محمد جاد الزغبي
11-01-2008, 03:12 AM
فصول وتأملات فى الفكر والتكفير ..
" دراسة عن الفئة التى اتخذت التشدد سبيلا وحاربت علماء المسلمين أنفسهم بالتكفير والتخوين للعقيدة وهدف الدراسة واضح فأرجو ألا تؤخذ على محمل آخر "
قديما منذ حوالى خمسين عاما فى إحدى قري الصعيد بمصر .. كان معظم أهل القرية بطبيعة العصر من الأميين البسطاء ذوى الإيمان النقي الذى لا يعرفه إلا أهل الفطرة النقية ..
كانت المعرفة والتعليم والثقافة ـ لا سيما دينيا ـ تعد نادرة فى هذا الوقت ..
وذات عام غابر أتى وافد من غير أهل القرية إليها لا يملك شيئا إلا دهاء غير مألوف بعقله لا في هذا العصر ولا فى تلك المنطقة التى قامت على البساطة الشديدة ..
وشيئا فشيئا بدأ يمد سيطرته على العقول بطلاوة الحديث والترهيب معتمدا على معرفته النسبية ببعض أحكام العقيدة فظل محل احترام ومهابة رغم دناءة نفسه وحرص فيما حرص على تعليم أولاده ـ على غير عادة الغالبية العظمى من أهل القرية ـ فخرجوا وتشربوا أسلوب أبيهم وتملكوا منابر المساجد فى أنحاء القرية وفرضوا سطوتهم على الأمية الكاسحة وفتتوا عادات وتقاليد كانت فى منتهى الروعة وهى تخرج بيضاء نقية من قلوب الناس
مثال ذلك أنه إذا كان يوم الجمعة وفى وقت مبكر تمتلئ المساجد بالمصلين يستمعون خلال ساعة أو أكثر إلى سورة الكهف وعندما يصل المقرئ إلى قوله تعالى
" واذكر ربك إذا نسيت "
يردد المصلون جميعا فى خشوع " لا إله إلا الله "
فى عادة فطرية نقية .. غير أن أهل السطوة الفقهية من هؤلاء المشار إليهم وقفوا لهذا ناهين من على منابر المساجد أن يردد المصلون هذا القول وكان تبريرهم أن هذا الترديد يعد تفسيرا للقرآن بدون علم !! وأن هذا الأمر بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار !!
وزاد الأمر استفحالا عندما يمموا وجههم شطر توافه الأمور وتركوا ثقالها من تلك الأعباء التى أثقلت الناس بل وزادوا غيا وفسادا فى الأرض وجعلوا من أنفسهم محتكرى سلاح الدين
وتحت تأثير الغوغائية وكثرة العدد تمكن هؤلاء من بسط قولهم على الجميع بالرغم من وجود علماء أجلاء من حائزى عالمية الأزهر لكنهم كانوا من عائلات بسيطة لا يعرفون عن أسلوب قيادة البسطاء شيئا فخسروا مبكرا أى محاولة للتصدى وظل الفشل قائما حتى تمكن واحد من أنبغ شباب القرية من الجيل التالى لهذا الجيل وكان قد شب على اطلاع واسع صقلته تجربة حرب أكتوبر فجاء إلى قريته وجعل هدفه نزع تلك السيطرة التى ثبتت الخرافات والبدع الحقيقية فى أعماق الناس
ولأنه تمرس ونشأ عارفا بطبائعهم خرج إليهم بسلاحهم وأخذ فى الحديث بالمنطق والحجة والعلم ضاربا بفتاواهم المغرضة عرض الحائط آتيا بأقوال السلف والخلف الصالح منهم ولم تمض سنوات قلائل حتى كشف أمرهم
تلك الحكاية البسيطة والتى حدثت ولا زالت تحدث على أوسع المستويات هى مدخلنا الحقيقي لقضية الحجر على كل فكر تحت تأثير التكفير واستباحة النوايا والتصدى لأى محاولة للتساؤل ..
فضلا على التعامل الغريب مع القرآن والسنة والعقيدة بأكملها باعتبارها محرمات على من لم يتبع القواعد التى أقرها الشرع لأصول الفتوى والاجتهاد ..
وليس هذا بالطبع معناه أننا ننكر أن يتعامل المجتهد أو الفقيه مع النصوص بغير تلك الشروط ولكن السؤال هو أين هى تلك الحدود التى تفصل
الفقه عن التعبير .. والفتوى عن التفسير..و الإجتهاد عن التدبر .. والطعن عن التفكر ..
والقضية فى مجملها قضية شاذة عن منهج الفكر الإسلامى العريق بل إن دعاوى الداعين بحصر الدين وفكره على فئة معينة لم ينتبهوا أن ما يفعلونه هم بأنفسهم بدعة لم يأتها قبلهم عالم أو مفكر فى العصور الأولى للإسلام ..
فضلا على ما هو أخطر ..
أن الداعين لهذا المنهج هم من علماء الشريعة أى أن قولهم مأخوذ به ومعتد بمضمونه وغاب عنهم أنهم بهذا الذى ينادون به تحت دعوى المحافظة على الأصول إنما يحققون ما عجز عن تحقيقه عتاة المستشرقين والعلمانين طيلة قرون
وإلى التفاصيل حتى لا يلتبس الأمر ويـُـفهم الموضوع على خلاف ما أراد كاتبه ..
الفصل الأول .. أزمة الإحتكار
منذ بداية الأزهر الشريف بمصر كمؤسسة دينية عملاقة تمكن علماؤها من بسط علمهم لإحياء الدعوة الإسلامية بعد أن تمكنوا من دحر دعوة الشيعة الذين كانت نيتهم فى الأصل إنشاء الأزهر كمؤسسة مصدرة للمذهب الشيعى ..
ولا يمكن لأى عاقل أو متأمل فى التاريخ العريق للأزهر وعلمائه أن ينكر دوره الرئيسي فى شتى الأحداث الجسام التى مرت بمصر والعالم الإسلامى عبر مختلف عصوره ..
غير أن الاتجاه المغلق الذى ظهر فيه فيما بعد واستفحل أمره بشكل كبير تسبب فى حصر الفكر الإسلامى داخل حدود ضيقة تبعا لمصلحة عدد محدود من الأئمة به وعانى الأئمة المجددون ما عانوه على يد رجال هذا الاتجاه ومنهم الإمام محمد عبده الذى رفض أعضا لجنة العالمية إعطاءها له بالدرجة الأولى رغم استحققه لها نظرا لظهور اتجاهه المجدد المنفتح .. ورفضه السيطرة وفرض الرأى الذى تعمده رجال الأزهر على بعضهم البعض ..
وظل الأزهر حتى اليوم بين اتجاهين متناقضين وهما الاتجاه المجدد الذى يقاوم هذا العسف الشديد والاتجاه المنغلق الذى أخذ فى تجميد أصول الفكر الإسلامى بكل ثرائه ..
هذا مع ضرورة ملاحظة أن المنغلقين من العلماء تراجعوا كثيرا أمام الفقهاء المفكرين الذين تحملوا وصبروا وصابروا حتى أعطوا للعقيدة حقها وللفكر رأيه مثل الإمام الشعراوى والإمام الغزالى والدكتور عبد الحليم محمود وغيرهم عشرات ..
وليت هؤلاء المتشددين كانوا يطبقون تشددهم فى أمور تمس العقيدة من باب خطر كالشبهات العلمانية ودعاوى المستشرقين مثلا و أنهم يعطون شيئا من تشددهم لقضايا الأزهر نفسه وحمايته من دعاوى التغريب التى بدأت بإدخال التعليم النظامى العادى داخل أروقة الأزهر لتفقد هذه المؤسسة كثيرا من دورها نتيجة لأنهم حملوا الطلبة الدارسين مزيجا غريبا من العلوم الفقهية والعلوم الكسبية فخسر الطرفان ..
فلا نحن كسبنا طبيبا ماهرا مثلا ولا نحن نلنا فقيها معتبرا ..
بل أعطوا التشدد تجاه أمور تخدم أول ما تخدم أغراض من أرادوا هدم الدعوة واستغلوا وجود تلك الفئة المتشددة ليدللوا على اتهامات باطلة للإسلام باعتباره دين التطرف والإرهاب وعدم قبول الآخر ..
وشنوا حملات رهيبة على قادة الفكر الإسلامى من العلماء الذين مكنهم الله تعالى من التدبر فى القرآن واستكناه معجزاته العصرية ليخرج المتشددون فى ثورة عارمة ضد هذا الاتجاه على اعتبار أن القرآن له ضوابط محددة لمن أراد التصدى لتفسيره وهو الأمر الذى تكرر فى عديد من القضايا مع د. مصطفي محمود ومع الإمام الغزالى نفسه ومع الدكتور زغلول النجار
وكمثال بسيط على انغلاق الفكر .. .
ما قاله د. محمد بكر إسماعيل وهو أستاذ للتفسير بجامعة الأزهر تعليقا على تعرض الدكتور مصطفي محمود لتفسير وتأويل الآيات الكونية فى القرآن الكريم ولم يتعرض الرجل لأية آية أحكام مطلقا بل قصر تأملاته وفهمه على الحقائق العلمية التى تثبت الإعجاز العلمى للقرآن وحسب فقال العالم الأزهرى ..
" القرآن يا د. مصطفي ليس كتاب طب ولا هندسة بل منهج حياة وكتاب عقيدة "
ولو أخذتكم معى لحظات بسيطة إلى كاتب علمانى كخالد منتصر وطالعنا أحد مقالاته التى كتبها بعنوان ـ خرافة الإعجاز العلمى ـ ستجدون فى بداية المقال عبارة تطابق نص ما قاله العالم الأزهرى ..
وهذا الذى عنيته من أنهم أعطوا للعلمانيين الخيوط التى غزلوا بها هجماتهم عن طريق حصر القرآن الكريم فى زاوية العقيدة وتفسير المحكم من آياته وحسب ولم يستمعوا لحظة لما عبر عنه العلماء ألف مرة من أن القرآن الكريم حمال أوجه وأنه كتاب شامل ليس للعلوم بل لآيات الإعجاز التى ستظل قائمة باكتشافها إلى يوم الدين ..
وإلا كيف عبر عن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله .. اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه ..
وقوله أيضا فيما معناه
ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم . هو الذي لا يزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه . هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } . من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم . ".
والقول واضح أنه قرآن عزيز لا تنقضي عجائبه والحديث موجه لعامة المسلمين وخاصتهم أن يلتمسوا غرائبه .. ولم يفدنا هؤلاء القائلين الكبار بوجوب أن تتوافر شروط الإجتهاد الفقهى قبل التعرض للتدبر أو التفسير الإعجازى للقرآن .. لم يفتونا عن مبرر أن نثقل علماء التخصصات المختلفة بعلم الاجتهاد وأصوله وما الذى سيضيفه علم أى مفكر بالناسخ والمنسوخ وأقوال السلف فى تفسير آيات القرآن الكونية ومعنى آيات لم يبسط تفسيرها إلا مع اكتشافات العلم منذ سنوات قليلة وكل تفسيرات الأئمة القدامى بلا استثناء جاءت إما خاطئة وسطحية للغاية فى تفسير تلك الآيات وإما جاءت مستعينة بالإسرائيليات لمحاولة فهم وتفسير ما لم يرد فيه نص من السنة أو قول السلف !
والقضية فى مجملها لا تحتاج من البداية إلى كثير توقف فعالم مثل الإمام الشعراوى الذى تصدى طيلة أربعين عاما للمستشرقين كان يأتيهم باستنباطات من القرآن الكريم لم يقل بها قبله عالم واحد ..
والدكتور الكبيسي العالم العراقي الفذ صاحب أول نظرية لغوية تقول بأن القرآن الكريم ليس به لفظا واحدا ورد على سبيل التكرار وكل ما قاله المفسرون القدامى حول التكرار هو خطأ وأسس هذا بعلمه العميق باللغة ونجح فيه نجاحا مبهرا
بالمثل فعل الدكتور صالح السامرائي الذى أتى مستغلا تخصصه الدقيق فى اللغة العربية وآدابها ليتعرض لمدى إعجازية التعبير البيانى فى القرآن وأتى أيضا باستنباطات لا وجود لها بأى كتاب تفسير ولكنها تعتمد تماما على القواعد اللغوية
وكل هذا جاء اعتمادا على حقيقة تبسط نفسها بالمنطق أن أقوال المفسرين القدامى وعلماء السلف الصالح ـ وكلهم عمالقة دون شك ـ إنما يتم الأخذ بها فى المحكم أما المتشابه فتلك أمور فتح فيها باب الفكر بلا حدود ..
وليس هذا أمر مباح فقط بل هو من أشد الأمور طلبا فى الإسلام .. وأكثر العبادات تقديرا .. طالما كان القائل باحثا حقيقيا عن الحق يقبله متى اتضح له ذلك دون هوى من الرأى أو غرض مسبق
ولكن الرافضين برووا رفضهم لهذا المنهج تحت تأثير أن القرآن محظور الا عن الطريق الذى سلكه السلف الصالح وأن محاولة رهن العلم بالقرآن هى رهن للمتغير بالثابت .!!
وهو ما تم الرد عليه وتفنيده من أن العلم ليس كله متغيرا وكما قال د. مصطفي محمود فان إثبات مجئ القرآن بحقيقة دوران الأرض واثبات هذا علميا من الفضاء هى حقيقة غير قابلة للتغيير ..
الأكثر منطقية من هذا أن المفكر ـ أى مفكر ـ فى محاولته للتدبر واستنباط مقصد القرآن الكريم لو أخطأ أو أصاب لا يمثل هذا ـ طبقا لدعاواهم ـ كفرا أو زندقة وإلا كيف قال كل علماء السلف الصالح بتفسيرات ثبت خطأها الكامل فيما يخص آيات بدء الخلق وآيات الكون مثلا وجاء العلم الحديث وبأيدى علماء المسلمين الأخيار مثبتا هذا إثباتا تاما
فمثلا قال علماء السلف ـ كما يروى د. النجار ـ أن السماوات السبع مقصود بها الكواكب السبعة المكتشفة ـ فى ذلك الوقت بالطبع ـ واستمر هذا القول مأخوذا به حتى اكتشف العلماء فى المجموعة الشمسية بقية كواكبها وعرجوا إلى اكتشاف اتساع الكون الهائل والذى تصبح معه الكواكب بمجموعتها أشبه بذرة فى فضاء بلا نهاية
فهل يمكن الرجوع على القائلين بتفسير الآية بهذا المنطق البسيط تبعا لعصرهم هل يمكن رد قولهم باعتباره كفرا أو زندقة أو تجاوزا منهم .. كلا بالطبع .. فالخطأ حتى فى آيات المحكم والإختلاف فيه ليس عليه من حرج ..
وكان يمكن وببساطة دون فتح مجال التكفير على هذا النطاق أن يقتصر المتشددون على ما نادى به المعتدلون أنفسهم من أن التفسيرات التى يأتون بها يجب أن تظل فى إطار العلماء المعتمدين فى تخصصاتهم وحسب ويتم دراسة كل اكتشاف أو استنباط يأتى به غير هؤلاء العلماء فان أقروه يتم الأخذ به وإلا يتم تركه ..
بدلا من أن يأتى أحد العلماء المعارضين فيقول
" انهم يفسرون الذرة على أنها ما قالوه علميا بينما القرآن يقصد غير ذلك تماما فالله عز وجل قصد أن الذرة هى شيئ صغير متناهى فى الصغر " !!!!
والواقع أننى بمجرد أن سمعت هذا القول المتناقض تذكرت على الفور طرفة كنا نأخذها على طلبة المدارس التابعة للأزهر ممن يدرسون علوم الرياضيات مع التعليم العام من أن أحدهم فشل فى إجابة أحد أسئلة الهندسة عندما فوجئ بالامتحان أمامه يقول ـ فى مربع هـ و ن ى أطواله كذا ... الخ المسألة ـ فرفض الإجابة مدعيا أنه السؤال خارج المنهج وعندما سأله المدرسون بدهشة كيف هذا .. أجاب بأنه يدرس فى الكتاب أن أضلاع المربع هى أ ب ج د !!
والواقع أنها ليست دعابة بل حقيقة مرة تعبر عن طريقة التفكير التى يتدرب عليها هؤلاء الطلبة والتى تصيب العقل بجمود تام
وبالإضافة إلى رفضهم الاجتهاد .. غالى البعض من جبهة التشدد فى رفض أى إشارة للتدبر من القارئ العادى بالرغم من أن قراءة القرآن ومحاولة إعرابه أى فهمه ترتفع بحسنات قارئه إلى سبعين حسنة طبقا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام والمقصود هنا أن يقرأ القرآن ويحاول القار الوصول والتأمل فى معنى الآية فان لم يدرك يسأل وان خطر له خاطر يستفسر وهذا أمر ـ كما سبق القول ـ من صلب العقيدة فنفاجئ بعد ذلك بمن قال بأن هذا الفعل يعد تفسيرا للقرآن وتعرضا له بغير علم وأن السؤال المتكرر عن تفسير آيات القرآن المتشابهة ـ مجرد السؤال ـ يدفع بالمرء إلى أغوار الكفر والفسق والفتنة وكأنى بهم يرفضون ما قاله من قبلهم من عتاة العلماء ومفكري الإسلام مثل الإمام أبي حامد الغزالى الذى أشار فى كتابه الأشهر إحياء علوم الدين إلى أن الله تعالى يمن بالفهم على بعض عباده فيدركون ما يغيب عن كبار العلماء وكم من عالم ـ القول للغزالى ـ فوجئ بقول لأحد العامة فى صدد تفسير آية عرضه عليه فأقره العالم منبهرا بما أتى به ..
وأيضا المثل القرآنى العظيم فى قصة سيدنا داوود وابنه عليهما السلام .. حيث قال تعالى .." ففهمناها سليمان "
والفهم يختلف عن العلم ..
فالعلم مكتسب والفهم موهبة والعلم ثابت لمن أراد كتسابه والفهم متفاوت ولذلك قضي سيدنا سليمان فى قضية الغنم وهو بن أربعة عشر عاما بقضاء محكم خلاف قضاء والده وأردف القرآن الكريم ..
" وكلا آتينا حكما وعلما "
أى أنه لم يقصر المدح على طرف دون طرف .. فمن أخطأ له أجر ومن أصاب له أجران طالما توافرت الضوابط الحقيقية وليست المفتعلة وليس هناك من عيب فى الاجتهاد من إنسان عادى يعرض اجتهاده على أهل العلم فيري رأيهم فيه
وكذلك الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الدرة الثمينة التى لم تتكرر فى تاريخ الإسلام علما وفهما قابله أحد الناس فى طريقه سائلا إياه عن فتوى فقال الإمام رأيه فعارضه أحد العامة وقال لا يا إمام بل هى كذا وكذا ..
فعقب الإمام ممتدحا الرجل .. أحسنت والأمر كما تقول
إن الله خلق العقول لتجنى العلم فتضيف إليه لا تحفظه وتردده فقط ..
ويحضرنى تعليق الإمام مالك رضي الله عنه عندما سمع بأن فلانا حفظ الموطأ .. فقال الإمام مالك لقد زادت نسخة فى المدينة .
فما شأننا وشأن العلم الحقيقي بمن يصبح الكتاب المدون أفضل منه وليس معنى هذا القول أنه يلزم التجديد بل الأمر نسبي ووسطى ويلزم لطالب العلم أن يفهم عن أستاذه قبل أن يحفظ ولا ضير أو اعتداء منه كطالب لو عارض أستاذه ويجب على العالم الحق أن يفسح صدره لطلبته فيجيب بحجته ومنطقه كل تساؤلاتهم واعتراضاتهم لا أن يبادر باتهامهم بالجهل والتخلف على اعتبار أن ما سألوه كان اعتداء وإجحافا لحقه ..
فالعلم هو توافر الحجة ليس أمام طالب العلم فقط بل حتى أمام طالب الفتوى البسيط فليس للعالم أن يحجب سبب وركائز فتواه عن طالبها وإلا كيف يطمئن قلبه إليها وكيف يصبح الإسلام دين الفكر الحقيقي والدعوة بالحسنى والتى هى أحسن
وجوهر الاسلام الحقيقي قام على أنه الدين الأكمل الذى لا يخشي شبهة ولا يتهرب علماؤه من سؤال ..
وللحديث بقية من فصول ...
" دراسة عن الفئة التى اتخذت التشدد سبيلا وحاربت علماء المسلمين أنفسهم بالتكفير والتخوين للعقيدة وهدف الدراسة واضح فأرجو ألا تؤخذ على محمل آخر "
قديما منذ حوالى خمسين عاما فى إحدى قري الصعيد بمصر .. كان معظم أهل القرية بطبيعة العصر من الأميين البسطاء ذوى الإيمان النقي الذى لا يعرفه إلا أهل الفطرة النقية ..
كانت المعرفة والتعليم والثقافة ـ لا سيما دينيا ـ تعد نادرة فى هذا الوقت ..
وذات عام غابر أتى وافد من غير أهل القرية إليها لا يملك شيئا إلا دهاء غير مألوف بعقله لا في هذا العصر ولا فى تلك المنطقة التى قامت على البساطة الشديدة ..
وشيئا فشيئا بدأ يمد سيطرته على العقول بطلاوة الحديث والترهيب معتمدا على معرفته النسبية ببعض أحكام العقيدة فظل محل احترام ومهابة رغم دناءة نفسه وحرص فيما حرص على تعليم أولاده ـ على غير عادة الغالبية العظمى من أهل القرية ـ فخرجوا وتشربوا أسلوب أبيهم وتملكوا منابر المساجد فى أنحاء القرية وفرضوا سطوتهم على الأمية الكاسحة وفتتوا عادات وتقاليد كانت فى منتهى الروعة وهى تخرج بيضاء نقية من قلوب الناس
مثال ذلك أنه إذا كان يوم الجمعة وفى وقت مبكر تمتلئ المساجد بالمصلين يستمعون خلال ساعة أو أكثر إلى سورة الكهف وعندما يصل المقرئ إلى قوله تعالى
" واذكر ربك إذا نسيت "
يردد المصلون جميعا فى خشوع " لا إله إلا الله "
فى عادة فطرية نقية .. غير أن أهل السطوة الفقهية من هؤلاء المشار إليهم وقفوا لهذا ناهين من على منابر المساجد أن يردد المصلون هذا القول وكان تبريرهم أن هذا الترديد يعد تفسيرا للقرآن بدون علم !! وأن هذا الأمر بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار !!
وزاد الأمر استفحالا عندما يمموا وجههم شطر توافه الأمور وتركوا ثقالها من تلك الأعباء التى أثقلت الناس بل وزادوا غيا وفسادا فى الأرض وجعلوا من أنفسهم محتكرى سلاح الدين
وتحت تأثير الغوغائية وكثرة العدد تمكن هؤلاء من بسط قولهم على الجميع بالرغم من وجود علماء أجلاء من حائزى عالمية الأزهر لكنهم كانوا من عائلات بسيطة لا يعرفون عن أسلوب قيادة البسطاء شيئا فخسروا مبكرا أى محاولة للتصدى وظل الفشل قائما حتى تمكن واحد من أنبغ شباب القرية من الجيل التالى لهذا الجيل وكان قد شب على اطلاع واسع صقلته تجربة حرب أكتوبر فجاء إلى قريته وجعل هدفه نزع تلك السيطرة التى ثبتت الخرافات والبدع الحقيقية فى أعماق الناس
ولأنه تمرس ونشأ عارفا بطبائعهم خرج إليهم بسلاحهم وأخذ فى الحديث بالمنطق والحجة والعلم ضاربا بفتاواهم المغرضة عرض الحائط آتيا بأقوال السلف والخلف الصالح منهم ولم تمض سنوات قلائل حتى كشف أمرهم
تلك الحكاية البسيطة والتى حدثت ولا زالت تحدث على أوسع المستويات هى مدخلنا الحقيقي لقضية الحجر على كل فكر تحت تأثير التكفير واستباحة النوايا والتصدى لأى محاولة للتساؤل ..
فضلا على التعامل الغريب مع القرآن والسنة والعقيدة بأكملها باعتبارها محرمات على من لم يتبع القواعد التى أقرها الشرع لأصول الفتوى والاجتهاد ..
وليس هذا بالطبع معناه أننا ننكر أن يتعامل المجتهد أو الفقيه مع النصوص بغير تلك الشروط ولكن السؤال هو أين هى تلك الحدود التى تفصل
الفقه عن التعبير .. والفتوى عن التفسير..و الإجتهاد عن التدبر .. والطعن عن التفكر ..
والقضية فى مجملها قضية شاذة عن منهج الفكر الإسلامى العريق بل إن دعاوى الداعين بحصر الدين وفكره على فئة معينة لم ينتبهوا أن ما يفعلونه هم بأنفسهم بدعة لم يأتها قبلهم عالم أو مفكر فى العصور الأولى للإسلام ..
فضلا على ما هو أخطر ..
أن الداعين لهذا المنهج هم من علماء الشريعة أى أن قولهم مأخوذ به ومعتد بمضمونه وغاب عنهم أنهم بهذا الذى ينادون به تحت دعوى المحافظة على الأصول إنما يحققون ما عجز عن تحقيقه عتاة المستشرقين والعلمانين طيلة قرون
وإلى التفاصيل حتى لا يلتبس الأمر ويـُـفهم الموضوع على خلاف ما أراد كاتبه ..
الفصل الأول .. أزمة الإحتكار
منذ بداية الأزهر الشريف بمصر كمؤسسة دينية عملاقة تمكن علماؤها من بسط علمهم لإحياء الدعوة الإسلامية بعد أن تمكنوا من دحر دعوة الشيعة الذين كانت نيتهم فى الأصل إنشاء الأزهر كمؤسسة مصدرة للمذهب الشيعى ..
ولا يمكن لأى عاقل أو متأمل فى التاريخ العريق للأزهر وعلمائه أن ينكر دوره الرئيسي فى شتى الأحداث الجسام التى مرت بمصر والعالم الإسلامى عبر مختلف عصوره ..
غير أن الاتجاه المغلق الذى ظهر فيه فيما بعد واستفحل أمره بشكل كبير تسبب فى حصر الفكر الإسلامى داخل حدود ضيقة تبعا لمصلحة عدد محدود من الأئمة به وعانى الأئمة المجددون ما عانوه على يد رجال هذا الاتجاه ومنهم الإمام محمد عبده الذى رفض أعضا لجنة العالمية إعطاءها له بالدرجة الأولى رغم استحققه لها نظرا لظهور اتجاهه المجدد المنفتح .. ورفضه السيطرة وفرض الرأى الذى تعمده رجال الأزهر على بعضهم البعض ..
وظل الأزهر حتى اليوم بين اتجاهين متناقضين وهما الاتجاه المجدد الذى يقاوم هذا العسف الشديد والاتجاه المنغلق الذى أخذ فى تجميد أصول الفكر الإسلامى بكل ثرائه ..
هذا مع ضرورة ملاحظة أن المنغلقين من العلماء تراجعوا كثيرا أمام الفقهاء المفكرين الذين تحملوا وصبروا وصابروا حتى أعطوا للعقيدة حقها وللفكر رأيه مثل الإمام الشعراوى والإمام الغزالى والدكتور عبد الحليم محمود وغيرهم عشرات ..
وليت هؤلاء المتشددين كانوا يطبقون تشددهم فى أمور تمس العقيدة من باب خطر كالشبهات العلمانية ودعاوى المستشرقين مثلا و أنهم يعطون شيئا من تشددهم لقضايا الأزهر نفسه وحمايته من دعاوى التغريب التى بدأت بإدخال التعليم النظامى العادى داخل أروقة الأزهر لتفقد هذه المؤسسة كثيرا من دورها نتيجة لأنهم حملوا الطلبة الدارسين مزيجا غريبا من العلوم الفقهية والعلوم الكسبية فخسر الطرفان ..
فلا نحن كسبنا طبيبا ماهرا مثلا ولا نحن نلنا فقيها معتبرا ..
بل أعطوا التشدد تجاه أمور تخدم أول ما تخدم أغراض من أرادوا هدم الدعوة واستغلوا وجود تلك الفئة المتشددة ليدللوا على اتهامات باطلة للإسلام باعتباره دين التطرف والإرهاب وعدم قبول الآخر ..
وشنوا حملات رهيبة على قادة الفكر الإسلامى من العلماء الذين مكنهم الله تعالى من التدبر فى القرآن واستكناه معجزاته العصرية ليخرج المتشددون فى ثورة عارمة ضد هذا الاتجاه على اعتبار أن القرآن له ضوابط محددة لمن أراد التصدى لتفسيره وهو الأمر الذى تكرر فى عديد من القضايا مع د. مصطفي محمود ومع الإمام الغزالى نفسه ومع الدكتور زغلول النجار
وكمثال بسيط على انغلاق الفكر .. .
ما قاله د. محمد بكر إسماعيل وهو أستاذ للتفسير بجامعة الأزهر تعليقا على تعرض الدكتور مصطفي محمود لتفسير وتأويل الآيات الكونية فى القرآن الكريم ولم يتعرض الرجل لأية آية أحكام مطلقا بل قصر تأملاته وفهمه على الحقائق العلمية التى تثبت الإعجاز العلمى للقرآن وحسب فقال العالم الأزهرى ..
" القرآن يا د. مصطفي ليس كتاب طب ولا هندسة بل منهج حياة وكتاب عقيدة "
ولو أخذتكم معى لحظات بسيطة إلى كاتب علمانى كخالد منتصر وطالعنا أحد مقالاته التى كتبها بعنوان ـ خرافة الإعجاز العلمى ـ ستجدون فى بداية المقال عبارة تطابق نص ما قاله العالم الأزهرى ..
وهذا الذى عنيته من أنهم أعطوا للعلمانيين الخيوط التى غزلوا بها هجماتهم عن طريق حصر القرآن الكريم فى زاوية العقيدة وتفسير المحكم من آياته وحسب ولم يستمعوا لحظة لما عبر عنه العلماء ألف مرة من أن القرآن الكريم حمال أوجه وأنه كتاب شامل ليس للعلوم بل لآيات الإعجاز التى ستظل قائمة باكتشافها إلى يوم الدين ..
وإلا كيف عبر عن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله .. اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه ..
وقوله أيضا فيما معناه
ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم . هو الذي لا يزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه . هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } . من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم . ".
والقول واضح أنه قرآن عزيز لا تنقضي عجائبه والحديث موجه لعامة المسلمين وخاصتهم أن يلتمسوا غرائبه .. ولم يفدنا هؤلاء القائلين الكبار بوجوب أن تتوافر شروط الإجتهاد الفقهى قبل التعرض للتدبر أو التفسير الإعجازى للقرآن .. لم يفتونا عن مبرر أن نثقل علماء التخصصات المختلفة بعلم الاجتهاد وأصوله وما الذى سيضيفه علم أى مفكر بالناسخ والمنسوخ وأقوال السلف فى تفسير آيات القرآن الكونية ومعنى آيات لم يبسط تفسيرها إلا مع اكتشافات العلم منذ سنوات قليلة وكل تفسيرات الأئمة القدامى بلا استثناء جاءت إما خاطئة وسطحية للغاية فى تفسير تلك الآيات وإما جاءت مستعينة بالإسرائيليات لمحاولة فهم وتفسير ما لم يرد فيه نص من السنة أو قول السلف !
والقضية فى مجملها لا تحتاج من البداية إلى كثير توقف فعالم مثل الإمام الشعراوى الذى تصدى طيلة أربعين عاما للمستشرقين كان يأتيهم باستنباطات من القرآن الكريم لم يقل بها قبله عالم واحد ..
والدكتور الكبيسي العالم العراقي الفذ صاحب أول نظرية لغوية تقول بأن القرآن الكريم ليس به لفظا واحدا ورد على سبيل التكرار وكل ما قاله المفسرون القدامى حول التكرار هو خطأ وأسس هذا بعلمه العميق باللغة ونجح فيه نجاحا مبهرا
بالمثل فعل الدكتور صالح السامرائي الذى أتى مستغلا تخصصه الدقيق فى اللغة العربية وآدابها ليتعرض لمدى إعجازية التعبير البيانى فى القرآن وأتى أيضا باستنباطات لا وجود لها بأى كتاب تفسير ولكنها تعتمد تماما على القواعد اللغوية
وكل هذا جاء اعتمادا على حقيقة تبسط نفسها بالمنطق أن أقوال المفسرين القدامى وعلماء السلف الصالح ـ وكلهم عمالقة دون شك ـ إنما يتم الأخذ بها فى المحكم أما المتشابه فتلك أمور فتح فيها باب الفكر بلا حدود ..
وليس هذا أمر مباح فقط بل هو من أشد الأمور طلبا فى الإسلام .. وأكثر العبادات تقديرا .. طالما كان القائل باحثا حقيقيا عن الحق يقبله متى اتضح له ذلك دون هوى من الرأى أو غرض مسبق
ولكن الرافضين برووا رفضهم لهذا المنهج تحت تأثير أن القرآن محظور الا عن الطريق الذى سلكه السلف الصالح وأن محاولة رهن العلم بالقرآن هى رهن للمتغير بالثابت .!!
وهو ما تم الرد عليه وتفنيده من أن العلم ليس كله متغيرا وكما قال د. مصطفي محمود فان إثبات مجئ القرآن بحقيقة دوران الأرض واثبات هذا علميا من الفضاء هى حقيقة غير قابلة للتغيير ..
الأكثر منطقية من هذا أن المفكر ـ أى مفكر ـ فى محاولته للتدبر واستنباط مقصد القرآن الكريم لو أخطأ أو أصاب لا يمثل هذا ـ طبقا لدعاواهم ـ كفرا أو زندقة وإلا كيف قال كل علماء السلف الصالح بتفسيرات ثبت خطأها الكامل فيما يخص آيات بدء الخلق وآيات الكون مثلا وجاء العلم الحديث وبأيدى علماء المسلمين الأخيار مثبتا هذا إثباتا تاما
فمثلا قال علماء السلف ـ كما يروى د. النجار ـ أن السماوات السبع مقصود بها الكواكب السبعة المكتشفة ـ فى ذلك الوقت بالطبع ـ واستمر هذا القول مأخوذا به حتى اكتشف العلماء فى المجموعة الشمسية بقية كواكبها وعرجوا إلى اكتشاف اتساع الكون الهائل والذى تصبح معه الكواكب بمجموعتها أشبه بذرة فى فضاء بلا نهاية
فهل يمكن الرجوع على القائلين بتفسير الآية بهذا المنطق البسيط تبعا لعصرهم هل يمكن رد قولهم باعتباره كفرا أو زندقة أو تجاوزا منهم .. كلا بالطبع .. فالخطأ حتى فى آيات المحكم والإختلاف فيه ليس عليه من حرج ..
وكان يمكن وببساطة دون فتح مجال التكفير على هذا النطاق أن يقتصر المتشددون على ما نادى به المعتدلون أنفسهم من أن التفسيرات التى يأتون بها يجب أن تظل فى إطار العلماء المعتمدين فى تخصصاتهم وحسب ويتم دراسة كل اكتشاف أو استنباط يأتى به غير هؤلاء العلماء فان أقروه يتم الأخذ به وإلا يتم تركه ..
بدلا من أن يأتى أحد العلماء المعارضين فيقول
" انهم يفسرون الذرة على أنها ما قالوه علميا بينما القرآن يقصد غير ذلك تماما فالله عز وجل قصد أن الذرة هى شيئ صغير متناهى فى الصغر " !!!!
والواقع أننى بمجرد أن سمعت هذا القول المتناقض تذكرت على الفور طرفة كنا نأخذها على طلبة المدارس التابعة للأزهر ممن يدرسون علوم الرياضيات مع التعليم العام من أن أحدهم فشل فى إجابة أحد أسئلة الهندسة عندما فوجئ بالامتحان أمامه يقول ـ فى مربع هـ و ن ى أطواله كذا ... الخ المسألة ـ فرفض الإجابة مدعيا أنه السؤال خارج المنهج وعندما سأله المدرسون بدهشة كيف هذا .. أجاب بأنه يدرس فى الكتاب أن أضلاع المربع هى أ ب ج د !!
والواقع أنها ليست دعابة بل حقيقة مرة تعبر عن طريقة التفكير التى يتدرب عليها هؤلاء الطلبة والتى تصيب العقل بجمود تام
وبالإضافة إلى رفضهم الاجتهاد .. غالى البعض من جبهة التشدد فى رفض أى إشارة للتدبر من القارئ العادى بالرغم من أن قراءة القرآن ومحاولة إعرابه أى فهمه ترتفع بحسنات قارئه إلى سبعين حسنة طبقا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام والمقصود هنا أن يقرأ القرآن ويحاول القار الوصول والتأمل فى معنى الآية فان لم يدرك يسأل وان خطر له خاطر يستفسر وهذا أمر ـ كما سبق القول ـ من صلب العقيدة فنفاجئ بعد ذلك بمن قال بأن هذا الفعل يعد تفسيرا للقرآن وتعرضا له بغير علم وأن السؤال المتكرر عن تفسير آيات القرآن المتشابهة ـ مجرد السؤال ـ يدفع بالمرء إلى أغوار الكفر والفسق والفتنة وكأنى بهم يرفضون ما قاله من قبلهم من عتاة العلماء ومفكري الإسلام مثل الإمام أبي حامد الغزالى الذى أشار فى كتابه الأشهر إحياء علوم الدين إلى أن الله تعالى يمن بالفهم على بعض عباده فيدركون ما يغيب عن كبار العلماء وكم من عالم ـ القول للغزالى ـ فوجئ بقول لأحد العامة فى صدد تفسير آية عرضه عليه فأقره العالم منبهرا بما أتى به ..
وأيضا المثل القرآنى العظيم فى قصة سيدنا داوود وابنه عليهما السلام .. حيث قال تعالى .." ففهمناها سليمان "
والفهم يختلف عن العلم ..
فالعلم مكتسب والفهم موهبة والعلم ثابت لمن أراد كتسابه والفهم متفاوت ولذلك قضي سيدنا سليمان فى قضية الغنم وهو بن أربعة عشر عاما بقضاء محكم خلاف قضاء والده وأردف القرآن الكريم ..
" وكلا آتينا حكما وعلما "
أى أنه لم يقصر المدح على طرف دون طرف .. فمن أخطأ له أجر ومن أصاب له أجران طالما توافرت الضوابط الحقيقية وليست المفتعلة وليس هناك من عيب فى الاجتهاد من إنسان عادى يعرض اجتهاده على أهل العلم فيري رأيهم فيه
وكذلك الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الدرة الثمينة التى لم تتكرر فى تاريخ الإسلام علما وفهما قابله أحد الناس فى طريقه سائلا إياه عن فتوى فقال الإمام رأيه فعارضه أحد العامة وقال لا يا إمام بل هى كذا وكذا ..
فعقب الإمام ممتدحا الرجل .. أحسنت والأمر كما تقول
إن الله خلق العقول لتجنى العلم فتضيف إليه لا تحفظه وتردده فقط ..
ويحضرنى تعليق الإمام مالك رضي الله عنه عندما سمع بأن فلانا حفظ الموطأ .. فقال الإمام مالك لقد زادت نسخة فى المدينة .
فما شأننا وشأن العلم الحقيقي بمن يصبح الكتاب المدون أفضل منه وليس معنى هذا القول أنه يلزم التجديد بل الأمر نسبي ووسطى ويلزم لطالب العلم أن يفهم عن أستاذه قبل أن يحفظ ولا ضير أو اعتداء منه كطالب لو عارض أستاذه ويجب على العالم الحق أن يفسح صدره لطلبته فيجيب بحجته ومنطقه كل تساؤلاتهم واعتراضاتهم لا أن يبادر باتهامهم بالجهل والتخلف على اعتبار أن ما سألوه كان اعتداء وإجحافا لحقه ..
فالعلم هو توافر الحجة ليس أمام طالب العلم فقط بل حتى أمام طالب الفتوى البسيط فليس للعالم أن يحجب سبب وركائز فتواه عن طالبها وإلا كيف يطمئن قلبه إليها وكيف يصبح الإسلام دين الفكر الحقيقي والدعوة بالحسنى والتى هى أحسن
وجوهر الاسلام الحقيقي قام على أنه الدين الأكمل الذى لا يخشي شبهة ولا يتهرب علماؤه من سؤال ..
وللحديث بقية من فصول ...