تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بلفور ، أللنبي وأنا



حنان الاغا
09-03-2008, 12:21 AM
بلفور ، أللنبي وأنا
ما أن وطئت قدماي الرمال حتى وجدتُ بلفور وأللنبي بانتظاري كالمعتاد ،كل منهما يقف إلى أحد جانبي باب الحافلة ، التي وقفت لتوها وكنت أول الخارجين ، تاركة خلفي الركاب يتدافعون للنزول من باب الحافلة التي هي أشبه ما تكون بسفينة فضاء تهبط على كوكب مجهول تملأ الرمال أرضه وفضاءه. نظرت باتجاه اليسار حيث يُتوقع أن يظهر من يأتي لاصطحابي ، ركزت النظر فلمحت القامة المنتصبة تقترب وقد تغشى تكوينها الغبار .كان عمي متزوجا من قوقازية مهاجرة ، هجر لأجلها الدنيا وعاش معها في تلك البلدة التي تتلاشى مع الصحراء بعد أن ابتلعت الرمال حدودها .
عمي كان آخر الرجال الكبار في أسرتنا ، وهو يحتل مركزا اجتماعيا مرموقا في تلك البلدة المنفية التي ابتلعها المكان، ونسيها الزمان .
وضحت ملامحه تدريجيا وهو يسير باتجاهنا ، بل لقد لمحت على البعد دارته الكبيرة التي تشبه جزيرة تسبح في محيط من الرمال ، بينما أصدقاؤه ومريدوه يتحلقون أمام الدار، يتنادمون ويشربون الشاي والقهوة ، ويتناولون شطائر زوجته التي أنجبت له الكثير من الأبناء والبنات ، مما جعل البيت الكبير يزداد اتساعا وغرفه تزداد عددا مع كل قادم ، وبمرور الوقت كبر الأبناء وتحول البيت إلى مستعمرة أو محمية طبيعية ، تنغل بالكائنات الحية من أشخاص وقطط وأرانب وحمام . هذه المخلوقات أصبحت وكأنها طورت غرائزها الفطرية ، فالقطط كانت تصادق الكناري ، والأرانب تخلت عن القفز والهرب ، أما الحمام فقد نسي حذره وهجر أبراجه وأصبح يلتقط غذاءه من صومعة الغلال الملحقة بالفناء الكبير. كان لتلك الكائنات أسماء ، وكانت تعرف أسماءها . وكانت الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها ،زاحفة أوطائرة أوماشية ، تستبيح لنفسها دخول أي مكان في البيت إلا الكلاب. صحيح أنها كلاب( الوولف ) المدللة الأصيلة والمدربة
إلا أن أمور الطهارة والنجاسة كان لها الأولوية في بيت الرجل المتدين حد التشدد.
كانت البنت عندما تبلغ السادسة تتحجب ، وعندما تصبح في سن البلوغ ،يُغطى وجهها وجسدها برداء أسود ، و يُربط صدرها الذي بدأ لتوه بالبروز ، بقماط من شاش ناعم يُشد حوله حتى يستوي مع محيطه ، وهي إجراءات ضرورية لتتمكن من الذهاب إلى المدرسة ، مخفورة بالكلاب والإخوة . عالم غريب عن عالمنا في العاصمة ، مختلف بتفاصيله كلها ، إلا الحب . فقد كان عمي يحبنا ويرجو أمي أن ترسلني في الإجازة لأنني أمثل له رائحة المرحوم أبي. وكان أهل هذا البيت ينظرون إلي باعتزاز وحب وتقدير كأنني هبطت عليهم من كوكب آخر.وكنت رغم سنواتي الثمانية أحس بتميزي واختلافي عنهم في الملبس والمنطق والنظر إلى الأمور ، وهو شعور كان يخفف من حزني لفراق أمي التي لا أنسى دمعاتها الحبيسة لحظة تودعني الحافلة التي تسلمني لعمي. قطع علي صوت عمي الجهوري الحنون حوارا من طرف واحد مع كلبيّ الحارسين ، وكان قد اقترب مهرولا يغالب العاصفة :
* أهلا بالغالية بنت الغالي.
التقينا في منتصف الطريق بين الحافلة وبيت عمي ، ووجدتني أغرق في حضنه الأبوي الدافىء وعباءته الموشاة تلفني فيما طارت قبعته القوقازية المصنوعة من الفراء عن رأسه . أرسم المشهد الآن وأتخيل :
* قوقاز في وسط الصحراء . ربما أجعله عنوانا لقصة فيما بعد.
فتح عمي عباءته الفاخرة فخرجت منها ، وتناول من تحت إبطه كيسا فتحه ، ثم قبّل رأسي وأعادني إلى داخل عباءته وقد تناول من الكيس قميصا ألبسني إياه فوق ثوبي الأبيض الجميل ، وبنطالا جمع بداخله أطراف ثوبي القصير ، ثم تناول شعري وجمعه بين راحتيه وأدخله عنوة داخل قبعة مكسيكية كبيرة .استغربت مما يجري ولم أفهم وقتها سببا لذلك.
نظر إلي باستحسان ، ثم ترقرقت في عينيه دمعات غزيرة .وسألته :
* عمي . ألم تقل لي أن بلفور هو والد اللنبي؟ فأجاب بنعم ، وسألت :
* ألم تقل أن اللنبي أنثى ؟ فلماذا تسميها اسما مذكرا ؟ افتعل عمي الجدية وغالب ابتسامته وهو يقول
* لقد كبرت يا بنيتي .
ألبس عمي الكيس رقبة أحد الكلبين ، وحقيبتي الصغيرة رقبة الآخر .
لوحة مرسومة بالرمال والهواء ، جمال لا يمكن وصفه ، كتلة نحتية متحركة ذوبت حافاتها حبات الرمال التي تملأ الجو ضبابا جافا .
كنت بلهفة للوصول ، لأستقل الدراجة الهوائية وأطوف بها حول الدار الكبيرة ، ووصلنا إلى الجمع المنتظر أمام الدار . قدمني عمي إليهم بسرعة واقتضاب:
* عيسى . ابن أخي .
______________
حنان الأغا
19_2_2008

جوتيار تمر
09-03-2008, 12:36 AM
حنان العزيزة...
لفت هذا النص السردي انتباهي ، سواء على المستوى البناء القصصي المحكم،او على المستوى الدلالي ، الذي تمثل من خلاله الرؤية النابعة من عمق القاصة لتتشكل المغزى والمعنى اللذان يقومان بمهمة التصوير المشدهي في ذهن المتلقي، هنا برز قدرة القاصة على فرض صورتها على باقي الصور الذهنية لدى المتلقي ، وهو ما يجعلني اقول بأن نجاح العمل اي عمل ادبي،يتوقف على جملة امور ولعل ابرزها القدرة الفائقة على التحكم في التخيل، من زاوية الانشغال الذهني بالحالة النفسية والاجتماعية،وفي النص هذا برزت هذه القدرة،من حيث اسقاط الواقع في في رؤية فتاة لم تتجاوز الثامنة من عمرها.

دمت بالف خير
محبتي
جوتيار

حنان الاغا
10-03-2008, 11:15 PM
حنان العزيزة...
لفت هذا النص السردي انتباهي ، سواء على المستوى البناء القصصي المحكم،او على المستوى الدلالي ، الذي تمثل من خلاله الرؤية النابعة من عمق القاصة لتتشكل المغزى والمعنى اللذان يقومان بمهمة التصوير المشدهي في ذهن المتلقي، هنا برز قدرة القاصة على فرض صورتها على باقي الصور الذهنية لدى المتلقي ، وهو ما يجعلني اقول بأن نجاح العمل اي عمل ادبي،يتوقف على جملة امور ولعل ابرزها القدرة الفائقة على التحكم في التخيل، من زاوية الانشغال الذهني بالحالة النفسية والاجتماعية،وفي النص هذا برزت هذه القدرة،من حيث اسقاط الواقع في في رؤية فتاة لم تتجاوز الثامنة من عمرها.
دمت بالف خير
محبتي
جوتيار
____________
الصديق جوتيار

قراءتك تثري النص دائما .
أهلا وسهلا بك دائما مع الحرف هنا .
مودتي

د. مصطفى عراقي
13-03-2008, 09:05 PM
بلفور ، أللنبي وأنا
ما أن وطئت قدماي الرمال حتى وجدتُ بلفور وأللنبي بانتظاري كالمعتاد ،كل منهما يقف إلى أحد جانبي باب الحافلة ، التي وقفت لتوها وكنت أول الخارجين ، تاركة خلفي الركاب يتدافعون للنزول من باب الحافلة التي هي أشبه ما تكون بسفينة فضاء تهبط على كوكب مجهول تملأ الرمال أرضه وفضاءه. نظرت باتجاه اليسار حيث يُتوقع أن يظهر من يأتي لاصطحابي ، ركزت النظر فلمحت القامة المنتصبة تقترب وقد تغشى تكوينها الغبار .كان عمي متزوجا من قوقازية مهاجرة ، هجر لأجلها الدنيا وعاش معها في تلك البلدة التي تتلاشى مع الصحراء بعد أن ابتلعت الرمال حدودها .
عمي كان آخر الرجال الكبار في أسرتنا ، وهو يحتل مركزا اجتماعيا مرموقا في تلك البلدة المنفية التي ابتلعها المكان، ونسيها الزمان .
وضحت ملامحه تدريجيا وهو يسير باتجاهنا ، بل لقد لمحت على البعد دارته الكبيرة التي تشبه جزيرة تسبح في محيط من الرمال ، بينما أصدقاؤه ومريدوه يتحلقون أمام الدار، يتنادمون ويشربون الشاي والقهوة ، ويتناولون شطائر زوجته التي أنجبت له الكثير من الأبناء والبنات ، مما جعل البيت الكبير يزداد اتساعا وغرفه تزداد عددا مع كل قادم ، وبمرور الوقت كبر الأبناء وتحول البيت إلى مستعمرة أو محمية طبيعية ، تنغل بالكائنات الحية من أشخاص وقطط وأرانب وحمام . هذه المخلوقات أصبحت وكأنها طورت غرائزها الفطرية ، فالقطط كانت تصادق الكناري ، والأرانب تخلت عن القفز والهرب ، أما الحمام فقد نسي حذره وهجر أبراجه وأصبح يلتقط غذاءه من صومعة الغلال الملحقة بالفناء الكبير. كان لتلك الكائنات أسماء ، وكانت تعرف أسماءها . وكانت الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها ،زاحفة أوطائرة أوماشية ، تستبيح لنفسها دخول أي مكان في البيت إلا الكلاب. صحيح أنها كلاب( الوولف ) المدللة الأصيلة والمدربة
إلا أن أمور الطهارة والنجاسة كان لها الأولوية في بيت الرجل المتدين حد التشدد.
كانت البنت عندما تبلغ السادسة تتحجب ، وعندما تصبح في سن البلوغ ،يُغطى وجهها وجسدها برداء أسود ، و يُربط صدرها الذي بدأ لتوه بالبروز ، بقماط من شاش ناعم يُشد حوله حتى يستوي مع محيطه ، وهي إجراءات ضرورية لتتمكن من الذهاب إلى المدرسة ، مخفورة بالكلاب والإخوة . عالم غريب عن عالمنا في العاصمة ، مختلف بتفاصيله كلها ، إلا الحب . فقد كان عمي يحبنا ويرجو أمي أن ترسلني في الإجازة لأنني أمثل له رائحة المرحوم أبي. وكان أهل هذا البيت ينظرون إلي باعتزاز وحب وتقدير كأنني هبطت عليهم من كوكب آخر.وكنت رغم سنواتي الثمانية أحس بتميزي واختلافي عنهم في الملبس والمنطق والنظر إلى الأمور ، وهو شعور كان يخفف من حزني لفراق أمي التي لا أنسى دمعاتها الحبيسة لحظة تودعني الحافلة التي تسلمني لعمي. قطع علي صوت عمي الجهوري الحنون حوارا من طرف واحد مع كلبيّ الحارسين ، وكان قد اقترب مهرولا يغالب العاصفة :
* أهلا بالغالية بنت الغالي.
التقينا في منتصف الطريق بين الحافلة وبيت عمي ، ووجدتني أغرق في حضنه الأبوي الدافىء وعباءته الموشاة تلفني فيما طارت قبعته القوقازية المصنوعة من الفراء عن رأسه . أرسم المشهد الآن وأتخيل :
* قوقاز في وسط الصحراء . ربما أجعله عنوانا لقصة فيما بعد.
فتح عمي عباءته الفاخرة فخرجت منها ، وتناول من تحت إبطه كيسا فتحه ، ثم قبّل رأسي وأعادني إلى داخل عباءته وقد تناول من الكيس قميصا ألبسني إياه فوق ثوبي الأبيض الجميل ، وبنطالا جمع بداخله أطراف ثوبي القصير ، ثم تناول شعري وجمعه بين راحتيه وأدخله عنوة داخل قبعة مكسيكية كبيرة .استغربت مما يجري ولم أفهم وقتها سببا لذلك.
نظر إلي باستحسان ، ثم ترقرقت في عينيه دمعات غزيرة .وسألته :
* عمي . ألم تقل لي أن بلفور هو والد اللنبي؟ فأجاب بنعم ، وسألت :
* ألم تقل أن اللنبي أنثى ؟ فلماذا تسميها اسما مذكرا ؟ افتعل عمي الجدية وغالب ابتسامته وهو يقول
* لقد كبرت يا بنيتي .
ألبس عمي الكيس رقبة أحد الكلبين ، وحقيبتي الصغيرة رقبة الآخر .
لوحة مرسومة بالرمال والهواء ، جمال لا يمكن وصفه ، كتلة نحتية متحركة ذوبت حافاتها حبات الرمال التي تملأ الجو ضبابا جافا .
كنت بلهفة للوصول ، لأستقل الدراجة الهوائية وأطوف بها حول الدار الكبيرة ، ووصلنا إلى الجمع المنتظر أمام الدار . قدمني عمي إليهم بسرعة واقتضاب:
* عيسى . ابن أخي .
______________
حنان الأغا
19_2_2008

أديبتنا الغالية الراقية الأستاذة حنان

ها أنت ذي تقتحمين بثقة أفقا جديدة ، وترودين أرضا بكرا ، وتحلقين في مدارٍ جديد ، بجناحي الرؤيا والتشكيل ، والقدرة على تصوير المشهد المبتكر لتقديم هذه الشخصية الإنسانية الفريدة "العم" وعالمه الخاص ، حيث هجر الزمان والمكان وهاجره إلى الضباب ولكنه احتفظ فيه من زمانه الأول ومكانه القديم هذين الاسمين الدالين "بلفور" صاحب الوعد المشؤوم ، و"اللنبي" صاحب الجرائم البشعة ، لكنهما في هذه الرؤية التشكيلية المشهدية عبر الضباب الذي يعيشه قد صارا اسمين لكلبين حارسين خادمين ، على أن هذا الملمح لا يقع في بؤرة القص ، الذي تطغى فيه شخصية العم وهذا الرفض العجيب لكل ما هو مؤنث حتى على مستوى الأسماء! ليبقى أنموذجا قصصيا بشريا خاضعا للتأمل !



ودمت بكل الخير والسعاد والإبداع

حنان الاغا
13-03-2008, 09:48 PM
أديبتنا الغالية الراقية الأستاذة حنان
ها أنت ذي تقتحمين بثقة أفقا جديدة ، وترودين أرضا بكرا ، وتحلقين في مدارٍ جديد ، بجناحي الرؤيا والتشكيل ، والقدرة على تصوير المشهد المبتكر لتقديم هذه الشخصية الإنسانية الفريدة "العم" وعالمه الخاص ، حيث هجر الزمان والمكان وهاجره إلى الضباب ولكنه احتفظ فيه من زمانه الأول ومكانه القديم هذين الاسمين الدالين "بلفور" صاحب الوعد المشؤوم ، و"اللنبي" صاحب الجرائم البشعة ، لكنهما في هذه الرؤية التشكيلية المشهدية عبر الضباب الذي يعيشه قد صارا اسمين لكلبين حارسين خادمين ، على أن هذا الملمح لا يقع في بؤرة القص ، الذي تطغى فيه شخصية العم وهذا الرفض العجيب لكل ما هو مؤنث حتى على مستوى الأسماء! ليبقى أنموذجا قصصيا بشريا خاضعا للتأمل !
ودمت بكل الخير والسعاد والإبداع
____________________________

أهلا بالصديق الأديب د. مصطفى

لا أملك سوى سروري بوجودك مع هذه القصة .
ولا يسعني إلا تأمل التأمل .

كل الشكر لك أيها المبدع.

حسام القاضي
14-03-2008, 11:29 AM
أديبتنا الكبيرة / حنان الاغا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بداية لن أستطع ان أضيف ما يذكر بعد رأي أستاذي القدير / مصطفى عراقي
ولكن هذا لن يمنعني من إبداء رأيي المتواضع
أخذتني قصتك من البداية للنهاية بقوة عنصر التشويق الذي يجعل المتابعة لاهثة حتى النهاية
المفاجئة والتي تفجر اكثر من علامة إستفهام..
رأيت المنفى (منفى العم) أو منفى القضية حيث ضاعت بين أقصى الشرق " القوقاز " وأقصى الغرب " المكسيك" أو بين الجليد وبين الحر اللافح..
هل صارت القضية مجرد شذرات منثورة هنا وهناك؟؟
هذا العم الذي يعيش خارج حدود الزمان والمكان الذي اختار ان يكون حارساه بلفور واللنبي ،وكأنه يضعهما كحدود للمشكلة "القضية الفلسطنية "؛فالأول بدأها والثاني رسخ لها..
هذا العم هل هو اكتفى بالعيش بين أبنائه ومريديه معلقاً آماله على الغير؟؟!!
هل ينتظر الفرج عبر ابنة اخيه التي كان يمني نفسه أن تكون ذكراً؟؟
القصة مليئة بالإسقاطات التي تحتاج إلى قراءات متعددة ،
أرجو ان تقبلي خواطري هذه حول عملك الفني المميز الذي جمع بين التشكيلة المشهدية (كما ذكر أخونا د/عراقي) وبين الرمزية والكثير من الإسقاطات الداعية إلى مزيد من التأمل.
تقديري واحترامي.