المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : زاد الأديب : عبارات جميلة تُسهم في تنمية ملكة البلاغة



د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 05:54 PM
أولا: من كتاب

سحر البلاغة وسر البراعة
للثعالبي



أولا:





ذكر الله تعالى ورسوله وكتابه
صلى الله عليه وسلم وكتابه
مقدمات
الحمد لله تبارك وتعالى، إن أولى ما فغر به الناطق فمه، وافتتح به كلمه، حمداً لله، واجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بالحمد قبل افتتاحها كما بديء بالنعمة قبل استحقاقها. الحمد لله كما افتتح كتابه الكريم، وفرقانه العظيم. الحمد لله شعار أهل الجنة كما قال الله تعالى: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". حمد الله خير ما افتتح به القول واختتم، وابتدئ به الخطاب وتمم. خير كلمات الشكر ما افتتح به القرآن من الحمد لله رب العالمين.
غرر التحاميد
الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولم يستنجح بأحسن من صنعه مرام. الحمد لله الذي جعل الحمد مستحق الحمد حتى لا انقطاع، وموجب الشكر بأقصى ما يستطاع. الحمد لله مانح الأعلاق، وفاتح الأغلاق. الحمد لله إبداء وإعادة. الحمد لله معز الحق ومديله، ومذل الباطل ومزيله. الحمد لله المبين أيده، المتين كيده. الحمد لله ذي الحجج البوالغ والنعم السوابغ والنقم الدوامغ. الحد لله معز الحق وناصره ومذل الباطل وقاصره. الحمد لله الذي أقل نعمه يستغرق أكثر الشكر والحمد لله الذي لا خير إلا منه ولا فضل إلا من لدنه.
وصف الحمد
حمد لا انقطاع لراتبه ولا إقلاع لسحائبه. حمداً يكون لإنعامه مجازياً ولإحسانه موازياً، وإن كانت آلاؤه لا تجازي، ولا توازي، ولا تباري، ولا تجاري. حمداً يتردد أنفاس الصدور ويتكرر تكرر لحظات العيون. حمداً يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة. حمداً يبلغ الحق ويقتصيه، ويمتري المزيد ويقضيه. حمداً يؤنس وحشي النعم من الزوال، ويحرسها من التغير والانتقال.
عادة الله جل ذكره
عادة الله لا تطلب لها غاية إلا قصرت الأوهام عنها، ولا تنسخ فيها آية إلا أتي بخير منها، لا يزال الله يجرينا على أحسن عادة، ويقسم لنا أفضل سعادة. عادة من الله كريمة لا تخلف، وعدة من تفضله لا تخلف، على أحسن ما اعتيد، من إحسانه العتيد، عادة الله جميلة تفوت الشكر وتسبقه، وتستوعب الحمد وتستغرقه، عادات الله قد فاتت مرام الهمم، وشأت تواريخ الأمم.
صنع الله ولطفه
للدهر نوائب تتخرم وتتطرف، ثم إن غمراتها تتجلى وتتكشف، فلله تعالى في أثنائها الصنع الجزيل والفرج القريب، سبحان من له في كل قضية ألطاف نعرفها ونثبتها في فضله ونعمته، أو نجهلها فنردها إلى عدله وحكمته. أحمد الله الذي لا يخلي عباده من صنع لهم تنطوي عليه أثناء النكبات إذا طرقت، ولطف بهم يلين صعاب الخطوب إذا جمحت. ألطاف الله تسير إلى عباده في طرق خفية المذاهب، رقيقة الجوانب. لله مع كل لمحة صنع حفي ولطف خفي، لله ألطاف سيبلغ الكتاب فيها أجله، ويعمل الإقبال في إتمامها عمله. صنع الله لطيف، وفضله بنا مطيف.
ذكر الله تعالى في أثناء الكلام
علام الغيوب، ومن بيده أزمة القلوب، الخبير بما تجن الظمائر، وتكن السرائر، العالم بما تفضي إليه الأمور، وبخائنة الأعين وما تخفي الصدور، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، سميع لراجيه، قريب ممن يناجيه، حكمه مقبول، وأمره مفعول، الله يعلم وهو أعلم شهيد، وأقرب للضمير من حبل الوريد، وكل خير بيديه، وتتوجه الرغبات إليه، الله الحفي بساؤله، المشفع لوسائله، الذي بيده مقاليد الأمور، ومفاتيح المقدور، الله منجز عداته، وحافظ عاداته، هو النافذ أمره، العزيز نصره، الجلي صنعه، الخفي مكره، أن الله يقضي ما يريد، وإن رغم أنف الشيطان المريد. هو السميع البصير، العالم بما يجن الضمير، من له الخلق والأمر، وسواء عنده السر والجبر، مولى الخلق، وباسط الرزق قد أحلته على ملي، وكتبت له إلى وفي، إن الله منجز وعده، ولا خلف عنده، الأمر له والخلق بيديه، والاستعانة به والتفويض إليه.
ذكر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم )
سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور. محمد نبي الله وصفوته وخيرته من بريته، مؤكد دعوته بالتأييد. ومفرد شريعته بالتأبيد، خيرة الله من خلقه. وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه. والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده. والآخذ بفرضه، مبارك مولده، سعيد مورده، قاطعة حججه. سامية درجه، ساطع صباحه. متوقد مصباحه، مظفرة حروبه. ميسرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وحتم بأن لا نبي بعده، نفصح بشعاره على المنابر. وبالصلاة عليه في المحاضر، ونعمر بذكره صدور المساجد، وتستوي في الانقياد لأمره حالتا المقر والجاحد، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً. وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً. وأوضحهم حجة وبرهاناً، صدع بالرسالة، وبلغ في الدلالة. ونقل الناس من طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم. أرسله الله للإسلام قمراً منيراً، وقدراً على أهل الضلال مبيراً.
الصلاة عليه مع الافصاح
صلى الله على محمد خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجمت بالصلاة عليه الطلبات، صلى الله على محمد نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث، صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق، محمد رسوله الذي ملكه هوادي الهدى، ودل به على ما هو خير وأبقى، صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، محمد الذي أدى الأمانة مخلصاً، وصدع بالرسالة مبلغاً ملخصاً، صلى الله على أتم بريته خيراً وفضلاً، وأطيبهم فرعاً وأصلاً، وأكرمهم عوداً ونجراً، وأعلاهم منصباً وفخراً.
ذكر الآل
وعلى آله الذين عظمهم توقيرا، وطهرهم تطهيرا، وعلى آله مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومجاديح البركة ومصابيحها، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان، الطيبين الأخيار، والطاهرين الأبرار، الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجراً له على الناس، وعلى آله الذين هم حبل الهدى، وشجرة التقوى، وسفينة النجاة العظمى، وعروة الدين الوثقى، الذين هم زينة الحياة، وسفينة النجاة، وشجر الرضوان، وعشيرة الإيمان، وعلى الشجرة التي أصلها نبوة، وفرعها مروة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل.
ذكر القرآن
حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوضحى، هو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وهوى، فضائل القرآن، لا تستقصى في ألف قران. حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الله الجاهل، ويعمل العاقل. وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي. بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور. من فضائله أنه يقرأ دائباً، ويكتب ويمل فلا يمل. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن إمامه، وتصور الموت أمامه. طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه، ومفتاح لبه. من خلق القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله.
وإلى لقاء متجدد مع طائفة من العبارات البليغة

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 05:59 PM
كتاب الأزمنة والأمكنة
وما يتصل بها ويشاكلها
في الربيع وإقباله
قد أقبل الربيع بأسعد فاله، والحسن والطيب في إقباله. أقبل الربيع يتبسم، ويكاد من الحسن يتكلم. تنفس الربيع عن أنفاس الأحباب، وأعار الأرض أثواب الشباب. تنفس فنفس عن المكروب، وأهدى الروح والراحة للقلوب. استخرج من زهر البساتين، ما دفنته يد الكوانين. جاء يجر أذيال العرائس، وينشر أجنحة الطواويس. تبلج عن وجه بهج، وجو غنج، وروض أرج، وطير مزدوج. أقبل برائحة الجنان، وراحة الجنان، أسفر عن ظل سجسج، وماء سلسل وروض مدبج. جاء معيداً للأنس العازب، ومطلعاً للهو الغارب. تبلج عن نوره، وتفتح عن نوره. لاحت منهجه، وراقت مباهجه. مرحباً بالفصل، الجامع لأحكام الفضل، زائر من القلوب قريب، وكله حسن وطيب. زائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير. انكشفت غمة الشتاء الكالح عن غرة الربيع الضاحك، أذال الربيع أذيال الحرير، وعبرت أنفاسه عن العبير. تبدل الشباب من المشيب، وبرز في مطرفه القشيب. عطر السهول والوعور، فعطل المسك والكافور. الزمان معتدل، ووجهه طلق مقتبل. وسحابه ماطر، وترابه عاطر، كأن الجنة قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها، قد تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة، لبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر. حاك الربيع حلل الأزهار، وصاغ حلى الأنوار.
في النسيم ووصف أثره
زائر وجهه وسيم، وفضله جسيم، وريحه نسيم، قد سفر الربيع عن خلق الكريم، ونطق بلسان النسيم. وأفاض ماء النعيم، هب النسيم من الكرى، وهب على الورى، وعطر الثرى. جر على الأرض أزره، وحل عن جيب الطيب زرره. نسيم الريح، نسيب الروح، قد ركضت خيول النسيم في ميادين الرياض. يا لك من منظر جناني، وماء فضي، ونسيم عطري، قد حلت يد المطر إزرار الأنوار، وأذاع لسان النسيم أسرار الأزهار.
في وصف الرياض
وضة رقت حواشيها، وتأنق واشيها، روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة. روضة قد نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الإسكندراني. روضة قد راضتها يد المطر. روضة دبجتها أيدي الندى. أخرجت الأرض أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، واطلعت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتفاوحت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها.
في وصف البساتين
بستان رق نوره النضيد، وراق ورقه النضير. بستان غصنه خضر، وربعه خصب، ونوره نضر، وماؤه خصر. بستان كأنه أنموذج الجنة. بستان لا يحل لأريب أن لا يحل به. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار، أشجار كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر. أشجار كأن الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها.
في ذكر النرجس والورد والشقائق
الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد موموق مرموق، وكأنه من الجنة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الود، إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحباً بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأن عين النرجس عين، وورقه ورق، النرجس نزهة الطرف، وظرف الظرف، وغذاء الروح، ومادة الروح، شقائق كتيجان العقيق على الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات الموردة. شقائق كالزنوج تجارجت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها.
في غناء الأطيار
الأرض زمردة والأشجار وشي، والماء سيوف والطيور قيان. قد غردت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار، إذا صدح الحمام، صدع قلب المستهام، أنظر إلى طرب الأشجار، لغناء الأطيار. ليس للبلابل، كخمر بابل، على غناء البلابل.
في وصف أيام الربيع
يوم سماؤه فاختيه، وأرضه طاوسية. يوم جلابيب غيومه صفاق، وأردية نسيمه رقاق، يوم معصفر السماء، ممسك الهواء، معنبر الرياض مصندل الماء. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر. يوم تبسم عنه الربيع، وتبرج فيه الروض المريع. كأن سماءه مأتم، وأرضه عرس.
مقدمة المطر
لبست السماء جلبابها. سحب السحاب أذياله. احتجبت الشمس في سرادق الغيم، ولبس الجو مطرفه الأدكن. باحت الريح بأسرار الندى. ضربت خيمة الغمام، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، سحابة رعدها يصم الأذن، وبرقها يخطف العين. سحابة ارتجزت رواعدها، وأذهبت بروقها مطاردها. نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق. الرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب. ابتسم البرق عن قهقهة الرعد. زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق. رعدت الغمائم وبرقت، وانحلت عزالى السماء فطبقت. سحابة هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها. كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق.
في السحاب والمطر
انحل عقد السماء، وهي عقد الأنواء. انحل سلك القطر، عن در البحر. أرخت السماء عزاليها، وأغرقت الأرض وسحت نواحيها. هطلت بمثل أفواه القرب، انتثرت كانتثار العقود. استعار السحاب جفون العشاق، وأكف الأجواد. انحل خيط السماء، انقطع شريان الغمام. سحابة تنخل علينا ماء البحر، وتفض لنا عقود الدر. سحاب حكى المحب في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جبالا، وتمد من الأمطار حبالا. سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا. تحللت عقد السماء بالديمة الهطلا. غيث أجش يروي الهضاب والآكام، ويحي النبات والسوام. غيث كغزارة فضلك، وسلاسة طبعك، وصفاء ودك. وبل كالنبل. سحابة يضحك من بكائها الروض، وتخضر من سوادها الأرض. سحابة لا تجف جفونها، ولا يخف أنينها، ديمة روت أديم الثرى، ونبهت عيون النور من الكرى. سحابة ركبت أعناق الرياح. مطر كأفواه القرب، ووحل إلى الركب. أندية قد من الله معها على البيوت، بالثبوت، وعلى السقوف، بالوقوف.
في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد. ماء كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، يسيح في الرضراض، سيح النضناض. ماء إذا مسته يد النسيم حكى سلاسل الفضة. ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدرع كالمسيح. ماء يتصندل ويتسلسل. كأن الغدير بنبات الماء مصندل مطير، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة رداء، كأنها مرآة مجلوة على ديباجة خضراء، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الجنائب. غدير ساكن إلا من نسيم الصبا يحركه بأنفاسه، وينقش وجهه بأرواحه. ماء يبوح بأسراره وصفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده. ماء أرق من دموعي فيك وأعذب من أخلاقك، وأبرد من فعل الزمان حين رماني بفراقك. نهر يتسلسل كالزرافين، ويرضع أولاد الرياحين.
في ذكر الصيف ووصف الحر
قوي سلطان الحر. فرش بساط الجمر. أقبلت أوائل الحر، وغير الهواء طبعه، وبدل مزاجه. حر الصيف، كحد السيف. أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حر يلفح حر الوجه. حر يشبه قلب الصب. ويذيب دماغ الضب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكي نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حر يهرب له الحرباء من الشمس. قد صهرت الهاجرة من الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الصيخود. أيام كأيام الفرقة امتداد، وحر كحر الوجد اشتداد حر لا يطيب معه عيش، ولا ينفع ثلج ولا خيش. حمارة القيظ، تغلي بصدر الغيظ، آب آب يجيش مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، والتنور المسجور. هاجرة كالسعير الجاحم، تجر أذيال السمائم، ظلها يحموم، وماؤها محموم.
ذكر الخريف
انحسر قناع الصيف. خف سلطان الحر. خبت جمرة الهواجر. جاشت جيوش الخريف. فررت رايات المصيف، قد أخذ البرد يجمشنا بلواحظه، ويقرصنا بأنامله. أخذت عواصفه تهب، وأقبلت عقاربه تدب. قد حلت الشمس الميزان، وعدل الزمان الميزان، لفح المصيف قد كف، ووقع الشمس قد خف، خفت الرياح، وجفت الأعواد.
في الشتاء ووصف البرد والثلج والجمر
ألقى الشتاء كلكله، وأحل بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أرواقه، وحل نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، أناخ بنوازله، وأرسى بكلاكله، وكلح بوجهه، وكشر عن أنيابه. في الشتاء كلب، وفي الهواء غلظ، قد عادت هامات الجبال شيبا، ولبست من الثلج ملاء قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج. ألم المشيب بهامات بيضت لممها، قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا، برد يعبس له الوجه الطلق. برد يزوي الوجوه، ويعمش العيون، ويسيل الأنوف. برد يغير الألوان، ويقشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد أجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق. حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره، نحن بين لثق ودمق وزلق.
في الاستظهار على البرد
ليس للبرد كالبرد والجمر، إذا كلب الشتا، فدرياق سمومه الصلا.
في نعت الأيام الشتوية
يوم كأن الأرض شابت لهوله. يوم فضي الجلباب، مسكي النقاب. يوم عبوس قمطرير، كشر عن ناب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشمال زمامه، وكساه الصر ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة. والأرض قارورة، والسماء بلورة. يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهوآؤه كالزنانير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وأعالي الزجاج. يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر.
أبواب ذكر الليل والنهار
ووصف أوقاتهما واختلاف أحوالهما، وما يتصل بهما
في ذكر اقبال الليل وانتشار الظلمة وطلوع الكواكب
أقبلت عساكر الليل، خفقت رايات الظلام، خلع الليل علينا فروته، وألبسنا الظلام بردته. تفقد الشفق، في ثوب الغسق، قيد الظلام الحاظ العيون. وستره الظلام بذيله. أقبلت وفود النجوم. جاءت مواكب الكواكب. تفتحت أزاهير النجوم. نورت حدائق الجو. أذكى الفلك مصابيحه، طفت النجوم في بحر الدجى.
ذكر الليالي المظلمة
لبس الليل جلباباً من القار، ليلة كجناح الغراب، وشعر الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها في لباس بني العباس، كأنها في لباس الثكالى، كأنها من الغبش، موكب الحبش. ليلة يضل بها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط. ليلة قد حلك إهابها، وكأن الفجر يهابها. ليلة استعارت لون الخيل الدهم، كأن الأرض مصبوغة فيها بالمداد.
في ذكر الليالي الطلقة الطيبة المشكورة
ليلة سحر كلها. ليلة كأنها نهار. ليلة من حسنات الدهر. ليلة هواؤها صحيح ونسيمها عليل. ليلة كبرد الشباب. ليلة فضية الأديم، مسكية النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرة الدهر. ليلة مسكية الأديم، كافورية النجوم. ليلة رقد الدهر عنها، وطلعت سعودها، وغاب عذالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. هي ليلة باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة يلتقي طرفاها. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار. ليلة كما شاء المحب. ليلة مسروقة من الدهر، ليلة مريضة النسيم، صحيحة الهواء، موشية بالنجوم، مطرزة بالقمر.
في ضد ذلك وذكر طول الليل
ليلة من غصص الصدر، ونقم الدهر. ليلة كلها غيوم وغموم. ليلة كما شاء الحسود، وسآء الودود. ليلة كأن أول يوم الحشر آخرها. ليلة قص جناحها، وضل صباحها. ليلة كليل الأعمى. ليل ثابت الأطناب طامي الغوارب، طامح الأمواج وافي الذوائب. ليل كأن نجومه نجوم الشيب. ليل كأن نجومه عقلت فلا تسير، ولا تدور ولا تغور. ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار.
فيما يذكر من السهر لاعتراض الهموم والفكر
بات فلان بليلة نابغية، بات بليل السقيم، بات بليل السليم، بات في الصيف بليلة شتوية، سامرته الهموم، وعانقته الغموم، قد توسد ذراع الهم، وافترش مهاد الغم، قد اكتحل السهاد، وافترش القتاد، اكتحل بمراود الأرق، وتقلب على مراقد القلق، جفا أجفانه الكرى، كأنما خلقت عيناه للسهر، النجوم شهود سهاده، كأن النوم قد غضب على مآقيه، اكتحل بملمول السهر، وتململ على فراش الفكر، أقض مهاده، وقلق وساده، هموم تفرق بين الجنب والمهاد، وتجمع بين العين والسهاد، سهر يفتق الجفن، ويقذي العين، ويؤذي القلب، ويوحش النفس. طرف برعي النجوم مطروف، وفراش بشعار الهم محفوف، كأنه على النجوم ريب، وللظلام نقيب.
ذكر النعاس والنوم
شرب كأس النعاس، انتشى من خمر الكرى، خاط النعاس جفونه، أخذ الكرى يجشمه، بل ثقل رأس، وتقاضي نعاس، عسكر النعاس بطرفه، وخيم بين عينيه وجفنه. خاض ضحضاح الكرى، ملأ النعاس جفنه، وشغل عينه. مال مع النعاس. مس النوم مقلته. غلبته عيناه. كأن النعاس يطالبه بدين. غشيه نعاس الوحدة، ضرب على أذنه وقد ملأ عينه، غرق في لجة الكرى. تمايل من سكرة النوم. غفوة كحسوة الطآئر، نومه كلا ولا قلة، وكتصفيفة الطآئر خفة، كحل الليل الورى بالرقاد، وشامت الأجفان أعينها في الأغماد، عبث الكرى بهم، وأرخى مفاصلهم، وأمال أعناقهم.
انتصاف الليل
قد تنصفنا عمر الليل، واستغرقنا شبابه. مضى من الليل صدره، وانقضى شطره. اكتهل الظلام. شاب رأس الليل. كاد ينم النسيم بالسحر، الصبح حمل بين أحشآء الدجى.
تناهي الليل وتصرمه
انكشف غطاء الليل. انهتك ستر الدجى. رفع سجف الظلام، رق ثوب الدجى، نعى الديل الظلام، هرم الليل، وشمطت ذوائبه، وتقوس ظهره، وتصرم عمره، قوضت خيام الظلام، خلع الأفق ثوب الدجى، استرد الليل خلعته، انتقب الليل بالصبح، أعرض الظلام وتولى، وتدلى عنقود الثريا، طرز الصبح قميص الليل، باح الصباح بسره، خلع الليل ثيابه، وحدر الصبح نقابه.
إقبال الصبح وانتشار النور
لاحت تباشير الصبح، افتر الفجر عن نواجذه. ضرب الصبح في الدجى بعموده. تبسم عن نوره. فتك الصبح بالليل، بشر الديل الصبح، سل سيف الصبح في قفا الظلام. بث الصبح طلائعه. نشر ثياب النور. تبرقع وجه الليل بغرة الصبح أطار بازي النهار غراب الليل. عزلت نوافج المسك بشمامات الكافور، وانهزم جند الظلام من عسكر النور. خلعنا خلعة الظلام ولبسنا ردآء الصبح، ملأ الأذان الآذان، برق الصباح، وسطع الضوء، وطلع النور، وأشرقت الدنيا، وأضاءت الآفاق.
أفول النجوم
مالت الجوزآء للغروب، ولت مواكب الكواكب، تناثرت عقود النجوم تعطل الأفق من حلي الكواكب، تفرقت أسراب النجوم، فرت من حدق الأنام، وهي نطاق الجوزآء، وانطفأت قناديل الثريا.
طلوع الشمس وانبساط الضوء
بدا حاجب الشمس. ذر قرن الشمس. ارتفع الحجاب عن حاجبها. لمعت الشمس في أجنحة الطير. كشفت قناعها، ونشرت شعاعها. ارتفع سرادقها، وأضاءت مشارقها. انتشر جناح الضو، في أفق الجو. طنب شعاع الشمس في الآفاق، وذهب أطراف الجدران. افتضضنا عذرة الصباح.
منوع النهار
أيفع النهار وارتفع. ترجلت الشمس. استوى شباب النهار. علا روق الضحى.
انتصاف النهار
بلغت الشمس كبد السمآء، انتعل كل شيء ظله، قام قائم الهاجرة، رمت الشمس بجمرات الهجير.
اصفرار الشمس وغروبها
اصفرت غلالة الشمس، صارت كأنها الدينار، يلمع في قرار المآء، نفضت تبراً على الأصيل، وشدت رحلها للرحيل، بقل وجه النهار، وطر شاربه، تصوبت الشمس للمغيب، وتضيفت للغروب، وآذن جنبها بالوجوب، شاب النهار، وأقبل شباب الليل. وقعت الشمس للغيار، وشافه الليل لسان النهار. شرقت الشمس بروحها، جنحت للغروب، وشارفت درح الوجوب، الغزالة مصوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب. والجو في أطمار مبهجة من أصائله، وشفوف مورسة من غلائله. استتر وجه الشمس بالنقاب، وتوارت بالحجاب.
ذكر ابتداء الليل إلى انتهائه
كان ذلك من مفتتح النهار إلى مختتمه، ومن قرنه إلى قدمه، من مطلع الفلق، إلى مجمع الغسق، فلان يركب في مقدمة الصبح، ويرجع في ساقة الشمس، من حين تفتح الشمس جفنها إلى أن تغض طرفها. من حين تسكن الطير في أوكارها، إلى أن تنزل السراة من أكوارها.
أبواب الأمكنة والأبنية في وصف البلاد
بلدة كأنها صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض. بلدة كأن محاسن الدنيا مجموعة فيها ومحصورة في نواحيها، بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق، وهواؤها نسيم وماؤها رحيق. بلدة معشوقة السكنى، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان، وجوها عريان وحصاها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة وليلها سحر، فطعامها هني، وشرابها مري. بلدة واسعة الرقعة، طيبة البقعة. كأن محاسن الدنيا فيها مفروشة، وصورة الجنة بها منقوشة، واسطة البلاد وسرتها، ووجهها وغرتها.
في ضد ذلك
بلد متضايق الحدود والأفنية، متراكب المنازل والأبنية. بلدة حرها موذي، وماؤها موبي. بلدة وسخة السماء، ومدة الهواء. جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزور، وتشرينها تموز، فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق. بلدة ضيقة الديار، سيئة الجوار، حيطانها أخصاص، وبيوتها أقفاص، وحشوشها مسابل، وطرقها مزابل.


وإلى اللقاء مع أجمل العبارات

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:01 PM
في ذكر الوطن
بلدة هي عشه، وبها منزله وعيشه. بلد لا يؤثر عليه أبداً، ولا يصبر عنه أبداً، عشه الذي فيه درج، ومنه خرج. مقطع سرته، ومجمع أسرته، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه.
في الحصون والقلاع
حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم. حصن يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر. يكاد من علاه يغرف من حوض الغمام، كأنه فوق السحاب سحاب. حصن انتطق بالجوزاء، وناجت بروجه أبراج السماء. قلعة قد حلقت في الجو كأنها سحابة، كأن الغمامة لها عمامة، كأنها تناجي السماء بأسرارها. قلعة بعد في السماء مرتقاها، حتى تساوى ثراها مع ثرياها. قلعة تتوشح بالغيوم، وتتحلى بالنجوم. أصلها في التخوم، وفرعها في النجوم. قد حلق جناحها إلى عنان النجم. شماء عن المرتقي، صماء عن الراقي. قد جاوزت الجوزاء سمتاً، وعزلت السماك الأعزل سمكا. هي في الحصانة متناهية، وبالوثقة موصوفة، ممتنعة على الطلب والطالب. منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب. لم تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطراف، قد مل الولاة حصارها ففارقوها عن طماح منها وشماس، وسئمت الجيوش ظلها فغادرتها بعد قنوط ويأس، فهي حمى لا يراع، ومعقل لا يستطاع. تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي قد عاهدتها على التسليم من القوارع. قلعة تحوي من الرفعة قدراً لا يستهان مواقعه، وتلوي في المنعة جيداً لا تستلان أخادعه، ليس للوهم قبل القدم إليها مسرى، ولا للفكر قبل الخطو نحوها مجرى.
في القصور
قصر كأن شرفاته بين النسر والعيوق، كأنها تسامي الفرقد. قصر يرتقى من سطحه إلى الشعريين. اكتست له الشعرى العبور، ثوب الغيور. قصر طال مبناه، وطاب مغناه، كأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع مريع شرفات كالعذارى شددن مناطقهن، وتوجن بالأكاليل مفارقهن. قصر أقرت له القصور بالقصور عنه، كأنه سحاب، في نحر السحاب
في الدور السرية
دار قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة، كأن بانيها استسلف الجنة فعجلت له، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصر، إن مات صاحبها مغفوراً له فقد انتقل من جنة إلى جنة. دار قد اقترن اليمن بيمناها، واليسر بيسراها، الجسوم منها في حضر، والعيون منها على سفر. دار هي دائرة الميامن، ودارة المحاسن، دار دار بالسعد نجمها، وفاز بالحسن سهمها. دار قد أخذت أداة الجنان، وضحكت عن العبقري الحسان. دار يخدمها الدهر، ويأويها البدر، ويكنفها النصر. دار هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر. دار كأنها خان، يدخلها من وفى ومن خان. صحن تسافر فيه العيون، بهو بهي، ورواق رائق، بيت فضي الحيطان، رخامي الأركان.
في الدور المتداعية الخالية
دار لبست البلى، وتعطلت من الحلى، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا. دار قد صارت منهم خالي، بعد ما كانت بهم حالية. دار قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد حيطانها، شاهد اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وخرابها ينشر، أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركع وسجود، سقفها أرض، وأرضها تل.


وإلى لقاء في ظلال سحر البلاغة:

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:07 PM
كتاب أحوال الإنسان


في ذكر الشاب الرشيد وترشحه للمعالي
جمع نضارة الشبان إلى أبهة الشيب. هو على حدوث ميلاده، وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سن وشيبه. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتهل. قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه مواعد. أرى له في ضمان الأيام، ودائع الحظوظ والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح، قد استكمل قوة الفضل، ولم يتكامل له سن الكهل. ما زالت مخايله وليداً وناشئاً، وشمائله صغيراً ويافعا. نواطق بالحسنى عنه، وضوامن للنجح فيه. قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال، حمدت عزائمه، قبل أن حلت تمائمه. وشهدت مكرماته، قبل أن درج لداته.
وخط الشيب وانتشاره
شعر الشيب بشعره. عرض البياض بعارضه. نور غصن شبابه. ضحك المشيب برأسه. لاحت حلية الشيب في عذاره. لمعت نجوم الشيب في ليل شبابه. لاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرج وتبيض. بدت في رأسه طلائع المشيب وطوالع القتير. أخذ الشيب بعنان شبابه. ذرت يد الزمان كافوراً على مسكه. مد المشيب طرازاً على وجهه، وكتب أسطراً في عارضه. طرز الشيب برد شبابه. حط المشيب بربعه، وخط القتير على فوده. لاح أقحوان الشيب في بنفسج شبابه، ألم وفد الشيب بفوده. غزاه الشيب بجيوشه، كتبت يد الشيب في فوديه، مواعظ يقرأها الأنام عليه، أقمر ليل شبابه. صاح النهار بجانب ليله. افتر له الشيب عن ناب الأسود، وأشار إليه بمخلب الأسد. قد فضض الزمان آبنوسه. اشتمل الشيب على عارضه، ألجمه الشيب بلجامه، وقاده بزمامه. سال وادي الشيب في مفرقه. اعتم بالمشيب وتلثم به. لاح نور الهموم في عارضيه. قنعه الشيب خماره، وأحل به أثقاله. علاه غبار وقائع الدهر وحكايات الزمن. أخذت الأيام من شبابه. بينما هو راقد في ليل شبابه إذ أيقظه صبح المشيب.
في الاكتهال والاحتناك والارعواء عن مجاهل الشباب
قضى باكورة الشباب، وانفق نضارة الزمان. طوى مراحل الشباب، وأنفق من عمره بغير حساب. أخلق بردة الصبي، ونهته النهى عن الهوى. جاوز الشباب مراحل، وورد من المشيب مناهل. التفت إلى الأربعين، وشارف طلاع الخمسين. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغداف العقعق. فل الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. انتهى إلى أشد الكهل، واستعاض من حلك الغراب قادمة النسر، افتر عن ناب القارح، وارتفع عن مقال القادح. قرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدهر، أدرك عصر الحنكة، وأوان المسكة. جمع قوة الشباب، إلى وقار الشيب. أسفر له صبح المشيب، وعلته أبهة الكبير. خرج عن حد الحداثة، وارتفع عن عذر الغرارة. نفض غبرة الصبى، ولبى داهية الحجى. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب. سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب. لما قام الشيب له مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح.
استحكام الشيب وبلوغ الشيخوخة
الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة. الشيب مقدمة الهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد إلى الموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. الشيب ساحل الحياة. الشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر. صفا التبر على مثقب الجمر. من عرف الستين أنكر نفسه. فلان قد تناهت به الأيام تحليماً وتهذيباً، وتناهت به السن تحكيماً وتجريبا. قد وعظه المشيب بوخطه وخبطه، وألسن بابنه وسبطه، قد تضاعفت وفود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مس الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، ساء عليه أثر علو السن، واعتراض الوهن. فلان من ذوي الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية.
في الهرم ومشارفة الفناء
هم هرم قد أخذ الزمان من عقله، كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء، تركه كذي الغارب المنكوب. حنا قوسه الكبر، هريق ماء شبابه، استشن أديمه، كسر الزمان جناحه. نفض الدهر مرته. طوي ما نشر منه، قيده الكبر، رسف رسفان المقيد، مجتث الجثة، كأنه عثة، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنية. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدته قد تناهت. هل بعد الغاية منزلة? أم بعد الشيب سوى الموت مرحلة، ما الذي يرجى ممن كان مثله في تقاصر الخطى، وتخاذل القوى، وتداني المدى، والتوجه إلى الدار الأخرى? أبعد دقة العظم، ورقة الجلد وضعف الجسم، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال? إن الذي بقي منه ذماء ترقبه المنون بمرصد، وشلشة هي هامة اليوم أو غد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وأشرف على دار المقام.

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:10 PM
كتاب الطعام والشراب
وما ينضاف إليهما، ويقترن بهما
في الفواكه والثمار
كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمهات الراح. عنقود كالثريا. عنب كأنه مخازن البلور، وظرف النور، وأوعية السرور، وأمهات الرحيق، في مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب كأنه شهدة بالعقيق مقنعة، وبالعقيان مقمعة. رمان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيباً ومنظراً حسناً، كأنه زئبر الخز الأغبر، على الديباج الأصفر. تفاح نفاح، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العنبر، وطعم السكر. ورسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على العسل. مشمش كأنه الشهد في بنادق الذهب.
ذكر الجوع
لا هجوع، مع الجوع، سلطان الجوع يسيء الملكة، هو أجوع من ذئب معشش بين أعاريب، قد أثر الجوع في الأخلاط. العيون قد انقلبت، والأكباد قد التهبت. تحلبت الأفواه، توقدت الأكباد. امتدت إلى الخوان الأعناق، وأحدت نحوه الأحداق، وتحلبت له الأشداق.
وصف القدور
قد قامت خطباء القدور. فاحت القدور بأطيت من المسك الأصهب، بالعنبر الأشهب، قدور أبكار، بخواتيم النار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها، دهماء تهدر كالفنيق، وتفوح بالمسك الفتيق.
مقدمة الطعام
أفرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. كل من الطعام ما حدث. لا يطيب حضور الخوان، إلا مع الإخوان. الأكل منا للحاجة، ومنك للمساعدة. البخل بالطعام، من أخلاق الطغام، الكريم لا يحظر تقديم ما يحضر،
وصف الموائد
مائدة كدارة البدر. مائدة تباعد بين أنفاس الجلاس، مائدة مثل عروس. مائدة نظيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيبات. مائدة كالعروس مجلوة، من الطيبات مملوءة. مائدة قد زخرفت رياضها، وملئت حياضها، فمن قانئ بإزائه فاقع، ومن حالك في تلقائه ناصع. مائدة كأنما عملها صناع صنعاء. مائدة تجمع بين أنوار الربيع، وأثمار الخريف.
وصف الألوان من الأطعمة
رغفان كالبدور المنطقة بالنجوم. أحسن ما يكون وجه الخوان، إذا اخضرت شوارب الرغفان. ترى البقل على وجه الخوان، كما بقلت أوجه الغلمان الحسان. جدي كأنما ندف على جنبه القز. حمل ذهبي الدثار، فضي الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلت الشمس الحمل، حمل خلف شهرين، على الخلفين، ثم رعى شهرين، فهو شبران في شبرين، زير باجة، هي للمائدة ديباجه، تشفي السقام، ولونها السقيم. سكباجة تفيق الشهوة، وأسفيذ باجة تغذين وطباهجة يتفكه بها، وخبيص يختم بخير. مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة. في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف. طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك. قلية كالعود المطرى، مغمومة تفرج غم الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط خز مشتبكة. كأنها قمر بالشمس ملتحف. كأن المري عليها عصارة المسك، على سبيكة الفضة. شواء يتقطر عرقا، ويتسايل جردابه مرقا. أرزة ملبونة، في السكر مدفونه. دجاجة مشوية لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشر. دجاجة دينارية، ثمناً ولوناً. شواء وشراس وفالوذج رجراج. طباهجة تغذي، وفالوذجة تغذي. أسفيذباجة تصفح قفا الجوع.
في وصف ألوان من الحلواء
فالوذج بلباب البر، ولعاب النحل. كأن اللوز فيه كواكب في سماء عقيق. قطائف، فيها لطائف. عصيدة تجمع بين جنى النحل والنحل. ما الخبيص إلا نعمة مجموعة، ولذة معجونة. تؤدي طعم العافية، وتختم بحسن العاقبة. لوزينج ليلي العمر، يومي النشر، رقيق القشر، كثيف الحشو. لولبي الدهن، كوكبي اللون.
ذكر النهم الأكول
شيطان معدته رجيم، وسلطانه ظلوم، هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. كأن في أمعائه معاوية، يأكل أكل الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، الليث الهاصر، والعقاب الكاسر. لو أكل الفيل لما كفاه، ولو شرب النيل لما رواه. يجوب جوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يقول بالقصاع، لا بالمصاع، يرى ركوب البريد، في حضور الثريد. أصابعه ألزم للشواء من سفود. أنامله كالشبكة، في صيد السمك. يستكثر من الجوارشات المنقدة للسدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبل الانهضام. إذ هو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه. تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وترعى أرض الجيران. لما عكفنا على الخوان، أسرع في الرغفان، وكرع في الجفان، وفقأ أعين الألوان.

ابراهيم عبد المعطى
26-04-2008, 06:10 PM
د/ مصطفى عراقى
خالص الشكر والإمتنان على هذا الكنز الثمين فى علوم اللغة وعلم الكلام
وجزاك الله خيرا .
ابراهيم عبد المعطى

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:12 PM
د/ مصطفى عراقى
خالص الشكر والإمتنان على هذا الكنز الثمين فى علوم اللغة وعلم الكلام
وجزاك الله خيرا .
ابراهيم عبد المعطى



أديبنا السامق الأستاذ إبراهيم عبد المعطي
وجزاك الله عنا خير الجزاء أيها السباق إلى الخير

ولا حرمنا الله حضورك المبارك وكلمتك الطيبة

ودمت بكل الخير والسعادة والود


مصطفى

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:13 PM
كتاب وصف النظم والنثر
وأصحابهما وآلاتهما وأدواتهما
وصف حسن الخط
خط يجري مجرى السحر، ويرتفع حسنه عن النعت. رأيت من خطه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور ظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ. خط كأنه صبح منقش بظلام، كأنه ليل على صفحات نور، كأنه حديقة الأحداق. خط كالروض الممطور، والوشي المنشور، والدر المنثور. خط كما يفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي، في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أخذ من الطواويس ظهورها، ومن البزاة صدورها. خط كالتبر المسبوك، والوشي المحوك. خط أملح من صولجان المسك، في ميدان الورد، أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر، فلان يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. كأن يده تنشر وشيا، أو تنظم درا. كأنه مطرز بالظلام رداء الصباح. خط كأن القلب يشعر منه نورا، والعين تجني نورا. خط يبهر الطرف، ويفوت الوصف. خط كالرياض، والمقل المراض، والإقبال بعد الإعراض. أمتعت طرفي ما شئت بمحاسن خطه ولفظه، وأخذت منهما بأوفر قسط المستفيد وحظه. تحيرت بين ظلام وصباح، وعقد ووشاح. خطه خطة الحسن.
في سرعة الكتابة
يده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري. يده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل. كأن يده على القرطاس جناح طائر في سراب مائر. فلان أنامله الرياح، وخواطره البحار. فلان سريع البنان، بديع البيان. لا يحبس عنان قلمه، أو ينثر الدر في كلمه. قلمه يهيم على وجهه، غادراً رأسه في درجه. أخف من حسوة طائر، ولمعة بارق، وخلسة سارق.
وصف النثر بما يشتمل عليه من الألفاظ والمعاني
ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فك عان. ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار. ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب، بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق، يوم الفراق. حسبت ألفاظه در السحاب، أو أصفى قطراً وديمة، ومعانيه در السحاب، بل أوفى قدراً وقيمة. كلام قريب شاسع، ومطمع مانع. كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء، وكالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام يصعب على التعاطي، ويسهل على الفطنة. كلام لا تمجه الآذان، ولا يبليه الزمان. ألفاظ كالبشرى مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالريحان والراح. كلام مستهل متسلسل كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام. ملح كنوافذ السحر، وفقر كالغنى بعد الفقر. كلام كبرد الشرراب، على أكباد الحرار، وبرد الشباب، في خلع العذار. كلام كثير العيون، سلس المتون رقيق الحواشي، سلس النواحي. كلام هو السحر الحلال، والماء الزلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب الناضر. نظرت منه إلى صورة الظرف بحتا، وسورة البلاغة سبكاً نحتا. ألفاظ هي خدع الدهر وعقد السحر. ألفاظ تسر المخزون، وتسهل الحزون، وتعطل الدر المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقي من الكلف. كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه. ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها. ألفاظ حسبتها في رقتها منسوخة من صحيفة الصبى، وظننتها لسلامتها مكتوبة عن إملاء الهوى. كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع بها سمع الشيخ العقيم. كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، ودنا حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم سما حتى صار بالمنظر الأعلى. كلام حسن الديباجة، صافي الزجاجة، رقيق المزاج، حلو المساغ، نقي السمك، مقبول اللفظ، قرأت جليا، حوى معنى خفيا، وكلاماً قريباً، رمى غرضاً بعيداً. لو أن كلاماً أذيب به صخر، أو أطفئ به جمر، أو عوفي به مريض، أو جبر به مهيض، لكان هذا. كلامه يقود سامعيه إلى السجود، ويجري في القلوب كجري الماء في العود. فلان ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلام تسعى إليه الفور، وينتفض إليه العصفور. كلام يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان. كلام منه يجتنى الدر، وبه يعقد السحر، وعنده يعتب الدهر، وله يشرح الصدر. كلام يقرب جناه، ويبعد مداه، ويؤنس مسمعه، ويؤنس مصنعه.
ذكر البلاغة والبلغاء
ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، ويبسط رهان القول أو ميدانه، بل هو أن يبلغ أمد المراد، بألفاظ أعيان ومعان أفراد، من حيث لا مزيد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان. فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأن الألفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره، والمعاني تتغاير في الانثيال على أنامله. فلان مشرفي المشرق، وصيرفي المنطق، البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنه أوحي بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره. فلان يحز مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذناباً لا رؤوساً، وأجساداً لا نفوساً. فلان لا يبلغ المعنى ويرضى بعفو الطبع، ويقنع بما يخف على السمع. يوجز فلا يخل، ويطنب فلا يمل. لله فلان أخذ بأزمة القول يقودها كيف أراد ويجذبها أنى شاء، فلا يعصيه بين الصعب والذلول، ولا يسلمه عند الحزون والسهول. كلام يشتد مرة حتى تقول الصخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس. يقول، فيصول، ويجيب، فيصيب، ويكتب فيطبق المفصل؛ وينسق الدر المفصل. يرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامة لم ترنق.
في سرعة الخاطر ونفاذ الطبع
خاطرة البرق أو أسرع لمعا، والسيف أو أحد قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا. هو من يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعاني على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعي، ويستنبط المشروع العميق بيسير جري. كلامه عفو اللسان، وفيض اليد، ومساوقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الجدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع.
زلاقة اللسان والفصاحة
لسانه يغيض البحور. ويفلق الصخور. ويسمع الصم، ويستنزل العصم. خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشى في خطابه رتة، ولا تتسلط على حواره فترة، ولا يتحيف بيانة عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة. فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة. لو وضع لسانه على الشعر حلقه، أو على الصخر فلقه، أو على الجمر أحرقه، أو على الصفا خرقه. أما ترى فلاناً ولسنه? وكيف يجر في الفصاحة رسنه. كأن لسانه ثعبان ينساب بين رمال، أو ماء يتغلغل بين جبال. كأن لسانه مخراق لاعب، أو غرار سيف قاضب. قد أحسن السفارة، واستوفى العبارة، وأدى الألفاظ واستغرق الاغراض، وأصاب شواكل المراد، وطبق مفاصل السداد. لسانه كلسان ابن الحمرة، أو سنان عنترة.
ذكر الاطناب
بسط عنان الخطاب، ومد أطناب الإطناب، وطلب الأمد في الإسهاب. قال حتى قال الكلام لو أعفيت، وكتب حتى قالت الأقلام قد أحفيت. قد أتسع به مشرع الإطناب، وانفرج مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى من عنانه. نفض ما في رأسه، وفرغ جعبة وسواسه. تصرفت في كذا فأطلت وأطبت، وقلت فأطنبت. قال فأطال، وجال في بسط المقال كل مجال. إذا اسحنفر في الكلام طفح آذيه، وسال أتيه، انثال عليه الكلام، انثيال الغمام، واستجاب له الخطاب، ولا صوب الرباب.
وصف النثر والنظم معاً
نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد. نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق. رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفاً، وقصيدة تمزج بها الراح لطفاً. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجنان. نثر كما تفتح الزهر، ونظم كما تنفس السحر. نثر ترق نواحيه وحواشيه، ونظم تسحر ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة توردت أشجار نهدها. رسالة تضحك عن زهر وغرر، وقصيدة تنطوي على حبر ودرر، لم ترض في برك بأخوات النثرة من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشعرى من شعرك. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر، ولذ طعم الكرى بعد برح السهر، وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر. كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، شعر من حلة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق.
وصف لشعر
قصيدة في فنها فريدة. قصيدة أخلصت على قصد، وفريدة أتت من فرد. هي صوب العقول، تغبر في نواصي الفحول. عروس كستها القوافي، وحلتها المعاني. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع. شعر ملكني العجب به، وبهرني التعجب منه. شعر لا مزية الإيجاز أخطأته، ولا فضيلة الإعجاز تخطته. شعر رويته، لما رأيته، وحفظته، لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعة على الزمان لتحلى بها مكاثراً، أو تجلى فيها مفاخراً. راقني الشعر حتى شاقني، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام. قوي الأسر، صافي النحر. قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشى من الحضارة سجاحتها، فإن شئت قلت عبيد ولبيد، وإن شئت قلت حبيب ووليد. شعر يختلط بأجزاء النفس لنفاسته، ويكاد يعين كاتبه من سلاسته. قصيدته تجتنى بالأفكار، ونقل يتناول بالأسماع والأبصار، ونقل العلم والأدب، ألذ من نقل المأكل والمشرب. وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض الجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرقاد. لم أر غيرها بكراً استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدربه، فعليها رونق الشباب، ولها قوة المذكيات الصلاب. روح الشعر، وتاج الدهر. مقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر، خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتبريز، ويشبه في صفاء سبكه بالذهب الإبريز. شعر تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان لها أصدافا.
وصف الشعراء
لله دره ما أحلى شعره، وأنقى دره، وأصفى قطره، وأعجب أمره. قد أخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني. فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. أجمع أهل جلدته، على أنه معجز بلدته. فلان يغرب، بما يجلب، ويدع بما يبضع. حسن السبك، محكم الرصف، بديع الوصف. مرغوب في شعره، متنافس في سحره. فلان ضارب في قول الشعر بأعلى السهام، آخذ من عيون الفضل بأوفى الأقسام. ماء أشعار وطيتها، وكنز القوافي ومدينتها. شعاره، أشعاره، ودابه، آدابه. فلان ممن يبتده فيبتدع. فلان يجمع بين الإسراع، والإبداع. طبعه يمل عليه، ما لا يمل الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع، وخيم غير وخيم. لبيد عنده بليد، وعبيد وأقرانه له عبيد. الفرزدق عنده أقل من فرزدقة خمير، وجرير، يقاد إليه بجرير. قد نسج حللاً لا يلي جدتها الجديدان، ولا تزداد حسناً إلا على مرور الزمان.
في نعت الشعر السائر
نظمه قد نظم حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. أشعاره قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال. سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعار سارت مسير الشمس وهبت هبوب الريح، فطبقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالي تحفظها والجن تدرسها، والطير تتغنى بها.
في ذكر شعر الأكابر والملوك
قرأت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد فعلمت كيف يتكسر الزهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدر في رياض المهارق. شعر قد احتبس جريه على فكره، ووقف كيف شاء عند أمره. شعر يعلق في كعبة المجد، ويتوج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها غرة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرة الدهر، ويشدخ في جبهتي الشمس والبدر.
وصف الكتب البليغة الغزيرة وحسن موقعها
كتاب كتب لي أماناً من الدهر، وهناني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد، أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد، سواد الفؤاد. كتاب الظفر به نعيم، والنظر فيه فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من كتب الميامين، التي تأتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتددته من فرص العيش وغرره. كتاب آنس مسموعاً وملحوظاً، وكاد مودعه يكون مدروساً ومحفوظاً. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع. كتاب لو قرئ على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طياً ونشرا، وقبلته ألفاً ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كتاب قد أملته مزية المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل على لسانك، أما النقط على كل حرف نذيرة أناملك بحقه، وآخذ من كل سطر تتجشم تخطيطه نزهة. كذا إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبي خفا، وإذا تأملت من كلامك لفظا، ازددت من أنسي حظا.
تشبيهات هذه الكتب
كتاب كتب لي أماناً من الزمان، وتوقيع وقع عندي موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود، وكلت طرفي من سطوره بوشي مهلل، وتاج مكلل، وأودعت سمعي من بدائعه ما أنساني سماع الأغاني، من مطربات الغواني. نشأت سحابة من روضك غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة. سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست مما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطاً إلي من السماء اهتزازاً لمطلعه، وابتهاجاً بحسن موقعه. تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفض الرحيق المختوم. كتاب كالمشرق شرق به المسير وقميص يوسف جاء به البشير. هو في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وقد أهديت إلي محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شم الولد. ورد منه المسك ذكيا، والزهر جنيا، والماء مريا، والعيش هنيا، والسحر بابليا. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد.
وصف قصر الكتب
كتاب وجدته قصير العمر، كليالي الوصل بعد الهجر. لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر الأول. كتاب منتقص الأطراف، متقطع الأكناف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح. كأنه تعريض متحرز، أو توقيع مبرز. كتاب يلتقي طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب اتفق طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا، ما أظنني ابتدأته، حتى ختمته، ولا افتتحته حتى استتمته، ولا لمحته، حتى استوفيته، ولا نشرته، حتى طويته، وأحسبني لو لم أجود ضبطه ولم ألزم يدي حفظه لطار حتى يختلط بالجو فلا أرى منه إلا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدي لخفته، ويلطف عن حسي لقلته. عجبت كيف لم تحتمله الرياح قبل وصوله إلي، وكيف لم يختلط بالهواء عند حصوله لدي. كتاب قص الاقتصار أجنحته فلم يدع قوادم ولا خوافي، وأخذ الاختصار جدته فلم يبق ألفاظاً ولا معاني، كتابك كإيماء بطرف، أو وحي بكف، لم أفتتحه حتى استوفيته ولا نشرته حتى طويته.

د. مصطفى عراقي
26-04-2008, 06:14 PM
في نعت المداد
مداد كسواد العين، وسويداء القلب. مداد كجناح الغداف ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. مداد ناسب خافية الغراب، واستعار لونه شعر الشباب. مداد هو أبهى لدي من ألف فرس بهيم، وأشهى إلي من ملك الأقاليم.
في نعت القلم
أقلام جمة المحاسن، بعيدة عن المطاعن. تعاصي الكاسر المعاصر، فتمانع الغامز القاصر. صلبة المعاجم، لدنة المقاطع. أنابيب ناسبت رماح الخط في أجناسها، وساكنت أسود الغيل في أخياسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء. بطية الحفى، قوية القوى. لا يشظيها القط، ولا يتشعت بها الخط. أقلام ثجرية موشية الليط، رائقة التخطيط، كل معتدل الكعوب، قوي الأنبوب. باسق الفروع، روي الينبوع. هو أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان. هو للأنامل مطية، وعلى الكتابة معونة مرضية. نعم النجدة القلم. يقلم أظافير الدهر، فيملك الأقاليم بالنهي والأمر. إن أردت كان مسجوناً لا يمل الإسار، وإن شئت كان جواداً لا يعرف العثار. لا ينبو إذا نبت الصفاح، ولا يحجم إذا أحجمت اللقاح. القلم مطية تمشي براكبها رهوا، وتكسو الأنامل زهوا.
في نعت السكين
سكين كأن القدر سائقها، والأجل سابقها. مرهفة الصدر، مخطفة الخصر. يجول عليها فرند العتق، ويترقرق فيها ماء الجوهر. كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع في متنها. ركبت على نصاب أبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغها، وحب القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج. فكأنها ليل من تحت نهار، أو فحم أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر بازي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، إن أرضيت ولت متناً كالدهان، وإن أسخطت اتقت بناب الأفعوان. سكين أحسن من التلاق، وأقطع من الفراق. تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، فتملكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر، إلى إمهاء الحجر.

ماجدة ماجد صبّاح
26-04-2008, 09:43 PM
الدكتور الفاضل الكريم/ مصطفى
أمتعتني وأنا أقرأ،،،
رغم أنني لم أنته بعد
ولكن...لي عودة إن شاء الله
تقديري

سحر الليالي
26-04-2008, 10:00 PM
أستاذي الكبير [ د.مصطفى العراقي]

الإمتنان قليل جدا بحقك لما أتيته به هنا ..!
بارك ربي وبــ جهودك وأثابك عنا خير ا

تقبل اخلص احترامي وتقديري وتراتيل ورد

د. مصطفى عراقي
30-04-2008, 11:04 AM
الدكتور الفاضل الكريم/ مصطفى
أمتعتني وأنا أقرأ،،،
رغم أنني لم أنته بعد
ولكن...لي عودة إن شاء الله
تقديري

====

الأديبة الأريبة الأستاذة ماجدة


ولك الشكر خالصا ياصاحبة الهمة العالية في طلب العلم
والعزيمة الماضية في سبيل الأدب

بارك الله فيك
وفي حضورك النضير ، وحرفك المنير

د. مصطفى عراقي
30-04-2008, 11:07 AM
أستاذي الكبير [ د.مصطفى العراقي]
الإمتنان قليل جدا بحقك لما أتيته به هنا ..!
بارك ربي وبــ جهودك وأثابك عنا خير ا
تقبل اخلص احترامي وتقديري وتراتيل ورد
=====


أيْ بنيتي الرقيقة سحر الليالي


بل يكفي ويفيض يا ذات الحضور الأنيق الغالي

والخلق الجميل العالي

بوركت
وبوركت تراتيل وردك الزاهية

د. مصطفى عراقي
30-04-2008, 11:11 AM
كتاب الممادح والأثنية
وما يجري مجراها، ويأخذ مأخذها
المدح بشرف الأصل وكرم النسب
فلان من سر العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، وحسب شادخ. طيب العنصر والمركب، كريم المنصب والمنتسب. فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين. قد ركب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محل الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم. المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفي شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة، ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابراً عن كابر، وأخذ الفخر بين أسرة ومنابر، واكتسب الشرف على الأصاغر والأكابر.
ما يختص من ذلك بأبناء النبوة
استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقأت بيضته عن سلالة الطهارة. قد جذب القرآن بضبعه، وشق الوحي عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب. منتخب من أشرف العناصر. مرتضى من أعلى المحاتد. مؤثر من أعظم العشائر. قد ورث جامعاً عن جامع، وشهد له نداء الصوامع. هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزها.
في المدح يجمع بين شرفي الأصل والنفس وفضلي الإنتساب والإكتساب
فلان ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق، يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نجره وطبعه. هو الطيب أصله وفرعه، الزكي بذره وزرعة يجمع إلى عز النصاب، مزية الآداب. لا غرو أن يجري الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النحيب فرعاً مشيداً لأصله، له مع نباهة شرفه نزاهة ظلفه، ومع كرم أرومته وجذمه، مزية أدبه وعلمه. لن تخلف ثمرة غرس ارتيد له من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها، عصبة خيرة فضلها زاهر وشرفها على شرف النماء. وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. قد جمع شرف الأخلاق، إلى شرف الأعراق، وكرم الآداب، إلى كرم الأنساب. له في المجد أول وآخر، وفي الفضل قديم وحديث، وفي الكرم تليد وطريف. ليس كل من شرف عرقه، شرف خلقه. ولا كل عود طاب منجمه، طاب معجمه. ولا غرو أن يغمر فضله وهو نجل الصيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم. دوحة ضرب عرقها وسمق فرعها، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيأت ظلالها، وتهدلت ثمارها، وتفرعت أغصانها، وبرد مقيلها.
المجد والشرف والعلى
مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجوم كل مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه أفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق، ولسان الثناء بفضله نطوق. مجد يشير إليه النجم الثاقب، وشرف تحفظ طرفيه المناقب. فلك المجد عليه يدور، ويد العلى إليه تشير، يأنس ربع المجد إذا استوحش من استيلاء النقص، ويسكن إليه جأش الفضل. سما من المجد إلى رواسي الأعلام، حين رضي بمواطئ الأقدام، محله سامق، ومجده باسق، وشرفه نجم طارق.
الجود والكرم
فلان رفيق الجود وخليله، وزميل الكرم ونزيله، غرة الدهر وتحجيله، مواهبه الأنواء، وصدره الدهناء. بحر لا يظمأ وارده، ولا يمنع بارده. غوثه موقوف على اللهيف، وعونه مبذول للضعيف. يطغى جوده على وجوده، وهمته على قدرته. يوجب الصلات، كوجوب الصلاة. بابه غير مرتج، لكل مرتج. ينابيع الجود تتفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله. هو أوحد في الكرم، وغرة في وجه العالم. هو الكرم أنشيء نفسا، والفضل تمثل شخصا. لو أن البحر مدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. إن طلبت كريماً في جوده، مت قبل وجوده، أو ماجداً في أخلاقه. مت ولم ألاقه، صدره بحر ووعده نذر، قد حكم الآمال في أمواله، واستعبد الأحرار بفعاله. يهتز عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالركن. يد حاتم كبنانه من شماله. لا يبلغ كعب في الجود كعبه. له في كل مكرمة غرة الأوضاح، وقادمة الجناح. كريم ملء لباسه، موفق مر أنفاسه. صدره تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء. لا مكارم إلا ما صدر عن خلائقه، ولا مناجح إلا ما شيم من بوارقه. غمائم كرمه تفيض، ومآثر جوده تستفيض. يرى تحمل المغارم، من أعظم المغانم. مخلوق من طينة كريمة، ومجبول على أحسن شيمة. خوار العنان في ميدان المكارم.
الجمال وحسن الصورة
قمري التصوير، شمسي التأثير. خلقة سوية صحيحة، وصورة مقبولة صبيحة. منظر يملأ العين، ويملك النفوس. منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله. طلعة يطلع منها النيران، ويسجد لها الثقلان. مبرقع الغرة بالجمال، مسفر الطلعة بتباشير الإقبال. للعيون في محاسن وجهه مرتع، وللأرواح بها مستمتع. خلق وضي وخلق رضي، وفضل مضي.
البشر والبشاشة
طلعة عليها للبشاشة ديباجة خسروانية، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. غرة يجول فيها ماء الكرم، وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم. وجه كأن بشرته قشر البشر، ومواجهته أمان من الدهر. فلان يصل ببشره، قبل أن يصل ببره، ويحيي القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه. شمت من وجهه بارقة المجد، ورأيت في بشره تباشير النجح. قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه الأنواء. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرته، في روضة وغدير، بل في جنة وحرير.
العلم والأدب
هو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه في الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، هو شخص الأدب ماثلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف. تسقيها سماء الحرية، وتغذيها أرض المروة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، ومعرض الأنام إذا احتشدت. هم جمال الأيام، وخواص الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعة نضير، وليس له بحمد الله نظير. قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوي القويم. ما يؤنسه عن الوحشة إلا الدفاتر، ولا تصحبه في الوحدة إلا المحابر. همه مهرة فكرة يستفيدها، وشرود من الكلم يصيدها، فلان يحل دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال.
حسن الخلق
خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وصفى كدورته. خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. خلق كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الهواء المتفرقة على محبته، وتؤلف الآراء المتشتتة في مودته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النحل، وأطيب من زمن الورد. أخلاق أحسن من الدر والعقيان في نحور الحسان، أزكى من حركات الريح بين الورد والريحان.
الظرف واللباقة وحسن العشرة
فلان يستحط العصم بظرفه، ويستنزل النجم بلطفه. ما هو إلا غذاء الحبرة، ونسيم العيش، وقوت النفس، ومادة الأنس، وشمامة الظرفاء، وريحانة الندماء. فلان حلو المذاق، عذب المساغ، أعلى الناس في جد وأحلاهم في هزل. يتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب من الجنوب. ذو جد كعلو الجد، وهزل كحديقة الورد. قد طابت عشرته إذا عاشرته، ولانت قشرته، وواصلته فاستحسنت وصاله، وأحمدت خصاله. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من الغضارة يمطر. هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من ريح نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إن أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفاحة فائك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو تحية شارب.
طيب الخبر
فلان أخباره ذكية، وآثاره زكية. أخباره تأتينا كما وشت بالمسك رياه، ونم على الصبح محياه. قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزهر الأنيق. مناقب تشدخ في جبينها غرة الصباح، ويتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره. قد حصل له من حميد الذكر، وجميل النشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأني خرجت المسك فتيقا، وصبحت الروض أنيقا. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف، قبل الكشف. أخباره متضوعة كتضوع المسك الأذفر، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أخباره أرجة، وصفحاته بهجة.
حسن العهد وكرم الود
هو من يثقل ميزان وده، ويحصف ميثاق عهده. فلان كريم العهد، صحيح العقد. سليم الصدر في الود، حميد الصدر فيه والورد. هو لإخوانه عدة يشدهم ويقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ثابت ركن الإخاء، صافي شرب الوفاء. حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو من لا تدور المداهنة في عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. فلان يسري إلى كرم العهد، في ضياء من الرشد. عهده نقش على صخر، ووده نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصفو. في وده غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصحب، وزاد للركب. هو في حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب.
إصابة الرأي
النجح معقود بنواصي آرائه، واليمن معتاد في مذاهب أنحائه. له الرأي الثاقب الذي تخفى مكائده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذي تنجح مباديه، وتبهج تواليه. رأي كالسهم أصاب غرة الهدف، ودهاء كالبحر في بعد الغور وقرب المغترف. لا يضع رأيه إلا مواضع الإصابة، ولا يصرف تدبيره إلا إلى مواقع السداد والأصالة. له فكر عميق، ورأي وثيق. يعرف من مبادئ الأفعال، خواتم الأعمال، ومن صدور الأمور، أعجاز ما في الصدور. رويته رأي طبيب، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح. له رأي لا يخطيء شاكلة الصواب، ولا يخشى عليه بادرة العثار. فلا يخمر الرأي ويجيله، ويجيد الفكر ويطيله، حتى يحصل على لب الصواب ومحض الرأي. إذا أذكى سراج الفكر أضاء الظلام. هو قطب الصواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يرد إليه التدبير، يرى العواقب في مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. رأي يرد السيف مثلما، والرمح مقلما. آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب. له رأي لا تغيب كواكبه. رأي طبيب داء المملكة. رأي منير، وللأعداء مبير. كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين الإلهام والتوفيق. فلان يرى بأول رأيه آخر الأمر، وأصاب شاكلة الصواب في رأي محضه، وتدبير مخضه. عجباً لرأيه الذي يستنبط دفائن القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قد سرينا من مشورته في ضياء ساطع، ومن رأيه الصواب في حكم قاطع.
التجربة والحنكة
قد وضعت كثرة التجارب في يده مرآة العواقب. قد نجدته مصارف الدهور، وحنكته مصائر الأمور. قد أرضعته الحنكة بابانها، وأدبته الدربة في إبانها. فلان بازل، التجارب حنكته، والأيام عركته. لا تكاد الأيام تريه من أفعاله عجيبا، أو تسمعه من أحواله غريبا. فلان عارف بتدبير الزمان، عالم بتصاريف الأيام. آخذ ببرهان التبريز، نافذ في مجا التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولى النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعوداً على الغمز صليبا. قد أدبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. قد ارتضع أفاويق الزمان وحلب أخلاف الليالي والأيام. قد ركب ظهري البر والبحر. ولقي وفدي الخير والشر، وصافح صفحتي النفع والضر، وبلا طعمي الحلو والمر، ورضع ضرعي العرف والنكر، وضرب إبطي العسر واليسر.
في الهمة العالية
له همة على هامة النجم. فلان رفيع مناط الهمة. فسيح مجال الفضل. له همة تعزل السماك الأعزل سموا، وتجر ذيلها على المجرة علوا. همة حلق جناحها إلى عنان النجم، وامتد صباحها من شرق إلى غرب. لا يتعاظمه انتزاف البحر إذا أخطره بفكره، ولا انتساف الصخر إذا ألقاه في وهمه. همته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء، وأوسع من الأرضن، ذات العرض.
الشهامة والنفاذ والجد والجلادة
فلان حي القلب، منشرح الصدر. ذكي الذهن، سجاح الطبع. ليس بالنؤوم، ولا السؤوم. فذ فرد، وأسد ورد. كأن له في كل جارحة قلبا، كأن قلبه عين، وكأن حسه سمع. شهاب مقدم، وقدح مقوم مشدود النطاق، قائم على ساق. لا يجف لبده، ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته. قد جد واجتهد، وحشر وحشد. شمر عن ساق الجد ما أطاق، وشد له النطاق. قد ركب الصعب والذلول، وتجشم الحزون والسهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدهم والشهب.
التقى والزهد
فلان عذب المشرب، عف المطلب. نقي الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم. إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق. يتبع أفضل الطرق، وأرشد الخلق. يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة من الشر، مدلولة على سبل البر. أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الأخرى ومتعها. كف عن زخرف الدنيا ونضرتها، وغض طرفه عن متاعها وزهرتها، وأعرض عنها وقد عرضت له بزينتها، وصد عنها وقد تصدت له في حليتها. فلان ليس ممن يقف في ظل الطمع، فيسف إلى حضيض التضع. نقي جيبه، وسلم غيبه، ولم يدنس ذيله، واستوى في النزاهة نهاره وليله. فلان جلي الصفحة، نقي الصحيفة، عف الإزار، طاهر من الأوزار. قد عاد لإصلاح المعاد، بإعداد الزاد. اعتزل الدنيا وأفرج عن كل ما زاد على الزاد المبلغ، والقوت المقنع.
الكمال والانفراد عن النظراء
فلان مولود في طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين الكمال، وصبح المحافل، وزين المحاضر والمجالس. فريد دهره، وشمس عصره، وزينة مصره. فلان علم الفضل، وواسطة قلادة الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت فيه الشورى إلى النص. كيف يذم زمان هو عينه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة.
التفضيل والترجيع
فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القصر. هو رائش نبلهم، وبقية فضلهم. وجمة وردهم، وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم. ينيف عليهم إنافة صفحة الشمس على كرة الأرض، كأنهم فلك هو قطبه، وجسد هو قلبه، ومملوك هو ربه. هو مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم. هو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وعين الكتيبة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، ونقش الفص. موضعه من أهل الفضل، موضع الواسطة من العقد، وليل التم من الشهر، كلا بل ليلة القدر إلى مطلع الفجر.

د. مصطفى عراقي
30-04-2008, 11:12 AM
ذكر الأفضال والأنعام والإحسان والاصطناع
أفضل وأنعم، وأسدى في الإحسان وألحم، وأسرج في الإكرام وألجم. قسم له من إحسانه ما يسع أمما، ويلقي السعادة أمما. أهدى إليه من كرائم البر ما لا يساق مهوره إلا من كرائم النفوس ومخايل الصدور. أعطاه عنان الاهتمام، حتى استولى على قصب المرام. رد عنه الدهر أحص الجناح، وملكه مقادة النجاح. أولاه من معهود البر ومألوفه، ما يربى على مئيه وألوفه. أولاه إسعافاً سمحاً، وعطاءً سحاً، ومنناً صفوا، وعفواً عفوا. أفاض عليه شعاب البر ومساليه، وجمع له شعوب الجميل وقبائله. هطلت عليه سحائب عنايته، ورفرفت حوله أجنحة رعايته، قد فكه بكرمه من قيد السؤال، ومعرة الاختلال. راشه بعد ما حصه الفقر، وأرضاه وقد أسخطه الدهر، وربما نمنا أملاء الجفون، وسهر دوننا لتحقيق الظنون. قد شمت من كرمه أصدق سحاب، وحصلت من إنعامه في أخصب جناب. قد سد ثلمة حالي، وأدر حلوبة مالي.
حسن آثار المنعم
ما أخلو من طل إحسانه ووابله، وعام إنعامه وقابله. قد استمطرت بنوء غزير، وسريت منه في ضو قمر منير. لم يرض بأول السقيا حتى أتى الانسكاب بعد القطر، وطلعت الشمس في أعقاب الفجر. قد كرعت من بره في مشاريع تغزر، ولا تنزر، ورفلت من طوله في ملابس تطول ولا تقصر. أنا منه في ظل ظليل، وفضل جزيل، وريح بليل، ونسيم عليل، وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين. أنا آوي إلى ظله كما يأوي الصيد إلى الحرم، وأواجه منه وجه المجد وصورة الكرم. أنا من إنعامه بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض. قد استظهرت على جور الأيام بعدله، واستترت من دهري بظله. جميع ما أردد فيه طرفي وأعدده من خاص ملكي منتسب إلى عطائه، أو مكتسب بجميل رأيه. مسافة بصري تبعد إن سافرت بها في مواهبه، وركائب فكري تطلح إن أنضيتها في استقراء صنائعه. جمالي مقرون بجماله، وحالي قطعة من حاله.
وصف النعم
نعمة عممت الأمم، وسبقت النعم، وكشفت الهموم ورفعت الهمم. نعمة قد سطع صباحها مستنيرا، وطنب شعاعها مستطيرا. قد غرقتني نعمه حتى استنفدت شكر لساني ويدي وأثقلت ظهري، وتملأت صدري. نعمة عندي مشرقة الجو، مغدقة النو، نيرة الضوء. تتابعت نعمه تتابع القطر، على البلد القفر، وترادفت مننه ترادف الغنى إلى ذي الفقر. نعمة أشرقت لها أراضي، ومطر بها روضي، ووري بها زندي، وعلا معها جدي، وأتاني الزمان يعتذر من إساءته بي، وجاءني الدهر ينتظر أمري. نعمة أنعمت البال، وقوت النفس والحال. نعمة تعم عموم المطر، وتزيد عليه إفراد النفع والضرر. نعم تضعف الخواطر عن التماحها، وتصغر القرائح عن اقترحها.
وصف الأيادي والمنن
له مع كل صباح يد كالصباح أو أشد وضوحاً، وكالنهار أو أصدق ظهورا. قد عمت الآفاق، ووسمت الأعناق. أياد قد حبست الشكر واستعبدت لك الحر. منن توالت توالي القطر، واتسعت سعة البحر، وأثقلت كاهل العبد والحر. عندي قلادة منتظمة قد جعلتها وقفاً على نحور الأيام وجلوتها على أبصار الأنام. أياد يقصر عن عفوها جهد القول، وتزهر بينها سواطه الإنعام والطول. أياديه أطواق في أجياد الأحرار، وأفلاك تدور على ذوي الأخطار. منن تضعف لحملها عواتق الأطواد، ويتضاعف حملها على السبع الشداد. لو تحمل الثقلان، ثقل هذا الامتنان، لأثقل كواهلهم وأضعف عواتقهم. أياد يفرض الشكر لها ويحتم، ويفتح الذكر بها ويختم. أياد تثقل الكاهل، ومنن تتعب الأنامل. منن تضعف متن الشكر، وتنشر معها قوى البشر. منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع، وأحلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع.
ذكر وفورها وكثرتها
منن لا تحصى، أو تحصى الحصى، إذا اطمعت نفسي في تعداد مننه وحصرها، فأطمعتها في إحصاء السحائب وقطرها. أياد لا تحصى حتى تحصى محاسن النجوم، ومنن لا تحصر أو تحصر قطارات الغيوم، وذلك معوز عمر النسور، باق إلى يوم النشور. أياد كعدد الرمل والنمل أعيت على العد، ولم تقف على حد. زادت أياديه حتى كادت تجهد الإعتداد. وتسبق الاعداد أياديه عندي أغزر من قطر المطر، وعوارفه أسرع من لمح البصر.

التشريف والتنويه
رفعه من قعر التراب، إلى سمك السحاب. استنبطه من حضيض الذلة، وأنهضه من محط الدناءة والضعة. جذب بضبعه من أخس مطارح الأتباع، وأخفض منازل الرعاع، إلى أعلى المنازل، وأرفع المراتب. استنبطه من الحضيض الأوهد، إلى البناء الأمجد. قد نبهه عن خمول، وأجرى الماء في عوده بعد ذبول. رقاه إلى ذروة المجد تزل أقدام النجوم لو وطئتها، وتقصر همم الأفلاك إن طلبتها. ثبت قدمه في المحل المنيف، ومكنه من جوامع التشريف. جذب بضبعه من المسقط المنحط، إلى المرفع المشتط. رفع خسيسته، وجبر نقيضته.

ذكر الشكر
الشكر ترجمان النية، ولسان الطوية، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص. الشكر نسيم النعم، وهو السبب إلى الزيادة، والطريق إلى السعادة. الشكر قيد النعمة، ومفتاح المزيد، وثمن الجنة. من شكر قليلا استحق جزيلا. شكر المولى، هو الأولى. أشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على شكرك. الشكر قيد النعم وشكالها وعقالها، وهي مشبهة بالوحش التي لا تقيم مع الإيحاش، ولا تريم مع الإيناس. موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف، إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم. الشكر غرس إذا أودع سمع الكريم أثمر الزيادة، وحفظ العادة، الشاكر يعرض المزيد البالغ والنعيم السابغ.

العجز عن الشكر لتكاثر الأنعام والبر
عندي من يده ما ملك الاعتداد أزمته، وقبض أمراء الكلام وأئمته. عندي له مبار أعجزني شكرها، كما أعوزني حصرها. شكره شأو بعيد لا تبلغه أشواطي، ولا أتلافي التفريط في حقه بإفراطي. إحسانه يعيد العرب عجما، والفصحاء بكما. إذا سلم المرء مقراً بالعجز فقد خرج عن تبعة التقصير، وبريء من عهدة المعاذير. قد زحمني من مكارمه ما يحصر المبين، ويصحبه العجز وبئس القرين، عندي من إنعامه، وخاص بره وعامه. ما يستغرق منة الشكر،ويستنفد قوة النشر. لو استعرت الدهر لسانا، واتخذت الريح ترجماناً، ليشيعا شكر إنعامه حق الإشاعة، لقصرت بهما يد الاستطاعة.
حسن الافصاح عن الشكر والثناء
شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه. شكره شكر البلد القفر، لألمامة القطر. أثنى عليه ثناء الروض الممحل، على الغيث المسبل. أثنى عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر. أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزلال البارد. شكره شكر الروض للديم، وزهير لهرم. بسط لسان الثناء والدعاء، وبلغ عنان الشكر عنان السماء. شكراً ترتاح له المكارم، وتهتز له المواسم. لأشكرنه شكراً تتسع أنواعه، وتنبسط أبواعه، ويلذ ذكره وسماعه. شكر ملء القلب واللسان، وكشكر حسان لآل غسان. أطال عنان الشكر وفسح مجاله، ورفع أعمدته، ومد أروقته. شكر كأنفاس الأحباب أو أنفاس الأسحار، بل أنفاس الرياض غب الأمطار. فلان يتلو فضائلك تلاوة القرآن، ويسرد محامدك سرد الفرقان.
دلالة الحال على ما وراءها
لو سكت الشاكر، لنطقت المآثر، ولو صمت المخاطب، لأثنت الحقائب. لقد شهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، أما تفضله فقد نطقت به جوارحي، ولوسكت لأثنيت حقائبي، لئن جحدت ما أولانيه، وكندت ما أعطانيه، نطقت آثاره أياديه علي، ولمعت أعلام عوارفه لدي. جوارحي انطق بالشكر من ألسنة خطباء إياد، وشعراء مراد.
أدعية تليق بهذه الأحوال بهذا الباب
أطال الله له البقاء، كطول يده بالعطاء، ومد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. أدام الله له المواهب، كما أفاض به الرغائب، وحرس لديه الفواضل، كما عوذ به البر الشامل. تولى الله عني مكافاته، وأعان على الخير نياته، وأصحب بقاءه عزاً يبسط يديه لأوليائه، وعلى أعدائه، وكلأه تذب عن ودائع مننه عنده، وزاد في نعمه وإن عظمت، وبلغه آماله وإن انفسحت. لا زال الفضل يأوي منه إلى ركن منيع، وجناب مريع. لا زالت الألسن عليه بالثناء ناطقة، والقلوب على مودته متطابقة، والشهادات له بالفضل متناسقة. لا زال يعطف على الصادر والوارد، عطف الهم والوالد. أبقاه الله للجميل يعلي معالمه، ويحيي مكارمه، ويعمر مدارجه، ويثمر نتائجه. أدام الله أيامه التي هي أيام الفضائل ومواقيتها، وأزمان المآثر وتواريخها. أدام الله له المواهب، سامية الذوائب. موفية على منية الراجي وبغية الطالب. أبقاه الله للعطاء يفضه بين خدمه، والجمال يفيضه على إنشاء نعمه. والله يتابع له أيام العلاء والغبطة، والنماء والبسطة، لترتع أنواع الخدم في رياض مواهبه، وتكرع أصناف الحشم في حياض فواضله، والله يبقيه طويل الذراع، مديد الباع، ملياً بالإفضال والاصطناع. جزاه الله عن نعمه هناها، بعد أن أسبغها، وعارفة ملاها، بعد أن سوغها. أفضل ما جزي به مبتدي إحسان، ومحيي إنسان. لا زال مكانه معاناً للنعم لا تريمه المواهب، ولا ترومه النوائب. بسط الله بالعلاء يده، وقرن بالسعادة جده، وجعل خير يوميه غده، ولا زالت الأيام والليالي مطاياه إلى أمانيه وآماله، وصرف الله صروف الغير عن إصابة إقباله وكماله.
أخر كتاب المدائح والأثنية، ولله الحمد والمنة

يسرى علي آل فنه
30-04-2008, 12:48 PM
ماأجمله من موضوع

أتمنى أن أقرا كل واردة فيه ولهذا بإذن الله ساعود وأعود

أستاذنا الرائع د. مصطفى عراقي

عميق الشكر والإمتنان لذوقك الراقي وجهدك القيّم.

سحر الليالي
30-04-2008, 02:36 PM
لا أزال هنا أتابع فيضك
شكرا ولا تكفي

دمت بخير دوما

مع خالص احترامي وتقديري وتراتيل ورد

خليل حلاوجي
03-05-2008, 09:22 AM
بعد أن أنهيت قراءة هذا الزاد العجيب ... أحسست أني تخرجت من جامعة السوربون أقارع الألفية الثالثة بمداد أجدادنا ... الجحاجيح

\

أبكاني تقسيمه للموت ، الأحمر والأبيض والأصفر والأسود ...

لأني أشاهد تلك الأنواع فوق أرصفة مدننا الحزينة.


جزيت الجنة أستاذنا الكبير : مصطفى عراقي .

د. مصطفى عراقي
03-05-2008, 10:50 AM
ماأجمله من موضوع
أتمنى أن أقرا كل واردة فيه ولهذا بإذن الله ساعود وأعود
أستاذنا الرائع د. مصطفى عراقي
عميق الشكر والإمتنان لذوقك الراقي وجهدك القيّم.

=====

الأجمل هذا الحضور المبارك يا أديبتنا السامقة الأستاذة : يسرى


بوركت وبوركت كلمتك الطيبة كشحرة طيبة



ودمت بكل الخير والسعادة والنور


مصطفى

د. مصطفى عراقي
03-05-2008, 10:54 AM
لا أزال هنا أتابع فيضك
شكرا ولا تكفي
دمت بخير دوما
مع خالص احترامي وتقديري وتراتيل ورد

=

وأسمى آيات الشكر والتقدير لحضورك الغالي يا ابنتي الكريمة الأديبة المبدعة الأستاذة: سحر

لا حرمنا الله من أنوار حروفك الزاهرة، وتراتيل وردك العاطرة

د. مصطفى عراقي
03-05-2008, 11:00 AM
بعد أن أنهيت قراءة هذا الزاد العجيب ... أحسست أني تخرجت من جامعة السوربون أقارع الألفية الثالثة بمداد أجدادنا ... الجحاجيح
\
أبكاني تقسيمه للموت ، الأحمر والأبيض والأصفر والأسود ...
لأني أشاهد تلك الأنواع فوق أرصفة مدننا الحزينة.
جزيت الجنة أستاذنا الكبير : مصطفى عراقي .
=======
لكل مقامٍ مقال يا مفكرنا الحبيب الأستاذ خليل حلاوجي
ولمقارعة الألفية الثالثة زاد آخر ننتظره منك أنت حبا وكرامة
ورحم الله اجدادنا الذين لم تشغلهم بلاغتهم الجميلة عن فتح العالم ، ليعلموا أجداد أهل السربون آفاق العلم والحياة.
وأعاننا الله وإياك وأطفالنا على مطالعة وجوه الموت وألوانه في العراق الحبيب وكل رقعة من محيطنا المسكين إلى خليجنا الحزين
ودمت بكل الخير والنور والودّ
محبك: مصطفى

د. مصطفى عراقي
03-05-2008, 09:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب العيادة وما يجانسها
ذكر التشكي والمرض


عرض لي مرض أساء بالنجاة ظني، وكاد يصرف وجه الإفاقة عني. لو رآني لرآني خلالاً، ولو شئته لطرقته خيالاً. هو شورى بين أمراض أربعة: حمى لا تغب، وصداع لا يخف، وزكام يكد، وسعال لا يكف. علة هو في أسرها معتقل، وبقيدها مكبل. أمراض توالت علي، وأساءت بي وإلي، فأنا أشكوها وأشكر الله تعالى إذ جعلها عظة وتذكيراً، ولم يبق منها حتى الآن إلا يسيراً. أحسب الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مرابعها، وآلت على أن تصير جوارحي مراتعها. علل لا يصدر منها آت إلا لتكرير ورد، ولا يعزل فيها وال إلا بولي عهد. قد كرت تلك العلة فعادت عللا، وسقاني بعد نهل عللا، حليف علة أقعدتني عن الحركة، وألزمتني من المنزل عرصة العجزة. علة برته بري الأخلة، ونقصته نقص الأهلة. تركته حرضاً، وأوسعته مرضاً، وغادرته والخيال أكثف منه جثة، والطيف أوفر قوة.


اشتداد العلة وسوء الظن بها:
عرض له من المرض ما صار له القنوط يغاديه ويراوحه، واليأس يخاطبه ويصافحه، ورد من سوء الظن أوخم المناهل، وبات من حسن الرجاء على مراحل. طالعت الكرم يترجح نجمه بين الإضاءة والأفول، وتتمثل شمسه بين الإشراق والغروب. أصبح فلان لا ينقل رأسه، ولا يجر ظله. ويد المنية تقرع بابه. ما هو إلا حرض، ولسهم المنية غرض. شاهدت نفسي وهي تخرج، ولقيت روحي وهي تعرج، وعرفت كيف تكون السكرة، وكيف تقع الغمرة، وكيف طعم البعد والفراق، وكيف يلتف الساق بالساق.

الانزعاج لعارض العلة:
مرض فلحقتني روعة، وملكتني لوعة. وجدت في نفسي ألماً مما مسه، وتخون أنسه، بلغني من شكاته ما أوحش جناب الأنس، وأراني الظلمة في مطلع الشمس. بلغني ما عرض له من المرض، وألم به من الألم، وتحامل على سواء صدري، وأقذى سواد طرفي. قد استنفذ القلق لعلتك ما أعده الصبر من ذخيرة، وأضعف ما قواه العزاء من بصيرة. أتقلب على حد السيف إلى أن أعرف انكشاف العارض وزواله، وأتحقق انحساره وانتقاله. انهي إلي من خبر العارض حسم الله مادته، وقصر مدته. ما أراني الأفق مظلما، وطريق العيش مبهما.


تهوين أمر العارض بحسن الرجاء:

هذه ه العوارض قد تكون، ثم تزول بإذن الله وتهون. إن الذي يبلغني من ضعفه قد أضعف المنة، وإن لم يضعف الظن بالله والثقة. قد استشف العافية من وراء ثوب رقيق، وبات منها على وعد قريب، ربما يشفى من أشفى، وحسبنا الله وكفى، ما أكثر ما رأينا هذه العلل جلت ثم جلت، وتوالت ثم تولت.


ذكر المشاركة في العلة:
خبرني فلان بعلتك فأشركني فيها هماً وقلقاً، ولا أعل الله لك جسماً ولا حالاً، ورد إليك العافية وأدامها لك. ليست نكاية الشغل في قلبي بأقل من نكاية الشكاية في جسدك، ولا استيلاء القلق على نفسي بأيسر من اعتراض السقام لبدنك، ومن ذا الذي يصح جسمه إذا تألمت إحدى يديه، ومن يحل محلها في القرب إليه. ما كنت أعلم خبر العارض لك حتى تحققت ذلك من مشاركتي إياك في علتك وصحتك. ما انفرد جسمك بألم العلة دون قلبي ولا اختصت نفسك بمعاناة المرض دون نفسي. ليعلم سيدي أني سقيم بسقمه، وواجد بقلبي ما يجده بجسمه.


الاهتمام للعلة ثم الاستبشار بزوالها:
أنا منزعج لشكاتك، مبتهج لمعافاتك. إن كانت علتك قد قرحت وجرحت، فإن صحتك قد أست وآنست. بلغني شكاتك فارتعت، ثم عرفت خفتها فارتحت. الحمد لله على قرب المدة بين المحنة والمنحة، والبلوى والنعمة، على أنا لم نتهالك بأيدي المخافة، حتى تداركنا الله بحسن الرافة، ولم نستسلم لخطة الحذر، حتى سلم من ورطة القدر.


شكاة أهل الفضل والسؤدد::
شكاته التي تتألم لها المروءة والفضل، ويسقط لها الكرم المحض. شكاته التي غصت بها حلوق المجد، وحرجت لها صدور الأدب، وبدا الشحوب معها على وجه الحرية، وحرم عندها البشر على غرة المروة، علته التي أعلت أكثر القلوب، وطيرت الأرواح عن جل النفوس، قد اعتل بعلته الكرم، وشكا بشكايته السيف والقلم. شكاة عرضت منه لشخص الكرم الغض، والشرف المحض، لو قبلت مهجتي فدية دون وعكة تجدها، وساعة أنس تفقدها، لبذلتها علماً بأني أفدي الكرم لا غير، والفضل ولا ضير.



أدعية العيادة

أغناك الله عن الطب والأطباء، بالسلامة والشفاء. كفاك الله بالسلامة، وشفاك بالطافه الخاصة والعامة. جعله الله عليك تمحيصا، ولا تنغيصا، وتذكيرا، لا تنكيرا، وأدبا، لا غضبا، والله يدر لك صوب العافية، ويضفي عليك ثوب الكفاية الوافية. أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسحك بيد العافية، ووجه إليك وافد السلامة، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك. أوصل الله إليك من برد الشفاء، ما يكفيك حر الأدواء.

تنسم الإقبال بعد اليأس :
قد شمت بارقة العافية، وشممت رائحة الصحة. أقبل صنع الله من حيث لم أرتقب، وجاءني لطفه من حيث لم أحتسب، وتدرجت إلى الإبلال وقد حسبته حلما، ورضيت به دون الاستقلال غنما. قد تخلصت إلى شط العافية، وصافحت كف حسن العاقبة. كما تداركني الله بلطيفة من لطائفه، نوجعل هبة الروح عارفة من عوارفه. تنسمت روائح الحياة بعد أن أشفيت على الوفاة، وثنيت وجهي إلى الدنيا، بعد مواجهتي الدار الأخرى. تداركني صنع الله ولطفه فأقالا عثرة ما خلتني أقالها، وأزالا علة لم يحتسب زوالها.



ذكر الإبلال وحمد الله عليه والدعاء عنده :
قد صافح الإقلال والإبلال، وقارب النهوض والإستقلال. سيرويك الله من العافية التي ذوقك ويسبغ ثوبها عليك، ولا عيد مكروهاً إليك. المرض قد انحسر، والألم قد انحسم. قد استقل استقلال السيف حودث حده، وأعيد فرنده، والقمر انكشف سراره، وذاعت أسراره. حين استقلت يدي بالقلم، بشرتك بانحسار الألم. قد أقال الله بالسلامة الفائضة، وأدال من الشكاية العارضة، فانشرحت الصدور، وشمل السرور. أبل فعادت به الصدور مثلوجة، والكرب مفروجة. الحمد لله الذي حرس جسمك وعافاه، ومحا عنه أثر السقم وعفاه. الحمد لله الذي جعل العافية عقبى ما تشكيت والسلامة عوضاً مما عانيت الحمد لله على أن أعفاك من معاناة الألم، وعافاك للفضل والكرم، ونظمني معك في سلك النعمة، وضمني إليك في مسلك الصحة، والله يجعل السلامة أطول برديك، وأشدهما سبوغاً عليك، ويدفع في صدور المكاره دون ربعك، وفي نحور المحاذر قبل الانتهاء إلى ظلك. لا زالت العافية شعارك، ما وصل ليلك ونهارك. سوغك الله العافية وهنأك العيشة الراضية.

الاستشفاء بكتب العيادة :
كلامك قد أدى روح السلامة في أعضائي، وأوصل برد العافية إلى أحشائي، تركني كتابك والظليم ينتسب إلى صحتي بعد أمراض اكتنفت، وأسقام اختلفت. قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي، حتى كأنهما فرسا رهان تباريا، ورسيلا مضمار تجاريا. أبدلني كتابك من حزون الشكاة، سهول المعافاة، ومن شدة التألم، رخاء التنعم، ومن ضيق الصدر باضطراب البدن، سعة الصدر باستقرار الجسد، حتى كأنه مسحة ملك منزل، أو سبحة نبي مرسل.

آخر كتاب العيادة، من كتاب سحر البلاغة ، ولله الحمد والمنة

د. مصطفى عراقي
25-05-2008, 01:08 PM
كتاب التهاني والتهادي
وما ينخرط في سلكها، ويأخذ مأخذها
ألفاظ التهنئة بمولود
مرحباً بالفارس المحقق للظنون، المقر للعيون. المقبل بالطالع السعيد، والخير العتيد. أنجب الأبناء، لأكرم الآباء. أنا مستبشر بطلوع النجم الذي كنا منه على أمل، ومن تطاول استسراره على وجل. إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة في نسق، كالفرند المتسق. قد طلع في أفق الحرية أسعد نجم، ونجم في حدائق المروءة أزكى نبت. يا بشرايبطلوع الفارس الميمون جده، المضمون سعده. عليه خاتم الفضل وطابعه، وله سهم الخير وطالعه، الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذي نراه إن شاء الله بدراً لا يضمر السرار ضياه، ولا يبلغ المحاق سناءة وسناه. قد بشرت قوابله بالإقبال وعلو الجد، واقترن قدومه بالطائر السعد. هنأك الله قوة الظهر، واشتداد الأزر، بالفارس المكثر لسواد الفضل، الموفر لجمال الأهل، المستوفي بشرف الأرومة، كرم الأبوة والأمومة، وأبقاه حتى نراه، كما رأينا جده وأباه. عرفت آنفاٍ ما كثر الله به عدده، وشد عضده، بطلوع الفارس الذي أضاء له أفق النجابة، وطال به باع السعادة. بشرت بالنور الساطع في أفق النجابة، والبدر الطالع في فلك السعادة. فعظمت النعمى لدي، وأوردت البشرى غاية المنى علي.
?ما يختص منها بالملوك مرحباً بالفارس القادم، بأعظم المغانم. سوي الخلق، سامي العرق. تلوح عليه سيما المجد، وتتجاذبه أطراف الملك. وردت البشرى بالفارس الذي أوسع رباع المجد تأهلاً، وأطراف الملك تحصناً، ومناكب الشرف ارتفاعا، وأعضاد العز اشتداداً. أتتني بشرى البشائر، والنعمى المحروسة عن النظائر. في سلالة العز وسليله، وابن منبر الملك وسريره. الأمير القادم، بغرة المكارم. الناهض إلى ذروة العلياء، بأباء أمره وملوك عظماء. مرحباً بالفارس المأمول لشد الظهور، المرجو لسد الثغور. الحمد لله الذي شد أزر الدولة، ونظم قلادة الأمر، وعمر سرير العز، ووطد منابر المملكة، بالقمر السعد، وشبل الأسد الورد. قد تبسمت المكارم والمعالي، وتباشرت الخطب والقوافي، بالفارس المأمول لشد أزر الملك، وسد ثغر المجد، وتطاول السرير شوقاً إليه، واهتزت المنابر حرصاً عليه. قد افتر جفن العالم عن العين البصيرة، واستغرب مضحكه عن اللمعة المنيرة. أما الأمير المولود فالتاج بجبينه يبهى، والركاب بقدمه يزهى.
.

الأدعية للمولود والوالد
اللهم أرني هذا الهلال بدرا، قد علا الأقران قدرا. بلغه الله فيه مناه، حتى يراه وأخاه، منيفين على ذروة المجد، آخذين بأوفر الخطوط من علو الجد، والله يمتعه به، ويرزق الخير منه، ويحقق الأمل فيه. عرف الله مولاي بركة المولود المسعود، وعضد الفضل بالزيادة في عدده، وأقر عين المجد بالسيادة من ولده، عرفه الله من سعادة مقدمه، ما يجمع أعداءه تحت قدمه. عمرك الله حتى ترى هذا الهلال قمراً باهرا، وبدراً زاهرا. يكثر به عدد حفدتك، وتعظم منه غصة حسدتك، من حيث لا تهتدي النوائب إلى عراصكم، ولا تطمع الحوادث في انتقاصكم. متعك الله بالولد، وجعله من أقوى العدد، ووصله بإخوة متوافري العدد، شادين للإزر والعضد. هنأك الله مولده، وقرن باليمن مورده وآراك من بنية أولاد بررة وأسباطاً وحفدة عرفك الله بركة قذمه، ونجح مقدمه، وسعادة طالعه، ويمن طائره، وعمرك حتى ترى زيادة الله منه، كما رأيتها به.


ذكر التوءمين
تيسرت منحتان في موطن، وانتظمت موهبتان في قرن. طلع في أفق الملك نجما سعد، وشهابا عز، وكوكبا مجد، فتأهلت بهما رباع المحاسن، ووطئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرة والمنابر. عرفه الله السعادة في طلوع بدرين انبعثا من نوره، واستنارا في دوره. بلغني خبر الموهبة المشفوعة بمثلها، والنعم المقرونة بعدلها، في الفارسين المقبلين رضيعي العز والرفعة، وقريعي المجد والمنعة، فشملني من الاغتباط ما يوجبه ازدواج البشرى، واقتران عارفة بأخرى.


.

في التهنئة بالبنت


هنأ الله سيدي ورود الكريمة عليه، وثمر بها أعداد النسل الطيب لديه، وجعلها مؤذنة بإخوة يررة، يعمرون أندية الفضل، ويعمرون بقية الدهر. اتصل بي خبر المولودة كرم الله غرتها، وانبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيرك عند اتضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره لك سابق القدر، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب، فقال جل من قائل: " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور "، وما سماه الله هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى. أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.

فلو كان النساء كمثل هـذي = لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب = ولا التذكير فخر للـهـلال
والله يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، والدنيا مؤنثة والناس يخدمونها، والنار مؤنثة والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً هنيئاً ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأبد، وكما عمر لبد، إنه فعال لما يشاء وهو على كل شيء قدير.

د. نجلاء طمان
25-05-2008, 01:57 PM
سأتابع هنا لن أمل

بحر أنت وكفى!

يرعاكَ ربي ويحفظكَ

ماجدة ماجد صبّاح
26-05-2008, 05:44 PM
ها أنا مستمرة يا دكتورنا الكريم العزيز
وصلت حتى: وصف الشعر
وأسطر هنا إعجابي الشديد
بما نقلت لنا، وما كتبت
ولك من ابنتك خالص التحايا

ماجدة ماجد صبّاح
04-06-2008, 11:42 AM
وبعدَ انتهائي من القراءة
لا أجد يا كريم سوى أن أشكرك جزيل الشكر على ما نقلت لنا
ودمتَ بكل الصحة والعافية
وجزيت الخير كله

شريفة السيد
07-06-2008, 04:55 AM
الله أكبر

ما شاء الله

كنز ثمين فعلا ... أفادك الله بعلمك وأفادنا بكما

شكرا لك يا دكتور مصطفى على العرض الشيق المثمر

أتمنى لك الاستمرار والتوفيق

مودتي

ماجدة ماجد صبّاح
25-06-2008, 02:18 PM
هل لي بطلبٍ يا دكتورنا الغالي؟
نريد بعضَ الألفاظ التي تقال في التعزية -حفظكم الله تعالى-.

وتقبل تقديري

حسنية تدركيت
25-06-2008, 02:48 PM
جزاك الله خيرا على الموضع الرائع

وجعله في ميزان حسناتك يوم القيامة

ولاعدمناك أخي الأستاذ الفاضل د. مصطفى عراقي

د. مصطفى عراقي
25-06-2008, 03:14 PM
هل لي بطلبٍ يا دكتورنا الغالي؟
نريد بعضَ الألفاظ التي تقال في التعزية -حفظكم الله تعالى-.
وتقبل تقديري

======

ابنتي الغالية أديبتنا الماجدة

إليك ما طلبت أيتها العزيزة


===

مقدمة:

التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة، فهي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة في قوله تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
والتعزية مستحبة قبل الدفن وبعده، وتكره بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام، فلا يجدد الحزن. وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه. وأما إن كان المعزي أو صاحب المصيبة غائباً حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة،فيمكن التعزية، قال يحيى بن خالد: التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن، والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح.
وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت، واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك وغفر لميتك.
روى النسائي (وصححه الألباني) عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم (إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال مالي لا أرى فلانا قالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك قال يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي قال فذاك لك) روى ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن،(وصححه الألباني) عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ). وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، فاذكر مصيبتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تهن عليك مصيبتك.
بلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول: يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأجزل لنا ولك بالصبر أجراً. وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقاً له فقال:

إنا نعزيك لا أنا على ثقة = من الحياة ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته = ولا المعزي ولو شاعا إلى حين
وكتب بعضهم إلى أخ له يعزيه: أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت، وأن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز وجل منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً، فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال: يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفاً على نفسه، فقال: لا تجزع، فإن من ورائه ثلاث خلال. أولهن: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمداً رسول الله، والثانية: شفاعة جدي صلى الله عليه وسلم، والثالثة: رحمة الله التي وسعت كل شيء، فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال.
ولا بأس بالبكاء القليل كأن تدمع العين ، قال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لرجاء بن حيوة، إن في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذلك من بأس، لقد دمعت عيناً رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون). فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم، قال: لولا نزفت هذه العبرة لانصاع كبدي، ثم إنه لم يبك بعدها.

وفي كتاب الأذكار للنووي:

(باب التعزية)
روينا في كتاب الترمذي ، و " السنن الكبرى " للبيهقي ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عزى مصابا فله مثل أجره "
443 - وروينا في كتاب الترمذي أيضا ، عن أبي برزة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة ".
وأما لفظة التعزية ، فلا حجر فيه ، فبأي لفظ عزاه حصلت.
واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم : أعظم الله أجرك ، وأحسن عزاءك ، وغفر لميتك ،
448 - وأحسن ما يعزى به ، ما روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : " أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا في الموت ، فقال للرسول : ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شئ عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر ولتحتسب (2)..." وذكر تمام الحديث.
قلت : فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام ، المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب والصبر على النوازل كلها ، والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض ، ومعنى : " أن لله تعالى ما أخذ " ، أن العالم كله ملك لله تعالى ، فلم يأخذ ما هو لكم ، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية ، ومعنى : " وله ما أعطى " أن ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه ، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء ، " وكل شئ عنده بأجل مسمى " فلا تجزعوا ، فإن من قبضه قد انقضى أجله المسمى فمحال تأخره أو تقدمه عنه ، فإذا علمتم هذا كله ، فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم ، والله أعلم.


" يا فلان ! أيما كان أحب إليك ؟ أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ " قال : يا نبي الله ، بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي أحب إلي ، قال : " فذلك لك " (1).
وروى البيهقي بإسناده في " مناقب الشافعي " رحمهما الله ، أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعا شديدا ، فبعث إليه الشافعي رحمه الله : يا أخي عز نفسك بما تعزى به غيرك ، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك ، واعلم أن أمض المصائب فقد سرور ، وحرمان أجر ، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك ، ألهمك الله عند المصائب صبرا ، وأحرز لنا ولك بالصبر أجرا ، وكتب إليه : إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاشا إلى حين وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه : أما بعد : فإن الولد على والده ما عاش
حزن وفتنة ، فإذا قدمه فصلاة ورحمة ، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته ، ولا تضيع ما عوضك الله عزوجل من صلاته ورحمته.
وقال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سالم وعزاه بابنه : أسرك وهو بلية وفتنة ، وأحزنك وهو صلوات ورحمة ؟ !.
وعزى رجل رجلا فقال : عليك بتقوى الله والصبر ، فبه يأخذ المحتسب ، وإليه وإليه " : يرجع (2) الجازع.
وعزى رجل رجلا فقال : إن من كان لك في الآخرة أجرا ، خير ممن كان لك في الدنيا سرورا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه دفن ابنا له وضحك عند قبره ، فقيل له :
أتضحك عند القبر ؟ قال : أردت أن أرغم أنف الشيطان (1).
وعن ابن جريج رحمه الله قال : من لم يتعز عند مصيبته بالأجر والاحتساب ، سلا كما تسلو البهائم.
وعن حميد الأعرج قال : رأيت سعيد بن جبير رحمه الله يقول في ابنه ونظر إليه : إني لأعلم خير خلة فيك ، قيل : ما هي ؟ قال : يموت فأحتسبه.
وعن الحسن البصري رحمه الله ، أن رجلا جزع على ولده ، وشكا ذلك إليه ، فقال الحسن : كان ابنك يغيب عنك ؟ قال : نعم كانت غيبته أكثر من حضوره ، قال : فاتركه غائبا ، فإنه لم يغب عنك ، غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه ، فقال : يا أبا سعيد ! هونت عني وجدي على ابني.
وعن بشر بن عبد الله قال : قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال :
رحمك الله يا بني فقد كنت سارا مولودا ، وبارا ناشئا ، وما أحب أني دعوتك فأجبتني.
وعن مسلمة قال : لما مات عبد الملك بن عمر كشف أبوه عن وجهه وقال : رحمك الله يا بني ، فقد سررت بك يوم بشرت بك ، ولقد عمرت مسرورا بك ، وما أتت علي ساعة أنا فيها أسر من ساعتي هذه ، أما والله إن كنت لتدعو أباك إلى الجنة.
قال أبو الحسن المدائني : دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال : يا بني كيف تجدك ؟ قال : أجدني في الحق ، قال : يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال : يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
وعن جويرية بن أسماء عن عمه أن إخوة ثلاثة شهدوا يوم تستر فاستشهدوا ، فخرجت أمهم يوما إلى السوق لبعض شأنها ، فتلقاها رجل حضر تستر ، فعرفته ، فسألته عن أمور بنيها ، فقال : استشهدوا ، فقالت : مقبلين ، أو مدبرين ، قال : مقبلين ، قالت : الحمد لله ، نالوا الفوز ، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وأمي.



====

أما من عبارات : " سحر البلاغة وسر البراعة" للثعالبي فجاء في:



كتاب التعازي وما يليق بها:


وصف الخبر الهائل المزعج:
خبر عز علي مسمعه، وأثر في القلب موقعه. خبر تستك له المسامع، وترتج له الأضالع. خبر تسقط منه الحبالى، وتصحو له السكارى. خبر ما تلتقي شفتاي بذكره، ولا يثبت بالي بخطره. خبر يهد الرواسي، ويفلق الحجر القاسي. خبر كادت له القلوب تطير، والعقول تطيش، والنفوس تطيح. خبر يخفض الناظر ويقذيه، ويقبض الأمل ويقدح فيه. خبر أحرج الصدر، وأحل البكاء وحرم الصبر، وأطار واقع السكون، وأثار كامن الوجوم، وثقلت وطأته على أجزاء النفس، وتأدت معرته إلى سواء القلب. خبر يشيب الوليد، ويذيب الحديد.

الكناية عن موت الرؤساء والأعزة:
انقضت أيامه، استأثر الله به. انتقل إلى جوار ربه. انقلب إلى كرامة الله وعفوه. خانه عمره. لم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. أجاب داعي ربه. نفذ قضاء الله فيه. لحق بالسبيل التي لا احتزار منها، ولا مجاز عنها. قبضه الله إليه. أسعده الله بجواره. دعاه الله فأجاب دعاءه، ولبى نداه. نقله الله إلى دار رضوانه، ومحل غفرانه. ناداه الله فلباه وفارق دنياه. قضت عليه المشيئة، فارتجعت تفي العطية، وخانته الأمنية، واستأثرت به المنية. كتبت له سعادة المحتضر، وانتهى به الأمر إلى الأجل المنتظر. علة ترامت به إلى انقضاء نحبه، ولقاء ربه. طرقه طارق المقدار، واختار الله له النقلة من دار البوار إلى دار القرار. تداولته العلل المتطاولة، وآلت به إلى ما كل نفس إليه آيله. أفضى من غضارة هذه الدنيا، إلى قرارة داره بالأخرى.

ذكر النعي بالفقد:


قد كان من الحق أن تنقبض الألسن عن هذا النعي لفادح وتخرس، وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس، يا سوء صباح أتى فيه الخبر فرأينا الرجاء قد انقطع، وأصم به الناعي وقد أسمع. نعي ورد فأكمد وفجع. ناعي الفضائل قائم، وأنف المحاسن راغم. نعي من لا أسميه إكباراً، ولا أكنيه إعظاما. فحقيق هو بأن تخرس نعاة فقده، وتحرم رسوم التعازي من بعده.

نعي الملوك والأجلة وذكر سوء آثار المصائب فيهم:
أتى الناعي بانهداد الطود المنيع، وزوال الجبل الرفيع. قد نعته السماء صائحة، والأرض نائحة. كتبت والأرض راجفة، والشمس كاسفة، للرزء العظيم، والمصاب الجسيم، في فلك الملك، وركن المجد، وقريع الشرق والغرب. ما عسى أن يقال في الفلك الأعلى إذا انهار من جوانبه، وتهافت من مناكبه. أتى الناعي، وندبت المساعي، وقامت بواكي المجد، وكسفت شمس الفضل، وعاد النهار أسود، والعيش أنكد. غرب بموته نجم الفضل، وكسدت سوق الأدب، وقامت نوادب السماحة، ووقف فلك الكرم، ولطمت عليه المحاسن خدودها، وشقت عليه المناقب جيوبها. قد كانت الرزية بحيث مارت السماء مورا، وسارت الجبال سيرا، حتى شوهدت الكواكب ظهرا، ثم تهافتت شفعاً ووترا. قبضه الله فارتاعت الأمة، وانبسطت الظلمة، ووقفت الرحمة واضطربت الملة، وقامت نوادب المجد، وأصبح الناس من القيامة على وعد. إن المصاب به فت الأعضاد، وفتت الأكباد. إن المجد بعده لجاري الدمع، وإن الفضل لمزعج النفس، وإن الكرم لحرج الصدر، وإن الملك لواهي الظهر. كتابي وأنا من الحياة متذمم، وبالعيش متبرم. بعد ما هوى الطود الشامخ، وزال الجبل الباذخ، ونطقت نوادب المجد، وأقيمت مآتم الفضل. نعي فلان فتنكر وجه الدهر، وقبضت مهجة العز والفخر. فلا قلب إلا قد تبين صدعه، ولا عين إلا وهي ترشح بالدم.


ما يختص من ذلك بأبناء النبوة:

قد نعي سليل من سلالة النبوة، وفرع من شجرة الرسالة، وعضو من أعضاء الرسول، وجزء من أجزاء الوصي والبتول، كتبت وليتني ما كتبت فإني ناعي الفضل من أقطاره، وداعي المجد إلى شق ثوبه وصداره، ومخبر بأن شمس الشرف كاسفة، وأرض الكرم راجفة، والمآثر مودعة، وبقايا النبوة مرتفعة، وآمال الإمامة منقطعة، والدين منخزل واجم، وللتقوى دمعان هام وساجم. كتابي وقد شلت يمين الدهر، وفقئت عين المجد، وقصر باع الفضل، وكسفت شمس المساعي، وخسفت قمر المعالي، وتجدد في بيت الرسالة رزء جدد المصائب، واستعاد النوائب، كل هذا لفقد من حط الكرم بربعه ثم أدرج في برده، وامتزج المجد فدفن بدفنه. إنها المصيبة عمت بيت الرسالة، وغضت طرف الإمامة، وتحيفت جانب الوحي المنزل، وأذكرت بموت النبي المرسل. كتبت تنعي مهجته والمجد يندب بهجته، ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهورها أسفاً، ومعادن الوصية والإمامة تذري دموعها لهفاً، وذاك لأن حادث قضاء الله استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروة.
ذكر البكاء:
كتبت والأحشاء محترقة، والأجفان بمائها غرقة. الدمع واكف، والحزن عاكف. مصاب أطلق أسراب الدموع وفرقها، وأقلق أعشار القلوب وأحرقها. مصاب فض عقود الدموع، وشب النار بين الضلوع. مصاب أذاب الدموع الجامدة، وألهب الهموم الخامدة. تحلبت سحائب الدموع الغزار، وانسدت مسالك السكون والاستقرار. كنبت عن عين تدمع، وقلب يجزع. ونفس تهلع. قد أذلت حصون البرة، وحجبت وافد الحبرة. قد مد الهم إلى جسمي يد السقم، وجر الدمع على خدي ذيول الدم. لولا أن العين بالدمع والدم انطق من كل لسان وقلم، لأخبرت عن بعض ما أوهن ظهري، وأوْهى أزري.

ذكر الاستراحة بالبكاء والجزع:
إن الفجيعة إذا لم تحارب بجيش من البكاء، ولم يخفف من أثقالها بالنشيج والاشتكاء تضاعف داؤها، وزادت أعياؤها، وعز وأعوز دواؤها. قد شفيت غليلي بما استدررته من أسراب الدموع المتحيرة، وخففت عني بعض البرجاء بما امتريته من أخلاقها المتحدرة. إن في إسبال العبرة، وإطلاق الزفرة، والاجهاش بالبكاء والنشيج، وإعلان الصياح والضجيج تنفيساً من برحاء القلوب، وتخفيفاً من أثقال الكروب.


التأبين والندبة:
ما أعظمه مفقودا، وأكرمه ملحودا. إني لأنوح عليه بنوح المناقب، وأرثيه مع النجوم الثواقب، وابكيه مع المحاسن والمعالي، وأثني عليه بثناء المآثر والمساعي. ليت يمين الدهر شلت قبل أن فتكت بمهجة الفضل، وعين الزمان كفت قبل أن رأت مصرع الفخر. لقد رزئنا من فلان عالماً في شخص، وأمة في نفس. مضى والمحاسن تبكيه، ومناقب تعزي فيه، لما قرت به العيون، أسخنت فيه المنون، ولما انشرحت به الصدور، قبضها لفقده المقدور. على المحاسن من بعده العفاء، ولا أنبتت الأرض ولا جادت السماء. قد ركب الأعناق، بعد العتاق، وعلا أجياد، بعد الجياد، وفاح فتيت المسك من مآثره، كما كان يفوح من مجامره. كان منزلهم ألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب. ومقصد الوفد. فاستبدل بالأنس وحشة، وبالنضارة عبرة، وبالضياء ظلمة، واعتاض من تزاحم المواكب تلادم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل. هذي المكارم تبكي شجوها لفقده، وتلبس حدادها من بعده، وهذه المحاسن قد قامت نوادبها مع نوادبه، واقترنت مصائبها بمصائبه. ما أقبح العيش من بعده، وما أنكر العمر مع بعده.
في أن الفدية لا تغني:
لو قبلت في فلان الفدية لوقيته بنفسي، وأيام عمري. علما بأن العيش بمثله من إخوان الصفاء يصفو، وبظعنه عن الدنيا يكدر ويجفو. لو أمكن افتداؤه بأنفس الذخائر، وأعز الأملاك والممالك لكنا أحقاء بإرخاص كل علق نفيس، وبذل كل ملك كريم. لو وقي منه عزيز قوم لعزته، أو كبير أهل بيت بولده وأسرته، أو قوي سلطان باستطالته وقدرته، أو زعيم دولة بحشده وعدده لكان الماضي أولى من فدي، وأحق من وقي، وكنا أقدر الناس على دفع ما حدث وطرق، وذب ما كرث وأرهق، لكنه الأمر المسوى فيه بين من عز جانبه وذل، وكثر ماله وقل، حتى تأسى المفضول بالفاضل، والناقص بالكامل.

ما يقع من كتب التعازي من وصف الدهر:
هو الدهر فلا تعجب من طوارقه، ولا تنكر هجوم بوائقه، عطاؤه في ضمان الارتجاع، وحباؤه في قران الانتزاع. الدهر ما عرفت، وعلى ما خبرت، فلا نكر إذا فجع بالذخائر، ولا غرو إذا استأثر بالأخاير. هو الدهر وعلاجه الصبر لا تهنأ فيه المواهب، حتى تتخللها المصائب، ولا تصفو فيه المشارب، حتى تكدرها الشوائب. من عرف الزمان، لم يستشعر منه الأمان، وتصور تصرف الحوادث بين الموروث والوارث. الدهر مشحون بطوارق الغير مشوب صفو أيامه بالكدر، مجروح صابه بالعسل، موصولة حبال الأمل فيه بأسباب الأجل، يفطم أمام تكامل الرضاع، ويفرق قبل الامتاع بحسن الاجتماع. هي الأيام ترتع العارية، وتتلقى بالمنية الأمنية.
ما يقع فيها من ذكر الدنيا وذمها:
قد جعل الله الدنيا دار قلعة، ومحل نقلة. فمن راحل ليومه، ومن مدعو لغده، وكل مستوف لأجله، وجار لأمله. ما الدنيا إلا دار النقلة، وما المقام فيها إلا للرحلة. إن المرء حقيق إذا طرقه ما يتحيف صبره، ويتطرف صدره أن يعود إلى علمه بالدنيا، كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة، وابتدئت للنفاد، وشفع كونها بالفساد، وإن الثاوي بها راحل، والأيام فيها مراحل. موهوب الدنيا مسلوب، وإن أرجئ إلى مهل، وممدودها محروب، وإن أخر إلى أجل. لو خلد من سبق لما وسعت الأرض من لحق، ولذلك جعلت الدار الأولى منزل قلعة، ومحل نجعة، ومجازاً إلى أخرى تزيد، ولا تبيد. خيرها عتيد، وعمرها تأبيد. نحن في الدنيا على وفاز، ومجاز وحذار وانتظار. الحازم من لم يفرح بمواهبها، ولم يتضاءل لنوائبها، ولم ير شياكلها كذا إلا كالخيال الملم، والفيء المنتقل، والعارية المرتجعة، والسحائب المتقشعة، ما تصنع بهذه الغدارة الغرارة؟ وهي ترتجع أعز ما تعطي، وتنتزع أحب ما تولي. قد تنكرت الدنيا حتى صار الموت أخف خطوبها، واصغر ذنوبها فلينظر المرء يمنة هل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة هل يرى إلا حسرة؟

الأمر بالصبر والنهي عن الجزع:
لو كان في الجزع فضل لما تقدمت فيه ذوات الحجول والحجال، على الفحول من الرجال. ما تضع والقضاء نازل، والموت حكم شامل، وإن لم نلذ بعصمة الصبر، فقد اعترضنا على مالك الأمر. اعلم أن الجزع للرب مسخطة، وللأجر محبطة. عليك عزيمة الصبر، وصريمة الجلد، فإنهما في العين حتم، وفي الرأي حزم، وليس في خلافهما للحي انتفاع، ولا للميت ارتجاع. اعلم أن المتوفي لا ترده نار تلهبها من الهم على كبدك، ولا يرجعه انزعاج تسلطه بالحزن على جسدك، وخير لك من ذلك أن تفعل ما يفعله الذاكرون، وتقول إنا لله وإنا إليه راجعون. أنت تعلم أن شوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر. اجعل بين هذه اللوعة الغالبة، والدمعة الساكبة، حاجباً من فضلك، وحاجزاً من عقلك، ومانعاً من يقينك. أنت أعرف بالدهر ومصارفه، والزمان ومخاوفه، من أن تدع التماسك وهو مرجع اللبيب ومثواه، وتتهالك في الجزع وهو منزع الجهول ومغزاه. أن المحن إذا لم تعالج بالصبر، كانت كالمنح إذا لم تعالج بالشكر. إذا رأيت أن تأتي في توخي الصبر، واحراز الأجر ما يوجبه الحجا، فإنه أحرى بك وأحجى، صبراً صبرا ففحول الرجال لا تستفزها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها. المرء لا بد سال، ولو بعد أحوال وأحوال. فما عليك أن تعجل ما يغتنمه البررة، وتقدم ما يؤخره الفجرة.


ذكر الموت:

إن الله قد سوى بين البرية، في ورود حوض المنية، وحملهم فيها على عدل الحكومة والقضية، لينظر كل أحد إلى نفسه، ويعلم أنه مستثمر ما أنبت من غرسه. ما حيلة الإنسان وقد خانه أمله، وجاءه أجله، فبينا هو في رجاء، فسيح الأرجاء، إذا به قد دعي فأجاب من دون تعريج على استعداد، ولا تنفيس لأخذ زاد. الموت مشرع لا بد مورود، وكل وإن طال المدى مفقود. ما دوام أمر آخره انقطاع، واتصال عطاء عاقبته انتزاع؟ معلوم أن الموت كل شارب بكأسه، ومكتس من لباسه، وإنما هو تقدم أيام، وتأخر أعوام. كل ذي نهاية يصير كأن قد قطعت مراحله، ولحق بعاجله آجله. الموت خطب عظم حتى هان، ومس خشن حتى لان، فطن أنه مؤخر لتمام، ومنسأ لأيام وأعوام، والمنون تطلبه حثاً وحضاً، حتى تدركه خبباً وركضاً. هذه سبيل، فيها تعجيل وتأجيل، وإلا فالدهر كله أمس، والنفوس في مصافحة المنية كنفس، لله ما أغوص الموت على حبات القلوب، وأعرفه بمودات الصدور، وأخلصه إلى مكامن الروح، وايقظه لناسي العيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. معلوم أن المورد فيه واحد، وسيان فيه ولد ووالد. هذه فرقة محتومة على كل شمل منتظم، ومكتوبة على كل حبل متصل وقديماً نعيت على الناس غربانها، وطارت في دورهم عقبانها.
في الرضاء بقضاء الله تعالى والتسليم لحكمه:
ما الحيلة وقد حل القضاء، وفرض العزاء لقدر الله، ونزل البلاء الجسيم وكتب الرضاء والتسليم. لا تسخط لقدر الله وهو عدل، ولا تكره لقضاء الله وهو فضل. ليعلم أن حكم الله عدل كيف تصرفت الأقدار، ووقعت من كراهة واختيار. القضاء غالب، والزمان معط وسالب، ولا خيار على القدر، ولا إيثار على الغير. والله العدل، وحكمه الفصل، ومن عنده الفضل، قضاء الله ماض، وهو عدل قاض. يولي، ويبتلي، ويسلب، ويعطي، ويعير، ويرتجع، ويمتع، وينتزع. له الخلق، وفعله الحق. أمر الله لا يقابل إلا بالرضا، والصبر على ما قضى وأمضى.
في حمل قضاء الله على الاصلح لعباده:
مولاي أولى من سلم، وقد علم من عدل الله ما علم، وأيقن أنه يحيى ما دامت الحياة أنفع وأروح، ويميت إذا كان الممات أصلح. لولا أن الموت طريق يسلكه البريء والسقيم، ومشرع يرده البر والأثيم، لما انشرح بالعزاء صدر، ولا صحب مع البلاء صبر غير أن سنة الله في عباده وأنبيائه وأوليائه. يبقيهم ما كان البقاء أعمر لمكانهم، ويتوفاهم ما كانت الوفاة أصلح لأديانهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، علماً بأن مقاديره لا تجري إلا على موجبات الحكمة، وتدبيره لا يخلو من باطن المصلحة، أو ظاهر النعمة. في بقاء مولانا ما يوجب التسليم لما قضى الله وأمضاه، إذا كان يدبرنا بأصلح ما يختار ويؤثر، وأحكم ما يقدم وما يؤخر علماً منه تعالى بالعواقب، وإحاطة بالشاهد والغائب. أحق الناس عند حدوث النوائب، واعتراض الشوائب، بقصد التجلد، وترك التبلد، من علم أن أقضية الله جارية مع الصلاح، ماضية على الرشاد، يبقى ما كان البقاء للعبد أنظر، ويتوفى إذا كان الفناء في الحكم أوجب. معلوم أن الله يبقي ما كان البقاء أنجح، ويتوفى إذا كان الفناء أصلح، ولذلك قبض الأنبياء والمرسلون، وأنزل على المصطفى إنك ميت وإنهم ميتون.


ذكر الأعمار والآجال
إن أيام العمر وساعات الدهر كمراحل معدودة، إلى وجهة مقصودة. فلا بد مع سلوكها من انقضائها، وبلوغ الغاية عن انتهائها. للنفوس مواعيد تطلب آجالها، وللموت تغدو الوالدات سخالها. وما نحن إلا كالركب. فمن ذي منهل قصد يبلغه دانيا، ومن ذي منزل شحط يلحقه متراخيا. مولاي يعلم أن الأعمار مقدرة لآمادها، والآجال مؤخرة لميعادها. فلا استزادة ولا استنقاص، ولا فوات ولا مناص. الآجال آماد مضروبة، وأنفاس محسوبة ولذلك استأثر الله بوجوب البقاء، وآثر لخلقه صلة الوجود بالفناء. الآجال بيد الله، فإذا شاء مدها بحكمة وافية، وإذا شاء قصرها بلطيفة خافية.


في التسلية ببقاء الباقي عن الماضي:


نعمة الله في فلان عظيمة. قد جبرت الكسر، وأوجبت الصبر، وأقامت الظهر، وألزمت الشكر، والحمد لله الذي أولى كما ابتلى، واعطى بإزاء ما اقتضى. لئن كانت المصيبة بمصرع فلان عظيمة، لقد سدها الله من سيدي بأفضل خلف، لأمجد سلف، وأنجب فرع، لأكرم أصل. في بقاء مولاي مسلاة للجازع، واسوة للفجائع. يا لها من حادثة كارثة، وفجيعة فظيعة. لولا أن الله سد ببقائك ثلمها، وداوى بالدفاع عن حوبائك كلمها. في بقاء مولاي ما يلزم تخطي الأحزان، إلى شكر الله للإحسان. اللهم لا كفران فقد أبقيت من فلان من ضممت به شمل الأمم، وجلوت به وجه الكرم. قد أعان الله على الرزية، بحسن البقية، وسهل سبيل التسلية، بعظم المزية، وجعل الموهوب، أفضل من المسلوب. في بقاء مولاي ما سد ثلم المرزية، وأغنى عن إطالة التعزية. إذا تحامت النوائب جانب مولاي وتوقته وبقته، وهبنا ما انتهكت، لما تركت، وتسلينا عما احتنكت، بما كفت عنه وأمسكت، والشمس تسليك عما حل بالقمر. ما مات من خلفك، ولا غاب عن أهله من استخلفك. إن تك أيدينا بالأمس أمسكت على القلوب خوف انصداعها وانزعاجها، لقد مسحت اليوم على الصدور عند انشراحها وانفراجها، ولئن سخنت عيون عند حدوث الحادثات، لقد قرت عيون عند انتصاب الوارث. تأملت في أثنا الرزية، جزيل العطية. ببقاء مولاي، فرأيت الموهوب، أكبر من المسلوب، والمبقي، أجل من المفني، فعطفت على البلوى بالصبر، وتلقيت النعمى بالشكر. من كان مثلك القائم من بعده، الساد ثلمة فقده، فهو في حكم الخالد، وإن أصبح فانيا والمقيم في أهله وإن أمسى بالعراء ثاويا. إن الزمان لا بد خائن، والمقدور لا محالة كائن، وإذا وقي الله أكرم النفوس، وحرس أجل محروس. فالرز وإن جل جلل، وما أتى الدهر، وإن كبر هدر. سيدي يعرف أحكام الليالي والأيام، وتصرفها بين الإعطاء والإخترام. فإذا تعدت أكرم الأنفس، وتجافت عن الأنفس، وجب تجاوز الصبر، إلى الحمد لله والشكر.
فيما يجمع بين التعزية والتهنئة:
قد لزمنا رفع اليدين إلى الله: واحدة تستنزل الصبر، وأخرى تتحمل الشكر. الحمد لله الذي لما ارتجع أكرم العواري، بلغ أفضل الأماني، ولما امتحن بأعظم الأهوال، تطول بأشرف الابدال. ما اكتأبنا للمنعي إلينا، حتى اغتبطنا بالمستخلف علينا، ولا أجهش باكيا عند الرزية حتى استهل ضاحكاً للعطية. الفجيعة فظيعة وجيعة. كادت تذهل العقول، وتحبس الألسنة عن أن تقول، والأقلام عن أن تجول. إلا أن الله لطف فجعل سيدنا وارث الماضي كابراً عن كابر، وحافظاً بعده لغر الآثار والمآثر. فلم يحسر الظل حتى مده، ولا مكن الثلم حتى سده، ولا نقل الإحسان حتى رده، ولا أوهن العقل حتى شده. قد كان الرزء أعظم من أن يوصف هدا للاركان، وإفاضة للأحزان، في كل قطر ومكان. إلا أن الله بلطفه كشف الظلمة، واحيا الأمة، وأنزل الرحمة، وحسم النقمة بعود مولانا إلى سرير سلطانه، واستقراره في عالي مكانه. لئن كانت المصيبة أصابت سويداء القلب، فقد تدارك الله العالم بما أقر سواد العين. يا لها من رزيئة ناحت لها السماء على الأرض، وأفل معها قمر الملك والمجد، حتى تلافى الله الملك بمولانا فأعاد به الشمل جميعا، والعاصي مطيعا، فقر الأمر قراره، ولزم فلك التدبير مداره.

ماجدة ماجد صبّاح
27-06-2008, 11:34 AM
دكتورنا الكريم الأريب الفاضل/ مصطفى عراقي
يعجز لساني عن الشكر...

وأقتبس هذه من موضوعك الكريم:
لو سكت الشاكر، لنطقت المآثر.

وأهديكَ كلّ ما ورد في الموضوع عن: الشكر ووصفه.
جزيتَ الخير كلّـه، وحفظكَ الله ورعاكَ أستاذاً كريماً وأباً طيباً

وننتظر منكَ المزيدَ فهذه مدرسةٌ كاملةٌ فواح عطرها والعبير، لتعليم اللسان أطيب الكلام وأنقى التعابير

دم باحترام ابنتك

/ماجدة

(واعذر غلبتي)

شريفة السيد
28-06-2008, 09:32 AM
ما شاء الله يا دكتور

سرعة في الاداء والرد وتمكن في الثقافة والمعرفة
بارك الله فيك وبك
أنا أيضا سأستفيد من هذا الموضوع
شكرا لك
مودتي

نادية بوغرارة
07-03-2010, 12:38 AM
كنت أبحث عن هذا الموضوع ، و حين وجدته أحببت أن أرفعه ليستفيد و يتزود منه أعضاء الواحة الكرام .

فكل الشكر للدكتور مصطفى عراقي ، و ليته يستمر في إدراج هذا الزاد البديع .

هشام عزاس
07-03-2010, 06:41 AM
الدكتور / مصطفى عراقي

هذا زاد ثمين ، وَجبَ أن نقتات منه ، و نتعلم ، و ننهل من فيضه ، و حسنه ، و بهاءه .
هذا زاد لغوي ثمين ، لمن أرادَ أن يقتنصَ من اللغة كلمات يضيفها إلى معجمه ، و يتسلح بالأدب و المعرفة و الجمال .

بارك الله فيك و على مجهودكَ الثمين ، و أرى أن هذا العمل لا بد أن يثبتَ إلى ما لا نهاية ، ليستفيد منه الجميع .

تقبل تقديري و احترامي الكبيرين

إكليل من الزهر يغلف قلبك
هشـام

شيماء عبد الله
09-05-2010, 05:38 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

احمد الله الذي ساقني الى هذا المنهل العذب

لارتوي من بحر حرفكم وطيب عطر لغتكم لاغترف من فيض علمكم

هنا راق للنفس لتبدأ الدرس من اول غرس

استاذي الكريم اسمح لي بالتلمذ من حرفكم الرائع الراقي

فعلا هنا نتزود من خير زاد

دمت لنا استاذنا الرائع ودامت لنا روائعك

جزيت خيرا