المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الغروب " قصة لفيصل الزوايدي ( تونس )



فيصل الزوايدي
18-04-2008, 11:27 PM
الغـــروب ..

أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أَخَذَه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزَمَني زَمَني ما لا أُطيق ..
فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فَحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُـمومَها فـي دِمائي فَلا تُـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَنـي لِـحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الـخوفَ عنّي .. أسيرُ نَـحوَ الـمِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الـجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَـمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ الـمِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ فـي عَينيَّ .. أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا.. أُغادِرُ الـمَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتـي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُـهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته الـمُمَيَّزَةُ ما تَزالُ عَطِرَةً في الـمَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا على الطاولةِ ،كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. ترددت في مسامعي شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لـي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لـي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ فـي الصفحةِ الـمفتوحةِ أَمامي :" إِنَّـما تقتُلُنا الـحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيـمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَـمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ الهربَ مِنَ الـحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَـمضي الوقتُ ، لا أَبـحَثُ عَن ساعَةٍ و لا أحاولُ البَحثَ عَنها فانأ اعلم أنني لن أجد واحدة .. قَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنـزافَها الـمريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها ..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا ..

جوتيار تمر
19-04-2008, 07:27 PM
الزوايدي ...
لغة النص غير متكلفة ولا مصطنعة، اعتمدت العبارات الوحية ،المواقف في القصة تعكس بدون شك مواقف كاتبها ، حيث لا اتفق في مثل هذه النصوص والموقف مع نظرية فصل النص عن الكاتب، حالة السارد النفسية تبدو جليآ في القصة، و لعل حالة رفض الواقع هي الاخرى ماثلة ضمنيا في النص ، تجمع القصة بين اسلوب المباشرة بالتصوير ،والرمزية في القفلة، فكان التصوير المباشر لتفاصيل الواقع الذاتي والوجه والمرآة ، بينما الرمزية جاءت للخاتمة .

دم بخير
محبتي
جوتيار

سعيد محمد الجندوبي
20-04-2008, 03:37 AM
أخي العزيز فيصل محمد الزوايدي

نص مربك باعتماده على مفارقة الأنا\الآخر.. طرح عميق لفلسفة الزمن الذي يمر طويا معه أيامنا بدون رجعة

استمتعت بقراءتك

مودتي

سعيد محمد الجندوبي

فيصل الزوايدي
21-04-2008, 07:19 PM
الزوايدي ...
لغة النص غير متكلفة ولا مصطنعة، اعتمدت العبارات الوحية ،المواقف في القصة تعكس بدون شك مواقف كاتبها ، حيث لا اتفق في مثل هذه النصوص والموقف مع نظرية فصل النص عن الكاتب، حالة السارد النفسية تبدو جليآ في القصة، و لعل حالة رفض الواقع هي الاخرى ماثلة ضمنيا في النص ، تجمع القصة بين اسلوب المباشرة بالتصوير ،والرمزية في القفلة، فكان التصوير المباشر لتفاصيل الواقع الذاتي والوجه والمرآة ، بينما الرمزية جاءت للخاتمة .
دم بخير
محبتي
جوتيار

العزيز جوتيار .. عموما لا يمكن فصل النص عن كاتبه لان القلم يفضحه أكثر مما يعتقد ..
أعتز برأيك كثيرا فشكرا لدعمك المتواصل
دمت في كل الخير
مودتي الدائمة

فيصل الزوايدي
21-04-2008, 07:20 PM
الزوايدي ...
لغة النص غير متكلفة ولا مصطنعة، اعتمدت العبارات الوحية ،المواقف في القصة تعكس بدون شك مواقف كاتبها ، حيث لا اتفق في مثل هذه النصوص والموقف مع نظرية فصل النص عن الكاتب، حالة السارد النفسية تبدو جليآ في القصة، و لعل حالة رفض الواقع هي الاخرى ماثلة ضمنيا في النص ، تجمع القصة بين اسلوب المباشرة بالتصوير ،والرمزية في القفلة، فكان التصوير المباشر لتفاصيل الواقع الذاتي والوجه والمرآة ، بينما الرمزية جاءت للخاتمة .
دم بخير
محبتي
جوتيار
العزيز جوتيار .. عموما لا يمكن فصل النص عن كاتبه لان القلم يفضحه أكثر مما يعتقد ..
أعتز برأيك كثيرا فشكرا لدعمك المتواصل
دمت في كل الخير
مودتي الدائمة

فيصل الزوايدي
21-04-2008, 07:23 PM
أخي العزيز فيصل محمد الزوايدي
نص مربك باعتماده على مفارقة الأنا\الآخر.. طرح عميق لفلسفة الزمن الذي يمر طويا معه أيامنا بدون رجعة
استمتعت بقراءتك
مودتي
سعيد محمد الجندوبي

العزيز سعيد تسعدني اطلالتك البهية النقية في كل مرة و كذلك دعمك المتواصل
دمت لاخيك ايها الرائع
مودتي الدائمة

د. نجلاء طمان
04-05-2008, 12:20 PM
رائعة حد الغيث !!

الغروب, وسرد هادئ سيق بلغة شاعرية مؤثرة يغلب عليها اللون الأسود , الذائب في جراحنا والمعانق لطائر الغروب. الغروب وحياتنا التي تنفلت من بين أيدينا سنواتها كحفنة ماء تتسرب ,وتتبخر ولا حيلة لنا إلا في الانتظار. الغروب وانقضاء الزمن للخلف, رحلة بلا عودة هي رحلة الأيام, وزوال أسودَ شعرنا ليتلون ببياض الشفاة الراحل منها الحياة.

سيطر تيار الشعور هنا بشدة وكان معانقًا لمشاعر البطل اليائسة بتقدم سنوات عمره المصفوعة بوحدة قاتلة, فخرج الوصف الزماني ملتحمًا مع المكاني بشدة. وبرغم كون قطار العمر يسير للأمام فقط, إلا أن القاص ببراعة استطاع أن يرحل بنا للخلف , لنعيش رحلته مع فقد أبيه, وأوقفنا بعد الرحلة لاهثين , متعجبين ومعجبين, ونحن ندرك أننا إنما سافرنا معه هو- الذي ما هو إلا امتداد وتكرار لأبيه. وتدور ساقية الزمن لا تتوقف, على رقاب الجميع, بلا اختيار.

دمت في حفظ الرحمن

فيصل الزوايدي
06-05-2008, 06:37 PM
رائعة حد الغيث !!
الغروب, وسرد هادئ سيق بلغة شاعرية مؤثرة يغلب عليها اللون الأسود , الذائب في جراحنا والمعانق لطائر الغروب. الغروب وحياتنا التي تنفلت من بين أيدينا سنواتها كحفنة ماء تتسرب ,وتتبخر ولا حيلة لنا إلا في الانتظار. الغروب وانقضاء الزمن للخلف, رحلة بلا عودة هي رحلة الأيام, وزوال أسودَ شعرنا ليتلون ببياض الشفاة الراحل منها الحياة.
سيطر تيار الشعور هنا بشدة وكان معانقًا لمشاعر البطل اليائسة بتقدم سنوات عمره المصفوعة بوحدة قاتلة, فخرج الوصف الزماني ملتحمًا مع المكاني بشدة. وبرغم كون قطار العمر يسير للأمام فقط, إلا أن القاص ببراعة استطاع أن يرحل بنا للخلف , لنعيش رحلته مع فقد أبيه, وأوقفنا بعد الرحلة لاهثين , متعجبين ومعجبين, ونحن ندرك أننا إنما سافرنا معه هو- الذي ما هو إلا امتداد وتكرار لأبيه. وتدور ساقية الزمن لا تتوقف, على رقاب الجميع, بلا اختيار.
دمت في حفظ الرحمن

اختي د نجلاء .. قراءتك ايضا كانت رائعة و كنت في انتظارها لاني أعلم رقيها و ما خاب ظني و لن يخيب ان شاء الله
دمت في كل الخير
مع الود الدائم

بديعة بنمراح
07-05-2008, 01:19 AM
قصة جميلة، صيغت بإحساس مرهف و فنية.
و رغم كل الألم المسيطر، و رغم نغمة حزن و شعور بالوحدة
و ربما اليأس، لكن يبقى الأمل غائرا بين السطور، ينبئ باستمرار الحياة
و تعلقنا بها رغم مرارة نحسها أحيانا في خلقنا.
سلم قلمك أخي المبدع فيصل

فيصل الزوايدي
15-05-2008, 02:44 PM
قصة جميلة، صيغت بإحساس مرهف و فنية.
و رغم كل الألم المسيطر، و رغم نغمة حزن و شعور بالوحدة
و ربما اليأس، لكن يبقى الأمل غائرا بين السطور، ينبئ باستمرار الحياة
و تعلقنا بها رغم مرارة نحسها أحيانا في خلقنا.
سلم قلمك أخي المبدع فيصل

أخت بديعة .. سيبقى الحزن رفيق الانسان و صنو الحياة ..
أعتز بقراءتك و برأيك كثيرا و اسعدني ثناؤك
دمت في خير

ربيحة الرفاعي
19-05-2013, 11:46 PM
يسحرني هذا الأداء القصي المائز بعفوية شاعرية لغته، وسلاسة التعبير الدقيقة البناء، وتمكن الكاتب من أدواته القصية وفكرة نصه يروض بها السرد فينثال محملا بدلالات الحالة الشعورية للسارد تلون اللغة والصور بما فيها
القفلة حملت ترميزا لم يكن مباغتا لكنه أطلق العنان لخيال القارئ في نص لم يفرط في الرمزية رغم دلالات بعض ما استخدم في صوره

جميل وإبداعي حرفك أديبنا

دمت بخير

تحاياي

نداء غريب صبري
18-01-2014, 11:48 PM
اللغة شعر
والقصة شعور قوي
والحدث شاعري وإنساني

قصة رائعة ومعاناة صادقة
امتعتني قراءتها

شكرا لك أخي

بوركت