المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سقط سهوا



محمد نديم
13-04-2008, 12:19 AM
سقط سهوا
كان عليه أن يشد كل تفاصيل وجهه اليابس ليرسم شبه ابتسامة خافتة ، كي يثبت للعالم أجمع أنه متفائل وسعيد.
كثيرا ما يصب الآخرون زيت نصائحهم المتسخ، في آذاننا أن نتحمل مشاق الحياة وهمومها ، لم يكلف أحد من الحكماء نفسه أن يهمس للحياة في أذنها ،أن تتحملنا قليلا وترأف بنا ، نحن الفقراء، عيال الله ، كُتـَلُ الطين والهم والحزن ، كوابيس الحكام ، وعفاريت الأغنياء ، والدمى على طاولات الشاهبندر وجوقة التجار ، في ليالي سمرهم الحمراء ، ومؤتمرات صفقاتهم السوداء، واتفاقياتهم الشيطانية ، التي يحددون فيها سعر و حجم ولون وقوة الحزام الذي سنربطه على بطوننا في كل عام مالي جديد.
********
الجو نار ... نار ... نار ...
********
حملته أمه سهوا ، ووضعته كرها ، فكان القادم غير المرغوب فيه ، التاسع في الترتيب لأبوين فاقا البشر و الحجر في تحمل ذل الحاجة وضربات العوز ، فاتته كل القطارات :قوائم المواليد ، التعليم ، بطاقة التموين ، الإسكان الشعبي ، فاسمه قد سقط سهوا من كل السجلات ، لم يأخذ رقما في تقرير وزير العدل.
رقم مطموس إلا من سجل واحد ،( التهرب من التجنيد الإجباري ) ، كان عليه الآن أن يثبت أولا وجوده ، وثانيا براءته وثالثا حقه في أن يكون له مكان في طوابير الخبز اليابس ، المخلوط بأشياء لا نعلمها نحن الجهلاء.
*********
الشمس تتحدى الجميع في صيف لا يرحم سوى من يملك أجهزة التكييف ، الشارع مختنق بطوق أمني جبار.
الأرصفة منتفخة بالبشر والبضائع والعربات المدفوعة باليد والوجوه الكالحة، والأجساد التي يجب وعن جدارة ، أن تمثل الوطن في مؤتمر سوء التغذية الدولي . من ها هنا يمر الزعيم ، فليـُنتزع حقٌ الجميع في أن يذهب في الاتجاه الذي يريد ، لابد لنا جميعا أن نتوجه توجها عاما ، لأسباب قومية ودواعي أمنية.
******
يداه المعروقتان تمسك بتلابيب أوراق عديدة ، ملوثة بحبر، وعرق وغبار ، وفي عينيه حسرة ولهفة بين الحزن على موظف لم يدركه ، ومدير لم يلحق به.
• اسمك مطموس ،
• الختم غير واضح ،
• أين شهادة ميلادك ؟
• الصورة غير لامعة
• المسئول في المصيف ،
• الختم مقفول عليه ،
• المدير مشغول.
• خرج لتوه.
السكرتيرة تحتسي الشاي وتتطلع لأسطر الأخبار في جريدتها اليومية دونما اكتراث ، تتوجه بالحديث لزميلتها دون أن تدرك أن صاحبنا يقف بينهما.تتوجه بالكلام عبر جسده وكأنه هواء!!!
********
لا نعلم من في خدمة من؟
********
الجو نار ... والأسعار أيضا ... عجوز تموت تحت أقدام المتصارعين في طابور الخبز اليومي ....
( من معالم شوارعنا وصورتها الثابتة في الأذهان) : ( طابور العيش) .
********
بالروح بالدم نفديك يا هذا ....
هتاف انقطع من شوارعنا منذ عقد أو يزيد حول مواكب المماليك ... انكشف المستور وترك معظم الزعماء بلادهم عارية مكشوفة العورة أمام قطاع الطرق الدوليين ، دون مكتسبات سوى المقابر الجماعية.
********
الطوق الأمني يزداد ضيقا ، جميع الاتجاهات مغلقة ، نصال الأسلحة تلمع تحت الشمس الحارقة ، الجنود كالتماثيل دون دم في العروق أو اهتزازات في الملامح ، بلغت القلوب الحناجر، المحشورون في الحافلات الحديدية الساخنة ، المحشودون فوق الأرصفة ،في الأزقة الجانبية ، تحت الجسور ،خلف الحوائط ،تحت أعمدة الكهرباء البارزة أسلاكها استعدادا لصعق ما تيسر لها من المساكين .
راح الجميع يتنفسون الهواء الأسود بصعوبة بالغة.بدا الميدان وكأنه قنبلة قابلة للتفجر في أي ثانية.
لابد لنا أن نتحمل من أجل المصلحة العامة، ، نحن فقط جموع الحرافيش علينا أن نتحمل من أجل المصلحة العامة ، في سبيل أن يمر الزعيم بسلام ، علينا أن نذوب، نموت ، نذهب إلى الجحيم ، لدواع أمنية.
********
لا نعلم من في خدمة من ؟
********
الجو نار ..... والقلوب أيضا
********
• لا عليك من رؤيته.
• أمر محال .
• سيمر حتما من شارع ما .
• يمكنك أن تلمح جانب وجهه خلف زجاج السيارة الأسود .
• لالا ليس هو ....إنه البديل المستنسخ.
• هل يأكل مثلنا؟
• الجو نار ... والأسعار أيضا .
طوى دفتر أوراقة الرطبة بين أصابعه المتسخة.تحسس مكان حافظة نقوده الفارغة إلا من بطاقة الهوية ، الأمر لا يسلم في هذا اليوم النكد ، من مخبر سري يقبض على ذراعك ويسألك : بطاقتك؟
********
ذاب الموظفون – اجتماع هام للمدراء العوام والمساعدون ووكلاء الوزارة ، بمناسبة زيارة الزعيم للمؤسسة .
********
• اسمك ليس هنا ..
• لا رقم لك ....
• مر الأسبوع القادم ..
• .الأسبوع القادم؟
• عليه أن يسلم نفسه للمخفر المجاور ...
• خائن متهرب من الخدمة الإلزامية للوطن العزيز ...
الوطن العزيز ... شجر وماء ومتاجر وشوارع ومخافر... ليس لنا فيها نصيب ... سوى مساحة من زنزانة رطبة قاسية الحوائط.وموقع قدم ، تموت فيه بحرية تحت أقدام المتصارعين على كسرة خبز أسود.
********
إقالة وزير العدل صباح اليوم. وتعيين مدرب جديد للمنتخب الوطني.
********
الطوق الأمني كثعبان يزحف مضيقا الدائرة حول المساكين ، الملايين تحتضر بين فكي كماشة.
• أنتم السبب ... يا فرعون من فرعنك؟
• جبناء .
• خانعون.
• زبالة.
•والله ولي النعم رجل طيب .
• الحاشية هم السبب.لعنهم الله في كل كتاب.

********
على من يعرض أوراقه ، وهمومه ، وانكسار قلبه؟ كلهم في اجتماعاتهم الهامة بمناسبة زيارة الزعيم للمؤسسة الرسمية.
الطوق الأمني يزداد خنقا لعنق الشارع وعروق الحارات ، وشرايين الأزقة.
صرخة (سيارة الزعيم) تخترق المكان وتملأ القلوب رهبة والأجساد ارتعاشا، ، الأعناق تمتد لرؤية أي شيء ـ الزحام يضيق حول الموكب ، النكد والتعطيل ، والذل ، والإهانات ،والركلات والهراوات ، وقنابل مسيلة للدموع ، ورصاص حي ،هي الهدايا الدائمة المصاحبة لمواكب مماليك العصر.
الهرج والرعب تسيدا المكان.
********
غطوه بأوراقه التي اجتهد شهورا في جمعها وختمها وتأشيرها .... لم تكف سوى لتغطية جزء من وجهه الذي كان داميا مطموس الملامح.
*******
وقف الضابط يسجل ملاحظاته ببرود :
أنه في ساعته وحينه ، وعند مرور موكب ولي النعم ، حاول موتور مجهول الهوية الإمساك بيد الزعيم ، لولا يقظة الجهات الأمنية.

جوتيار تمر
13-04-2008, 01:04 AM
دكتور ..
اهلا بعودتك وسلامتك...

ما اجده دائما يبرز في نصوصك ، سواء على المستوى البناء القصصي المحكم، او على المستوى الدلالي للرموز التي تتمثل من خلالها الرؤية النابعة من عمق السارد لتتشكل المغزى والمعنى اللذان يقومان بمهمة التصوير المشدهي في ذهن المتلقي ،هو قدرتك على فرض صورتك على باقي الصور الذهنية لدى المتلقي،
وهو ما يجعلني ارى دائما القدرة الفائقة هنا على التحكم في التخيل ، من من زاوية الانشغال الذهني بالمعيش النفسي والاجتماعي السياسي ايضا، وكعادتك تضع الزمكانية عرضة للمتلقي وفق فواصل مشهدية سريعة يتجول المتلقي من خلالها الامصار والاحياء والمؤسسات والبيوت وو..ليصل الى نقطة البداية والتي تتمثل بنقد الواقع العياني.

دم بخير
محبتي
جوتيار

وفاء شوكت خضر
14-04-2008, 02:06 PM
كان عليه الآن أن يثبت أولا وجوده ، وثانيا براءته وثالثا حقه في أن يكون له مكان في طوابير الخبز اليابس ..

الديب الرائع نديم الحرف ..
قصة مستوحاة من واقع بائس مرير نعيشه ولا نحس به إلا حين نجد يد القانون تلاحقنا لتطالنا بحسابها على أخطاء وقع فيها سهوا أو مع سبق الإصرار والترصد ، فكلاهما سواء في حالة تنفيذ العقوبة ..

بحق أقف أمام هذا النص الذي كتب بقدرة هائلة سردا وتصويرا عاجزة ..
القاص المبدع هو الذي يجبرنا على أن نكون أحد أبطال نصه ، نعيش الحدث بكل انفعالاته ، نتوحد به ومع كاتبه ، ليشكل الكل وحدة المجتمع الذي نحن جزء منه ..

اعذر قصور ردي على نصك الزخم بفكرته واسلوب الطرح وجمال السرد ..
لعله يكون لي مرور آخر في وقت لاحق ..

أسأل الله ان يمن عليك بوافر الصحة ..
تحيتي وتقديري أيها السامق ..

عماد أبو لطيف
16-04-2008, 10:14 AM
الشاعر و الأديب و الصديق الجميل نديم:
من ذاكرة مخزونة أخرجت ذاكرة مؤلمة لواقع يسربل الصورة..
و يجعل العيون كالحة، يغطيها ملح القهر..و نوح الدموع على المأساة..
تجدنا نتصاعد مع أحداث قصتك بذاك الخط (الدرامي) الملامس لشغف الروح على التمرد..
و هذا بطل حكايتنا كلنا يرسم وجوهنا على قارعة الذل و فوق بقاع المجهول..
فينتابنا جنون مزمن..تتكاثف معه أحقادنا على الحقيقة فتمطر صراخا من دم ينزف في تلافيف وجعنا..
من منا يا سيدي لم يسقط اسمه سهوا من قائمة (حقوق الإنسان) مثلا ؟
من منا يا سيدي لم يسقط اسمه سهوا من فرح في عيد ؟
من منا لم يسقط اسمه سهوا في شهادة ميلاد الحرية ؟
من منا لم يسقط اسمه سهوا في سعير الآدمية ؟
و من منا يا سيدي لم يسقط اسمه سهوا إلا من فروع الأمن و المخابرات ..؟!
بطلك يا سيدي النديم الذي شخصته هنا.. لم يعبر إلا عنا نحن..فقط نحن الذين كتبت أسماءنا على الرمل
أو في أحسن الأحوال على جذوع السنديان فاستحالت الى حطب في زمن شتم الأنبياء..!
طوبى لك عشق تورد بالدم..
طوبى لك ربيع أحلام يزهر أملا..
سلمت لنا شاعرا و قاصا جميلا.

محمد نديم
09-11-2009, 03:07 PM
الأخ والصديق
رفيق الأمل والألم
عماد أبو لطيف ...

استحالت ذاكرتنا ونحن صغار إلى كاميرات ترصد وتخزن ، أما الآن فما يحدث ( في سعير الآدمية ) فوق طاقة أية ذاكرة أن تتدرك كنهه ، ناهيك عن أن ترصده أو تسجله.
لك الود باقات لا يزوي عبيرها.
أخوك
محمد نديم.

ماهر يونس
15-10-2011, 12:56 PM
د.نديم،
إن كان لشيء أن يفقأ عين الجمال فهو هذا النص.
دمت بخير

الحسين المسعودي
15-10-2011, 07:06 PM
أخي الكريم :
لست أدري من أين أبدأ ، نص قصصي أقل ما يقال عنه ، تمكن صاحبه من الكتابة القصصية .

و سأتابع أعمالك بكل تأكيد.
دمت مبدعا

ربيحة الرفاعي
18-05-2013, 01:30 AM
مهارة في بناء المشهد القصّي مدهشة طوعت للكاتب عبر تداعيات الحدث في سرديته أفق التلقي وأخضعت لدلالات نصه مساحة التأويل في مرونة مكانية ضمن حدود ما يسمى بدول العالم الثالث وعناد وصفي يرسم تفاصيل لا تقبل إسقاطا على غيرها

مأساة نعرفها جميعنا

دمت بألق

تحاياي

د. سمير العمري
01-06-2013, 04:41 PM
قصة ترتكز على الواقع في زمن الانبطاح والانبهار ، وحين قام الشعب اليوم لتعديلها انتقل من النقيض إلى النقيض.

أحيي فيك هذا الألق الأدبي وهذه الرؤية العميقة الناقدة بشخرية سوداء من واقع الأليم.

دمت بخير وعافية!

تقديري

ناديه محمد الجابي
28-02-2014, 07:36 PM
قصة كتبت بالأسلوب الهزلي ( الكومييديا السوداء)
ففي قالب مفرط السخرية تحمل كل فقرة مفارقات تهاكمية
ونرى مزج ذكي بين الجدية العميقة والسخرية اللاذعة
إضافة إلى جرأة كبيرة في نقد الواقع الإجتماعي واالسياسي
عبر تقنية سرد ماتع ولغة رصينة محكمة.
قصة ( سقط سهوا) قصة لا يهم فيها النهاية ولا الحكاية
نفسها بل الطريقة التي تروى بها والنكتة البلاغية والشعور
العميق الذي نستشعره في كتابته بالتعاطف مع البشر المقهورين
والإشفاق عليهم غير مستثني نفسه منهم.
الأخ الكاتب والشاعر / محمد نديم
كتبت فامتعت فشكرا لك ـ وأتمنى ان اقرأ لك من جديد في الواحة
تحياتي وتقديري.

نداء غريب صبري
07-05-2014, 04:51 PM
قصة رائعة متكاملة كتبت ببراعة وجمال
وتحدثت عن الواقع بروعة

شكرا لك أخي

بوركت