مشاهدة النسخة كاملة : جذور ألم
مأمون احمد مصطفى
01-10-2008, 12:12 AM
جذور ألم
هكذا تسير الأمور ، دون أرادة أو تخطيط ، تتدرج وتنحني ، تتشابك وتتداخل ، تنمو وتتعاظم ، تجدل نفسها كضفائر من شعر بدائي ، مجعلك ، يخمش الوجنات ، ويجرح الخدود ، قال في ذاته ، وهو يخطو نحو السهل الممتد بين قمم متسامقة متعالية ، لم يكن يعلم كيف تسير به قدماه ، بل هو لم يكن يعرف في أكثر الأحيان أي الطرق سلك حتى وصل إلى تلك الصخرة المزروعة على انزلاق طرف الجبل الساقط من أعلى إلى أسفل .
بينه وبين تلك الصخرة ، علاقة وطيدة ، يمكن لمسها باليد ، والإحساس بمكوناتها تماما كالإحساس بخصلات الشعر الساقطة على الوجنتين ، حتى عين الماء المنبثقة من تحت الصخرة ، كانت ترسل رقرقات خاصة عند وصوله إليها ، فيبدو خريرها وكأنه يخاطبه بلغة متوافقة، مياهها شديدة الصفاء ، شديدة النقاء ، تبدو كجدول من بلور شديد الشفافية ، تحاول بكل ما تملك من رهبة وهدوء ، أن تتسلل إلى نفسيته ، كي تتغلغل فيها ، تحركها نحو نقطة من بياض أو نقاء ، أو على الأقل ، أن تضع بعضا من بيوضها بأعماق ذاته المسربلة بغموض مجهول يندفع نحو حيرة مشدوهة ، لكن ، كل ذلك كان ينكسر ، ليسقط من جديد بجريان الماء المنغمس برحلة ضياع بين باطن الأرض وحرارة الشمس ، وأفواه الناس والحيوان وجذور النبات .
منظره لا يوحي بالغرابة بالنسبة لمشاهد عادي ، فهو طويل القامة باعتدال ودون إفراط ، تحتل رأسه صلعة ملساء تشبه إلى حد ما الصخرة التي اعتادت حضوره ، يتخللها بعض ندوب تدل على قساوة الرأس وعنادته ، ممتلئ الجسم ، بدون ترهل أو تبعج ، ينفرج شاربه بطريقه غزيرة ، ثم يتدلى ليخفي الفم ، وكأنها محاوله مقصوده لإخفاء الشفتين الجافتين ، ملابسه عاديه ، لا فقر فيها ولا ثراء .
لكنه للروائي ، أو القاص ، يبدو من الوهلة الأولى ، متخم بالرمزية ، فبريق عينيه اللامعتين ، المتأجج بشهوة الغموض والمجهول ، المتكاتف مع نظرته الذاهلة ، الغارقة بتأمل ممتد بين الدهشة والمباغتة ، يكاد يرسي بالنفس مجموعة من مشاعر تستفز الفؤاد بنوع غريب من المبهم المتداخل مع رغبات روائية لتسلق جدر الدهشة الموزعة بين خفقات الرواية ووجيب الواقع ، شاربه الكث الغزير المتساقط نحو الفم المغلف بصمت متناه ، وجمل قليلة ، لاذعة أحيانا ، ومحيرة أحيانا أخرى ، ومستنفره في بعض الأحايين ، أضف إلى هذا ، الارتباط القائم كأنشودة إغريقية بينه وبين الصخرة وبين عين الماء المرفضة من قاع الصخرة أو أسفل الأرض التي تحتضنها ، هذا ، يضيف إلى عين الراوي مساحات لا يمكن للإنسان العادي ولوجها ، أو حتى الوقوف على أطراف غليانها وانبثاقها كرؤى حالمة مشبعة بالحزن والألم والقلق المتواصل مع كآبة معتقة تكاد تمتد إلى بدء التكون البشري على حافة الكون .
صحيح أن الراوي يملك مخيلة خصبة ، مترعة بتفاصيل مبتكرة ، تركب فوق مكونات الشخصية لتظهرها بصورة خاصة ، يكون الراوي المشكل الأساسي لنمط تكوينها ، لكن الأكثر صحة ، أن الراوي إنما يحاول تشكيل الشخصية حسب قوة خفية تكاد تكون أكثر اندماجا ووضوحا ، بل وأكثر علما ومعرفة ، بتفاصيل الشخصية من صاحبها الذي يمارس الحياة وفق ظن قائم لديه بأنه يعرف ما يريد من تصرفاته وأفكاره ، والاهم وهمه المطلق باعتقاده بأنه يعرف تطور إحساساته وانفعالاته ، وتقلبات مرجل عواطفه وهواجسه .
ذات يوم سألته ، ما سر علاقتك بالصخرة هذه ؟ قال : اسأل الصخرة ، قلت كيف أسالها ؟ فهي لا تنطق ، لا تبوح ، نظر إلي بازدراء متعاظم ، قاسني من أخمص القدمين إلى قمة الرأس ، ثم سأل ، ما علاقتك بالسؤال ؟ قلت : المعرفة ، قال : أنت تبحث عن شيء آخر ، لا علاقة له بالمعرفة ، قد تجده يوما ، إن تحولت إلى إنسان ، قلت : وما علاقتك بالجدول ؟ قال : اسأل الجدول . قلت : الجدول لا يجيب ، لا يعرف لغة الحروف ، قال : وهل تعرفها أنت ؟ قلت نعم ، قال : اوتظن أن بينك وبين الوهم فرق كبير ؟ ونهض من مكانه ، التفت نحو قمة الجبل المتصل بالصخرة ، نظر في عيني ، أرسل شهقة ، قال : أليس غريبا لك أن يكون الجدول نابعا من قدم الجبل لا من قمته ؟ وقبل أن أجيب استدار نحو الطريق ، وبدأ رحلة الابتعاد عن دهشة عقدت كياني وغلت روحي .
بدأت جمله تسير نحو شخصيتي الروائية ، تمد جذورها بعمق وصلابة ، ذات يوم ، قدر لي أن أرى جذور شجرة التين التي تبدو هشة من الخارج ، فغصونها غير متماسكة ، غير صلبة ، تعودنا منذ الطفولة أن نسمع الناس ، أهل الخبرة بالأرض والزراعة ، يصفون شجر التين بالخواء من القوة والصلابة ، هم يعرفون ذلك بالتواتر ، بالعادة ، بالتنقل بين أنواع الأشجار ، لكن نحن ، كنا نعرف الأمر عن طريقهم فقط ، وعن طريقهم عرفنا شجر الحور القابل للتشكل والطي ، وكذلك شجر البلوط الغارق بأساطير القوة والمتانة والصلابة ، ومنهم أيضا عرفنا ، معنى النور الناهض من زيت الزيتون المعمر ، لكن جذور التين ، عرفتها بالرؤيا ، حين بدأت الحفارة العملاقة بنزع الأرض من قاعها ، كنا نشاهد الجذور وهي تخرج على فم الحفارة وهي ملتفة على بعضها ، متكاتفة ، شاقة طريقها بين زوايا الصخور ومفاصلها ، وكأنها تملك دماغا قادرا على تحديد نقطة الضعف الكامنة في مفصل الصخر لتندس من خلاله وتتضخم ، فتشق الصخر وتفتته ، وتمتد بين مفاصل أخرى وأخرى ، فتبدو وكأنها تخوض ملحمة تاريخية ، لا ينهيها فم حفارة عملاقة ، أو خروج صخرة من باطن الأرض لتصبح معلما من معالم المشاهدة اليومية للعيون التي قدر لها أن تمعن النظر بتلك الصخرة المنزوعة من باطن الأرض من اجل هدف بناء أو تسوية للأرض ، لكن دون أن يخطر ببال احد ، معنى انتقال الصخرة من قاع الأرض إلى السطح ، وما يحمل هذا الانتقال من تبدل وتغير ، للمكان والزمان .
فالمكان ، لم يكن قبل لحظات من انتشال الصخرة ، يشكل نفس التضاريس التي بركت الصخرة فوقها ، والزمن ، لم يكن قبل تلك اللحظات هو ذات الزمن الذي سبق خروج الصخرة إلى المشهد ، بل بدأ عصر جديد ، يمتلكه محسوس الجغرافيا ، ويتغلغل فيه عمق الانسياب غير المرئي للزمن المولود والمتكيف مع العهد الجديد لتلك البقعة الصغيرة ، لكن الأمر الأكثر أهمية من كل ذلك ، هو جذر التينة التي اقتحمت مكونات وعينا والتصقت به ، لتشكل حيزا من ذاكرة نعرفها ولا نستطيع لمسها ، مع زمن تبدل فيه إدراكنا حول شجرة التين ، لتتشابه تلك اللحظات مع اللحظات التي غيرت معلم المكان والزمان عند خروج الصخرة من مكمنها لتتلاحم مع المشهد الجديد .
حين بحت للناس بهذا النزر اليسير من التفكير ، وحين قلت لهم ، بأنني قادر على كتابة ألف صفحة حول المشهد الجديد ، تلفتوا نحو بعضهم ، تهامسوا ، واخفوا بسمة غارقة بالسخرية والاستغراب ، وكان هذا أيضا ، مشهدا جديدا متصلا بمشهد الصخرة ذاتها ، ولو أخبرتهم يومها ، بأنهم جميعا ، في لحظة ما تحولوا إلى مكون من مكونات ما سخروا واستهزؤوا منه ، لطاحت عقولهم ، وانخمدت رؤاهم ، فتركتهم ، وتوجهت نحو السهل ، حيث ترقد الصخرة التي تعانق صديقنا غريب الأطوار ، لا لشيء ، سوى أنني احتاج إلى حالة من السهوم ، تدفعني لسؤال الصخرة عملا بغرابة النصيحة التي أسداها لي ذاك الرجل .
وجدته هناك ، يجلس كعادته ، غارقا في السهوم المبطن ، اقتربت منه ، وبدأت أحدثه عن جذور التين ، وأسهبت بوصف المتانة والخبرة التي تملكها الجذور ، وانقلبت فورا إلى إسهاب مفرط لوصف هشاشة الأغصان ، ولأول مرة منذ عهد بعيد ، أدار رأسه وتبسم ، كانت ابتسامته تحمل مواصفات الشخصية الروائية ، دون تجميل أو تنميق ، وبدت الملامح عن قرب ، مع اختلاطها بالابتسامة ، نافرة ، تخرج من عهود متشابكة متكاتفة ، حتى انعقاد الجبين ، كان يخفي بين الطيات مشهدا أسطوريا ملفعا بهلام الغموض الذي يفيض نحو المجهول .
قال لي : أكثر الأمور تعقيدا أن تحاول الانحدار نحو الغباء ، أو الإحساس بطبيعة تقودك نحو مفهوم يوحي لك بأنك غبي ، الناس تعيش بسعادة مفرطة لأنها تمتلك الغباء ، ضمن مكونات وجودها ، تركيبتها القابلة للي والكسر والتهشيم ، في كل لحظة وثانية ، لكنك الآن تمتلك إدراكا جديدا يباعد بينك وبين امتلاك تلك النعمة ، التي تبدو على الوجوه بسمات تشبه البسمة التي التصقت بوجودهم ساعة حدثتهم عن الصخرة ، أنا كنت هناك ، ليس بعيدا عنك ، سمعتك وأنت تتحدث عن الصخرة ، عن التشكيل الجديد للوجود ، لماهية الزمن والمكان ، رايتهم وهم يخفون الدهشة والانشداه ، ثم رايتهم كيف اخرجوا كل ذلك ببسمة تكاد تجزم يقينا بجنونك المؤجج .
قلت : كنت سأحدثهم عن أنفسهم ، عن بسمتهم ، كيف اختلطت باللحظات ، بالهنيهات ، بالأنفاس ، بالصخرة ، بي ، بك ، بالزمان والمكان ، كنت سأحدثهم عن مشاعر الزمن ، عن غضب الأرض التي غطتها الصخرة فحالت بينها وبين الشمس ، وكنت سأحدثهم عن غضب الصخرة ذاتها لأنها اقتلعت من مكانها الظليل لتصطلي بأشعة الشمس ، بل وكنت سأسهب في وصف التناقض بين الغضبين ، قلت لهم ، إنني قادر على كتابة ألف صفحة حول المشهد ، لكنهم تبسموا بسخرية ، أوقعتني بشعور غريب ، يتضارب مع كل ذلك ، شعور الخجل ، هل من الممكن أن يجتمع ما حدث مع الخجل ؟ أم أن هناك شيئا خفيا انبت الخجل في ذاتي .
قال : أتدري ، كنت قبل أيام أظن بأنني الوحيد الذي يسعى خلف انهيار النسمات ، واختفاء الليل حين يأتي الصباح ، لكنني الآن اشعر بالرضا ، فهناك أنت ، صحيح أننا لا نتشابه في الكثير ، بل ربما نختلف في كل التفاصيل ، لكننا نجتمع على حقيقة تأبى الانفصال عنا ، أنا كنت ابحث هنا عن عزلة خاصة ، تدفعني للحديث مع الصخرة ، أو عين الماء ، كنت أسعى للوصول إلى الغباء بكل ما املك من قوة ، تحزمت بالصمت أمام الناس ، وأسهبت بالتفاصيل مع الأشياء ، قلت ، لعل الجنون يأتي ، فان كان الغباء مستحيلا ، فليس أيسر من الجنون ، هذا ما قاله لي احد المارة يوما ، وحين تبعته ، وجدته يدخل كهفا ، استرقت السمع ، كان يبكي ، بحرقة ، بألم مستبد قاهر متأجج ، أحسست بالرجفة ، توقفت النسمات التي كنت أطاردها، بدا الصدى القادم من داخل الكهف يتسرب إلى أعماقي ، كل الدموع الساقطة اندفعت إلى أعماقي ، تدحرج الألم إلى قلبي ، أحسست بحاجة إلى البكاء الشديد ، لكن النفس أبت ، فتلوى الألم بداخلي كأفعى أرهقها سمها المشتعل حرارة ، اندفعت إلى الداخل ، التقت العيون ، صمت ثقيل ممض ، ثم نهض ، امسك بحفنة تراب ونثرها في المكان وهو يقول ، كم من الوقت احتاج لتذروني هكذا .
ترددت نحو الكهف كثيرا ، كنت ابحث عنه ، لا اعرف لماذا أحسست انه جزء من تكويني ، أحسست به يعوم بداخلي ، بطريقة زئبقية ثقيلة ، لكني لم أجده ، كل ما كنت اسمعه صوت البكاء القابع بأعماق الكهف ، ربما يأتي يوم وأخذك إلى هناك ، أنا واثق بأنك ستسمع صوت البكاء ، لكن غيرك لن يسمع .
جذور التين التي حدثت الناس عنها ، عن خبرتها ، تحمل ملامح ذاك الشخص الغريب ، لكنك لم تشعر بذلك ، لأنك تحدثت إلى من لا يعلم عن الجذر القادر على التوزع بين طيات الأرض والصخر ، بين أساسات البيوت والأسوار ، لتشارك الناس أسرارها ، فهي تمتد لتعرف ، لتحيا ، لتقول أشياء وأشياء ، لكن الجذور مثلك ومثلي ومثل الغريب ، تحاول بكل ما تملك أن تصل إلى نقطة الجنون ، فتفشل .
قلت : أنا وأنت نختلف ، في كل شيء ، قد يبدو للوهلة الأولى أننا نلتقي في البحث عن التفاصيل الغارقة بالنسيان ، بالإهمال ، بعدم الملاحظة والاكتراث ، لكننا نختلف في الهدف ، أنت تنظر لكل شيء من ناحية خاصة ، فيها غموض مبهم ، لا يعترف بالواقع ، ولا يبنى على المحسوس إلا من خلال انبثاقه من اللامحسوس ، أما أنا ، فان الأشياء التي ابحث عنها ، أطاردها ، ألاحقها ، متصلة بشيء من رغبة عارمة للخوض بمرحلة الغموض من اجل امتلاك الألم المحشو بالوجع ، أنا ابحث عن أشياء لا يعرفها الناس ، تماما مثل الصخرة التي خرجت من باطن الأرض ، لتشكل وجودا جديدا للواقع المرئي وغير المرئي ، لذلك تراني اغرق بتفاصيل الواقع الجديد بكل تفصيلاته ، كواقع الجغرافيا المتغيرة بتغير المكان بعد صعود الصخرة إلى السطح ، واستطيع أن أسعى خلف تفاصيل كثيرة لم تكن موجودة قبل ذلك ، فانا استطيع الآن أن أقول خلف الصخرة وأمامها ، تحت الصخرة وفوقها ، على بعد ميل من الصخرة أو ميلين ، ولو أردت الاسترسال بذلك وما شابه ذلك ، فإنني استطيع أن اسحب الزمن والجغرافيا بصورة متحركة تنتقل من ساعة إلى ساعة ، لأخرج تفاصيل جديدة للوجود ، لا يمكن لغيري إخراجها ، أنا ببساطة ابحث عن تفاصيل تتعلق بي لوحدي ، تشهد باني صانعها ومكونها ، فاتح زمنها وأرضها للناس ، بصورة غير معهودة ، لم يتنبه لها الناس من قبل ، لكنها أصبحت بعد إخراجي مادة وجود وحياة ، بالإعجاب أو السخرية ، الأمر سيان ، لأنها أخذت من مساحة العقل والزمن والمكان والأثير حيزا غير محدود .
ولو أردت الاسترسال لصنعت من السخرية مادة جديدة ، وكذلك من الإعجاب ، لاستطيع إحياء فكرة من فكرة ، وجود من جود ، وهكذا إلى تنتهي الحياة ويتوقف العمر .
دعني أسألك سؤالا غريبا ، هل تستطيع أنت وكل أهل الأرض ، أن تعيدوا إحساس الناس يوم سخروا مني ؟ وهل تستطيعون استعادة نفس الإحساس الذي انتابني يوم ذاك ؟ الثواني التي مرت وانقضت ، اندثرت في عالم الخفاء ، أصبحت من أكثر المستحيلات استحالة ، وكذلك العمر الذي انقضى من كل الناس الذين شكلوا المشهد في تلك اللحظات ، هل أدركت الفرق بيني وبينك ؟ بين ما ابحث عنه أنا ، وبين ما تبحث عنه أنت ؟
أنا ببساطة انظر إليك أنت تحديدا ، نظرة قصصية ، أريد البناء عليها ، استلهم التفاصيل الدقيقة جدا ، من صخرتك ، من نبع الماء ، من الصخرة التي أصبحت واقعا فوق الأرض ، من جذور التين ، من الناس الذين شاركوا بالمشهد ، من الكهف والدموع ، ومن أشياء متنافرة مختلفة ، استلهم كل ذلك ، من اجل دمجه بصورة مطلقة مع شخصيتك التي أريد تركيبها ، بنائها ، لاخرجها للقارئ بصورة خاصة ، تعيش بداخلي ، بعقلي ، وفق دفقات الألم المتكور كعقد الساحرات اللواتي ينفثن بأعماقي ظمأ البحث عن الم يكمن بتفاصيل جديدة .
قال : اليأس يعيش مع الكلمات ، كم من المرات تحولت من إصبع إلى فعل ؟ أظن ليس كثيرا ، بل وربما كنت تتقن فقط ما يتقنه الناس ، بالسليقة ، بالعادة ، الفرق بين أن تتقن فعل الأشياء وبين أن تحمل القلم هائل ، هذا لا يعني بان القلم ليس فعلا ، لكن الصفحات هي التي تحول القلم إلى حقيقة من الوجود ، بما تحمل من أفكار ، من قدرة على التأثير في مسار الحياة ، في نفوس الناس ، في إنضاج الحرية إلى حد الانتقال من معرفة الظلم إلى مرحلة الإحساس فيه ، هكذا قال غيفارا ، الذي تنقل بين مساحات الأرض للحصول على الحرية ، ليس لوطنه ، بل للأوطان الأخرى .
المهم ، أنت تبحث عن مادة للرواية ، للقصة ، أليس من المفروض أن تكون هناك شخصية ، وحدث ، وعقدة ، وحشو وحل ، أنت تتحدث عن جذور التين والفرق بينها وبين الأغصان ، عن الصخرة وتحول الزمن ، وانبثاق وجود جديد ، تتحدث عني ، هل كل هذا يشكل قصة أو رواية ؟
قلت : لماذا علي أن انساق وراء ما قلت ، كثير تحدث عن الرواية والقصة بما قلت ، ولكن ، هل علي أن اقبل بذلك ؟ أن ازحف خلف خطوات ربما أكل الزمن حيثياتها كلها ؟
جذور التين وحدها رواية ، رجل الكهف رواية ، أنت رواية من نوع جديد ، علي أن اخترق كل الخطوط القديمة لأجعل الفكرة هي المسيطرة على الصفحات ، بعيدا عن التماس أو اختراع شخصيات ايجابية ، من خيال متقد ، مفعم بالحلم الساكن أعماق هواجسنا المضطربة ، المولودة من واقع يائس ، لماذا على أن اصدق شخصية الطروسي ، التي خرجت من الحلم المنهك المرهق ، لترسم خطوات لا يصنعها إلا الخيال الموبوء بالحلم الايجابي ، لماذا علي أن أعيش واصدق شخصية الهجان ، التي أتت من قعر هزيمة الفكرة التي تأسست من هزيمة الأمة ؟
أنا اكتب عنك أنت ، كمثل اعشقه ، ينأى عن المجتمع ، ينظر إلى الأمور من بصيرة الصمت والتأمل ، بقدرة الانزواء عن عالم يفيض بتفاهة الفكرة والممارسة والفعل والكتابة ، اكتب عن دموع صاحب الكهف الذي سمعت بكاءه وهو يسأل متى سيتحول إلى رماد ، اكتب عن الصخرة التي خرجت لتصنع رغم انف العالم بأسره واقعا جديدا في الوجود ، واكتب عن جدول الماء المنساب من تحتك ، من تحت صخرتك التي حملت هموم الجبال والنسمات والسهول بصمت موصول بصمت ، أتدري لماذا ؟ لأنها أدركت أن قيمة الإنسان ضئيلة ، اقل من أن تقبل بالتحول من الجماد إلى الإنسان .
أنت كغيرك من الناس ، تلهثون خلف الشخصية التي يصنعها الراوي من خياله ، في لحظة عجزه وانهياره ويأسه ، وإلا فبأي المقاييس تكون شخصية الطروسي أو سعيد حزوم ، متوافقة مع الواقع ، مع الحقيقة ، كيف لم تتنبهوا بأنها مصنوعة من سراب يقود إلى مساحات هائلة من الوهم المفتوح المتتالي، ربما لأنكم تبحثون عن الخلاص من يأس أنفسكم تبحثون عن خرافة البطولة ، عن وهم الشخصية التي تستطيع تعويضكم عن عجز مقيم بكل ما تملكون من وعي الهزيمة والاندحار ، لو تأملتم رواية كوخ العم توم ، لأدركتم وبعمق اليقين بأنها فتيل الحرب الأهلية في الجنوب الأمريكي ، ولو عرفتم رواية رسائل من منزل الأموات ، لأدركتم بأنها كانت تتجه نحو الإطاحة بظلم القياصرة في روسيا ، والروايتان لم تتناولا ولو للحظة واحدة ، أسطورة بطولة الرواية العربية ، ولم تتناول ابتذال الفكرة وتسطيحها من اجل الشهرة أو المال .
هارييت بيتشر ستو ، ودوستويفسكي ، عاشا حياة الناس ، أدركا عمق التحطم الوجداني ، وأدركا ببصيرة لا تقبل الشك أو النقض ، أن الانغماس والإغراق بتفاصيل الواقع ، تحمل الفكرة السامية التي يجب أن تحتل الرواية ، دون الحاجة إلى الإغراق في محاولة صقل شخصية تحمل مواصفات السراب والخيال والهزيمة .
وأنا أحاول بكل ما املك الابتعاد عن تلك الشخصيات الغارقة بالوصف المتهالك ، لذلك أرى فيك أنت ، ورجل الكهف مادة حية ، وفي نفسي مادة أخرى ، تلتقي وتختلف مع شخصيتك ورجل الكهف بأشياء ، وتختلف بأشياء ، سأحدثك عنها لاحقا ، وربما اصمت ، الأمر مرهون بالدفق القادم منكما ، لكن الآن دعني أعود إلى جذور التين من جديد .
لماذا استطاعت جذور التين ، بكل ما تملك من قوة ، أن تخترق الصخر والاسمنت ، لتمد جذورها حول الصخور وحول المنازل ، ولتوزع وجودها هنا وهناك في باطن الأرض ؟ لأنها ببساطة أدركت أن مأساة العم توم كانت في بقاءه على نفس البقعة من الأرض التي حوت عبوديته ، ولأنها عرفت أن ساكن منزل الأموات ، أيضا لم يشق الجدار ليخرج حيث النور ، حيث الشمس ، لذلك أرست جذورها ، اخترقت طبقات الأرض ، زاحمت الصخر والاسمنت ، فتعالت ، تسامقت ، وحين أتت الحفارة لتنزعها من الوجود ، خرجت الجذور من قاع الأرض إلى النور إلى الشمس ، إلى الحرية ، وأخرجت معها كما من التراب والأحجار والحصى ، كما أخرجت تلك الصخرة التي أصبحت مكونا من مكونات الوجود الظاهر للنور والشمس والهواء .
هي أدركت المعادلة ، بصمت ، بدأب العمل الذي كان يتم تحت الأرض وبين الصخر والاسمنت ، وقبلت ، دون أدنى احتجاج مقولة متوارثة عن هشاشة أغصانها ، فانتصرت ، على قاع الأرض ، وعلى ظاهرها ، لكنها ظلت تنظر إلينا بازدراء ، باحتقار ، حين نشفت وقمنا بتهشيمها ظنا منا بأنها تلاشت واندثرت ، في حين أن هباءها انتشر في الأرض من جديد ليمنح الجذور القابعة للأشجار السامقة استمرارية البقاء والوجود .
جذور التين هي الشخصية الأساس للقصة ، أنت جزء بسيط من الحدث ، لكن الصخرة تشكل محورا من محاورها المهمة ، رجل الكهف جزء بسيط ، الناس المحيطة بالوطن ، ربما لا تشكل شيئا منها ، لكن الأب الذي يعود بعد حلول الظلام ويقرفص بقدميه المهدودتين من التعب والألم ليقبل أطفاله النيام ، هو الشخصية المشتركة بين الحدث وبين جذور التين وبيني وبينك ، والاهم بين الحروف والصفحات .
قال : أنت تستحق الشفقة أكثر مني ومن رجل الكهف ، أنت مأساة جديدة ، من نوع خاص ، تتعمق في اختراع العذاب والألم ، في ابتكار ألوان العذاب والوجع ، أنت حقا تحيا بلا هدف ، قد يكون هناك هاجسا يخفق بأعماقك بوجود هدف ما ، تعيش فيه ومن اجله ، لكن تفاصيل وجهك وأنت تتحدث ، تشابه تفاصيل راسلينكوف لحظة تخطيطه للجريمة ، ولحظة انقلابه وندمه على النقود التي منحها للشرطي كي ينقذ الفتاة من براثن المتسكع ، لكن شيئا ما يدور كهالات من وهج البرق يظهر ويختفي حول جسدك ، ربما هي الصاعقة ، وربما هو نذير ما ، غامض ومجهول ، يستعد للظهور والبقاء ، كما ظهرت جذور التينة .
لكن المؤكد ، أن بينك وبين الجنون مساحة بعيدة ، فلا ترهق نفسك بالبحث عن ساعة جنون أو غباء ، بل ابحث عن مساحات جديدة تبعدك عما يعيش فيك ويكبر ، كجنين خرافي يتمدد دون طول أو تضخم ، بل ينتشر بكل جزء فيك ليصبح المكون الوحيد لما هو بَينٌ منك وظاهر .
قبل اليوم كنت اشعر بثقلك من مطاردتي ، وكنت اسأل نفسي كثيرا ، ما الذي يدفعك للاقتراب مني ؟ اليوم فقط عرفت أن مصطفى سعيد لم يكمل هجرته إلى الشمال ، بل بقي على ارض طفولته الموبوءة بنهايته الغريبة .
قلت : وهكذا ستبقى أنت ، ورجل الكهف ، وأنا ، في الأرض التي اخترعناها لتمنعنا من الهجرة إلى حيث الهجرة ، أنت افترشت الصمت والانزواء ، ورجل الكهف افترش الدموع ، وأنا افترشت الحروف والوجع والألم ، تحدثنا عن الصخرتين ، عن جذور التين ، عن عين الماء ، وعدنا لنعيش حالة الشفقة ، على بعضنا ، دون أن ندرك بان الشفقة هي مكون من مكونات اليأس ، من مكونات القنوط ، مصطفى سعيد بقي في أرضه الموبوءة بنهايته ، لكن غيفارا ، خرج من قمقم الأرض إلى الفضاء ، تماما كجذور التين ، وحين تهشم ، توزع على الكون ، ليمد الناس بغذاء البقاء والاستمرارية .
قال : قلت بأنك ستحدثني عن الافتراق والالتقاء بين شخصيتك وشخصيتي وشخصية رجل الكهف .
قلت : قد حدثتك ، والآن أدرك تماما ، لماذا عافت الصخرة وجودك فوقها . وعاف الكهف ساكنه .
قال : ألن تكمل ؟
قلت : ربما .
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 30 – 9 - 2008
عمّار حجّاج
01-10-2008, 01:47 AM
أخي المُبدع مأمون أحمد ..
أُهنّيك على هذه المقدرة على الإدهاش في كُلّ ثانيةٍ من مشواركْ
شُكراً على المُتعة البحتة التي سكبتْ
دام ألقُك
مودّتي
وفاء شوكت خضر
01-10-2008, 02:41 AM
حمدا لله على سلامتك وعودا حميدا ..
كل عام وأنت بخير ..
قد رأيت مأمون أحمد مصطفى هنا بثلاث أرواح ..
ترى كيف يفكر مأمون أحمد مصطفى هذه الأيام ؟؟
مأمون الآنسان ومأمون العقل ومأمون الروح !!
أم هو مأمون الذي يبحث عن امتداد جديد لنفسه مثل جذور شجرة التين ؟؟
أبدعت بحق هنا حتى أنك خطفت أنفاسي وأنا أتابع هذا الحوار الذاتي وأحسسته ..
أسعدني أنك هنا ..
طمأنني الله عنك ..
تحيتي وكل عام وأنت بخير .
أعاد الله الشهر عليك وأنت ترفل بأثواب العافية .
سحر الليالي
09-10-2008, 11:53 PM
:
أستاذي [ مأمون ]
لله درك من أديب
دوما تدهشنا بقلمك
سلمن ودما لنا
تقبل خالص تقديري وتراتيل ورد
د. نجلاء طمان
10-10-2008, 01:55 AM
ولو أكملت لأتحفتنا برواية درة من الدرر !
في روايتك القصيرة , شد وجذب, ومد وجزر, وشهيق وزفير ,..... ودهشة !ّ
دمتَ أيها الروائي الساحر
يرعاكَ الله
مأمون احمد مصطفى
13-11-2008, 05:17 PM
دز نجلاء :
ربما ساكمل ، فللجذور التي رويت عنها امتداد بروحي ، يتشابك مع جذور السنديان والبلوط .
اشكر لك هذا الاطراء الرائع .
ارجو ان اكون بمستواه .
مع كل المودة
سعيدة الهاشمي
20-11-2008, 02:16 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تستحق القراءة، غصت فيها حد التيه، شيقة أحداثها، جميل حوارها، قوية كلماتها
غريبة ورائعة شخصياتها، علاقة الطبيعة بالإنسان وظفت بشكل مميز أخرج مكنونات النفس
وجعلها تطفو على السطح كما اقتلعت جذور التين لتعانق حرية الهواء وبقيت جذور الألم
متغلغلة في فلسفة الذات.
سرني ما قرأت، تحيتي ومودتي.
مأمون احمد مصطفى
22-11-2008, 01:07 PM
الاخت سعيدة :
اشكر لك هذا المرور الذي بلغ الاحساس بالقصة
مع المودة
مأمون احمد مصطفى
26-11-2008, 02:02 PM
جذور ألم
" 2 "
حين غادرته ، أدركت كم الفوضى التي تركتها مفردة " ربما " في ذاته ، المفاجأة من التوقف كانت بقدر حزمها ، قد رسمت الذهول على قسماته بشكل مغاير لكل ما عرفت منه أثناء المراقبة ، حتى دخل في روعي ، أنني انتقلت من شخص إلى شخص آخر ، يختلف عمن كنت أحدث منذ لحظات ، بنفس القدر الذي أحدثته الصخرة من تغير لطبيعة المكان والزمان ، لكنني ظللت معلقا بين الوهم الذي اقتحمي ، وبين الجذور التي انتفضت من غبار اللحظات لتستوطن ذاتي من جديد ، بطريقة تدفع العقل للتجمد والتصخر ، للشلل المصحوب برغبة عارمة للانفلات من حالة اللحظة ، للغوص بلحظات القادم .
قال لي قبل أن أغادر ، حدثني عن نقاط الالتقاء والاختلاف بيني وبينك وبين رجل الكهف ، وحين غادرته ، لم أكن اعلم باني اسحب لحظات الزمن الغارق بين مسامات وجهه وجبهته ، ولم أكن أدرك ، بان ذاك الرجل المزروع فوق الصخرة ، والمتأمل للحظات الوجود ، بروية تكاد تكون قاتلة ، والملفع بصمت يزيده غموضا ورهبة ، يمكن أن تسقط مكوناته تلك وتتلاشى ، لتنصهر ، بعلامات الذهول والانشداه الغارقة ببئر تغص بالطحالب الملونة ، بفعل المد والجزر .
قلت له حين التقيته مرة ثانية : ماذا لو حدثتك عن الصخرة التي تخصني ، الصخرة التي شكلت جزءا كبيرا من تقلبات ذاتي ، ونوازع نفسي ، والتي رافقت سنوات طفولتي ، بدأب وصبر لا يماثلهما شيء في الوجود .
تلك الصخرة ، تقع على حافة سور مدرسة بنات اللاجئين في مخيم طول كرم ، وتحديدا ، على الزاوية الغربية للسور ، حيث تلتقي مع سوق الدواب ، يفصلها عن السهل الممتد إلى أخمص الجبال ، شارع يصل مدينة طول كرم بمدينة نابلس ، ومن هنا اخذ اسمه ، وحين تدلف بالعين عرض الشارع ، تلامس مجموعة من الدرجات المشققة بالأعشاب ، والملونة بطحالب وطفيليات ، تزيده روعة حين تبدو كلوحة ملحمية غارقة بتفاصيل تتجاوز قدرة العقل والفكر ، بعددها واندماجها وتلاحمها ، لتزرع بالذات ، مجموعة من مشاعر متآلفة متناسقة ، برغم ما فيها من تباين واختلاف .
هذه الحالة لوحدها ، تكاد تلامس الروح بطريقة غريبة ، فتحشوها بلحظة مفاجئة ، بنشوة غامرة ، تكاد تعصف بها لتنثرها هباء وسط الهباء ، لكن الروح تبقى عائمة وسط تلك النشوة ، تتقاذفها أمواج متناقضه مجهولة ، لكنها معروفة مألوفة ، قريبة بغموضها إلى لمسات الروح ، وملاصقة بتناقضها إلى معلوم المجهول ، صحيح أن تفسير ذلك يخضع ، لتحركات النفس والروح ، بطريقة الإحساس والشعور ، البعيدة عن اللمس ، لكنها تبقى رغم كل ذلك لغة يمكن للغيب المركز في ذات اللحظة ، وذات المكان ، وذاتي ، أن ينهلها ، كماء زلال متدفق في الحلق وسط سراب طارد الإنسان حتى كاد أن يوصله إلى لحظة الموت .
وحين تهبط الدرجات ، يبدو السهل المتتد إلى أقدام الجبال المطلة على البيارات الكثيفة ، وكأنها رايات من ألق يعانق الأفق ، فتداهمك الخضرة المتفجرة من كل جانب ، تتغلغل بأعماقك ، تتسرب في حنايا النفس ، كتسرب الماء من بين الأصابع المنفرجة ، تتناغم خضرة السهل مع خضرة الجبال المكتظة بالزيتون واللوز والدراق ، تشعر بخفة ظاهرة تكاد ترفع أقدام الجبال لتطفو فوق أثير من نور ، تنبز من التراب مجموعة من الديدان اللحمية ، تغسل نفسها بشعاع الشمس ، تتمطى وكأنها زودت ذاتها بروح جديدة ، تحدق فيها ، فتبدو وكأنها تحمل في اسطوانيتها أسرار وجود غريب ، له ملامح وتقاسيم ، وله زوايا تتوافق وتتأصل مع زوايا الكون ، عرفت عنها الكثير ، وعرفت عني الكثير ، سأعود في لحظة ما ، لأحدثك عنها ، عن قدرتها في التوحد مع القادم ، رغم ما يبدو عليها من ضآلة ، لكن دعنا نكمل بعض الخطوات القليلة ، نتقدم قليلا نحو السهل ، حتى أستطيع العودة للحديث عن علاقتي مع الصخرة ، وعن علاقة الزمان والمكان والناس والأشياء بتلك الصخرة .
على الجانب الأيمن ، وعلى بعد خطوات من الدرجات ، يقع خص " أبو باجة " ، وعلى اليسار يقع خص السروجي ، والى الأمام يقع خص آخر ، كلها من القصب ، على أرضها مجموعة من " الجنبيات " الصغيرة ، وبعض المساند المصنوعة من القش ، وفي زواية كل خص ، زير من الفخار ، وقلة من الفخار أيضا ، ترشحان الماء المغطى بظل ، فتبدو النقاط المتكونة فوق سطح الفخار ، حبيبات من ماس منثور ، تدعمه نسيمات شاردة من البيارات المزدحمة بروائح الليمون والبرتقال ، تشعر بظمأ مستبد ، قادم من رغبة عارمة للتواصل مع سر الماء الموجود في هذا المكان ، ظمأ ممزوج بظمأ المجهول الذي يدفعك للانصهار بطيبة " أبو باجة " وهو يغلي الشاي على حطب الأرض ، والعرق يتفصد من جسده ، بطريقة توحي بأسطورية الأشياء المتلاحمة بكل التفاصيل ، لتدفع تلك الطيبة إلى صوت يدعوك لتناول كوب من شاي ممزوج بأعشاب الجبل المقابل ، تشعر بنوع من فرحة غامرة حين تلامس كفك كف " أبو باجة " ، الذي يصدح بصوت له مذاق السهول والجبال ، مناديا على السروجي ، الغائص بين عيدان الملوخية والبامية ، وبين الباذنجان المتفتح زهره على استحياء .
تتقدم قليلا ، تلمح الحارس " أبو لافي " وهو يتسحب بين أشجار بيارة " أبو حمد الله " بطريقة تحمل طابع اللصوصية المستقاة من خبرة الحراسة ، وما هي سوى لحظات ، حتى ينبثق وهو يصرخ بصوت يخترق روعة الهدوء وصفاء الجبال " حَلق عليه حلق " ، تفلت الأقدام من الأطفال الذين يولوا هاربين ، وصوت " أبو لافي " يطاردهم ، يصطدمون بالأشجار ، بالأغصان ، والشمس من قبتها ترقبهم برفق وكأنها ترسم بين أشعتها خطوات أيامهم القادمة .
على بعد خطوات ، تنقلب الدنيا ، تتكوم في بؤر العين والقلب مشاهد وروائح الموت ، مجموعة من الحمير والبغال والخيول ، وبعض من البقر والماعز ، ملقى على حافة " وادي الزومر ، متششقة ، مفسخة ، منفوخة ، مبقورة ، مئات الملايين من الديدان في كل جثة ، تتحرك ، فتشعر بأنها تتقلب كبركان تغلي فوهته استعدادا للانفجار ، تتشابك روائح الجيف مع رائحة الموت المسيطر ، مع الحياة الخارجة من عين الموت على شكل دود ، مع روائح البيارات ، تنتابك رعشة قوية ، تكاد تخلخل كل ما فيك من توازن ، مشهد الموت الضاخ شكل الحياة في الدود ، روائح الجيف المغلفة لروائح الليمون والبرتقال ، مع خرير مياه الوادي الملطخة ببقايا البشر ، كل هذا يدفعك للوقوف والتساؤل ، كيف تتكون الأشياء ؟ وكيف تتداخل بتفاصيل صغيرة ، تحوي بنواتها تفاصيل اصغر ، وتحوي الأصغر تفاصيل أخرى تغوص بتفاصيل ، حتى يداهمك الشعور ، بان التفاصيل تتوالد ، كتوالد الإشعاع النووي ، ببداية ، ندعي أننا نعرفها ، رغم جهلنها المطلق بتفاصيل البداية ، وما قبل البداية ، ويستمر التوالد إلى ما لا نهاية .
دعنا نعود للصخرة من جديد ، وحتما سأعود لأكمل معك مسيرة الخطوات القادمة ، لان فيها ما يستحق أن يذكر ، وفيها من العلاقة التي تربطني بالأشياء ، ما يفوق علاقتي مع البشر ، رغم تواجد العنصر البشري بمكونات الأشياء واللحظات ، لكنه وجود مرهون بوجود الأشياء ذاتها ، فان ذهبت ، تلاشى وتبخر ، لكن الأشياء تبقى رغم تلاشي الإنسان وتبخره ، وهذا ما يثبت حاجتنا لها ، لوجودنا على تفاصيلها المترعة بالتفاصيل .
قلت لك ، إن لي وجودا يشابه وجودك ، حسنا ، فانا وأنت نشترك بان لكل منا صخرة ، تعودت عليه ، وتعود عليها ، صخرتك تحدثنا عنها ، ربما هناك ما تود قوله ، لكن الآن أود أن أخبرك عن تفاصيل علاقتي بالصخرة ، هي ملساء ، لكنها مبعجة قليلا ، غير نافرة كثيرا ، تكاد تتساوى مع جسد إنسان منحني ليلتقط شيئا عن سطح الأرض ، تمر من فوقها ماسورة متوسطة الحجم ، لتغذي بعض الحارات بالمياه ، وبسبب وقوع الماسورة على الزاوية الملتصقة بسور المدرسة ، فان ظلال الأشجار تغطيها بشكل دائم ، وهذا ما يمنح الصخرة برودة تتواءم مع النسمات الهابطة من حركة الأشجار ، تشرف على السهل ، تلامس من مكانها سقف الجبال ، لكن الأهم من كل هذا ، أنها تعرف ، وعلمتني أن اعرف ، أسرار اللحظات والهنيهات والناس والأشياء .
منها عرفت ، وبالتعود ، ببساطة وعفوية ، أكثر أهل المخيم والقرى ، مهنتهم ، خفايا نفوسهم ، عرقهم ، غضبهم ، فرحهم ، ولن أكون مبالغا إذا قلت ، باني عرفت أكثر مما يتسع عمري ووجودي في تلك السنوات .
سوق الدواب ، عرفني بأنواع الحمير والبغال والخيول ، وأنواع الخراف والماعز ، فهذا حمار بلدي ، يساوي سعر كذا ، وهذا حمار قبرصي ، يساوي سعر كذا ، وهذه غنمة شامية ، تفوق البلدية بالسعر للخصائص التي تميزها ، وهذا البغل ينفع للحرث ، أما ذاك فينفع للأوزان الثقيلة ، هذا الحمار يجب أن تحذر طباعه ، فهو يرفس بعنف ، أما ذاك فله طبع العبودية ، حتى الحمير ، لها طباع الثورة ، التمرد ، لذلك تراها تَحْرِنْ هنا ، تتجذر مكانها ، تتحمل لسعات السياط ، وهوي العصي ، وبلحظة منتقاة ، من داخل الوجع ، من داخل الإحساس بالظلم ، ترفس بقدميها ، فيتناثر الدم من الرأس كنافورة ، وتلتحم الحرارة مع الغضب ، لتجعل الدماء المنبثقة تفور وتتناثر وسط الساحة ، بعض الخيول يحذرك بائعها من تكدينها ، فهي من سلالة عريقة مدللة ، البعض الآخر يمكنك تكدينه ، الفحول لها قصة أخرى ، فهذا فَحْلٌ فَحْلْ ، أما الآخر فهو فحل عادي ، ولكن حاذر وقت التزاوج من الاقتراب من الاثنين ، فنطحة الفحل في تلك اللحظة علاجها إن كسرت العظم عسير .
هنا كانت تبدو الأشياء التي سترافق كل نبضة من نبضات قلبي ، الأشياء التي لا تسمى ، لا توصف ، بل تتكامل رغم اختلافها ، لتعطي لكل إحساس وشعور ، نوعا من البيان الواضح المجهول ، وترسم في كل ذات حقائق متباينة ، رغم توحد الأشياء بنواتها وجوهرها ، لكن الإنسان ، الذي لا يتقن فن التعامل مع الأشياء المتكاملة ، يتوزع إلى حالة مستعصية ، كل فرد فيها ، يحمل بصورة ما ، نوازع وأحاسيس ، تختلف وتضاد ، إلى درجة تقود إلى ذهول مسيطر ، فالصخرة وسوق الدواب ، هما شيء واحد ، لا يتغير ، لكن الإحساس بهما ، لا يلتقي بين فرد وفرد ، بل ربما لا يلتقي بنفس الذات ، بين لحظة وأخرى ، ليس بضرورة التجدد ، بل بضرورة العجز الذي يدفعنا للتقليل من حجم الأشياء ، لأنها فقط أعظم واكبر من قدراتنا .
إن المشهد في سوق الدواب اكبر مما تظن ، انظر إلى ذلك الاتجاه ، هذا الحمار الهائج ، الذي يدور بين الناس بغضب مستعر ، كيف أفسح مساحة من السوق لأقدامه التي ترفس الهواء ، بقوة وعنف ، لماذا أصيب بالغضب ، بالنزق إلى هذا الحد ، لا بد وان هناك شيئا ما أغضبه ، دفعه للثورة ، للتمرد ، الم اقل قبل لحظات بان الحمير يمكنها أن تتمرد ، وان تعلن هذا التمرد ، رغم الرسن ، رغم اللجام الذي يحاول السيطرة على ذهن الحمار من خلال الضغط على فمه أسنانه ، ورغم السياط والعصي ، وحين تتوقف ، وهذا ما يجب أن تدركه ، فإنها تتوقف فقط لأنها حققت ما تريد ، ونحن نربأ بغرورنا أن يعترف بذلك ، فنقول بان العصي والسياط قد حققت المعادلة الحقيقية ، وليس أسخف من هذا ، وكذبه ، إلا مفاجأتنا القادمة من ثورة جديدة من ذات الحمار ، وتستمر تلك الثورة ، حتى نخضع للمعادلة التي يريدها الحمار ، مع ظننا بأننا حققنا النصر على تلك الثورة التي ترسمها الحوافر القادرة على تفريق المجموعات واحتلال مساحة من السوق .
وهناك على الطرف الآخر ، مجموعة من التجار ، يساومون على بغل بليد ، حاول أن تركز على الجمل التي تعلمت التركيز عليها منذ طفولتي ، البائع يقسم أغلظ الأيمان بان البغل مطواع ، لا يعرف التمرد ولا يعرف الحرن ، يستطيع أن يحمل في صعود حاد أحمالا تفوق قدرة أي بغل مثله ، راقب وجه البائع ، ترى الجمل وهي تتحول إلى انفعالات تطفح على المحيا ، فالرجاء والتمني يبدوان على القسمات ويظهران في نبرات الصوت ، اندفاعه المحموم لإقناع المشتري بصفات البغل الرائعة ، لا تختلف مطلقا عن اندفاع القائد المنافح عن أحداث وخطط معركة فاصلة .
إلى اليسار والى اليمين ، في الوسط وفي الخلف ، حورات ، مساومات ، مشاعر وأحاسيس ، هذا يقسم أغلظ الإيمان ، وذاك ينفي ، هذا يستبسل بوصف الخصال الحميدة للحيوان ، وذاك يستبسل في اختراع العيوب ، يحمى الوطيس ، يصاب البائع بنوبة غضب تهز كيانه ، وبائع آخر تتهلل أساريره ، فقد نال من المساوم وأقنعه فحصد السعر الذي حدد ، مساوم آخر يعلن بان هذا الحصان ضامر ، يحتاج إلى تحذية ، الهبوط بالسعر ضرورة ، ينال من البائع ، الفرحة تكسي ملامحه والهزيمة تحيط بملامح البائع .
هذه التفاصيل ، بكل ما فيها من زخم ، كانت نقطة تحول في حياتي ، فمنها تعلمت معرفة الناس ، معرفة النفوس ، وما يدور فيها من اختلاطات وتنازعات ، رغم ما يبدو من اختلافها ، فإنها كانت تشكل مشهدا واحدا ، فيه من التناغم والتناسق ، ما يجعلني اقضي أياما طويلة وأنا اُشَرِحْ التفاصيل ، تفصيلا خلف تفصيل ، من اجل جمع المشهد كله بذاكرة لم تكن تعرف يومها بأنها ستستعيده إلى الناس على شكل رواية ، رواية لها ارتباط بالأشياء ، بالتفاصيل ، أكثر مما لها ارتباط بالإنسان ، الذي يدخل بمكوناتها كعابر بسيط ، له صلة بتفاصيل لم يكن يعلم بأنها تمر لتحط فوق الصخرة .
لكن المدهش بالأمر ، أنني تعلمت معنى الإحساس ، بالناس ، بالأشياء ، بالحيوان ، وملكت من الخبرة في الاندفاع نحو البساطة ، أكثر مما ملكت يوم كبرت والتقيت بالطبقة التي تتحزم بالجاه والمظهر والشكل .
الناس في سوق الدواب ، بسطاء إلى حد الطيبة ، بل إلى الحد الذي لا تعلم أين يقع فاصل الطيبة منهم ، بمعنى أوضح ، أنت لا تستطيع أن تجزم بان الطيبة قد تكونت بذواتهم بفعل الزمن أو الوراثة ، لكنك تستطيع أن تجزم ودون أدنى شك ، بأنهم هم مكونوا الطيبة ، وأنهم من عجنها بالأشياء والتفاصيل والنفس .
وهذا ما يستحق الشرح ، وأظن أن شرحه سيثير استهجان القارىء ، تماما كالشرح الذي قلته عن جذور التين ، وعن الصخرة التي خرجت من باطن الأرض ، يومها استحققت الشفقة من الناس ، لا لشيء ، سوى أنني كنت قادرا على مطاردة التفاصيل الصغيرة ، التي تتوالد منها تفاصيل أخرى ، فتنقسم كل تلك التفاصيل ، لتشكل رحما هائلا يمكنه أن يستخرج من كل قضية مجموعة من القضايا ، وأنا أدرك معنى الشفقة التي انبعثت من عيون الناس يومها ، أدركها بوضوح كامل ، فهي بمعناها الحقيقي عجز عن إدراك معنى الأشياء التي تظهر من الخفاء لتصبح واقعا حقيقيا لا يمكن فصلة عما هو حوله ، لكن الناس لا ترى بذلك شيئا مهما ، بل ولا ترى فيه شيئا يستحق التفكير أو التنبه له ، أما أنا ، فالصخرة كانت هما من هموم حياتي ، أدركت معنى خروجها من الأرض ، لتشكل واقعا يؤثر بالمكان والزمان ، ويرتبط بمخيلة الناس الذين رفضوا فكرة بروزها كمؤثر ، فهم بعد أيام قليلة استخدموا المفردات التي قلت يومها بان الواقع قد أوجدها رغما عنا ، قالوا خلف الصخرة التي أخرجتها الحفارة في ارض فلان ، وقالوا : بان الصخرة قد أصبحت عائقا قويا أمام الشجرة التي كان يجب أن تزرع مكانها تحديدا .
يومها أدركت معنى التنصل من الحدث بطريقة الانفلات من وحي التأثير ، فازددت قناعة بضرورة التعامل مع الأشياء ، التي تستطيع بصمتها وصبرها أن تضع الإنسان أمام حقيقة ذاته ، أمام تراجعه – عن وعي أو غير وعي – للاستسلام للحقائق المفروضة على ذاته ، علما ، بأنه يملك القدرة على التفاهم مع معطيات الأشياء ، ليستطيع حين يود التغيير أن يحدد ماهية التغيير وكيفيته ، زمنه ومكانه ، لكن بين الإنسان وبين الأشياء بعد طويل المسافة ، منذ بدء الخلق إلى يومنا هذا ، وسيستمر إلى ما لا نهاية ، إن لم يقف الإنسان ليخاطب مكونات الأشياء بنفس الطريقة التي بخاطب بها ذاته ، بل وبرهبة اكبر .
لكن دعني أعود لأشرح ما قلت انه يستحق الشرح ، وللقارىء حرية التصور ، وسأعود لأخبرك لماذا لا آبه بتصوره .
حين كان ينفض السوق ، كنت اندس بين الجموع المغادرة ، لأسمع تفاصيل حديثهم ، انتصاراتهم ، وهزائمهم ، لكني كنت أفاجأ بأشياء أخرى ، لم يكن عقلي قادرا بأي حال من الأحوال معرفتها أو استنباطها ، فانا غر بسيط ، ولد لا يملك من زاد التجربة إلا قليل القليل ، لذلك كان تأثير تلك الاكتشافات يذهلني ، يهزني ، يمور بأعماقي كموجة تحاول التشكل تحت سطح البحر ، لتنفجر غضبا يضرب الصخر والشاطىء ، لكنها كانت تفشل ، وتبقى في حالة محاولة التكون بكل ما تملك من عزم وقوة ، وتبقى الرغبة بالظهور كحدث حلما ممضا لما يعتورها من الم ووجع وانهيار .
احد الباعة كان يتحدث عن حزنه العارم على الحمار الذي قضى معه سنينا من الكد والتعب ، تحدث عن الزمن الذي اشتراه فيه وهو صغير ، وكيف اخذ يرعاه بحذر وصبر ، حتى بلغ الحمار أشده ، تلك العلاقة كانت تنمو بين الاثنين مع الأيام ، فالحمار كان يكون كما من الأحاسيس المرهفة الوفية ، التي ستتحول يوم نضوجه إلى خضوع تام من اجل تحقيق حلم صاحبه ، في الحرث والنقل ، في الزراعة والرزق ، بطريقة تدفع العقل للاستهجان ، وحين وصل إلى هذا الوصف ، انحدرت الدموع من عينيه ، استغرب الناس من الرجل ، بعضهم اتهمه بالجنون المفاجىء ، وبعضهم اتهمه بالهبل ، ولكن ، أنا وقفت والدموع تنهل من العينين كمطر لا يرحم .
يومها أحسست بعمق الضربة التي أصابت البائع ، وأصابت الحمار ، فشعرت بالنقمة ، بالغضب ، وأحسست بشفقة خرجت من ذاتي لتتبع الحمار والرجل في نفس الآن ، وحين عدت ، حدثت أترابي عن الحدث ، نظروا إلى بعضهم والبسمة تزم شفاههم ، كانوا يسخرون مني ، من طريقة عرضي للأمر ، وأنا أظن ، بان القارىء سيسخر مني بنفس القدر ، لكن الأمور لا تنجح معي ، فانا اعتدت السخرية من الناس ، لكني بنفس الوقت ، أستطيع أن اسخر من أشياء كثيرة يرى الناس فيها من الأهمية ما يوصلني إلى حد التقزز .
رجل آخر كان يحمل فرحة غامرة ، تغطي وجهه ، وفي بؤرتها أسى شديد ، هو فرح لأنه استطاع أن يبيع البغل بالسعر الذي حدد ، فهو يستطيع الآن أن يشتري لابنه الكتب التي طلبتها المدرسة ، واخذ يسترسل بوصف مشاعره وهو يصور ابنه وهو يفتح عيادته الطبية وسط البلد ، وفرحة أمه حين تبدأ بالزغردة يوم الافتتاح ، كان يتحدث بطريقة تجبرك على الوثوق من المستقبل الذي يرسمه ، لكنه بعد هنيهات ، هنيهات فقط ، وقف ليمسح العرق الهاطل على وجهة ، فانبجس الأسى بقوة ألغت الحلم السابق من تفاصيل الوجه حين سأل كيف سيحرث الأرض غدا من غير بغل ، وبهنيهات ، هنيهات فقط ، عادت الفرحة مكانها لتقتلع الأسى حين اخبره جاره بأنه يستطيع أن يستخدم بغله إلى أن يُيَسِرْ الله أمره .
المشهد لا يقف عند هذا الحد ، فانا لم أخبرك بالهرج الشديد المتداخل بين الناس في السوق ، ولم أحدثك عن الناس التي كانت تأتي للفرجة والمتعة فقط ، بربطات عنق ، وبدلات فخمة ، رائحتهم تفوح بالعطر ، ولم أخبرك عن الأطفال الذين كانوا يتلصصون من فوق سور المدرسة كي يتمتعوا بالمشهد ، حتى أنني لم اكتب عن صوت السيارات التي تقطع الأصوات بأبواقها ، وكذلك لم أحدثك عن الجمال ، التي عشت وأنا احمل رهبة تخصها دون غيرها من الحيوانات ، والاهم أنني لم أحدثك أبدا عن نكهة المشهد ورائحته .
للمشهد نكهة خاصة ، متميزة ، تماما كمشهد الصباح المتفجر في مدينة طول كرم ، ومشهد المساء الذي لا يشابهه مشهد ، في أي مكان بالدنيا ، طول كرم ، لها جلالها والقها ، لها لهاث القمر خلف بحرها المعزول عنها ، ولها اشتياق النور الموازي لعتمتها ، هي فوق الوصف ، تُعْجِزْ القلوب والعقول ، وتُحني قامة اللغة والمفردات ، خاصة ، عندما تنصهر مكوناتها بشارع العودة الفاصل بين حارات المخيم ، ليصلها بالخفق النابض بنواة الوجود .
تلك النكهة ، تأتي من التمازج ، من الاندماج ، من التوحد ، بين المكونات التي لا تعد ولا تحصى ، فرائحة الدواب ، الجمال والبغال والفحول ، رائحة الناس ، رائحة العرق ، روائح الأمنيات الخافقة بالبيع والشراء ، روائح الفرح والحزن والأسى ، تزحف كلها لتخلط بروائح البيارات الممتدة كسوار من الجنة حول المدينة ، ولتتمازج مع رائحة التراب المتنفس بسسب سقوط المياه فوقه ، برائحة الظل المحمولة على نسمات الأغصان المتحركة بفعل ريح ناعم ، تختلط كلها برائحة الموت الذي يلف أطراف وادي الزومر ، المحشو بروائح النعنع والبقدونس ، الممتصة روائح الصنوير والكرز والزيتون .
كل هذا يدخل في عمق المشهد ، في نواته ، يتغلغل بتفاصيله ، حتى تبدو الأمور كلها ، وكأنها خارجة من حلم يسبق الزمن ويتفوق عليه .
هناك كنت أنا دوما ، أحدق بالأشياء ، وأحاول ترتيبها ، رائحة اللوز تتناغم مع رائحة الشومر ، وهي أصلح ما تكون للغنم الشامي ، أما رائحة الصبار وشكله ، فله من الهيبة ما يجعله يشارك بتكوين الجمال ، الخرفيش لا تأكله الأغنام ، فهو كالصبار من نصيب الجمال أيضا ، هذا الرجل تناسبه فرحة طفل يوم العيد ، وذاك تناسبه فرحة عروس ليلة زفافها ، أما ذاك الزائر ، فلا يناسبه سوى رائحة الزنبق السام ، شجرة الجوافة شديدة التأثير بالجو ، رائحتها نفاذه ، لذلك فهي تناسب الرجل المزروع بالألم والضنك ، فبينهما علاقة الوضوح التي لا يمكن السيطرة عليها .
وحين كنت أعود لأمي وأحدثها بما يجول بفكري ، وخاصة يوم أجهشت ببكاء حارق لأني لم املك النقود لمنحها للرجل الذي بكى حزنا على فراق حماره ، شَهَقَتْ بقوة ، وقالت " إسْمْ الله عليك يَمًا " ، وبدأت تقرأ القرآن على رأسي ، وهي تخفي في ملامحها تحفز لأمر ما .
وحين عاد والدي من العمل ، أمسكت به وهي توشوش وشوشة يسمعها الجيران ، ابنك الله يعلم ماذا به ، غدا صباحا لا نريده أن يذهب للمدرسة ، سآخذه للشيخ لأعمل له حجابا يقيه الشيطان ، والدي وافق فورا ، أما أنا فقد توزعت بين فرحة الغياب عن المدرسة وبين الخوف من الشيخ الساحر ، لكن والدي انتشلني من كل ذلك ، حين أرساني بحضنه الرائع ، وهو يأكل لقمة ويطعمني لقمة .
في الصباح الباكر ، كنت أساق نحو الشيخ برغبة عارمة من أمي ، وتصريح مطلق من أبي ، الأولاد كانوا يتقاطرون من الأزقة نحو المدارس ، وأنا موزع بين فوز الغياب ورهبة الشيخ الساحر ، كنت أخاف بطبعي من عالم الخفاء الذي يصفه الكبار دوما بالمجهول الغامض ، فهو عالم محشو بمخلوقات غريبة ، لا ترى ولا تشاهد ، لا صوت لها ولا صفير ، لكنها تتمتع بقدرات خارقة ، تستطيع ان تلغي وجود الناس ، تمحقهم ، بكل يسر وسهولة ، وكانت صورة المشايخ ، الذين عرفت فيما بعد ، بان صلاتهم بالمشيخة جاءت فقط من تسمية الكبار لهم بهذا الاسم ، وعرفت أيضا ، بان صفتهم الحقيقية ، هي الشعوذة والكذب والتدليس ، وحين عرفت ذلك ، انهارت عوالم كاملة من ذاكرتي ، لتصبح نوعا من خيال متوقد ، تدفع إليه حاجة الناس البسطاء ، ليتشكل كمخرج لما يحملون من آلام وأوجاع .
وحين وصلنا ، رايته ، طويل القامة ، غزير اللحية ، يحمل سبحة طويلة ، خفت من تقاسيمه ، اقترب مني ، وبدأ يتمتم بأحرف متداخلة غير مفهومة ، وضع يده على راسي ، وانتفض ، انتفضت أمي بذات اللحظة ، تأملت وجهها ، كان كابيا ، شعرت بالشفقة الشديدة عليها ، لكنها عادت إلى طبيعتها حين منحها حجابا لتعلقه برقبتي طوال اليوم .
هنا تتداخل الأشياء كلها مرة أخرى ، فالصخرة كانت حاضرة في لحظة من لحظات الأحداث ، وجودي فوقها عن قصد وتعمد ، هو الذي دفعني لتعلم التأمل بطباع الناس والأشياء ، هي التي قادتني لملاحقة صاحب الحمار لأعرف مدى حزنه على صديق وفي ، تربى معه في مساحة من زمن مشترك بين أشياء كثيرة ، تداخلت فيها اللحظات مع الأمكنة والأشياء ، بصورة يومية ، بل بصورة لحظية ، أنبتت من حيث لا يدريان مجموعة من العوامل والأحداث المشتركة ، التي شكلت فيما بعد ، عاطفة قوية ، برزت مرة واحدة يوم فقدت الأواصر مع تلك المكونات كلها ، بسبب بيع الحمار ، وخروجه من المشهد الذي لم يكتمل بعد .
وبقدر حزني على الرجل ، حزنت على الحمار ، فهو وان لم يستطع أن يقرر أين سيبقى ، وكيف سيكمل مشوار حياته ، فانه بالغريزة قد قدم تضحية كبيرة لصاحبه ، برغم ما حل بعواطفه من انكسار ، ورغم ما أصاب مشاعره من انهيار ، وكنت بنفس الحجم احمل شفقة نحو الحمار تتساوى مع شفقتي على الرجل الذي أحس بعمق المأساة التي حلت به يوم غادره الحمار إلى غير عودة .
وحين أخبرت الناس بذلك سخروا مني ، قالوا : بان الحيوانات لا تعرف معنى الحزن والفراق ، ولا تعرف معنى الود والوفاء ، وحين قلت لهم بان هذا الكلام غير صحيح ، لان العالم كله تحدث عن وفاء الكلاب والخيول للبشر ، أكثر من وفاء البشر لها ، وصفت لحظتها بالجنون ، ثم تحول الوصف إلى الهبل ، واستقر أخيرا على صفة المعقد .
ربما يكون الوصف حاملا بعض الصحة في تصورهم ، أما أنا ، فقد كنت استرسل بتنمية قدراتي للتواصل مع الأشياء والأحداث ، بنفس القدر الذي كانت الأشياء والأحداث تفرض وجود البشر داخل رؤيتي ، وهذا ما مزج بين قدرتي على وصل الحدث والشيء بذات الإنسان ، ومعرفة تأثير ذاك الوصل على نضوج واكتمال فهمي للأشياء .
حسنا دعنا من هذا ، فلدينا الكثير لنكمله ، لدينا رحلة منتصف اليوم ، ورحلة الغروب ، بكل ما فيهما من تضاد وتناقض .
قال : لا ، عليك أن تعود للديدان اللحمية ، فأنت قلت بأنك ستحدثني عنها .
قلت : نعم ، فهي تستحق العودة .
وفاء شوكت خضر
26-11-2008, 02:47 PM
جذور الألم 2 ..
رحلة جديدة داخل نفس الأديب مأمون أحمد مصطفى ..
رحلة داخل ارتباطة بالمكان والزمان والحدث أكثر من ارتباطه بالإنسان ، فكم من الناس قضو أو ارتحلوا عن الماكن أو تركوا الأشياء مكانها ، ولكنها لم ترحل ، بقيت يمر عليها العابرون ، وقلة من هم مثل الأديب مأمون
الذي يشاركها وجودها وارتباطها بكل ما حولها وفي البقعة التي تشغلها ، كما ترتبط هي بكل حدث يمر في حياته كواحد من البشر المارين عليها ..
نحن نسجل تاريخ تلك الأماكن بالقدر الذي هي تتشكل فيها بنا ، لتحفر تاريخها في ذاكرتنا ..
الوطن هاجس يبقى فينا وكلما زاد بعدنا عنه كلما توقد هذا الهاجس ليحيي الكثير مما حفظته الذاكرة حتى لأدق واصغر الأشياء والأحداث ، هو عامل من عوامل تكويننا وانتمائنا وارتباطنا ، كما الطفل لا ينسى يدا مسحت على رأسه لحظة ألم ، أو منحته شعورا بالفرح في لحظات الفرح ، أو كأن نحوز على ما يثبت نمونا وتخطي مراحل عمرية محددة من اشياء لا يصح غلا أن تكون لمن هم أكبر سنا ، نحس أن هذه الأشياء هي التي منحتنا هذا النمو وليس عدد سنوات العمر ..
ارتباط نفسي ومعنوي وحسي ، ارتباط وثيق حتى بأمور نكرهها ، نفتقدها في أوقات الغربة وكأنا نريد أن نحبها رغم أننا ما زلنا نكرهها لكن نحن إليها في تلك الأماكن التي ارتبطنا بها ..
الأسلوب الأدبي للرواية يعتمد السرد الوصفي بلغة سلسة بسيطة تصل لأي متلقي بعناها بسهولة ، تتغلغل روحه ومشاعرة ، حتى يذوب فيها ويعيش كل لحظة مع الكاتب ، يشاركه مشاعره ، ويرتبط بكل تلك الأماكن حسيا ومعنويا ، يحس بانتمائه إليها كانها جزء منه هو أيضا ، فالأماكن وإن اختلفت بشكلها وموقعها الجغرافي لا تختلف بارتباطنا الحسي معها ، والحنين هو الحنين ، والغربة هي الغربة ..
كنت بين كل الأماكن ، أرى وأسمع ، وأتنفس واشم الروائخ ، واتلمس ما يمكن لمسه ، وكأني شيء من تلك الأشياء التي حفظتها ذاكرة الأديب مأمون ، وحين انتهيت من القراءة ، وجدت صعوبة في الخروج من النص ،
ووجدتني أعيد ما كتب بأسلوب آخر ..
أخي مأمون ..
أحييك على هذه الرواية التي قرأت منها جزأين ، فهي برأيي شاهد على تاريخ الأمكنة ، والأشياء والناس ،
وخاصة تلك المنطقة التي هي جزء من وطن حبيب على كل قلوب العرب ، وهي أرض فلسطين ..
تداخل التاريخ بالفلسفة بعلم النفس ارتباطا بالواقع باسلوبك الصادق ليعطي النص قيمة تاريخية وفكرية ..
تقبل مروري ..
بانتظار الجزء الثالث ..
تحيتي وتقديري ..
سعيدة الهاشمي
01-12-2008, 12:14 PM
فهي بمعناها الحقيقي عجز عن إدراك معنى الأشياء التي تظهر من الخفاء لتصبح واقعا حقيقيا لا يمكن فصلة عما هو حوله ، لكن الناس لا ترى بذلك شيئا مهما ، بل ولا ترى فيه شيئا يستحق التفكير أو التنبه له ، أما أنا ، فالصخرة كانت هما من هموم حياتي ،
-
قد لا نستطيع أن ندركها كما أدركتها، وقد لا نستطيع النفاذ لأعماق التفاصيل لرؤية مدى ارتباطها بتفاصيل
أخرى مرتبطة بذاتها بتفاصيل أخرى ...كأنها لوحة سريالية تتداخل ألوانها حد التيه، لكن إن كانت الصخرة
استطاعت أن تحرك قلمك ليرصد كل هذه الوقائع، ليبرز علاقة الإنسان بالشيء ودوام هذا الأخير الذي لا يزول
بزوال الأول، فإني لمسرورة بما قرأت هنا، متعة لا تضاهيها متعة تلك التي خلقتها كلماتك بأدق التفاصيل.
في الجزء الأول رأينا جذور التين وصخرة الآخر، الآن نرى علاقة الأشياء بالناس من صخرتك أنت، وكأنها
عدسة كاميرا تلتقط بعناية فائقة ما يدور حولها، وتضفي عليه "بقدرة سحرية ربما" بعد الحياة، لتتجسد لك
الوقائع متحركة تنبعث منها رائحة الموت والديدان، رائحة الليمون والنعناع، رائحة الغضب، رائحة العرق
رائحة الحزن على فقدان "الشيء" "إن جازت التسمية" الذي كان أكثر وفاء من الإنسان، صبر وتحمل،
كان يؤدي واجبه لآخر نقطة نور في حياته.
أخي كل الشوارع المذكورة هنا بتاريخها الطويل العريق، تلك اللوحة الفنية عن السوق بحيواناته وبشره
بعلاقاتهم الوطيدة مع بعضهم البعض، بثورة الحمير، (ومن قال أنها لا تثور).
تلك الدموع التي ذرفها ذاك الرجل حزنا على فقدان حماره، فقد كان خير سند له في الحياة، كل تلك
التفاصيل التي تنشطر عنها أخرى فأخرى، جديرة بالقراءة والاحترام.
-
حسنا دعنا من هذا ، فلدينا الكثير لنكمله ، لدينا رحلة منتصف اليوم ، ورحلة الغروب ، بكل ما فيهما من تضاد وتناقض .
قال : لا ، عليك أن تعود للديدان اللحمية ، فأنت قلت بأنك ستحدثني عنها .
قلت : نعم ، فهي تستحق العودة .
**************************
وتستحق أن ننتظر بفارغ صبر حروفك لأننا بالتأكيد سنكون على موعد مع متعة القراءة.
**********************لا أجيد الغوص في تفاصيل التفاصيل كما فعلت، لكني أجيد إن قرأت عملا راقني أن أصمت، وهذا ما سأفعله
الآن... تحيتي ومودتي.
مأمون احمد مصطفى
02-12-2008, 02:11 AM
الاخت سعيده:
لن اكتفي هنا بالاشارة الى قدرتك على الوصول الى قلب الاحساس، بل انت كنت قادره بالرد على تبيان تأثرك الواضح، ووعيك العالي لروح النص ببراعة وقدره اغبطك عليها .
مع الموده
مأمون احمد مصطفى
02-12-2008, 02:18 AM
الاخت وفاء:
نعم هي الرحلة التي تبدأ وتبدأ ، وتظل تبدأ من نقطة التكون الى نقطة الاستمراية ، لك حس خاص بلمس النفس التي تكتب والتي تتكون داخل الحدث ، قد يكون من الارتباط بالمكان والزمان ، وقد يكون حدسا مكتسبا من القدرة على تلمس حواف الحروف .
مع الموده
مأمون احمد مصطفى
16-03-2009, 09:43 PM
جذور ألم
" 3 "
قبل العودة للديدان اللحمية، دعني اربط الزمن بالزمن، والمكان بالمكان، والدهشة بالدهشة، دعني وإياك، نغادر تاريخ اللحظة الراهنة إلى تاريخ يدهش العقل والروح، بما فيه من بعد وقرب، وبما فيه من واضح ينغمس في المجهول، لا لتأجيل الحديث عن الديدان، بل لوصلك ووصل القارىء مع معطيات الأشياء، ومعطيات الزمان والمكان، التي تبدو من خلال التركيز عليها هلامية، يلفها ضباب كثيف، لتقبع في وسط المشاهد كأشياء بلا روح، كمسميات لا تلمس، ولا تصدم حرارتها خضخضات الكون الملتف على عقد الزمن بجدائل من فوران النفس.
أدركت حجم التأثر الذي ارتسم على قسماته مباشره، فرحت أتأمل تلك التقاسيم، ، من خلال الذاكرة التي تستطيع أن تحفظ أدق التفاصيل للأشياء، وأدق التفاصيل التي تتحرك فوق مساحات الوجوه، وبين مسامات تخفي نوازع تحت الجلد ، فترسلها إلى الدماغ الذي ينقلها إلى القلب، لتتشكل كعواطف تظهر وتختفي، بألوان وعرق ، بفرحة تكاد تمسك بأطراف الشكل المكون للوجه في تلك اللحظة، بحزن يسيطر حتى على النسمات التي تدور حول الوجه ، حتى ليكاد الإنسان يشعر بتأثير النوازع على الأفق والأجواء والامتدادات .
لكن شعور الدهشة، الذهول، كان يسير ابعد من ذلك، فقد سال من قسماته ليصل إلى الصخرة التي شكلت وجوده، وانزلقت لتتواصل مع خرير الجدول، لتصل إلى حدود الأشياء، لا اعلم لماذا رأيت جذور التين وهي تتقدم من بعيد ، لتزرع وجودها بكل الأجواء التي تشكلت في محياه، وكذلك كان الغبار المتناثر من رائحة الموت الذي تسلل بلحظة غدر إلى روح جيفارا، حين وصل الأمر بإعدامه، الغبار الذي بدأ يتشكل بشكل دائري، يتسع ويتسع ، حتى اختفى بين لحظات الزمن ، وبين خفايا المكان .
ربما وبطريقة ما، تسرب المستقبل إلى أعماقي، ليبني صورا لموت ستكون الصخرة شاهدا عليه، ربما، فقط ربما، أعود لأحدثك عنه.
الدهشة والذهول، لهما مصدر واحد، الرغبة في اقتحام المجهول، وهذا ما أحاول فهمه، من خلال الأحداث والأشياء والأمكنة والأزمنة التي عرفت، أو حاولت التعرف عليها ، وهذا هو ما دفعك للشعور بالخيبة حين قلت ربما، وهذا ما سيدفع القارىء لمواصلة القراءة ، قد يخرج القارىء بنتيجة سلبية، يرى فيها أن ما أتحدث عنه لا يختلف عن أي شيء ، ربما يكون محقا بذلك، من وجهة نظره هو، لكن من وجهة نظر الطفل الصغير الذي أراد وصف البحر فقال : " كم كان البحر كبيرا "! تختلف الأمور ، كما تختلف رؤى الحالم بين الليل والنهار، وكما يتناقض الوجود مع العدم، والممكن مع المستحيل، فبين رؤية الطفل وبين الدهشة والذهول تلاحم واسع، يمتد من حدود البحر بكل تفرعاته ليصل إلى تصور مختزل بالغموض والمجهول في تلك الرؤية ، التي أوقفت تشيخوف ليتأمل عظمة ما تحوي تلك الجملة بين جنباتها، في أحشائها ، في غياهبها، وقف مشدوها من قدرة الطفل على اختصار الزمان والمكان والأشياء والتصورات والرؤى والأحلام، في جملة صغيرة ، تحمل حروف الطفولة ، وبراءة الطفولة وعفويتها في رصد الأشياء، لكن تشيخوف، المرسوم فوق الحس المرهف المتقلقل ، وقف ليعلن ، بان الوصف الذي استخدمه الطفل ، هو وصف يحوي كل الأشياء، من هنا نستطيع أن نتتبع عظمة تشيخوف، من قدرته على فهم المستتر من الانفعالات والعواطف ، التي تسكن الواضح المعروف، أو ما يدعي الناس بأنه الواضح المعروف، ومن هنا يجب على القارىء أن ينطلق مع الأحداث التي ستأتي، الأحداث التي رافقت الأمكنة والأشياء ، بضرورة التكامل والحاجة ، ضرورة تكامل الرؤى مع المكونات .
وللغوص في أعماق الزمن الماضي الحاضر ، لا بد من تسجيل حادثة، أوقفتني بطريقة مخالفة متوافقة للطريقة التي أوقفت تشيخوف، متوافقة مع الماضي، مختلفة ومؤرقة للحاضر، فولدي البالغ من العمر سنوات ستة، يسكن مدينة طول كرم الساحلية، حيث المتوسط جزء من تكوينها الجغرافي ، بزرقته الغاصة باللمعان والتوتر والخفق ، لكنه ، بسبب الاحتلال، لم يتمكن من معرفة البحر، من تكوينه واتساعه، فظل البحر مفردة غامضة، لا اصل لها في التكون المعرفي الناتج عن المشاهدة، وظلت الدهشة وبقي الذهول مستترا بأعماق الزمن، حتى هاجر ولدي من جانب المتوسط، عابرا المساحات حيث أقيم، في أقصى الشمال الأوروبي، في النرويج، وحين اصطحبته مع العائلة إلى البحر ، وقف، ليقتحم المجهول الذي كان مفردة غامضة، نظر إلى البحر بدهشة كست ملامح وجهه، وقال : " يا الله ما اكبر البحر " وأضاف : " من وضع فيه كل هذا الماء "؟
هنا، ترتبت الأشياء بطريقة غامضة، مجهولة، قد يجد بعض الناس أنها مصادفة عادية، ولكن بالنسبة لي، للزمان والمكان، هناك شيء خفي، استتر داخل اللحظات التي سبقت ولدي بأعوام طويلة، لتصل إلى مرحلة المكان، فالنرويج لها حدود مشتركة مع روسيا، تتكاتف في التجلد والصقيع، وتتناغم مع معطيات الجغرافيا، هناك وقف طفل ليعلن دهشته من البحر، وبعد أعوام طويلة جدا، ،جاء ولدي إلى مكان قريب ، من تلك الجملة ليعلن دهشته من البحر، كان هناك تشيخوف، الذي التقط التعبير واستمتع به وركزه داخل بؤرة الزمن، وهنا كنت أنا احمل خفق تشيخوف والطفل، فجاء ولدي ليتوج كل تلك التفاصيل والتلاحمات بجملة تقف قبالة كل ما عرفت وأحسست، لأخرج من الزمن خفايا تلك الدفقات التي عاشها تشيخوف والطفل، مضافا إليها ما قال ولدي، لتصبح الرؤيا لتلك الجملة أوسع وأرحب.
هناك ما يجب التوقف عنده وتأمله ، بتمعن وتبصر، فنحن نعرف أن تشيخوف كان مصابا بداء البحث عن الحقيقة " البسيطة " في نفوس البشر، ونعرف انه كان يردد بان الكاتب يحتاج إلى منزل بعيد عن العاصمة، لكنه بنفس الوقت يحتاج إلى جمهور يتواصل معه حتى يستطيع أن يبني توجساته وهواجسه الإنسانية على ذاك الجمهور المزروع بالبساطة والعفوية، ولكن ما لم يتنبه له القراء والنقاد، أن تشيخوف كان يبحث عن مراكز التأثير في مجريات العفوية ، من حيث كم التناقض والاختلاف الذي يسكن تلك العفوية، وقول الطفل ، كان يمكن أن يمر، كأي شيء وجد وقيل أمام مجموع ضخم من الناس ، دون انتباه ، ودون تأثر أو إحساس ، لكن لأن تشيخوف هو من سمع ، فان القول تركز في أعماق الزمن ، تركزا يشابه البقاء، فمنه استطاع تشيخوف أن يتعلم غزارة العفوية التي تقطن قلب المجهول الرابض بأعماق الجمل، ومن هنا، التحمت كل تلك المكونات والخفقات، التي جاست نفس الطفل وتشيخوف، لتشكل عندي عالما يحتاج إلى الغوص بأعماقه من اجل امتلاك سر الإحساس والشعور، سر الدهشة والذهول، سر الانبهار، الذي تواصل بقدرة الغيب إلى صوت ولدي الذي انتقل من زمن حاضر إلى زمن مضى، ليتوحد مع معطيات اللحظة التي امتلك الطفل عنانها، وامتلكت هي عنان الفن والرؤية الإنسانية المغمورة بمجهول الإنسان عند تشيخوف.
قد ترى في هذا ضربا من الجنون، أو انخراطا في عالم يبدو لوهلة، انه قافز من الذات التي تتلوى لتعطي الأشياء قيمة وتصورا لم يكونا أصلا ضمن الحدث، وهذا عين البؤس والإحباط الذي يلف مثلك ومثل من فكر بهذه الطريقة، لان إخراج الأنفاس والشهقات، وتلولب العاطفة التي كانت تجتاح النفس في تلك اللحظات، بتعابير الوجه، ونغمة الصوت، على شكل ذهول ودهشة، تأتي لتلتحم مع الديدان اللحمية، التي كانت بحركتها المتمطية، تمتد لتتأصل مع زوايا الكون والوجود، لتتسع الدهشة ويمتد الذهول.
قلت لك بان الديدان اللحمية تستحق العودة ، وهي كذلك ، لأنها كانت بالنسبة لي تمثل القدرة على التنقل بين الباطن والظاهر ، بين البقاء في زمنين مختلفين ، رغم توحد اللحظة التي نعرف ، أو ندعي أننا نعرف ، وأنا لا اعرف حقا إن كانت تسمى بالديدان اللحمية ، فانا اخترت لوحدي أن أضيف للديدان مفردة اللحمية ، ولهذا سبب يتعلق بالشكل ، كما يتعلق بالقدرة.
أما الشكل ، فلأنها تبدو بين البياض والحمرة ، ربما يكون هناك أكثر من نوع يسكن باطن الأرض وظاهرها ، لأنها كانت تبدو أحيانا بلون اللحم الموسوم ببعض الدهن ، وأحيانا بلون احمر غامق ، وكأنها اسطوانة شفافة مملوءة بالدماء ، لكنها في الحالتين كانت تخرج من الأرض لتغسل نفسها بأشعة الشمس ، للحظات أو دقائق ، ثم تغوص من جديد داخل التراب لتخفي الجزء الذي شبع من الشمس ، وتظهر الجزء الآخر ليأخذ حظه من الأشعة ، وربما من النور .
أما بالنسبة للقدرة ، فان الأمر مذهل ، لأننا نستطيع أن نتعلم أشياء من مخلوق صغير ، نحتقره ، ونتقزز منه، بل ونرفض أن نعترف بان المخلوقات الصغيرة، المتناهية بالعجز الظاهر، تستطيع وبشكل ما أن تدفن غرورنا، معرفتنا، قدرتنا على التواصل مع الكون بطريقة منتظمة لا خلل فيها ولا خطأ، بل تملك من قدرة الاستمرارية في تواصل الدور الذي نشأت من اجله، ما يجعلنا نقف أحيانا لنتساءل: هل نحن اقل قدرة وإصرارا وعزيمة من تلك المخلوقات الصغيرة التي تثير التقزز والقرف؟
وحين نشعر بالحقيقة تغزو مكونات وجودنا ووعينا وإدراكنا، نرتد وبسرعة الهزيمة لنتقيأ احتجاجا على ما غزا غرورنا الملفوح بالإنسانية.
هناك في السهل الذي حدثتك عن بعض مكوناته، تناقضاته، كانت علاقتي مع التراب تتأصل وتتنامى، تكبر لتأخذ من مساحات الأرض أنفاس التربة، ولتعطي الأرض مكونات الذهول الذي أحدثك عنه الآن، فتربة الصيف المشققة، المتصلبة، تختلف عن تربة الشتاء المغمورة بالماء من الجذور وحتى موطئ القدم، ورائحة الصيف المغموس بلفح التربة البالعة لأشعة الشمس، تختلف عن رائحة الشتاء، وكذلك بالنسبة للربيع والخريف، لكن التمازج الذي يخزن بأعماقي ليخلط كل تلك الروائح، ليستشعر خفقات الأرض ووجيب التراب، ظلت معلقة حتى يومنا هذا، بوعاء الذاكرة الطافح بملايين الأحاسيس والمشاعر، التي تنتفض بداخلي كبركان يستعد للثورة من اجل اختراق الزمان والمكان، ليعطي الكون شكلا جديدا، لا صلة له بالشكل السابق، كما نعتقد ونظن، لكنه بالحقيقة، الحقيقة المطلقة، هو امتداد للتكون الذاتي لنواة الوجود التي تطمح لتشكيل تلاحم بين النواة وبين القشرة.
وهذا هو شأن الديدان اللحمية، علاقتها بالكون، علاقة النواة مع القشرة، ولم أكن اعلم ذلك، حتى فاجأني السروجي وهو يخرج من خصه المصنوع من البوص، ليجلس بجانبي وأنا اقطع الديدان الخارجة من تحت الأرض بعود من قصب حاد.
قال لي: لماذا تقطع الديدان؟ ألا تدري بأنها تحدث التحول الحقيقي للتربة؟ فهي تعمل تحت الأرض بدأب لا يشابهه إلا دأب النمل، رغم صغرها ورغم احتقارنا لها، فإنها تملك هدفا يتحد مع نواميس الكون، مع ضرورة الوجود، مع حتمية التواصل للالتقاء بتركيبة الأشياء التي تتكون من ملايين ملايين الأشياء، لتظهر مكتملة، واضحة، دون أن يدور بخلدنا ولو لوهلة بسيطة، بان الاكتمال والظهور، لم يكونا كذلك لو غابت تلك التفاصيل الصغيرة، المعلومة والمجهولة، التي شاركت بتشكيل التواصل القائم بين فواصل الكون ودعائم الوجود.
الديدان تعمل وبشكل متقن إلى حد التناهي في الإتقان، بتقليب التربة، بمزجها بأشعة الشمس، بالنور، بالحرارة، لوصلها، مع معطيات النجوم والكواكب والمجرات، لتستطيع أن تجمع البعيد الغائص بالبعد، إلى القريب الغائص بالقرب، فذرة التراب التي هنا فيها الكثير من تكوين الشمس، وفيها الكثير من أنفاس القمر، وفيها كم من مجرات وكواكب نعرف ولا نعرف، فيها أنفاس الليل الذي رحل، والذي لا يمكن استعادته أو استحداثه بذاته، وفيها من أنفاس النهار الذي يتفكك الآن استعدادا لليل جديد يحمل أنفاسا جديدة، لكنها لا تتشابه ولا تتوافق مع الليل الذي رحل بأي تكوين أو جزئية.
وأنت حين تقطعها تتخيل بأنك أنهيت دورها، طبعا أنا احتج على القسوة التي تحملها أثناء تلذذك بتجربة القطع، ولكن لو دققت جيدا، فسوف ترى الديدان حتى وهي مقطوعة تغوص بأعماق التربة من جديد، فهي لا تؤمن بالموت المرهون بلحظة العجز، حتى حين تفقد جزء من ذاتها وتكوينها، لذلك تغوص وتواصل العمل، متحدية عجرفتك وغرورك، بصمت الإيمان بالتواصل لما نذرت من اجله لبقاء اتصالها مع فواصل الكون والوجود.
أما القسم الذي تركته فوق التربة أثناء انسحابها إلى أعماق الأرض، فانه يتحلل، قسم منه داخل التربة، والقسم الخارج لامتصاص التوحد مع معطيات الكون، ليذوب بعد تحلله بالتربة ذاتها، فيمنحها حياة جديدة، تتواصل مع أجيال الديدان التي رحلت منذ آلاف الأعوام لتأتي أنت تسألني أن اقطف لك نباتا من الارض التي شكلتها الديدان لتمنحنا وقود الحياة والبقاء.
الأمر الأهم من كل هذا، وما لا تستطيع أنت بلوغه يوما من الأيام، حتى لو أفنيت عمرك وأضفت لعمرك أعمارا أخرى، أنها حين كانت تتحدى غرورك وعجرفتك، صلافتك النابعة من اعتزاز قدرتك على تقطيعها، لا تهتم مطلقا، ولو لهنيهة مخطوفة من تكوين اقل لحظة يمكن للزمن إدراكها ووعيها، بان تراك أو تريك مما تتكون أنت، أو مما تستطيع هي العمل من اجل الكون والوجود، بل تتركك تتجمد، تنمي لحظات الجهل النابع من الغرور والعجرفة، لتعتقد انك تكوين آخر، لا يتطابق أو يتحد مع تلك المكونات الصغيرة التي تمتلك القدرة على توحيد المعطيات الكونية في ذاتها، دون أن تزدحم بالمن أو التفكير بالمن على الحياة.
أليس في هذا الأمر، طعنا لذاتك المطعونة أصلا بالغرور والاستعلاء عليها؟ تخيل فقط، لو كانت الديدان تتحدث، وأرادت الخروج عن طورها، لتهمس بأذنك بصوت يشبه النسمات الناعمة لتقول لك: كم مشفق أنت وغبي أيها الإنسان، حتى الإهمال من مخلوق صغير يستطيع أن يجعلك تغوص في تيه تصور قدراتك، بدل أن تجلس لترى الفرق بين قدرة المخلوق القادر على الإهمال، وقدرتك التي تتوسل الإلحاح المتواصل في اكتساب الجهل والغباء.
نهض السروجي من مكانه، والعرق يتجدول فوق وجهه المشابه لوجه الارض، حتى أنني كنت أظن أحيانا انه " وأبو باجه " لم يتكونا برحم امرأة من قبل، بل خرجا من الارض، تماما كالسلاحف التي تفقس تحت التراب، وحين تخرج، تسوقها فطرتها الغريبة المعقدة نحو البحر، لكن هذان، لم أكن استطع التخيل أنهما فقسا من بيضة، بل نبزا من الارض كما ينبز شجر البلوط والصنوير، وظلا كذلك، إلى أن دفعت الارض بأقدامهما خارج التربة، فكانا السروجي " وأبو باجه "، ولم يكن يحطم تلك الصورة، سوى دفق الأمومة الذي كان يرافق خطواتهما وأنفاسهما وهما يصبان العرق في قلب التربة، لحظتئذ، كانت أم كل منهما، تلمس الرجاء بعينيها، لتدفعه نحو أعماقهما الخافقة بمكونات الارض والأم.
لا اعلم لماذا ارتد عقلي نحو جذور التين مرة أخرى، ليلتحم مع الديدان المتجولة بجثث الحيوانات التي كانت تلقى على حافة وادي الزومر، ربما التشابه الموصول بالتوحد مع النهاية، نهاية الموت الذي يفجر الحياة بتفاصيل لم نكن نعرف أنها ستتوالد وتتناسل لتشكل ملحمة حياة جديدة، بصمت المثابر على استمرارية الصيرورة والبقاء.
فجذور التين، تهشمت وتناثرت لتلتحم بالارض، والدود انبثق من الجثث، ليأكلها، يهضمها، يذوبها، ثم يتلاشى ليتوزع بالارض، هي القصة ذاتها، لكنها تتبدل وتختلف، لتندمج بصور تبدو متنافرة متباعدة، لكنها في الحقيقية تتكامل لتتوحد مع كل المكونات التي تختفي لتتجدد بشكل جديد وحياة جديدة.
أنت وكثير من القراء، بل وربما يأتي ناقد ليسأل: عن ماذا يتحدث هذا الموبوء بالأشياء، بالمخلوقات الصامتة التي لا تستطيع أن تؤثر في مسيرة العاطفة، بل وبمسيرة الفكرة الروائية التي تتعرج في الحقيقة لتثبت الشخصيات البشرية في مسار الوجود، أما أن تكون الرواية تتحدث عن صخرة خرجت من باطن الأرض، وجذور التين المنزوعة من باطن الأرض، الصخرة التي تجلس عليها، جدول الماء، الديدان السابحة بجيف الحيوانات الميتة، ثم الديدان اللحمية التي تتحرك فوق وتحت الأرض، الحديث عن مثل هذا يعتبر سحقا لمفهوم العمل الروائي، للروعة التي يمتلكها الإنسان أثناء وجوده كشخصية أساسية في الرواية، لأنه الوحيد القادر على تحريك التاريخ، تحريك الأحداث، صنع ما يسمى بالزمن المتعلق بوجود الحياة فيه، ولأنه وهذا الأهم، هو سيد الوجود وتاجه.
هذا الكلام، فيه من السخافة، بقدر ما في الإنسان من غرور، لان الحياة ببساطة، وضعته موضع السيد للأشياء، إن تمكن من الوصول لما تحمل من مستويات أخلاقية، وعملية، تتفق وتتناغم مع كنه الحياة، ومجرى الهدف من كل شيء، وهو بذلك كان افشل من الفشل ذاته، وجل ما استطاع أن يصنعه أن يدمر التكامل الذي شكلته الحياة والطبيعة، قبل أن يتأجج غرور الإنسان وصلفه وغبائه، من اجل الإخلال بتوازن الكون، وتدمير التكامل الذي شاركت كل الأشياء الصامتة بتكوينه.
أضف إلى ذلك، أن الإنسان الذي تريده أن يتوسط فكرة الرواية، نظر إلى الأشياء نظرة السيد للعبيد، فراح بما يملك من جهل ممزوج برغبة تدمير خفية في تكوينه، بتمرير هذه النظرة إلى أبناء جنسه، حسب اللون، وحسب العرق، وحسب الجغرافيا، ثم حسب الدين، وبذلك انشطر مفهوم الإنسان إلى مجموعة من المفاهيم، فهذا إنسان عبد، فقط لان لونه اسود، وذاك لا يملك حقا في البقاء لأنه لا يملك قوة تضاهي قوة القاتل، لذلك عليه بفعل الانعكاسات التي تتحدد في ذهن القاتل أن يتحول من صاحب حق ورؤية للبشرية التي تعيش بزوايا عقله وعاطفته، إلى باحث بتواصل مدفوع بغريزة الدفاع عن حقه بالوجود، بالحرية، بالحياة تحت أشعة الشمس، عن قوة تتأصل لتواجه القاتل، وهنا، يمتزج الحق، بالحق المدعى، وتكبر المعركة، تمتد من جيل إلى جيل، لتحصد مئات الآلاف من الأرواح، من الأمنيات، من الطموحات، من العواطف التي كانت تتركز في بؤر الأمومة والإخوة، في أعماق النواة التي تمنح الوجود عاطفة الإنسان، الإنسان الذي ننشد ونتمنى، أن يتعلم من الأشياء، من المخلوقات الصامتة، القادرة على التضحية بطريقة البقاء للوجود المتوازن والدافع بذاته نحو الاكتمال.
قال لي: هناك فاصل مهم فيما تقول، يتفق مع الأحداث، لكنه لا يتطابق مع الإنسان، لان الوجود منقسم بذاته إلى قسمين، قسم الوعي الذي يمتاز به الإنسان، وقسم الغريزة أو العادة التي تتأصل ببقية الأشياء، فأنت لا تستطيع أن تدعي بان الديدان اللحمية أكثر حكمة من الإنسان، لأنها تتحرك بتوافق مع معطيات لا تدركها، لا تعلمها، بل تتواصل فيها كما يتواصل انهمار الشلال من قمته، لذلك عليك أن تقيم فاصلا قويا بين الوعي الذي يتكون نتيجة لمعطيات ذهنية، تتكامل مع الذكاء والنبوغ والقدرة على الاختيار، على تحديد القواعد والسلوكيات للأشياء الصامتة التي تتحدث عنها، بكل أشكالها وأنواعها، بكل اختلافاتها وتناقضاتها، وبين الغريزة التي تكونت وتأصلت بالأشياء لتبقى كما هي عبر ملايين الأعوام المتلاحقة.
قلت: بين الوعي والغريزة اتصال اندماجي، تلاحمي، لم تستطع أنت ومن مثلك اكتشافه، رغم بروزه في كل نواحي مكونات الوجود، الوعي يا صديقي، دفع الإنسان لاستعباد الإنسان، حسب ظروف ومعطيات صاغها الذكاء والنبوغ الذي ادعيت وجوده بالإنسان، فمثلا، الإنسان الأبيض استطاع بفعل – الوعي والنبوغ والذكاء – أن يرى في اللون الأسود مخالفة للفطرة التي لوثت بقدرة الاختيار، واستطاع بعد عناء عقلي استنفد كل طاقة من طاقات القدرات البشرية البعيدة عن الغريزة أن يصل إلى قاعدة أصبحت ولزمن ما، حقيقة غريزية لا يمكن تعديلها أو التأثير فيها، تلك الحقيقة " أن الإنسان الأسود اقل ذكاء وحكمة ونبوغا من الإنسان الأبيض، لذلك عليه أن يكون عبدا كما الحمير والخيول والكلاب، للإنسان الأبيض القادر على ممارسة الإنسانية والآدمية بطريقة يؤطرها ذات العقل الذي اقر عبودية الأسود" .
وقبل أن ادخل في تفاصيل التلافيف الفكرية والنبوغ والذكاء المدعى، أحب أن انقل لك صورة من العالم الذي سخر رجال علمه الإنساني لتوطيد الوعي الموبوءة على أنه حقيقة علمية، ففي الكونجو كان الإنسان الأبيض يقطع أيدي الزنوج، لمخالفتهم أمر العبودية، حتى لو كانت المخالفة ناتجة عن مرض، وفي انجولا كانوا يثقبون شفاه السود ويضعون عليها الأقفال حتى لا يستطيع الانجولي التحدث أو التصريح حتى بذله وعبوديته، وكانت المؤسسات العلمية السيكولوجية تبارك الأمر، بل وتبتكر اساليبا علمية تقود إلى توطيد العبودية وتثبيتها بالعقل العام لدى السود بفكرة أنهم اقل مستوى من الإنسان الأبيض، لذلك فهم يتساوون مع الدواب في كل شيء يسخرهم لخدمة السيد القادم من بلاد أخرى.
كانت بريطانيا وفرنسا، وهما اعرق " ديمقراطيتن وحضارتين " في العالم، يروا في البلاد التي وصلوها، أن سكانها إذا تسامحت معهم، هم نوع من القردة المتطورة، وشاركت المؤسسات العلمية بتوطيد هذه الحقيقة، الذي أوجدت مفهوم الدم الأزرق والدم الأحمر، ووصل الأمر (بجماعة من أطباء الأمراض العقلية في مؤتمر لهم أن يفصحوا " عن حزنهم لشيوع الجريمة بين السكان الأصليين، وقالوا: إن هؤلاء الناس يقتل بعضهم بعضا، وهو شيء غير سوي، فلا بد أن القشره الدماغية لدى الجزائر مختلفة النمو". وقال آخرون في إفريقيا الوسطى أن " الإفريقي لا يستعمل الفصين الجبهيين من الدماغ إلا قليلا جدا" ).
وفي أمريكا، يمكنك أن تعرف مدى القسوة والابادة التي استخدمت ضد الهنود الحمر، وإذا قدر لك أن تقرأ عن ملاحم الشعوب التي وصلت من بلدان الحضارة والتقدم للأرض الأمريكية، فان الغثيان والتقيؤ سيرافقان مسيرة الصفحات الملحمية التي تمجد من سلخ فروة رأس مئات بل آلاف من الهنود، ومن قام بصف مئات ثم بدأ بإعدامهم أمام النساء والأطفال، وستقرأ بعدها عن السود الذين تم إحضارهم من إفريقيا ليكونوا عبيدا اقل حظا وقيمة من الكلاب والخيول والبغال، بل وستشاهد مئات منهم يحرقون وهم أحياء، بطرق يعجز الوعي والعقل والنبوغ عن فهمها أو تصورها، لأنها لم تكن يوما من طباع السباع أو النمور أو النمور، وحتى لم تكن من طباع الكلاب والضباع.
في إحدى القرى الامريكيه، تم اعتقال شاب صغير بتهمة لم تثبت عليه، اقتيد الشاب الذي كان في ريعان تفتح ربيع أيامه، إلى ساحة كبيرة، تتوسطها شجرة عملاقة، واستنفر المنادي أهل القرية، من السود والبيض، ليشاهدوا مشهدا لم يعرف عالم الغريزة منذ بدء الخلق له مثيلا.
ربط الشاب بأعلى غصن للشجرة، من يديه وقدميه، ووضعت تحته حزم من خشب بطيء الاشتعال، كان يصرخ، يبكي، يستنجد، يقسم أغلظ الأيمان واعتاها بطاعة لا تماثلها طاعة، لكن البيض، كانوا يشعرون بنوع من فرحة غامرة، نشوة تشابه نشوة من امتلك أموال الكون وثرواته، يضحكون حتى تبدو النواجذ، يقهقهون بسعادة مترنمة، وكان السود يرتجفون، تنخلع قلوبهم، تهوي أفئدتهم، يتسلل الرعب والحزن والأسى إلى جلودهم، فتنتفض، كمس من رعشة صقيع مميتة، دموعهم تحجرت في مآقيهم، وعقولهم تيبست وتبلدت، ففغروا أفواههم بالطاعة العمياء.
وأشعلت النار، ببطء شديد، كانت بعيدة عن الجسد، لكنها كانت تصليه، صرخات الألم الممزوج برعب الموت، تجشأتها حنجرة الشاب، بصورة تفتت الصخر، تخمد البراكين، توقف الزلازل، ومن عينيه كان يتدلى بريق غريب، لا يتشابه مع أي بريق دنيوي، تعالت السنة اللهب قليلا، تمددت، وتعالى الصراخ الذي لا يشبه الصراخ، فاحت رائحة اللحم، وببكرة كانت معلقة مع الحبل، رفع الجسد قليلا، كان اللحم الذائب يتساقط، يسيل لزجا، وقلوب البيض تطفح بالفرحة، وقلوب السود تغمرها عواصف الرعب والألم والخوف.
الأشجار والأحجار، الأجواء والسماء، الأرض والماء، الحيوانات والحشرات، الأشياء الصامتة، بما فيها الزمان والمكان، كانت شاهدة، وكانت مشدوهة، ارتفعت السنة اللهب من جديد، وتعالى صراخ الطفل الموسوم ببكارة الشباب، كانت أمه، وكان أبوه، كانت أخته، وكان أخوه، يراقبون العذاب الذي تحدثه النار بأسفل جسده، كانوا مفئودين، بل كانوا أمواتا بإهاب حياة، تعالى الصراخ، صراخ النار التي تقضم قليلا من منابت اللحم، تسللت الصرخات إلى فؤاد الأم، تدثرت الصرخات بالأثير، لكن الفرحة التي كانت تتعاظم مع تعاظم الخوف والرعب في عيني الطفل، كانت تتجول بين قلوب السود، لتتفحص جلودهم وسرائرهم، بحثا عن نازع يقود إلى استنكار وشجب، لكن قلوب السود وجلودهم، كانت تتدلى من تلك الشجرة لتحترق وتصطلي مع احتراق واصطلاء الطفل.
ذابت الأقدام، وتعالت النار، بدأ الصراخ يخبو، يفتر، وأخيرا اختفى الصوت، واختفى الجسد، لكن النشوة، التي اجتاحت البيض غطت الأجواء كلها، فاشتبكت مع رائحة اللحم المحروق.
هنا، عليك وعلى الإنسان أن يتوقف، ليعرف كيف يصبح الوعي غريزة منحطة، أو بالأصح شيء منحط، لان الغريزة لها امتيازها في التعامل مع نواميس الكون، لكن مثل هذا الوعي، لا علاقة له بالغريزة التي تحملها الكلاب والخنازير، ومن هنا، يمكننا فهم العقل الذي يتحول إلى وعاء لا خلق فيه ولا إبداع، بل وعاء يقبل بما يسكب فيه من أشياء، مرغريت ميتشل استطاعت أن تصل إلى هذا المفهوم، فنبشت بكلمات حارقة، ثقافة الوعي الذي تدعي أنت ومثلك أنها تتفوق على الغريزة، حين قالت بروايتها ذهب مع الريح " وقد كسب جيرالد عبده بورك، الأسود البراق، المكرم، والمدرب على فنون التأنق في تصفيف الشعر وتزيينه، نتيجة لعبة بوكر، استمرت طيلة الليل، مع مزارع من جزيرة سانت سيمونس عادلت جرأته في " البلف " جرأة جيرالد، وتخلف رأسه عن رأسه في الصمود لويسكي مدينة نيو اورليانس. ورغم أن سيد بورك السابق تقدم لاسترجاعه بضعفي ثمنه، إلا أن جيرالد رفض ذلك بإصرار، لأن اقتناء أول عبد، ولا سيما أن بورك كان امهر عبد في الساحل، كان بمثابة الخطوة الأولى نحو تحقيق أمنية قلبه في أن يصبح صاحب عبيد وسيد ارض".
أتدري ما المفارقة الآن؟ أظن انك لا تستطيع الوصول إليها بنفسك، فأنت وان بدوت بملامح الشخصية الروائية، ما زلت أظن بأنك لم تتمكن من التعامل مع صخرتك تعامل الإحساس بالإحساس، لكنك تعاملت كشيء اعتدت الجلوس عليه، وهذا من الفروق الواضحة بيني وبينك، فانا تعاملت مع صخرتي تعامل الإحساس المتبادل، عشقتها، فعشقتني، بكيتها، فبكتني، نقلت إليها أسرار الناس، فنقلت لي أسرار الأرض، علمتها الإحساس بالناس، فرفضت، لكنها عرضت علي تعلم الإحساس بالأشياء فقبلت.
من هنا اكتسبت خاصية مميزة، تستطيع أن تسبر غوص الأشياء والأزمنة والأمكنة، لتضيف إليها العامل البشري، كزيادة إن وجدت كان لها تأثير قليل، ولكن إن غابت، فان الأشياء والأمكنة والأزمنة تبقى، وتستبدل مقوماتها بأشياء تحت الأرض وفوقها، تحت الماء وفوقه، بين الكواكب والمجرات والنجوم والنيازك، بين الشموس والأقمار، لتتحد كلها مع تلك الصخرة التي قادتني إليك، وقادتني للديدان اللحمية، فكانت الديدان ضرورة، أما أنت فكنت رقما لا يفرق غيابه عن وجوده.
وقبل أن اروي لك قصة أخرى عن العبودية، دعني اشرح لك كيف يكون الوعي والنبوغ والذكاء اقل قيمة من الغريزة، المفارقة، أن قيمة الإنسان والوعي تركزت بين سيدين، تلعب الخمر برأسيهما، فيقامران على إنسان، لكنه ليس بإنسان، بل عبد اسود براق، يتقن فن تزيين الشعر وتصفيفه، كما يتقن البغل الحرث، أو كما يتقن الكلب النباح أو الصيد، والمشكلة ليس في الربح أو الخسارة، بدليل انه رفض بيعه لصاحبه الأصلي بضعفي ثمنه، لكن المشكلة تكمن، بالخطوة الأولى التي تقود إلى تحول الشخص إلى سيد، وهذه الخطوة تكمن، بضرورة امتلاك العبيد والبغال والكلاب والخنازير، وكذلك امتلاك الأرض التي من خلالها يمكن ممارسة العبودية على ذاك الشيء الأسود، كما تمارس البغال والكلاب والخنازير دورها في تكوين صورة السيد.
والمفارقة الأخرى، أن السود، رأوا بتصرفات الأسياد، نوعا من الكرم، فلم يتنبهوا حتى لعبوديتهم، لم يدركوا إنسانيتهم، لم يحاولوا أن يتبينوا معنى الحرية التي تسكن الوعي الذي تتحدث عنه، وهنا يكمن الفرق بين الغريزة المتأصلة بالأشياء، وبين الوعي الذي يتحول إلى شيء ننعته نحن بالغريزة، فالبغل حين يمارس الحرث، والكلب حين يمارس النباح والحراسة والصيد، والحمار الذي يحمل ويكدن ويجر، إنما يمارس بالغريزة ما هو منذور له، فلا يمكننا أن نعتبره عبدا، ولا يمكننا أن ننتقص من قيمته، ولا يمكن للقارىء أن يرى بالمقارنة التي عقدتها بين العبد والحيوان، أي حس ممجوج أو مبتذل، لان الحقيقة التي تفصل بين الغريزة وبين الوعي، هي مدى التئام ومواءمة الوعي للاتحاد مع نواميس الكون وفواصل الوجود، تماما كما فعلت الديدان اللحمية، وكما فعلت الديدان التي تفجرت بجيف الحيوانات التي كانت تلقى على حافة وادي الزومر.
والوعي الذي يقبل بالعبودية، لا يتساوى أبدا مع الحمار الذي حدثتك عنه سابقا في سوق الدواب المقابل للصخرة التي كنت اعقد معها اتفاق زمن ومكان ومشاعر وإحساس، فذلك الحمار، رفع قدميه بقوة ضارية، وظل يرفس احتجاجا على خدش غريزته، لكن العبد، لم يرفع صوته احتجاجا على وعيه ونبوغه، وحين رفعه، كانت الأشياء هي الدافعة والمحركة للغريزة التي تحولت فيما بعد إلى وعي بقيمة الإنسان.
وحتى تدرك الفرق بين ثورة الغريزة، وبين الوعي، تابع معي ما تقول مارغريت ميتشل مرة أخرى ( مساء الخير أيتها الآنسات الصغيرات، وأيها السيد جيرالد، أني أسفه لإزعاجكم، ولكني أردت المجيء هنا لأشكركم ثانية لشرائكم إياي وابنتي، فكثير من الناس الطيبين كان يمكن أن يشتروني، ولكنهم لن يشتروا ابنتي أيضا، ولذلك أشكركم لرفعكم الحزن عني، سوف أخدمكم جهدي وأريكم أني لا انس الجميل.
" اجل اجل " أجاب جيرالد، متنحنحا بارتباك، لكونه ووجه علانية بصنيعه الجميل.
ثم التفتت دلسي إلى سكارلت وقد غضن زاويتي عينيها ما يشبه الابتسامة، وقالت:
انسه سكارلت، لقد اخبرني بورك كيف انك طلبت من السيد جيرالد شرائي، ولذلك سوف أمنحك ابنتي برسي خادمة خاصة لك).
طبعا أنا لا أثق بان مرغريت ميتشل قد صاغت الحوار صياغة أمينة، فهي حاولت بكل ما تملك أن تصل بالعبد إلى محاور للسيد، وحاولت أن تصنع من السيد شخصا يمكن أن يصاب بالارتباك حين يمدحه عبده، ولها أن تفعل ذلك، لأنها حاولت بصورة ما أن تقلل من وحشية شعبها وهمجيته، تطرفا وانحيازا، والمفروض أن يكون الحوار بصورة تتوافق وتتطابق مع ما كان سائدا في تلك الفترة، وهذا لوحده يدلنا مرة أخرى على انحراف الوعي والنبوغ، حتى حين يكون الوعي والنبوغ قادما من كاتب عليه أن يؤرخ بطريقة تتفق مع الفطرة والغريزة التي لا تحاول تجميل الماضي الذي أصبح حتمية لا يمكن تغييرها أو تجميلها، أي انه أصبح غريزة تتساوى وتتماهى مع غريزة الديدان اللحمية، لكن حتى من منح النبوغ في تسطير التاريخ، ضل بوعيه عن الحقيقة، فأضاع بنبوغه الغريزة.
الغريب أن العبدة، رأت في تصرف سيدها الذي اشتراها وابنتها كرما بالغا يستحق عليه الشكر، وتماديا في العبودية التي تأصلت كوعي لازم لشخصيتها وصفت الأسياد الذين لا يودون شراء ابنتها معها " بالناس الطيبين "، وهي حين تتحدث عن عملية بيعها وشرائها، تتحدث باريحيه مفعمة بالاقتناع بما يجري، تتحدث عن ذاتها وعائلتها وابنتها كأشياء أو حيوانات، وليس كانسان، بل انه لم يخطر ببالها لا في الرواية أو في الحقيقة أن تتساءل إن كانت من البشر أم لا؟
لست هنا لنقد الفكرة في رواية، فهذا عمل آخر، ولكني هنا لأسبر غور الشعور المكثف للنفس البشرية التي استطاعت أن تضع مدلولات وتعاريف لأشياء تتنافى وتتضارب وتتجافى مع مصطلحات الأشياء، وهذا أمر عسير، لأني أومن بوجود التوحد بين الأشياء وبين الإنسان بصورة مكثفة، تضج بالتوافق والتآلف، لكن الإنسان ذاته، رفض هذا التوافق ونأى بنفسه عن التآلف، دون أن يدرك بان وجوده لا يشكل هما من هموم الأشياء، بل ولا يشكل نقطة أو قطرة من ضرورة تواجد الأشياء، ولكن الأشياء لو انعدمت، لانعدم الإنسان بالضرورة، وهذه حتمية كونية لا يمكن الشك فيها أو إلقاء أي ظل من ظلال المبتدعات اللفظية التي يتأنق الإنسان بتشكيلها لذاته، كما تأنق بضرورة العبيد.
ومن هنا نستطيع أن نعود لمفهوم الغريزة والوعي، فالوعي الذي لا ينسجم مع الفطرة، لا يتوافق مع مكونات الوجود، أو حتى مكون الأصل للوجود، لان الفطرة تتوافق مع الغريزة، بل وتعكس صورتها الحقيقية، لكن اللفظ الأول استخدم للإنسان، واللفظ الثاني استخدم للحيوان، وللأشياء، وهو نوع من الصلة الخفية التي يجب أن يتأسس الوعي عليه ليكون ناصعا كحقول القمح التي تقتحم النظر باتساع نقائها وصفائها، لكن حين يتحول الوعي عن الفطرة، فلن نرى سوى مساحات من سواد، كأرض المفاحم التي تؤلم العين والقلب في آن.
وهنا تحديدا يبدو الفرق بين الأشياء التي استطاعت أن تتواصل مع غريزتها بصورة مطلقة الصواب، فالأسد الذي يقتل ليسد رمقه ورمق أولاده، أو دفاعا عن وجوده وأولاده، فانه ينسجم، بل يتماهى مع مكونات الوجود، تماما كالديدان التي تمارس دورها بعزم وثبات لتزويد التربه بأنفاس الشمس والكون والفضاء.
وأنا أميل إلى احترام الأشياء، التي تواصلت مع صيرورة الحياة والبقاء، أكثر من ميلي للوعي الإنساني الذي أباح العبودية، وحرق الطفل، وتاجر بالبشر، أميل للتوحد مع طفل تشيخوف وطفلي والطفل والمحروق، أكثر من ميلي لنابليون وهتلر وموسوليني، فهؤلاء بالنسبة لي، لفطرتي وغريزتي التي أتقنتهما بفعل تواصلي مع الصخرة، مجموعة من العاهات المشوهة، التي لا تصلح لا للوعي ولا للغريزة، فهم مجموعة نتنة من القتلة الذين أتقنوا فن العوم بدماء الناس وهيولى الأشياء، دون أن تتحرك فطرتهم أو غريزتهم لتهزم وعيهم ونبوغهم الذي وجد آلافا من الصفحات المشوهة التي تمتدحهم وتضعهم على قمة من قمم العمل الذي يستحق الملاحظة.
لكن الأهم بالنسبة لي، ماذا حصل لعبيد أمريكا بعد أن تحركت الأشياء لتدفعهم نحو الحرية؟ هل ظلوا ملازمين لطبيعة الأشياء الصامتة؟ أم تقلدوا وسام الوعي والنبوغ كموسوليني وهتلر ونابليون وبوش.
ربما أعود للإجابة على هذا السؤال، ربما، رغم علمي بما تفعل ربما بك بعد أن أغادر.
أنا وأنت ابتعدنا كثيرا عن الصخرة، دعنا نعود إليها، قلت أن لدينا رحلة منتصف اليوم ، ورحلة الغروب ، بكل ما فيهما من تضاد وتناقض .
قال: قلت " ربما وبطريقة ما، تسرب المستقبل إلى أعماقي، ليبني صورا لموت ستكون الصخرة شاهدا عليه، ربما، فقط ربما، أعود لأحدثك عنه".
قلت: نعم أنا قلت ذلك، لكن ربما انك لم تفهم أنني قلت ربما، وربما انك لم تستوعب بعد أن مفردة ربما أصبحت شخصية رئيسية في هذه الرواية، أكثر أهمية منك، ومن رجل الكهف الذي ربما، فقط ربما، أعود لأحدثك عنه، فقد قابلته يوما بعد أن تركتك تعاني من كلمة ربما، تحدثت معه عن أشياء، وحدثني عن أشياء، رأيت دموعه، لكنه لم يثر شفقتي أو عواطفي.
قال وقد اكتست ملامحه ببريق غريب: حدثني عن رجل الكهف.
قلت: دعني أحدثك عن شيء آخر، يتصل بالموت الذي كانت الصخرة شاهدا عليه، لأعود بعدها لرحلة منتصف اليوم، ورحلة الغروب.
وفاء شوكت خضر
30-03-2009, 10:18 PM
كنت هنا ..
أعتقد أخي مأمون هذا الجزء يحتاج لأكثر من قراءة للغوص في مكنوناته ..
تشابكت الأشياء في ذهني بسبب تشتت فكري يصيبني ، وليس بسبب ما ورد في هذا الجزء ..
سأعود بذهن صاف كي أعيد القراءة وأكمل ما لم أقرأه ..
تحيتي ..
ربيحة الرفاعي
31-12-2014, 05:59 AM
سرد روائي شائق وفصول حافظت على استقطاب المتلقي رغم طولها بغوص لافت في سراديب النفس بتفصيل قصّي استحواذي وأداء جميل
نص موفق أديبنا
لا حرمك البهاء
تحاياي
خلود محمد جمعة
03-01-2015, 06:40 PM
بسرد مشوق وأسلوب مائز امسك بنا الى السطر الاخير بمتعة وجمال
بوركت وكل التقدير
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir