تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : فصول فى الفكر والتكفير



محمد جاد الزغبي
11-01-2008, 03:12 AM
فصول وتأملات فى الفكر والتكفير ..


" دراسة عن الفئة التى اتخذت التشدد سبيلا وحاربت علماء المسلمين أنفسهم بالتكفير والتخوين للعقيدة وهدف الدراسة واضح فأرجو ألا تؤخذ على محمل آخر "

قديما منذ حوالى خمسين عاما فى إحدى قري الصعيد بمصر .. كان معظم أهل القرية بطبيعة العصر من الأميين البسطاء ذوى الإيمان النقي الذى لا يعرفه إلا أهل الفطرة النقية ..
كانت المعرفة والتعليم والثقافة ـ لا سيما دينيا ـ تعد نادرة فى هذا الوقت ..
وذات عام غابر أتى وافد من غير أهل القرية إليها لا يملك شيئا إلا دهاء غير مألوف بعقله لا في هذا العصر ولا فى تلك المنطقة التى قامت على البساطة الشديدة ..
وشيئا فشيئا بدأ يمد سيطرته على العقول بطلاوة الحديث والترهيب معتمدا على معرفته النسبية ببعض أحكام العقيدة فظل محل احترام ومهابة رغم دناءة نفسه وحرص فيما حرص على تعليم أولاده ـ على غير عادة الغالبية العظمى من أهل القرية ـ فخرجوا وتشربوا أسلوب أبيهم وتملكوا منابر المساجد فى أنحاء القرية وفرضوا سطوتهم على الأمية الكاسحة وفتتوا عادات وتقاليد كانت فى منتهى الروعة وهى تخرج بيضاء نقية من قلوب الناس
مثال ذلك أنه إذا كان يوم الجمعة وفى وقت مبكر تمتلئ المساجد بالمصلين يستمعون خلال ساعة أو أكثر إلى سورة الكهف وعندما يصل المقرئ إلى قوله تعالى
" واذكر ربك إذا نسيت "
يردد المصلون جميعا فى خشوع " لا إله إلا الله "
فى عادة فطرية نقية .. غير أن أهل السطوة الفقهية من هؤلاء المشار إليهم وقفوا لهذا ناهين من على منابر المساجد أن يردد المصلون هذا القول وكان تبريرهم أن هذا الترديد يعد تفسيرا للقرآن بدون علم !! وأن هذا الأمر بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار !!
وزاد الأمر استفحالا عندما يمموا وجههم شطر توافه الأمور وتركوا ثقالها من تلك الأعباء التى أثقلت الناس بل وزادوا غيا وفسادا فى الأرض وجعلوا من أنفسهم محتكرى سلاح الدين
وتحت تأثير الغوغائية وكثرة العدد تمكن هؤلاء من بسط قولهم على الجميع بالرغم من وجود علماء أجلاء من حائزى عالمية الأزهر لكنهم كانوا من عائلات بسيطة لا يعرفون عن أسلوب قيادة البسطاء شيئا فخسروا مبكرا أى محاولة للتصدى وظل الفشل قائما حتى تمكن واحد من أنبغ شباب القرية من الجيل التالى لهذا الجيل وكان قد شب على اطلاع واسع صقلته تجربة حرب أكتوبر فجاء إلى قريته وجعل هدفه نزع تلك السيطرة التى ثبتت الخرافات والبدع الحقيقية فى أعماق الناس
ولأنه تمرس ونشأ عارفا بطبائعهم خرج إليهم بسلاحهم وأخذ فى الحديث بالمنطق والحجة والعلم ضاربا بفتاواهم المغرضة عرض الحائط آتيا بأقوال السلف والخلف الصالح منهم ولم تمض سنوات قلائل حتى كشف أمرهم
تلك الحكاية البسيطة والتى حدثت ولا زالت تحدث على أوسع المستويات هى مدخلنا الحقيقي لقضية الحجر على كل فكر تحت تأثير التكفير واستباحة النوايا والتصدى لأى محاولة للتساؤل ..
فضلا على التعامل الغريب مع القرآن والسنة والعقيدة بأكملها باعتبارها محرمات على من لم يتبع القواعد التى أقرها الشرع لأصول الفتوى والاجتهاد ..
وليس هذا بالطبع معناه أننا ننكر أن يتعامل المجتهد أو الفقيه مع النصوص بغير تلك الشروط ولكن السؤال هو أين هى تلك الحدود التى تفصل
الفقه عن التعبير .. والفتوى عن التفسير..و الإجتهاد عن التدبر .. والطعن عن التفكر ..
والقضية فى مجملها قضية شاذة عن منهج الفكر الإسلامى العريق بل إن دعاوى الداعين بحصر الدين وفكره على فئة معينة لم ينتبهوا أن ما يفعلونه هم بأنفسهم بدعة لم يأتها قبلهم عالم أو مفكر فى العصور الأولى للإسلام ..
فضلا على ما هو أخطر ..
أن الداعين لهذا المنهج هم من علماء الشريعة أى أن قولهم مأخوذ به ومعتد بمضمونه وغاب عنهم أنهم بهذا الذى ينادون به تحت دعوى المحافظة على الأصول إنما يحققون ما عجز عن تحقيقه عتاة المستشرقين والعلمانين طيلة قرون
وإلى التفاصيل حتى لا يلتبس الأمر ويـُـفهم الموضوع على خلاف ما أراد كاتبه ..


الفصل الأول .. أزمة الإحتكار
منذ بداية الأزهر الشريف بمصر كمؤسسة دينية عملاقة تمكن علماؤها من بسط علمهم لإحياء الدعوة الإسلامية بعد أن تمكنوا من دحر دعوة الشيعة الذين كانت نيتهم فى الأصل إنشاء الأزهر كمؤسسة مصدرة للمذهب الشيعى ..
ولا يمكن لأى عاقل أو متأمل فى التاريخ العريق للأزهر وعلمائه أن ينكر دوره الرئيسي فى شتى الأحداث الجسام التى مرت بمصر والعالم الإسلامى عبر مختلف عصوره ..
غير أن الاتجاه المغلق الذى ظهر فيه فيما بعد واستفحل أمره بشكل كبير تسبب فى حصر الفكر الإسلامى داخل حدود ضيقة تبعا لمصلحة عدد محدود من الأئمة به وعانى الأئمة المجددون ما عانوه على يد رجال هذا الاتجاه ومنهم الإمام محمد عبده الذى رفض أعضا لجنة العالمية إعطاءها له بالدرجة الأولى رغم استحققه لها نظرا لظهور اتجاهه المجدد المنفتح .. ورفضه السيطرة وفرض الرأى الذى تعمده رجال الأزهر على بعضهم البعض ..
وظل الأزهر حتى اليوم بين اتجاهين متناقضين وهما الاتجاه المجدد الذى يقاوم هذا العسف الشديد والاتجاه المنغلق الذى أخذ فى تجميد أصول الفكر الإسلامى بكل ثرائه ..
هذا مع ضرورة ملاحظة أن المنغلقين من العلماء تراجعوا كثيرا أمام الفقهاء المفكرين الذين تحملوا وصبروا وصابروا حتى أعطوا للعقيدة حقها وللفكر رأيه مثل الإمام الشعراوى والإمام الغزالى والدكتور عبد الحليم محمود وغيرهم عشرات ..

وليت هؤلاء المتشددين كانوا يطبقون تشددهم فى أمور تمس العقيدة من باب خطر كالشبهات العلمانية ودعاوى المستشرقين مثلا و أنهم يعطون شيئا من تشددهم لقضايا الأزهر نفسه وحمايته من دعاوى التغريب التى بدأت بإدخال التعليم النظامى العادى داخل أروقة الأزهر لتفقد هذه المؤسسة كثيرا من دورها نتيجة لأنهم حملوا الطلبة الدارسين مزيجا غريبا من العلوم الفقهية والعلوم الكسبية فخسر الطرفان ..
فلا نحن كسبنا طبيبا ماهرا مثلا ولا نحن نلنا فقيها معتبرا ..
بل أعطوا التشدد تجاه أمور تخدم أول ما تخدم أغراض من أرادوا هدم الدعوة واستغلوا وجود تلك الفئة المتشددة ليدللوا على اتهامات باطلة للإسلام باعتباره دين التطرف والإرهاب وعدم قبول الآخر ..
وشنوا حملات رهيبة على قادة الفكر الإسلامى من العلماء الذين مكنهم الله تعالى من التدبر فى القرآن واستكناه معجزاته العصرية ليخرج المتشددون فى ثورة عارمة ضد هذا الاتجاه على اعتبار أن القرآن له ضوابط محددة لمن أراد التصدى لتفسيره وهو الأمر الذى تكرر فى عديد من القضايا مع د. مصطفي محمود ومع الإمام الغزالى نفسه ومع الدكتور زغلول النجار

وكمثال بسيط على انغلاق الفكر .. .
ما قاله د. محمد بكر إسماعيل وهو أستاذ للتفسير بجامعة الأزهر تعليقا على تعرض الدكتور مصطفي محمود لتفسير وتأويل الآيات الكونية فى القرآن الكريم ولم يتعرض الرجل لأية آية أحكام مطلقا بل قصر تأملاته وفهمه على الحقائق العلمية التى تثبت الإعجاز العلمى للقرآن وحسب فقال العالم الأزهرى ..
" القرآن يا د. مصطفي ليس كتاب طب ولا هندسة بل منهج حياة وكتاب عقيدة "
ولو أخذتكم معى لحظات بسيطة إلى كاتب علمانى كخالد منتصر وطالعنا أحد مقالاته التى كتبها بعنوان ـ خرافة الإعجاز العلمى ـ ستجدون فى بداية المقال عبارة تطابق نص ما قاله العالم الأزهرى ..
وهذا الذى عنيته من أنهم أعطوا للعلمانيين الخيوط التى غزلوا بها هجماتهم عن طريق حصر القرآن الكريم فى زاوية العقيدة وتفسير المحكم من آياته وحسب ولم يستمعوا لحظة لما عبر عنه العلماء ألف مرة من أن القرآن الكريم حمال أوجه وأنه كتاب شامل ليس للعلوم بل لآيات الإعجاز التى ستظل قائمة باكتشافها إلى يوم الدين ..
وإلا كيف عبر عن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله .. اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه ..
وقوله أيضا فيما معناه
ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم . هو الذي لا يزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه . هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } . من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم . ".

والقول واضح أنه قرآن عزيز لا تنقضي عجائبه والحديث موجه لعامة المسلمين وخاصتهم أن يلتمسوا غرائبه .. ولم يفدنا هؤلاء القائلين الكبار بوجوب أن تتوافر شروط الإجتهاد الفقهى قبل التعرض للتدبر أو التفسير الإعجازى للقرآن .. لم يفتونا عن مبرر أن نثقل علماء التخصصات المختلفة بعلم الاجتهاد وأصوله وما الذى سيضيفه علم أى مفكر بالناسخ والمنسوخ وأقوال السلف فى تفسير آيات القرآن الكونية ومعنى آيات لم يبسط تفسيرها إلا مع اكتشافات العلم منذ سنوات قليلة وكل تفسيرات الأئمة القدامى بلا استثناء جاءت إما خاطئة وسطحية للغاية فى تفسير تلك الآيات وإما جاءت مستعينة بالإسرائيليات لمحاولة فهم وتفسير ما لم يرد فيه نص من السنة أو قول السلف !

والقضية فى مجملها لا تحتاج من البداية إلى كثير توقف فعالم مثل الإمام الشعراوى الذى تصدى طيلة أربعين عاما للمستشرقين كان يأتيهم باستنباطات من القرآن الكريم لم يقل بها قبله عالم واحد ..
والدكتور الكبيسي العالم العراقي الفذ صاحب أول نظرية لغوية تقول بأن القرآن الكريم ليس به لفظا واحدا ورد على سبيل التكرار وكل ما قاله المفسرون القدامى حول التكرار هو خطأ وأسس هذا بعلمه العميق باللغة ونجح فيه نجاحا مبهرا
بالمثل فعل الدكتور صالح السامرائي الذى أتى مستغلا تخصصه الدقيق فى اللغة العربية وآدابها ليتعرض لمدى إعجازية التعبير البيانى فى القرآن وأتى أيضا باستنباطات لا وجود لها بأى كتاب تفسير ولكنها تعتمد تماما على القواعد اللغوية
وكل هذا جاء اعتمادا على حقيقة تبسط نفسها بالمنطق أن أقوال المفسرين القدامى وعلماء السلف الصالح ـ وكلهم عمالقة دون شك ـ إنما يتم الأخذ بها فى المحكم أما المتشابه فتلك أمور فتح فيها باب الفكر بلا حدود ..
وليس هذا أمر مباح فقط بل هو من أشد الأمور طلبا فى الإسلام .. وأكثر العبادات تقديرا .. طالما كان القائل باحثا حقيقيا عن الحق يقبله متى اتضح له ذلك دون هوى من الرأى أو غرض مسبق
ولكن الرافضين برووا رفضهم لهذا المنهج تحت تأثير أن القرآن محظور الا عن الطريق الذى سلكه السلف الصالح وأن محاولة رهن العلم بالقرآن هى رهن للمتغير بالثابت .!!
وهو ما تم الرد عليه وتفنيده من أن العلم ليس كله متغيرا وكما قال د. مصطفي محمود فان إثبات مجئ القرآن بحقيقة دوران الأرض واثبات هذا علميا من الفضاء هى حقيقة غير قابلة للتغيير ..
الأكثر منطقية من هذا أن المفكر ـ أى مفكر ـ فى محاولته للتدبر واستنباط مقصد القرآن الكريم لو أخطأ أو أصاب لا يمثل هذا ـ طبقا لدعاواهم ـ كفرا أو زندقة وإلا كيف قال كل علماء السلف الصالح بتفسيرات ثبت خطأها الكامل فيما يخص آيات بدء الخلق وآيات الكون مثلا وجاء العلم الحديث وبأيدى علماء المسلمين الأخيار مثبتا هذا إثباتا تاما
فمثلا قال علماء السلف ـ كما يروى د. النجار ـ أن السماوات السبع مقصود بها الكواكب السبعة المكتشفة ـ فى ذلك الوقت بالطبع ـ واستمر هذا القول مأخوذا به حتى اكتشف العلماء فى المجموعة الشمسية بقية كواكبها وعرجوا إلى اكتشاف اتساع الكون الهائل والذى تصبح معه الكواكب بمجموعتها أشبه بذرة فى فضاء بلا نهاية
فهل يمكن الرجوع على القائلين بتفسير الآية بهذا المنطق البسيط تبعا لعصرهم هل يمكن رد قولهم باعتباره كفرا أو زندقة أو تجاوزا منهم .. كلا بالطبع .. فالخطأ حتى فى آيات المحكم والإختلاف فيه ليس عليه من حرج ..
وكان يمكن وببساطة دون فتح مجال التكفير على هذا النطاق أن يقتصر المتشددون على ما نادى به المعتدلون أنفسهم من أن التفسيرات التى يأتون بها يجب أن تظل فى إطار العلماء المعتمدين فى تخصصاتهم وحسب ويتم دراسة كل اكتشاف أو استنباط يأتى به غير هؤلاء العلماء فان أقروه يتم الأخذ به وإلا يتم تركه ..
بدلا من أن يأتى أحد العلماء المعارضين فيقول
" انهم يفسرون الذرة على أنها ما قالوه علميا بينما القرآن يقصد غير ذلك تماما فالله عز وجل قصد أن الذرة هى شيئ صغير متناهى فى الصغر " !!!!

والواقع أننى بمجرد أن سمعت هذا القول المتناقض تذكرت على الفور طرفة كنا نأخذها على طلبة المدارس التابعة للأزهر ممن يدرسون علوم الرياضيات مع التعليم العام من أن أحدهم فشل فى إجابة أحد أسئلة الهندسة عندما فوجئ بالامتحان أمامه يقول ـ فى مربع هـ و ن ى أطواله كذا ... الخ المسألة ـ فرفض الإجابة مدعيا أنه السؤال خارج المنهج وعندما سأله المدرسون بدهشة كيف هذا .. أجاب بأنه يدرس فى الكتاب أن أضلاع المربع هى أ ب ج د !!

والواقع أنها ليست دعابة بل حقيقة مرة تعبر عن طريقة التفكير التى يتدرب عليها هؤلاء الطلبة والتى تصيب العقل بجمود تام
وبالإضافة إلى رفضهم الاجتهاد .. غالى البعض من جبهة التشدد فى رفض أى إشارة للتدبر من القارئ العادى بالرغم من أن قراءة القرآن ومحاولة إعرابه أى فهمه ترتفع بحسنات قارئه إلى سبعين حسنة طبقا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام والمقصود هنا أن يقرأ القرآن ويحاول القار الوصول والتأمل فى معنى الآية فان لم يدرك يسأل وان خطر له خاطر يستفسر وهذا أمر ـ كما سبق القول ـ من صلب العقيدة فنفاجئ بعد ذلك بمن قال بأن هذا الفعل يعد تفسيرا للقرآن وتعرضا له بغير علم وأن السؤال المتكرر عن تفسير آيات القرآن المتشابهة ـ مجرد السؤال ـ يدفع بالمرء إلى أغوار الكفر والفسق والفتنة وكأنى بهم يرفضون ما قاله من قبلهم من عتاة العلماء ومفكري الإسلام مثل الإمام أبي حامد الغزالى الذى أشار فى كتابه الأشهر إحياء علوم الدين إلى أن الله تعالى يمن بالفهم على بعض عباده فيدركون ما يغيب عن كبار العلماء وكم من عالم ـ القول للغزالى ـ فوجئ بقول لأحد العامة فى صدد تفسير آية عرضه عليه فأقره العالم منبهرا بما أتى به ..
وأيضا المثل القرآنى العظيم فى قصة سيدنا داوود وابنه عليهما السلام .. حيث قال تعالى .." ففهمناها سليمان "

والفهم يختلف عن العلم ..
فالعلم مكتسب والفهم موهبة والعلم ثابت لمن أراد كتسابه والفهم متفاوت ولذلك قضي سيدنا سليمان فى قضية الغنم وهو بن أربعة عشر عاما بقضاء محكم خلاف قضاء والده وأردف القرآن الكريم ..
" وكلا آتينا حكما وعلما "
أى أنه لم يقصر المدح على طرف دون طرف .. فمن أخطأ له أجر ومن أصاب له أجران طالما توافرت الضوابط الحقيقية وليست المفتعلة وليس هناك من عيب فى الاجتهاد من إنسان عادى يعرض اجتهاده على أهل العلم فيري رأيهم فيه
وكذلك الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الدرة الثمينة التى لم تتكرر فى تاريخ الإسلام علما وفهما قابله أحد الناس فى طريقه سائلا إياه عن فتوى فقال الإمام رأيه فعارضه أحد العامة وقال لا يا إمام بل هى كذا وكذا ..
فعقب الإمام ممتدحا الرجل .. أحسنت والأمر كما تقول
إن الله خلق العقول لتجنى العلم فتضيف إليه لا تحفظه وتردده فقط ..
ويحضرنى تعليق الإمام مالك رضي الله عنه عندما سمع بأن فلانا حفظ الموطأ .. فقال الإمام مالك لقد زادت نسخة فى المدينة .
فما شأننا وشأن العلم الحقيقي بمن يصبح الكتاب المدون أفضل منه وليس معنى هذا القول أنه يلزم التجديد بل الأمر نسبي ووسطى ويلزم لطالب العلم أن يفهم عن أستاذه قبل أن يحفظ ولا ضير أو اعتداء منه كطالب لو عارض أستاذه ويجب على العالم الحق أن يفسح صدره لطلبته فيجيب بحجته ومنطقه كل تساؤلاتهم واعتراضاتهم لا أن يبادر باتهامهم بالجهل والتخلف على اعتبار أن ما سألوه كان اعتداء وإجحافا لحقه ..
فالعلم هو توافر الحجة ليس أمام طالب العلم فقط بل حتى أمام طالب الفتوى البسيط فليس للعالم أن يحجب سبب وركائز فتواه عن طالبها وإلا كيف يطمئن قلبه إليها وكيف يصبح الإسلام دين الفكر الحقيقي والدعوة بالحسنى والتى هى أحسن
وجوهر الاسلام الحقيقي قام على أنه الدين الأكمل الذى لا يخشي شبهة ولا يتهرب علماؤه من سؤال ..

وللحديث بقية من فصول ...

خليل حلاوجي
20-01-2008, 08:44 AM
طرح رائع وفكر نافع أخي الحبيب الأستاذ محمد :

يقول جودت سعيد في معرض رده على مقولة آركون وهو يصف مالك بن نبي أنه - أي مالك _ يريد أن يعبر بالقرآن من العقلية الاسطورية الى العقلية العلمية ..

قال جودت :

وأما قوله من أن من يستشهد بالقرآن يثير كل المشكلات للعبور من العصر الأسطوري إلى العصر العلمي لا يخلو من جانب كبير من الصواب ابتداءً من علي عليه السلام الذي قال: إن القرآن حمال أوجه وكل كلام حمال أوجه ولولا العودة إلى الواقع لما كان للكلام معنىً. والقرآن يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً. والكتاب ككتاب ليس كافياً للهداية. وأنا أشرت سابقاً إلى هذا حين ذكرت من أن النص يخدم ويخون ولا يمكن نقل الخبرة بدون نص ولا فائدة من النص بدون معنى، ولا يمكن تحرير المعنى بدون رجوع إلى الواقع وهناك يتحصحص الحق. فمن هنا كان مرجع القرآن هو النظر في آيات الآفاق والأنفس لأنها هي التي ستصحح فهمنا للقرآن. وبدون ذلك سيكون القرآن بيد كل الأطراف يتلاعب به من يشاء كالذين رفعوا المصاحف على الرماح. والطرف الذي رفع المصاحف لم يكن الطرف الصادق ولا أقرب الناس إلى الحق. وإلى يومنا هذا نقوم بمزايدات للتمسك بالقرآن والنصوص.

محمد جاد الزغبي
20-01-2008, 09:46 AM
أهلا ومرحبا بك صديقي الصدوق خليل حلاوجى
مرحبا بطرحك وتوضيحك أخى الكريم
وهى كما ترى رسالة يجب أن نتصدى لها وفق طاقتنا
بوركت

محمد جاد الزغبي
20-01-2008, 09:59 AM
الفصل الثانى ..
من هم الأصوليون الحقيقيون

عندما يستمع المرء لأول وهلة مفهومى الفقهاء المجددين والفقهاء المحافظين .. قد يظن بطبيعة الحال أن المقصود بالمجددين هم الفقهاء المتصدين لمبادئ السلف المجددين لها وأن المحافظين هم أولئك الزمرة الأصولية التى تحافظ على ما سار عليه الأقدمون فى العصور الإسلامية الأولى الخيرة ..
غير أن واقع الأمر فى حقيقته يقول بغير هذا ..
مع ملاحظة أنى أتحدث عن الفئة التى تنظر لأسلوب الأصولية بفكر الثبات المطلق وعدم الأخذ بالرأى إلا فى أضيق الحدود
فبشيئ من التحليل البسيط لصفات كلا من الجبهتين سنكتشف مفارقة بالغة الغرابة ..

بداية ما هى الأصولية ؟
الأصولية هى الدعوة التى ظهرت على يد الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بعد أن تداخلت الأهواء والبدع فى العصر العباسي وغاب المسلمون غيابا جزئيا عن المبادئ التى أرساها الرسول عليه الصلاة والسلام فى عهود الإسلام الأولى ..
ثم امتدت الدعوة الأصولية ووجدت صداها ورجالها فى مختلف العصور حتى وصلت للفقيه العملاق شيخ الإسلام بن تيمية والذى أورثها تلامذته العمالقة من أمثال بن قيم الجوزية رضي الله عنهم واستمرت الدعوة فى علو وهبوط حتى تلقفها أبي الأعلى المودودى فى الشرق الأقصي وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده فى مصر ..
هذا هو التدرج الذى مرت به الأصولية فى اختصار شديد على اعتبار أن كل تلك الحقائق معروفة تاريخيا .. ولكن هذا التسلسل لم يسر طبيعيا بهذا الشكل وحده بل عرجت الأصولية لجماعات مختلفة فى العالم الإسلامى فحرصوا أشد الحرص على قلب الفكر المستنير فى تلك الدعوة الرئيسية وساووا بين ما هو ثابت وما هو متغير فى العقيدة والفقه وأصبح مفاد الدعوة عندهم محصورا فقط فى الشكليات واعتبروا فرائض يفسق من يخالفها كما أنهم حجروا حجرا تاما على أى أسلوب أو محاولة للحوار فى حقائق الإسلام على اعتبار أن الخوض فيها غير مسموح باعتبارها كلها ثوابت غير قابلة للنقص
وذلك بالرغم من أن الثوابت الإسلامية التى لا تقبل جدلا ولا يقبل فيها رأيا محدودة حصرا منذ أيام الإسلام الأولى وبحديث النبي عليه الصلاة والسلام والذى رتب فيه العقيدة ترتيبا متواليا من الإسلام حتى الإحسان مرورا بالإيمان وبالتالى صارت أركان الإسلام .. وأكرر أركانه وليس بناؤه معروفة متى تمت وتوافرت فى مسلم حرم دمه وماله وحرم تكفيره بشكل مطلق
وكان من الطبيعى مع اعتبار كل سنة شكلية أو منهج سلفي يصلح لعصره فقط كأسلوب المأكل والمشرب والملبس أصبحت كلها دون استثناء قواعدا عليا خارجة عن نطاق التغيير ومن يتركها كمن ترك الصلاة والصيام

وهذا هو الذى تصدى له المجددون وبينوا ـ كما سبق القول ـ أن فقهاء الإسلام الكبار الذين اعتمدوا فى تفاسيرهم وكتبهم حقائق وأساسيات الفقه يعتبر قولهم جامعا غير قابل للمراجعة فيما يخص الأحكام والفرائض فى المسائل المحسومة فلا يعقل أن يجتهد مسلم فى عدد ركعات كل فرض أو يبدى رأيه فى عدة شهر رمضان مثلا ..
وخلاف ذلك فيما يخص الأحكام غير المحسومة والذى اختلف حولها الأئمة جميعا فقال كل منهم برأى مخالف فاتباع أى رأى هنا ومناقشته لا يمثل حرجا حتى وهو من فى زمرة الأحكام .. مثال ذلك ما اختلف فيه الفقهاء حول وجوب عدالة الشهود واستمرارها فى عقد الزواج فقد خرج أبو حنيفة رضي الله عنه غير مشترط لإستمرار عدالة الشهود لأن العدالة لو سقطت معناها سقوط عقد الزواج فيما بعد وهو ما خالفه فيه بقية علماء المذاهب ..
أما الشأن المظهرى كالمأكل والمشرب والملبس فهو على حد قول الإمام الشعراوى أن السؤال فيه وإكثار الجدل يعد من قبيل التنطع لأنه لا يوجد فى الإسلام مفهوم اسمه الزى الإسلامى بل يوجد فقط عورات للرجل والمرأة وجب حجبها بأى وسيلة كانت وطالما تم حجبها فكل زى مباح
أما المتشابه وهو كل ما لم يرد قطعيا فى القرآن الكريم أو السنة المطهرة فهو مفتوح عن آخره أمام إعمال الرأى ليس على سبيل الإباحة وحسب بل على سبيل الطلب المشدد والترغيب فيه باعتباره أساس العلم ..
فمن غير المعقول بالطبع أن أقف بقولى مثلا أو إجتهادى حتى كطالب علم بشأن من تلك الأمور التى لم تحسم مثلا كتفاصيل قصص الأنبياء أو قصص القرآن المختلفة ولا أبحث خلفها كيفما شئت وأقتنع برأى دون رأى بلا حرج مطلقا ..
وهذا الأمر هو الذى نادى بعكسه المتشددون وبالغوا فى فتح أبواب التحريم والتكفير أمام كل تصرف وكل قول فى شتى المسائل يخالف ما قال به السلف فانقلبت القاعدة الفقهية فى أن الأشياء أصلها الإباحة ليصبح أصلها التحريم
هذا خلافا لفتح الباب بأوسع طاقته أمام الترقب العنيف لأى تصرف ووصمه بالبدعة فظهرت عشرات ومئات الفتاوى فى كل شأن هين لا يستحق السؤال وهو الأمر الذى نهى عنه كبار الأئمة قديما ويكفي ما نقلته كتب التراث عن أحد الأئمة الكبار ورد إليه سؤال من تلك النوعية من أهل العراق يستفتونه حول حكم قتل النملة فى المسجد ؟!
فرد الشيخ مستغربا .. " عجبت لأهل العراق يستفتون فى قتل نملة ولم يتورعوا سابقا عن قتل الحسين "
وهو ما حدث من الخوارج أيام الفتنة الكبري بعد أزمة التحكيم بين على بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكان الخوارج هم الفئة التى انشقت عن جيش الإمام على ورفعت راية العصيان فى وجه الطرفين .. وعادوا للعراق فعاثوا فى الأرض والبقاع فسادا حتى وصلت بهم الوحشية إلى بقر بطون الحوامل فيمن لا يكفر إمام الأئمة
ومر واحد منهم مع رفيقه على شجرة تلقي بفروعها خارج حائط بعد أن بقروا بطون عدد من نساء مؤيدى الإمام على .. فمد يده إلى إحدى الثمرات فالتقطها وألقاها فى فمه فصاح به رفيقه ناهيا باعتبار أن الثمرة تعد حراما طالما أنه لم يستأذن صاحبها فألقي رفيقه ببقية الثمرة على الأرض ولهج لسانه بالإستغفار الشديد !!
وفى العصر الحديث تكاثر سرطان الأسئلة فيما لا يفيد واستجابت له زمرة المتشددين حتى وصل الأمر بأحد الجماهير فى مصر أنه تقدم إلى الدكتورة عبلة الكحلاوى ذات مرة سائلا عن جواز تطليقه لزوجته طالما أنها تشجع فريق الزمالك بينما هو يشجع فريق الأهلى فكادت العالمة الكبيرة تصاب بضغط الدم ..
والشيخ الدكتور عطية صقر رحمه الله أحد حبات عنقود الفقهاء الكبار خرج عن شعوره فى برنامج مذاع على الهواء مباشرة بالتليفزيون المصري عندما توجه إليه أحد الشباب فى قلب شهر رمضان بسؤال حول جواز تقبيل خطيبته فى نهار رمضان هل يعد حراما أم لا ؟!
وهذا بالطبع إن دل فإنما يدل على الأمية الشديدة التى تحكم جماهير المسلمين مما يستدعى من باب أولى أن يوجه العلماء جل طاقتهم للإرتفاع بمستوى التفكير فجاء المتشددون باستجابتهم لكل سؤال تافه ليزيدوا الأمر سوء ..
مثال ذلك ما أقبلت عليه جموع غفيرة من شباب الجامعات التابعين لهذا المنهج فى مصر عندما استفتوا علماءهم عن إسبال الإزار فقام العديد منهم ـ بفتوى مسبقة ـ بتقصير البنطال بخمسة أو عشرة سنتيمترات فى مشهد يصعب وصفه ..
وهذا هو التمسك الشكلى بالنصوص لأن إسبال الإزار لا محل له بالعصر الحديث وأين هو من يلبس الإزار الآن ليجره خيلاء .. بل أين من يفهم معناه من الأساس حتى يقيس هؤلاء العلماء على ذات الحكم فيصدروا فتواهم بتقصير البنطال !
الكارثة الحقيقية أن المتنطعين من أهل السؤال فى تلك الأمور معظمهم يرتكب من الفواحش الأساسية والكبائر ما لا يغيب حكمه عن مسلم ثم تجده يستفتى فى تلك المسائل ..

وكأن التمسك بالأمور الشكلية والمستثناه هو جوهر وحقيقة الإسلام .. وكما أفاد علماؤنا أنهم لا يمنعون وحاشا لله أن يمنعوا من أراد لنفسه العصمة فاتبع كل خطوات السلف الصالح ولكن هل يكون البدء بالمظاهر أم بالعمق ..
والإسلام فى شأن هذه الكماليات واضح وضوح الشمس وعبر عنه الإمام أبي الحسن الشاذلى وكان تاجرا موسرا يلبس الطيب من الثياب ومر ذات بسوق فواجهه أحد المدعين ممن يلبسون المهللات تحت ادعاء الزهد وصرخ فيه قائلا
" هل يعبد الله بهذه الملابس "
فنظر إليه الإمام الشاذلى وقال مشيرا إلى المظهر القبيح للرجل
" وهل يعبد الله بهذه الملابس .. ملابسي تقول للناس أنا غنى عنكم فلا تعطونى وملابسك تقول للناس أنا فقير إليكم فمدونى "
ثم ذهب لحلقة درسه وهتف مناديا تلميذه الإمام أبي العباس المرسي
" يا أبا العباس اعرف الله وكن كيف تشاء "
وهكذا لخص الإمام العظيم قضية الزهد فى عبارة جامعة .. فليس الزهد مظهرا كما يحرص البعض كما أنه ليس لمن لم ينل من الدنيا موسرها فقال بأنى زاهد .. بل هى لمن أعطته الدنيا وأقبلت عليه فلم يأخذ منها إلا المظهر وفرغ قلبه منها تماما بمعنى أن لو أمسي ذا مال وفير وأصبح فى حال فقير لم يغير هذا فى قلبه شيئا ..
وبالتأمل الدقيق فى حجج واستنباطات جبهة التشدد تجد أنهم متمسكين بأن هذه الأمور هى الأصول وما سواها بدعة مع أنهم فى حقيقة الأمر أبعد الناس عن الأصولية وعن إتباع الهدى النبوى فى هذا الشأن بل هم أول المبتدعين بالرغم من أن الجارى على لسانهم ليل نهار هو رفض كل بدعة ..

يتضح ذلك من التركيز والمقارنة بين الجبهتين ..
فمثلا هناك عشرات الأمثلة الواردة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فى شأن تصرفات الصحابة أقر فيها تصرفين أو أكثر على النقيض ولم ينكر أى منهما .. وهذا يعطينا مثلا حكيما أن أمور العقيدة فى الأحكام ذاتها قابلة للرأى والاختلاف بين أهل العلم فما بالنا بالمتشابه ..

وفى عهد عمر بن الخطاب قام رضي الله عنه بعدد من التصرفات المسئولة اجتهادا برأيه وجاءت اجتهاداته مخالفة لقواعد رئيسية بيد أنها متغيرة مثال ذلك عندما أبطل حد السرقة ـ وهو حد ثابت وقطعى ـ فى عام الرمادة وهو تصرف لم يسبقه إليه لا الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه .. كما أنه أبطل أموال المؤلفة قلوبهم فى حين أنها كانت سارية قبله فى العهد الراشد الأول وأيام النبي عليه الصلاة والسلام وقطع شجرة المبايعة مخافة افتتان الناس بها وعشرات من تلك الأمور التى نبأت عن حكمته .. مؤكدا عن على لقب الفاروق الذى تميز به رضي الله عنه .. بالإضافة إلى أن عمر بن الخطاب يعتبر الأب الروحى لفقه التقدير الذى أخذه عبد الله بن مسعود وتلقفه فيما بعد بالعراق أبي حنيفة النعمان ليصبح هو رجله الأساسي
وفى شأن المتشابه
فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يفيد بأن وجهة نظره فى ذى القرنين إنه من الملائكة وهو قول لم يقل به قبله أحد لأن الخلاف كان حول نبوته أو صلاحه فقط .. وذلك عندما سمع مناديا ينادى ولده بذى القرنين فعاب عليه التسمية وقال بأنه يكفي التسمية بأسماء الأنبياء وترك أسماء الملائكة ..
فهل كان عمر رضي الله بهذه الإجتهادات مبتدعا يا ترى ؟!
وجاء من بعد عمر عثمان رضي الله عنه وفى أول لحظة له على منبر مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام صعد حتى بلغ الدرجة التى كان يخطب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام وكان أبو بكر رضي الله عنه قد نزل درجة إلى أسفل عندما اعتلى المنبر وبعد أبي بكر نزل عمر رضي الله عنه درجة أخرى فجاء عثمان عليه رضوان الله وقال
" هذا أمر يطول "
وعاد إلى نفس الدرجة التى كان يخطب منها رسول الله عليه الصلاة والسلام
والإمام على فى الفكر والاجتهاد والرأى مدرسة يصعب حصر الأمثلة فيها

وجاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لفترة طويلة مبيحا لزواج العقد المؤقت وهى المسألة التى استمرت فترة حتى عاتبه عليها الإمام على فكف عنها وكان الأمر مجرد عتاب أى أنه لم يكفره ـ حاشا لله ـ أو يتهمه بالابتداع ..
وكل تلك الأمور العقائدية التى حدثت فيها مخالفة لما استنه الرسول عليه الصلاة والسلام تبعا لكل اجتهاد كانت مسائل غير محسومة وليست من صلب العقيدة الثابتة التى يلزم ثباتها ليستقيم الإسلام فقال كل فقيه وصحابي برأيه وكلها أمور حساسة وشديدة التأثير فى حياة الناس فما بالنا بمن يطلق عنان التفسيق والتكفير فى وجه من يخالف فتاوى اليوم وهى أهون شأنا بمراحل عن الأمور التى اختلف حولها الأئمة الكبار
والأهم من ذلك أننا اكتشفنا أن منهج السلف الصالح فى أيام الإسلام الأولى الغضة كان المنهج القائم على الفكر الحر وهو ذات الأمر الذى اتبعه المستنيرون من الفقهاء المجددين ..
فمن هم الأصوليون الحقيقيون إذا ..
هل من اتبع المنهج ففكر واجتهد أم من أغلق الباب واتهم وكفر ؟!

وأمر آخر ..
هو مسألة تحريم المتشددين للخوض فى مسائل المتشابه والسؤال عنها بل وصلت الدرجة فى بعض الأحيان إلى تحريم بعضهم تناول فترات التاريخ الإسلامى كالفتنة الكبري مثلا على اعتبار أن الخوض فيها لا يخدم الإسلام فى شيئ ويدفع الناس لإصدار أحكام على الصحابة رضي الله عنهم وهو ما يعد ممنوعا قطعا .. .
والواقع أنه خلط مؤسف ..
فكيف يكون تدارس التاريخ الإسلامى وأخذ عبره ’ بدعة منهى عنها والذى نقل لنا التاريخ فى الأساس هم أئمة الفقه والسنة كبن كثير والطبري والعسقلانى وغيرهم ..
فمن باب أولى ـ لو أن الفتوى صحيحة ـ أن الفقهاء الكبار الذين كتبوها وتعرضوا لها كفوا أيديهم عنها درء للبدعة ..
الأخطر من ذلك أن مواقف الصحابة فى تلك المسائل كانت متباينة ومع ذلك كلها كانت صحيحة لأنه لا وجود للرأى الواحد الذى لا يتم السماح بتغييره إلا فيما هو ثابت من أصول العقيدة ثباتا واضحا
فمثلا هناك من اشترك فى الصراع مع الإمام على ورآه واجبا حتميا كعمار بن ياسر رضي الله عنه والذى قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام
" الحق يدور مع عمار حيث دار " أو كما قال
وهناك من اعتزلها نهائيا كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين وأحد الستة أصحاب الشورى وبطل الإسلام وأحد أوائل المسلمين على الإطلاق والرجل الذى جمع له رسول الله عليه الصلاة والسلام أبويه فلم يجمعهما لأحد بعده ..
وهناك من شارك فى صف معاوية بن أبي سفيان كعمرو بن العاص وولده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم جميعا فى بداية موقعة صفين ومعاوية رضي الله عنه من كتاب الوحى وقيل فيه عندما سألوا أيهما أفضل معاوية أم عمرو بن عبد العزيز فأجاب أحد كبار الأئمة قائلا
" لترابٌ فى منخرى معاوية مع رسول الله عليه الصلاة والسلام خيرٌ من عمرو بن عبد العزيز "
وعن المتشابه فقلما تجد مفسرا يتفق مع آخر فى مسائله وكل منهم جاء برأى واقتنع به أو ناقشه بداية من الصحابة الأول وحتى التابعين وتابعيهم دون أدنى تحريم أو تبديع ..
فعبد الله بن عباس رضي الله عنه قال بأن عدة أهل الكهف سبعة وجزم بذلك وخالفه آخرون كما أن الإمام على نفسه فسر كلمة التنور الواردة فى قصة نوح عليه السلام بأنها الصبح عند انبلاجه وهو ما عده بن كثير تفسير غريب ولم يقبله بالرغم من أن المقارنة بين الإمام على وبين بن كثير رضي الله عنهما فى العلم لا وجود لها أصلا لفضل الإمام على فى هذا الشأن ..
ولكن وجود الفضل والإعتراف به شيئ والإقتناع والرأى أمر آخر تماما
بل إن تحريم النقاش فى مسائل المتشابه والتشدد فى حصر الرأى فيها بقول واحد لا يمت لقواعد الإسلام فى شيئ ..
ألم يأت اليهود مرات عدة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم اليهود أى أن عدائهم كان قاطعا وكفرهم كان حاسما ومع ذلك استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام أسئلتهم ببساطة وأجابهم عنها بخصوص ذى القرنين وأهل الكهف وغير ذلك من عشرات الأمور وأنباء الغيب الواردة وحيا ..
أى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحرم نقاشهم وجدالهم وجاء القرآن مؤكدا على هذا بشرط الجدال بالتى هى أحسن دون مراء ودون رفع لواء التكفير فى وجه كل سائل والإحتجاج به للهروب من الإجابة
لأن الفكر الإسلامى فى أصله أنه الفكر الأقوى والأعلى والمتحدى إلى أبد الآبدين فمن جاء للسؤال أيا كانت نيته ففي رجال الإسلام وأهله ألف خير للتصدى لهم إن كانوا ذوى غرض وفى هدايتهم إن كانوا ذوى حيرة
ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أرسل إليه إمبراطور الروم بصحيفة فيها عشرة أسئلة من المعضلات وطالبه بإجباتها فلم يرسل إليه معاوية سابا أو شاتما بالرغم من أنه ملك وكافر وعدو .. بل بعث بالأسئلة إلى بن عباس رضي الله عنهما فأرسل إليه الإجابات كاملة وبعث بها معاوية معتزا وفخورا لإمبراطور الروم ..
نخلص من هذا أن باب الفكر والنقاش والمحاورة مفتوح على مصراعيه والجدل فيه استثناء لا قاعدة كما قرره البعض .. والجدل معروف وأمر النهى عنه واضح فور حدوثه فى أن نتلاشاه ويتلخص ببساطة فى إبطال الحجة ودرء العذر والتغاضي عن السب فإن استمرت المعارضة بعد ذلك كان الإستمرار فيها جدالا
أما ما سوى ذلك فالفكر الإسلامى الرحب يسع كل متسائل ولولا السؤال والنقاش كما يقول بن عباس رضي الله عنه ما بلغ من العلم شيئا ..
وهذا كما رأينا هو جوهر الفكر الإسلامى الذى أسسه الصحابة وجاء الفقهاء المجددون فاتبعوه فأشبعوا المستشرقين والعلمانيين وأشياعهم حجة بحجة وردا برد وانتصروا للفكر الإسلامى
فمن هم يا ترى الأصوليون الحقيقيون ..
من اتبعوا المنهج وعرفوه أم من تذرعوا بجدلية كل نقاش فحرموه ؟!
ومن هم الأصوليون ..
من سلكوا منهج التفكر فخرجوا بما يؤيد الإسلام ودعوته ألف مرة فى مواجهاتهم مع الفئات المعادية مثلا كالإمام الشعراوى أم من طلب السكوت والاكتفاء فى المتشابه بما ورد فى القرآن وحسب ..
وتحضرنى كلمة الشيخ الشعراوى فى هذا الشأن
عندما قال نحن ندين للمستشرقين بما حسبوه تناقضا فى القرآن الكريم وأتوا به زاعمين أنهم قد أتوا بالحجة عليه لأنهم كانوا سببا مباشرا فى همة المفكرين والفقهاء لكى يتدارسوا فيفتح الله عليهم أبوابا من الحكمة والتفسير أكدت على اعجازية القرآن ..
والإمام الشعراوى صادق فى هذا تماما لأن الله سخر المتهمين والمشككين لكى يلقوا الضوء أكثر على الإعجاز والكمال الذى ورد بالقرآن عندما تصدى لهم علماء المسلمين بكل عصر ..
وكما سبق القول لا يوجد هناك قول واحد أو رأى واحد قاطع فيما لم يتم حسمه من القرآن وهو كثير لأنه هو ذاته مجال بيان الإعجاز الذى أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بتحريه فتبعه السلف الصالح من التابعين وتابعيهم ونظروا فى كتب اليهود يلتمسوا منها العلم فيما لا يخالف نصوصا قطعية بالقرآن والسنة وأتى بعضهم بنتاج فكره فى المتشابه وجاء فقهاء العصر المجددين فأضافوا وأصابوا كثيرا ودخلت للإسلام من جراء تلك البحوث أمما بكاملها بعد أن طبق الفقهاء المجددون أسلوب الدعوة الإسلامية الثابت فى الحجة والمنطق ..
أما أسلوب المنع والحظر والتحذير فهذا كفيل بإغلاق العقول والأخذ بقول واحد وتكفير أو تفسيق ما سواه ليتسبب القائلون بهذا فى نزع أهم مميزات الإسلام ألا وهى أنه دين الأمة الخاتم الذى نزل متحديا فى جملته وتفصيله وعجز عن مواجهة فكره اليهود والنصارى والذين أشركوا عندما فتح المفكرون الأبواب على اتساعها أمام من يأتى متحديا بالتكذيب للقرآن والرسول عليه الصلاة والسلام فردوهم خاسرين ..
وهذا الذى يدعو إليه البعض من كف السؤال والرأى فى القرآن ـ فيما يخص المتشابه ـ إنما يسعون ـ دون إدراك ـ لقلب الأوضاع فيصبح المسلمون يخشون عل دينهم من الحجج المقابلة أن تسقط منطقه وهو ما خافه اليهود والنصارى ولذلك تهربوا من كل سجال وكل مناقشة تمس عقيدتهم فمنعت المعابد والكنائس منعا باتا أن يخوض أى مفكر منهم نقاشا مع عالم مسلم لعلمهم الكامل بضعف الحجة لديهم ..

وللفصول بقية إن شاء الله

بابيه أمال
26-01-2008, 12:17 AM
سلام الله عليكم..
قراءة سريعة وإضافة صغيرة لموضوعك الهام أخي محمد جاد على أمل عودة أخرى بإذن الله..
وتبقى العلة للربط غير الضروري بين الدين والتخلف في الأمة العربية اليوم هي الخلط بين الدين وبين ما يسمون برجال الدين..
علة الخلط هذه هي التي أوجدت فيما سبق من عصر الظلام مجموعة من الناس تسعى لكي تكون وعاء للدين وحائلا بينه وبين الناس.. وهذه المجموعة تورث مبادئها لمن بعدها مع التشدد في المحافظة عليها كما هي.. وغالبا ما تكون هذه المبادئ قد صيغت حول مفاهيم دينية أساسية قليلة حقيقية مع إضافات كثيرة من البيئة والمفاهيم السائدة فيها.. كل هذا مع الإصرار التام على أن ما صلح لبيئة معينة يصلح لكل زمان، لأنه من الله والله لا يحده الزمان! وما صدقوا فما كل ما عندهم من الله!
وحاضرنا الناطق بكل عناصر الاختلاف والتخلف يشهد وجود طبقة سعت أولا لاستمالة النظام القائم إليها.. بعد أن رأت أنها إن لم تؤيد النظام فستحارب حتى تتشكل بشكله أو تشكله بشكلها أو تزول.. فكان أن ناصرت ما هو موجود مع إضافة بعض من عندها لإظهار تأثيرها الأخلاقي والعملي المحافظ ثم ناصرت بعد ذلك ضد كل تغيير نحو غد أفضل..

في انتظار جديد ما تطرحه في رسالتك القيمة هذه.. جزاك الله خيرا على ما نجد لك من مواضيع هامة جدا أخي محمد جاد..