تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : موت قصة



ياسر عبدالباقي
07-11-2003, 10:49 PM
أخاف من الظلام ، كما أخاف من الكوابيس ، منذ أيام طويلة ، بدأت الأحلام المخيفة تداهمني ، تقضّ مضجعي ، تقلق راحتي ، فأعلنت الحرب ، وقررت ألا أنام لأسبوع واحد لعل الكوابيس تيأس مني وترحل .
في اليوم الأول حيث كانت الساعة الواحدة ليلاً ، وأنا في صراع شديد مع الأرق، فكرت في استغلال الوقت في الكتابة ، فغمضت عيناي مسترخياً .

كان الظلام حالكاً في الغرفة التي تفوح منها رائحة غريبة تدعو للاشمئزاز ، بان لي شبح واقفً مستنداً إلى الجدار دون حراك ، دقائق مضت وأنا أحاول ان أتبين وجه الشبح الغامض حتى قام بإشعال عود الثقاب ليولع بها سيجارته ، فظهرت لي ملامح وجهه ، وجه أبيض طويل جامد التعابير ، شعر أشقر ، عينان زرقاوان فيهما غموض خيل لي أنهما تنظران نحوي ، كانت النافدة الوحيدة في الغرفة مغلقة منعت دخول الضوء . تحرك الرجل الأشقر قليلاً ، ثم بدأ يدور في محيط الغرفة إلى درجة اعتقدت أن قدميه لا تلامسان الأرض حيث كنت لا أسمع وقع نعليه ، توقف الرجل فجأة في منتصف الغرفة ، وراح يحدق فيّ بعينيه الغامضتين ، وصدر منه صوت عميق وقوي : أنتَ !

أرعبني صوته ، كما أرعبتني نظراته ، اهتز جسدي رعباً ، عملت جاهداً لأقنع نفسي بأني أحلم ، عاد الرجل يدور في محيط الغرفة ، وإن كانت خطواته هذه المرة سريعة : لماذا أنت خائف ؟ أخائف أنت مني ؟!

لم أكن خائفاً فقط ، بل كنت في حالة حيرة أيضاً من تلك الشخصية الغريبة التي وضعتها في قصتي ، ها هي الآن تتكلم معي بكل جرأة ووقاحة دون خوف مني ، عاد صوته إلى نبرته المرعبة : من أنتَ ؟

لكن السؤال من هو ؟ ولما تلك النظرات الشريرة المحدقة فيّ ، فأسرعت لإشعال سيجارتي لأخفي أرتباكي الواضح ، فكتبت : من أنت ؟

اتسعت عيناه بشكل مخيف وبدتا كأنهما تودان الفرار من محجريهما ، وانطلق كالطلقة : أنا .. الكابوس .. كابوسك .. قلق .. حدق بي .. هيا .. حدق .

لا أرى سوى عينين تحاولان التهامي ، بادلته النظرات بتحدٍ ، ها أنا وجهاً لوجه أمام كابوسي مصدر قلقي ، كأني في ساحة معركة ، في صراع حضاري مع رجل أشقر .

تلك الرائحة التي تدعو للاشمئزاز ، ما زالت عالقة في الغرفة كأنها قطعة منها ، أشعل الرجل الثقاب وتحرك نحو النافدة ، ونظرته مصوبة نحوي .. يا الهي كم هي قوية وملتهبة ، على ضوء الثقاب بدت لي ملامح امرأة ممددة على السرير ذات شعر أحمر ، بيضاء ، كالثلج ، وفي جبهة رأسها ثقب صغير يمر عبره خيط رفيع من الدم وأحسست بقشعريرة تهز جسدي .

-أنها زوجتي ، هكذا قالها ببرود دون أي تأثير لم أستطع أن أمنع نفسي من التقيؤ على بدلتي، شعرت باختناق كاد يقتلني ، فذهبت لأفتح نافدة غرفتي ، إلا أنه ناداني : هيه !




التفت نحوه لاهثاً متسائلاً ، صاح : أجلس .

أطعته فجلست ، يملك قوى خارقة أجبرتني على الامتثال له ، أبتسم ، ابتسامته مخيفة أيضاً ، أشار بيده نحوها : قتلت . قالها وكأنها حية أمامه ، لقد قتلها . سألت نفسي .

-أنت القاتل . يا إلهي أنه يعرف بما أفكر ، أشار بإصبعه نحوي ، إلى درجة شعرت بها تلمسني ، خفت منه ، ها هو الرجل يتهمني بقتل زوجته ، لكني لم أقتلها حتى أني لا أعرفها ، أنه يتلاعب بي ليخيفني ، بذلت جهداً كبيراً لأبدو أمامه قوياً .

-نعم أنت قتلتها ، تابع صارخاً ، وضعتني في هذه الغرفة المظلمة مع امرأة مقتولة ، حاولت الدفاع عن نفسي أردت أن أقول له بأني لم أقصد وضعه مع زوجة مقتولة ، بإمكاني أعادة صيغه القصـ.. ، إلا أنه كان يقرأ أفكاري : لا يهمني أن تبرأ نفسك لن تستطيع إعادة زوجتي إلى الحياة .. هل تدري بما أفكر ! و ضحك أخافتني ضحكته الهستيرية ، تمنيت أن أغوص إلى أعماقه لأعرف بما يفكر ، لكنه كشف عن نواياه قائلاً : الانتقام ، عاد الرجل يدور في محيط الغرفة تاركاً صدى كلمة الانتقام تتردد في الغرفة ، كان دورانه في الغرفة يسبب لي صداعاً رهيباً ، فأخرجت من جيبي زجاجة دواء مهدأ أحملها وقت الحاجة ، لكن الزجاجة كانت خالية من الدواء ، فرميتها حانقاً ، فكسرت المصباح الوحيد في غرفتي ، وبدأ المكان مخيفاً ، توقف الرجل عن الدوران ، كما توقف الصداع .

-لقد تعادلنا .. كلنا نعيش في غرفة مظلمة ما عدا الجثة . وسكت ولكن أنفاسه لم تسكت ، لم أعد أستطيع أن أفكر ، أشعر به يسيطر على أفكاري ، أحلامي . لقد فرض الخوف أيضاً ، غرفة مظلمة ، وعينان محدقتان ، أخرج من جيبه شمعة وقال: أحملها لضرورة ، راقبته بارتياب وهو يشعل الشمعة وكأنها تحترق في صدري ، وضعها على كف يده وقال الحياة مملة ، والموت رحمة لنا . ومن ثم رمى الشمعة حيثما ترقد الجثة ، فأرتعدت لرؤية المرأة وهي تحترق ، خيل لي أنها تصرخ وتطلب مني مساعدتها ، كان الرجل يضحك بهستيرية ، وأحسست بالنار تكاد تحرقني معها ، حاولت الهرب من الباب لكنه كان موصداً ، فاستدرت لأفتح النافذة ووقفت محملقاً إلى الشارع ، توترت أعصابي فالموت يحيط بي من كل مكان ، أن بقيت في الغرفة حرقتني النار ، وأن قفزت من النافذة لوصلت حطاماً ، وضحكات الرجل تزدني رعباً : الحياة مملة والموت رحمة لنا .. لا أحد يهرب من كابوسه ، ثواني فقط هي تحدد حياتي . فجأة استيقظت ففتحت عيني بهلع ووجدت نفسي أهوي و أوراقي تتناثر من حولي .

عبدالرحيم فرغلي
08-11-2003, 11:21 PM
قرأت قصتك .. لن اقول لك مدى اعجابي الدائم بصياغة قصصك جميعها
فمثل جمالها وتراكيبها وانسيابها لا يحتاج رأي من يتعكز على حروفه
ويتهجى نصوص المبدعين .
تهت في الهدف من وراء قصتك الخيالية هذه .. أو قل هدفك الذي صغته
بالانتجاع الى الخيال ..
فكرت ان يكون الهدف الذي ارتسم في السطر الاخير
الحياة مملة والموت رحمة لنا .. لا أحد يهرب من كابوسه
ولكن ما ترمي له زوجته .. شعره الاشقر .. عيناه الزرقاوين
اسئلة طافت بي لم اجد لها جوابا بين ثنايا قصتك

تحية دائمة لك ايها المبدع

ياسمين
09-11-2003, 10:35 PM
تحياتى لروعة الاسلوب
التى ينم عن كاتب قصصى له نكهة متفردة
يحمل المعانى بين تلابيب هالة من الغموض

شكرا لك ومزيد من ابداعاتك هنا

لك تحياتى ,,, وباقة ياسمين

ياسر عبدالباقي
09-11-2003, 11:38 PM
سيدى الهمام لست بارعا في كتابه الردود
لكني يهمني تعليقك00وتعليق زملائك
لا احب ان اشرح
او اعطي شيئا من توضيح لقصة بدات غامضه
بلعكس انا استمتع عندما يشاركني القارى فهمه للقصة
دون ان اعطى توضيحا
غالبا اترك نهاية القصة مفتوحا
اجعل القارى يفكر ويرسم نهايتها
ولك تحياتي

ياسر عبدالباقي
09-11-2003, 11:44 PM
ياسمين الواحة
شكرا00 على تعليقك الجميل
وشكرا اكثر على باقة الورد

د. محمد الشناوي
30-11-2004, 04:08 AM
أخي الحبيب "راوي جديد"

ما أراك إلا راويا متمرسا

نسيج القصة متين
وأسلوبك رائع
وفكرتك مجنونة

أتدري لماذا تزورك هذه الكوابيس؟
لأنك مبدع
تعايشك مع شخوص قصتك هو السبب
دمت مبدعا:0014::0014::0014:

د.جمال مرسي
30-11-2004, 08:33 AM
سلم اليراع
و صاحب الإبداع
نتمنى أن نقرأ لك دوما أخي الكريم راوي
فلا تغب بارك الله بك
د. جمال

فاطمة المزروعي
03-01-2005, 10:11 AM
ليس بالضرورة أخي راوي أن نأتي بافكار جديدة حتى نبدع ..
الأبداع يكون حيث الهم .. والخوف .. وهذه الهواجس الكثيرة التي تحصل لك ساعة الكتابة ..
إبداع جميل .. وسرد جيد ..

اكتب وانطلق في عوالم الكتابة ودهاليزها العميقة ..

عندها سوف تشعر بسعادة خفية ..

واحساس جميل بصدق الكلمات التي تطرحها على الأوراق ..
وشكرا

د. سمير العمري
03-04-2005, 02:37 PM
لن تموت في الواحة.


نرفعها لتحيا وتحيي بها نفوساً.


تحياتي وتقديري
:os::tree::os:

ناديه محمد الجابي
26-09-2014, 06:07 PM
في أسلوب غامض مثير مشوق تاتي أحداث هذه القصة لتحكي لنا
عن معاناة الكاتب عندما يتفاعل مع أحداث قصته التي يكتبها حتى
يعايشها ويصبح أسيرا لأفكاره وشخوصه.
قصة جميلة ـ مهارة سردية وأداء قصي متمكن وإبداع
تحياتي وتقديري.

نداء غريب صبري
18-10-2014, 02:27 AM
القصة جميلة وأسلوبها مميز وفكرتها رائعة
ومهارة الكاتب في الوصف والتفاصيل تجعلنا نعيش مع الشخوص
أمتعتني قراءتها

شكرا لك أخي

بوركت

ربيحة الرفاعي
26-10-2014, 12:09 AM
سرد شائق وأداء قصّي جميل تجلى بوصف موفق ومهارة في خلق ذلك الاندماج بين دنيا النص والواقع بانتقال شخوص القصة بينهما

بعض عثرة وددت لو حظي النص من الكاتب بحقه من المراجعة قبل اعتماد النشر لضبطها
دمت بخير أديبنا

تحاياي

ناديه محمد الجابي
07-11-2023, 05:46 PM
بغموض مثير وسرد جذاب جعلتنا نتعايش مع مشهد مثير أبدعت في رسمه فسحرتنا به
صور مدهشة تشير إلى مقدرتك الإبداعية في الاستحواذ على لب المتلقي
بلغة شيقة معبرة وتصوير جميل.
تحياتي وتقديري.
:004::003::004: