مشاهدة النسخة كاملة : حرائق البلبل في سرير الوردة
مازن دويكات
11-11-2008, 01:18 PM
حرائق البلبل في سرير الوردة
(1)
البلبلُ السكرانْ
خبأ صوتهُ
في زهرة البستانْ
وحين اختلط الشذى بالصدح ِ
اشتعل المكانْ
قد يحدث الحريق من شرارة طائشة، أو من نظرة ساحرة تصوّبها على عجلٍ عيون امرأة من قرنفل وزرقة غائمة، قد يحدث من شذا الوردة ومن صدح ذبيح، كأنك زهرة البستان وكأنني البلبل السكران ماذا تبقى ليحدث الحريق؟ سيحدث الحريق!
سيحدث لحظة تساقط حقول الورد على التنهدات الذبيحة، وبعد انفلات قطرات الحياة من نهدي سحابة بستان، وستحدث أشياء غامضة تساعد في تشكيل المشهد، تضفي عليه لمسات ساحرة. ومع ذلك أقول: يعذبني بعض الوضوح في الأشياء، لأن من حقي أن أدخل في الغامض السري، وأخرج بوضوح من إنجازي، ويكون أجمل حين يتمطى في سرير الروح كعاشقة تنتظر. أحب الوضوح الذي لم يكن، الوضوح الذي سيكون، شريطة أن أخرجه بأصابع روحي من كهف الأبدية الغامض. قد يحدث الحريق، ذات يوم سيحدث الحريق.
***
ذات صباح مررت ببرعم لم يتفتح بعد، اشرأب نحوي كأنه يهمس لي: سرْ أيها العاشق، لم يحن بعد وقوف التأمل، فمشيت. ذات صباح مررت بوردة متفتحة، اشرأبت الروح نحوها كأنني كنت أهمس: ما أجملك أيتها الوردة؟
سبحان من جعل البرعم وردة، البرعم ذكوري الدلالة، والوردة بكل جلالها وبهائها أنثوية الدلالة، من منابع العبق إلى زوابع الشبق.
بين صباح وصباح، يتحول البرعم إلى حالات أكثر اتساعاً تفضي إلى الحرير الملون في الأرض وإلى قوس قزح في أعالي اللازورد، كذلك في السماء متسع، إن أردنا الوصول. هذا هو النشيد الكوني الخارج من البستان والداخل في الكينونة العظمى.. الإنسان.. الإنسان.. الإنسان. آدم برعم الخليقة الأولى وحواء أول الوردات في بستان الخالق الأعظم. أعني الأرض. والأرض كذلك أنثى.
أبحثُ عن أنثى
لا أرض تحملها أو أفقُ
أنثى كالوردة
ليس يُرى فيها العبقُ
يا الله أعنّي. إني أحترقُ
***
السماء كذلك لنا، لنا منها ما لنا على الأرض، كم من السنوات الضوئية يكفي لحرث أرضنا بلهاثنا ثم نصعد إلى سريرنا الأزرق. قالت العاشقة: هيأت لك كل ما تشتهي. الملاءات، الوسائد، أساور الفضة، طاسات العسل. قوارير العطر. كل ما تشاء، لكنني لن أكون معك. قال العاشق: لمن سأصعد إذن.
" على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
***
لا أحد يفهم لغة الغيم، لا أحد سوى بذرة الأثلام الدفينة، ومنقار الطير المرتعش، والإنسان الطيب، لا أحد يفهم لغة الغيم، إلا أنت. يعدو البرق كثور هائج في الأعالي، كذلك الرعد، وعلٌ شبقٌ في قطيع النجوم يقال: من ها هنا يبدأ المطر، هوذا الصواب في لغة الحكمة، ليظهر الوعل الشبق والثور المجنح، وما يزيد في اشتعال الفصول الأربعة، في نهارات الأرض الطويلة.
لا أحد يفهم لغة الغيم. لا أحد سوى بذرة الأثلام الدفينة، ومنقار الطائر المرتعش، والإنسان الطيب، لا أحد يفهم لغة الغيم، إلا أنتِ.
***
يغطي مساحة الكون ويزيد. يحتشد في بؤرة تضيء أيقونة الجسد، ينفلت في الليل من أصابع نبضي، أقف بينهما محايداً، لا شيء يعنيني، لا شيء سوى أنك نقطة جذب لكل مقدس وحميم. لم يتغير شيء من عاداتنا الصغيرة, شجرة الأسكدنيا تفرش ظلالها كل ظهيرة، وتطلق براعمها في الربيع، كذلك الثمرات تقف على أرجلها النحاسية في صيف شكيم* المتورد، يمشي إلينا من عَلٍ، ترف بالأجنّة، ثم تقذف بذورها في فم الشتاء الفاغر، ولا تراب إلا ما يخصنا، ولنا الأثلام التي تشمس أحشاءها الحمراء في ظهيرة نيسان، ثمة أجنّة تتحرك فيها.
من ها هنا يبدأ الذي سيغطي الكون، وينهمر في بؤرة مشتعلة ليضيء أيقونة الجسد، ولك الآن أن تدخليني آمنة مطمئنة أيتها الأجمل في عرائس شكيم.
شيءٌ ما يلمعُ في عينيك فأرتعدُ
يتلوى كنسيج النار على شفتيك وينعقدُ
يسحبها بخيوط ليس يراها أحدُ
تنهمران علينا، يرتعشُ الجسدان ونتحدُ
هي قبلتنا أحلم أن تأتي
كفراشة صبحٍ
تسرق حصتها من زنبقةِ الوقتِ
يلفح جنحيها ضوء الشمسْ
تصعدُ في الأفقُ وتبتعدُ
فيطاردها ثغري بأصابعه الخمسْ
هي قبلتنا تأتي أو لا تأتي
ونظل على المقعد، نخلدُ للصمتِ
نتبادل أزهارَ الحمّىفنعودُ ونتقدُ
................
* شكيم: الأسم الكنعاني الأقدم لمدينة نابلس المحتلة, مسقط الروح والبدن ومكان إقامتي الدائم
مازن دويكات
11-11-2008, 01:25 PM
(2)
أيتها الوردة الشرسة، في كل الأوقات يسكنني عبقُ ناري، يدل عليّ في لحظات الضياع التي ترفّ من كل جهة، يقودني من يدي المرتعشة، يفحّ بي: إجلس أيها الولد المعذب في تويجي، شاغب كما تشاء، وحين تتعب، نَمْ في سريري المطرز بالندى ريثما أعود.
كم سنة نمت يا صغيري في انتظار الذي لا يأتي، كم من الأعوام مضت وخيول حنينك تلهث خلف من تراوغ كظبي مدلل في برية صغيرة؟ أية كلاب بوليسية يملكها هذا العاشق، وهو الشارد من عذاب الوردة الشرسة، وقمع العاشقات في مملكة الأزهار.
يرسم عصفوراً أزرق
تأتي امرأة من أقصى المدنِ ِ
تمسكه من جنحيه
فينفرط الريش ُعلى المقعدْ
يبكي دمعاً ذهبياً
تعدو القطرات ُ
فوق قماش اللوحةِ
تتشّكل زهرة زنبقْ
يحتار بأي الألوان سيطلقها في وَعر البرية
يغمضُ عينيه ويَغمسُ ريشته
فيسيل الأسودْ
ثانية تأتي امرأة من أقصى المدنِ ِ
تمسكها بأصابعها المرتعشة
فتنفرط الأوراق على المقعدْ
يرسم طائرةً ورقية
يطلقها في أقصى المدنِ ِ
يلمحها القناص الجبلي ويبدأ
لاشيء هنا، لا شيء
سوى خيطان تتدلى من أعمدة الهاتف
ودمٍ أبيض يغطي الإسفلت الأسودْ
في الليل حين تهجع عرائس " شكيم "، تنهمرين عليّ من كل صوب، من شمال حقول القرنفل تأتين، من جنوب غابات السفرجل تأتين، من غرب وديان المسك تأتين، من شرق تلال الصنوبر والصفصاف وهضابها تأتين.
وأنا أحتار، من أية جهة أتلقّى القناطير المقنطرة من حضورك القاسي الحنون.
ليتني أكثر من واحد، لأقدر على استيعابك المدهش. ليتني أكثر من واحد في واحد، كل واحد يشبهني من ألفي إلى يائي، لأن أي اختلاف قد يوقعني في لبسٍ أنا في غنى عنه، قد لا تعرفينني وقد لا أعرفك. حقاً لا أدّعي إحاطتي بك من كل جانب، ولا أقول كما قالت العّرافة لي ذات يوم:
وعّرافةٍ قرأت في يدي
عيونكِ لي قبل أن تولدي
وأنك مربوطة في وريدي
فليس يفيدك أن تبعدي
فنامي بقلبي، نامي وسوف
أهّز سريرك
في نبضي المجهدِ
وحين تفيقين
أطلقي خصل الشعر
من سجنها المعتم الأسودِ
لأن جدائله لا تحب التنزه
إلا على ساعدي
حقاً أقول، إنني أكره العرافات وقارئات الكف وضاربات الرمل، إلا أنني في لحظة ضعفٍ إنساني، أوقعتني العرافة كأنها أدركت أنني عاشق، وكيف لا يكون الشاعر عاشقا! وكيف لا تكون الوردة نقطة جذبه الأولى والأخيرة، وبؤرة تنهمر الشهوات فيها؟
لذلك، أوقعتني العّرافة، وقالت لي ما قالته دون أن أصدقها، لكن الشِّعر، قد يذهب بعيداً، يتبع رنين الأنوثة وتجليات ضوئها المبهر المدهش، وقد يجلس على قارعة الحرائق الوردية، يهجس للعابرين حكايا المرأة الغامضة والواضحة كزوبعة. والشعر سهل الانقياد وراء المدهش، قد يتبعها من ينابيعها في الأعالي، إلى مصبها في الوديان، وأطراف الغابات، دون الاستعانة بالكلاب البوليسية، هكذا قال الشاعر ذات يوم:
تعالي حبيبة روحي الشريدة
ضلوعي إليك جسورٌ مديدة
أفتش عنك بهذا الظلام
وليس معي غير ضوء القصيدة
وبوصلة في دمي
لترصد خطوك فوق الدروب البعيدة
هذه عدتي وعتادي، هذه ممتلكاتي، هذا هو عالمي، وكل ما أملك ضوء القصيدة، كم أنا فقير أيتها الوردة، كم أنا غني أيتها الوردة.
حقاً، وما العيب في أن أكون أنا، كما خلقني الله على هذه الأرض، أعدو كمهرٍ جموح في مكاني المفعم بالجغرافيا، وفي زماني الطاعن بالتاريخ، كم أكره مصطلح " شرقيّ " لأنني في الواقع لا أحمل في تاريخي وجغرافيتي عقدة النقص من الآخر.
أجل أنا شرقي مع كراهيتي للمصطلح، وحبي العميق لدلالته الممتدة بين صليبين، أسطورة الملهاة وواقعية المأساة، هذا هو أنا، منذ فجر السلالات وأنا أسير صوب ما أحب، لم أقل مرة لمن أحب تعال أنت، قد أقولها في القصيدة، لأشكّل البعد الجمالي الذي يثري النص الشعري، أكثر من كونها أمراً ذكوريا يفترض الطاعة الأنثوية.
ولست صوفياً لأذوب في الآخر وأتماهى فيه، ولا أريد له أن يكون ما لم أرده لنفسي، أومن بالكينونة بشقيها، التحرك في السيرورة بغية التحول الأبدي في الصيرورة، أومن بالانصهار المتساوي والمتوازي مع إلغاء المسافة ما بين الوردة والبلبل، ما بين العبق والنشيد، فإن لم يكن هذا هو الحب، فماذا يكون إذن؟
بجمرة حبنا نحن احترقنا
ولم نعرف رمادك من رمادي
.......................... يتبع
وفاء شوكت خضر
12-11-2008, 10:21 AM
للتثبيت تكريما لأديب سامق ..
لم أجد كلمات تليق بهذا النص الفاره غير التثبيت ..
مرحبا بك أخي الكريم في واحة الخير ..
سعداء بانضمامك إلى أسرتنا ..
لك التحية والتقدير .
شريفة العلوي
12-11-2008, 01:24 PM
الكلمة كائن حي منذ أقدم العصور وستظل تمتد فينا بكل صورها كتابة وصوتا ثم في تحولها الى الفعل ...والكلمة للأدب عماد وللصدق عمود وللخيال إعتماد ..وللسؤدد إمتداد ..تتشكل الكلمة من عرض ووصف ثم تنعطف الى مسار التحليل والتفسير والتصوير حتى تقرب المسافة بين الإدراك والوعي هكذا الكلمة تعد سلاحا بحدين
صاحب المدن القصائدية مازن دويكات ....هذه الجزيرة هي إحدى مدنك التي تطفو على محيط لغة الإبداع والتي تتجاوز معايير الحدود في الإتساع ..هل نحن أمام لغة تمد سواعد ذائقتنا الى مدى لا يحد حتى التخيل ؟ أم إننا بحاجة لمعرفة المدن التي نسكنها حتى نبقى من سكان مدنك القصائدية بصورة دائمة , لأننا بحاجة الى أن نتكيف مع طقس هذا الجمال كي نتعلم ونروض فكرنا مع أشرعة الخيال التي تبحر فينا قبل ان نتعلم السباحة في بحرك العميق ................رائعة هذه السلسلة المميزة بدءا بالعنوان وانتهاءا بالدهشة
سعيدة الهاشمي
12-11-2008, 03:18 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
صدقا أيها الأديب المبدع لن ينفع الكلام ولا الرد على ما كتب، ولأني لا أريد تشويه
جمال المكتوب هنا بكلمات بائسة سأرحل لمملكة صمتي أنتشي بحلاوة الحرف المنثور
سأحط الرحال على ضفاف حرفك لكي أعود حين تعود.
تحية تقدير لك أخي ودمت بإبداع.
مازن دويكات
12-11-2008, 05:49 PM
للتثبيت تكريما لأديب سامق ..
لم أجد كلمات تليق بهذا النص الفاره غير التثبيت ..
مرحبا بك أخي الكريم في واحة الخير ..
سعداء بانضمامك إلى أسرتنا ..
لك التحية والتقدير .
الأخت الفاضلة المبدعة
وفاء شوكت خضر
مرورك العذب حمل معه المسرة
وحضورك الخصب نثر الغبطة
أشكرك أينها النبيلة على تثبيت النص.
دمت أيتها المبدعة ذخراً للكلمة الحرة الواعية.
مازن دويكات
12-11-2008, 05:58 PM
(3)
وردتان، وردة في الصباح الربيعي تستلقي في سرير شذاها الرائع، ووردة في الصباح الخريفي تستلقي في سرير شوكها اللاسع، وما بين الروعة واللسعة، ثمة مسافة في غورها تزحف العقارب، وعلى قباب أقواسها تحط الكواكب.
ما جدوى التوازي حين تنعدم اللقيا، وما جدوى التداخل والتمازج حين يتوفر ما هو أقسى وأمّر من الخصوصية المفقودة بفعل التلاقح الكاذب!
قد تصغي النحلة إلى حفيف الأوراق، وقد تتوقف قبل أن تأخذ ما قسم الله لها من الشهد، لاعتقادها أن ما ستحمله في خرطومها الدقيق قد يفسد خلية العسل. كم أنت ذكية أيتها النحلة! ليت الإنسان يمتلك مثل هذه الشفافية قبل أن يغير على أقراص العسل، لكن الشهوة والرغبة كالعربة الخربة، لا يدرك سائقها إلى أي هاوية سيصل، إلا بعد أن يستقر في قعر الوادي. قد لا أعرف تشبه من وردة الخريف، العربة أم السائق، لا فرق، ما دام المشبه به يؤدي إلى الكارثة. بالأمس خاطب " أوديب " ابنته " أنتيجونا" قائلاً: "خذي بيدي أنتيجونا، إذا كان لابد أن أصل الهاوية فما حاجتي لامتطاء الحصان". هذا هو واقع خريف الملك أوديب، كأنه ووردة الخريف سيان!
يا وردةً في مزهرية أضلعي
مدّي جذورك داخلي وتفرعي
أشواكك الخرساء أدمت مهجتي
هذا دمي المسفوك ريّك فاجرعي
****
أمريكا السيدة البيضاء الدامية حد السواد، عوّدتنا على إنتاج المصطلح وفرضه على أقفاص الدجاج في العالم الثالث واللاهث خلف علفها المشبع بالسمنة الزائدة، بغية تحويله لحماً في المسلخ الدولي. أمريكا صاحبة الأسلحة الغبية من قبل، والأسلحة الذكية من بعد، ولأنني أحب الحديث عن الوردة والغيمة والنهر والشجرة، وهذا يتعارض مع مزاج أمريكا وتكوينها، لذا سأكتفي فيما يخصها بالسطو فقط على عبقرية روح الاكتشاف عند مكتشفها السيد كولومبس، لأكتشف أن هناك غيمة ذكية وغيمة غبية.
قيل للغيمة الغبية: هل أنت غيمة؟ قالت الغيمة الغبية: لا. جاء البرق وجاء الرعد، أومض الأول ودوى الثاني، فانفجرت الغيمة الغبية، قيل لها: هل أنت غيمة؟ قالت: لا. فسحّ ماؤها، روى الأرض فنبتت الأعشاب والأزهار، أطلقت أغصانها الأشجار، قيل لها: هل أنت غيمة، قالت: لا. وبعد أن أخذت كل الكائنات كفايتها من الماء، استردت الشمس ما تبقى بفعل التبخّر، قيل لها: هل أنت غيمة؟ قالت: لا. أعادت السماء إنتاج غيومها فاقترب البرق والرعد، قيل لها هل أنت غيمة؟ قالت الغيمة الغبية: أعتقد ذلك.
ضحكت الغيمة الذكية من الغيمة الغبية وأسلمت نهديها واحدا للبرق والآخر للرعد.
الغيمة في مقعدها الأزرقْ
تستجلي الأشياءْ
أين سأطلق مائي لحظة أن يتدفقْ
في أي إناءْ!
ما أجمل أن يمتلئ الدورقْ
وارتعشت فيها الأعضاءْ
***
مرةً أخرى عدت ترددين المقولات الجاهزة والقادمة إلينا مغلفة بورق السوليفان، والمصنّعة بأيد مرتجفة. هذه المقولات أثبتت بطلانها وهشاشتها ليس على أرضنا فقط، بل في أرض المنشأ. جميل عدم نسيانك أن الرومانسية في الأدب هي نتاج نظام الإقطاع، وكان الأجدر أن لا تنسي أن عنترة فارس الحب الرومانسي ما هو إلا ابن عبدة سواد حبشية مذله مهانة، لم يُعترف بحريته إلا بعد ردحٍ من الزمن، كذلك قيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس بن ذريح مجنون لبنى، كانا فقيرين حد التسول. والأسماء كثيرة والشواهد أكثر، وقيل أيضاً إن الرواية ملحمة البورجوازية، وهذه المقولة تدور في الفلك السابق نفسه، السؤال، أين أبطال أميل زولا وديستويفسكي من البرجوازية؟
وإن كنت لا تؤمنين بالحب لأنه محض عبودية، بماذا تؤمنين إذن؟ هل هناك اختراع آخر ونحن لا ندري! اصغي لحديثك، وكأنني أصغي للشاعرة " سافو " في أناشيد " لا العسل تشتهيه نفسي... ولا النحل " وهي تخاطب رفيقاتها الموزّيات الثلاث " آتيس" و " تيليسيبا " و " ميجارا ". ومن المؤسف أنني لم أعد أذكر اسم بطلة البرتو مورافيا في رواية " أنا وهو " وهي تنشد الرضى من ذاتها خلال المرور الموتور على الاستدارات والتعرجات في كنوزها الباذخة.
جميلٌ أن نختلف، ولكن ليس على صيغة شروط ""خطأي صواب، وصوابك خطأ، وأنا أعلم منكَ في كل شيء حتى في أشيائك السرية". نحن ندافع عن كيانٍ واحد. إلا أننا نختلف. أنا أدافع عن أنوثة المرأة وأريدها كما خلقها الله، وأنت تدافعين عن ذكورتها وتريدينها كما " سافو ".
ويا امرأة من جموح الأيائلْ
عيونك مصرٌ وشامٌ وبابلْ
ثائر الحيالي
12-11-2008, 11:22 PM
الاستاذ مازن دويكات
عميقة رؤاك..حدَّ الذهول..!
سلمت..وسلم مدادك..
محبتي
روميه فهد
14-11-2008, 07:08 PM
أستاذ مازن ..
ماذا أقول ؟
تالله أبدعتَ هنا بكثافة و بكثافة ..أحببتها جدا.. وحفظتها في جهازي ضمن المفضلة .
حيّاك الله في الواحة ..
دمتَ لمن تحب ..
روميه
سمو الكعبي
14-11-2008, 09:43 PM
الأديب مازن:
استرسال وتعمق تبين أنه قلم أديب تنثال الكلمات من سنان قلمه
تقدير واحترام
أحمد حسين أحمد
15-11-2008, 12:39 AM
الأديب والشاعر المبدع الصديق مازن دويكات
كم أنت جميل ورائع بهذا النص الثري بكل شيء
هنا أتابعك منذ أن بدأت وسابقى
تقبل محبتي
أخوك أحمد
مازن دويكات
15-11-2008, 10:37 AM
الكلمة كائن حي منذ أقدم العصور وستظل تمتد فينا بكل صورها كتابة وصوتا ثم في تحولها الى الفعل ...والكلمة للأدب عماد وللصدق عمود وللخيال إعتماد ..وللسؤدد إمتداد ..تتشكل الكلمة من عرض ووصف ثم تنعطف الى مسار التحليل والتفسير والتصوير حتى تقرب المسافة بين الإدراك والوعي هكذا الكلمة تعد سلاحا بحدين
صاحب المدن القصائدية مازن دويكات ....هذه الجزيرة هي إحدى مدنك التي تطفو على محيط لغة الإبداع والتي تتجاوز معايير الحدود في الإتساع ..هل نحن أمام لغة تمد سواعد ذائقتنا الى مدى لا يحد حتى التخيل ؟ أم إننا بحاجة لمعرفة المدن التي نسكنها حتى نبقى من سكان مدنك القصائدية بصورة دائمة , لأننا بحاجة الى أن نتكيف مع طقس هذا الجمال كي نتعلم ونروض فكرنا مع أشرعة الخيال التي تبحر فينا قبل ان نتعلم السباحة في بحرك العميق ................رائعة هذه السلسلة المميزة بدءا بالعنوان وانتهاءا بالدهشة
شريفة
دائماً تثقلين عليّ المهمة بردودك الشافية الوافية , بحيث أقف على قنطرة الحيّرة لا أعرف أين أتّجه, علماَ أن كل الطرق تؤدي إلى هذا الابداع البهي والبهاء المبدع.
دمت بكل هذا الألق سيدتي.
مازن دويكات
15-11-2008, 10:58 AM
(4)
ليس أخلاقياً أن أحشر نفسي في دائرة اتهامك، لكنك حين تقدمين رؤاك الغامضة دون دلالاتٍ مفسّرة، فكأنك تحشرينني في دائرة أسئلتي الجارحة، والسؤال لا يمتلك صيغة التأكيد، وإن كان يساعد على بلورتها من خلال أجوبتك الواضحة التي لم تصل في حينه، لذلك كان هذا اللبس وعدم الوضوح الذي لم أشارك في صنعه لا من قريب ولا من بعيد، لأنني أعتقد أن بيني وبين اتهامك مسافات طويلة، معبّدة بالتعرجات والانحناءات، من الصعب على أي سندباد اقتحامها والوصول إلى حقيقة ما تعتقدين، ولكن، أليس من حقي أن أبحث عن الدلالة كي أصل!
وسأخطّئ نفسي لو وجدتها حتى من خلال مجهر يجعل من النملة فيلاً. كم كنت أتمنى لو أنني أطلقت صرخة " أرخميدس" وجدتها.... وجدتها... لكني لم أجد إلا كلاماً تقوّلته ولم أقله، ولقيت نفسي أحمل لقباً علمياً في علم التشريح الجنسوي لا أدعيه، كيف لا وأنا مخترع الجنس الثالث المتأرجح بين الذكورة والأنوثة والمتداخل في وظائفه حد التماهي! كل ما أدّعيه، أن هناك أثنية رائعة تتفجر من طرفيها عاطفة نبيلة، وماذا إن رأت فيه أنوثتها قريباً من المقدس، وإن رأى فيها رجولته بعيداً عن المدنس؟ إنها أسئلة لئيمة جارحة تستعين بسراج ديوجين للبحث في عز الظهيرة عن أجوبة مستقيمة واضحة.
***
حدثنا حارس البستان ذات مرة، وقال: حين استلقى البلبل في سرير الوردة، أخذت تهدهده بنشيد العبق:
لنعمان الفتى كانت شقيقة
تفتش عن بقايا للحقيقة
فصارت حين أعيّتها الطريقة
تفتشُ عن عدوٍ في الحديقة
***
ليس كل الغناء يطرب، وليس كل الطرب يعيد إلى الروح توازنها و إلى القلب اتزانه، قد يكون بعض الكلام أجمل من الغناء، أي مغنٍ هذا الذي يلتبس عليه اللحن! بالتأكيد هذا ليس بلبلاً. قد يكون غراباً طاعناً بالنقيق، فالكلام هو الأساس. مثلما شذى الوردة هو الأصل وليس لونها، ما جدوى اللون لفاقد البصر، والغناء لفاقد السمع، والطعم لفاقد حاسة التذوق، وهذا يعني: ليست الأهمية في تواجد الأشياء، ولكن المهم هو الإحساس بها. إن غناء البلبل وشذى الوردة، امتداد طبيعي لمنظومة الجمال الكونية، وهما أيضاً ساحة مجهزة لتدريب الوحوش الآدمية لتعود من جديد وتمارس إنسانيتها.
سأعود و أحاول التأكيد على أن الإنسان رومانسي بالطبع، ولكن انزياحه عن الرومانسية مرهون بثقافته وذائقته وتجربته في الحياة. هناك من يمارس الرومانسية بشغفٍ جميل، وهناك من يتحسسها بخجلٍ وخوف، وهناك من يتعاطاها في السر كي لا يقع تحت طائلة الشبهة حسب مفاهيم منظومته الثقافية. أعتقد أن كل إنسان يعود إليها في لحظة ما، خاصة حين تتفجر فينا ينابيع الحنين إلى الماضي، ومجرد تذكّر الأشياء الجميلة المفقودة هو فعل رومانسي. لكن دهشتنا لحظة الاحتفاء بها، تظل ناقصة لاستحالة استعادة الزمان لحظة تمكننا من العودة إلى المكان، وهذه إشكالية اللاجئ / العائد إلى أرض الوطن بعد غياب طويل، لأنه سيصاب بمرض رومانسي عضال لفقدانه أحلى وأجمل أيقونات الحنين في زمنٍ غائب، في وطنٍ مغّيب.
لم أتحدث في السابق عن المذاهب الأدبية حين أشرت إلى شخوص أميل زولا وديستويفسكي الروائية، كنت أتحدث عن هؤلاء الذين لم تستطع حتى الرواية الواقعية والواقعية الاشتراكية أن تتجنب بؤسهم الرومانسي، ورومانسيتهم البائسة، على اعتبار أنهم واقع معاش.
أنا الوردة المتعبة
ليهدأ قليلاً طنينك
أيتها النحلة الطيبة
خذي عسلي بهدوء الفراشة
أو فاستريحي
وسوف أحاول
في الخلية أن أسكبه
من محاسن هذا البياض المتبادل أنه فجّر فيك ينابيع الشعرية، وحّرك فيّ ينابيع الشاعرية، وإن ظل الخلاف قائماً في فهم العلاقة بين هو وهي، كأنك تفهمين أن الحق الطبيعي والإنساني للواحد في الآخر، لا يخرج عن سياق التابع والمتبوع، المَلغى والمُلغي، النفي الأنثوي والثبات الرجولي، ليخرج هذا الفهم في النهاية بمساحة محدودة لا تتسع إلا لسرير شهرزاد وشهريار. وكأنك لا تعرفين أن التوتر الدائم بين طرفي المعادلة الإنسانية يضر بثباتها المشترك، وأن الصراع الدائم يقود إلى شحن القوى وتكريس الاستفراد الأحادي.
ما قيمة الانتصارات في ساحة لا يجد فيها المنتصر من يحدثه؟ حتى في تفسيرنا لعلاقة الثنائيات المتنافرة في السلالة والجنس، ما الجدوى من البستان بلا إنسان يتقن أبجدية أشيائه الرائعة، يعرف ويدرك أن هذه شجرة بثمار وظلال، وان هذه وردة تسر الناظرين، وأن هذا عصفور يغرد وينسج عشّاً، وأن هذا نهر يتدفق ويتموسق خريراً أخاذا. فكيف بالعلاقة بين امرأة من عواطف وأحاسيس وحرير وعسل! ورجلٍ من حنين ولهفة وينابيع ورذاذ مقدس! نحن لسنا في ساحة حرب لنتباهى بقوتنا المنفردة، وما العيب في أن يضعف البلبل الذي تعرفينه وأعرفه في لحظة إنسانية شفافة أمام السطوة الحريرية للوردة المبتهجة! وما الضرر في أن تستكين الوردة التي أعرفها وتعرفينها في لحظة ما أمام حرائق البلبل المرتعش! قوتها وضعفه يشكلان نصف المشهد، وقوته وضعفها يشكلان النصف الآخر، وبهذا وبذاك يكتمل المشهد الرائع.
أحمد حسين أحمد
15-11-2008, 11:55 AM
الرائع مازن دويكات
مشهد متكامل ورؤية من جميع الزوايا رصفتها هنا بشكل ممتع وسأعود هنا دائما لأملأ صدري بهذه الارهاصات السريالية فأطمئن ويرتاح قلبي المتعب من تشردي وعشقي المبتور للوطن
صباحك عشق ووطن حر
شريفة العلوي
15-11-2008, 02:13 PM
اغرف بملعقة الذائقة حلوى المعاني وسلوى المفردات في كل محطة بين سحابة وأخرى بهذا الفضاء المبدع ...............ومازل ت ممسكة بطرف خيط يؤدي الى بر الأمان حيث يختتم قلمك رحلاته ...منعطفا بنا الى خط الرجعة وهل فعلا يوجد هذا الخط ؟ ....أتوقع باني سوف اعود الى نقطة البداية لأني ادمنت هذه التسابيح .............وأظل اتتبع مسار الخطى ........
صاحب المدن القصائدية مازن دويكات ...
هذا كتاب بل مكتبة تضم كل العلوم منها العلوم الصرفة واخرى اجماعية ..تنوعت المدارس وأزدادت مساحات المدارك
سعيدة الهاشمي
15-11-2008, 04:47 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وددته لو لم يكتمل لأنهل من عذب كلماتك أيها السامق أدبا والراقي حسا مازن دويكات
رسمت بحروفك التي تشبه الدرر لوحات أخادة بجمالها وعمق دلالتها، ألوان امتزجت فأبهجت
العين، غنت لها العصافير وانتقلت بينها الفراشات وأصرت لها الغيمات لواعج نفسها
وددت لو أطيل السكن هنا. ولا يسعني إلا العودة لحروفك أرتشف منها معاني الجمال والإبداع.
تحيتي لك أخي ودمت بإبداع متجدد.
مازن دويكات
16-11-2008, 12:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
صدقا أيها الأديب المبدع لن ينفع الكلام ولا الرد على ما كتب، ولأني لا أريد تشويه
جمال المكتوب هنا بكلمات بائسة سأرحل لمملكة صمتي أنتشي بحلاوة الحرف المنثور
سأحط الرحال على ضفاف حرفك لكي أعود حين تعود.
تحية تقدير لك أخي ودمت بإبداع.
الأخت المبدعة سعيدة شكري
وعليك السلام ورحمة الله
سعادتي لا توصف بهذا المرور العذب
وهذا الحضور الخصب,
وما تبعهما من شهادة ثمينة كانت وما زالت محط فرحي .
دمت أيتها النبيلة بكل هذا النقاء.
هشام عزاس
16-11-2008, 11:42 PM
الجميل المبدع / مـازن دويكــات
ممتع جدا هذا الحرف الذي يعرف كيف يحاكي الاستحالة و كيف يمكث طويلا بين الورد و الرماد .
أراكَ تحاول أن تبني قلعة الوسطية العادلة في مدينة المشاعر الانسانية بلبنات العطاء اللامحدود و التوحد الوجداني و العقلي و تخوض المعركة ضد نزعات النفس البشرية التي تهدم في الوقت ذاته أركان هذه القلعة .
يمكننا الوصول إلى الإعتراف بهذه الجماليات في النفس و الإقرار بروعتها و لكن من المستحيل إدمانها و التواصل من خلال معجماتها النرجسية .
و يبقى دوما البحث في تجسيدها من خلال الحرف إبداعا راقيا يخلق نصا مدهشا كهذا الذي بين أيدينا ...
فلتجعل من رماد حرائق بلبلك طاقة وردية .
دمت بهذا الألق ...
اكليل من الزهر يغلف قلبك
هشـــام
مازن دويكات
17-11-2008, 11:43 AM
الاستاذ مازن دويكات
عميقة رؤاك..حدَّ الذهول..!
سلمت..وسلم مدادك..
محبتي
العزيز ثائر الرائع
السعادة تكمن في مرورك
والغبطة ترفّ بأجنحتها في حضورك
دمت أيها النبيل.
مازن دويكات
17-11-2008, 11:55 AM
(5)
هناك عدة مستويات للتعامل مع النص، وأسوأها ما يسمى بالقراءة البريئة، وفيها تسلط قرون استشعار حواسنا الخمس صوب جهة واحدة ومكان واحد، وخلاصتها أننا نفهم من النص ما نحب أن نفهم. وأجمل هذه المستويات ما يسمى التعامل المفخخ، وفيه نستدرج النص إلى المكان الذي نحب، وبإرادته يبدأ بالتكشف لنا. ويأتي هنا الفهم على خلاف إرادتنا، وفي هذه اللحظة تأتي الدهشة والصدمة في آن، لتفتح لنا باب الهرب إلى ما نريد، ومن هنا تظل أبواب الاتهام مشرعة على كل الاحتمالات، وتحتم الإنسانية أن يظل حبل النجاة ممتداً على رخام عتبات الأبواب، إنها النجاة الزاحفة من خلال الشقوق.
تبارك الله الذي خلق العبقريات وأطلقها كالظباء في البراري! إنها الظباء توقع الأسود الجائعة في فخاخ رقتها، ثم تغادر الغابة الواسعة زاحفة إلى كناس البراءة، وبعد أن يرتطم الرأس الثمل برخام باب النجاة، كان لابد من التذكر أنك غمست القلم بمداد الدم وسطرت على الأوراق كلمات تبرأت منها قبل أن يجف حبرها. وبعد، أليس من حقي أن أسأل أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟
وهل يعني هذا أن الموسيقيّ حين ينتقل من مقام إلى مقام، يكون تراجع عن نشيده! لماذا يفعل هذا؟ ولماذا لا يكون حصاراً غنائياً من كل الجهات، لإراحة المستمع وتعزيز فهمه للأغنية! مع أن فهمها في بعض الأحيان يفسدها ويتركها ذابلة على المقاعد بعد أن يغادر الجمهور.
ومن لا يحبُ
يحب الأغاني البليدة
ويرى الكون في
كلمات الجريدة
وإن بّلل الماء حبر الحروف
تغيمُ رؤاه
ويصيرُ عماه
نافذته الوحيدة
الفنان الأصيل يعرف ما يريد ويدرك ما يجول في محترفه الأول الذي لا يعرف طريقه سواه، وصعوبة استخراج منجزه بأبهى حالاته، ليس لبساً، فله الحق في التدرب كي يعيد ترتيب الأشياء في طرقات التوازي بين الشكل والجوهر، وتبدو عبقريته في قدرته على تطويع المكان بين خطي التوازي، فكلما امتد هذا المكان واتسع بينهما مع المحافظة على الإيقاع المتبادل، تأتيه العبقرية زاحفة، وهناك فنان جيد أقل درجة لا يجد بداً من الزحف صوب العبقرية، فمن تأتيه زاحفة ليس كمن يذهب إليها زاحفاً. أما الفنان الفاشل فهو الذي لا يزور ولا يزار، لا يذهب صوب أحدٍ ولا أحد يأتي صوبه، ومن هنا يتراءى له السراب ماءً، لأنه في الواقع لا يعرف الماء في تجلياته الإبداعية، وهذا هو اللبس بعينه، يعيشه بتوحد مريض حقاً. إن عماه نافذته الوحيدة.
وهل كان لصمم بيتهوفن أن يسمح له بمغامرة التجريب؟ يجرب من؟ وكل إبداعاته صوتيه، كأني بها كقطرة المطر التي تسح في البرية وبين الوعر، تذهب بلا ملامسة، تطلق الأعشاب والأزهار، دون تجريب وإدراك لكيمياء التكاثر النباتي. هكذا هي إبداعات بيتهوفن الموسيقية، قوتها في بكورتها وعذريتها، وخلودها في استعصائها على الفض، كلٌ يحاول أن يجرب، ومع تواتر الفشل تزداد حدة المغامرة، لذلك قد يفقد الفنان بريقه المضيء حين نتعرف على أسرار خاماته، وله الحق في أن يتوحد في محترفه الأرضي لحظة الإبداع، ويفقد هذا الحق بعد أن ينفض يديه من غبار الطين والألوان والحبر والموسيقى، لأن ما بعد ذلك فهو للناس، عشاق فنه.
تريث قليلاً
إلى أن انتهي من نشيدي
وبعد اشتعال القرنفل
فوق سياج قصيدي
وصمّ هنا أذنيك
لتسمع رائحة الوردة العاشقة
فوق أوتار عودي
قولي لمن رأى عشتار في شوارع أورشليم أن يدلني عليها. أشتهي أن أراها هنا، صاعدة إلى جبل التجربة أو هابطة منه في الصباحات الندية. عشتار لا تكون إلا حيث يكون أدونيس، فتاها الصاهل مثل حصانٍ تقدح حوافره أحجار البرية.
عشتار هناك في جبال الأرز وليست هنا، وكأن ما يفصل هنا عن هناك مجرد خيط شفاف من الصهيل المجدول بالحناء والمسك، والمغموس بدموع الشمس في ظهيرة تموز.
هنا يبوس الجميلة التي منحت أسمها لكل مقدسٍ وجميل، لكنهم جاءوا* على عربات الغبار بكل بداوتهم وأغاروا على كروم كنعان مثل الثعالب، فككوا الاسم إلى ي ، ب ، و ، س ، وألقوا كل حرف في جهة خارج الحدود، أربعة حروف مقدسة توزعت على شمال المنفى وجنوب التيه، وشرق المذلة وغرب الموت المعلب. يبوس من زيتٍ وحناء في نشيد الكنعانيات، في حقول الحنطة ووعر الميرمية وجبال الزعتر، وسفوح النرجس وقباب البابونج. هذا هو مزيج يبوس المقدسة، مع قناعتي أن لا فرق بين يبوس وعشتار وأوغاريت وشكيم، في ساحلنا السوري الأبيض، هذا هو فضاء أجنحتنا وتراب أمزجتنا.
هل تسمعين أيتها الوردة بوح البلبل الطعين؟
وبعد كل هذا، أما زلت تبحثين عن قبس يضيء عتمة الجسد؟ أخرجي إلى البرية، تشاهدين سوسنة الوعر ونرجسة الأودية. كلٌ تضيء الحجارة، وتشعل التراب بأريجها، وتبلل أجنحة الفراشة، جوسيها من شمال شكيم إلى جنوب يبوس في مملكة كنعان الطيبة، فالضوء هنا، وما يُضاء يُضيء، هذا هو حديث الشمعة للعتمة، وأجمل الضوء ما يؤدي إلى الحريق، وأروع هذا الحريق، حريق البلبل في سرير الوردة.
يبوسُ الجميلة في كرمها قاعدة
ظهرها للجدار
تدافعُ عن وردة العاشقين
من القادمين
على عربات الغبار.
..............
يبوس: من أسماء القدس القديمة, قبل التواجد العبري في فلسطين.
*العبرانيون حين أتو فلسطين, كانوا فقراء الحال أشبه بالبدو الرحّل,مما دفع بالعرب الكنعانيين بالشفقة عليهم واحتضانهم.
وفاء حسن الأيوبي
17-11-2008, 11:10 PM
الفاضل الألق مازن دويكات
حرفك ألق كروحك
وهل ينضح الوعاء إلا بما فيه ؟!
يا ناحت اللغة ومشكلها نسجا
بغمرة من تلابيب الحياء تغلف الكون
ويصدح الصوت بالغناء
لك مني كل تقدير
من ضياء
مازن دويكات
18-11-2008, 06:37 PM
أستاذ مازن ..
ماذا أقول ؟
تالله أبدعتَ هنا بكثافة و بكثافة ..أحببتها جدا.. وحفظتها في جهازي ضمن المفضلة .
حيّاك الله في الواحة ..
دمتَ لمن تحب ..
روميه
الأخت المبدعة رومية فهد
شرف كبير لي أن يحفظهذا النص لديك
تحياتي وتقديري لشخصك أيتها النبيلة.
دمت بكل ما تحبين وترضين.
مازن دويكات
19-11-2008, 12:28 PM
الأديب مازن:
استرسال وتعمق تبين أنه قلم أديب تنثال الكلمات من سنان قلمه
تقدير واحترام
المبدعة سمو الكعبي
تقديري واحترامي لمرورك العذب
وحضورك الخصب.
دمت بكل هذا العطاء.
مازن دويكات
19-11-2008, 12:35 PM
(6)
جميلٌ أن يحاصرك البلبل أيتها الوردة، والبلبل الذي أعني، بري النشأة والمولد، ليس له علاقة بالأقفاص الذهبية، وعبث البلهاء في شرفات القصور المضيئة، وبعد ذلك، من حق علامات التعجب أن تتلاشى من آخر الأسئلة. كل هذا ألا يكفي لتطريز جماليات هذا المشهد وهذه الكينونة.
هو يعطيك مشروعية التفتح، وتفجر حرير القرمز في البتلات، وأنت تمنحينه أجمل خامات النشيد، كل هذا ألا يكفي لتشتعل فيك الألوان، أو البرق في الأعالي يشتعل، وأسراب البط السماوي تشتعل، والفراشات الملونة تشتعل، كل شيء قابل للاشتعال كلما انبجست قطرات الرذاذ، ومكان سقوطها يشتعل بالندى الأبيض، حتى أوراق الأشجار تشتعل، تصير في راحتي الخريف بلورا نابضا، ليس من حق أحد أن يتدخل في علاقة البلبل والوردة، ولكن من حقه أن يتمتع بالنشيد، وأن يسافر في مركبة العبق إلى ما يريد، وهو حق متلقي القصيدة بالانزياح عن قصدية الشاعر، وحق الداخل إلى شرفات الموسيقى ليرى ما لم يره الموسيقي في هذا الفضاء المتكسر بين زرقةٍ وبياض، وحق قارئ اللوحة في خلق رؤاه الخاصة في فهم دلالات اللون والضوء.
إنها علاقة جدلية، للمبدع أن يفض بكارة منجزه الإبداعي، وللمتلقي أن يخلق بكارته المغايرة في هذا المنجز كي يفضها، إنها الحرية المطلقة في فهم الجمال، من أبجديته البصرية المنطوقة إلى مكوناته الداخلية اللامرئية العميقة، ماذا يتبقى من الإبداع إن حاكمناه بشروط قوانين الفيزياء! نحن لسنا أحصنة ملجومة ومعصوبة العينين من الأطراف كي نرى ما يريده الحوذي فقط، لأن مهمته أن يصل على حساب نظرات الحصان المستقيمة كاستقامة الطريق، إنها طريق الحوذي وليست طريق الحصان.
سأرفع شكوتي للبرقِِ والرعدِ
على السُحبِ
تأخر في الحقولِ تفّتح الوردِ
ولم تتوضأ الأعشابُ بالتُربِ
سأعود طفلاً بحقيبة مدرسية كالحة، ما أصعب الوصول إلى هذا المشاكس الذي كنته ذات يوم، في الصباحات الممطرة كنت أخوض الوحول بحذاءٍ محارب، كي أصل الحديقة المبللة بقطرات الفضة، لم أكن أعلم في ذلك الوقت أن الوردة كانت جميلة حتى أقاصي ملكوتها الغامض. ورغم حداثتي، إلا أنني كنت أترصد عبيرها وتفتح كنوزها المدهشة، حقاً أقول، إنها أول من درّب ملكاتي المراهقة على مداعبة أحصنة النشيد. كم تعثرت وسقطت ونهضت، كنت أحس أن يداً من قرمز وحرير تمتد لي في الوقت المناسب، كنت أتتبع الأصابع مروراً بباطن الكف حتى الساعد الأخضر، لم أكن أرى جسد الوردة، كنت أشم عبيرها.
هو ذا الإكسير الإلهي الذي مكنني من الوصول، وحين وصلت رأيت الوردة ببهاء جلالها الأخاذ، ومن ها هنا بدأ النشيد في الأماسي المقمرة يتقطر من برقوق الروح كأنه الصهيل والرذاذ، أقول لك: أجد نفسي ملزماً بالعودة إلى ينابيعي الأولى بكل ما أوتيت من براءة وعفوية، هذا هو الحق الذي أشهره دون اللهاث وراء المرابح العاطفية، ودون خوفٍ من الخسارات، أريد أن أصل إلى منابت العلاقة، ربما تقنعين ذات يوم أن براءة هذه البدايات خارج دائرة التنظير العاطفي، ومقولات التابع والمتبوع والقامع والمقموع. إنها محكومة بالتكامل الفطري، بهذه الحبال الحريرية شدّت الوردة إلى البلبل، وشُّد البلبل إلى الوردة، لا يوجد في هذا الكون الطيب بلبل شرير ولا وردة شريرة، ولكن يوجد لصوص يسطون على الحديقة، يسرقون ويدمرون، ليس لسدّ رمق، وإنما رغبة جامحة في إفساد كراسي العشب في ممرات الحديقة، لماذا كل هذا، ما دامت الحديقة تمنح ثمرها حتى للصوص الجياع، لها الحق في أن تمنح ما تريد، ولكن ليس من حق اللصوص أن يقلعوا حقلاً من الأشجار المثمرة لمجرد أكل تفاحة واحدة فقط، يا إلهي ما أصعب أن أرى شجرة ميتة بفعل فاعل، لأنها حين تترنح سقوطاً قد تهلك عائلة الوردة، وتدمّر كوخ البلبل!
وصلوا الحديقة متعبينْ
دخلوا الممر على عجلْ
من هزّ قبل وصولهم شجر الحنينْ
فعوى وراء سياجها ذئب الجبلْ
لكل فصلٍ من الفصول الأربعة نكهته الخاصة في مخزون الطفولة، وفي خزائن الذاكرة، وترتبط علاقة الماضي بالحاضر بماهية ما أصبحنا عليه، خاصة في تلك اللحظة التي نسترجع فيها شريط الذكرى. كان الشتاء يذكر المكان بفقرة خاصة لحظة اللهاث وراء القطرات المضيئة التي تزّين التربة كي تعود خضراء مثقلة بكنوزٍ تسرّ الناظرين، وبعيد نضوجها تسكت جوع البطون، يقال إن الجائع لا يلتفت إلى المشهد الجميل، وإن اضطر إلى الالتفات يرصد الأشياء التي تتناغم مع جوعه، يغازل الحقيقي منها ويستدرج الشبيه، حتى يقترب من الحقيقة أو يكونها، كذلك الربيع أيقونة الرومانسيين، الجياع منهم والمتخمين، كنت أراه بعيون اللاهث وراء جمال الأمكنة وبهائها، وأحسبه بساط الله السنوي المزركش، وحين يغضب علينا يسلط عليه داء الصفرة، بعد ذلك نضطر لطيه، لأنه لم يعد يناسب المكان. كنت أحزن كثيراً على مصير شقائق النعمان والأقحوان والنرجس قصير العمر، لكنني بعد ذلك أصبحت أدرك أن الزهرة قبل أن تموت، تودع في الأرض بذورها كي تعود وتأخذ مكانها الجميل في بساط الله السنوي، وكنت أرى الصيف، كأنه الأغنية الفاشلة في شريط الفصول الأربعة، يصيبني بالغثيان وضيق النفس، كذلك كنت أرى الوردة وأسمع البلبل، كنت اعتقد أن هناك خللا ما في هذا المثلث، إلى حد التحرر والانطلاق من نبعه إلى الالتقاء في الزوايا، لكن هذا الشعور ولّد فيّ ما يشبه الانتماء للقول الدارج " غيمة صيف وتنقشع " وهذا يعني أن الصبر هنا من مستلزمات استمرارية العلاقة، إنه خامة لابد منها في هذا التشكيل، ولابد لدورة الفصول من أن تحسم الأمر في ترتيب فوضى العلاقة بين أضلاع المثلث، كنت أحسبني ضلع القاعدة بين البلبل والوردة، لكنني أدركت فيما بعد، أنه ضلع شفاف لا مرئي تولد من سراب الصيف، والحقيقة أن لا مسافة بين البلبل والوردة، ولك أن تعرفي أين أناي في هذا التشكيل!
ومرّ شتاءٌ وغادر صيفْ
وما زارني من محياك طيفْ
على الجمرِ أنتظرُ القادمين
ووجهك أحلى وأجمل ضيفْ
عبد الرحمن الكرد
21-11-2008, 11:45 AM
المدهش مازن
روعه حتى الثماله
الصمت في حرم الجمال بهاء
تحياتي
مازن دويكات
22-11-2008, 08:35 AM
الأديب والشاعر المبدع الصديق مازن دويكات
كم أنت جميل ورائع بهذا النص الثري بكل شيء
هنا أتابعك منذ أن بدأت وسابقى
تقبل محبتي
أخوك أحمد
الصديق العزيز الشاعر المبدع
أحمد حسين أحمد
ما أجمل مرورك وما أروع حضورك
والأجل والأروع هي متابعتك لهذه النصوص يا أحمد الحبيب
دمت بخير أيها النبيل.
مازن دويكات
23-11-2008, 06:57 PM
اغرف بملعقة الذائقة حلوى المعاني وسلوى المفردات في كل محطة بين سحابة وأخرى بهذا الفضاء المبدع ...............ومازل ت ممسكة بطرف خيط يؤدي الى بر الأمان حيث يختتم قلمك رحلاته ...منعطفا بنا الى خط الرجعة وهل فعلا يوجد هذا الخط ؟ ....أتوقع باني سوف اعود الى نقطة البداية لأني ادمنت هذه التسابيح .............وأظل اتتبع مسار الخطى ........
صاحب المدن القصائدية مازن دويكات ...
هذا كتاب بل مكتبة تضم كل العلوم منها العلوم الصرفة واخرى اجماعية ..تنوعت المدارس وأزدادت مساحات المدارك
شريفة
حسّكِ القرائي المدهش لا يكفّ عن التحرّش بالنص, علاقة غاية في الإبداع تجمع ما بين ذائقتك وبين النصوص, كيف لا وأنت مبدعة باحتراف لمثل هذه النصوص, إذن لا غرابة أن تتولد مثل هذه العلاقة المدهشة,
دمت بكل هذا البهاء المبدع وهذا البهاء الإبداعي.
مازن دويكات
24-11-2008, 06:03 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وددته لو لم يكتمل لأنهل من عذب كلماتك أيها السامق أدبا والراقي حسا مازن دويكات
رسمت بحروفك التي تشبه الدرر لوحات أخادة بجمالها وعمق دلالتها، ألوان امتزجت فأبهجت
العين، غنت لها العصافير وانتقلت بينها الفراشات وأصرت لها الغيمات لواعج نفسها
وددت لو أطيل السكن هنا. ولا يسعني إلا العودة لحروفك أرتشف منها معاني الجمال والإبداع.
تحيتي لك أخي ودمت بإبداع متجدد.
الأخت المبدعة
سعيدة الهاشمي
كم أنا سعيد بعودتك الميمونة الثانية لهذه النصوص
وهذا تكريم لا ينمّ اإلا عن ذائقة متميزة وحس قرائي متمكن
دمت أيتها الأخت النبيلة بكل خير وإبداع.
مازن دويكات
25-11-2008, 11:59 AM
(7)
من بوح نافذتي أطل على ضجيجٍ صامت، ألقي نثار قصيدتي للطير، آخر نقرة حملت بهاء النون من أرض الغواية، أسرجي ضوء الأنوثة، من سيرجع للغزالة تاجها الوردي، للولد الصغير حمامة شردت ولم يرجع غبار هديلها، عودوا أيها العشاق من طرقٍ تكابد هجرها، مَنْ مَّر آخر مرة منها، غزاة هالكون بلا عدد؟ أم عاشق نسي الخطى فوق الطريق ولم يعدْ؟، لي أن أطوق اسمك الذهبي بجلنار روحي وأرشه بدم التوت الفائر في عروق نشيدي، أنت التوحد في الغياب، والتشتت في الحضور، وأنت آخر ما تبقى في عروقي من صهيل.
شجري بعيدٌ كالسحاب، فراشتي الزرقاء أوجعها الرفيف ولم تصل، وأراك في طرف الحديقة واقفة، أنت المنارة مع إشارتك الندى يمشي، يوّزع في الصباح على البلابل والزهور حليب بهجته السلسبيل.
ولك القصيدة شرفة، منها يطل جبينك الملكي، تأتيك الزهور على عجل، وتأتيك الظباء من الأحراش البعيدة، ويهبط في اتجاهك رف الحجلْ، أنت المحجّ وأنت مأوى أفئدة الفراشة والبلبل والوردة، تأخري، أنا الذبيح على أعتاب نبضك، ارتعشي فيّ كي أقوم ثانيةً، أطلق أول الشهوات في فلواتك الخضراء، سندخل مرةً أخرى في عناقنا اللانهائي، باركينا يا مريم العاشقات، مّري بيدك المقدسة الصغيرة على غرتينا نحن العطاش، من مائنا تخضل الأعشاب البرية بين شقوق الصخور، ويرتوي ثمر البساتين، نحن العطاش، اسقنا يا سيدتي من خمر قانا الجليل.
لا ماء يرشحُ في جرار الطين ِ
فانتظري قليلاً
سيجيء من أقصى الجنوب ِ
يبارك الأحجارَ، يجعلها سبيلاً
إني أحسُ دبيبَ خطوته، يوشوشُ في دماي
ويكاد يمشي في مياه اللوز، فانتظري
سألمس مسكه وأرش فوق وسائد الأحجار لازورده
لا بأس إن لم يبق لي
يكفي الغبار على يدي، يكفي الغبار.
قبل أن أدخل محراب الكتابة هذا المساء، وصلت إلى قناعة أنه ما عاد هناك ما يكتب في هذا الموضوع. حاولت أن أحفر في جدار آخر لعلي أصل أو أطّل على عالم جديد للبلبل والوردة، عالم خالٍ من الأنانية بحيث يتسع لعشاقٍ آخرين، هل باستطاعتنا أن نجد طينة أخرى في هذه الأرض نعجن منها أشكالاً مغايرة لعالمنا الجميل؟ قد نتمرد في لحظة ما على ما نحب تحت تأثير عاديتها، محاولين إعادة إنتاج جمالياتها، إنها فطرة الحياة، أن نبحث عن التغيير حتى في الأشياء الجميلة التي اعتدنا عليها، في بعض الأحيان أجد نفسي أحفر باحثاً عن طفولتي المطمورة في القاع، وأحياناً هي التي تصعد من تلقاء نفسها، فهي موجودة فيّ في كل الأحيان، تسيرني وتتحكم في سلوكي بعقلانية تفتقر إليها الطفولة الأولى، وإلا بماذا أفّسر نزعتي الدائمة للتغيير في المشاهد، حتى الجميلة منها؟ كأنني أريدها أن تكون أكثر جمالاً، كما الطفل الذي يحطم لعبه الجميلة طمعاً في لعبة أكثر جمالاً، هذا هو الفرق بين الطفولة العائدة، والطفولة القديمة، أيها الطفل الذي كنته ذات يوم، عد إلى قواعدك الأولى سالماً ودعني أعيش كما أريد بعيداً عن الشيطنة، وشهوات تحطيم اللعب الجميلة، قد أنزوي ذات يوم وأستكين في سرير الحكمة، وقد أعود إلى حظيرة الأيائل والظباء، بعيداً عن الجبال والسفوح والحقول والبراري، لكنني لن أجتر عشبة الكهان، التي توصل إلى المقولة المزمنة، ليس بالإمكان أجمل مما كان، هذا هو التابوت الجاهز والمعدّ في سراديب السدنة، ماذا سينشد البلبل حين يسمع هذا الهراء؟ وبماذا ستفتتح الوردة نهارات العشاق؟ قد لا يستطيع تغيير النشيد، ولا تستطيع أن تصوغ أريجا جديداً، لكنه في الإمكان أجمل مما كان إذا اعتقدنا أن البلبل الذي بحجم قبضة الطفل يستطيع أن يوقظ المدينة من سباتها حين ينشد، وأن أصغر وردة في بستان تستطيع أن تمنح أفكاراً عميقة حد البكاء.
خذ الناي مني وغني
على ربوة المنحنى
وإن سألتك الحبيبة عني
فقلْ غابَ في الأوف والميجنا
حين يكون ممر المنزل جميلاً، يميل العاشق إلى عدم الخروج، وحين يكون خارج المنزل، يتملكه حنين دائم إلى العودة السريعة، فكيف حين يكون المنزل جميلاً وممر الحديقة أجمل وفي الداخل امرأة أجمل من المنزل ومن الممر. جميلٌ أن يستدرجنا الجمال لكي ندافع عنه، على الرغم من أننا لا نحتاج مثل هذا الاستدراج، يكفي أن يلوح لنا من بعيد لنتبعه، نكون رهن إشارته، يوزع علينا المهام في مملكته الفاضلة، قد يفهم أن الجمال الشكلاني هو المقصود، قد يكون، ولكن الأهم في هذه المعادلة أن لا ننسى أن هناك طرفا جماليا آخر، قد يكون هو الأشمل في منظومة الجمال الكونية، وهو الجمال الداخلي للإنسان. إن العلاقة بين الجمال الشكلي والجمال الجوهري، لا تعتمد على أسس متقاربة، فالأول بصري، يشترك فيه الإنسان والجماد، في حين أن الثاني سلوكي تختص به الكائنات البشرية، من الممكن أن يتعارض فيه الشكلاني مع السلوكي وقد يتناغمان، وهذا يعود إلى تشابك العلاقة بين العمى والبصيرة في التعامل مع الجمال بشقيه، هل يستطيع الأعمى أن يتلمس الجمال الشكلاني، وهل تستطيع البصيرة أن ترصد الجمال الجوهري؟ العاشق الأعمى لا يستطيع أن يتمتع بالمنزل الجميل ولا بممر حديقته، لكن يستطيع أن يعوض هذا الفقد في علاقته مع المرأة الجميلة، خاصة حين تتمتع بجمال جوهري، وحين ينتفي هذا الجمال، يجد هذا العاشق نفسه محاصراً في غرفة غامضة مع الجمال الحسي، الذي يفقد مفعوله لحظة تماس البرق والرعد على أطراف غيمة روحه.
أيتها الغيمة الواقفة في الأعالي
عطشي أبعد منك، وأعلى
من جبينك هامات جبالي
جميلٌ أن أنحني
ليمرّ ماؤك من خلالي
ويروي السفحَ والسهلا
مازن دويكات
26-11-2008, 02:53 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وددته لو لم يكتمل لأنهل من عذب كلماتك أيها السامق أدبا والراقي حسا مازن دويكات
رسمت بحروفك التي تشبه الدرر لوحات أخادة بجمالها وعمق دلالتها، ألوان امتزجت فأبهجت
العين، غنت لها العصافير وانتقلت بينها الفراشات وأصرت لها الغيمات لواعج نفسها
وددت لو أطيل السكن هنا. ولا يسعني إلا العودة لحروفك أرتشف منها معاني الجمال والإبداع.
تحيتي لك أخي ودمت بإبداع متجدد.
المبدعة الأخت:
سعيدة الهاشمي
وعليكم السلام ورحمته
البذخ كله في هذه الشهادة الخصبة
والألق جله في هذه القراءة العذبة
سعادة لا توصف أن تكون هنا مبدعة
بكل هذا العطاء.
دمت بخير أيتها النبيلة.
هشام عزاس
26-11-2008, 08:01 PM
الألق / مــازن دويكـــات
لاحظت أنك رفعتَ ثلاث مواضيع لك بنفس الوقت أيها المبدع و لكن أرجو أن لا يزعجك نقلي أحد المواضيع إلى قسم المنقولات المؤقتة و ذلك لما تقتضيه قوانين الواحة لأنه يمنع رفع أكثر من موضوعين بنفس الوقت في الصفحة الأولى .
أتمنى أن تتفهم ذلك سيدي الكريم .
تقديري و احترامي
مازن دويكات
28-11-2008, 09:43 AM
الألق / مــازن دويكـــات
لاحظت أنك رفعتَ ثلاث مواضيع لك بنفس الوقت أيها المبدع و لكن أرجو أن لا يزعجك نقلي أحد المواضيع إلى قسم المنقولات المؤقتة و ذلك لما تقتضيه قوانين الواحة لأنه يمنع رفع أكثر من موضوعين بنفس الوقت في الصفحة الأولى .
أتمنى أن تتفهم ذلك سيدي الكريم .
تقديري و احترامي
العزيز هشام عزاس
بعد التحية, لا بأس ياصديق, افعل ما تراه مناسباً,لو كنت أعرف هذا ما كنت فعلت.
خاص الود والتقدير.
مازن دويكات
28-11-2008, 09:54 AM
الجميل المبدع / مـازن دويكــات
ممتع جدا هذا الحرف الذي يعرف كيف يحاكي الاستحالة و كيف يمكث طويلا بين الورد و الرماد .
أراكَ تحاول أن تبني قلعة الوسطية العادلة في مدينة المشاعر الانسانية بلبنات العطاء اللامحدود و التوحد الوجداني و العقلي و تخوض المعركة ضد نزعات النفس البشرية التي تهدم في الوقت ذاته أركان هذه القلعة .
يمكننا الوصول إلى الإعتراف بهذه الجماليات في النفس و الإقرار بروعتها و لكن من المستحيل إدمانها و التواصل من خلال معجماتها النرجسية .
و يبقى دوما البحث في تجسيدها من خلال الحرف إبداعا راقيا يخلق نصا مدهشا كهذا الذي بين أيدينا ...
فلتجعل من رماد حرائق بلبلك طاقة وردية .
دمت بهذا الألق ...
اكليل من الزهر يغلف قلبك
هشـــام
العزيز المبدع
هشام عزاس
القراءة النقدية الحقيقية هي التي تخلق نصاً من النص , وأنت هنا فعلت بإجادة متقنة وقدرة ملفتة, وهذا لا يتأتى من فراغ سوى أنه ارتكاز على ثقافة ممتدة ومتمددة تعيد إنتاجها ذائقة دائمة التوهج من خلال حس قرائي ينشد العمق.
دمت بكل هذا الثراء وهذا العطاء.
مازن دويكات
05-12-2008, 03:30 PM
الفاضل الألق مازن دويكات
حرفك ألق كروحك
وهل ينضح الوعاء إلا بما فيه ؟!
يا ناحت اللغة ومشكلها نسجا
بغمرة من تلابيب الحياء تغلف الكون
ويصدح الصوت بالغناء
لك مني كل تقدير
من ضياء
المتألقة إبداعاً وحضوراً
وفاء حسن الأيوبي
ما أسعد كلماتي بمرورك ومفردتي بحضورك
شهادة ثرية وغنية موقعة من مبدعة تمتاز بذائقة خصبة
من خلال حس قرائي يمتاز بتأويلاته العذبة.
دمت بكل هذه القدرات الإبداعية, وكل عام وأنت بخير أختي الفاضلة.
مازن دويكات
05-12-2008, 03:40 PM
(8)
كثيراً ما أجد نفسي عرضة لسؤال مستفز، عن ماذا سأكتب إليك في الرسالة القادمة؟ وقبل أن أشرع في ترتيب الإجابة، تحيلني فوراً الذاكرة إلى مقولة الجاحظ، أن " المفردات والأفكار موجودة على قارعة الطريق "، ولكن المشكلة ليست في إيجاد المفردة أو الفكرة، إنها في هامش الحرية الممنوح اجتماعياً أو الممنوع سلطوياً بغية الحديث عن قضايا فاضت على قارعة طريق شيخنا الجاحظ لتحتل كل شيء في نهاراتنا المتعبة.
انك تجدينها في نَفَسْ الشهيق الملوث القادم إلينا على شكل سحب سوداء من مصانع المستوطنات، وتجدينها في مواد الغذاء الفاسدة والقادمة إلينا مع نفايات هذه المستوطنات، والمستقرة في مستودعات تجار الموت، حيث تأخذ هناك ماكياجها الوطني لتصبح فتنة تسر المستهلكين، وتجدينها في سيارة مسروقة يقودها طفل أرعن وهو يكلم الماما بالبليفون، وتجدينها في تصريحات مسؤول عربي عن التضامن العربي الذي خرج بعد موقعة صفين، ولم يعد لحد الآن، وتجدينها في قصائد شاعر الحداثة الذي يصر على أن واحد زائد واحد تساوي ثلاثة، وتجدينها في غنج جماعة سلام الشجعان في وطن أُبيدت فيه أحرف ( س، ل، ا، م ) وتجدينها في حديث المواطنين اليومي عن توزيع تموين الصليب، وكيف أن التاجر الموزّع حسب عليهم زبالة مستودعاته بأعلى الأسعار، إنك تجدينها في كل شيء حتى في ثلاجة المطبخ بعكوبها وفولها وقثائها، بمعنى أننا نعيش في وطنٍ مفخخ، لذلك يصبح السؤال "(عن ماذا نكتب، نكتة سوداء يستحق كل من لا يضحك عليها عقاب الجلوس خمس دقائق أمام شاشة التلفزيون العربي لحظة بث نشرة الأخبار".
يا ابن فلسطين يسوعْ
انزع من أحشائك بيت الداء المعدة
وابصقْ في وجه الجوعْ
كيْ لا تصلب ثانية في أرض يبوسْ
وصليبك كيسُ طحينٍ ينخره السوسْ
وصفيحةَ زيتٍ ليس لها مفعولْ
كالأمم المتحدة
***
هل تعرفين من أين يأتي الجنون الجميل؟
قليلة هي الأشياء التي تترك في نفسي فوضى عارمة، ترتب حساسيتي الإبداعية، وتؤثثني بمقتنيات جماليه تعاش ولا تُرى، وتُحّس ولا تجّسد، أتلمس مخملها الشفاف بأنامل نبضي المرتعشة، ومن هذه الأشياء التي تحفر فيّ بفأسٍ من الضوء، عصفور مغرد على شجرة توت طافحة بالأوراق، طفلٌ تتلاشى المسافة في قسماته المتوردة بين الضحك والبكاء، فتاة تحاول لجم خضرتها الطائشة في صباحٍ مدرسي، وردة متمردة تحاول خرق أنظمة الحديقة لتطل من السياج على العابرين صباحاً إلى يومهم، أمٌ تدّرب دمعتها على الصمود قليلاً، ريثما يعود وحيدها الغائب، قبلة لا ندري لمن تنتمي: لشفاه الحبيبة أم لشفاه الحبيب! كتابٌ يطلق الزوابع بشراسة وردية على حواسي الخمس. كل هذه حجارة من الفيروز واللازورد ملقاة بإهمالٍ منظّم في طرقاتي السرية، حجرا فوق حجر ينبغي أن أشيّد مملكة الأزهار في عالمٍ يتباهى بشراسته الزرقاء، مع أن الأزرق للبحر وللعيون ولدفاتر العشاق وللفراشة فقط. هل تعرفين ما الذي يشد الحجارة بعضها ببعض؟ إنه ماء الموهبة المقدس وطين التجربة المتجذر في حقول الروح، هذه هي خامة الإبداع الحقيقية شريطة أن لا تكون حجارة هذا البناء منتظمة الأبعاد، وإلا سأوقع نفسي في مصيدة التكرار والتماثل الشكلي. لذلك ينبغي أن نختار حجارتنا بأشكال مختلفة، وعلينا بعد ذلك أن نخلق من هذا الاختلاف معمارنا الجميل المتفرد الذي قد يكون قصيدة أو رواية أو لوحة أو مقطوعة موسيقية، كما تعلمين أن شعبنا المناضل يتعرض في كل لحظة لمجموعة من المؤامرات الملونة التي تستهدف مكامن الجمال فيه، إنه يفتقد الهدوء والمتع، فكيف له إذن أن يستغني عن أي خلقٍ وإبداع! لذلك نحن ملزمون بعدم الكف عن الإبداع حتى نعوض ما فقدناه من جمالٍ وهدوء ومتع، ولكي نُفهم الآخرين أن الشعب المبدع لن يُهزم أبداً، تلك رسالتنا للعالم، ندافع عن أنفسنا بالإبداع والخلق إلى أن نستقر على أرضنا كما بدأنا، وبعد ذلك، لن نكف عن كتابة قصائد حبٍ للعالم.
هو ذا ولدُ السفح والقمم المندية
وحارسُ غيمة آذار
ونرجسة الأودية
ورافع أيقونة الحبِ
إلى أن تعّم ممالك كنعانَ
أمراضه المعدية
بين سفحي وأفق مشرئب الشفق رأيت امرأة ينهمر المسك من أردانها، قلت توقفي أيتها الغزالة في أرض كنعان، قالت صفصافة تجسرت بين القمتين إنها لم تنذر للوقوف، ومن أرادها فليعد خلفها كمهرٍ شبق، إنها تذرع المكان من جهاته الأربع، تحركها دورة الشمس نهاراً أو القمر ليلاً. غزالتك أيها الفتى دائمة الحركة في مراعي كنعان، بين يبوس وشكيم تأكل من العشب اللبني بزهرته الصفراء، وتغتسل بالضوء المنحدر من نجوم الأعالي وتشرب من رحيق ينبوع دفنا.
بين سفحين وممر من شقائق النعمان، نصبت أرجوحتها بجذوع سروة وصنوبرة، قال الرعاة من يهزّ سريرها العشبي المعلق، تحسده عذارى شكيم، وتحسده الأيائل والظباء، وغمام القمتين يحسده. في الصباحات المبكرة، تمر عليها حاملات جرار الفخار، يسكبن بين أقدامها الوردية حمولتهن الأولى، ثم يعدن إلى النبع، يملأن الجرار ويعدن إلى البيوت باسمات الثغور، وفي المساء يمر عليها الرعاة وهم يهشون قطعانهم، يؤدون لها تحية الغروب، وينهمرون في الشعاب عائدين إلى بيوتهم فرحين.
بين سفحين وقمتين متعانقتين، شيّدت كوخها المزنّّر بالمسك والبخور، نذرته محجاً للعاشقات، قالت عاشقة من واد التفاح: ضاع حبيبي في طرقات الشمال قبل قبلتين وإغفاءة، أيتها اليبوسيات ويا بنات شكيم في أرض كنعان الطيبة، دثرنني بالنرجس والأقحوان إلى أن يعود حبيبي سالماً غانماً. وقالت عاشقة من تل الصفصاف: سرقت الجنيات حبيبي من سرير الفجر، فدثرنني بقدائد قميصه إلى أن يعود في عربات الغار والريحان.
عندما البلبل السكرانْ
أطال على الغصن مكوثه
اكتشفت زهرة الرمانْ
وأن لها بيت أنوثة
مازن دويكات
18-12-2008, 11:49 AM
المدهش مازن
روعه حتى الثماله
الصمت في حرم الجمال بهاء
تحياتي
المبدع المتألق
عبد الرحمن الكرد
دائما يسعدني مرورك ويفرحني حضورك
دمت بكل هذا البهاء.
مازن دويكات
18-12-2008, 12:03 PM
(9)
قد يكون من الصعب تحديد علاقة الذاكرة في المكان والزمان، وكثيراً ما أسأل لمن تنحاز الذاكرة: للمكان الصورة الماثلة أم للزمان الحائلة الزائلة؟ وأين أنا من ذاكرتي؟ هل هي التي تتحكم في عودتي إلى الماضي أم أنا الذي أختار لحظة العودة، ومن يدير شؤون الحنين في شوارع أرواحنا من رعشة الميلاد إلى رعشة الغياب، نحن أم هي، وإن كانت هي، فهل بإمكانها أن توازن بين صيرورة المكان، وسيرورة الزمان، وإن كنا نحن، فكيف بإمكاننا أن نخلق من هذه الثنائية ضوابط عادلة تحقق فينا التوازن المنشود، بحيث حين نرى مكاناً ما، ينفتح على فضائنا زمانه الزائل، وحين نذكر زماناً ما يرتب في المخيلة مكانه بكل فوتوغرافيته التي كانت. قد يتغير المكان، ولكن يظل هناك خيط أبيض يقود حواس الحنين إلى المشهدية الأولى، وفي الإطار نفسه يتحول الزمان، ويظل الخيط الدال على الرؤيوية الأولى، لذلك، قد يكون لحميمية علاقتنا مع الأشياء دورها الهام في عملية الرصد والتثبيت من جهة، والإهمال والتشتيت من الجهة الأخرى، وهذا ينطبق على الزمان أكثر من المكان على اعتبار أن التغيير في الزمان حركي تسلسلي وفي المكان هدمي انتقائي، بمعنى أن الزمان كلي ولحظي وأن المكان جزئي و ممتد وقد يعاد إنتاجه مرة أخرى على العكس من الزمان الذي يتجسد غيابه وذهابه في كل ما نعيش، في الثانية والساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة، وهذا يدل على أن السطوة للزمان والانقياد للمكان. فالموت الذي هو انتهاءٌ للزمان، يغيّب المكان، ولكن انتهاء المكان لا يغيّب الزمان، كأني بالذاكرة ( المخزن ) منحازة للزمان، وأن المخيلة ( المعرض ) منحازة للمكان، أنهما الساحة والمساحة فينا، نعدو ونلهث في عتمة الأزمنة، ونلهو ونعبث في ضوء الأمكنة، هل وصلنا لرؤيتنا الأخيرة في هذه الجدلية؟ على مرأى من العيون ننحاز للزمان الطاغية، وفي السرية العمياء ننحاز للمكان حتى الرعشة الأخيرة، أليس القبر مكاننا الدائم؟ يا الهي ما أصعب هذه المعادلة.
إذا مزّقت حبنا الأزمنة
وإن بعثرته، بكل المدائن
نصفا هناك، ونصفا هنا
فلا تقنعي أنه مات
إن كنت عاشقةٌ مؤمنة
فكيف يموت، إذا كنتُ
في كل ثانيةٍ،
أحبكُ ألف سنة
***
عادةً أحب الرجوع للحديث عن الكتابة، وكيفية الدخول في ذلك الدهليز المفضي إلى الضوء الدائم، في البدء أُحدد المسافة بين ساحة الفكرة ومساحة بياض الورق، وأظل أعدو وألهث في هذا البرزخ الفضي والدامي في بعض الأحيان، وكثيراً ما أحس بأن قربه أو بعده شبيهٌ إلى حدٍ ما بمشيمة الجنين، فكلما كانت مُحكمة، كان الجنين أكثر التصاقاً برحم الأم، وإن بدأت تميل للتراخي يصبح انحياز الوليد للحياة أكثر، كأني حين أكون أكثر قرباً من الفكرة، أكون أقل تشبعاً منها، لذلك، أجدني أتحرك صوب البياض البكر بعذريته بغية الإشباع والامتلاء، ومن هنا يفترض بالكاتب أن يجيد حركته ويتقنها، وعليه أن يصّوب قرون استشعاره لتحديد الخطى، والمبدع الحقيقي هو الذي يستطيع. هناك من يسيء تقدير مكانه بين ساحة الفكرة ومساحة الورقة، لذلك يأتي مخاضه الإبداعي قبل عملية التراخي في المشيمة، ومن هنا تستطيع الذائقة تمييز نص عن نصٍ أخر. بالنسبة لي، أحاول أن اجتهد لأكون في المكان الأفضل، وأن لا أترك مساحة الفكرة إلا وأنا مشبع من جماليات مشهدها، وتاركاً البياض الورقي مطرزاً بدم المخاض الأسود، ولا أنكر أني في بعض الأحيان أقع في حالة التباس بالنسبة لتحديد موقفي بين طرفي المعادلة الإبداعي. لماذا يكتب الكاتب؟ سؤال مربك بعض الشيء وينتفي هذا الإرباك حين يتعامل المبدع مع فعل الكتابة بضوابط يحددها المردود المادي، لذلك تأتي الإجابة في غاية البساطة: يكتب ليعتاش. بالنسبة لي أزعم أنني من المرتبكين، لأنني أتعامل مع هذا الفعل بحرية لا تخضع لصرامة المردود المادي، فلا غرابة أن تكون إجابتي: أكتب لأعيش. وشتان بين الاعتياش والعيش، وهذا لا يعني بالطبع أن الحالة الأولى عمل مشين، ما أعنيه أن هذا الالتباس له علاقة بالحرية المنقوصة والحرية الكاملة، مع قناعتي أننا لا نعيش في المدينة الفاضلة بالنسبة للحالة الثانية، أما بخصوص الهواجس التي يعيشها الكاتب ما قبل إنجازه عمله الإبداعي وما بعد، أعتقد أن ثمة فضائين يتحرك فيهما العمل الإبداعي، الأول لا يُرى ولا يُحس ولا يُحاور، إلا من خلال ناقد ومبدع هو الكاتب نفسه، حيث يكون هذا العمل مطبوعاً على أوراق الذاكرة، والهواجس هنا خليط من القلق الجميل والتوتر الحميم إلى أن يهبط العمل الإبداعي على مكانه الثاني أي بياض الورق، وعندها ينتهي دور الكاتب ليحل محله المتلقي في مسألة الرؤية والحوار والنقد، وهنا يحدث تحول في هواجس الكاتب، فالقلق الجميل يتحول إلى قلقٍ شرس، والتوتر الحميم إلى توترٍ عصبي، وهذا لا يعني تجريد الكاتب من الثقة بالنفس، قدر تحوله إلى طارح أسئلة مربكة، أهونها: هل هذا حقاً ما حلمت بإنجازه؟ والخطورة كل الخطورة حين تكون الإجابة نعم، لأنها في الاعتقاد الخطوة الأولى نحو تابوته الإبداعي.
على أي قمة شاهقة
تجلس الفكرة القصية
وفي أي منحدرٍ سحيق
تكمن اللغة العصية
***
أيني وأينك على خارطة العاشقين؟ أين أرجوحتك في الحديقة، وأين مقعد تأملي في ظلال الأسكدنيا بكراتها الذهبية: لا أرى الباب بعد دخولنا ومكوثنا، أنت بصعودك بين الأغصان العالية، وهبوطك على الأعشاب الوامقة لحفيفك الدائري، وأنا بانتباهي القابض على لهاثك وغفوتي التي تستدرج رنين هدوئك. لا أرى الباب، وما جدوى الباب! للجنة بابُ دخولٍ فقط، ولا خروج من هذه الأبدية بألوانها القزحية، يقال: هنا جنة الدنيا والآخرة.
سبحان من اصطفى البلبل والوردة وسماهما رهيني الجنتين، عذراً يا صديقي الشاعر " أرتور رامبو " لن أصدقك هذه المرة فيما ذهبت إليه من " أن الحياة الحقيقية هي في مكان آخر " إنها هنا، على هذه الأرض، أرض البلبل والوردة منذ فجر السلالات حتى اندثارها، رغم جحيم القتلة، نحن هنا ولنا جنة، ومن ليس له، بإمكانه أن يشيدها ويجعل لها باباً للدخول فقط، لأن الجنة السيئة هي التي لها باب للخروج، ولكننا قد نضطر لفتح مثل هذا الباب في جنتنا، خاصة حين يحتلها الغزاة، لأنهم في آخر الأمر مجبرون على الخروج.
ورأيت لافتةً على باب الوطنْ
وقرأتُ: ممنوع الدخولْ
سرْ فالوقوف غلطْ
ومشيتُ مهزوز البدنْ
فرأيتُ مقبرةً ولا فتةً تقولْ:
قفْ للدخول فقطْ
حسين عبدالغني
19-12-2008, 03:13 PM
( الصمت ) ... لأصلي لك ..
مازن دويكات
14-12-2009, 06:48 PM
( الصمت ) ... لأصلي لك ..
تحياتي وتقديري لشخصك النبيل.
دمت بخير أخي.
مازن دويكات
14-12-2009, 06:53 PM
10
لا بأس، ابتعدت قليلاً عن مناخاتك الممتدة في كل الأرجاء، كل حصاةٍ تعثرت بها قدمي المتعبة، كانت تلمع في مياه النهر اللامرئي، أمشي ويزداد الحصى، أسمع كل واحدةٍ تقول لي: قفْ، لن تبلغ النهر ولن تنتهي متوالية الحصى، كل الأصوات التي أسمعها تنساب كضوءٍ ذبيح من آلة الخرير الموسيقية، حفيف الريح في الجنبات ومن علٍ، رفيف الفراشات في الدغل الطافح بالأوراق والأزهار، عزيف الحشرات المضيئة فوق البراعم الوامقة، كل ما يُرى ويُحس، يخرج من هذا الملكوت. هل ابتعدت حقيقة، كيف وأين، ما دام مناخك المحتوى والشكل؟ ومتى ولماذا، ما دام فضاؤك مسرب الروح الوحيد في هذا الزحام؟
هل هذا سجنٌ أم جنة ؟ زنزانة أم سدرة منتهى ؟ لا فرق، ما دامت على هذه الأرض وتحت هذه السماء رفوف هذا التراب، لا فرق. من هنا سينهض الشهداء في عام المسرة، يسيرون في الطرقات، كلٌ إلى حبيبته المنتظرة، قد تكون امرأة في كوخٍ من قرميد صيدون، أو مدينة تتمطى بقميص نومها على ساحل الأبيض المتوسط، وقد يكون اسمها حيفا. امرأة أو مدينة لا فرق، شريطة أن تكون من نسل كنعان، وبقامةٍ تحاذي الساحل السوري، لا بأس، اقتربت كثيراً من لازوردك في الأعالي، حّد العناق اللانهائي، واشتعلت في صعودي الهابط على أقواس انكساراته الوردية حّد الاحتراق، اقتربت كثيراً.. كثيراً، من سيتلاشى في الآخر: جسدي أم الزمان ؟ ومن سيمر من الآخر ويستقر في نتوءاته المضيئة: جسدي أم المكان؟ أينك في هذه الأعراس الرعوية، كأنك صدح ناياتها، موال مغنيها، رقصة الصبيّة والصبي في ساحاتها، ودبكة وعولها الشبقة على حافة النهر. لا بأس، اغفري وقوفي في المابين، اخترته لأنه بؤرتك المشتعلة، ومن أجلها، في الصباحات الممطرة، تجيؤك العاشقات، يلتقطن ما قسم الله لهن من جمرك المنعوف في الطرقات.
* * *
مبارك جمرك المتشافي
والمتعافي من الرماد
مباركة ديمومتك الأبدية
في البلاد
* * *
أدور في كل الاتجاهات، لم تحجبك عني سوى أشجار التوت بأوراقها الطافحة، عصرت حريرها، ستارة خضراء حجبتك عني، أحُسك دون أن أراك، وفي هذا الصخب الحريري، أشم رائحة طفلة، هذه الرائحة تكّسرُ في الروح أثاث الحنين الذي لم يمس من زمنٍ جريح. تحطم مزهريات دمي التي تتعشق آخر زهرة فل كانت فيها. نورك الفضي يختزل سواد الليل، فترى الأشياء بعضها، هذا الوضوح فضيحتها الذهبية، أرى رنينها واسمع انكساره على قبة الفجر المرذذة.
أيتها الطفلة المكتملة، يا سنبلتي الدائمة، كم أكره عيد الحصاد، ليس من تعبٍ، ولكن لرحيل تموجات الذهب عن النهر البني المترب، ما أجمل أن تنفرط السنبلة وحدها، تتدرج كل حبة إلى حيث تريد، تغطس في الأثلام البنية وحدها، تصوب بطنها على دمعة الغيم وحدها، تخرج شعيرتها الخضراء الدقيقة وحدها، تعلو، تصفرّ، تنضج، تصير سنبلة من جديد، حرام أن يحزّها المنجل المعكوف حرام، أيتها الطفلة السنبلة والسنبلة الطفلة، يا ذات الصخب الحنون المضيء، والسكينة الصاخبة الفوضوية، فيك يبدأ الوطن ولا ينتهي، يتدفق في نهر الروح ولا يعود، أجيئك بكلّيتي، وهو معي، أنا الولد الذي يحمل النهر على كاهله المسنن، تعبأت النتوءات، غارت بعيداً، أي قوى ستلمّها وتسرقها في الليل؟ قلتُ : نورك الذهبي يختزل الليل، أرى اللصوص بكامل وضوحهم، أرتّب أسماءهم الغريبة على حجر، أراها متلاصقة، كأنها بين رحى طاحون، ها أنا أمسكُ جريشها بيدي، أفركُ النثار إلى أن ينزّ دم إخوتي الشهداء.
هذا هو الصخب الغريب، وما تبقى من طفولتك يكفي، رائحة الحليب، التمائم، دمية مبقورة البطن، من ها هنا مّر الغزاة، ما زال السرير يهتز، أرى على السرير رائحة طفلة، يتقّطر من شفتيها المزرقتين عسلٌ شرس.
تتقلبين على حرير حديقتي
تستيقظين فراشة
وجناحك المبلول يكتب في المدى:
الياسمين وموجة الدرّاق
فضتك الجديدة
سيزورني في اليوم ألف ردى
إن لم تحك دمي القصيدة
وتفور ثانية زهوري بالندى
ونقوم أولنا اليمام
يهش دهشتنا
وآخرنا الغمام
يصب رعشتنا
على الأرض الشهيدة
ثائر الحيالي
28-02-2010, 01:32 PM
الأستاذ مازن دويكات
أنها عودة أخرى..لمناهل الجمال...
سلمت..وسلم مدادك ..
محبتي
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir