المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عناوين الصحف متشابهة اليوم



عزيز باكوش
04-05-2008, 11:06 PM
عزيز باكوش
يلامس حافة الطوار الأحمر والأبيض وهو يتمتم بصلاة ، يرج بعصاه البيضاء المفككة برفق رغام الأرض الأصفر المتشقق ،ورأسه في السماء، يتحسس ذاته المشطورة على نحو قلق ، يبحث عن أشياء تعيق خطواته المترددة الواثقة فلا يجدها ، تنزلق قدمه فجأة ، تطأ فراغا ، يجنح به جهة مجهولة ، رصيف عبور الدراجات وحده يسنده، ينحرف يمينا ، ثم الى زاوية 180 درجة ، يقطع الممر المحاذي لمبنى مولد الكهرباء المنطقة في حذر ، ينعطف شمالا ، ثم يستعجل الارتماء في ثقة الى الرصيف الآخر ، كل مرة تنزلق خطاه يعيد فيها نظارته السوداء الى موقع متقدم من أرنبة انفه ، حين يدفع بجسده الضامر حد المنعطف الأول من شارع المدينة الرئيس ، تفجعه أبواق السيارات وتفرغ أحشاءه بكسل ، فلا يكترث ، فقط يتحسس بقلبه ما يمور به الشارع ، وببديهته يقود روحه الهامدة المسكونة بعناد وسط عربات مخبولة ، وأجساد مسطولة تبحث لنفسها عن موطئ قدم وسط بحر من صخب بلا ضفاف.
اللحظة ، لا شي ء يربطه بالأرض سوى قدميه. قبل أسابيع قرر مجلس المدينة تهيئ الممرات وتوسيعها من غير تثبيت علامات تنظم السير والجولان للمبصرين، بله، غير المبصرين .
وتبعا لذلك ، ظلت الخطوات العشر التي تفصله عن هدفه المنشود محفوفة بالمخاطر ، فعمليات الحفر والردم متواصلة ، في ارتجال مقصود ، مما حول الممشى المحسوب بدقة الى معسكر تدريب بالذخيرة الحية. يتوقف لحظة ، يأخذ نفسا ، الشارع حمام تغتسل بطقسه الكائنات المزحومة افتراضيا. تصدمه عربة بائع خضراوات ، يلتفت الى مصدر الصدمة متضايقا ، يسمع كلاما مألوفا، الله يلعن الأعمى الذي أنجبه...... تربيته وأصوله، حتما، لا يكترث .
ارتفعت حرارة جسمه ، وغلى الدم الإنساني في عروقه، وتوجه ناحية الصوت ، منقبض الأسارير. وبسخاء ، منح مهلة للصمت كي ينوب عنه في ما يعتمل داخله.
المسافة بينه وبين هدفه بدأت تتحدد، منذ 14 سنة مرت ، وهو يرفع عينيه كي لا يرى شيئا من ألوانه وخطوطه وصوره الجميلة الفاتنة ، فقط يأتي كي يسمع رجولته تتمرغ في تراب، وإنسانيته في وحل وطين . الأصوات والضوضاء والصدمات تتكالب على حسه المتهالك المرهف ، تتواطأ ، تتآمر ، يقترب شيئا فشيئا من هدفه ، الذي أدمنه كل صباح ، هدف بات أمره اليومي ، وشغله الذي لا يعترف بالأيام دون حدوثه ، وبعينين مفتوحتين على نفق عميق يحدج ، ويكبر توقه ، تجتمع في أحاسيسه كل الكائنات، فجأة ، تحيق به لحظة للهرب ، الى أي مكان ، يركض حيث هو ، ينتفض، يتحسس أشياءه ، وأشلاءه ، صدمة ثم صرخة ، وسيارة إسعاف . لكن نغما رتيبا ينبعث من ساعته التي يتحسس ميناءها الناتئ كصخر محيط هامشي. آه الوقت يزحف ، والهدف بات على مرمى حجر.
الآن يقف قبالة الهدف ، يحدق فيه بعينين بلا أهداب وبلا صور ، كما دأب مذ وقعت الواقعة ، يحاول أن يعثر للأشياء على لون فلا يستطيع ، كل الأشياء والأصوات والأحداث والوقائع لها طعم واحد ، صخب وصخب.
كان نحيفا كريشة في مهب ريح ، ونظيفا كحمامة وديعة ، صوته اختنق بفعل الصراخ الدائر من حوله ، "شوف قدامك".. ابتعد وإلا كسرت عظامك " أنت أيها الأبله".. ،" أيها الأعمى.".. لا يكترث، يفولذ أذنيه المتدليتان نحو المدى ، تصعد ثورة من الأعماق داخله تلعن نظام العالم بفوضاه . فيكتمها . عاد يمضغ حسراته من غير أن يذكر تفاصيل الماضي ، حين كان يقصد الهدف ولا يستغرقه سوى خمس دقائق ، ثم يشفي غليله ، ويعود بسرعة البرق ، الآن يتذكر كان طفلا وكان مشاغبا ، لكن سائقا متهورا كان الأعمى .
أحب الجريدة التي علمته كيف يرضى بالقهر ويسميه سترا وواقعية. وتمسك بقراءة صفحاتها من الافتتاحية حتى الأخيرة . وحين ينتهي من قراءتها يسلمها الى رفيقه في النضال.
تأمل المشهد من جديد أمامه ، مآت العناوين الملونة ، عشرات الصور ذات الجودة العالية ... مسح عينيه من دموع لم تسقط أبدا ، وقال لصاحبه: جئت متأخرا ..أليس كذلك ؟ لا باس يا أستاذ ..رد صاحب الكشك.
ثم ترجل عتبة الكشك، وبعد أن اقتعد كرسيا من اللدائن . شرع الكشكي يقرا عناوين صحف الصباح المحلية والعربية ، الواحدة تلو الأخرى ، فيما جفناه مرتبكتان مفتوحتان على ظلام اصطناعي لا ينتهي .

قبل أن يغادر الهدف ، كانت ذاكرته لا تتسع ، وقد رشفت من بئر الكلام كمية كبيرة ، انتابته شكوك وأحاطت به هواجس ، وهو الذي لا يرى ويعرف ، ونادى على صديقه الكتبي ليهمس في أذنه : لا شيء جديد إذن صديقي ، عناوين الصحف كلها باتت متشابهة .

عزيز باكوش

.

بديعة بنمراح
05-05-2008, 12:13 AM
سعدت بالعبور على نصك، اخي المبدع عزيز بكوش
الاعمى اعمى البصيرة و القلب، لكن من يحمل بين جنبيه روحا مثل بطل القصة
لا يقهره الظلام.
تحياتي لقلمك

جوتيار تمر
05-05-2008, 02:36 PM
المبدع باكوش...
قدرة هائلة في التحكم بتنامي الخط السردي حضور قوي لتيار الوعي المهيمن على السارد ، وهذا ما يجعلني ارى بأن السارد يستقطب ثيمات نصه من تجارب المعيش اليومي في حالات التصدع السياسي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي ، لكن دون انفصال عن قصدية الكاتب في رسم معالم الممكن في خضم الكائن ، بمعنى أن السارد المهيمن بحضور تيار وعيه ، هنا يمارس التعرية لكن من رواء نظارة سوداء يرى من خلاله كونه .
دم بخير
محبتي
جوتيار

د. سمير العمري
09-12-2010, 06:42 PM
أخي المبدع عزيز باكوش:

أرى لحرفك سطوة وألقا ولأسلوبك جاذبية ولمواضيعك مضامين راقية وإنك والله لنعم الأديب.

هنا طاب لي المقام كثيرا وأنا أتابع ما خط إبداعك أتأمل الشكل وأعتبر بالمضمون.

دمت بخير ورضا!

وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

خالد الجريوي
09-12-2010, 08:37 PM
(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
صدق الله العظيم

رائع سيدي
تحياتي وتقديري

عزيز باكوش
10-12-2010, 09:02 AM
اشكركم سيدي على مروركم وحضوركم واتمنى ان يدوم تواصلنا
عزيزباكوش المغرب

آمال المصري
20-05-2013, 09:27 AM
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ - صدق الله العظيم
نص بديع اللغة والفكرة يحمل العبرة والحكمة والدرس
استمتعت بالقراءة لك
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

عزيز باكوش
20-05-2013, 01:11 PM
الحقيقة أن مرورك أحيا لدي من جديد العودة التفاعلية الى منتدى الواحدة الذي غادرت التواصل معه لاسباب تعود الى ضغط العمل أساسا
نفخر بكم وبمنتدى الواحة :noc:

ربيحة الرفاعي
10-06-2013, 01:41 AM
نص قصّي جميل الفكرة بديع الحرف شائق السرد
يقدم للمتلقي قراءة ماتعة وحكمة نافعة

دمت أديبنا بألق

تحاياي

عزيز باكوش
10-06-2013, 11:42 AM
نص قصّي جميل الفكرة بديع الحرف شائق السرد
يقدم للمتلقي قراءة ماتعة وحكمة نافعة

دمت أديبنا بألق

تحاياي

نفخر بمرورك سيدتي ونعتبر شهادتك وساما لطموحنا لنتواصل بمودة

نداء غريب صبري
16-05-2014, 11:32 PM
قصة جميلة بأسلوب مشوّق وسرد متميز
الفكرة رائعة
واللغة قوية
والغاية سامية

شكرا لك أخي

بوركت