمة أصلا على إلحاق الفاعلين الاجتماعيين بالدولة (السلطة)، كفاعل للتغيرات الاجتماعية والتاريخية معاً، فالفكر التاريخي الهيجلي لا يقبل فكرة الإنسان صانع للتاريخ (عقلاني)، إلا ليلغيها مباشرة، لأن التاريخ هو تاريخ العقل ...21.
أما كارل ماركس فقد استطاع أن ينقل محور الجدل الفكري حول حركية الحداثة والتحديث الاجتماعي، من محور الصيرورة التاريخية إلى محور الواقعية المادية المعيشة، \"لذلك فإن التناقضات التي كانت بالنسبة لهيجل تتجه نحو حلّها من خلال تحقيق فكرة المطلق، أصبحت لدى ماركس تتجه إلى التناقضات بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والصيغة المجتمعية المجسدِنة لها، لا يمكن أن تُحل إلاّ بتغيير المجتمع من وضعية رأسمالية إلى وضعية شيوعية، عبر التملّك الجماعي لوسائل الإنتاج، وهو ما لا يمكن لغير البروليتاريا تحقيقه كمرحلة انتقالية نحو مجتمع بلا طبقات كتجسدن للمتقدم والأرقى \" 22.
ويتضح مما سبق أن الفكر التاريخي الذي طالما جاهر به \"هيجل\" من خلال إعلائه وجعله غاية توصلنا إلى المطلق، قد ارتبط ماركسيا ارتباطا وثيقا بنظرية الثورة الاجتماعية. وهي الفكرة التي كانت حاضرة منذ البداية في الفكر الحداثي، ابتداء من القرن السادس عشر إلى غاية القرن العشرين،\"وتجمع الفكرة الثورية بين ثلاثة عناصر: إرادة تحرير قوى الحداثة، والنضال ضد نظام قديم يعرقل التحديث وانتصار العقل، وأخيرا تأكيد الإرادة الوطنية التي تتطابق مع التحديث \"23.
وقد ساعد في انتشار النظرة الماركسية للتحديث الاجتماعي تلك العلاقة بين الثورة وفعل التحديث ذاته، خاصة وأن أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي مجموع دول تمثل قوميات متصارعة فكريا وتاريخيا. وهاجس التحديث بالنسبة لها هو عبارة عن خيار استراتيجي لاعلاء الخيارات القومية المتنامية، فلا\"توجد ثورة إلا وهي تحديثية وتحريرية ووطنية، ويضعف الفكر التاريخي أكثر حتى في قلب النظام الرأسمالي، حيث يتحكم الاقتصاد في التاريخ،وحيث يمكن الحلم بفناء الدولة. ولكنه على العكس يقوى أكثر عندما تطابق أمة بين نهضتها أو استقلالها من التحديث\"24.
أما الحقل المعرفي الثالث المشكل لنظرية التقدم التي بنيت عليها الحداثة الأوروبية فهي النظرية الداروينية، المبنية على فكرة التطور ضمن صراع الأقوى، ومن هنا أتى داروين\"من أفق آخر هو علم الطبيعة ليصبح المنظّر الحديث للتطورية. لقد لاحظ داروين أن الأنواع الطبيعية متباينة، وفسّر هذا التباين بواسطة تأثير المحيط الطبيعي على الأنواع وتبايناتها، وليس التأثير سوى ما يحدثه التنّوع على الأعضاء. وهو ما يؤدي إلى انتقال طبيعي، أو ما يسميه بالبقاء للأصلح، وعلى هذا فإن الصراع من أجل الحياة، أو الانتقاء الطبيعي يحافظ على التوازن بين النوع ومحيطه. وتطور الأنواع الطبيعية هو، في نهاية التحليل السبيل الوحيد لمحافظة النوع على وجوده.وتشترط المحافظة الانتقال من الحالة البسيطة إلى الحالة المركبة.\"25
والواقع أن الطروحات الفكرية والفلسفية السابقة، بالرغم من اختلافاتها الإجرائية حول تطبيق الفعل الحداثي داخل المجتمع، إلا أنها تحيلنا إلى مراجعة المحمولات الحداثية التي ظلت تعمل من أجلها ولأجلها لترسيخ السلوك الحداثي في الفكر الأوروبي. ويمكن ضبط هذه المحمولات فيما يأتي:
§ الفرادة: وهي وفق التصور التحديثي القدرة على خلق النموذج الأفضل للبقاء ضمن العالم الحديث.
§ تشكيل الموقف: لأن الفعل التحديثي يقتضي في اعتقادي تأسيسا ذاتيا لهذا الموقف، شريطة أن يعقب بشتى أنواع المبررات التي من شأنها ترسيخه في العالم الحديث.
§ الفاعلية: وأقصد بها قدرة الفرد على التفاعل ضمن فضاءات الوسط الاجتماعي بكل حرية واستقلالية، وفق المحمول الأول والثاني طبعا.
وتقودنا هذه المحمولات إلى الوقوف على ملامح عقيدة التنوير التحديثية في الفكر الحداثي الأوروبي من خلال النقاط الاستنتاجية الآتية:
أ - اعتبار الطبيعة كيانا ماديا مستقلا وقائما في ذاته، تحكمه مبادئ وقوانين ونظم قابلة لأن تعرّف الإنسان بأنه جزء مادي من هذه الطبيعة.
ب - رفض سلطة المألوف والنموذج والنمط، والقضاء الآلي على سلطة السلف المبنية على الغيبيات، ونزع هالة القُدسية عن الأشياء والعلاقات، والالتزام بالعقل العلمي سلطة أسمى.
ج - اعتماد مبدأ الثورة والثورية، أي إدراك تاريخية الطبيعة والمجتمع البشري، وإدراك الذات المدركة بصفتها قوة اجتماعية ثورية.
د - إقصاء المفهومات الغيبية من المعرفة والعلم، ثم من خلال الأخلاق والتاريخ، بعد ما كانت هذه المفهومات تشكل محور فلسفة القرون الوسطى.
ه - اعتبار المعرفة العلمية قيمة قائمة في ذاتها ومطلقة الاستقلالية، فهي لا تقبل أي سلطة أو قيد يُفرض عليها من خارجها. فقيودها إن وجدت تنبع من داخلها.
و- الإيمان بالإنسان كرأسمال فاعل من خلال قدراته الخلاقة شرط استقلاليته وحريته الذاتية واعتباره مصدرا وأساسا لكل قيمة.
ز - الانفتاح على اللانهاية المادية، ففكر الحداثة مسكون باللانهاية، وهو يرفض أي قيد، لأنه يعتبر لانهاية المادة مصدر غبطة وأساسا لحرية الإنسان وقدرته اللامنتهية26.
وهكذا نجد أن الحداثة كحركة شاملة اشتغلت في الحياة بكل وسائطها لتخلق نوعا جديدا من المفاهيم والقيم، التي سوف تعزل الإنسان عن ذاته وتفرغها من محتواها الداخلي، فلا بد وفق هذا المنطق من ممارسة قطيعة حقيقية وأبدية بين الإنسان بوصفه ذاتا والإنسان بوصفه موضوعا. لابد أن تكون المعطيات الإنسانية وفق المنظور الحداثي معطيات أكثر ابتعادا عن أخلاق الاقتناع، وأكثر اقترابا من أخلاق المسؤولية، فالحداثة التي عرفَتها أوروبا كانت مرحلة حاسمة في تاريخها، إنها مرحلة انهيار وعي تاريخي بالموروث القديم لمرحلة العصور الوسطى، وبداية وعي جديد شكّل فيه الإنسان المحور والجوهر والأساس للانطلاقة.

الدكتور حـبيب بـوهرور

براءة الجودي
14-05-2013, 03:15 AM
رفع الله قدر الكاتب والناقل
مقالة مفيدة ومثرية , شكرا لك