ابراهيم عبد المعطى
17-12-2007, 05:08 AM
حوار هامس
" سأنتقم منك "
" لن تفلت من يدى "
" لن أتركك تنجو بجريمتك "
تمتم صالح بهذه الكلمات وهو ممدد بحجرة داره
الوقت ليلا , ومن فتحة فى سقف الحجرة هبط شعاع رمادي باهت بينما يطل كل آن وآخر الجرذان والعناكب ,
جال ببصره فى أرجاء الدار , جدران متآكلة وأسقف محترقة !
ومن جحر فى مدخل الحجرة خرج فأر محركا ذيله , رفع رأسه لحظة منصتا ثم وثب إلى الفرن وغاب بداخله .
كان ثمة صمت لم تفلح تنهدات صالح فى قطعه , كانت خيالاته ترى ناسًا يعبرون قنطرة من ناحية واحدة إلى شاطىء مظلم كأنها تذكره أن أبويه ماتا فى حريق شب فى منزله , لم تفلح صرخات أهل القرية ولا نظرات خلاًف الشامتة فى إطفاء النيران المشتعلة , لاينسى شكل والده وهو يعدو خارج البيت فاردا ذراعيه تشتعل النار فى بعض أجزائه والناس تبتعد عنه فى ذعر , كان لحمه يتهدل على عظامه ولحم جبهته السائح يغطى عينيه , وبين عويل النسوة وصيحات الرجال إنطلق لاهثًا تسيل من فمه الدماء وهي تمتزج بشحم وجهه وعنقه , كان يعوى عواء حيوانيا رهيبا والدهن الذائب يتجمع ويتساقط على بطنه مختلطا بدوامة من نار , لكن سرعان ماتهادى على ركبتيه راكعا فخذلته قواه وانطرح فى بركة مياه عطنة , سمع الجميع طشيش جسده فى الماء ثم أخذ جسده يختلج كدجاجة مذبوحة وخبطت ذراعاه الماء عدة مرات وراح ينثنى منتفظا ثم استكان فجأة وهمد .
برقت عيني صالح بالألم والدموع
نهض واقفا ومد بده وسحب مسدسا من طاقة صغيرة فى الجدار ودسه طي ملابسه ثم خرج فى خفة , كانت الظلمة داكنة وليس هناك سوى ضوء النجوم المرتعش ,
إنسل خارجا من بين الدور متخذا من الظلام الشديد بجوار الجدرات ساترا له , تخطى الشارع الكبير وإنطلق فى اتجاه مصرف القرية حتى جاوز الدور فإنبسط أمامه الفضاء الفسيح بسمائه الرمادية , وعلى طريق عشبى سار تحت ظلال الأشجار ونقيق الضفادع يقطع السكون , راح يحدًق بكلتا عينيه حتى بدت جدران منزل كبير ككتلة من الظلام الدامس وراء سور أسمنتى , مسح السور بعينيه , بصق فى فظاظة ومد رجله داس بصقته وسحقها كأنها حشرة , لمح حارسا منتصبا على السور , دقق النظر , كان الحارس ينظر بوجهه الناحية الأخرى , اقترب بحذر من السور حتى حاذاه وبخفة قفز إلى الداخل وأخذ يصعد فوق تل ترابى وعيناه تحدقان فى وجه الحارس وفى ذهنه أن ينبطح على وجهه لكن الحارس لم ينظر ناحيته , كان مازال يحدق فى الناحية الأخرى , هبط مسرعا تل التراب وخلف شجرة كبيرة إختبأ تمتم فى سره :
" هاقد جاءت الفرصة السانحة للأخذ بالثأر ياصالح , سبعة أعوام وأنت بعيد عن دارك التى خرجت منها ذليلا مقهورا , سبعة أعوام تجوب القرى وصدرك يغلى كالمرجل , عملت حمالا وكناسا وجامعا للأعقاب ونادلا فى المقاهى , تنقلت بين القرى وجسدك يتأجج بالرغبة فى الإنتقام , حاولت أن تطفىء الرغبة ولكن كيف تنسى منظر والدك المشتعل وهو ينطرح فى بركة المياه العطنة ؟ أو شكل والدتك وهى جثة متفحمة لامعالم لها , همس الناس بعدها بإشاعات كثيرة وروايات مجهولة , قالوا أن والدك شاهد أمك بين أحضان خلاًف فإرتكب خلاًف هذه الجريمة ليدارى علاقته الآثمة ويتخلص من فضيحة كادت تطبق عليه , جريمة بجريمة يا خلاًف , سأتلذذ بتعذيبك أولا ثم أفرغ هذه الرصاصات داخل فمك , سأجعلك عبرة لكل ظالم , سامحنى يارب , ألست تقول وقولك الحق " ولكم فى القصاص حياة "
انه القصاص ياإلهى "
رفع رأسه بحرص محدقا النظر فى اتجاه الحارس , كان الأخير قد استدار وأصبح وجهه مقابلا له تماما فإنكفأ نائما على وجهه , كان الحارس يهمس لنفسه :
" وماذا بعد ياعبد الواحد ؟ ماذا بعد هذا العمل المضنى عند الظالم العربيد ؟
لقد تحملت مالم يتحمله بشر , تحملت ظلمه وفجره وجبروته , غفر الله لك أبا صالح , لقد كنت مثالا للشرف , ترى أين صالح الآن ؟ مرت سبعة أعوام ماذا لو حضر الآن وأنا حارس هل أقتله ؟ مصيبة هذه ! فكيف أتصرًف وقتها ؟ ماذا أفعل ؟"ٍ
كانت النجوم تبرق قريبا من هامات الأشجار فى سماء رمادية فسيحة
كان صالح يتمتم فى سره :
" أنا أواجه الموت برضا وشجاعة , لايهمنى إلآ الظالم الفاجر , لاأريد سوى رأسه أما المسكين المنصب أمامى فهو أخى أو صديقى , فليبتعد قليلا , وليذهب ليشرب شايا أو حتى يتبوًل , يبتعد لحظات فقط لأقتحم على الفاجر وكره "
أما الحارس فكان يقول :
" تبا للزمن الذى جعل الإنسان عبدًا لرغباته , ظالما لنفسه ولغيره , حتى خلاًف مهما طال الزمن أوقصر فإن مصيره واحد , فلماذا الظلم والجشع ؟ سيموت مثل أبى صالح ويلتقيان أمام الحكم العدل , ترى ماذا سيقول خلاًف ؟ وماذا سيكون رد صالح ؟! "
سكت الحارس لحظة وسمع صوتا داخل نفسه يشبه صوته يقول :
" انها الحياة , لذتها ومتعتها فى الصراع , فى التفوق , فى التقلب من الشقاء إلى النعيم "
وفى هذه اللحظة رفع صالح رأسه ناظرا ناحية الحارس ثم إنكفأ نائما مرة أخرى على وجهه ٍبعد أن تساقطت حبيبات العرق من جبينه , وسمع صوتا يشبه صوته يقول :
" عليه اللعنه ..اقتله "
سمع صوتا آخر من داخله يهمس :
" انه برىء .. كيف أقتله وليس له ذنب ؟"
أجاب الصوت الأول :
" انه حارس الظالم ! أليس حارس الظالم كالظالم , أليس المولى يقول فى حديث قدسي وهو بهم أعلم " أين من برى له قلما ؟ أين من ناوله دواةً"
تحرك الحارس قليلا فبرقت فكرة فى عقل صالح كالشهاب , تناول حجرا وقذف به الناحية الأخرى محدثا دويا عند سقوطه , وبسرعة البرق إلتفت الحارس وأطلق رصاصة من بندقيته , انفتحت فى أذن الحارس أمواج اليقظة فلمعت عيناه فى الظلام , قفز صالح قفزة سريعة حتى لاصق الباب الخارجى , تحسس الباب بيديه , وعثرت يداه على سلسلة حديدية بقفل كبير , لمس بأصابعه أطرافها ومد يده اليمنى واستخرج من جيبه مفتاحا ووضعه فى القفل وأدار المفتاح فانفتح القفل فى هدوء , ثم سحب السلسلة الحديدية برفق من فتحة ضيقة حتى جعلها تتدلى على جانب الباب وثبتها بيده اليمنى حتى لاتتأرجح وإلتقط أنفاسه وراح يضغط على الباب , كان يخشى أن يند عنه صوت ما يرشد الحارس لكن الباب انزلق فى مجراه دون صوت , نظر صالح إلى ماوراء الباب , كانت أمامه ردهة مظلمة جدا , تنفس بقوًة وسمع صوت تنفسه عاليا , مال بنظره ناحية الحارس , كان الحارس قد استدار الناحية الأخرى وأصبح ظهره فى مواجهة صالح تماما , فكر صالح قليلا وسمع صوتا يقول له :
" اقتله .. سيفتح شهيتك لقتل الفاجر "
وسمع صوتا يشبه صوته يرد :
" لا .,. إدخر كل طلقة لتصبها فى فم الفاجر "
كان الحارس ينظر ناحية صوت ارتطام الحجر ويهمس لنفسه :
" أشعر أن ثمة أنفاس غريبة تجتاح كيانى "
أما صالح فقد سحب خزينة مسدسه وسرت فى جسده نشوة الإقتراب من اللحظة الحاسمة ووقف نصف وقفة وأدار ظهره وهمً بإقتحام الردهة
النجوم تنحدر فى الأفق وتحتضر فى أماكنها
لمحه الحارس كتلة ظلام تتحرك فدوت على الأثر طلقة رصاص كصرخة عفريت فى الظلام اخترقت ظهر صالح فقذفت به على الأرض , لم يكن صالح قد بلغ الردهة ولا إنتهى من مدخل الباب الخارجى , انفجرت أضواء قوس قزح شديدة الوميض داخل رأسه , لمح وجه أمه الأبيض وعينيها العسليتين همس :
" حمدا لله فقد رأيتك ياأعز الناس وسمعت صوت قدميك المخضبتين بالحناء "
استدار جهة الحارس وسقط مسدسه , فى رأسه خلايا غير منظورة لاتزال تفكر وترى , قفز الحارس من مكانه وتقدم مسرعا بحذر محني القامة , كانت الخلايا النائمة لاتزال تعمل فى رأس صالح وتهدهده بحلم غامض , حاول أن يلتقط المسدس لكن العالم كله رمادي اللون كالسحاب همس :
"ابعد ياموت , اتركنى لحظة واحدة لأقتل الفاجر ثم أسرع على جناحين من الحلم لتحملنى إلى دارى المحترقة , أطباق الطعام تحملها أمى وتضعها أمامى ولكن ياأمى أين الملح ؟ أين الماء ؟"
لم ير الحارس , حتى الشجر اختفى , السماء لالون لها , شعر بالوحدة المطلقة الغامضة التى تجره جرا نحو الفراغ , نحو النوم , نحو العدم .
اقترب الحارس وسطع من يده ضوء بطارية قوى , كان صالح ملقى على بطنه ووجهه ملتفت ناحية الشرق قليلا , كانت عيناه مفتوحتين , وقالت عينا الحارس لعينى صالح :
" صالح .. يالشقائى وعذابى "
وسمع صوتا من داخله يقول :
" لو لم أقتله أنا لقتلنى هو "
ورد الصوت الأول :
"يأخذ الموت الأطهار فى هذا الزمن "
وسمع صوتا آتيا من بعيد :
"لقد جاء يرد إعتبار أمه الشريفة "
وردد الصوت :
" فى هذه الدنيا البقاء للظالم "
مد الحارس يده وبأطراف أصابعه أغمض عينيه وجلس بجواره يرقب وجه صالح وقطرات الندى تتجمع عليه .ٍ
" سأنتقم منك "
" لن تفلت من يدى "
" لن أتركك تنجو بجريمتك "
تمتم صالح بهذه الكلمات وهو ممدد بحجرة داره
الوقت ليلا , ومن فتحة فى سقف الحجرة هبط شعاع رمادي باهت بينما يطل كل آن وآخر الجرذان والعناكب ,
جال ببصره فى أرجاء الدار , جدران متآكلة وأسقف محترقة !
ومن جحر فى مدخل الحجرة خرج فأر محركا ذيله , رفع رأسه لحظة منصتا ثم وثب إلى الفرن وغاب بداخله .
كان ثمة صمت لم تفلح تنهدات صالح فى قطعه , كانت خيالاته ترى ناسًا يعبرون قنطرة من ناحية واحدة إلى شاطىء مظلم كأنها تذكره أن أبويه ماتا فى حريق شب فى منزله , لم تفلح صرخات أهل القرية ولا نظرات خلاًف الشامتة فى إطفاء النيران المشتعلة , لاينسى شكل والده وهو يعدو خارج البيت فاردا ذراعيه تشتعل النار فى بعض أجزائه والناس تبتعد عنه فى ذعر , كان لحمه يتهدل على عظامه ولحم جبهته السائح يغطى عينيه , وبين عويل النسوة وصيحات الرجال إنطلق لاهثًا تسيل من فمه الدماء وهي تمتزج بشحم وجهه وعنقه , كان يعوى عواء حيوانيا رهيبا والدهن الذائب يتجمع ويتساقط على بطنه مختلطا بدوامة من نار , لكن سرعان ماتهادى على ركبتيه راكعا فخذلته قواه وانطرح فى بركة مياه عطنة , سمع الجميع طشيش جسده فى الماء ثم أخذ جسده يختلج كدجاجة مذبوحة وخبطت ذراعاه الماء عدة مرات وراح ينثنى منتفظا ثم استكان فجأة وهمد .
برقت عيني صالح بالألم والدموع
نهض واقفا ومد بده وسحب مسدسا من طاقة صغيرة فى الجدار ودسه طي ملابسه ثم خرج فى خفة , كانت الظلمة داكنة وليس هناك سوى ضوء النجوم المرتعش ,
إنسل خارجا من بين الدور متخذا من الظلام الشديد بجوار الجدرات ساترا له , تخطى الشارع الكبير وإنطلق فى اتجاه مصرف القرية حتى جاوز الدور فإنبسط أمامه الفضاء الفسيح بسمائه الرمادية , وعلى طريق عشبى سار تحت ظلال الأشجار ونقيق الضفادع يقطع السكون , راح يحدًق بكلتا عينيه حتى بدت جدران منزل كبير ككتلة من الظلام الدامس وراء سور أسمنتى , مسح السور بعينيه , بصق فى فظاظة ومد رجله داس بصقته وسحقها كأنها حشرة , لمح حارسا منتصبا على السور , دقق النظر , كان الحارس ينظر بوجهه الناحية الأخرى , اقترب بحذر من السور حتى حاذاه وبخفة قفز إلى الداخل وأخذ يصعد فوق تل ترابى وعيناه تحدقان فى وجه الحارس وفى ذهنه أن ينبطح على وجهه لكن الحارس لم ينظر ناحيته , كان مازال يحدق فى الناحية الأخرى , هبط مسرعا تل التراب وخلف شجرة كبيرة إختبأ تمتم فى سره :
" هاقد جاءت الفرصة السانحة للأخذ بالثأر ياصالح , سبعة أعوام وأنت بعيد عن دارك التى خرجت منها ذليلا مقهورا , سبعة أعوام تجوب القرى وصدرك يغلى كالمرجل , عملت حمالا وكناسا وجامعا للأعقاب ونادلا فى المقاهى , تنقلت بين القرى وجسدك يتأجج بالرغبة فى الإنتقام , حاولت أن تطفىء الرغبة ولكن كيف تنسى منظر والدك المشتعل وهو ينطرح فى بركة المياه العطنة ؟ أو شكل والدتك وهى جثة متفحمة لامعالم لها , همس الناس بعدها بإشاعات كثيرة وروايات مجهولة , قالوا أن والدك شاهد أمك بين أحضان خلاًف فإرتكب خلاًف هذه الجريمة ليدارى علاقته الآثمة ويتخلص من فضيحة كادت تطبق عليه , جريمة بجريمة يا خلاًف , سأتلذذ بتعذيبك أولا ثم أفرغ هذه الرصاصات داخل فمك , سأجعلك عبرة لكل ظالم , سامحنى يارب , ألست تقول وقولك الحق " ولكم فى القصاص حياة "
انه القصاص ياإلهى "
رفع رأسه بحرص محدقا النظر فى اتجاه الحارس , كان الأخير قد استدار وأصبح وجهه مقابلا له تماما فإنكفأ نائما على وجهه , كان الحارس يهمس لنفسه :
" وماذا بعد ياعبد الواحد ؟ ماذا بعد هذا العمل المضنى عند الظالم العربيد ؟
لقد تحملت مالم يتحمله بشر , تحملت ظلمه وفجره وجبروته , غفر الله لك أبا صالح , لقد كنت مثالا للشرف , ترى أين صالح الآن ؟ مرت سبعة أعوام ماذا لو حضر الآن وأنا حارس هل أقتله ؟ مصيبة هذه ! فكيف أتصرًف وقتها ؟ ماذا أفعل ؟"ٍ
كانت النجوم تبرق قريبا من هامات الأشجار فى سماء رمادية فسيحة
كان صالح يتمتم فى سره :
" أنا أواجه الموت برضا وشجاعة , لايهمنى إلآ الظالم الفاجر , لاأريد سوى رأسه أما المسكين المنصب أمامى فهو أخى أو صديقى , فليبتعد قليلا , وليذهب ليشرب شايا أو حتى يتبوًل , يبتعد لحظات فقط لأقتحم على الفاجر وكره "
أما الحارس فكان يقول :
" تبا للزمن الذى جعل الإنسان عبدًا لرغباته , ظالما لنفسه ولغيره , حتى خلاًف مهما طال الزمن أوقصر فإن مصيره واحد , فلماذا الظلم والجشع ؟ سيموت مثل أبى صالح ويلتقيان أمام الحكم العدل , ترى ماذا سيقول خلاًف ؟ وماذا سيكون رد صالح ؟! "
سكت الحارس لحظة وسمع صوتا داخل نفسه يشبه صوته يقول :
" انها الحياة , لذتها ومتعتها فى الصراع , فى التفوق , فى التقلب من الشقاء إلى النعيم "
وفى هذه اللحظة رفع صالح رأسه ناظرا ناحية الحارس ثم إنكفأ نائما مرة أخرى على وجهه ٍبعد أن تساقطت حبيبات العرق من جبينه , وسمع صوتا يشبه صوته يقول :
" عليه اللعنه ..اقتله "
سمع صوتا آخر من داخله يهمس :
" انه برىء .. كيف أقتله وليس له ذنب ؟"
أجاب الصوت الأول :
" انه حارس الظالم ! أليس حارس الظالم كالظالم , أليس المولى يقول فى حديث قدسي وهو بهم أعلم " أين من برى له قلما ؟ أين من ناوله دواةً"
تحرك الحارس قليلا فبرقت فكرة فى عقل صالح كالشهاب , تناول حجرا وقذف به الناحية الأخرى محدثا دويا عند سقوطه , وبسرعة البرق إلتفت الحارس وأطلق رصاصة من بندقيته , انفتحت فى أذن الحارس أمواج اليقظة فلمعت عيناه فى الظلام , قفز صالح قفزة سريعة حتى لاصق الباب الخارجى , تحسس الباب بيديه , وعثرت يداه على سلسلة حديدية بقفل كبير , لمس بأصابعه أطرافها ومد يده اليمنى واستخرج من جيبه مفتاحا ووضعه فى القفل وأدار المفتاح فانفتح القفل فى هدوء , ثم سحب السلسلة الحديدية برفق من فتحة ضيقة حتى جعلها تتدلى على جانب الباب وثبتها بيده اليمنى حتى لاتتأرجح وإلتقط أنفاسه وراح يضغط على الباب , كان يخشى أن يند عنه صوت ما يرشد الحارس لكن الباب انزلق فى مجراه دون صوت , نظر صالح إلى ماوراء الباب , كانت أمامه ردهة مظلمة جدا , تنفس بقوًة وسمع صوت تنفسه عاليا , مال بنظره ناحية الحارس , كان الحارس قد استدار الناحية الأخرى وأصبح ظهره فى مواجهة صالح تماما , فكر صالح قليلا وسمع صوتا يقول له :
" اقتله .. سيفتح شهيتك لقتل الفاجر "
وسمع صوتا يشبه صوته يرد :
" لا .,. إدخر كل طلقة لتصبها فى فم الفاجر "
كان الحارس ينظر ناحية صوت ارتطام الحجر ويهمس لنفسه :
" أشعر أن ثمة أنفاس غريبة تجتاح كيانى "
أما صالح فقد سحب خزينة مسدسه وسرت فى جسده نشوة الإقتراب من اللحظة الحاسمة ووقف نصف وقفة وأدار ظهره وهمً بإقتحام الردهة
النجوم تنحدر فى الأفق وتحتضر فى أماكنها
لمحه الحارس كتلة ظلام تتحرك فدوت على الأثر طلقة رصاص كصرخة عفريت فى الظلام اخترقت ظهر صالح فقذفت به على الأرض , لم يكن صالح قد بلغ الردهة ولا إنتهى من مدخل الباب الخارجى , انفجرت أضواء قوس قزح شديدة الوميض داخل رأسه , لمح وجه أمه الأبيض وعينيها العسليتين همس :
" حمدا لله فقد رأيتك ياأعز الناس وسمعت صوت قدميك المخضبتين بالحناء "
استدار جهة الحارس وسقط مسدسه , فى رأسه خلايا غير منظورة لاتزال تفكر وترى , قفز الحارس من مكانه وتقدم مسرعا بحذر محني القامة , كانت الخلايا النائمة لاتزال تعمل فى رأس صالح وتهدهده بحلم غامض , حاول أن يلتقط المسدس لكن العالم كله رمادي اللون كالسحاب همس :
"ابعد ياموت , اتركنى لحظة واحدة لأقتل الفاجر ثم أسرع على جناحين من الحلم لتحملنى إلى دارى المحترقة , أطباق الطعام تحملها أمى وتضعها أمامى ولكن ياأمى أين الملح ؟ أين الماء ؟"
لم ير الحارس , حتى الشجر اختفى , السماء لالون لها , شعر بالوحدة المطلقة الغامضة التى تجره جرا نحو الفراغ , نحو النوم , نحو العدم .
اقترب الحارس وسطع من يده ضوء بطارية قوى , كان صالح ملقى على بطنه ووجهه ملتفت ناحية الشرق قليلا , كانت عيناه مفتوحتين , وقالت عينا الحارس لعينى صالح :
" صالح .. يالشقائى وعذابى "
وسمع صوتا من داخله يقول :
" لو لم أقتله أنا لقتلنى هو "
ورد الصوت الأول :
"يأخذ الموت الأطهار فى هذا الزمن "
وسمع صوتا آتيا من بعيد :
"لقد جاء يرد إعتبار أمه الشريفة "
وردد الصوت :
" فى هذه الدنيا البقاء للظالم "
مد الحارس يده وبأطراف أصابعه أغمض عينيه وجلس بجواره يرقب وجه صالح وقطرات الندى تتجمع عليه .ٍ