المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرقاص



علاء الدين حسو
26-10-2008, 09:46 AM
الرقّاص

جلس حميد الأحمر على مصطبة بيته المرتفع، تحت شجرة كينا إصفرت أوراقها، والمطل على سكة القطار، يراقب قطاراً هرماً بعرباته وقاطرته. ابتسم ابتسامة شاحبة ممزوجة بالتهكم وقال :
- أجري أيها العجوز، مصيرك الدفن كحميد ..

تخطئ لو تخيّلته عجوزاً ، فهو لم يتجاوز حاجز الخامسة والأربعين ، وستفاجأ حين ترى قوامه الممشوق، بطنه المتينة، خصره الجميل، والخالي من الشحوم. كيف لا، وهو أمهر رقاص (دبكة) في المدنية. وستتفهم الوضع حين تدرك بأن الرقص موهبة اتخذها مهنة، درّت عليه ربحاً مادياًُ مكنه من شراء البيت، والزواج، وطفل وحيد نال الشهادة الثانوية بتقدير مقبول، قضى على أخر حلم له، أن يراه طبيباً يفتخر به ..

أخر عربة اختفت مع غروب الشمس، حين اقتربت سيارة ضخمة بالقرب من بيته، وترجّل منها رجل من طراز رجال الأعمال الذين خبرهم حميد،حين كان يرقص في حفلاتهم، فيشعل الفرح ، ويسعد الحاضرين، ويطرب لها صاحب العرس ..
-حميد أيّها الغالي.
نهض حميد مستقبلاً الضيف الثري وقد دبّ فيه الأمل.
- أهلا بالباشا.
تعانق الاثنان كصديقين حميمين، رفض الضيف دخول البيت متذرعاً بضيق الوقت وقال:
- جئت إليك بعرض مغر.
- نحن في خدمة الطيبين .
- هذه المرة العرض مختلف .
- لا رقص.!؟
- بل على العكس المطلوب هو الرقص.
- وما هو الاختلاف ؟
تغيرت ملامح الضيف، وقد اكتسبت جديّة مهيبة ،لم يعهدها حميد:
- سترقص ولكن ليس في حفل فرح .
- نعم؟!
- سترقص في جنازة .
حرق حميد أصبعيه اللذين يمسكان بالسيجارة، حين حاول سحب السيجارة من فمه ، وقد بقيت لاصقة بشفتيه فبصقها، وهز يده الملدوغة وسأل باضطراب :
- أرقص في جنازة ؟
- سنعطيك مئة ألف دولار ، نصفها الآن.

أشار الضيف الى السيارة، وقد تزل منها السائق، بيده حقيبة صغيرة قدمها لسيده وعاد إلى السيارة.
- خذها وجهز نفسك غداً صباحاً .

انسحب الرجل دون أن يسمع من حميد أية كلمة، تركه مع النقود وانصرف ...
(أي نوع من البشر هذا ، وما يظنني.. بلا قلب ، بلا إيمان ، أرقص في جنازة ؟! ) هذا ما خطر على قلب حميد، وكاد يناديه بيده القابضة على الحقيبة فشعر بثقلها، توقف عن النداء وفتح الحقيبة ليجد فيها رزم النقود الخضراء التي كان يتمنى واحدة منها لا عشرة حزم .

ضمّ حميد أسرته الصغيرة وقال :
- أنه أغرب عرض يقدم لي .
قال ابنه:
- بل أحسن عرض قدّم إليك.
وهمست زوجه :
- ألم ترقص ليلة وفاة والدك؟
صرخ حميد:
- لم أكن أعلم موته؟
فردت زوجه:
- ولكنك كنت تعرف أنه يحتضر.
دمعت عيناه وقال وهو يتحاشى النظر إلى ابنه:
- كان مريضاً ، وكنا بحاجة لنقود .
ابتسمت زوجه وقالت وقد شعرت بنصرها:
- النقود ، تلك التي منعتنا من إنجاب طفل أخر.

طويلة جداً مرت الليلة ، فقد فيها حميد أية رغبة بالنوم، وهو الذي كان يبحث عنها ، ليدفن همومه ويحلم برقصه في ساحة ملعب ، يرميه الجمهور بنقود كالزهور ..ومرت الذكريات الحزينة تطفو على فراشه ، فيتذكر الليالي التي رقص فيها وأهم أقاربه وأصحابه قد فارقوا الحياة ..نعم إن الرقص مهنته ، ولا أحد يقدر أحزانه، ولكن كان دوماً يرقص في مكان أهله في فرح ، ولكن هذه المرة المكان مكان حزن،لا فرح ، والمبلغ دسم، وفرصه في الرقص تقل..للعمر حق، وللبدن حق ..أليس عجزه عن تأمين نفقات العلاج الباهظة حرمه من إنجاب طفل أخر؟ ..زوجته مازالت قادرة على الإنجاب ، ومبلغ يمكنه من تدريس ابنه ، وفتح متجر ومدرسة لتعليم الرقص ..بل تشكيل فرقة ستجعل الفرق الراقصة تذوب من الخجل ، من معلمها وسيدها ..ولكن كيف يرقص في جنازة ؟ ماذا سيقولون عنه ؟ شرف المهنة ، شرف الاسم ، هذه الرقصة ستكون كالبقعة السوداء ستلطخ صفحته الناصعة ..

تحاشى النظر إلى زوجه التي دخلت الفراش متأخرة وقالت قبل أن تديرله ظهرها:
- من يرقص ليلة وفاة والده ، يرقص في جنازة.
شعر حميد بالتعب وقرر النوم بانتظار الغد ..فأغمض عينيه، ليرى نفسه في ساحة الملعب، رأى عازف الطبل يقرع بقوة، عازف الناي يغرد، رأى سرباً من الطيور، حملت أليه أجساداً عرفها من شكلها، ففتح ذراعيه يستقبل والده ، أمه ، صديقه ، ومجموعة تحمل نعشاً تقول له:
- أرقص من أجله أرقص...

***

سعيدة الهاشمي
27-10-2008, 12:50 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

امتهن الرقص ليطبقه داخل رقعة الحياة يتمايل في جنباتها يسد رقعها،

جلس ينظر إلى ذلك القطار المتهالك وكأنه يجر ذكرياته ويعيد سرد حياته على سكته الطويلة.

يا له من عرض قدم له، أكيد سوف يغير حياته، فالمبلغ مغري أعمى العيون وأعدم الضمير

وجعل الكل يصيح في وجهه إياك أن تضيع هاته الفرصة من بين يديك، فوقع أسير ضغط

أسرته وبقية قليلة من المروءة والضمير، تائها كان حتى راوده ذلك الحلم فأنقذه من بحر الحيرة

شعر حميد بالتعب وقرر النوم بانتظار الغد ..فأغمض عينيه، ليرى نفسه في ساحة الملعب، رأى عازف الطبل يقرع بقوة، عازف الناي يغرد، رأى سرباً من الطيور، حملت أليه أجساداً عرفها من شكلها، ففتح ذراعيه يستقبل والده ، أمه ، صديقه ، ومجموعة تحمل نعشاً تقول له:
- أرقص من أجله أرقص...

أتراه سيمتهن الرقص في الجنائز؟

لعله سيتقدم نعشه يوما ؟

سرد جميل، راقني القراءة لك أخي.

دمت بود، تحيتي لك.

آمال المصري
25-11-2008, 07:40 AM
الرقاص ...
خروج عن المألوف أثار العديد من التساؤلات
رغم غرابة المضمون إلا أنه يشير إلى الغوص
في الهدف الكائن وراء القصة
هل ؟ وهل ؟ وهل ؟ إلى حد الحيرة
جعلنا نبحث في أعماقها لنصل إلى ماخلف الكلمات
لكلٍ محطة هامة في حياته
وهنا وجدنا المحطة صراع مع النفس تركه عرض مغري
يخبرنا به المرسل .. هل ستتغير القيم والمبادئ ؟؟
وهذا ماكان السبب وراء نجاحها أن أجدني رغم البحث
والغور في سبر القصة أنهي قراءتي بالتساؤل
أستاذ / علاء
قرأتك هنا وراق لي النص كثيرا
دمت مبدعاٍ

اشرف نبوي
25-11-2008, 08:25 AM
علاء الدين حسوا

كالعادة لا تكتب بنمطية ، بل تستحضر الكثير من الصور الضاربة في الجمال لتنثر فوق مآقينا هذا العبير وتلك الدهشة الجميلة التي تمتع وتنبئ في ىن عن مقدرة قصصية عالية

ان تكتب فالكثيرين يكتبون في زماننا هذا
أن يحمل قلمك فكرا ورسالة تلك هي المسألة برمتها

وانت صاحب فكر يحمل من الرسائل الكثير
والاهم انك تكتب وبعفوية الميدع القدير ولا تلجأ الي سفسطة او فلسفة فتأتي رسائلك قوية في غير مباشرة

دمت بهذا التألق

خالص ودي

اشرف نبوي

علاء الدين حسو
26-11-2008, 10:40 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
امتهن الرقص ليطبقه داخل رقعة الحياة يتمايل في جنباتها يسد رقعها،
جلس ينظر إلى ذلك القطار المتهالك وكأنه يجر ذكرياته ويعيد سرد حياته على سكته الطويلة.
يا له من عرض قدم له، أكيد سوف يغير حياته، فالمبلغ مغري أعمى العيون وأعدم الضمير
وجعل الكل يصيح في وجهه إياك أن تضيع هاته الفرصة من بين يديك، فوقع أسير ضغط
أسرته وبقية قليلة من المروءة والضمير، تائها كان حتى راوده ذلك الحلم فأنقذه من بحر الحيرة
شعر حميد بالتعب وقرر النوم بانتظار الغد ..فأغمض عينيه، ليرى نفسه في ساحة الملعب، رأى عازف الطبل يقرع بقوة، عازف الناي يغرد، رأى سرباً من الطيور، حملت أليه أجساداً عرفها من شكلها، ففتح ذراعيه يستقبل والده ، أمه ، صديقه ، ومجموعة تحمل نعشاً تقول له:
- أرقص من أجله أرقص...
أتراه سيمتهن الرقص في الجنائز؟
لعله سيتقدم نعشه يوما ؟
سرد جميل، راقني القراءة لك أخي.
دمت بود، تحيتي لك.

شكرا لهذه التحليل القيم
ويحضرني هنا مقولة لسعد الله ونوس (نحن محكمون بالامل)
تحياتي للمبدعة سعيدة الهاشمي

علاء الدين حسو
26-11-2008, 10:52 AM
الرقاص ...
خروج عن المألوف أثار العديد من التساؤلات
رغم غرابة المضمون إلا أنه يشير إلى الغوص
في الهدف الكائن وراء القصة
هل ؟ وهل ؟ وهل ؟ إلى حد الحيرة
جعلنا نبحث في أعماقها لنصل إلى ماخلف الكلمات
لكلٍ محطة هامة في حياته
وهنا وجدنا المحطة صراع مع النفس تركه عرض مغري
يخبرنا به المرسل .. هل ستتغير القيم والمبادئ ؟؟
وهذا ماكان السبب وراء نجاحها أن أجدني رغم البحث
والغور في سبر القصة أنهي قراءتي بالتساؤل
أستاذ / علاء
قرأتك هنا وراق لي النص كثيرا
دمت مبدعاٍ
المبدعة رنيم مصطفى
اشكرك على تفاعلك وتحلليك ويخطر لي طرفة معروفة لجحا :
مات حماره، فحزن كثيرا، وحين ساله جاره، سبب حزنه على الحمار اكثر من زوجه،
قال جحا: حين ماتت زوجتي الكل عرض علي زوجة جديدة اما حين مات حماري لم يعرض علي احدا حمارا جديدا ..
لعل العبرة المستخلصة هنا في الطرفة ان لكل انسان قيامته الخاصة ومفصلة على مقاسه
مودتي وتقديري

علاء الدين حسو
26-11-2008, 10:55 AM
علاء الدين حسوا

كالعادة لا تكتب بنمطية ، بل تستحضر الكثير من الصور الضاربة في الجمال لتنثر فوق مآقينا هذا العبير وتلك الدهشة الجميلة التي تمتع وتنبئ في ىن عن مقدرة قصصية عالية

ان تكتب فالكثيرين يكتبون في زماننا هذا
أن يحمل قلمك فكرا ورسالة تلك هي المسألة برمتها

وانت صاحب فكر يحمل من الرسائل الكثير
والاهم انك تكتب وبعفوية الميدع القدير ولا تلجأ الي سفسطة او فلسفة فتأتي رسائلك قوية في غير مباشرة

دمت بهذا التألق

خالص ودي

اشرف نبوي
مرحبا بصديقي العزيز اشرف نبوي
تشجعيك ، يسعدني ويذكرني ان القصة القصيرة لم تمت بعد ..
مودتي

ربيحة الرفاعي
01-10-2014, 11:57 AM
بعيدا عن نمطيات الفكرة والطرح، وبتقص ذكي للمشهد القابل لثقيل المحمول خارج دوائر الانتماء ومراكز ثقل الولاء، وظف القاص مفاصل القصة كما أدواتها للغوص في دخيلة الإنسان، ومعاني كفاحه وقضاياه وقيمه التي تنطلق أصلا من ولائه الأول والأكبر .. الولاء لذاته ودرجات التطور فيه من صراع للبقاء لبحث عن الحياة لسعي لتحقيق الذات وبتفاصيل تقود القارئ لطرح الأسئلة فالأسئلة وصولا لرسالة النص فيما وراء حرفه وتصريحه

نص مختلف وأسلوب لافت

دمت بخير

تحاياي

ناديه محمد الجابي
01-10-2014, 05:51 PM
أصبح المال هو عصب الحياة ، وهو المحرك الأساسي لها ، ولا تستقيم الحياة بدونه
ومن أجله ستنقلب الموازين ليقبل الرقاص أن يرقص في جنازة.
نص مميز بسرده الموفق وحواريته ولغته الراقية
وحبكته القوية ومراميه السامية ودلالاته العميقة
راق لي ما قرأت ، فشكرا لك . :001:

رويدة القحطاني
18-10-2014, 11:43 PM
قصة سردها جميل وفكرتها ناجحة ومميزة

نداء غريب صبري
01-11-2014, 12:02 AM
الأسلوب الجميل والفكرة الواقعية بمضمونها والمختلفة بصورتها
كل هذا يجعل النص عظيما

شكرا لك أخي

بوركت

علاء الدين حسو
01-11-2014, 05:10 PM
الأسلوب الجميل والفكرة الواقعية بمضمونها والمختلفة بصورتها
كل هذا يجعل النص عظيما

شكرا لك أخي

بوركت

الشكر لك اختاه ، على المرور وبث الحركة في النصوص الراقدة .

علاء الدين حسو
01-11-2014, 05:13 PM
بعيدا عن نمطيات الفكرة والطرح، وبتقص ذكي للمشهد القابل لثقيل المحمول خارج دوائر الانتماء ومراكز ثقل الولاء، وظف القاص مفاصل القصة كما أدواتها للغوص في دخيلة الإنسان، ومعاني كفاحه وقضاياه وقيمه التي تنطلق أصلا من ولائه الأول والأكبر .. الولاء لذاته ودرجات التطور فيه من صراع للبقاء لبحث عن الحياة لسعي لتحقيق الذات وبتفاصيل تقود القارئ لطرح الأسئلة فالأسئلة وصولا لرسالة النص فيما وراء حرفه وتصريحه

نص مختلف وأسلوب لافت

دمت بخير

تحاياي

اجدت التحليل اختي الفاضلة، صراع واي صراع غير متكافئ بين الحياة الموضوعة والقيم العليا التي يحثنا عليها الدين والاخلاق والفن .

علاء الدين حسو
01-11-2014, 05:19 PM
أصبح المال هو عصب الحياة ، وهو المحرك الأساسي لها ، ولا تستقيم الحياة بدونه
ومن أجله ستنقلب الموازين ليقبل الرقاص أن يرقص في جنازة.
نص مميز بسرده الموفق وحواريته ولغته الراقية
وحبكته القوية ومراميه السامية ودلالاته العميقة
راق لي ما قرأت ، فشكرا لك . :001:

صدقت اخت ناديا، انها استمرار لفلسفة القوة المادية الجسدية، والرقص عند بعض البشر عبادة، وهو التحدي الكبير ، والجهاد الاكبر ، حين تقف امام هذه القوة

علاء الدين حسو
01-11-2014, 05:23 PM
قصة سردها جميل وفكرتها ناجحة ومميزة

شكرا لمرورك ، لا قيمة لعمل لا يحمل على معنى ، ولا يهدف لغاية، والفن الاصيل يلتقي مع الدين الحنيف في هذا ،
مودتي

الفرحان بوعزة
01-11-2014, 09:39 PM
الرقّاص
جلس حميد الأحمر على مصطبة بيته المرتفع، تحت شجرة كينا إصفرت أوراقها، والمطل على سكة القطار، يراقب قطاراً هرماً بعرباته وقاطرته. ابتسم ابتسامة شاحبة ممزوجة بالتهكم وقال :
- أجري أيها العجوز، مصيرك الدفن كحميد ..
تخطئ لو تخيّلته عجوزاً ، فهو لم يتجاوز حاجز الخامسة والأربعين ، وستفاجأ حين ترى قوامه الممشوق، بطنه المتينة، خصره الجميل، والخالي من الشحوم. كيف لا، وهو أمهر رقاص (دبكة) في المدنية. وستتفهم الوضع حين تدرك بأن الرقص موهبة اتخذها مهنة، درّت عليه ربحاً مادياًُ مكنه من شراء البيت، والزواج، وطفل وحيد نال الشهادة الثانوية بتقدير مقبول، قضى على أخر حلم له، أن يراه طبيباً يفتخر به ..
أخر عربة اختفت مع غروب الشمس، حين اقتربت سيارة ضخمة بالقرب من بيته، وترجّل منها رجل من طراز رجال الأعمال الذين خبرهم حميد،حين كان يرقص في حفلاتهم، فيشعل الفرح ، ويسعد الحاضرين، ويطرب لها صاحب العرس ..
-حميد أيّها الغالي.
نهض حميد مستقبلاً الضيف الثري وقد دبّ فيه الأمل.
- أهلا بالباشا.
تعانق الاثنان كصديقين حميمين، رفض الضيف دخول البيت متذرعاً بضيق الوقت وقال:
- جئت إليك بعرض مغر.
- نحن في خدمة الطيبين .
- هذه المرة العرض مختلف .
- لا رقص.!؟
- بل على العكس المطلوب هو الرقص.
- وما هو الاختلاف ؟
تغيرت ملامح الضيف، وقد اكتسبت جديّة مهيبة ،لم يعهدها حميد:
- سترقص ولكن ليس في حفل فرح .
- نعم؟!
- سترقص في جنازة .
حرق حميد أصبعيه اللذين يمسكان بالسيجارة، حين حاول سحب السيجارة من فمه ، وقد بقيت لاصقة بشفتيه فبصقها، وهز يده الملدوغة وسأل باضطراب :
- أرقص في جنازة ؟
- سنعطيك مئة ألف دولار ، نصفها الآن.
أشار الضيف الى السيارة، وقد تزل منها السائق، بيده حقيبة صغيرة قدمها لسيده وعاد إلى السيارة.
- خذها وجهز نفسك غداً صباحاً .
انسحب الرجل دون أن يسمع من حميد أية كلمة، تركه مع النقود وانصرف ...
(أي نوع من البشر هذا ، وما يظنني.. بلا قلب ، بلا إيمان ، أرقص في جنازة ؟! ) هذا ما خطر على قلب حميد، وكاد يناديه بيده القابضة على الحقيبة فشعر بثقلها، توقف عن النداء وفتح الحقيبة ليجد فيها رزم النقود الخضراء التي كان يتمنى واحدة منها لا عشرة حزم .
ضمّ حميد أسرته الصغيرة وقال :
- أنه أغرب عرض يقدم لي .
قال ابنه:
- بل أحسن عرض قدّم إليك.
وهمست زوجه :
- ألم ترقص ليلة وفاة والدك؟
صرخ حميد:
- لم أكن أعلم موته؟
فردت زوجه:
- ولكنك كنت تعرف أنه يحتضر.
دمعت عيناه وقال وهو يتحاشى النظر إلى ابنه:
- كان مريضاً ، وكنا بحاجة لنقود .
ابتسمت زوجه وقالت وقد شعرت بنصرها:
- النقود ، تلك التي منعتنا من إنجاب طفل أخر.
طويلة جداً مرت الليلة ، فقد فيها حميد أية رغبة بالنوم، وهو الذي كان يبحث عنها ، ليدفن همومه ويحلم برقصه في ساحة ملعب ، يرميه الجمهور بنقود كالزهور ..ومرت الذكريات الحزينة تطفو على فراشه ، فيتذكر الليالي التي رقص فيها وأهم أقاربه وأصحابه قد فارقوا الحياة ..نعم إن الرقص مهنته ، ولا أحد يقدر أحزانه، ولكن كان دوماً يرقص في مكان أهله في فرح ، ولكن هذه المرة المكان مكان حزن،لا فرح ، والمبلغ دسم، وفرصه في الرقص تقل..للعمر حق، وللبدن حق ..أليس عجزه عن تأمين نفقات العلاج الباهظة حرمه من إنجاب طفل أخر؟ ..زوجته مازالت قادرة على الإنجاب ، ومبلغ يمكنه من تدريس ابنه ، وفتح متجر ومدرسة لتعليم الرقص ..بل تشكيل فرقة ستجعل الفرق الراقصة تذوب من الخجل ، من معلمها وسيدها ..ولكن كيف يرقص في جنازة ؟ ماذا سيقولون عنه ؟ شرف المهنة ، شرف الاسم ، هذه الرقصة ستكون كالبقعة السوداء ستلطخ صفحته الناصعة ..
تحاشى النظر إلى زوجه التي دخلت الفراش متأخرة وقالت قبل أن تديرله ظهرها:
- من يرقص ليلة وفاة والده ، يرقص في جنازة.
شعر حميد بالتعب وقرر النوم بانتظار الغد ..فأغمض عينيه، ليرى نفسه في ساحة الملعب، رأى عازف الطبل يقرع بقوة، عازف الناي يغرد، رأى سرباً من الطيور، حملت أليه أجساداً عرفها من شكلها، ففتح ذراعيه يستقبل والده ، أمه ، صديقه ، ومجموعة تحمل نعشاً تقول له:
- أرقص من أجله أرقص...***

قرأت هذا النص الجميل عدة مرات ، شدني جمال السرد واللغة الشفافة المبنية على حسن الاختيار والانتقاء ، استطاع السارد أن ينطلق من الواقع الممكن إلى الواقع غير الممكن ، فنجح في تحوير فكرة الرقص إلى ما يدعو إلى الاستغراب بحيث نماها وطورها وأخرجها في شكل غرائبي وعجائبي ..
فالواقع يفرض أن الرقص يكون في الأفراح لا في الجنائز ، إنها عادة مألوفة في المجتمع ، ولتمرير فكرة الرقص إلى المتلقي مع محاولة إقناعه بأنه يمكن أن يحدث في الجنائز..مما خلق نوعاً من التشاكل والتوازي أو التناظر بين الرقص في الفرح والرقص في الجنازة ، والقاسم المشترك بين الفعلين : المال ..
فرغم أننا نتخيل أن النص يعالج فكرة الرقص وارتباطه بما يجني صاحبه من أموال ،فإن السارد حوله إلى موضوع مثير ومشاكس على مستوى الفهم والإدراك لما هو غير متوقع من حيث المفهوم الثقافي والاجتماعي والنفسي ..
فكرة الرقص في الأفراح هي نواة معنوية مألوفة يستسيغها العقل والمجتمع ، ولكن لا يستسيغها في الجنائز مما خلق ارتباكاً للبطل وأسرته ..
فالمال هو العامل الأساسي في تغيير الوضعية ، فقد تبين لنا في المرحلة البدئية أن النص غير منسجم على مستوى أجزائه وأفكاره ، فيه عبثية وفوضى في الفعل والسلوك ، فيه تنافر وتباعد بين مفهم الرقص في الفرح والرقص في الجنازة ، إلا أن السارد بفطنته عمل على انسجام النص لما أدخل عنصر / المال / كمساعد على إمكانية حدوث فعل الرقص في الجنازة نظراً لأهميته في حياة البطل وأسرته .. فلا حدود للرقص ، ولا زمن ولا مكان له ، ولا يمكن أن يتقيد الرقاص بالظروف مما يدفعنا للتساؤل مجدداً : من يفعل هذا ؟ وماذا فعل ؟ وكيف فعل ؟ ولماذا فعل ؟ أين ومتى ؟ ..
إن مقصدية النص مرتبطة بالذات والموضوع ، بعدما جعل السارد الذات تنزع نحو الحصول على موضوع /المال / الذي هو ذو قيمة في حياة البطل ، وهو أساس كل عمل وفعل وتفاعل نحو ما هو إيجابي أو سلبي ..
هكذا قرأت هذا النص الجميل .. جميل ما أبدعت وكتبت أخي علاء ..
محبتي وتقديري / الفرحان بوعزة ..

علاء الدين حسو
02-11-2014, 08:25 PM
[QUOTE=الفرحان بوعزة;962494]
قرأت هذا النص الجميل عدة مرات ، شدني جمال السرد واللغة الشفافة المبنية على حسن الاختيار والانتقاء ، استطاع السارد أن ينطلق من الواقع الممكن إلى الواقع غير الممكن ، فنجح في تحوير فكرة الرقص إلى ما يدعو إلى الاستغراب بحيث نماها وطورها وأخرجها في شكل غرائبي وعجائبي ..
فالواقع يفرض أن الرقص يكون في الأفراح لا في الجنائز ، إنها عادة مألوفة في المجتمع ، ولتمرير فكرة الرقص إلى المتلقي مع محاولة إقناعه بأنه يمكن أن يحدث في الجنائز..مما خلق نوعاً من التشاكل والتوازي أو التناظر بين الرقص في الفرح والرقص في الجنازة ، والقاسم المشترك بين الفعلين : المال ..
فرغم أننا نتخيل أن النص يعالج فكرة الرقص وارتباطه بما يجني صاحبه من أموال ،فإن السارد حوله إلى موضوع مثير ومشاكس على مستوى الفهم والإدراك لما هو غير متوقع من حيث المفهوم الثقافي والاجتماعي والنفسي ..
فكرة الرقص في الأفراح هي نواة معنوية مألوفة يستسيغها العقل والمجتمع ، ولكن لا يستسيغها في الجنائز مما خلق ارتباكاً للبطل وأسرته ..
فالمال هو العامل الأساسي في تغيير الوضعية ، فقد تبين لنا في المرحلة البدئية أن النص غير منسجم على مستوى أجزائه وأفكاره ، فيه عبثية وفوضى في الفعل والسلوك ، فيه تنافر وتباعد بين مفهم الرقص في الفرح والرقص في الجنازة ، إلا أن السارد بفطنته عمل على انسجام النص لما أدخل عنصر / المال / كمساعد على إمكانية حدوث فعل الرقص في الجنازة نظراً لأهميته في حياة البطل وأسرته .. فلا حدود للرقص ، ولا زمن ولا مكان له ، ولا يمكن أن يتقيد الرقاص بالظروف مما يدفعنا للتساؤل مجدداً : من يفعل هذا ؟ وماذا فعل ؟ وكيف فعل ؟ ولماذا فعل ؟ أين ومتى ؟ ..
إن مقصدية النص مرتبطة بالذات والموضوع ، بعدما جعل السارد الذات تنزع نحو الحصول على موضوع /المال / الذي هو ذو قيمة في حياة البطل ، وهو أساس كل عمل وفعل وتفاعل نحو ما هو إيجابي أو سلبي ..
هكذا قرأت هذا النص الجميل .. جميل ما أبدعت وكتبت أخي علاء ..
محبتي وتقديري / الفرحان بوعزة .. [/Q
تحليل صائب ورائع لا يطمح الكاتب سقفا اعلى منه ، شكرا على جهودك سيدي الكريم
مودتي

خلود محمد جمعة
04-11-2014, 09:22 AM
كان رقاص النفس يرقص بسرعة متزايدة الى أن توقف عند نقطة ستغير مسرى حياته سلبا أو ايجابا
الصراع في التناقض ومواجهة الحقيقة يتطلب رقصا من نوع أخر
جميل الطرح وطيب الفكرة ومائز بالأسلوب
تقديري

د.حسين جاسم
12-02-2015, 02:08 PM
عرض ناجح للصراع بين القيم والمثل وبين ما تطلب الدنيا منا وما تفرضه علينا
أسلوب القصة جميل ومشوق
أحييك