عدنان القماش
02-08-2008, 12:16 AM
-2-
سيارتي وسيارة العمدة كانتا تغلقان الميدان أمام الرجل الذي أطلق صوت آلة التنبية. ترجل عن سيارته غاضبا، توجه نحونا صارخا:
- حرام عليكم، زوجتي تلد، قد تضع حملها في أية لحظة.
تلت جملته صرخة أطلقتها زوجته، فاقت بمراحل صوت آلة التنبية التي أطلقها الرجل. ارتسمت على وجه خضر علامة من وجد كنزا، عنف الرجل قائلا:
- لماذا استخدمت آلة التنبيه يا أستاذ؟ ألا تعلم أنها مخالفة تستوجب الحبس.
- أي مخالفة، أيها المخلوق؟ ألا ترى أنكم أوقفتم الميدان بأكمله، وحالة زوجتي حرجة؟
- نسجل المخالفة، وترى المحروس في زيارات الخميس والجمعة، مع أرغفة الخبز والحلاوة الطحينية؟ أم نقول كل سنة وأنت طيب؟.
تجاهل الرجل خضر، ركض نحو زوجته ليطمئن عليها، كانت حالته أصعب من أن يفهم ما يحدث. لم أفهم خضر هذا، كان يبدو كالمنوم مغناطسيا. ما أن ابتعد الرجل، وجه خضر كلامه إلي العمدة سائلا سؤاله المعتاد.
يبدو على العمدة أنه رجل ثري، ممن اعتادوا التباهي بما حباهم الله من كرم. مد يده تحت جلبابه ليخرج حافظة نقوده، وهو يقول:
- خذ يا بركة، أنت تستحق أكثر من هذا. واعتذر نيابة عنا إلي الخديوي إسماعيل. ولو رغب تعويضا عن أي أضرار، سأترك لك رقم هاتفي المحمول، فليخابرني.
تهللت أسارير خضر، وقف متلهفا منتظرا مبلغا كبيرا من المال. لم أكن لأسمح بحدوث هذا، فمعناه أن كل ما أومن به قد انهار، ويكون ذلك الخضر قد انتصر. أمسكت يد العمدة، نهرته لشروعه في دفع رشوة. أبعد يدي برفق قائلا:
- إنه رجل غلبان يا أستاذ.
- هناك من هم أكثر منه غلبا. وهل نسيت يا حضرة العمدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي ؟ (2).
تلعثم العمدة:
- طبعا....صحيح....لكن....ماذا عن الملاهي المائية؟
- يا عمدتنا، هل هناك ملاهي أكبر مما نحن فيها الآن؟
اقتنع العمدة، عاد إلي رشده، أخذ يستغفر ربه. شعرت بكراهية خضر تزداد نحوي، مد يده بعصبية طالبا التراخيص وأوراق الملكية، أخذ يحرر لنا المخالفات.
ترجل العمدة عن سيارته، تنحى بي جانبا:
- أليس من الأفضل أن ندفع له وننهي الموضوع يا أستاذ؟
- يا عمدة هذا الرجل لن يشبع، وأنت بذلك تساعده على الاستمرار. اهدأ يا عمدتنا ولا تخف. فهل هناك شيء اسمه إشارة الخديوي؟.
أبدى العمدة اقتناعه وتأييده لما قلت، رغم أن شعورى أنبأني بأنه لا يعلم عما أتحدث.
عاد الرجل، صرخ في خضر ليفتح الطريق، لكي يمر بزوجته التي تلد. ابتسم خضر قائلا:
- هل قلنا، كل سنة وأنت طيب.
دفعني الغضب أن أسحب خضر من ذارعه - أخذ يقاومني قليلا-، تنحيت به جانبا، نهرته قائلا:
- هذا كثير جدا يا خضر، زوجة الرجل تلد. من الممكن أن تكون قاس القلب، بل قد يملأ الجشع قلبك، لكن ليس إلي هذا الحد.
أخذ يعدل بذلته الرثة، كأني أفسدت الكي الذي أجهد نفسه فيه بالأمس، - وإن كنت أظن أن بذلته هذه، لا يفلح معها غير مادة النشاء-، نظر إلي بكل برود وسماجة:
- يا أستاذ، إنه رجل بخيل، يمكنه قول "كل سنة وأنت طيب". ولو فعل، لكان الآن فرحا بالمحروس في حضنه.
توقف ليعدل من وضع حزامه الأسود فوق كرشه الكبير، قبل أن يقول:
- وماذا سيحدث إن ولدت زوجته في الميدان، الولادة ستكون في سيارة مكيفة.
أنا على سبيل المثال، ولدتني أمي وهي تعمل في الحقل، ثم لفتني في قماشة، ووضعتني جانبا، وأكملت عملها. وها أنا ذا أمامك، صاغ سليم، ولا أجدعها مجند في بر المحروسة كلها. بل أن الكثيرين يظنون أني ضابط من ظهر ضابط.
ما أن أتم كلامه، جاء الرجل مسرعا، وضع مبلغا من النقود في يد خضر، وهو يكرر في جنون:
- كل سنة وأنت طيب، كل سنة وأنت.......طيـــــــــــــــ ـــــــب.
أمر خضر العمدة بأن يحرك سيارته سريعا، قائلا:
- افسح الطريق يا عمدة، زوجة الرجل تلد.
انطلق الرجل بسيارته بأقصى سرعة، يصاحبه صوت زوجته الذي أخذ يعلو كصافرة سيارة الإسعاف. انطلق من خلفه سيل من السيارات التي كانت محتجزة، وأنهال سيل من السباب والشتائم على هذا الخضر.
تجاهل خضر كل هذا القدر من الإهانات، وهو يدون أرقام هذه السيارات، متوعدا إياهم بأعتى السجون.
عاد بعدها لإتمام عمله في تحرير المخالفتين، ظننت أننا سننصرف بعد ذلك. كنت أخطط لاصطحاب العمدة إلي إحدى جهات الرقابة الإدارية، لتقديم شكوة في خضر. لكن هذا لم يكن، ابتسم خضر قائلا بسخرية:
- في العجلة الندامة يا أستاذ. يجب أن يتم عرضكما على حضرة الضابط أولا، قبل أن يتم نقلكما إلي سراي النيابة الجديدة، نظرا لارتكابكما مخالفات تستوجب الحبس.
لم ينتظر منا ردا، ما أن أتم كلامه، أشار إلي السيد خيارة ليصطحبنا. ما أن اقتربنا من مكان تواجد سيادة الضابط المسئول، رأينا مواطنا - يجره جنديان مبتعدين به عن المكان-، يصرخ بأعلي صوته:
- لن أفعل هذا مرة أخرى، لن أعود لمثل هذه الفعلة.
وصلنا حيث كان سيادة الضابط جالسا أمام سيارة الشرطة "البوكس"، يئن من تحته ذلك الكرسي الأصفر المرسوم عليه أحد ملوك الفراعنة راكبا عجلته الحربية التي تجرها الخيول، مطاردا أعداء الوطن.
قبل أن أعُرف الضابط بنفسي، وأشرح له المسألة. وقف بيني وبينه السيد خيارة، شهد بكل ما جاء في المخالفتين. مَهر الضابط المخالفتين بتوقيعه، أشار إلي جنديين يقفان إلي جواره أن يأخذانا.
قبل أن أنهره غاضبا، اقتادنا الجنديان بعيدا، بعد أن جردانا من هواتفنا المحمولة. آثرت السلامة، أعلم أن الجنديين سيتعاملان معي بكل ضراوة، إذا تطاولت على حضرة الضابط "الباشا"، كأنهما مسوخ بلا عقل أو إرادة.
ركب السيد خيارة إلي جوار السائق في تلك السيارة الضخمة التي يشحن فيها عتاة المجرمين. كان هناك عددا كبيرا من تلك السيارات يقف في أحد الشوارع المجاورة للميدان، وقد امتلأت كلها عن آخرها.
جلست في السيارة، عن يميني العمدة. وعن يساري شاب يرتدي نظارة تميل إلي أحد جانبيها، له وجه نحيل، ويرتدي قميصا وسروالا متواضعين.
وأمامي ذلك المواطن الذي كان يصرخ متعهدا بعدم تكرار فعلته مرة أخرى. كان يرتجف بشدة، تعلو وجهه بعض الكدمات، التي لم تجعلني أميز ملامحه. لكن لم أكن لأخطئ شعره الخشن الذي يتشابك فوق رأسه في حلقات متداخلة، يرتدي قميصا رخيصا يدعي "توفُسكُس". إلي جواره شابان آخران، لم أدقق في ملامحهما كثيرا، لا يصدر عنهما أي ردة فعل، يبدو جليا أنهما يحلقان في عالم آخر تحت تأثير المخدرات، كذلك لم أتمكن من رؤية أي من الآخرين الذين تزدحم بهم السيارة.
تحركت بنا السيارة، تمايلت يمينا ويسارا بشكل عنيف، مازحت العمدة:
- ما رأيك يا بركة، ها أنت في الملاهي؟
ابتسم على مضض، قال نادما:
- ما كنا دفعنا يا أستاذ، وأنهينا الموضوع؟
- هل سنكرر هذا الكلام مرة أخرى، يا عمدة؟ اصبر واحتسب عند الله.
قاطعنا الشاب المذعور، قائلا بخوف:
- كان يجب أن تدفعا، هم لا يرحمون أحدا، لا يرحمون.
انتابته حالة بكاء شديدة، تأثرنا لها جميعا. ملت نحو الشاب، ربت على كتفه لأهدأ من روعه وأطمئنه، انتفض جسده كمن تلقي صفعة شديدة. قدم له العمدة سيجارة، عرض على أخرى. لكني لا أدخن، وأعجب لأمر المدخنين. إذا فرحوا، دخنوا سيجارة. وإذا حزنوا، دخنوا سيجارة. وإذا لم يجدوا شيئا يفعلونه، دخنوا سيجارة. جمعت حيرتي في سؤال وجهته إلي العمدة هامسا في أذنه:
- ألا تعلم أن التدخين حرام؟
لم يفهم أو تجاهلني. أردت أن أذكره بإحدى الحقائق العلمية عن أثر التدخين:
- أتعلم أن تدخين التبغ يقتل إنسانا كل ثمان ثواني. (3)
أراد أن يكون رده عمليا، عد على أصابعه حتى وصل إلي العدد ثمانية، ارتسمت على وجهه ابتسامة المنتصر، قال:
- يا أستاذ، الأعمار بيد الله.
لم أجد ما أرد به على العمدة، ألتزمت الصمت. أجابني الشاب المذعور:
- وهل للحياة معنى؟ يا أستاذ، حياتنا أصبحت تتساوى مع الأموات.
كنت سأخطب فيه خطبة عصماء، بأن الحياة هبة من الله، يجب أن نستغلها في مرضاته، و...و...لكني شعرت أن حالته لا تسمح بذلك. فضلت أن أطمئنه وأتعرف إليه أولا، قبل أن أبدأ في نصحه:
- لا تخف يا أخي، أخبرني ما بك؟
نظر إلي بعينين دامعتين:
- إنهم لا يرحمون يا أستاذ.
- من هم، وماذا فعلوا بك؟
أخذ يتلفت حوله، كمن يخشى أن يسمعه أحد:
- إنهم رجال يديرون الكثير من الميكروباصات لحساب أحد ضباط الشرطة. عملت لديهم مدة طويلة من الزمن، جاءتني فرصة أفضل لترك العمل، أخبرتهم بذلك، أتهموني بأني ناكر للجميل، لكنهم لم يمنعوني.
سألته:
- جميل، إذا لا مشكلة؟
- الحق يا أستاذ، أيام العمل تحت حماية هذا الضابط كانت نعيما. بالطبع لم أكن أعرفه، ولم ألتق به ولو لمرة واحدة.
لكن كنا نعيش في "جنة رمسيس"، نحمل الركاب من الميدان، رغم أن هذا ممنوع رسميا. وأنت تعلم أن ميدان رمسيس يعد أزحم بقعة على وجه الأرض. كنا كالنحل، ما أن نصل إلي الميدان، حتى نحمل الركاب في دقائق معدودة. وننجز عدة دورات يوميا من وإلي القاهرة. حقا، كانت أياما جميلة.
- حتى هذه النقطة، لا أرى مشكلة.
نفث دخان سيجارته قبل أن يقول:
- انتظر، سأكمل لك.
جاري ترصيص وضبط زوايا عجلات الجزء التالي، يرجى الانتظار،،،
(2) حديث صحيح.
38425 - لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي
الراوي: عبدالله بن عمرو بن العاص - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1337
(3) إحصاءات صادرة عن منظمة الصحة العالمية، للإطلاع على المزيد يرجى زيارة الرابط التالي:
http://www.who.int/topics/tobacco/en/
عذرا: هذا الموضوع لا توجد له ترجمة باللغة العربية، رغم أن الموقع يستخدم اللغة العربية كإحدى لغاته الست.
------------------------------
تنبية هام: جميع الشخصيات والهيئات والأحداث والمركبات من وحي خيال الكاتب. ولا تمت بصلة من قريب أو بعيد لشخص أو هيئة أو مكان أو مركبة. ولو وجدت علاقة، فهي على سبيل الصدفة المحضة.
سيارتي وسيارة العمدة كانتا تغلقان الميدان أمام الرجل الذي أطلق صوت آلة التنبية. ترجل عن سيارته غاضبا، توجه نحونا صارخا:
- حرام عليكم، زوجتي تلد، قد تضع حملها في أية لحظة.
تلت جملته صرخة أطلقتها زوجته، فاقت بمراحل صوت آلة التنبية التي أطلقها الرجل. ارتسمت على وجه خضر علامة من وجد كنزا، عنف الرجل قائلا:
- لماذا استخدمت آلة التنبيه يا أستاذ؟ ألا تعلم أنها مخالفة تستوجب الحبس.
- أي مخالفة، أيها المخلوق؟ ألا ترى أنكم أوقفتم الميدان بأكمله، وحالة زوجتي حرجة؟
- نسجل المخالفة، وترى المحروس في زيارات الخميس والجمعة، مع أرغفة الخبز والحلاوة الطحينية؟ أم نقول كل سنة وأنت طيب؟.
تجاهل الرجل خضر، ركض نحو زوجته ليطمئن عليها، كانت حالته أصعب من أن يفهم ما يحدث. لم أفهم خضر هذا، كان يبدو كالمنوم مغناطسيا. ما أن ابتعد الرجل، وجه خضر كلامه إلي العمدة سائلا سؤاله المعتاد.
يبدو على العمدة أنه رجل ثري، ممن اعتادوا التباهي بما حباهم الله من كرم. مد يده تحت جلبابه ليخرج حافظة نقوده، وهو يقول:
- خذ يا بركة، أنت تستحق أكثر من هذا. واعتذر نيابة عنا إلي الخديوي إسماعيل. ولو رغب تعويضا عن أي أضرار، سأترك لك رقم هاتفي المحمول، فليخابرني.
تهللت أسارير خضر، وقف متلهفا منتظرا مبلغا كبيرا من المال. لم أكن لأسمح بحدوث هذا، فمعناه أن كل ما أومن به قد انهار، ويكون ذلك الخضر قد انتصر. أمسكت يد العمدة، نهرته لشروعه في دفع رشوة. أبعد يدي برفق قائلا:
- إنه رجل غلبان يا أستاذ.
- هناك من هم أكثر منه غلبا. وهل نسيت يا حضرة العمدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي ؟ (2).
تلعثم العمدة:
- طبعا....صحيح....لكن....ماذا عن الملاهي المائية؟
- يا عمدتنا، هل هناك ملاهي أكبر مما نحن فيها الآن؟
اقتنع العمدة، عاد إلي رشده، أخذ يستغفر ربه. شعرت بكراهية خضر تزداد نحوي، مد يده بعصبية طالبا التراخيص وأوراق الملكية، أخذ يحرر لنا المخالفات.
ترجل العمدة عن سيارته، تنحى بي جانبا:
- أليس من الأفضل أن ندفع له وننهي الموضوع يا أستاذ؟
- يا عمدة هذا الرجل لن يشبع، وأنت بذلك تساعده على الاستمرار. اهدأ يا عمدتنا ولا تخف. فهل هناك شيء اسمه إشارة الخديوي؟.
أبدى العمدة اقتناعه وتأييده لما قلت، رغم أن شعورى أنبأني بأنه لا يعلم عما أتحدث.
عاد الرجل، صرخ في خضر ليفتح الطريق، لكي يمر بزوجته التي تلد. ابتسم خضر قائلا:
- هل قلنا، كل سنة وأنت طيب.
دفعني الغضب أن أسحب خضر من ذارعه - أخذ يقاومني قليلا-، تنحيت به جانبا، نهرته قائلا:
- هذا كثير جدا يا خضر، زوجة الرجل تلد. من الممكن أن تكون قاس القلب، بل قد يملأ الجشع قلبك، لكن ليس إلي هذا الحد.
أخذ يعدل بذلته الرثة، كأني أفسدت الكي الذي أجهد نفسه فيه بالأمس، - وإن كنت أظن أن بذلته هذه، لا يفلح معها غير مادة النشاء-، نظر إلي بكل برود وسماجة:
- يا أستاذ، إنه رجل بخيل، يمكنه قول "كل سنة وأنت طيب". ولو فعل، لكان الآن فرحا بالمحروس في حضنه.
توقف ليعدل من وضع حزامه الأسود فوق كرشه الكبير، قبل أن يقول:
- وماذا سيحدث إن ولدت زوجته في الميدان، الولادة ستكون في سيارة مكيفة.
أنا على سبيل المثال، ولدتني أمي وهي تعمل في الحقل، ثم لفتني في قماشة، ووضعتني جانبا، وأكملت عملها. وها أنا ذا أمامك، صاغ سليم، ولا أجدعها مجند في بر المحروسة كلها. بل أن الكثيرين يظنون أني ضابط من ظهر ضابط.
ما أن أتم كلامه، جاء الرجل مسرعا، وضع مبلغا من النقود في يد خضر، وهو يكرر في جنون:
- كل سنة وأنت طيب، كل سنة وأنت.......طيـــــــــــــــ ـــــــب.
أمر خضر العمدة بأن يحرك سيارته سريعا، قائلا:
- افسح الطريق يا عمدة، زوجة الرجل تلد.
انطلق الرجل بسيارته بأقصى سرعة، يصاحبه صوت زوجته الذي أخذ يعلو كصافرة سيارة الإسعاف. انطلق من خلفه سيل من السيارات التي كانت محتجزة، وأنهال سيل من السباب والشتائم على هذا الخضر.
تجاهل خضر كل هذا القدر من الإهانات، وهو يدون أرقام هذه السيارات، متوعدا إياهم بأعتى السجون.
عاد بعدها لإتمام عمله في تحرير المخالفتين، ظننت أننا سننصرف بعد ذلك. كنت أخطط لاصطحاب العمدة إلي إحدى جهات الرقابة الإدارية، لتقديم شكوة في خضر. لكن هذا لم يكن، ابتسم خضر قائلا بسخرية:
- في العجلة الندامة يا أستاذ. يجب أن يتم عرضكما على حضرة الضابط أولا، قبل أن يتم نقلكما إلي سراي النيابة الجديدة، نظرا لارتكابكما مخالفات تستوجب الحبس.
لم ينتظر منا ردا، ما أن أتم كلامه، أشار إلي السيد خيارة ليصطحبنا. ما أن اقتربنا من مكان تواجد سيادة الضابط المسئول، رأينا مواطنا - يجره جنديان مبتعدين به عن المكان-، يصرخ بأعلي صوته:
- لن أفعل هذا مرة أخرى، لن أعود لمثل هذه الفعلة.
وصلنا حيث كان سيادة الضابط جالسا أمام سيارة الشرطة "البوكس"، يئن من تحته ذلك الكرسي الأصفر المرسوم عليه أحد ملوك الفراعنة راكبا عجلته الحربية التي تجرها الخيول، مطاردا أعداء الوطن.
قبل أن أعُرف الضابط بنفسي، وأشرح له المسألة. وقف بيني وبينه السيد خيارة، شهد بكل ما جاء في المخالفتين. مَهر الضابط المخالفتين بتوقيعه، أشار إلي جنديين يقفان إلي جواره أن يأخذانا.
قبل أن أنهره غاضبا، اقتادنا الجنديان بعيدا، بعد أن جردانا من هواتفنا المحمولة. آثرت السلامة، أعلم أن الجنديين سيتعاملان معي بكل ضراوة، إذا تطاولت على حضرة الضابط "الباشا"، كأنهما مسوخ بلا عقل أو إرادة.
ركب السيد خيارة إلي جوار السائق في تلك السيارة الضخمة التي يشحن فيها عتاة المجرمين. كان هناك عددا كبيرا من تلك السيارات يقف في أحد الشوارع المجاورة للميدان، وقد امتلأت كلها عن آخرها.
جلست في السيارة، عن يميني العمدة. وعن يساري شاب يرتدي نظارة تميل إلي أحد جانبيها، له وجه نحيل، ويرتدي قميصا وسروالا متواضعين.
وأمامي ذلك المواطن الذي كان يصرخ متعهدا بعدم تكرار فعلته مرة أخرى. كان يرتجف بشدة، تعلو وجهه بعض الكدمات، التي لم تجعلني أميز ملامحه. لكن لم أكن لأخطئ شعره الخشن الذي يتشابك فوق رأسه في حلقات متداخلة، يرتدي قميصا رخيصا يدعي "توفُسكُس". إلي جواره شابان آخران، لم أدقق في ملامحهما كثيرا، لا يصدر عنهما أي ردة فعل، يبدو جليا أنهما يحلقان في عالم آخر تحت تأثير المخدرات، كذلك لم أتمكن من رؤية أي من الآخرين الذين تزدحم بهم السيارة.
تحركت بنا السيارة، تمايلت يمينا ويسارا بشكل عنيف، مازحت العمدة:
- ما رأيك يا بركة، ها أنت في الملاهي؟
ابتسم على مضض، قال نادما:
- ما كنا دفعنا يا أستاذ، وأنهينا الموضوع؟
- هل سنكرر هذا الكلام مرة أخرى، يا عمدة؟ اصبر واحتسب عند الله.
قاطعنا الشاب المذعور، قائلا بخوف:
- كان يجب أن تدفعا، هم لا يرحمون أحدا، لا يرحمون.
انتابته حالة بكاء شديدة، تأثرنا لها جميعا. ملت نحو الشاب، ربت على كتفه لأهدأ من روعه وأطمئنه، انتفض جسده كمن تلقي صفعة شديدة. قدم له العمدة سيجارة، عرض على أخرى. لكني لا أدخن، وأعجب لأمر المدخنين. إذا فرحوا، دخنوا سيجارة. وإذا حزنوا، دخنوا سيجارة. وإذا لم يجدوا شيئا يفعلونه، دخنوا سيجارة. جمعت حيرتي في سؤال وجهته إلي العمدة هامسا في أذنه:
- ألا تعلم أن التدخين حرام؟
لم يفهم أو تجاهلني. أردت أن أذكره بإحدى الحقائق العلمية عن أثر التدخين:
- أتعلم أن تدخين التبغ يقتل إنسانا كل ثمان ثواني. (3)
أراد أن يكون رده عمليا، عد على أصابعه حتى وصل إلي العدد ثمانية، ارتسمت على وجهه ابتسامة المنتصر، قال:
- يا أستاذ، الأعمار بيد الله.
لم أجد ما أرد به على العمدة، ألتزمت الصمت. أجابني الشاب المذعور:
- وهل للحياة معنى؟ يا أستاذ، حياتنا أصبحت تتساوى مع الأموات.
كنت سأخطب فيه خطبة عصماء، بأن الحياة هبة من الله، يجب أن نستغلها في مرضاته، و...و...لكني شعرت أن حالته لا تسمح بذلك. فضلت أن أطمئنه وأتعرف إليه أولا، قبل أن أبدأ في نصحه:
- لا تخف يا أخي، أخبرني ما بك؟
نظر إلي بعينين دامعتين:
- إنهم لا يرحمون يا أستاذ.
- من هم، وماذا فعلوا بك؟
أخذ يتلفت حوله، كمن يخشى أن يسمعه أحد:
- إنهم رجال يديرون الكثير من الميكروباصات لحساب أحد ضباط الشرطة. عملت لديهم مدة طويلة من الزمن، جاءتني فرصة أفضل لترك العمل، أخبرتهم بذلك، أتهموني بأني ناكر للجميل، لكنهم لم يمنعوني.
سألته:
- جميل، إذا لا مشكلة؟
- الحق يا أستاذ، أيام العمل تحت حماية هذا الضابط كانت نعيما. بالطبع لم أكن أعرفه، ولم ألتق به ولو لمرة واحدة.
لكن كنا نعيش في "جنة رمسيس"، نحمل الركاب من الميدان، رغم أن هذا ممنوع رسميا. وأنت تعلم أن ميدان رمسيس يعد أزحم بقعة على وجه الأرض. كنا كالنحل، ما أن نصل إلي الميدان، حتى نحمل الركاب في دقائق معدودة. وننجز عدة دورات يوميا من وإلي القاهرة. حقا، كانت أياما جميلة.
- حتى هذه النقطة، لا أرى مشكلة.
نفث دخان سيجارته قبل أن يقول:
- انتظر، سأكمل لك.
جاري ترصيص وضبط زوايا عجلات الجزء التالي، يرجى الانتظار،،،
(2) حديث صحيح.
38425 - لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي
الراوي: عبدالله بن عمرو بن العاص - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1337
(3) إحصاءات صادرة عن منظمة الصحة العالمية، للإطلاع على المزيد يرجى زيارة الرابط التالي:
http://www.who.int/topics/tobacco/en/
عذرا: هذا الموضوع لا توجد له ترجمة باللغة العربية، رغم أن الموقع يستخدم اللغة العربية كإحدى لغاته الست.
------------------------------
تنبية هام: جميع الشخصيات والهيئات والأحداث والمركبات من وحي خيال الكاتب. ولا تمت بصلة من قريب أو بعيد لشخص أو هيئة أو مكان أو مركبة. ولو وجدت علاقة، فهي على سبيل الصدفة المحضة.