تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شيء من الحب ( رواية )



دكتور محمد فؤاد
28-06-2008, 01:14 PM
(رواية)
شئ من الحب
-----------------------------------------------1)
بقلم: د.محمد فؤاد منصور
الفصل الأول
**********
هذا إذن هو الوطن..
يــاه !! حتى الهواء له أريج مختلف..ويكاد يُرى وأنا أملأ صدري فى شهيق ممتد.. أحسست كأنني أتنفس لأول مرة منذ سبع سنوات أو كأنني كنت أدخر مافي صدري حتى لايختلط به هواء آخر وكأن ماكنت أتنفسه قبلاً لم يكن هواءً.. بل كان غازاً صناعياً.. كهواء غرف الإنعاش ..نقي ..غير ملوث.. موصل بخراطيم ومرشح بفلاتر ولكنه لايملأ الصدر ولاينعش القلب كهذا الهواء..
هذا إذن هو الوطن..دارت برأسي أفكا ر شتى تزاحمت حتى عطّل بعضها بعضاً وأنا أنظر إلى من بجواري بالطا ئرة ضا حكاً دون مناسبة بادلني الضحك وأنا أقول فى تقريرية ساذجة "دي مصر" أجل..أجل.. إنها هي.! أحياناً تستبد بنا فرحة طفولية تدفعنا لأن نقول أى شئ حتى لو بدا ساذجاً ولامعنى له ، نرتد أطفالاًفى لحظة واحدة ,كأنما ولدنا فى هذه اللحظة فقط وتعلمنا المشي والتنفس وحتى الكلام ..كأننا نجرب ألسنتنا ,لايهم ماذا نقول المهم أن نجرب أنها تعمل وأن سنوات الغربة الطويلة لم تؤثر فيها وأننا ما زلنا ننطق كلما تنا بنفس الطريقة المصرية الخا لصة..
هذا إذن هو الوطن.! ماذا يحسن أن أفعل بعد كل تلك السنين ؟!
لاأعرف.! هل أخرّ على أرض المطا ر مقبلاً تراب الوطن ؟
ألا تبدو هذه الحركة مسرحية بأكثر مما ينبغي ؟
بدا لى أن الأرض لن تفرح بقبلاتي مثلما يمكن أن تسعد بوقع أقدامي ,إن الأرض موجودة لتحملنا جميعاً فما جدوى قبلة مسرحية تلفت الأنظا ر وربما تثير السخرية.! آه لو يعلم هؤلاء كم أن الغربة قاسية على من أبتعد عن الوطن سنوات سبع !! ملعون أبو الفلوس ومن يريدها إنها السبب فى كل ذلك الإغتراب ولكنها أيضاً السبب فى هذا الشعور الأخاذ وهذه المشاعر العلوية التى تطفو إلى الوجدان فتلفه جميعاً ..,تململنا فى أماكننا فمال بعضنا على بعض والطائرة تدور دورة كاملة إستعداداً للهبوط النهائي أشرأبت الأعناق تتسابق لتحظى بموقع نظرمن النا فذة الصغيرة..لم يكن هناك مايرى بوضوح سوى أرض المدرج والفضاء نصف المعشوشب من حولها,ومع ذلك كانت عيوننا عطشى لرؤية أى بقعة من جسد الحبيبة التى طا ل غيابنا عنها لكنها لم تغب عنا أبداً.
نهضت غير مبالٍ بنصائح القائد ألملم أشيائي الصغيرة ولكن نظرة من إحدى المضيفا ت أعادتني إلى مقعدى,تذكرت أننى فى طائرة لاقطا ر وأن علي أن أمتثل إمتثالاً حقيقياً..مرت اللحظات كأنها دهر كامل,متى كا نت آخر مرة غادرت فيها هذا المكان؟!! أحداثُ كثيرة مرت فى سرعة خاطفة أمام ذاكرتى,كأنني أريد أن أكثّف السنوات جميعاً ليتواصل الزمن مافا ت منه وما سوف يجئ ! ..
الضيق والألم والخوف من المجهول والمستقبل المحفوف بالتساؤلات والظنون ..وعبير !!
غاصت فى صدري سكين من الذكرى المؤلمة .. ترى ما شكلها الآن بعد سبع سنوات ؟!
تزوجت؟!.. أكيد .. ولابد أنها الآن تجلس مع زوجها وأولادها فى مكا ن ما فى هذه الدنيا الواسعة لكنه بالقطع لن يكون ذلك الزقا ق الضيق من أزقة شبرا ..لعلها فى مصر الجديدة أو الزمالك, كانت الآمال كبيرة والعمر كان غضاً والأحلام العظيمة لاتنهض بها الإمكا نا ت المعد ومة..الفراق كان قدراً مقدوراً.., حركت يدي كأننى أبحث عن ملمس يدها بين أصابعي ..ذاك كان آخر العهد بها وهى تغيب عن نظري رويداً رويداً حتى أبتلعها الزحام ..
لماذا لم أستوقفها؟! لماذا نزل عليّ "سهم الله" وهى تعلنني أن هذه ستكون المرة الأخيرة التى أراها فيها وأن مابعد ذلك فإن" اللقا نصيب" هل أختلج صوتهاوهى تعلن هذا القرار الساحق؟!.. هل لمحت رعشة فى شفتيها أولمعة فى عينيها أم كان ذلك كله محض خيال ؟!
كم مرة أسترجعت هذه اللحظات الفا صلة ؟.. ألف..؟ عشرة آلاف.. ؟ ربما مليون.. وربما أكثر,أو ربما لفرط تأ ملي لتلك اللحظة خيّل إليّ أنني لن أغادرها بتفكيري وأنها ستبقى ما ثلة أمامي حتى آخر العمر,أفرك أصابعي بحثاً عن ملمس أصابعها أو أقرّبها من أنفى عسا ي أجد أثراً لعطر يديها.. أين ذهب ذلك الشعور بأن عبير هي بالنسبة لى كل شئ ؟!!
كم تغيرنا الأيام وتعصرنا السنين ..من ذلك العبقري الذى قال إختلاف النهار والليل ينسي ..أذكرا لى الصبا وأيام أنسي..؟ أجل, أما الليا لى الباردة والساعا ت الكئيبة والشوارع التى تزمجر فيها العواصف والرياح فلايذكرها أحد رغم أنها قصمت ظهر العمر ,والآن ..هذا هو أنا وهذه هى الحبيبة الدافئة التى لايغيرها شئ, ولاينسيها شئ..بعد لحظات نهبط على أرضها ونجول فى شوارعها ونعا نق ناسها واللهجة القاهرية المحببة التى قبعت تحت اللسان كل تلك السنين سرعا ن ماتحل بعد لحظات محل اللكنة الأجنبية والرطا نة الممجوجة التى لم أتقنها أبدا.. كنت أشعر دائماً أننى فى مهمة خاصة, مهمة ليس الهدف منها جمع الما ل ولكن للغوص فى المجهول وبعثرة الذكريا ت حلوها ومرها والأنغماس فى عالم جديد ليس فيه الشوارع التى زرعتها خطانا والمناظر التى ألفتنا وألفناها,وليس فيه عبير!. وكلما مرت سنة كنت أسارع بقياس أثرها فى وجداني.. هل نجحت ؟.. لاأدري, المشكلة أننى تركتها بوعي كامل وإرادة حقيقية..لم يكن ممكناً أن أربط مستقبلها الواعد بمستقبلي الغامض,كانت جميلة ومرغوبة وكانت على إستعداد لأن نبدأ معاً من نقطة الصفر لولا أنني كنت بعيداً عن الصفر بكثير,وطالما نصحنى فريد المحلاوي صديقي الأثيربأن أكف عن الحب والكلام الفارغ وألتفت لمستقبلي وحين كنت أجيبه بأن لامستقبل لى بدونها كان يستلقي على قفاه ضاحكاً ثم يلتفت إلىّ وقد أرتسمت الجدية على ملامحه ويقول "سيبها بكيفك أحسن ماتسيبها غصباً عنك " هكذا كان يقول وهكذا كان..وتركتها تمضي فى سبيلها غصباً عنى!.. لكننى اتعجب كلما ألحّ علىّ المشهد الختامي كيف تسمرت قدماي وتحجرت عيناي ونظرت إلى لاشئ.؟. كيف انعقد لساني, وكيف ألقت هى بجملها القاطعة المحددة كسكين مسنون دبّته فى قلبي بمنتهى القسوة والهدوء ومضت فى طريقها وتركتنى واقفاً فى عرض الطريق كشاهد رخامي على الفشل واليأس والأحباط ؟.. هل كان فريد يقرأ الغيب أم كان ينطوي على شفافية وبعد نظر؟!
اتخذ سمت العلماء وهو يقرركقاض ٍ يصدر حكمه النهائي "يابني المسألة واضحة وضوح الشمس ,أنت فى أول الطريق..معد م وفى رقبتك كوم لحم.. أسرتك تنتظر معونتك بعد أن أنفقت عليك كل ماتملك, وهى فتاة مكتملة وجميلة ولاينقصها شئ,ما الذى يربط مثل هذه بمن كان فى مثل ظروفك؟.. القضية خسرانة وعليك أن تنهي هذه العلاقة فوراً ودون إبطاء,الحب ترف لايقدر عليه أمثالنا.
كأنما كان يقرأكتاباً مفتوحاً من ظهر الغيب..نجح فى كل ماتوقع أن يحدث وشددنا الرحال معاً إلى أرض بعيدة نتقاسم الطعام والمسكن والعمل أما الأحزان والذكريات فكانت من نصيبي وحدي..
أكثر من مرة يضبطني فريد زائغ النظرات موزع المشاعر فيفزعني بضحكته العالية وهو يربت على كتفي قائلاً "معلهش أكتر من كده ويزيح ربنا",كثيراً ماكنت أضيق بإستهتاره ولامبالاته ولكنني كنت أدرك أنه يشاركني المعاناة غير أنه يحاول التظاهر وتغطية مشاعره الحقيقية ولم أكن أتصور كيف يمكن أن تمضي الأيام إذا لم يكن فريد موجوداً..كانت ضحكته تبدو كحبلٍ متين ألقى إلىّ لينتشلني من قاع بئرٍ سحيقة..لايداوي الجراح ككر الأيام ! ..حقاً إختلاف النهار والليل ينسي..
بعد عدة سنوات تحققت كل نبؤات فريد ولم نعد نحلم إلابا لعودة إلى الوطن لكنه لم يتعد أبداً مرحلة الحلم ,فى سهراتنا المشتركة مع بقية الأصدقاء كان يداعب نزار النشاشيبي صديقنا الفلسطيني المتحمس دائماً قائلاً "يابني أهمد بقى.. أحنا كمان بنحلم با لعودة كلنا فى الهم شرق على رأي محمد عبد الوها ب" لكنني كثيراً ماكنت أضبطه مختلياً برسائله سارحاً بنظراته فيما وراء النافذة التى تواجه مكتبه وحين كان يفطن لوجودي كانت ترتسم على وجهه ملامح جادة ماكنت أصادفها إلا حين يختلى برسائله فيمط شفتيه فى أسى وهو يقول "لم يعد لنا مكان..علينا أن نعيش بالذكريات الجميلة فحسب ,أما الآمال التى لاتتحقق فلا جدوى منها.." لم أكن أفهم مغزى كلماته ,وكنت أتعجب كيف لايستبد به الحنين إلى الرجوع إلى حضن الوطن مثلما يستبد بى! لكنه كان يزجرني دائماًولايسمح بمواصلة الحديث فى هذا الإتجاه " أنس هذا الموضوع تماماً بالنسبة لي ولو أنصفت لنسيته أنت أيضاً "..مسكين فريد حتى وهو يودعني فى المطار أغرورقت عيناه بالدموع ربما للمرة الأولى منذ عرفته وهو يتضاحك مذكراً إياي ان تذكرة العودة التى أحملها صا لحة لمدة عام,لم أرد إحتراماً للحظات الفراق وأكتفيت بأن هززت رأسي دون تعليق..لآخر لحظة كان يصر على أن تكون تذكرة طائرتي للذهاب والإيا ب رغم إرادتي ,كان يود لو أقرر فى لحظة أن ألغي قرار عودتي للوطن وأن أظل معه أقاسمه الغربة القاسية بمشاعرها المتباينة,الآن تفوته هذه اللحظات الرائعة ونحن نندفع بلا نظام كأن الثواني المتبقية لها معنى خاص لاينبغي أن تفوتنا.. توقفت الطائرة تماماً وحملنا حقائبنا الصغيرة ونزلنا نتقافز نحو صالة الوصول كانت الأصوات لاتهدأ وكأننا فى سوق كبيروالأضواء موزعة فى كل مكان وحركة القادمين والمستقبلين تحدث صخباً ووشيشاً لاتميزه الآذان..هذه هى مصر بصخبها وجلبتها..آه كم قتلنا الصمت والسكون سنيناً سبع,الآن نعود من حيث بدأنا وقد أندملت الجراح فكأنما ولدنا من جديد.

0-0-0-0-0-0-0-0-

حسام القاضي
28-06-2008, 04:56 PM
أخي العزيز الأديب الكبير / د. محمد فؤاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً باداعك في ملتقى "الرواية والمسرحية"
كعادت دائماً وأبداً تاخذنا في رحلة قسرية اختيارية
لعالمك الرائع ..
مزيج متقن من المشاعر المتباينة المتداخلة
حب..غربة ..حنين ..فقد
هي قصتنا جميعاً .. قصة جيلنا بمآسيه وشجنه وعذاباته
لغتك الحية الفريدة تعطي مذاقاً خاصاً للعمل
ومضت فى طريقها وتركتنى واقفاً فى عرض الطريق كشاهد رخامي على الفشل واليأس والأحباط ؟.
أسرني جداً هذا المقطع (وهو مجرد مثال صغير فقط لما اعجبني هنا)
استمتعت للغاية بهذا الفصل ، وأرجو ألا تطيل
انتظاري للفصل القادم
تقبل تقديري واحترامي.

للتثبيت

دكتور محمد فؤاد
28-06-2008, 07:16 PM
أخي العزيز الأديب الكبير حسام القاضي
شرفني مرورك المميز بهذا الفصل من روايتي ,,أما تعليقك فهو وسام يزين العمل ويشرف صاحبه ..
حاولت أن أرد على رسالتك امس لكنني اكتشفت أن الوقت مازال مبكراً أمامي لأستعمل الرسائل الخاصة ..كنت أريد ان أشكرك على تنبيهي لهذا الركن الهام ..ولما لم اتمكن وضعت هذا الفصل ليكون تنفيذاً عملياً لتوجيهك وقد أسعدني مرورك به أيما سعادة ..تحياتي القلبية أخي الحبيب.
د. محمد فؤاد منصور
الأسكندرية

عدنان القماش
28-06-2008, 09:44 PM
بسم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أستاذنا الأديب الدكتور محمد فؤاد،،
كم هي مؤلمة الحكاية،
فصل في حياة معظمنا، حب، انكسار قلب بلا سبب،
هروب، لكن الجرح يظل معنا أينما ذهبنا،
جميل هذا الفصل، وننتظر التالي،،،

وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

دكتور محمد فؤاد
04-07-2008, 02:36 AM
أخي العزيز عدنان القماش
أسعدني مرورك بهذا العمل ، هي ليست رواية بقدر ماهي رسم أمين لصورة جيل بكامله أو هي قصتنا جميعاً كماعبر بذلك أستاذنا حسام القاضي ..تحياتي لك وشكري لتعليقك العاطر .
د. محمد فؤاد منصور
الأسكندرية

دكتور محمد فؤاد
04-07-2008, 02:56 AM
(2)
ما الذى جرى للنا س؟!!
الوجوه الضا حكة أبداً والتي أشتهر بها المصريون فى أربعة أركان المعمورة صار العبوس ملمحاً واضحاً من ملامحها ..عامل المطار ومفتش الجمرك وحتى سائق التا كسي جميعهم ارتسمت على وجوههم جدية سخيفة , أشتهرالمصري بالأستغراق فى الضحك بمنا سبة وبد ون منا سبة ودائماً آخر نكتة هى أول حوار يجمع بين أثنين يتقابلان بعد غياب..
حا ولت أن أتجاهل سلوكيا ت لم تعجبني بأ ن أنظر إلى الجا نب الفكاهي فى الأمر.. قهقهت فى أعماقي حين حملت حقائبي على عربة من عربات المطارفظهر على الفورمن يبلغني أن العربة مكسورة وتطوع بإحضارأخرى لم تكن فى الواقع أفضل حالاً ثم حمل د ون إستئذان حقائبي لينقلها إليها تذكرت ماتميز به المصريون من فهلوة وخفة دم حين وقف بعدها يفرك يديه إنتظاراً لإكرامية ظن أنه يستحقها , فتشت جيوبي بحثاً عن عملات صغيرة فلفت نظري فى بجاحة متناهية بأنه يقبل أى عملات أجنبية !!
ماالذى جرى للناس؟!!
لقد تجاوزوا حد الفهلوة إلى الوقاحة ،تحولت حيل الإرتزاق إلى إلحاح سخيف وتطفل يبدد السعادة بلقاء الوطن, الحقيبة الواحدة يتكأكأ حولها عدة أنفاركأنها "كعبة "وكل من حظي بلمسها يقف مطالباً بالمعلوم ,لقد أضحى التسول حرفة ذات فنون , حتى سائق التاكسي هرول ليفتح البا ب فى إنحناءة خاشعة كما لوكنت سفيراً لدولة عظمى طمعاً فى أن أدفع دون منا قشة وحين أستويت جا لساً على المقعد الخلفى لم ينبس ، بل مضى فى طريقه حتى أصبح خارج دائرة المطا ر تماماً ثم فاجأ ني بالسؤال:
- على فين العزم ؟
- شبرا إن شاء الله
رد فى جليطة واضحة:
- خمسين جنيه.
هل كان يعد لي كميناً حتى يضيع علىّ فرصة التراجع أو المسا ومة إن هو أبلغنى با لمطلوب فى موقف السيا رات ؟!
من أين أتى المصريون بهذا الفن الجديد من الإبتزازوالخداع ؟ أم تراه إحدى ثمرات الأنفتاح الذى سمعنا عنه دون أن نعا يشه ؟.. عندما تبادلت مع السائق حواراً قصيراً بهدف إنقا ص المبلغ أنحرف إلى جانب الطريق وتوقف عن المسير حتى أعلنه بموافقتي على دفع المطلوب , إن كل شئ مخطط بإتقان فماالذى جرى للناس؟!!
هكذا صدمتني اللحظات الأولى للقاء, كان واضحاً أن الصفا ت التى أتصف بها المصريون دائماً لم يعد لها وجود ,المروءة والشهامة ومد يد العون دون إنتظار المقابل.. هل أصبحت هذه الصفات من جملة التراث القديم ؟ عليّ أن أدفن الإحساس بها كما دفنت سائر الأحاسيس,لم أكد أهنأ بوصولي حتى صدمتني هذه السلوكيات التى لم اعهدها من قبل والتى أرتبطت فى الغالب بمرحلة الإنفتاح والتى حددت ثمناً لكل شئ , تماسكت وهيأت نفسي لمزيد من الغرائب، فسبع سنوات ليست بالفترة القليلة,لابد أنني أنا الذى تغير بفعل مداومة التعا طي للذ كريا ت الجميلة حتى الإدمان..تصورت أن كل من سيصادفني سينطلق نحوي محتضناً إياي كأنما كان فى إنتظاري منذ سبع سنوات, حتى عندما يممت السيارة نحو الشارع الضيق لم ألحظ أى تغير سوى أن البيوت بدت أكثر قدماً ومطبات الشارع أثارت تأفف السائق فغمغم محتجاً بأنه لايحب السير فى الشوارع الضيقة وأنه كان عليّ أن أغادر السيارة فى الشارع العمومى!! حيلة جديدة يمهد بها لإبتزاز جديد بدت ملامحها حين ناولته الجنيهات الخمسين وأخذ يفرك يديه مطالباً ب "حلاوة السلامة"!!
آه كم تغير الناس! ..لم يكن هذا هو حالهم قبل السفر ولا خلال سنوات الحرب العجاف فهل فعل الإنفتاح فيهم مالم يستطع اليهود أن يفعلوه؟! ..أصبح كل من تقابله يحسب كم سيكسب ومقدارإستفادته ممن حوله, فى أقل من ساعة واحدة كنت قد ألتقيت بنماذج شتى من التسول والفهلوة,أشتهر المصريون بالفهلوة حقاً,لكنهم كانوا يستغلونها فى إعمال العقل وخفة الدم والتصرف فى المواقف الصعبة..ماالذى جعل الفهلوة تنقلب إلى عمليات تشبه لعبة الثلاث ورقات وخفة اليد.
هكذا بدا جلياً عند وصولى أن أشياء كثيرة قد تغيرت وأن الوطن الذى حلمت بالعودة إلى أرضه وناسه لم يعد هو الوطن..!
رباه !! ..هل سُرق مني هو الآخر كما سرقت كل المشاعرالحلوة والذكريات السعيدة..ومثلما سُرقت عبير؟!ولكن كل شئ يبدو كما هو حين غادرت الشارع منذ سبع سنوات كأنني لم أمض فى الخارج سوى ليلة واحدة هذا هو بيتنا ببابه الخشبي ومدخله المظلم والذى لم يكن يضيئه سوى الضوء المنبعث من دكان الأسطى محمود الحلاق الذى كنا نجتمع عنده كل مساء نتبادل النوادر والأخبار وطالما أمسكت بطنى حتى لاتنفجر ضحكاً من تعليقاته على أخبار الحرب والسياسة..
,مابال الدكان مغلقاً والليل لم ينتصف بعد؟..!وأين الشباب؟
تراه قد دبت الشيخوخة فى مفاصله وهو الذى كان يوزع العقاقير التى يصنعها بيديه من أخلاط من الأعشاب ليحارب الشيخوخة ويقسم بأغلظ الأيمان أن عنده سر الدواء الذى يستبقي الفحولة حتى آخررمق فى العمر..
أين ذهب الرجل؟ ..ولماذا أغلق دكانه مبكراً ؟ وقد كنا نلتف حوله ولانغادره إلا مطرودين ونحن نضحك من شطحاته ونوادره.
حين أنتقل بصري إلى الجانب الآخر من الشارع أحسست بقلبي وقد تسارعت دقاته!
ذلك هو بيت عبير..حانت لحظة المواجهة ففيم الفزع ؟.. ألم أوطن النفس على معايشة هذه اللحظة رابط الجأش؟..كان فريد يدعي أننى حين اعود سأكون قد نسيت كل شئ وهاأنا قد عدت ولم أنس شيئاً.. وإلا فما معنى هذا الدوي الذى ينتقل من صدري إلى أذني؟!
تماسكت وطردت الذكريات التى تجلب الألم ومع ذلك ظللت مسمراً فى مكاني ورأسي إلى أعلى يدور بين نافذة غرفتها التى يلفها الظلام وبين نافذة غرفتي وكأننى أقيس المسافة بينهما ..
ياالله كم تباعد بنا الزمن والمكان!.. ومع ذلك فالمسافة هى هى لم تتغير قيد شعرة!!
شرعت فى صعود الدرج حاملاً حقيبتي الوحيدة وتحسست الدرجات الغارقة فى الظلام والتى أحفظ أماكنها والمسافات بينها عن ظهر قلب وتأكدت تماماً أن كل بقعة فى هذا البيت تعرفني وأعرفها فلايهم ظلام..

وفاء شوكت خضر
04-07-2008, 05:43 PM
بداية مشجعة على ان نتباع ..
سأبقى هنا أتابع هذا السرد المشوق ..
لك في القلب حيني يا مصر ....


مودتي أخي ..

حسام القاضي
04-07-2008, 11:19 PM
اخي الأديب الكبير / د. محمد فؤاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرة أخرى يا صديقي تعود لرصد دقيق لبعض التغيرات
التى طرأت على ناسنا لأسباب كثيرة لعل من اهمها كما
ذكرت الانفتاح ( في هذا الوقت)..
"تذكرت ماتميز به المصريون من فهلوة وخفة دم حين وقف بعدها يفرك يديه إنتظاراً لإكرامية ظن أنه يستحقها "
نعم كانت هذه هي الحال بعض الوقت ، وحتى بعد الانفتاح ، ولكن أعتقد ان ما ادى إلى تلك الحال:
"..لكنهم كانوا يستغلونها فى إعمال العقل وخفة الدم والتصرف فى المواقف الصعبة..ماالذى جعل الفهلوة تنقلب إلى عمليات تشبه لعبة الثلاث ورقات وخفة اليد."
هنا لم يعد السبب هوالانفتاح بل أساتذة اللعب بـ " التلات ورقات" ممن يلعبون بمقادير البلد.
عشنا معك هنا مرة اخرى هذه التغيرات ، والتي ازداد شوقنا لمتابعتها بعد ما ذكرت عن "دكان الحلاق "
و"بيت عبير"، وما زلت تضفر الخاص والعام معاً في سياق شيق يجبرنا على المتابعة مترقبين، لذا أرجو ألا يطول انتظارنا للقادم .
تقبل تقديري واحترامي.

وفاء شوكت خضر
06-07-2008, 12:39 AM
أتابع بشغف هذا السرد الرائع ..
رواية تحكي واقع الحال الملموس في مجتماعاتنا التي أصابتها طفرة غريبة لم نألفها ..

ننتظر البقية بشوق ..

تحيتي ..

http://up5.m5zn.com/photos/00075/7og2abqfjv63.jpg

دكتور محمد فؤاد
06-07-2008, 02:04 PM
الأخت العزيزة وفاء شوكت
سعادتي بمرورك وتعليقك لاتوصف ، أحببت أن أرسل لك على الخاص لكن يبدو أنه مازالت أمامي مشاركات عدة قبل أن تتاح لي هذه الميزة ..
على كل حال لاأرى مانعاً من جمع فصول الرواية المتعاقبة في مشاركة واحدة ..لقد خشيت أن أقوم بذلك لظني أنه في المشاركات الطويلة قد تكون هناك صعوبات تقنية بالنسبة لحجم المشاركة ، أما وإن كان هذا ممكناً فلابأس من ضم فصول الرواية في مشاركة واحدة ..لك مني أخلص الود ..
د. محمد فؤاد منصور
الأسكندرية

دكتور محمد فؤاد
16-07-2008, 01:12 PM
أخي العزيز الأستاذ حسام القاضي
أشكر تواجدك ومرورك الذي يمنحني طمانينة استثنائية ودعم متجدد ..وأرجو لو أمكن ضم الأجزاء في مشاركة واحدة ..لاأعرف إن كان ذلك ممكناً من الناحية التقنية .. لك أخي العزيز بالغ شكري وخالص مودتي وتقبل أرق تحياتي.
د. محمد فؤاد منصور

جوتيار تمر
16-07-2008, 09:01 PM
دكتـــــــور...
من خلال رصد التقنيات السردية هنا ، يمكننا ان نبلغ المرام من الرواية ، فهي تحاكي العياني بصور ومشاهد حكائية رائعة ، تهتم بنقل التفاصيل بلغة رامزة شفيفة احيانا ، واحيانا بنقل مباشرة وواضحة الدلالة ،نتابع الرصد هذا بشغف.

محبتي
جوتيار

دكتور محمد فؤاد
29-07-2008, 03:55 AM
(3)
أخذ البيت أهبته.. سُويت الآرائك وفُرشت المناضد وغُسلت الحوائط والأرضيات فبدا البيت كأنه ينتظر حدثاً سعيداً..مضى وقت طويل قبل أن ترى هذه المراسم والطقوس ,مرت عليها أيام ظنت فيها أنه حتى الجمادات تعرف الشيخوخة والموت والبيت الذي كان واحداً أصبحت تتقاسمه ثلاث عائلات بقضها وقضيضها,بالكاد أستطاعت أن تحتجز لنفسها سريراً صغيراً فى ركن من أركان حجرة الجلوس التى انتشرت على جوانبها الآرائك وتوسطتها منضدة صغيرة فبدا سريرها وكأنه نتوء غريب بجانب الحجرة..
تمر عليها الأيام الخوالي كشريط سينمائي لفيلم عتيق والصغار الذين كانت تنتظر رجوعهم بفارغ الصبر وتنتقل فى رحلات مكوكية من البلكونة إلى باب الشقة لتستقبلهم واحداً واحداً دون أن يصيبها الكلل على مدار اليوم ,أنتشروا فى أرجاء الأرض منهم من أستقر معها فى نفس الشقة ومنهم من ترك فى كنفها زوجة وأولاد ورحل ومنهم من لم يعد حضوره إلى البيت إلانادراً..
هاهو البيت يتخذ سمت الأيام الخوالي حين كان يجتمع الشمل كل مساء ,كان يرضيها أن تشعر أن الجميع حولها بلا إستثناء كان يمكن أن تحدث بينهم معارك صغيرة ومشادات ومشاكسات لاتنتهى إلا بالإخلاد للنوم لكنها كانت تشعر فى وجود الجميع بدفء العائلة وكانت تنسج من عوالمهم الصغيرة عالمها الخاص والكبير حين يحمل إليها كل منهم حكايته كل مساء فينتظم عندها عقد حكايات ونوادر لاتنتهي, أنفرط العقد ردحاً من الزمن وهاهو ينعقد من جديد فى إنتظارالغائب العائد لم تعرف بالضبط موعد عودته أشار إلى الموعد إجمالاً دون أن يحدد يوماً بذاته فصاروا يرقبون عودته فى كل يوم,راحوا كل مساء يجتمعون بعد أن ينهي كل واحد عمله والبيت الذى غاب عنه السلام طويلاً ومنذ وفاة المرحوم بدأ يعرف الهدوء والترقب وتقاسمت النساء الصغيرات أعمال المنزل حتى تبدو الصورة مبهجة بعض الشئ.
طالما حنت للأيام التى كانت فيها صاحبة الأمروالنهي ,كانت كلمتها هى العليا وكانوا يعملون لرأيها ألف حساب ,الآن تغير كل شئ وبالكاد يسألونها عما تفضل من أصناف الطعام كنوع من الواجب الأخلاقى غير الملزم ,ولكن ذلك عهد مضى.
عرف أبناؤها الزوجات والأبناء وأصبح لكل منهم أسرة ومصالح ولم تعد المصالح المشتركة تجمعهم على كلمة واحدة فصار كل واحد منهم يفضل مصلحته الخاصة حتى لو ذهب الباقون إلى الجحيم, أنقسمت الشقة الواسعة إلى مناطق نفوذ وعرف المطبخ عدة مواقد وتناثرت الثلاجات فى الردهات والصالات لاعن سعة ولكن عن رغبة فى إستقلال كل أسرة بما تملك ومنعاً ل"وجع الدماغ"ومع ذلك كانت تنشب بين الحين والحين معارك صغيرة ولأسباب تافهة أحياناً ..
آه يامجدي كم أوحشتني ؟
سبع سنوات منذ مات المرحوم ومنذ رحلت من مصر تحمل فى قلبك همّ كل واحد منهم وهاهم يتعاركون فى كل مناسبة من أجل ان يحظى كل منهم بنصيب أكثر من الآخرين كى يرضي زوجته وعياله,أنت الوحيد الذى دفع الثمن أضعافاً مضاعفة أما الآخرون فقد ذهب كل منهم بماله وعياله, غلبتهم الأنانية جميعاً فراحوا يتزوجون الواحد تلو الآخر..لم ينتظروا الغائب,ولم يذكروا حتى من رحل وتركهم يرتعون فى شقته.
كان مجدي هو السند,لم يكد ينهي دراسته الجامعية حتى أختطفه الجيش حتى قبل أن يتوظف,حين كان يعود فى أجازاته القصيرة كان أبوه يصطحبه إلى مقهاه المفضل ليحكي له ولأصحابه أخبار الحرب والأستعداد لها كان أبوه يتيه فخراً وهو يؤكد للآخرين أن الحرب قادمة لامحالة وأن مجدي ورفاقه من حملة المؤهلات العليا يتعلمون أساليب الحرب الحديثة وانهم عما قريب سيلقنون العدو دروساً لاينساها وأنهم سيستردون الأرض كاملة غير منقوصة,قامت الحرب وأنتهت وحين ظن أن مهمته قدأ ُنجزت وأن عليه أن يبدأحياته كما كان يحلم بها رحل الأب وترك فى رقبته كتيبة من الأخوة والأخوات لم ينهوا تعليمهم بعد..
تذكره وهويداري حسرته فى إبتسامة تقطرهماً وتذكرفريد حين كان يقول "لقد ربحنا الحرب ولكننا فقدنا مكاننا فى حضن الوطن"..حقاً يافريد ,لاأحد يختار قدره وهذا هو قدري على كل حال وعليّ أن أتحمله, إنه قدر الأخ الأكبرولامفر من الرضا بالمكتوب.
ولمّا نضبت الموارد قرر أن يرحل إلى خارج مصرحتى يتمكن من تلبية المطالب العديدة لأخوته.
أما هم فقد تخرجوا وتزوجوا..بل لم يتورعوا عن طلب المساعدة إزاء كل مشكلة تعرض لأحدهم كان يرسل النقود بأكثر مما يرسل الرسائل..وحتى حين أنقطعت رسائله لم تنقطع تحويلاته!
أتخذوها مادة للضحك وهم يقولون المهم الحوالات فهى تطمئننا على أن كل شئ على مايرام "بلا رسائل بلا كلام فارغ".
بدأت المسألة بالحيلة وأنتهت بتقسيم الشقة دون حياء أوخجل..حدّثها قلبها أن وراء الأكمة ماوراءها حين جاءها "على" ملاطفاً على غير عادته:
-أزيك ياماما وأزى صحتك ؟
لاذت بالصمت وقالت لنفسها عمّا قليل ينكشف المستور, متى كانت صحتها من الأمور التى تشغله؟!
-الحمد لله ,بخير مادمتم بخير.
- أنت باين عليكى تعبانة,أنا عارف شغل البيت كتير وانت لازمك حد يساعدك.
هاقد بدأ اللف والدوران فمتى تفصح عما يدور فى رأسك؟!
- لا ياحبيبى مفيش تعب ,تعبكم راحة.
لم يكن أبداً ممن يلقون بالاً لتعبها كانت عاداته قد أستقرت عند الخروج صباحاً والعودة ظهراً ثم يغادر البيت بعد الغذاء والقيلولة ولايعود إلا بعد منتصف الليل,كانت تنتظره لتعد له العشاء,وكان كثيراً مايعود متأخراً ويخبرها أنه تناول عشاءه مع بعض الأصدقاء, كم من ليا لٍ قضتها ساهرة تنتظر عودته حتى مشارف الفجر..ولم تكن تجرؤعلى معاتبته, حاولت ذات مرة أن تلفت نظره إلى ضرورة النوم مبكراً وعدم إطالة السهر..صاح فيها منتهراً "لماذا لاتنامين؟! هل تحسبين أننى مازلت طفلاً؟..تلوذ بالصمت حيناً وبالبكاء حيناً حتى يلطف من لهجته " ياأمي ريّحي نفسك, أنا أسهر مع أصحابي..هل يرضيك أن أتركهم وأقوم مثل الأطفال؟ هل تريدين أن أصبح سخرية المجلس ومادة تفكهه؟
فى وقت لاحق بدا ملتزماً وأصبح يسأل عن صحتها وعن بقية أخوته ويعود إلى المنزل مبكرًا ثم بدأ فى التلميح لضعف صحتها وكثرة أعبائها ,حدّثها قلبها أن تغير الإيقاع ينذر بمفاجأة وأن تغير أحواله لم ينشأ من فراغ ولم يكذبها قلبها قط !
ماكادت تمرأسابيع قليلةعلي هذا التغييرالمفاجئ حتى أعلنها فى رقة زائدة بأن عليها أن تستريح وأن من واجبه وأخوته أن يوفروا لها هذه الراحة ثم بدأيعزف اللحن الختامي حين قرر أمام الجميع بأنه فى سبيله للأرتباط وأنه نظراً لأزمة المساكن قرر أن يضرب عصفورين بحجر واحد وأن يتزوج فى إحدى حجرات المنزل وبهذايتغلب على أزمة السكن ويريح أمه ويضمن لها رعاية كاملة..
برح الخفاء ولم تذهب تخميناتها سدى, ولكن متى كانت تقاوم رغبات أبنائها ؟! لقد تعودوا منذ الصغر على الإستقلال التام ولم يكن رأيها فى يوم من الأيام مما يستوقفهم أو يلفت أنظارهم..
هكذا جاءت تحية الطرابيشي إلى المنزل!.. أبوها كان عاملاً فى محل للطرابيش ولما كسد ت صناعته أنقلب إلى مكوجى وكان علي يلتقي به كل مساء على المقهى وأنعقد ت الصداقة بينهما حتى أستدرجه إلى منزله وعرّفه بأهل بيته وتكفلت تحية بالباقي ,لشدّ ماقاومت متعللة بانها من أسرة متواضعة وليست من"توبنا"وأن هذا الطرابيشي ليس مؤهلاً للقيام بإلتزاماته كوالد للعروس أسكتها بقوله إن "الحال من بعضه"وأنه هو أيضاً لايملك شيئاً وليس لديه إمكانيات لزواج أفضل وأن المسألة بهذا الشكل تكون متعادلة المهم أنها من النوع الذى يعجبه والأهم إنها مناسبة لإمكانياته.لم تجد ماتقوله إزاء تشبثه إلا أن قالت :
-المهم أن تكون بنت ناس طيبين.
-وهل سأحضر لكم بنت عفاريت,طبعاً ابوها صاحبي وأمها ست كويسة,وقد دخلت بيتهم عدة مرات .
أنتهى الموضوع وأُغلقت المناقشة ولم تمض شهور حتى زُفت تحية إلى علي ,دبروا أمر مبيتهم لدى الأقارب عدة ليالٍ حتى يهنأ العروسان بوحدة لايعكرصفوها وجود أمٍ أو إخوة ٍٍ,قاموا بالتعديلات المطلوبة فى الشقة ليضمنوا بعض الإستقلال للأسرة الجديدةٍٍ.
من حُسن الحظ أن الشقة كبيرة نسبياً وأن بها خمس غرف تتوسطها صالة مربعة وردهة طويلة تؤدى فى نهايتها إلى المطبخ والحمام.
أستسلمت إذن للأمر الواقع ولم يجد بقية الأبناء بداً من التسليم خاصة وأن فى الشقة متسع, لمحت فى عيونهم علائم الرضا والقبول مذ جمعتهم لعرض الموضوع عليهم وهى تثق أن رفضهم سيكون ذريعة لرفضها الذي لايمكنها المجاهرة به,كأنهم كانوا ينظرون إلى الأمر على أنه سنة يستنها علي وإذا بات المبدأ مقبولاً من الجميع فلا مانع عندئذٍ من أن يحذو كل واحد حذو علي فيقتطع لنفسه حصة من الشقة الواسعةٍٍ,حتى الممانعة الصورية التى أبداها جمال لأنه يستقبل زملاءه بالجا معة بين الحين والحين لمراجعة محاضراتهم معاً وأن الأمر على هذا النحو سيكون مقيداً لحريته ,لم تخدعها الممانعة التى أبداها وهى تعلم أنه كان يمنى نفسه بأن الشقة لابد ستؤول إليه إذا تزوج الجميع وغادروا المنزل إلى بيوت مستقلة,تكفل شكرى بإقناعه بحماس شديد أن الأمر سيرتب بحيث يكون لكل أسرة إستقلالها التام, أدركت أنهم قد بلعوا الطعم حتى نهايته وكانت علية وعنايات صامتتان تماماً فلكل واحدة بيتها وحياتها المستقلة لذلك لاذتا بالصمت وهما تريان مايبديه علي وشكري من حماس للفكرة ومايظهره جمال من رفض كأنه الموافقة,أدركت عند ذاك أن المسألة منتهية وأن المناقشة لاجدوى من ورائها.
أفاقت من شرودها على سؤال شكري المباغت:
- أيوه ياماما..نعتبرك موافقة ونقول لعلي مبروك ؟
وهل تجسر على إعلان رفضها لفكرة زواج علي من الأصل وفى وجوده ؟ تشبثت بآخر معاقل الرفض المغلف بالموافقة وهى تهمس كالمغيبة:
- وعلية وعنايات ؟
- مالهم ؟
- مالهم أزاي؟..أخواتك وهذا بيت أبيهم ولهم فيه حقوق.
قفز علي من مكانه ليتوسط أختيه ومال ليطبع على خد كل واحدة قبلة سريعة وهتف:
- دول فى عنية الأتنين .هل قصّر أحد فى حقهم ؟ سيظل هذا بيتهم مادمنا أحياء.
لم تشأ أن تطيل المناقشة أكثرمن اللازم حتى لاتتهم بالمعارضة وسط فيض التأييد والمباركة فقالت من غير حماس:
- مبروك ياعلي يابني ربنا يسعد أيامك .
تناول يدها فى حركة مسرحية وقبلها فى إمتنان.
فى مناسبة لاحقة أنفردت به فى محاولة اللحظة الأخيرة وهمست له:
- أخواتك ياعلي قلبي بياكلني عليهم.
- ياماما أنت فاهمة أنهم لسه صغيرين .
- ولو.. البيت هايبقى فيه أغراب..
لم يدعها تكمل وقال معاتباً:
- أغراب مين ياماما ده أحنا هانبقى عيلة واحدة وتحية مش غريبة.
- لاسمح الله ..لكن أزواج أخواتك ناس لاأمان لهم.
- ياماما حرام عليكى..الناس فى حالهم وكافيين خيرهم شرهم.
- ومجدي؟
- ماله راخر ماهو هايص فى بلاد بره وزى الفل.
- بس مسيره يرجع.
- ياست الكل هو اللى يدوق عيشة بره هايبص لشقة زى دي ؟
أطرقت مسلمة بمنطقه ومن يدري لعل مجدى قد تغير هو الآخر وأصبحت شبرا وناسها لاتمثل له سوى ماض ٍ ينبغى التخلص منه ,طالما حدثتها نفسها بأنه قد يتزوج من أجنبية ويعيش هناك عيشة دائمة خاصة وأنه ليس له عمل دائم فى مصر,قالت كأنما تحدث نفسها:
-اللى فيه الخير يقدمه ربنا .
0-0-0-0-0-0-0-

عدنان القماش
02-08-2008, 05:00 AM
بسم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أستاذي الكريم الدكتور محمد فؤاد،،،
مازلت تبني قصتك في إحكام وإبداع،
أعيش الآن مع الشخصيات وأتخيل تصرفاتهم، نتيجة لقدرتك على وصفهم وكشف مشاعرهم الدفينة، والظروف التي مروا بها.
وشعرت أن الشقة هي الوطن أو الأمة التي أخذ كل منهم في انتزاع نصيبة، دونما اكتراث لحقوق الآخرين ومشاعرهم.
دام لنا إبداعك،،،
متابع،،،

وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

دكتور محمد فؤاد
05-11-2008, 07:04 PM
أخي العزيز عدنان
معذرة لتأخري عن الحفاوة بردك المشجع لظروف خارجة عن الأرادة وأشكرك من القلب لأحتفائك المشجع بالنص. تحية بلا ضفاف:0014:

ناديه محمد الجابي
01-06-2022, 07:11 PM
مؤلم ما تفعلونه بي ـ كل من كتب رواية في هذه الواحة لم يكملها...
كتبت فأمتعت ثم تركتنا معلقين لا نعرف لها نهاية...
قصة أخذت بمجامع قلبي ـ سرد جميل رائق، وسبك فني مميز طرحا وحبكا
في بناء قصي شائق.
لقد سطر قلمك الإبداع والتألق في الصياغة والحبكة المتقنة والحروف العذبة
ولكنك توقفت فجاة .. فآلمتني ـ فأين أجدك أنا الآن؟؟؟
وأينما كنت فلك تحياتي وتقديري.
:011::002::003::011: