تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : وجه في الإطار



محمد نديم
09-12-2008, 05:05 PM
وجه في الإطار

بقلم محمد نديم علي

وجه قد لا تنتبه لوجوده ، ذو ابتسامة ليست موجهة لشخص ما ، أو موقف ما.
كان وجهها دائم الظهور في خلفية الصورة.
لم يكن يعبأ بها أحد، أو يصادقها أحد ، أو يضمها لمجموعته ، أو أن يلقي إليها التحية.
************
كنت في أمسيتي الشتوية القارصة، مقشعرة مشاعري قبل جسدي ، فآثرت أن أتصفح
كتاب الصور الذي لم أفتحه منذ ما يقرب من سنين خمس من الزمن.
************
شباب الجامعة يملأهم النشاط والأمل ، تمد الدنيا لهم أكفها بصفحات بيضاء ، يرسمون عليها بحماس صورة مستقبلهم ، محاولا كل منهم أن يثبت شخصيته التي ما زالت تراوح بين نزق الطفولة وحيرة المراهقة.
************
لم يكن لها حماقات، ولم نعلم عنها إشاعات ، لم يكن أحد يعبأ أن يحجز لها مقعدا في المدرج ،
أو أن يدعوها لحفل أو لقاء في الكلية ، أو رحلة نقوم بها.
ولكن ما كان يدهشنا ، أننا كنا نراها دائما في خلفية الصور ، يمينا أو يسارا على حافة الإطار،
تمد وجهها الطفولي مبتسمة ،ومشيرة إلى عدسة المصور الذي ربما لم يرها أو يشعر بها.
************
لم أرها يوما تستعير دفترا من زميلة أو زميل ، ولم يعبأ أحد أيضا منا أن يستعير منها محاضرة تنقصه ، بالرغم من أنها هي التي كانت تعرض خدماتها في هذا الشأن .وحين كانت المكتبة تضمنا في رحلات ثنائية بين زميل وزميلة ، كنا نراها هناك تبتسم للجميع، محاولة الانضمام لأي مجموعة .بل كان الجميع يتجاهلونها ، ولا يلقون لها بالا.ولم تكن لتغضب أو تلوم أو تعترض ، كانت تبتسم.
************
لم أعرف عنها ولا أحد كان يأبه أن يعرف عنها شيئا ، لكن مظهرها كان بسيطا بحيث أنها لم تكن لتلفت انتباه أي شاب ،،، أو فتاة.
ولا أدري لماذا وجهها بالذات هو الذي يحثني الآن أن أتحدث عنه بعد سنين؟.
أذكر هذه الصورة جيدا ، حين خرجنا في رحلة إلى معرض الكتاب ، سرعان ما تفرق الجمع اثنين اثنين ، ومارس الشباب نزقهم الساذج ، ولهوهم البريء قبل أن يفكروا في شراء الكتب.ولا أذكر أن أحدا منا نحن أعضاء لجنة الرحلات قد دعاها إلى الرحلة ، لكن ها هي هنا في خلفية الصورة الجماعية تمد رقبتها النحيلة كي يلحق رأسها بحافة الصورة فيدخلها في آخر لحظة قبل التقاطها.وهي تبتسم ابتسامة راضية.
************
أما هذه الصورة فهي في يوم تكريمنا عميد الكلية لترقيته إلى منصب أعلى ، ترى أين هو الآن؟ وقع الاختيار علي وفتاتين أخريين لنقدم له الدرع. كان دخولنا مكتبه في ذلك اليوم ضربا من المستحيل ، لزحمته الشديد برجال الجامعة والإعلام. ÷ا أنا ذا في الصورة والعميد وجها لوجه وبيننا الدرع ، ممسكين به شاهدا على ابتسامات وكلمات مجاملة تعبر بيني وبينه.
يا الهي كيف لي ألا انتبه ؟ في خلفية المشهد : يبدو باب غرفة العميد مواربا ،يظهر منتصفه العلوي بصعوبة بين الرؤوس ، وكان وجهها ، بذات الابتسامة الطيبة الودود كطفل مندهش ، تمد رقبتها النحيلة لتلحق بإطار الصورة العلوي ، بإصرار عجيب ، كي تبدو داخله .
*********
بين طيات كتاب الصور، الذي كان دافئا حد الاشتعال ، كنت أقلب السنين سنة وراء سنة. رأيتها حاضرة في جميع المشاهد ، وفي كل الحالات والمواقف ، دون أن تتبرم أو تشكو، هنا ، وجهها يطل حزينا في خلفية صورة ليوم عزاء وتأبين زميلة لنا رحلت مبكرا، فلا أعلمها أحد منا بالخبر ولم يدعها أحد كي تأتي معنا للمشاركة الوجدانية.لكنها هنا وبذات الود والحميمية التي تكون عليها ابتسامتها ، هو الآن حزنها.
*********
يوم التخرج ، والآمال متوهجة والفرحة غامرة ، وبين شوق لصورة جديدة للحياة ، وحزن على انقضاء مشهد ظنناه يدوم بحلاوته التي لم تذهب من الوجدان حتى الآن ، كان المشهد صاخبا ، والأصوات متداخلة والصور منها الحاد ومنها المغبش ومنها المطموس، صادقنا من صادقنا ، واقترب منا من اقترب وابتعد من ابتعد ، لكنها كانت أيضا في خلفية صورة التخرج ، يطل رأسها وبالكاد يبدو واضحا في الصورة بابتسامتها الطيبة ورغم أنها كانت ترتدي ذات الزى وذات القبعة كغيرها من الزملاء والزميلات ، وكانت بالتأكيد بيننا وإلا لما ظهرت في
الصورة ، إلا أن أحدا ربما لم يلحظها أو يشعر بها ، وهي توزع عنوانها على الزملاء والزميلات، سعيا إلى لقاء ما في المستقبل , وربما أيضا لاحظتُ يومها ، قصاصات ورقية صغيرة ملقاة على درجات سلم الكلية ، بعد انفضاض الجمع الغفير.
*********
تتابعت سنواتي صورة وراء صورة، التقت عيناي مصادفة بآخرها ، حين هممت بإغلاق كتاب الصور ، تفحصت ، كيف لم أنتبه يا الهي ، ولدهشتي ، كانت هي الصورة الوحيدة التي لم أجد ذات الوجه الطفولي المبتسم في ود ، في مكانها الأثير في خلفيتها عند حافة الإطار محاولة الظهور بأي ثمن ، بل كانت إلى جانبي في صدر المشهد، وابتسامة البهجة والثقة تغمر ملامحها بجمال فريد،ممسكة بباقة من الزهور اعتادت الفتيات أن يمسكنها في ليلة زفافهن السعيد. وها هو العمر أحفظه بين دفتي كتاب ثقيل مغبر ، مدفون بين كتب عديدة في خلفية المكتبة الخشبية العتيقة، وفوق الجدار المواجه لي ، وجهها ، يتوسط صورتها الكبيرة ، التي يحيط بركن علوي من إطارها ، شريط أسود عريض.

وفاء شوكت خضر
09-12-2008, 06:52 PM
هناك من يمر في هذه الحياة بهدوء ..
تجد ابتسامة الرضى دوما مرتسمة على شفتيه ..
لا تحس به ، لا تراه ، لكنه دائما متواجد بهدوء ..

الصورة أراها فارغة إلا من وجهها المبتسم برضى على حافة الإطار ..
تعيش على هامش الحياة دون أن تترك أثرها في خضم هذه الحياة ..
حتى ذكراها ليس أكثر من وجه فرض نفسه على صورة في إطار ..
وحدها مع شريط اسود ..

أيها النديم ..
ينادمني حرفك وأنا أقرأه ..

كل عام وأنت بخير ..
تحيتي وصادق الود .

سعيدة الهاشمي
15-12-2008, 09:49 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

تتبعتها كلمة كلمة، تخيلت تلك التي تمد عنقها وتبتسم برضى، اندمجت مع السرد ولم أتوقع أبدا

أن أجدها وسط الإطار، ربما اعتادت مخيلتي أن ترسم لها صورة بجانبه محاولة إثبات وجودها .

أو ربما طريقتك في سرد القصة قادتني لتخيل أشياء أخرى ونهاية أخرى وهذا يحسب لك لا عليك.

لقد حظيت أخيرا بفرصة الظهور كاملة، إلى جانبك أو جانب بطل القصة، المهم تم الانتباه إليها أخيرا

أصبح وجهها في الإطار وذات الابتسامة ترتسم عليه.

تحيتي ومودتي.

راضي الضميري
20-02-2009, 12:06 AM
صورة رسمت أحداثًا رائعة لحلم جميل تحقق .
تابعت بشغف ؛ وكنت تمسك بالأحداث والتفاصيل لرحلة عمر ولا أجمل .
بارع أيها الشاعر و الأديب د. محمد نديم
نفتقدك في واحتنا ، وندعو الله تعالى أنْ تكون بخير .
تقديري واحترامي

ربيحة الرفاعي
27-04-2014, 02:01 AM
الحضور الهادئ ليس بالضرورة بوابة الخروج من المشهد، وليس أبدا بحائل دون اعتراش الصدر منه في اللحظة المناسبة

لا أخفيك أديبنا أن الخاتمة كانت متوقعة في مرحلة متقدمة من النص، سيما وقد ضيق الإسهاب في استعراض اللقطات المصورة من احتماليات التأويل، غير أن براعة التعبير وشائقية السرد حالت دون القفز على السطور باتجاهها

جميل ما قرأت هنا
لا حرمك البهاء

تحاياي

ناديه محمد الجابي
27-04-2014, 05:42 PM
بغض النظر عن القصة .. وعن المتعة والتشويق في السرد وبهاء اللغة والأسلوب
والمتعة التي أجدها في متابعة قصصك بشغف ـ أحب أن أبعث لك بسؤال أتمنى أن
يصلك .. ترى مالذي أخذك بعيدا عن واحتك التي تفتقد قلمك وأفكارك؟؟
وأخيرا أبعث بتحية لهذا القلم المسكون بالروعة.

خلود محمد جمعة
30-04-2014, 08:57 AM
الوجه في إطار قلبه لم يخرجها يوما
سرد هادئ على انغام الذكريات بعزف حزين
اسجل اعجابي
دمت بخير

نداء غريب صبري
28-06-2014, 12:18 AM
كيف لم أنتبه يا الهي ، ولدهشتي ، كانت هي الصورة الوحيدة التي لم أجد ذات الوجه الطفولي المبتسم في ود
لماذا كانت الدهشة؟
ألم يكن مثلا يعرف أنه تزوجها؟

القصة جميلة ومميزة

شكرا لك أخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
20-10-2021, 09:07 PM
نص رائع الفكرة ـ سرد متمكن لافت مما يمنح النص عفوية ومصداقية بلغة راقية موحية
قص جميل بحكائية شائقة وأداء طيب.
دمت بكل خير.
:v1::0014: