تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أسفار الرجوع (رواية)



عبدالسلام المودني
23-01-2009, 01:27 PM
عبدالسلام المودني


أسفار الرجوع
(روايــــة)




الشريــط الأول
الوجـــه الأول:
أراك قد بلغت هاهنا، تاونات أرض الجبال والرجال. يحضنك حوض ورغة الأشم بتينه وزيتونه، بزيته وعنبه، بأعراصه وأغراسه، بطيبة طبيعته و أريحية أهله. ترتوي عيناك من عيون بوعادل راكناً إلى دجنات اليأس وعتمات جور الأيام، و غلالة الحزن تسيح في نفسك الكليمة، تحمل أوزار أمك المقعدة وأختك الشاردة الساهمة، وقد كالت لكم الأقدار صفعة قوية من حيث لم تنتظروا. تتناسل الأسئلة تباعا، وتتردد في دواخلك تنتظر إجابات.
من تكون صاحبة الصوت؟ وما أبغي وراءك؟ وما علاقتي بك؟ ولما طلبت أن تأتي هنا حيث سلمت هذه الشرائط؟ لما هنا في تاونات؟ أما كان ميسر لك تسلمها في أي مكان آخر، الرباط مثلا حيث كنت تقطن وعائلتك؟ فلا تتعجل فإني رادة على أسئلتك هاته من خلال شرائطي، وأسئلة أخرى أكبر وأعمق إذا لم يستبد بك الضيق مما فيها. فتريث، ولا تتعجل.
أعود بك إلى الوراء قليلا حيث ذاك المارد الجبار في وصفه، الضخم في أرقام معادلاته، العسير الاقتحام. حيث الأقنعة تتستر خلف وجوه تستعيرونها، تخفي ملامحكم المشبوهة. حيث كانت مشاعركم أرقاما.
حيث مجتمعكم.
حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والوجوه المصبوغة. حيث العطر والنساء والإنتشاء حد الثمالة والهمسات والهينمات. حيث كلف الرجال والنساء من الحضور عن ذلك لقاء الخوض في الأعمال المزجية والصفقات المربحة. صرفت عنهم تحمل بين ضلوعك قلبا بخفق الشباب، يتنسم من عبق لذاذات ليلة مستلهمة من أجنحة الصفا، النزاعة إلى عروش الأطايب.
كانت عادتك وكان معتقدك. فأنت تحصن ساعات اللهو والعبث من تسلل الجد والحسابات. كذاك كنت تلك الليلة، ككل ليلة استقبلت عائلتك ضيوفها أو دعيتم إلى سهرة انتظمت بعلة أو انتفت عنها. حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأشداق المتسعة.
كلما ازدادت ثروتكم اتسعت دائرة معارفكم، وسمت قائمة مدعويكم في قصركم الباذخ بدار السلام، عاصمة الغنى والثراء ألويتها الشراهة والبذخ واللاسلام، في طريق ازعير. حيث حيرتكم بين بدوية ماضيكم وحضرية مصالحكم، وترددكم الدائم بين مزارعكم ومصانعكم. هنالك حيث انتشر المدعوون في جماعات تلتهم الحسابات والأعمال والكلام. كل الطرق تؤدي إلى إضافة في الأرصدة حول المسبح المزدان بأضواء مختلفة الألوان على صفحته. فبدا متأنق المظهر، بهي الثوب إذ لم يشكل استثناء. كحال خدامكم الذين اندست أجسادهم في أثواب بيضاء، وجعلوا يطوفون بينكم، يلبون دعوات الداعين ويأتمرون بأوامر الآمرين. وما أكثرهم! وفي أحد أطرافه ضمت خشبة مسرح صغير فرقة موسيقية توسطت أعضاءها فتاة استحارت أنوثتها ترنم بصوت طروب، أسر أذنك بعذوبته ورقته. فتطلعت إليه، ولعلك الوحيد الذي أحس بوجوده والآلات المصاحبة له، إذ صرف الكل عنهم وإن سمقت موسيقاهم تشنف الآذان.
عشقت الصوت إذ داعب روحك ولامس بسحره وصفائه أعماقك.
كانت أعينا ستة تلاحقك أو أكثر، وهمسات فتيات ثلاث على الأقل تدور في فلكك. رفعت إحداهن نخبها عاليا، وقد أشرق وجهها بابتسامة جذابة. جاملتها محييا، لتعود على عجل تستكشف صاحبة الصوت الرنوم.
قلما يخذل الصوت صاحبه، ويندر أن تجد صوتا جميلا يحمله وجه قبيح، ذميم الملامح. وما شذت صاحبته عن القاعدة. فالجمال هي، والنضارة والفتنة كانت. أو كنت تملك من أمر نفسك شيئا لتقرر أن تغرم أو أن تنفذ بجلدك بعيدا عن خيوط القدر التي أحاكها بإحكام حولك؟
أو كان نداء القلب فقط الذي دعاك إليها، أم أن داعيا آخر ظل رابضا بجبن خلف تسميات التجربة والبحث عن المتعة؟
نظرات الفتاة المنتخبة لك ما انفكت أن اصطدمت بإعراضك وتجاهلك لفائدة صاحبة الصوت الفردوسي الآسر. همست إحدى صاحبتيها في أذنها:
- لا تحاولي، إنه حصن منيع.
ردت بتميز مستتر خلف ابتسامة متشنجة.
- ذلك ما يعذبني أشد عذاب.
عادت تهمس بمثل نبرتها الأولى.
- إذن فهو الحب.
تطاير شرر نظرتها الغاضبة، وهي تقول مستنكرة:
- إذا كنت تقولين هذا فأنت لا تعرفينني حق المعرفة وأنت صديقتي. أنا لا أعترف بهذا الذي تسمونه حبا، وأشفق على أهله منه ومن سخافته. بل أنا أعشق ما سيرث عزيزتي. الثروة الكبيرة. هذا القصر. العقارات. المصانع. وأهيم في أرصدة أبيه البنكية، إنه ابن "إبراهيم الشرقي".
صرخت الأخرى كأنها عثرت على ثمين مفقود.
- هذه أنت كما أعرفك، يا "آمال".
أفرجت شفتيها الكرزيتين عن ابتسامة كبر.
- طبعا عزيزتي فالأعمل هي الأعمال، والعواطف لا توجد على قائمة حساباتي.
وتقدمت نحوك بخطوات واثقة محسوبة، عازمة على اقتحام عالمك المسيج وما كنت لتشعر بها وانت غريق بحر الشجو، صريع الإعجاب حد الافتتان. كنت مفتونا بسحر لوحة رسمت أمامك. بل كنت جزءا من اللوحة.
- لن تتغير يا "قاسم". حب جنوني للموسيقى.
كذاك أتاك صوتها ليشوش عليك صفاء لحظة ما عشتها قط من قبل، وبرغم الضيق والتضايق، كظمت حرجك. كنت كما ربيت وعشت داخل المجاملات التي لا تنتهي والردود التي لا تعبر بإخلاص عن صدق المشاعر في البيت والعمل وما جاورهما.
- مساء الخير "آمال" تزدادين جمالا كل ليلة.
ما أظن "آمال"، الكائن الليلي المتمرس ستجاهد كثيرا لتوقعك في حبائلها. فقالت بابتسامة مغرية تزين ثغرها الآسر:
- إذن ستدعوني لرقصة.
ولم تنتظرك لتدبر ردا لبقا تعتذر فيه، إذ أخذت عنك عناء وضع كأسيكما لتنطوق بيدك، وترتمي في حضنك برقة ولطف الثعابين، وتخوضا في رقصة هادئة على هبات موسيقى حالمة. تذوب في صدرك، كقطعة ثلج لامسها لفح شمس قائضة. أغريتما شبابا آخرين وكهولا وشيوخا، انخرطوا بعدكما في مشهد الرقص الثنائي. كم من مجبر مثلك كانت رقصته كالمشي حافي القدمين على جذى أعقاب سجائر زهيدة فرشت له وما استشعر سواه ألمها؟
ويدخل خادمان فوق البساط الأحمر المسجى على عشب الحديقة الأخضر يحملان كعكة كبيرة تغري المدعوين للإقتراب منها والتذوق مما حوت، وقد افترشت وسطها عبارة ""Joyeux anniversaire sohd أحاطت بجوانبها شمعات حمراء مجهشة، فتحلق الجمع حولها مظهرين إعجابا مفبركا، مبالغا فيه.
ما كان لأحد أن يتيه وسط هذا التيه عن صاحبة الشأن إذ كانت الأكثر تأنقا وبهاء، والأجدر بلفت الأبصار. فقد أخفت بعض جسدها الفتان داخل ثوب سهرة استبرقي حانط، حسر عن ذراعيها وجيبها وأبرزت فتحته اليمنى ساقها كما أسفر عن ظهرها وجيدها. وتربع أنف منقاذ وجها مدورا صغيرا ما بين شفتين رقيقتين ورمشا ناعسا لعينين ساعد التزيين في اتساعهما، وإبراز سوادهما، حرست كل واحدة منهما أهداب طويلة، وأطل عليهما حاجبان طويلان أزجان استترا خلف خصلات شعر منساب تدلت حتى أخفت بعضا من وجنتيها.
ووقفت إلى جانبها نسخة عنها قبل عقدين على الأقل، أكثر امتلاء واكتنازا فما كان أحد ليضيع وقتا كثيرا مخمنا حتى يعلم أنها أمها. انطلقت المعزوفات المخلدة للحظة الميلاد تذوب وسطها أصوات الحضور المنشدة بطفولية مبتكرة، لتودع أنفاسها التي هبت على أنوار الشموع آخر أمانيها تحت وابل من التصفيق. تتقبل التهاني من أمها ثم من رجل إلى جانبها أخرج من جيبه هدية لها ناولها إياها وهو يلثمها هامسا:
- عقبى لألف سنة أخرى.
- أعيشها إلى جانبك حبيبي.
لهفي على المسكينة وأمها. لكأني أبصرهما الآن في قمة الإغتباط والسعادة في تلك الليلة، فإذا هما الآن جسدان بلا روح. الأولى تهذي بكلام غير مبين، والثانية شلت أطرافها، وأفلت نظراتها إلى مكان غير معروف. صعب ما تعرضتا له. إنها آلام السقوط، وتباريح رجة الخيانة الملعونة.
في أثناء نهزة استراحتها القصيرة، تدنو من الشابة التي لم تغفل عنها طوال السهرة فتتقدم نحوها وتقدم لها كأسا مترعة:
- تفضلي.
لم تكن تتوقع ذلك من أحد لذلك أحسستها تتراجع والربكة تخالج صوتها الخجول:
- لا أشرب.
فتحت عينيك، أو جاهدت متصنعا لتبدو مندهشا:
- لا تشربين؟
- لا أفعل.
لم تدعها تكمل، إذا غبت عنها برهة لتعود محملا بقطعة حلوى الحفلة، قدمتها لها، وأنت تقول في شبه إعجاز:
- لا تقولي بأنك لا تأكلين أيضا.
ابتسمت بدعة وهي تهز رأسها.
- لا تروقني حلوى الليل.
هززت منكبيك وأنت تنظر إلى الحلوى الشهية المنظر، ثم قلت باستسلام.
- أردت إرضاءك ولكنك كما يبدو لا ترغبين في شيء أو في أحد.
وصدمك ردها بعد ذلك. لم ترد أن تطيل لعبة الذهاب والعودة، وإلا لأحضرت لها شريحة لحم أو طبقا من صنوف ما حوت مائدة كبيرة تربعت وسط الحديقة.
- لعلك أخطأت تقديرك، فأنا لست مدعوة كما يمكن أن تظن. أنا هنا للعمل.
وأشارت إلى خشبة المسرح الصغير. لم تكن تدرك أن من بين أسباب دنوك منها عملها، موهبتها، صوتها الفردوسي المخدر.
- أعلم ذلك. وصوتك الساحر سبب انجذابي إليك.
صكت صماخيك بتبرمها.
- ولعلك أخطات، إذ أنى وباقي أعضاء فرقتي لا ننتمي إلى عالمكم البراق.
كان لزاما عليك التقرب منها، واستغلال كل ما تقوله. فقررت مجاراتها. ولأنك بالعادة تحسن التصنع، والزيف كان أول ما أخذت فقد قلت ببراءة.
- دعيني أصحح لك شيئا. أنا موظف بسيط، حضرت الحفلة مع أحد المدعوين.
نظرت ساعتها بارتياب لما ادعيت. تتفحص ثوبك النفيس الغالي المفند لما قلت. لحظت ذلك منها، فقلت مدافعا عن مظهرك الذي أوقعك في ورطة تتلمس أن تنفذ منها:
- استعرته حتى أبدو كما ترين. صدقيني.
ومددت يدك تقدم نفسك لها:
- "قاسم سعدون"، أخجل دوما من قول إني فقير. لكنك شجعتني على ذلك.
وتصافحتما. حرارة يدها أذابت ندف الثلج في شرايينك فإذا هي تغلي. وغشيتك سعادة ما تمنيت انصرامها. طيلة السهرة وصوتها يداعب روحك، أليف هو لك. لامست كفها لكنك لا تدري أنك وقتها لامست قلبها البكر. تعرفت هي أيضا على شيء جديد، حرارة لم تعتدها من قبل. شيء يجرها نحوك، ويجذبها إليك بقوة. وإحساس بألفة غريبة. سلت يدها برفق، رغما عنها. شيء للأنثى دوما أن تكون الخجلى والمبادرة بالتراجع.
- "وعد".
قلت بمرحك الطفولي.
- "وعد" بماذا؟
أشرق على محياها طيف ابتسامة شهية ككل شيء فيها.
- اسمي "وعد" ـ ثم تراجعت أسفى ـ بعد إذنك، انتهت فترة الاستراحة.
أعلم أنك ككل العاشقين الجدد، تكره لحظة الفراق الأولى التي تعقب لحظة اللقاء الأولى.
انسحبت مغادرة بدلال، أو حاولت إذ أمسكت بذراعها كالمستجير بها. لعلها كانت تتمنى ذلك من أعماقها.
- إذا أردت رؤيتك، ماذا أفعل؟
حينذاك أفرجت شفتاها عن ابتسامة وضاءة، وهي تقول:
- أنا طالبة في السنة النهائية، بثانوية "صلاح الدين الأيوبي"، سلا.
لكم تكون بضع كلمات بلسما مداويا للناس، كمن ينتظر حكم محكمة شك في براءته. وقد كنت المتهم وتنتظر من قاضيك تعاطفا. وما كلماتها الأخيرة تلك إلا تصريحا لك بأنها أعجبت بك أيضا.

عبدالسلام المودني
23-01-2009, 01:33 PM
الوجــه الثاني:
أرى "آمال" ترقبكما في ركنها القصي تعض أناملها تميزا وغيظا، تستعر كأنها مرجل تغلي غيرة وحنقا وهي التي أزجت شهورا طوال تحاول التقرب منك. ولعلك أحسست ذلك منها، كما أحسست شيئا كان يبعدك عنها رغم الجمال الآسر واستعدادها لتمنحك جسدها إن أردت. لم تكن تدع مكانا ترتاده إلا لحقت بك، تقتقي أخبارك، تعدد أنفاسك، تحاول حبسها وتشديد الخناق عليك.
لا تسمع بحفلة دعيت لها أو سهرة تسهرها إلا تراها متأنقة متصنعة لطفا ورقة تخفي بهما حدة طبعها وسوء طويتها. تغازل نفسها دوما رغبة مكبوتة لتلتفت إليها، وتهتم بها. لكنك وككل الرجال لا تحب المرأة السهلة، اليسيرة المنال. كم تعبت في سبيل ذلك. وبدا الامر وشيكا دنيا منها في الأيام الأخيرة، إذ بدأت تلاحظ أنك تلاطفها بكلمات عذبة، وتحاورها بنظرات إعجاب. بيد أن "وعدا" اندرأت عليها ككابوس خزي، تخنق آمالها وتعصف بسالف جهودها. همست صاحبتها في أذنها تضغط كل كلماتها:
- ألم أقل لك إنه حصن حصين؟
- إن كان حصنا حصينا فأنا خير من يقتحم الثغور المحصنة. أقسم لكما أنه لن يكون لغيري.
عادت تهمس مرتابة، ساخرة:
- أشك في ذلك، وأرى الأمر عصيا عليك. أما علمت أنهم يلقبونه بالنحلة لسرعة تنقله من زهرة إلى أخرى. لقد طار بعيدا عنك ولما يحط.
قالت عازمة:
- ولأنه لما يحط بعد فلن يكون لسواي. لقد أقسمت لكما بذلك، وإني مستعدة لأراهنكما.
قالت الثالثة متزلفة:
- ولأني أعرفك جيدا فأنا خارج الرهان لثقتي بدهائك، وسعة حيلتك على استمالة الرجال وإسقاطهم في حبائل الجنون بك. لقد كنت شاهدة على سقوط زينة الشباب. منير الغازي، محمود التلمساني..,..,..
اتسعت ابتسامة "ليلى":
- أراهنك. وسأكسب الرهان عزيزتي "آمال".
أحنت "آمال" رأسها تشجعها على المزيد فأضافت:
- إذن أمنحك شهرا واحدا لتوقعيه، وليعترف لك أمامنا بالحب وإلا فستخسرين خاتما نفيسا، عزيزا عليك، قريبا إلى قلبك.
تساءلت مندهشة.
- ماذا تعنين؟
- خاتم الماس الذي أرغمت الشاب المسكين أن يهاديك به بعدما رأيته عند أمه وأعجبك.
- اللعينة، الحقودة تذكرينه رغم أني لم أضعه إلا مرات قليلة جدا.
عادت تذكرها بموضوع الرهان.
- انفعالك دليل خوفك من الخسارة. انسحبي صاغرة إن أردت، و...
قاطعتها محتدة وهي تصر على أسنانها حنقا وتميزا.
- بل إني باقية على أمر الرهان هذا لثقتي أنه ككل شيء أريده يخضع لي ويصير في قبضتي.
وأذكرك بأنه في حال فوزي، وهو أمر مؤكد، سأربح خاتم أمك الماسي أيضا. على أن يكون ذلك في شهرين. فما قولك؟
صاحت مندهشة هي الأخرى:
- خاتم أمي الماسي؟ مستحيل إنها لن ترضى.
- إن كانت لن ترضى فلا تعلميها، ورتبي إضاعته وسنحفظ الأمر سرا بيننا كما حفظنا أسرارا كثيرة أخرى. هه؟
فكرت قليلا متمهلة، تقلب الأمر على كل جوانبه.
- أقبل. لكن كما قلت شهر واحد فقط.
- شهران.
تدخلت "نعمى" موفقة بين عنادهما وتطرف طباعهما.
- لنجعله شهرا ونصف شهر، والبدء من الغد.
مدت "آمال" يدها إلى "ليلى" وهي تقول:
- موافقة.
صافحتها "ليلى" مظهرة ضيقا وحرجا، إذ أن غيرتها البادية من "آمال" أوقعتها في رهان تعلم أنها بسدارتها وبخلالها العابثة لن تستنكف في فعل أي شيء للظفر به، وبخاتم أمها الماسي الذي أبدت إعجابا به في أحد الحفلات. بيد أن عزاءها في كل ذلك كنت أنت ذاتك، فقد انتبهت إليك فجاة فإذا أنت هائم في تينك العينين، ظمآن لنظرة منهما رغم ارتوائك منهما. وإذا أنت نائم في فراش عينيها، تلتحف بأهدابهما. ليلك سوادهما، وأحلامك بريقهما.
لم يكن تباغض الفتاتين بالأمر الخفي، "فليلى" التي تغار من جمال "آمال" الآسر وذكائها الحاد، كانت سببا كما تحب أن تذكرها دوما في الإرتقاء بها إلى هذا العالم العلوي البراق، عالمكم. وفتحت الباب أمامها للتعرف على قشدة المجتمع وأريجه، إذ أنها تنحدر من أسرة متواضعة. وكانتا زميلتين و"نعمى"، فصرن رفيقات سهرات. ثم إنها شرعت توظف جمالا ظاهريا، وتعمل دهاء أسود. فأخذت توقع ببعض المراهقين الميسورين، وطفقت تقايض مشاعرهم وصحبتها بالعطايا والهدايا. كان شرعها المال، ومبدأها الأوحد في الحياة الابتعاد ما أمكنها عنه فقر رتعت في أحضانه. تربت في كنفه حتى غدت ابنته المتمردة العاقة. لا تقل ألا فائدة ترجى من نقل حقيقة من تكون؟ بل معرفتك بكل ذلك الآن يساعدك على هضم ما حدث معك. سييسرعليك فهم أمور أخرى كثيرة.
واستفقت باكرا ذاك الصباح على غير عادتك. بل إنك لم تنم ليلتك السابقة إلا غرارا. قضيتها متقلبا بين الأماني المرجوة والآمال المنتظرة، إذ كنت كالمشاهد لمسرحية رومانسية تلتقط مشاهدها التي تثيرك. وإثر كل فصل تسدل الستارة فتغفو ولا تستفيق إلا على ناي "كافيسيوس" أو قيثارة "أرستوكليز" والممثلون فوق خشبة حلمك العذب اللذيذ، كانت حركاتهم كفراشات بديعة الشكل والرقص.
أكنت نائما حقا؟ أم أنك كنت في مكان بين النوم واليقظة، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت؟ أم أن وجه الممثلة الفردوسي المعتق من سجون حكايا التيه يدعوك في إصرار فما استطعت رده، واستوطن مملكة خشبة حلمك المنفلت من مرايا الزمن اللزج؟
أكان حلما أم أنه حياة أخرى عشتها وتجتر تفاصيلها المتشابهة مع تفاصيل حفلة ليلتك السابقة؟
يداك الممسكتان على مقود سيارتك الجلدي تقودانك إلى وجهة غير معلومة. لم تبال أنت بذلك بقدر ما ركنت إلى أغنية لا تتفق وهدوء صبيحتك تلك.
- آه من قيدك أدمى معصمي!
انتهى بك شرودك وأغنيتك إلى البحر. الأطلسي يمد ذراعه يحضن الغرب المغربي كله. وتلج برفق إلى حي الأوادية الحالم، المسترخي في ذاك الصباح الفاتر. أخذت تتحسس دور الحي بطرفك المستكشف فإذا هو كامرأة قادمة من عوالم سحيقة الأثر ملتفة بالأبيض والأزرق، ترقب الزمن بعين متحدية تقلباته وجوره. امرأة رومانية جددت ملامحها فصارت حصنا مرابطيا منيعا ومنطلقا للجيوش الجهادية. توقف سيارتك في الطلع المطل على البحر. تترجل وتزيح عنك فتورها، لتستقبل برودة خارجية وملوحة مياهه تداعب خياشمك. نذهب دوما للبحر بحثا عن شيء فقدناه. لفرط ما تطوي أحشاءه من أسرار وكنوز. ما أضعت أنت؟ أتراه هناك في قعره ينتظر وصول يدك لتمسك به ظافرا؟
وتنتقل إلى الجانب الأيمن. تطل من هنالك كما تطل الرباط على سلا. وجعلت ترقب المباني السلاوية الملفحة في صبيحتها الخريفية تلك. بدا وجه سلا يشبه وجه بطلة مسرحية أحلامك أو أن وجهها هو من يشبه المدينة. بينهما ملامح غامضة غير مكتشفة وأخرى معلنة. لا تقل لي بأنك نسيت ما فكرت به في تلك اللحظة. لقد تصورت الرباط حياة وسلا قبرا برزخهما الرقراق كصراط بين الجنة والنار. قبر كبير حوى فيما حوى أضرحة أولياء الله الصالحين. "بركاتك سيدي اليابوري".
تساءلت لحظتها وكأنك تستفيق من فورك من لحظة تخدير سلبتك عقالك.
- ما الذي أتى بي إلى هنا؟
وإذا بك تدرك أنك لم تكن وحيدا هنالك.
رأيت عاشقين تشابكت أصابع يديهما، وأنصهرا في منظر آسر، غير آبهين يرقبان بزوغ الشمس. كأنهما يتممان احتفال ليلتهما التي لا تنتهي إلا برؤية الشمس. أو أنهما يمارسان طقسا من طقوس الحب الذي لا تنتهي فصوله إلا بمباركة الشمس.
ما أحلى الحب الذي يحتفي بميلاد الأشياء، ويتجاوز لذة الفراش إلى لذة أسمى وفضاء أرحب!
أكنت على موعد مع هذه العاطفة التي تصادفك أول مرة في حياتك الحالية؟ لطالما أبحرت دون وجهة معلومة. والليلة الماضية أرسى قاربك في ساحل "وعد" الهادئ. ستطأ جزيرتها وستتلف شراعك حتى لا تبرحها أبدا. الأشياء من حولنا على بساطتها عادة ما تمنحنا علامات نهتدي بها في سبلنا، والآن وقد بلغت ما بلغت، قد تعي أمورا أكثر. لقد حضرك يومك للقاء "وعد"، الذي تمنيت أن ترسم معها لوحة العشق العذب بألوان زاهية تبعث في قلبيكما بهجة النبض. كحال عاشقي الصباح. ولأمر كنت تجهله ومازلت، كان يومك الذي استبق ليلة لقائكما مميزا تميز ما أحسسته عند وبعد رؤيتها والحديث إليها ذاك الحديث الخاطف. أزجيته على سحابة ارتقت بك إلى عالم علوي لم تطأه قبلا. لم تكن أنت كما تعرفك، أو كما يعرفك الآخرون. لم تكن غضوبا لأتفه الأسباب، ولم تشاكس "رافان" زوج أختك على عادتك الصباحية في اجتماع مجلس إدارة المجموعة. سياقتك ذلك اليوم لم تكن جنونية. هل كنت تحافظ على حياتك حتى تراها أو لأجلها، كأنك أدركت في أعماقك أنك لم تكن تعتني بك وحدك؟ ربما.
انتبهت مجددا إلى سلا بملامحها الناعسة، فتذكرت أن "وعدا" تسكن إحدى تلك الدور، المرعية ببركات أضرحة أبنائها الصالحين الذين غيبهم ثراها ومازالت أرواحهم الطاهرة تحرس مفارطها. ولعل سحر بنت سلا وبركات أجدادها من خدروا عقلك وأتوا بك هائما على وجهك في مثل تلك الساعة وحيدا هناك. "بركاتك سيدي عبد الله بن حسون". كانت ابنة سلا فيروزة تسكن المدينة تنتظر يدك. فما تراك فاعل؟ أتراك كنت وحيدا؟ كان العاشقان أمامك يتحركان عائدين بعد أن باركتهما خصلات شمس صباحية متثائبة. تبينت في فضول غير مسبوق ملامح وجه الشاب فإذا هو أنت، أو بطل مسرحية أحلامك التي حضرها الملك "أنتيجون" في مقصورته الملكية، يصحبه "زينون" و"كليانتس" وبعض الرواقيين الذين كان يعتز بصحبتهم. وإذا أنت مشدوه، مشدود بخيوط سحرية إلى الشاب. نعم لقد كنت أنت صحبة... حاولت دون جدوى. حالت ذراعه، أوذراعك التي تطوقها من أن تتعرفها وحال شيء آخر دون استمرار ذلك كله. فقد انطفأ المشهد كله أمامك، وكأن ستارة سوداء أتت لتنهي فصول مسرحية أخرى، فإذا السديم يغلف ما حولك. فجعلت تتحسس صوت تنفسك المبعثر. لزمك بعض الوقت لتدرك أنك كنت تحلم. أوَ كان حلمك جسدا لروح حلم آخر بعثت فيه حرارة حياة أصحابه، فإذا هم يتحركون بين ناظريك، وتستشعر أحاسيسهم المتباينة؟
وتتلمس يدك زر الإنارة من على سريرك، وتفتح عينيك فإذا هي الرابعة صباحا. ماذا؟ شهقت من أعماقك: أكل هذه الأحلام عشتها في أقل من نصف ساعة إذ أنك لم تدخل فراشك إلا حوالي الثالثة والنصف؟ ألأجل كثافة كل تلك الاحداث أحسست إرهاقا داخليا عاصفا؟
أسئلة كثيرة انتصبت أمامك تحتاج إلى إجابات لا تملكها (...)
ومن تكون الفتاة التي كانت معك؟ أهي "وعد" أم "آمال" ؟ فلقد شق عليك أن تميزهما وأدركت تشابههما طولا وقدا و انسيابية الشعر الفاحم. كل شيء غريب في يومك ذاك حتى نومك وأحلامك. وصوتي الآن آتيك ليذكرك بما قلته ساعتها وما فكرت به.
لقد حاولت إبعاد أمرها عن ناصيتك. تعللت أن رؤيتها مرة واحدة، أحدثت أعطاباً في طبيعة يومك، وحتى نومك لم يسلم. ثم إنك لا تتشبت بالفتيات. لذلك لقبت في ردهات الصالونات التي كنت مدمنا على ارتيادها بالنحلة. زد على ذلك منطقك الغريب في تعريف المرأة. كنت تشبهها في لحظات سخريتك الدائمة بالبحر. تحبها كما تحبه. ولإن كنت تعشق فيه هدوءه وصفاءه، فقد كنت تكره صخب أمواجه وزبدها. ولإن كنت تستعذب زرقة مائه. فقد كنت توشك على الغثيان قرفا من تصور أمر ملوحته. ثم إن البداية بينكما لم تكن مشجعة فهي كما بدا لك محافظة جدا. وابتدرت اللقاء الأول على قصره، بكذبة كبيرة. أنكرت من تكون فعلا، وكأن الغنى والثراء معرة؟ أية فتاة كانت لتفعل ذلك بقلبك المسكين وتسحبك باكرا من فراشك الوثير إلى هذا الطلع البارد، تطل منه على دور سلا النائمة؟
تريد المزيد، فصبرا وشغل الشريط الثاني.

(يتبع)

عبدالسلام المودني
25-01-2009, 01:19 PM
الشريــط الثاني
الوجــه الأول:
من لم ينجح في فهم ماضيه سقط في فخ اجتراره. وماضيك مرآتك تبصرك من خلالها. هو درعك وسندك فيما يستقبلك من أحداث. حلمك الحقيقي الذي ما كان في حقيقة الأمر إلا صورة محفوظة في ألبوم ذاكرتك الغائرة؟ وجه بطلة مسرحيتك المتنازع الملامح. كان مشج أضداد، جمع ما لا يجمع، عين تنزف دمعا ملتهبا وعين رست بين مآقيها دمعة فرحة، طاقة أنف تتنسم من عبق لذاذات الحياة ومنخر يزفر ما في قعرها من طحلب متعفن، أذن ترهف سمعها لصوت داخلي مكشوف وأخرى تتحدث بصدق عن مشاعر صاحبتها في شبه علم، شفة تمكي مآسيها وشفة ترنم لإسعاد الغير.
وصادفت الحب في ليلة اللقاء الأول بعدما غازلتك أنفاسه، ثم تعرفت إلى طعمه بعد أن أصابتك رؤيته بالدوار، في حفلة عيد ميلاد أختك "سهد" حيث كنت موضوع رهان تعلم بأمره أول مرة. هناك في قصركم الباذخ، حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأقنعة الآدمية.
أكان يلزمك أن تسقط من فراشك الوثير لتدرك أنك كنت في حلم؟ وتلتقط أنفاسك المشتتة ثم تتحسس بيدك المرتعشة زر مصباحك وتدعك عينيك قبل أن توقعها على عقارب ساعة منضدتك.
وقمت متخاذلا إلى فراشك تستحث النوم من معاقله لكنه يرغب عن زيارتك. تقلبت يمينا وشمالا كأنك فوق صفيح يغلي.
هل الأحلام تجسيد للأماني التي نعجز عن تحقيقها أو رغبات مدفونة في أعماقنا المظلمة لحياة نريد أن نعيشها تندرئ علينا هكذا بدون انتظام في أوقات نومنا فلا نجد لها تفسيرات مقنعة؟
وفجأة يأتيك الخلاص من حيث لا تدري فكرة رائقة اهتديت إليها، فتهب من مرقدك وتغير ملابسك إلى سيارتك الناعسة فإلى طلع حلمك. شيء في داخلك كان داعيك إلى ذاك الإرتفاع الشاهق في ذاك الصباح المظلم البارد. لم يكن منظر دور سلا المستكينة إلى أحلامها الجامحة، ولا صفحة البحر المتراقصة. تمنيت أن تجدكما هناك متلاصقين، وتمسك بحلمك حقيقة، وتحيا تلك الحالة حقيقة مضاعفة. لكنك أحبطت لما لم تجد أحدا، وجلست هنالك على حافة شاهقة تنتظر.
كنت تنتظركما، وكنت تنتظر عيادة الشمس لأنك تعلم في قريرتك أن النوم لن يزورك في ليلتك المبتورة تلك، وكأنك به قد أعلن العصيان عليك. سماء ذلك الصباح كوجه حماة عبوس، متجهم، غاضب من شيء أو من لا شيء. بدأت بعض الحركة تدب في الشاطيء، إذ أخذ يتقاطر عليه بعض المدمنين على الرياضة الصباحية مع بوادر شمس خريفية محتشمة تهب من مرقدها كعروس في صبيحتها، ويدها على طرفها الناعس.
تفاجأت بوجود بعض المدمنين على الحب الصباحي أيضا لم تنتبه إليهم في غمرة شرودك. انتصب على شفتيك ظل ابتسامة، وألقيت نظرة أخيرة على المدينة المقبرة كما تخيلتها، واستدرت على عقبيك، تلوذ بسيارتك وفي رأسك شيء واحد، لايصلح لك دور المغرم الولهان. ستتعذب في جبته. فلتنزع ابنة سلا من فكرك إن استطعت.
ذا أنت في المصطبة الرئيسية للغرفة الخلفية تحتسي صوتي وكوب قهوة سوداء. تقابل المسجل، وترقب ما حوى بنهم المتطلع إلى ما فيه، كأني أراك وغيمة دكناء تظلل ناظريك. لكن دعني أعيدك إلى ركن احتل وقتا كبيرا من حياتك، عملك هناك في إمبراطوريتكم البائدة، في المجموعة الاقتصادية الكبرى، حيث المال والسلطة يتساكنان بحميمية في زوايا ضيقة، ويتحركان كيفما اتفق للتناسل والتعاظم.
في إمبراطوريتكم، حيث تعرفتم على "رافان" أول مرة، وحيث كان آخر من ودعك الوداع الأليم. أراه صبيحة ذلك اليوم، يجيب على هاتف في مكتبه الباذخ:
- آلو. "رافان" على الخط.
- ...
- صباح الخيرات.
- ...
- حسنا سأحضر في الحال.
وهب لتبدو قامته الربعة، فعدل رباط عنقه المتساوق وقميصه الأسود مع بدلته التي حملت اللون نفسه، لون سماء الرباط الخريفية. أطلت عيناه من خلف نظارتيه الدقيقتين اللتان لم تخفيا زرقتهما البادية، وألقهما تألق بشرة وجهه الكلثوم وشقرة شعر رأسه. قادته خطواته العريضة ليلحق بباقي أعضاء مجلس إدارة المجموعة، بعد أن هاتفته كاتبة الرئيس المدير العام تطلب حضوره، إذ لحظت تأخره على غير المعتاد. استقبلته بابتسامة مهنية مشرقة وهي تقول.
- صباح الخير سيد "رافان".
- صباح الخير "وجد".
باغتها بأن قدم لها وردة حمراء لم تنتبه لها في يده عند دخوله.
- مع خالص شكري على نجاح تنظيمك وإشرافك على سهرة أمس.
وقع المفاجأة زلزلها إذ لم تعهد ذلك منه، وهو الذي عرف منذ التحاقه بالإدارة المركزية قبل سنتين باحتياطه الكبير في التعامل مع الآخرين، وإن كان مجاملا في بعض الأحيان، لكن أن يصل الأمر هذا الحد، فذاك أمر مربك حقا.
بيد أن مفاجأتها لم تكن خالصة إذ أنها بدأت تستشعر ملاحقته لها. نظراته الجريئة. كلماته الملمحة لشيء لا تريد أن تضعه بخلدها، ولا أن تفكر به. وردة الصباح أتت لتلقى بها في وهدات الحيرة، ولونها رمى بها إلى التوجس من الغد القريب. لو لم يكن مرتبطا بامرأة أخرى، ربما كانت فكرت به. أما وأنه متزوج، ومن ابنة "إبراهيم الشرقي" مالك المجموعة، ولي النعمة فذاك أمر أشقى وأنكى.
ما تراه يريد منها والسعادة بادية لكل الأعين على حياته مع "سهد"؟
أتراه يبحث عن لذة عابرة، أم هي نزوة شيطانية اجتاحته من حيث لا يدري وألقت به إليها ليعكر صفو حياتها؟
وما تملك من فعل إزاءه، وهو شخص يمكن بنصف كلمة في أذن الإمبراطور أن يفصلها ويفتح عليها أبواب الجحيم، أو أن يتم نقلها إلى أحد الفروع السحيقة في أحسن الأحوال. ولن تشفع لها سنتاها في التفاني والإخلاص للإمبراطور الذي كانت تقدره كثيرا وتحترمه جدا. تدرجت في أروقة مجموعته لتصبح كاتبته الأولى، بعد أن عوضت زميلة لها ذهبت للوضع. أثبتت خلال فترة التعويض كفاءة عالية، جعلته يتشبث بها. و"رافان" هو أول امتحان صعب تمر به منذ ارتقائها إلى هذا المنصب. هو عقبتها الكبرى وعليها أن تحسن تخطيها وإلا فإن السماء ستسقط فوق رأسها.
أنى لها بالحيلة والشجاعة لتصده وتردع شيطانه المغامر، كما وقفت لمحاولات زميلات فريق السكرتارية فأخرستها دفعة واحدة، ونالت ثقة الإمبراطور لدرجة أنها أضحت مسؤولة أيضا عن ترتيب بعض سهرات العائلة؟ قهوته الصباحية، يشربها مع المراسلات العاجلة. طرق ترتيب المواعيد. تحاول إراحته قدر المستطاع، فلا تصله هاتفيا إلا بمن هو مهم، وبما هو ضروري لا يحتمل الإرجاء. لذلك كانت كذابة ماهرة ومراوغة لبقة، تختلق الأعذار بحسب الظروف. كان التردد يلفها، وهي تتناول وردته في شبه تحفظ.
- ممتنة لإطرائك سيدي، لقد قمت بواجبي فحسب.
ثم أشارت جهة مكتب مقابل.
- تفضل، الكل بانتظارك.
واجه بابين متلاصقين نقش على أولهما الرئاسة، والإجتماعات على ثانيهما الذي نقره نقرة خفيفة ليدخله بعد أن أعاد تعديل ربطة عنقه، فإذا به داخل قاعة فسيحة توسطتها طاولة مستديرة كبرى من الأبنوس الخالص أحاطت بها كراسي سوداء. تربع في أحد جوانبها صالون عصري من الجلد الفاسي الأسود، ومنضدة زجاجية أنيقة بها منفضة بنفس لونها، بينما انتصبت لوحة زيتية عظيمة خلفه.
- صباح الخير.
جاءت ردود تحيته مترددة ما بين الهمس والهينمة وشبه الإبتسام وإيماءة خفيفة من الرأس قبل معاودة دفنها في الأوراق.
من يقول أن له أربع سنوات فقط بينكم؟
بداية طلب عمل في مصنع النسيج التابع للمجموعة في فاس، فقبل الطلب للسيرة المهنية المضيئة. دراسة عليا بأحد المعاهد المختصة في باريس الفرنسية في التسويق التجاري والتدبير المالي توجها بشهادة عليا، وخبرة أربع سنوات كإطار في أحدى الشركات المتعددة الجنسيات. حال عودته إلى المغرب ابتسم له سوق العمل المحلي على غير عادته، فامتصته شركتكم منبهرة بما تقدم.
سنتاه الأولتان أمضاهما كادا جادا في بذل جهوده حتى يتقرب إلى رؤسائه، وكان له ذلك، إذ أثبت كفاءة عالية. أمضاهما يرتقي السلم ويدنو من المركز حيث أنتم بصبر وثقة. وأتته فرصته المبتسمة يوما فأمسك بها وعض عليها بنواجذه. امتدحه رئيسه عند الإمبراطور، فتم نقله إلى الإدارة المركزية حيث ستتعرفه أنت أول مرة، وسيعجبك سلوكه المهني، وتفانيه الدائم، وولاؤه المعلن. لم يكن أحد يتصور صعوده الصاروخي بينكم. واستشاط الحاقدون والحاسدون حوله، ولكنهم لم يظفروا بالحد من تقدمه. أين هم منه الآن وقد غدا الإمبراطور الثالث بعدكما؟
- ماذا لدينا اليوم؟
أتاكم صوت الإمبراطور الجاف، ليقفز صوت "محمد مبروك" مدير التخطيط والاستراتيجية وصديق الأسرة الوفي.
- لدينا دراسة جدوى مجموعة من المشاريع السياحية، عبارة عن فنادق مصنفة من خمس نجوم في كل من الصويرة، مراكش وأكادير بمعدل فندق في كل مدينة، وكما ستلاحظون أمامكم دراسة تفصيلية لهذا المشروع الأول الذي ننتظر اقتراحكم بشأنه.
تساءل الإمبراطور وهو ينظر إلى "محمد". تشبهه في كل شيء. عيناه العسليتان، وصوته القوي. أخذت منه القوة، ومن أمك الطيبة والوداعة. تلبس جبته في الشركة، لجوجا غضوبا. طاقة هائلة من القوة والنشاط، تضعها عند خروجك لتصير أمك، أو قريبا من ابنة العائلة الكبيرة.
لهفي عليها، المسكينة. كان التيار الجارف أقوى منها، فما استطاعت صده ولا تمكنت تجنبه.
- لدينا وحدتين في مراكش إضافة إلى رياض متفرقة هنالك، وثلاثة في أكادير، وهي مصنفة طبعا كما تعلمون ما بين أربعة وخمسة نجوم. أما الصويرة فليس بعد.
تدخل "رافان" وهو يحك زنمتا أذنه.
- أعتقد أن الصويرة خيار استراتيجي، كما اقترحت على السيد "مبروك". ذلك أنها تعرف مهرجانا كبيرا كل سنة، وأرى من الحكيم أن ندخلها في رؤانا، خاصة وأنه كما بلغني، هناك مجموعة من المنافسين بدأوا يفكرون في هذه المدينة كقطب سياحي هام.
كنت يومها، نصف حاضر. قلت بنصف لسان.
- ألا ترون معي أننا نلجأ دوما إلى المعاني التقليدية للسياحة، بينما يمكننا خلق وحدات إيواء مفيدة ومريحة لنا؟
وتساءل الإمبراطور مجددا وكأنه انتبه إليك فجأة:
- ماذا تقصد؟
أفاقك سؤاله لتسرسل.
- السياحة الجبلية، الغابوية، الصحراوية لدينا تنوع طبيعي يخدم اقتراحي، وعدد المهتمين بهذه الأنواع من السياحة في ارتفاع مضطرد من الداخل والخارج، ويمكننا الزيادة في أعدادهم أضعافا إذا قمنا بدعاية جيدة.
تدخل "رافان" يدافع عن مشروعه.
- إذا سمحت لي يا "قاسم". لست أريد معارضتك. أنا معك في أن السياحة عرفت ظهور أنماطا جديدة مثل التي ذكرت وأضيف إليها الصحية والثقافية والتربوية والدبلوماسية والجنسية والإيكولوجية ومالا حصر له من التسميات. أنا معك في أن المستقبل لهذه الأنواع غير التقليدية لكنه ليس أولوية ملحة. علينا كسب مساحات فورية قبل منافسينا.
لم يعجبك هجومه اللبق عليك فقاطعته.
- الصويرة التي تتحدث عنها "رافان" لا تعرف إلا مهرجانها السنوي زد على ذلك أن الكناويين أناس لا يرتادون مثل تلك الفنادق التي نتصورها.
أضاف يريد إقناع الإمبراطور.
- ليس الكناويين من يقصدون المهرجان فقط، وأولئك هم زبناؤنا المفترضون، ثم إننا سنعمل على تجاوز طابع الموسمية الذي يخيفك، إذا ساهمنا بدورنا في تظاهرات رياضية وثقافية دولية. تعلمون أيها السادة أن البحر والرياح يشجعان قيام رياضات بحرية تعرف انتشارا واسعا بين كل الأوساط. هذا تصوري للأمر.
وهزمك البحر مجددا وترديك رياحه العاتية إلى زوايا الخيبة. كنت تريد التصدي له، بيد أن الإمبراطور أتى ليحسم الموقف لصالح "رافان" ويحيلك على الإنتظار.

عبدالسلام المودني
25-01-2009, 01:21 PM
الوجــه الثاني:
لو دققت النظر أكثر في "رافان"، ولو كنت حاضرا ساعتها للمحت شررا عجيبا يطفر من عينيه. النظرات تفضح صاحبها دوما، لكنك رضخت لأمر الإمبراطور، فكذاك كان. ومجموعته تستمد روحها من روحه المسكونة بهاجس الربح المستمر والمتواصل. أنظاره مشرئبة على الدوام إلى أسواق جديدة. والعولمة أو الكوكبة لم تدع له مجالا لطول تفكير. إن أردت البقاء، عليك أن تكون كبيرا. والعالم لم يعد يعترف بالصغار. عرف فيما عرف بفلسفة اقتصادية قديمة، تقليدية لكنها فاعلة، بسيطة لكنها عميقة. الدرهم الذي تملكه ولا ينسل لك دراهم أخرى، هو درهم عقيم، وجوده لديك كعدمه. لأجل ذلك جمع ثروة مهولة. يتربع الآن فوق عرشها "رافان" بعد أن كان أبوك صاحبها، وانداحت إمبراطوريته في كل البلاد. وبلغت منتوجاتكم أقاصي الأرض وأدانيها. لم تدع مجالا يدرالربح لم تلجه بكل ثقلها، والكل يخضع خلالها للجودة المرتقبة والثمن الخفيض. معادلة استوعبها والدك جيدا، فحقق نجاحاته وفتوحاته. كذلك كان أبوك. لم تدافع بشراسة على مقترحك كما عهدك، ولم يرتفع صوتك الغاضب ليغادر قاعة الاجتماعات ككل مرة دافعت فيها عن شيء آمنت واقتنعت به. لذلك من الحضور من استغرب في سره تغير طبعك. كانت سيماء السهاد والشرود طافية على صفحة وجهك. لم تكن حاضرا تماما في الإجتماع. لقد أحبوا فيك برودك الذي لم ينغص عليهم قرارهم. كنت نصف حاضر، إذ كان نصف اهتمامك الأكبر مع بطلة مسرحية حلمك التي اجتاحته صورتها حيثما وليت وجهك، وأيان التفت تجدها ترمقك بنظرات حانية، تزين ثغرها ابتسامة رضى واستكانة. عبثا حاولت التخلص من صورتها وإزاحة طيفها الذي ظل يسكنك رغما عنك، فاستأذنت في الانصراف من الإجتماع باكرا، وغادرت المجموعة على غير عادتك قبل موعدك، تقصد سيارتك رأسا إلى سلا المحروسة."بركاتك للا فاطنة بنت النعام" "أنت تقول لها آجي، وهي تقول لك نعام".
وتتفحص في وجوه المارة بلا جدوى. منذ العاشرة والنصف وأنت قرب مدخل الثانوية التي قالت إنها تدرس بها. أنفقت أكثر من ساعة ونصف الساعة على مثل حالك ذاك من الترقب والإنتظار بلا نتيجة. وكنت قد عمدت إلى ركن قصي إذ خجلت أن تفعل فعل المراهقين الذين يجدون سعادة لا توصف في الإنتظار. وكنت قد أوقفت سيارتك بعيدا حتى لا تفضح كذبة الليلة الماضية التي ظلت كغصة تشرق بها. كنت تعلم في سرك أن داء الشرود المزمن دواؤك، وكنت تدرك أيضا أنها فرصتك الوحيدة لتبسط لها كل الذي تحمل لها رغم أنك لم ترها إلا مرة واحدة. ولكن أليست المرة الواحدة كفيلة بإدخالك جنان الحب؟
وخاب ظنك مجددا إذ لم تظهر، كأنك كنت تنتظر طيفا من مواطني العدم والسراب. بهرتك صورته وسحرك صوته، وتنازلت عن خجلك إذ اقتربت أكثر من البوابة المخصصة للطلاب عند خروجهم دفعة واحدة كسيل منهمر.
أكنت لتتيه عنها وقد سكنك وجهها واستعمرتك ملامحها؟
ألا تعقلها وقد نزعت الكرى عن جفنيك الليلة الماضية بعد أن تمثلت لك في بطلة مسرحية أحلامك؟ كنت تراها مفتوح العينين ومطبقهما، في نومك كما في اليقظة. وقلبك في ذلك كله، ألا يستشعر وجود قلبها بقربه فيرسل موجات حارة يخبرك بأنها قريبة منك، ويمنحك دفئا، فيعلمك بمكانها وإن استترت عنك أو حاولت؟
كانت زيارتك الأولى لسلا المحروسة فشلا ذريعا، ترك أثره العميق في نفسك. بدون شك أو إمعان في التشاؤم، لم يكن اليوم يوم سعدك. رحت تراكم فيه الخيبات. شيء غير مبين ذاك الذي صرت تحمله لها بعد تلك اللحظة، وألقى بك في أغوار اليأس والحسرة، وضاقت بك السبل. أتراها كذبت عليك هي أيضا، لتتخلص من ملاحقتك لها؟
بين الحب والبغض حدود وهمية، لا تحتاج للخروج من هذا والدخول في ذاك إلى جواز عبور أو تأشيرة مرور. إحساس غير معروف يفصل بين العاطفتين. وكان ما أصابك في تلك اللحظة، مزيج من التميز والشوق. تمنيت لو أنك رأيتها إذن لأشبعتها كلاما جارحا. الكاذبة المخادعة، ضحكت عليك وما نبوت في حقها إلا أن أغرمت بها. لو صدق ورأيتها الآن لـ... ضممتها إليك بقوة الملهوف وحرارة المشتاق، ولما تركتها قبل أن تعرف كل شيء عنها. أين تقطن؟ وهي سالبة قلبك بلا شك. أين تدرس؟ وهي معلمتك في مدرسة العشق. الهاتف. البريد العادي. البريد الإلكتروني. البريد الذي سيخترع مستقبلا. لن تدعها أبدا، قبل أن تتأكد من صدق كل شيء حولها. ولكن أين هي الآن؟
ولما استيأست من ظهورها، تقهقرت نحو سيارتك بخطواتك العصبية، خائبا منكسرا، وجلست داخلها والغبن إلى جوارك. شرعت تحك رتبتك وتدعك خاتم بنصرك حتى لتكاد تزيله من أصبعك، ثم طفقت تخاطب نفسك.
- ما الذي حدث لك حتى بدأت تتصرف كالمجانين تجري خلف صبية، لا تعلم إن كانت إنسية أم جنية؟ لا تعرف عنها غير الإسم "وعد". كأنها وعد عذاب، ووعد سراب بدا لك في صحراء حياتك عند اشتداد العطش؟
العطش؟ من قال إنك ظمآن لذة، و خيرة الفتيات يتسابقن لمجاورتك، أم أنها نزوة طيش عمياء لا تدري أين تقودك؟ وابتسمت بمرارة واستسلام وأنت تضيف حالما:
- ولكنها نزوة لذيذة مجنونة، تكاد تعصف بعقلي.
لحظتها بدأ شيء داخلك يهتز اهتزاز هاتفك في جيب سترتك.
- آلو من؟
- ......
- أهلا "آمال".
لقد كانت "آمال" إذن، تخطو خطواتها الأولى في أول أيام رهانها.
-........
- أنا أيضا أحتاج لمن أحدثه. إذا شئت...
-.......
- حسنا ستجدينني هناك في انتظارك.
مكالمة "آمال" أتت تعضد الذي كنت تقوله لنفسك. فالحسان يتقربن منك بكل ما أوتين من حيلة وقوة إغراء، وينتحلن الأعذار في سبيل الإلتقاء بك رغم صيتك الذائع من أنك لا تطيل عشرتهن، لذلك صدق حملك للقبك. بيد أنهن اخطأن كثيرا، و"آمال" من بينهن، فقد صرت الآن في خدمة الملكة مستعدا للتضحية بأي شيء في سبيلها.
هي ذي "آمال" لا تشذ عن قاعدة من عرفت قبلها. لقد كنت تشعر أنها تتقرب منك منذ مدة وتجاهد لأجل ذلك جهادا دائما. فلتكن هي من تنسيك وعدا كاذبا، اسمه الحب، وهي كفيلة بذلك، إذ أنها تملك قوام ذلك. جمالها الآسر وروحها الخفيفة وظلها اللطيف. كل الأسلحة صالحة في الحرب والحب. و"آمال" كانت مستعدة لاستخدامها جميعا لتمتلكك. لم تكن تحبك كما علمت متأخرا. كانت تود امتلاكك، أو امتلاك ما ستملك بعد أبيك.
أدرت محرك سيارتك، تداعب نفسك المضطربة آمال في "آمال". وداعا سلا!
كانت "آمال" منفاك الاختياري من وطن ساعة أنجبك أغرمت به، ونأيه عنك أجبرك على الرحيل وكأنك رددت ما قاله شاعرغاضب.
وإذا نبت بك بلاد فأرحل فكل بلاد الله أوطان.
شيء تبغضه دوما. ثقيل على قلبك، إسمه الإنتظار. لم تتعود عليه قط، وترى اليوم مشروعك محال عليه، ولقاء "وعد" انتظار وهم، وأنت جالس في بهو الهلتون تنتظر قدرا محتوما، "آمال" التي حركتك يد الأقدار إليها كدمية لا تملك من أمرها شيئا إذ تعسرت السبل وضاقت الجنبات. هي الآن تمارس عليك أقدم ألاعيب النساء وأفتك سلاح يمتلكنه، الغنج وهي أستاذة الفتنة الزائفة والدلال المفبرك. نصف ساعة تزجيها ثم تأتيك زغرودة أمعائك تبشرك بمولود تختار له إسما، الجوع. تتذكر أنك لم تأكل شيئا على غير عادتك منذ إفطارك الخفيف في الصباح الباكر.
الكل اسثثناء اليوم. صبيحتك كانت إستثناء. تعقد عزمك على المغادرة، تريد أن تفعل لولا أنك تبصرها، بدلالها الإستثنائي تلج في كامل بهرجها. متغندرة في ثوبها القاني القصير، وانسدال شعرها العاجي المموج على كتفيها كشال حريري. أحمر الشفاه الذي أصبغ ثغرها الشهي البهي شدك إليه شدا. ظمآن أنت لتينك العينين الخمريتين الصافيتين اللتين طفقت تغرف منهما وترتوي من لحظهما. كانت تلك "آمال" التي أغرقت شبابا لا حصر لهم في بحرها ولم تبق لهم ذكرا.
- آسفة إن تأخرت قليلا.
همست وهي ترميك بقبلة أودعتها سحر فتنتها امتزج بعطرها، المدوخ.
- كنت على وشك المغادرة يكاد يقتلني الجوع.
- أنا أيضا لما أتناول شيئا.
كان تصريحا منها لتدعوها، ما فعلت بسرعة.
- إذا أردت، فلنقصد مطعم الفندق.
وهزت رأسها إيجابا. صعب جدا أن تنتقل من عاطفة إلى أخرى، لكن من السهل جدا الإنتقال من إمرأة إلى أخرى. كنت متفكرا تقارن بين السراب والحقيقة، بين التمنع والإيباح، ذاك طيف تمكن منك ومن أحلامك، وهذا كائن ليلي مستعد ليستلقي على فراشك بـ... وبدون دعوة.
- ألهذا الحد لا تروقك رفقتي؟
كلماتها اجثتك من غياهب الشرود، فأعلنت مداريا.
- لمَ تقولين ذلك؟
نظراتها الجريئة تشعرها تغوص عميقا في نفسك تود إقتلاعك إلى الأبد.
- لأنك تبدو متضايقا، محرجا، مترددا، لا أعلم. تفكر في أمر ذي بال، في عزيز.
أفرجت شفتاك عن ابتسامة متشنجة باهتة، ولم تحر جوابا. كنت كذلك فعلا، ولو أنك برفقة أجمل الكائنات الليلية التي عرفتها، لم تستطع بسحرها أن تجتذبك إليها، ولم يقو عطرها النفيس الغزير أن ينسيك عطرأنفاس "وعد"، الذي مازال يحتل خياشيمك. "وعد"، نعم ابنة سلا المحروسة عملت عملها فيك." بركاتك سيدي بوحاجة". تبرز عيناك فجأة، كانهما وقعتا على طيف عفريت أمامك. ترمي معصمك بنظرة بلهاء عاجلة، فإذا هي الثانية إلا ثلث. تنتفض من مكانك، بلا كلمة، ولا إذن كالمسحور. تنصرف مهرولا، وتذر "آمال" هناك مشدوهة كأنك صفعتها على حين غفلة منها، أو صببت عليها دلو ماء بارد فحاولت أن تناديك بعدما استفاقت.
- قاسـ...
لكنك ابتعدت عنها كفاية، لتبتلع ميم إسمك، وتبقيه أسيرا بداخلها، ويظل قاس، مفرجا عنه إلى حين. ندت عنها حركة عصبية، إذ ضربت يدها في الهواء حانقة ساخطة. صوت بداخلك كان قد همس لك باسمها، ودعاك إلى تصرفك ذاك، إذ فكرت بسرعة أنه قد لا تكون لديها حصة صباحية، وأنك ظلمتها. بدا لك وجهها الفردوسي، خال من الكذب والخداع، فلبيت النداء على عجل تستحث سيارتك اللاهثة تخترق جسر ما بين العدوتين مع أنها ساعة الذروة، إلا أنها أشد وأقوى من الجهة الأخرى، إذ أن السلاويين يعودون إلى أعمالهم يزحفون زحفا في زحام خانق، وصومعة حسان ترقب وجهها في أبي رقراق كحسناء تتجمل أمام مرآتها. وتصل إلى "صلاح الدين الأيوبي" فاتحا كما كان، في وقت قياسي. لم تنسك عجلتك ولهفتك الحذر، إذ أوقفت سيارتك بعيدا، بيد أنك تخليت عن خجلك الصباحي الأول، فإذا أنت واقف أمام مدخل الطلاب ترقب حضورها. وتتطلع في الوجوه بشغف، وإذا نبضات قلبك تتواتر مسرعة، إذ أبصرتها تتقدم رفقة شاب يصحبها فتندفع نحوها دون مقدمات لتلمح البغتة على وجهها والإضطراب. مددت يدك تصافحها متجاهلا من معها:
- "وعد".
عددت الزمن توقف لحظات، ويدك في الفراغ تنتظر إشارة منها أو حركة، قبل أن تفعل لتعاود الدنيا حركتها المسرعة جدا. قالت بارتباك جلي وخفوت ظاهر.
- أهلا.
- كنت أريد محادثتك.
بدا أنها بدأت تتغلب على بعض ارتباك دهشتها الاولى.
- لدي حصة الآن كما ترى.
قلت بلهفة.
- أنتظرك هنا حتى تفرغي منها.
كنت مستعدا أن تنتظرها عمرا آخر لو دعيت لذلك. انتبهت إلى طيف ابتسامة في عينيها وهي تقول مغادرة.
- الرابعة. إذن.
وانتبهت أكثر أنها ترافق شابا جعل يرقبكما بعين مرتابة وهو ينتظرها لدى الباب. وجهه مألوف لديك، لكنك أضعته في قمة الإنتشاء، وزحام وجوه معارفك. وسيطر وجه "وعد" التي أزاحت الجميع واستفردت بحكم مملكتك.

(يتبـــــع)

مروة عبدالله
25-01-2009, 03:35 PM
أنتظر باقي الرواية أخي
فأنا متشوقة لمعرفة النهاية

دمتَ بكل خير ومازلت أتابع
محبتى

عبدالسلام المودني
28-01-2009, 01:34 AM
العزيزة مروة

شكرا لمتابعتك..
دمت على قيد النور.

عبدالسلام المودني
28-01-2009, 01:36 AM
الشريــط الثالث
الوجــه الأول:
ترى كم هي قصيرة مدد لقيا الأحبة مع طول الإنتظار، وشدة الوجد؟
كلماتها ماء أردته يطفئ نارا في جوفك، فلما فارقتها إذا أنت أشد إحتراقا وأكثر عطشا.
طلتها خمرة معتقة سقتك رشفة منها، فإذا أنت ثمل سكران.
الرابعة ساعة ولادتك، هي مغنمك. وشيكة جدا، دنية منك. ساعتان، دهر، دهران.
وقررت أن تفنيهما في سلا المحروسة. لن تذرها حتى تظفر بابنتها الساحرة، حفيدة الزهاد والصالحين. خطواتك الشاردة تقودك عبر باب سبتة العتيق، الذي توارت خلفه دور منقبظة على نفسها. افترش أهلها الممرات الضيقة. تردد جدرانها نداءات باعة الفواكه والخضروات، والأسماك الصباحية. يذكرني شعورك ذاك، بالمرة الأولى التي احتضنتني أزقتها. كنت تائهة أبحث عن بعض أيامي. كنت أشبهها، وأراك الآن لا تفرقنا بكثير. نداء الأمومة تحرك داخلي، ودعاني إليها. حبي لإبني قادني إليها حيث ألقتنا جولات بحثه عن الرزق. أراه الآن، وتراه معي يوما، وقد إفترش أرضها، ورفع عقيرته يعرض بضاعته مع العارضين. لعلك تدرك الآن أنك في قلب جوهرة صغيرة. مدينة شعبية، ملمومة حول نفسها. تناسلت أحياؤها، وتمردت على حصار أسوارها كأورام سرطانية قاتلة، انتشرت كالفطر في زحفها المتواتر. والأسماء دوما جميلة وديعة الرحمة، السلام، كريمة، الإنبعاث رغم أنها تتصف بغير تلك الخلال. عيون منطفئة لوجوه بئيسة دعكتها الأيام تقابلك في مسيرك. ألقى بها العوز حيث هي، وتقيأتها الأيام على طريق الحاجة، وشكلت ملامح غير مبينة، عصية الإختراق كعالمكم الفلكي. لعلك تدرك الآن أننا ألمكم الدائم، و"وعد" جزء منا. هنا تعلمت أول دروس حب الحياة.
تنعطف يسارا حيث "السوق الكبير"، تنفذ منه إلى " سوق الغزل" وطفقت تكتشف الزوايا منبهرا بنمط حياة غريب عنك انبهارا طفوليا.
ثَم حيث السلع الزهيدة معروضة للبيع بأثمنة أزهد، وحلقة الدلالة المنتصبة في ركنه الأيسر شاهدة على "بحبوح" وحكايا "سيدنا علي وراس الغول"، و"سيف بن ذي يزن" هي اليوم معرض كل ما قد يباع. يتحلق الناس هناك كما في حلقات الذكر في زاوية "سيدي علي بن حسون". ينشط هذه رجال ونساء ثوبوا الحاجة إلى ريالات قليلة يجابهون إكراهات العيش ومسؤوليات إطعام الأبناء، وتحضن الأخرى راجين حلول بركة السيد لقضاء الحاجات الكثيرة المستعصية، وبعض الحسنات يجابهون إكراهات العيش ومشاكل الأبناء المتفاقمة. يتحلق هؤلاء حول الدلال وحوائج بيوتاتهم التي تجمعهم بها علائق متينة انتهت إلى البيع أو إلى طلاق رجعي، إذ قد يدلل حاجته " العزيزة" اليوم في صراع البقاء، أو لتسديد فاتورة، أو على بلية حشيش، أو مقامرة في سباق الخيل أو الكلاب أو الفئران، ويصادفها بعد مدة، وقد أعادها من كان في ميسرة ساعة ضيق الأول وحرجه، فيعاود شراء ما كان يملك، ويجدد الصلة بعد أن بترتها الحاجة، ويفك بذلك ضائقة من فعلها معه قبلا دون علم أحدهما بذلك، ولا إرادة مدفوعة، أو حسن نية مقصودة في تضامن عجيب غريب. والرجال هنا كما النساء معنيون. الكل يناقش الثمن ويبدي ضراوة وحدة مشروعين مادامت لقمة الأبناء، أو إشباع بلية هي الهدف.
ساقك هواك وألقى بك حيث رأيت ما لم يسبق وأن وضعت عليه عينيك من قبل. البؤس عنوان كبير للحياة. هو من يبيع ويشتري. يباع ويشترى. والجوع يتخم الناس حتى ليتجشأونه. وتدفعك أمواج البؤس، والشرود من "سوق الغزل" إلى "سوق سيدي مرزوق"، ومنه إلى "الحرارية " و"القيصرية" و"الصياغية " إلى قلب المدينة، فساحة الشهداء التي تدلف منها إلى شاطئ البحر حيث الأمواج تتطامى وتترامى أمامك. تلفحك أنسام خريفية طرية تداعب روحك، بعثت من الرقراق المتلألئ كسلسلة فضية في جيد غادة متدللة. تطلعت إلى الرباط التي كانت طلعك صباحا، فبدت لك عصية إذ ارتفعت أسوارها في كبر ولا مبالاة. صرت جزءا من لوحة سلا الكئيبة. يحضنك إذن بحر المجاهدين الذي انطلق منه يوما "العياشي السلاوي" لردع الغزو المسيحي، وحيث دحر البرغواطيون وكانت نهايتهم داخلها على عهد المرابطين. تلقي نظرة على ساعتك فإذا هي الثالثة والنصف. لا مجال لتأخرك عن موعدك الأول معها.
تؤوب مسرع الخطى إلى "صلاح الدين الأيوبي". محلات المدينة العتيقة تعدل مذياعاتها على نفس الموجة. فتبدأ أغنية "للحسين السلاوي" عند العطفة السفلى لتنهيها في العليا.
المدينة تفيض بسكانها. تلوح وجوههم المدبوغة، القلقة. وتندرئ عليك "آمال" من حيث لا تعلم. تغضن طرفها في شبه كلام. خيط دقيق يربط بين النوعين. ثمة تشابه عكسي بين الوجهين. وجه وجوه السلاويين ووجه "آمال" التي كانت ضحية فشلك الأول مع زيارة سلا الصباحية، وتراها الآن تستعد لتعاود الكرة مجددا بلا كلل ولا ملل. ولكن لا ذنب لك ولا جريرة في كل ما حدث، إذ كنت مسحورا، ولا تملك من أمرك شيئا حتى إنك لم تقاوم زحف "رافان" كعادتك كل يوم.
وكان مغنمك الوحيد في سلسلة هزائمك، هذا الموعد مع "وعد".
أما "وجد"، فما عادت تجهل شيئا من ملاحقة "رافان"، وضاقت دائرة حصارها، بعد وردة الصباح الحمراء المشهودة، ومكالمته الهاتفية، بعد ذلك، الرقيقة جدا يعيد ويكرر شكره وامتنانه على حسن صنيعها في سهرة الأمس، إذ كانت المشرفة عليها، وكانت من سهر على إنجاحها. الكعكة الكبرى والمأكولات والشراب والفرقة الموسيقية الشابة التي فتحت لك أبواب قلبك وأضاءت قطعا منه. كل ذلك كان من المقدرات.
وندل السهرة، ولوازمهم. كانت فعلا القائمة المشرفة على كل شيء. كانت جندي الظل الذي يكد ويشقى لتخلق لكم منظرا بهيجا، ومتعة لأنظاركم ونفوسكم. شكرها صباحا، وعاود بعد ذلك، وهي تعلم أنها ذرائع لشيء آخر في نفسه بدأ يظهر شيئا فشيئا، فإذا به واضح أمامها، إذ وصلتها ورقة من مكتبه تفيد أنها ستسافر رفقته إلى أكادير، نهاية الأسبوع لإعداد تقرير حول سير وتقدم الأشغال هنالك، وللتعاقد مع مستثمرين أجانب سيتم استقبالهم بمطار إنزكان الدولي. لم يكن سفرها داعيا للبغتة، فهي تعودت ذلك. لكن أن تسافر مع "رافان" فذاك ما مسها بالإضطراب والإنقباض في آن. ترددت في أعماقها أسئلة محيرة.
من عوض من؟
أهي التي حلت محل كاتبته "لطيفة"، أم أنه من فعل بدل الإمبراطور؟
أيعقل ما يقوم به الآن تقربا إليها؟ ولكنه شخص متزوج ومن "سهد" أختك، وهي فتاة قمة في الجمال، زد على ثرائها، وهي من عائلة كبيرة معروفة. كم راكمت من حسنة. ما تكون هي إلى جانبها؟ صحيح أنها فاتنة، ولها جاذبيتها كأنثى، وذ على ذلك أنها حلوة الحديث، ولكنها منافسة غير ذات وزن إلى جانب زوجه. أم هو شيطان الشهوة الأهوج لدى الرجل، يبطر نعمة متاحة، ويتمرد عليها ابتغاء الحصول على ما هو أدنى عند أخرى بعد طول تخطيط وتدبير، أم تراها أشياء أخرى لم تكن تعلمها في حينها، وأزاحت الأيام عنها سترها؟ كانت بادية الربكة، ظاهرة الإنفعال حين رن الهاتف، فإذا صوته يصلها من الطرف البعيد.
- "وجد".
- نعم سيد "رافان".
- توصلت لا شك، بأمر سفرك رفقتي إلى أكادير.
- نعم سيدي، وإن كنت أتساءل لماذا لا ترافقك الآنسة "لطيفة" كاتبتك؟
- آه، للسيد "إبراهيم" مشاغل كثيرة نهاية هذا الأسبوع، ولذلك طلب مني تعويضه، واقترح علي أن ترافقينني لمعرفتك ببعض أعضاء الوفد الأجنبي الذي سيحضر، وأصارحك أن الامر راقني وأسعدني كثيرا لما هو مشهود لك من تفان وكفاءة قل نظيرهما.
- شكرا لك سيد "رافان".
- إذن وإذا سمحت، أدعوك لنتباحث في إجراءات السفر وبرنامج العمل وما إلى ذلك.
- حسنا، سأحضر لمكتبك الآن.
- لا، ليس الآن. قصدت أن نتتناول شيئا معا، إذا لم تمانعي.
- لا مانع لدي البتة سيد "رافان"، ولكني منهمكة في عمل مستعجل، ثم إني أخشى إن اتصل السيد "الشرقي" ألا يجدني.
- لا تخشي شيئا فذلك داخل في صميم العمل، ولتعوضك واحدة من طاقم السكرتارية. إذن أنتظرك حتى تنتهين مما هو مستعجل لديك، أم لك رأي آخر، "وجد".
وهمست المسكينة في داخلها. لا رأي لي أمام جرأتك التي تخنق مقاومتي.
- حسنا سيد "رافان". ليكن كما أعتقد عند الثالثة والنصف.
- إذن سأنتظرك خارج المجموعة.
مستعجل جدا "رافان". يحدد هدفه، ويقصده مباشرة دون تأخير أو مواربة، ولا يني عن فعل المتاح في سبيل تحقيقه، و"وجد" أخذت على حين غفلة وما استطاعت مجاراة سرعته ومقاومة حصاره. استغل فراغها العاطفي البين، وقلة تجربتها. مسكينة كانت "وجد"، كما كنت في وقوفك بمحاذاة باب "صلاح الدين" كمراهق أعجبته لعبة الإنتظار التي احترفتها. مس رأسك الدوار وأنت تلمحها تخرج مسرعة بعدما رمتك بنظرة قصيرة، ثم أخذت تحث مسيرها كأنها تود الإفلات منك. أصابك الغضب حد السعار. واستعرت الدماء في شرايينك، وتصاعدت في غليانها إلى ناصيتك. عادتك حكاية كنت قد سمعتها عن أهل سلا، وأضحت تقال فيهم للتندر والتفكه.
أحقا يصيبهم شيء في عقولهم مع اقتراب العصر ودنو إغلاق الأبواب الكبرى؟
لماذا إذن منحتك وهما إذ أضمرت الفرار منك؟
كنت حكيما فعلا إذ قررت تعقب خطاها لتطلب منها توضيح تصرفها ذاك، فإذا هي تموج بين الخلائق الذين تصورتهم للحظة يصرخون جميعا. المدينة تجأر ونأمات بنيها وصراخهم يمزق العنان. لم تزل ناظريك عنها، حتى قادتك المطاردة إلى وسط المدينة حيث ساحة الشهداء. شهيد الحب أنت، صريعه. أخذت تخفض من سرعتها، لكأنها أنهكت من إصرارك، والتفتت إليك وهي ترسم ابتسامة مضيئة على وجهها المضرج بحمرة عذبة.
- كنت أخشى ألا تفهمني.
كنت تلهث - إذ المطارد دوما يتعب- فقلت بجفاء غير مستوعب ما تقول:
- ماذا تقصدين؟
- لقد اضطررت إلى كسر طوق المراقبة المفروض علي.
- ممن؟
- من الكل. كأنك لا تعبأ بما قد يقوله الناس عني لو لمحوني أخرج مع غريب.
لم تكن تدري إحساسها ولا شعورها على الرغم من أنها لم تكن تتوقع أن تعاود رؤية "قاسم سعدون" بعد سهرة الليلة الماضية، على أنها تمنت ذلك من أعماق نفسها.
أعجبتها وسامته، وخفة ظله، وكفاحه في سبيل العيش، وأشياء أخرى لم تجد لها أسماء في قائمة الموجودات دفعتها إليك. وكان "قاسم سعدون" كما قدمته لها، فارس أحلامها أزجت ليلتها متقلبة في فراشها. تنتظرك في بيت الزوجية، بعدما تقدمت لها، وقد أعدت لك وجبة سعادة تقتسمانها في عشكما الصغير، الحالم. صغيرة هي أحلام الصغار، لكن هل تتحقق كل الأحلام على صغرها؟ لو صح ذلك لحلم الناس صغارا، ولكن ذلك شيء محال.
واليوم بعدما رأتك لم تكن ربكتها وترددها فقط لقربك من وسطها حيث تدرس، أو لأنها كانت رفقة زميل دراستها، ورئيس فرقتها الموسيقية، وشبه أخيها. لكن ذلك كله كان اندهاشا وعدم تصديق أنها في بداية تحقيق ما رأته في أحلامها.
لأجل ذلك أنفقت كل حصتها تفكر في طريقة تتخلص فيها من "محمد" زميل الدراسة ورفيق الدرب فأوهمته أنها ذاهبة للمرحاض، وأوصته أن ينتظرها داخل المؤسسة حتى تتأكد أنه سيبقى هنالك عند خروجها لمقابلتك، وكان لها ما أرادت. لأجل ذلك أيضا، خرجت متسللة، مسرعة الخطى كأنها مطاردة، تحاذر أن يراها أحد من معارفها، وليس للفتاة إلا سمعتها وحسن سيرتها في مجتمعاتنا وإلا لحقتها وصمة الفجر أبدا. وحسبتها تسخر منك.
أرى الآن ابتسامتك من سخرية الموقف. جميل أن أعيد إلى ذاكرتك كل هذه الأحداث لتعيد اكتشاف خطواتك الأولى في الحب. وتكتشف خيانة "رافان" لأختك "سهد"، إذ ضمه و"وجد" في ذلك اليوم ركن قصي في مقهى العاصمة، فإذا به يباغتها بسؤال دون تقديم حين قال:
- آنسة "وجد"، أريد رأيك صراحة. هل أبدو لك سعيدا فعلا؟
- هه؟
واتسعت عيناها دهشة.
- لست أدري سيد "رافان"، ولكني أراك كذلك.
- أرجو أن ترفعي الكلفة بيننا، والألقاب. ألسنا صديقين الآن، نتدحث عن أمور شخصية. سأفعل أنا يا... "وجد".

عبدالسلام المودني
28-01-2009, 01:42 AM
الوجــه الثاني:
ازداد اتساع عينيها وهي تنصت له، وهالها تسارع الأحداث وتلاحقها، ولم تدر ما تصنع حيال نظرته الجريئة إلا أن حاولت الفرار بنظراتها فإذا هي تقع على حوض أكواريوم زين بهو المقهى. شدت لمطاردة سمكة سوداء عنيفة لأخرى جميلة اللون صغيرة الحجم. تفر بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة. فوجئت بيده تمسك يدها بحرارة كالمستجير بها ثم قال بتأثر.
- لست كما أبدو للجميع. إني أعذب يا "وجد".
شيء أن تكونا أنتما في نفس الوقت في مقهى "الموعد" قبالة بلدية سلا. كان النادل يضع لـ"وعد" عصير البرتقال حينما همست مهينمة.
- شكرا.
أتذكر ما قلته لها ساعتذاك؟
- أنا من المجدودين لتقومي بكل هذه المغامرة لأجلي.
خضبت حمرة الخجل وجنتيها، فأضفت:
- هل توقعت رؤيتي بهذه السرعة؟
كان صوتها نغما يهز روحك طربا.
- لست أدري، لكني مسرورة لذلك..
أخذت تكشف لها حقيقة ما تحمل.
- لقد كنت بطلة أحلام ليلتي. منذ فارقتك بالأمس وأنا أتمنى أن أعاود لقاءك، وأنت؟
بدا كأن الدمع سينفرط من عينيه، وأخذت تنظر حولها بانفعال مكبوت، تبحث عن ملاذ، فإذا هو دوما الأكواريوم حيث السمكة الشرسة ماتزال تتعقب السمكة الفريسة بلا كلل. كانت تخشى فعلا أن يكونا عرضة لعيون الآخرين المستطلعة في فضول، فقالت مواسية:
- تمالك نفسك سيد "رافان". ماذا سيقول الناس؟
ثم استلت يدها برفق منه أو حاولت، إذ عاود إمساكها بقوة وضراعة.
- "وجد"، أنا أحبك.
صكت الكلمة أذنيها، قالها هكذا دون تقديم، أو سابق إخطار. لم تظهر عليه أعراض تلك الكلمة كي ينطقها وتصدقها. لم يبد تقربا منها إلا في الأيام الأخيرة. أتراه فعلا كان يعيش فراغا عاطفيا مثلها؟ لقد كان لتوه يريد البكاء، يستجدي عطفا وذلك ما نجح فيه فعلا، أو كاد.
سؤالك المباشر ذاك، أتاها من حيث لم تتوقعه. وبدت الأشياء تركض مسرعة بينكما. لم تكن من جنس كائنات الليل التي تخبرها، يتصنعن دلالا يفقدها أنوثتها. كانت مبتدئة في دور الحبيبة، فطري كل شيء لديها. لم تحاول أن تخفي ما تحس به اتجاهك. أخذت تتفحص عينيك وهي تهز رأسها علامة الإيجاب.
وسحبت يدها بقوة وهي تتمالك غضبا رغما عنها بنبرة صوتها وهي تقول:
- لقد كنت أعلم ما تخطط له. فثق بأنك أخطأت حساباتك هذه المرة سيد "رافان". لست كما تعتقد ثم إنك متزوج...
قاطعها متأثرا:
- وتلك مصيبتي...
قاطعته بدورها محتدة:
- لا شأن لي بحياتك الشخصية. جئنا لنتحدث عن العمل، إذا عاودت الكرة معي سيد "رافان" سأضطر إلى الإعتذارعن سفر أكادير، وليقع ما يقع.
وهبت من مقعدها تاركة كلماتها الأخيرة تائهة بينهما.
- لا يمكنني إيذاءك. ثقي بي.
وتخرج غاضبة، مسرعة وتلقى نظرة أخيرة على الأكواريوم، فإذا الفريسة مواصلة فرارها في عناد واستبسال وقد نالها التعب أمام إصرار الشرسة. أتستمر هكذا في الفرار إلى ما لا نهاية؟ أشك في ذلك حقا.
سماء الحبور تظلل رأسيكما. جميل جدا أن تدرك أن قلبا آخر ينبض بإسمك في كل آن وحين، والأجمل أن تصادف روحا أخرى، تكتشف أنك تعرف تضاريسها خير معرفة دون أن تطأ أراضيها. أكنتما في لقائكما ذاك تحتاجان إلى كلام؟ قطعا لا، وذاك ما أدركتماه، فإذا نظراتكما تتحدث عنكما، وتخرس لسانيكما. قصرت الكلمات أن تسمو لعاطفتكما وشعوركما. كان كل شيء استثناء في ذاك المساء السلاوي، العذب في كل تفاصيله. "بركاتك سيدي لحسن العايدي". كان الحب انتصارك الأول، وانتصارك الأهم في يومك المشهود ذاك.
- حدثني قليلا عن نفسك.
كان سؤالها يطربك، وإن أفاق عليك لعنة كذبتك. تناسيتها وقلت بمرح طفولي بريء.
- إسمي "قاسم"...
قاطعتك وهي تضحك أيضا بعمق.
- "قاسم سعدون"، موظف بشركة. قلت لك حدثني قليلا عن نفسك، ولم أقل أعد علىّ ما قلته بالأمس.
طالعك شبح الأمس مرة أخرى، ورطته، كذبته. لعنت في سرك الكذب ومخترعه وداعيه، وغناك الذي ألقى بك إلى هذه الحافة المدمرة، وفقرها الذي أحرجها أن تصادق غنيا لما تحمل في نفسها عليهم، من أنهم متلاعبون. شبح قد يعصف بهذا الجنين الآخذ في التشكل.
لعلك الآن تذكر جبنك لحظتها. كنت تود مصارحتها لكنك جبنت وخشيت ردة فعلها. وما يدريك؟ فلو صارحتها ساعتها لعظمت في نظرها أكثر، لكنك لست الملام. وإذا بك تخطو خطوات أخرى في مستنقع كذبك، سيشق عليك الخروج منه فيما بعد.
- عائلتي من مدينة فاس.
- ألا تقطن معها هنا؟
- بلى، ولكننا أتينا من فاس.
- "بركاتك مولاي ادريس"، وأين تقطنون بالرباط؟
وشرعت تفكر قبل أن تنطق كقاض شيء أن يحكم على ذي صلة بالإعدام أو المؤبد.
- العكاري.
أترى الآن أن الكذب على صغره، يجر ما هو أكبر منه فالأكبر، مع كل ورطة تحاول الخروج منها إلى وقت لا تستطيع معه هزم الغول الذي صنعته بيدك، أو على الأصح بلسانك.
سماؤكما صافية لا غيم فيها يحجب شمسها إلا هذه الكذبة التي تهددها. تزدرد ريقك، ويصل صوتك إلى أذنيها مرتجفا، كأنك تبوح خيانة باسم عضو سري في حركة ثورية للمخبرين لا باسم الحي المفترض لسكنى "آل سعدون". خشيت أن تكون قد أدركت اضطرابك، ولكنها، المسكينة تراك ملكا منزلا لتوك لتقيم سعادتها على الأرض.
لفرط ما تمر الأوقات السعيدة التي نتمنى خلودها. رفعت رأسها إلى الساعة الحائطية فأجفلت من مكانها إذ كان عقربها الصغير يحاذي السادسة وكبيرها شارد بين العاشرة والحادية عشر.
- متى أراك؟
قلت متلهفا، كأنك وقعت على جوهرة تخشى ضياعها من بين يديك.
- غدا لا يمكن. الجمعة الساعة الرابعة إذا أردت.
- لن أعيش الغد إذا لم أرك فيه. لكن لا بأس بالجمعة. أين نلتقي؟
- هنا إذا أردت.
همست جذلا.
- نعم، هنا.
صعبة لحظة الفراق ساعة أول لقاء. مخاض عسير ستعرفان بعده إن كان الوليد المرتقب سيعيش أم الموت مآله. لكم تمنيتما أن تسمعا صراخه يوما، إذ ما أتعسكما بدونه. تصافحتما طويلا. تذكر الآن أيضا أين أوصلتك لمسة من يدها؟ إلى طلعك تراقب بزوغ شمس العشاق تبارك يومكما.
كنت صاحياً وحلمك مستفيق معك. تعيش من خلاله ما كان عصيا على ناظريك قبلا، سعادة غير محدودة كتلك التي تستشعرها "وعد"، إذ أحست قلبها يرقص بين ضلوعها. لقد كنت أنت فارسا كان يعودها كل ليلة. يمسك يدها برفق. يأخذها إلى عوالمه العجيبة. لطالما حلمت بك. تعرفت عليك بالأمس، واليوم فقط اكتملت ملامح فارسها. حلم صغير وبسيط جدا، أخذت تجتره وهي في طريقها آيبة إلى منزلها. كنت رفيقها دون علمك. عائلتك التي تقطن بالعكاري. تصورت أمك حنونا طيبة. أفاضت عليك من مشاعرها، فإذا أنت تشبهها كثيراً. رأت أباك، متقاعدا بعد طول كفاح. وخمنت أن لك إخوة صغارا، أربعة أو خمسة. كبيرهم كنت لتنتقل الأسرة في خطاك من فاس إلى الرباط. تعرفت عليهم أكثر يوم أتيتم لخطبتها. وعندما سئلتْ هل تقبل بك خطيبا ومن بعد زوجا؟ هتفت في أعماقها بكل قوتها، بكل عشقها، نعم. وهزت رأسها أمامكم خجلى تؤكد قبولها.
حدد موعد العرس، وخضبت الأيادي بالحناء. وثوبت النسوة أجمل ما لديهن. وتماهين مع الموسيقى مع دعوات التبريك. وجلست العروس ورأسها أرضا، تحاذر التطلع في الأعين المشرئبة إليها.
قالت لك قبل أسبوع، أنها تعلم أنك مسؤول عن إخوتك، وأنها لن تكون حاجزا بينكم، وأنها ستسكن معك أنى شئت. ارتحت ساعتها من صراع داخلي كنت تعيشه، وقبلتها في جبينها عرفانا، وأخبرتها بأن لك غرفة ستعجبها كثيرا. قالت ضاحكة.
- لا يهمني شيء مادمت معك، حبيبي.
وعدتك أنها ستعامل أمك كأم لا كحماة، وصرت تعلم كل شيء عنها. علمت أنها فقدت أمها بعد ولادتها وأنها لم تر ملامح أمكما. عذبة هي أحلام الصغار. جميل هو حلم "وعد " على بساطته وبدائيته. كان ذلك أقصى أمانيها في الحياة. زوج تحبه، تمنحه قلبها. تدخلا غرفتكما. لحظة طالما يرقبها العريسان ويستعدان لها. توصد الأبواب دونكما. جالسة هي مرتعشة على كثب سريرها، خجلى من لمسة يدك، مع أن كل جوارحها تتمناها وتقول أنت بشوق:
- ما بالك "وعد "، ألا ترين كم صبرنا لنصل إلى هذه القمة؟
هدأت قليلا، وأخذت تقرأ عليها قسم الأزواج الجدد.
- أعدك حبيبتي بالسعادة ما حييت، وبالحب طول عمري. أعدك.
يد توضع على كتفها. لا، لم تكن يدك. يد أخرى امتدت إليها تنتشلها من حلمها وتجرها من لذة عاشت عمرا تحلم بها.
يد طردتها من جنتك. تلتفت وراءها وجلى فزعة، فإذا هي "وجد"، كاتبة والدك وأختها الكبرى. قالت معتذرة:
- أخشى أني أفزعتك، لكني ناديتك أكثر من مرة دون أن ألقى منك ردا.
كيف للمسكينة أن تجيبها وهي سابحة في بحرك؟ كانت تسمع قسمك ووعدك لها. اضطربت وعادت إلى بعض هدوئها.
- كنت عائدة من الخزانة الصبيحية إلى البيت.
تمشيان صامتتين ساهمتين، متحاذيتين، هذه بحبورها، وتلك بانقباضها. لم تكن تدرك أنهما أختان، ولم تلحظ الشبه بينهما. ملامحهما المشتركة لم تكن لتوقظ داخلك ذلك الشعور، فأنت بالكاد تلقي نظرة خاطفة على "وجد" في الشركة، بينما أنت متيم بأختها. كانتا نسختين عن أمهما. عيونهما الدعجاء الصافية. مسحة الحزن الدفين في صوتيهما. شعرهما المخملي كان طويلا منسابا عند "وعد"، ومشذوبا لدى "وجد". اتفقتا ووجه سلا، خمريا كأسوارها العتيقة. شفتاهما كرحيق مختوم، عند هذه كحبقة طيبة ولدى تلك كسوسنة عطرة. كذاك كانتا، حبيبتا قلبي، لا تحملان إلا الأطايب ولا تتفوهان إلا بما يسر الخواطر. تلجان حي الطالعة، حيث قابلهما المسجد الأعظم، ودعوة "عبد اللطيف الصبيحي" ومن ورائه الحناجر مرددة "اللهم يا لطيف ألطف بنا فيما جرت له المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" حدث ذلك بعد أن تنبه لمكيدة المستعمر، فأعلنت اللطيف في كل البقاع. وتجدان "محمدا" كأنه ينتظرها هناك، ونظراته المعاتبة لم يحاول أن يخفيها. فطن لمحاولتها توجيه عنايته عنها. وخمن أنها خرجت معك، بل كان شبه ياقن من ذلك.

(يتبـــــع)

عبدالسلام المودني
31-01-2009, 01:29 PM
الشريـط الرابع
الوجـه الأول:
كانت "وعد" تحمل لـ"محمد" ابن الجيران كل ود وكل حب وهو الذي ربي إلى جانبها. شجاره مع أطفال الحي صغاراً يدافع عنها. زميل دراستها منذ أربع سنوات بعدما رسب ولحقت به ولم يعودا يفترقان. أحب الموسيقى لعلمه ولعها بها. لأجل ذلك كون فرقة موسيقية، ودعاها إليها بعدما شجعها على الغناء. حتى هواياتها شاركها فيها. رقيق الروح "محمد"، أحبها في صمت، وظن أنها تعشقه أيضاً. لم يصارحها يوماً، ولكنه ألمح لها بذلك غير ما مرة، بيد أنها لم تفهم إشاراته وتلميحه، أو أنها لم ترد أن تفهم ذلك حتى لاتضيعه وتخسر أخاً أهداها إياه الحي الذي كانت تسكنه. كان ينتظر فرصته، وانقبض لما رآك في الحفلة تقترب منها. وغضب اليوم في صمت، وما أكثر صمته! كان يريدها أن تعلم أنه منزعج من تصرفها، لأجل ذلك حينما سلمت عليه "وجد" رد عليها بينما رمــى "وعداً" بنظرة لم تفلح في فك شفرتها لأنها لم تتعودها منه. "محمد" الوديع، حتى في وعيده بالمقاطعة، صامت لا ينطق بشيء. نظرته لها كانت كل كلامه. هي أيضاً كانت تنتظر فرصتها لتعبر عن شعورها اتجاهه. أخاً لها دوماً عدته. لم تره حبيباً أو زوجاً تعده أن تعامل أمه كأمها التي لم ترها، ولم تحلم به يوماً يقرئها وعد الأزواج. وبينما كانت مترددة ما بين نشوة التعرف على الحب، وبين الخوف من فقدان أخ عزيز، كانت الأخرى تسكن في أعماق الحيرة. ما عساها تفعل لصد "رافان" الذي أوكل إليها قبلاً تنظيم مهمة سهرة عيد ميلاد أختك "سهد" تقرباً إليها؟ أحسن إليك من حيث لا يدري. لو لم يفعل لما دعت "وجد" فرقـــة "محمد" الموسيقية، ولما قابلت الحب.
مكتوب لقاؤكما في لوح المقدرات، وحبكما يليه في السطر الثاني الذي شرعتما تقرآنه معاً وتعيشان تفاصيل دقائقه. كأنكما تعلمان أن لحظات السعادة لا يمكن التكهن بمعاودة مصادفتها، فأقبلتما عليها تغرفان منها دون انقطاع وتشبعان ظمأكما. أكنت لأتيه عن ما يحمل وجه كل منهما وهما تدخلان عليّ ذاك المساء؟
وأذرك ممتطياً سيارتك فرحاً مبتهجاً عائداً إلى رباطك، فرحاً جذلاً، لأعود بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال، راكنا إلى مصطبتك، تقتات من صوتي بنهم تريد الوصول إلى حلي المقترح.
أعيدك إلى هنا حيث بداية الأشياء، وميلاد الحكاية التي تجتر الآن خيبتها. قد تقول:
وما ذنبي؟ ولا يد لي في حكايات أخرى لأجيبك بحسم:
- الكل مربوط بالماضي، ولو كان قويماً سليماً إذن لسلم حاضرك، وحاضرنا معك. ثم ألا ترى معي أن ماضيك يلاحقك مسرعاً يحاول الإمساك بك مهما أسرعت في الفرار منه؟
لاحل أمامك إلا أن تتعرف على عدوك، ماضيك. وتواجهه بإرادة هزمه ودحره، وإلا ستعيش معلقا بين ماضيك وحاضرك، فاقدا مستقبلك.
طيلة أشهر ثلاث تواترت لقاءاتكما بمقهى "الموعد" السلاوية، تبسطان مشاعر صادقة وحميمة، وأضحت طاولة في أقصى يسار الطابق العلوي وطنا لكما، تحتفي بالحب والحياة معكما. لكأني أبصر طيفيكما بعدكما جالسين يتناجيان، ويرسمان طريقكما التي ستمشيانها متحاذيين.
وطيلة تلك المدة، احتفظت بغصة كذبتك الصغيرة عليها. وتستجمع كل قواك الكامنة، وتستدعيها من معاقلها، بيد أنك ما إن تجلس أمامها لمصارحتها حتى تجبن، وترتد عزائمك مخافة أن تضيعها من بين يديك. وكنت واهما. لم يكن يهمها من شيء غيرك. ما العيب في أن تكون غنيا أو معدما؟ كنت الوحيد الذي تراه وتؤمن به. لو صارحتها، في أي وقت، لوفرت عليكما مشوارا طويلا وعذابات كبيرة، ولكن لابأس. كنتما قاصرين في الحب تتعلمان، تخطئان وتصيبان، تتعثران وتقومان.
وانتصب إلى جانب كذبتك الصغيرة، طيف "محمد" بينكما، وهو الذي عدته دوما أخا لها، تبث له أمانيها المخفية حتى إنها أوشكت أن تطلعه على علاقتكما، بيد أن أملها خاب، وتكسرت موجة أمانيها عند صخرة اعترافه لها ذات يوم بشيء صك سمعها، ولم تنتظره قط مسبقا، ولا توقعت حدوثه، إذ ألح في طلب مقابلتها والحديث إليها منفردة، وزاد أن دعاها إلى "الموعد"، واستفحل الأمر وتعاظم عليها أن جلسا في طاولتكما، وطنكما، فتأكدت أنه يعلم حكايتكما، وأنه بلاشك كان يتعقب خطواتكما، حتى يعلم أين كنتما تجلسان؟
الحب مجنون، وإذا ما كان مبتور الأطراف، ناقصها، وانتفت عنه عوامل النجاح، الطرف الآخر، يضحي مدمرا قاتلا لصاحبه ولمن يحب. كان بادي الارتباك، ظاهر العذاب.
- لست أدري من أين أشرع حديثي؟
تطلعت إلى وجهه الأسمر البريء كأنها تراه لأول مرة، وتتعرفه:
- "محمد"، ما بك؟ هل الأمر مهم لهذا الحد؟
- أكثر مما تتصورين. أنا يائس، ومرهق من طول التفكير. أحس رأسي ستنشطر نصفين.
ذهلت لما يصلها منه، وهي التي عهدته متزنا خالي البال، فتساءلت متوجسة:
- ألق ما لديك علي أساعدك، وأنت تعلم قدرك عندي...
قاطعها:
- تلك هي المشكلة، أو أنت هي مشكلتي.
بغتت وهي تهتف.
- أنا؟
- نعم أنت، وتحسبينني أعمى لا أكاد أبصر شيئا من حولي، وذاك ما يشقيني.
بدت كأنها لم تع جيدا ما يود قوله.
- أفصح عما لديك، فأنا لم أعد أفهم.
صدر صوته من صدره كالحشرجة ألما بما سيبوح به لها.
- ذاك الشاب الثري الذي صرت تقابلينه.
- تقصد...
- نعم هو، إنك بفعلك ذاك تغتالين أحلامي معك، وتطعنينها في ظهرها.
- ماذا تقصد؟
- أحسب أن الأمور جلية أمامك. كم يلزمك من الوقت لتعلمي أني أحبك؟
وأمسك بيدها لحظة دخولك لتجده يناجيها حبه، ويبث لها ما يحمل قلبه من حب عاصف جارف. كانت توليك ظهرها، وتعرفت إلى وجهه كما تعرفت إليها، وما كنت لتتيه عنه وهي مرتك الثالثة التي تصادفه خلالها. حسبتهما يتناجيان، وحسبت أنها كانت تخدعك ولو أعملت عقلك قليلا لأدركت أنكما كنتما على موعد هنالك. كانت تنوي أن تدخل عليهما، فتعرفك عليه كأخ، لكن... وانسحبت غاضبا، وشيطان الغيرة يعمي عينيك، ويهمس في أذنك:
- خدعتك الملعونة.
لو بقيت لحظة أخرى لرأيتها تسحب يدها من يده، ولو اقتربت منهما أكثر لسمعتها تقول له:
- وأنا أيضا أحبك كأخ كبر إلى جانبي، وليس كحبيب يشاركني الحياة. لاأملك إلا قلبا واحدا وهبته إلى من تلمح إليه.
بدا كشبح اليأس، وصوته الخيبة والمرارة.
- ألأني فقير، وهو ميسور؟
- ميسور؟ إنك لا تفهم يا "محمد"، بل هو موظف عادي.
- لا تحاولي خداعي.. إنه ابن عائلة فاحشة الثراء في العاصمة. أتذكرين الحفلة التي دعتنا إليهـــا "وجد"؟ لقد كانت حفلة ميلاد أخته. ليلتها دنا منك، وتعرف إليك. ثقي بي، إنه لايصلح لك، بل إنه لايراك إلا متعة لحظة بينما أنت عمري كله.
وقع خبر كذبك عليها وقعا أليما موجعا، وصعقت لتصريح "محمد" أخيها بهذه العاطفة الغامضة التي حلت عليه فجأة مع ظهورك في حياتها، وأغاضها غدرك ولؤمك. أياما طويلة معك ظنتها ستخلد بخلود حبكما، ولكنك ما كنت إلا متلاعبا بها وبمشاعرها بيد أنها لم تشأ أن تظلمك، وتحكم عليك دون التحقق. وما يدريها؟ لعل جنون "محمـد" قاده إلى اصطناع كل هذه الكذبة للإيقاع بكما.
كنت ملاكا لايكذب ولايتلاعب بعاطفة نبيلة كهذه أم أن شيطانا محتالا يسكنك ويحركك. هل أعماها الحب عن حقيقتك المغرضة؟
وخسرت "آمال" رهانها مع "ليلى"، وضاع منها خاتم ماسي نفيس، كما ضعت أنت من بين يديها وأحنقها خسرانها لكما فأجمعت أمرها على ضرورة الإنتقام منك وإسقائك من الكأس نفسها التي أسقيتها منها دون علمك، وجعلت تنتظر وتتحين نهزة تحقيق آمالها وإشفاء غرورها. وكان أن أتاها الفرج من حيث لاتدري. اتصل بها "رافان" ذات صباح يطلب لقاءها. كان يعلم مجهوداتها المتواصلة للحاق بك ولإيقاعك في حبائلها. أراد الإيقاع بها أيضا بعدما أوقع "وجد" المسكينة التي ما استطاعت التصدي لإعصاره الجارف، وأذعنت له في أكادير. كانت دعوته لـ"آمال" على الغداء لا تقاوم، وهو الإمبراطور الثالث. وبعد تقديمات المجاملة كعصيرهما الذي استبق الطبق الرئيسي، ابتدرها:
- تعلمين "آمال" سر نجاح المرأة.
رفعت حاجبيها المنحوتين وقد اتسعت ابتسامتها كأنها لم تتوقع منه ذلك، فاستدرك يعد على إبهامه وسبابته ووسطاه.
- الجمال، الأناقة والذكاء. وأعتقد أنك تملكين كل هذه المقومات، بيد أني أعيب عليك استخدامها.
أسلوبه المباشر يربك دوما محدثيه كحال "آمال" التي تصنعت غير ذلك فقالت في اكتراث غير ظاهر.
- لم أفهم.
- تضيعين وقتك وراء وهم وسراب، بينما الجنة أمامك لا تنتظر إلا أن تشرعي أبوابها وتدخلينها لتتربعي على عرشها.
ازدادت ابتسامتها اتساعا وهي تقول:
- زد على كوني غبية، فأنا عمياء لاأبصر.
هز رأسه يؤكد دعابتها.
- نعم عزيزتي. ماذا تريدين بـ"قاسم" وهو شاب طائش لا يقدر حق من يحبه، بينما تستطيعين بمجهود أقل الظفر بمن هو أغنى منه؟
حسبته يمهد ليعرض صحبته عليها فقالت بكبر:
- القلب وما يريد، وما نملك إلا اتباعه.
قاطعها مستهزئا:
- الحب؟ لا تحاولي خداع نفسك، وخداعي معك. إننا نتشابه كثيرا، أنت وأنا. أتعلمين أني انطلقت يوما من الصفر كما فعلت أنت؟ وهذا ما يجعلني أتعاطف معك، ولا دخل للترهات فيما نحن خائضان فيه. ويمكنك سماع اقتراحي إذا أردت.
تساءلت مستطلعة:
- اقتراحك، أي اقتراح تقصد؟
- نتعاون سويا حتى يحقق كل منا هدفه. سأعمل على تقريبك من حماي العزيز، ويبقى عليك إعمال فتنتك وجمالك وحيلتك لتتمكني منه وتدخلي جنته. وبذلك تحققين رغبة طالما ساورتك: الغنى. وهدفا آخر قريبا: الإنتقام من ابنه. فماذا تقولين؟
لم تكن تتخيله يمهد لأمر كهذا، فقد عدته يفعل لأجله إذ تصورته أغرم بجمالها. لذلك تفأجات كثيرا للأمر. قالت بعد أن هضمت وقع المفاجأة والإبتسامة لا تكاد تفارق وجهها الجذاب:
- لا أحد يرفض دخول الجنة.
واستدركت بعد حين.
- هذا هدفي كما تعلم، فما هو هدفك؟
استشعرت شيئا رهيبا لأول مرة في "رافان" على أنها كانت تعرفه من قبل، وكأن شخصا آخر يتحدث من داخله.
- إن كان هدفك دخول الجنة، فإن هدفي امتلاكها.
كان هذا "رافان" الذي لبس ثوب الخديعة معكم، وبهرتكم أخلاقه. استطاع النفاذ إلى قلب أختك "سهد". لهفي عليك يا ابنتي. شرخا عظيماً تركه الملعون في نفسك. ولكنا سنلملم كل أجزائنا لنعيد تصحيح أيامنا وتقويم اعوجاجها. ما لم تكن تعلمه هو أنه بعدما أخضع "وجدا" له، جعل يتجسس عليك إلى أن علم بعلاقتك و"وعد" وتعقبكما غير ما مرة ولحظ تعقب "محمد" لخطاكما أيضا. ولأمر ما أراد أن تدوم علاقتكما، لأنها من جهة تلهيك أكثر وقت ممكن. لكأنك سابح على الدوام في ملكوت العشق لاتكاد تنزل أرضا لتدرك ما يحاك ضدك في غفلة منك. ومن جهة أخرى، يبقي "آمال" تحت خدر الغضب والانتقام.

عبدالسلام المودني
31-01-2009, 01:43 PM
الوجـه الثاني:
"رافان" يحب دوما أن يصيب أكثر من عصفورين بأقل من حجر واحد. ولو علم شدة عذابك وضياعك إن فقدت "وعدا"، إذن لسارع إلى إعمال حيلته لأجل ذلك. ولكن رياح الأقدار حركت أشرعته بحسب ما ترتضيه وتشتهيه. و"وعد" لم ترد أن تظلمك أو أن تحكم عليك دون سماع دفاعك وتتحقق من مزاعم "محمد" لديها. ولعلمها باشتغال "وجد" لديكم، فقد كانت تعلم مقر المجموعة، فقصدت مقرها مرتعشة وجلة من أن يصدق ما جاءها عنك، فإذا إمبراطوريتكم كقدر اقتيدت إليه مجبرة. خطواتها المضطربة تدنو من حارس مرآب السيارات التابع لأمنكم. تسأله متلعثمة:
- من فضلك. أردت السؤال عن "قاسم سعدون".
ابتسم ابتسامة عريضة ذات معنى بعيد.
- "قاسم سعدون"؟ لايوجد لدينا هنا إلا السي "قاسم الشرقي" ابن السي "ابراهيم الشرقي" صاحب كل ما ترينه هنا، وما لاترينه أيضا، و"قاسم بركات" أيضا وهو رجل قريب من التقاعد.
عقد لسانها وشل عن الحركة، وأدرك الحارس ما هي عليه فأضاف ينكأ جرحها.
- على كل حال، لست الوحيدة التي تسأل عنه.
أولئك الموظفون الصغار الذين لا تنتبهون لهم عادة، كثيرا ما يملكون الحقيقة. وحقيقتك رجت عالمكما، وهدّت أركانه فإذا هو هشيم بعضه فوق بعض. وعادت متهالكة متثاقلة إلى سلا المغبونة الجاثية عند أقدام الرباط العاتية، تنوء بهموم لاطاقة لقلبها الهش على حملها. تبكي غدرك وخداعك، وتحترق احتراق شموع المواكب ليلة المولد النبوي الشريف. شمعة وحيدة في عالم مظلم تحترق في صمت تنير ما حولها. المسكينة. كانت كما قالت لـ"محمد" يومها لا تملك إلا قلبا واحدا، ولقد أوقفته على حبك فإذا نبضه اسمك. لقلبها باب واحد، لم يدخله أحد قبلك، ولن يفعل بعدك. ولباب قلبها مفتاح وحيد وهو بيدك.
أتعيش بعدك بلا قلب؟ كيف ستتذوق الأشياء الجميلة بدونه؟ ما أقساك!
أين كنت أنت وسط كل هذا؟
ما حدث لك بعد ذلك يدل على صدق مشاعرك نحوها، ويؤشرعلى طيش الشباب وحماقته. ما بعد العصر كان زلزالك الذي رجّ أركان كيانك. لم تدر إلا ورجلاك تقودانك نحو الوادي رغم أنك كنت محتاجا لأن تمشي بضع خطوات في سلا حتى تعرف كيف يفكر هؤلاء الناس الذين أقرفتك رؤيتهم، كما اشمأز قلبك من كل المدينة، وبدوا لك كما الأساطير المنسوجة حول مدينتهم، قبرهم. ومازالت كلمات أغنية تصك سمعك كأنها تعنيك مباشرة "احضي راسك ليفوزوا بك القمان.. يا فلان"
وكنت غضبانا حد الثمالة حتى أنك نسيت سيارتك هنالك.
وإذا أنت أمام الفلاّكة. وشيء للوادي الذي يفصل الرباط عن سلا أن يكون جامعهم حوله، فكان العمل الوحيد الذي يشترك فيه أبناء العدوتين، وكأنهم يقتسمون حدود المنفعة من ملكية مشتركة. ويشتركون أيضا في ملامح حياتهم اشتراكهم في مصدر الرزق الذي كان أيضا مثار نزاع وخصام. وعرفت الخصامات بينهم بالخفة حتى إنهم ليتنازعون صباحا ويسأل بعضهم بعضا عن صاحب الدور في ملء قاربه بعد الظهر. ويناديك الفلاّك بصوته الأبح، ويستقبلك بوجهه المدبوغ وعينيه الغائبتين، وشبه ابتسامة تغضن خديه الذاويين. نعلاه المنقوعان الرخوان يصدران همس أنين شجي.
ما أسرع ما تجد نفسك في الضفة الأخرى! أكانتا حقا منفصلتين ومتقاربتين بتلك الصورة الغريبة؟ كأنهما عشيقان قريبان رغم ما قد يبدو حاجزا بينهما. كانا متلاصقين في أعماقهما.
أكان الرباط أميرا أحب سلا الفقيرة ابنة الصياد، وحال بينهما الوشاة بإيعاز من حاقد سخر ضدهما ساحرة عجوز، ألقت عليهما عملها الشيطاني الأسود، فإذا هما منفصلان إلى الأبد بفعل سحرها الرقراق الخالد؟
وتخترق شاردا فضاء حانة حقيرة من ثلاثة طوابق، وكأنها منازل لمرتاديها، فلا اختلاف في حقارة طوابقها الثلاثة، ولكن دركات الحقارة والوضاعة والدناءة تختلف.
طابقها السفلي أشد حلكة ومقتا ورعبا، يليه العلوي ثم الأوسط الذي يستقبلك مباشرة لدى الباب. وكان من استقبلك أول عهدك بحانة "طاهيتي" عجوز مطلية الوجه، بابتسامة بدينة خلف المشرب، واضعة كأسا أمامك، تحثك بإغراء بائد على مقاومة التردد. كم هي مرة علقمية كأسك الأولى، ولكن ألا يصير بعدها السائل نقيعا عذبا يخطف لبك ويقودك لاكتشاف الطابق العلوي منتشيا ثم ترتقي إلى السفلي ثملا؟
كم يحلو للندماء أن يتلذذوا بحكايا إخفاقاتهم؟ وكم من حكاية تلتقي اشتباها بتلك التي ربطتك و"وعد" ذات ليلة؟
- لا ثقة بالنساء يا ولدي، خذها نصيحة من مجرب.
رماك بها أحد المجربين في فن المجون، نفذ إلى أعماقك وعلم ما تكابد في صمت.
- المرأة شر كلها.
يلقي بها آخر، فتعالجه العجوز وتلكزه مجيبة:
- وشر ما فيها أنه لابد منها.
يندفع وهويضيف غاضبا مستعرا:
- أنت شر كلك ولا أحد بحاجتك غير السكارى. آلقحـ...
ونشبت معركة صغيرة بينهما، حصيلتها كدمة في عينه اليسرى، ورضوض جراء إلقائه خارج الحانة. سيئة هي الحانات التي تضع ساعات على معاصمها. لفرط ما يمر الوقت هنا. وعند منتصف الليل تخرج مع الزبائن الرسميين فتكسب معهم رسمية منشودة بعد أن غدا ذلك حالك كل ليلة. ولم تعد لسلا إلا يوما واحدا استرجعت فيه سيارتك، وظننت أنك نسيت "وعدا" ابنة سلا.
ما أغباك! عذرا. ذهبت إلى الحانة واعتصمت بصخبها بحثا عن الهدوء والصمت للتفكير فيما آلت إليه أوضاعك. مسكين أنت. وغصت في أعماق الفوضى تبغي تنظيم أفكارك. وبينما كنت تود طمس معالم سلا وابنتها معها من ذاكرتك تجد ثمَّ قلوبا مكلومة، فنكأت جراحهم وأوغرت جرحك.
صاح قلب دام:
- أشك دوما أن النساء ما وجدن إلا لتنغيص حياة الرجال.
وإذا بمتفلسف واثق:
- المرأة زهرة جميلة الشكل، والأجمل أن تنظر إليها. تخفي أشواكا غير ظاهرة، تباغتك متى دنوت منها وحاولت لمسها. تلك هي المشكلة. تغويك إليها وتشقيك إذ قربتها.
ويتفكه آخر:
- زوجتي عجوز كساقيتنا هاته. كنت أحار ماعساني أقول لها فرارا من مضاجعتها. تتدحرج الأعذار أمامي، وتسقط على رأسي من عل دون أن يوقفني أحدها أو يفتنني. وفجأة ينتصب أمامي طيف عذر ساخر، ويخرج صوتي كالمستحيي.
- معذرة سيدتي، إنها العادة الشهرية.
ويغرق المكان في ضحك محموم مبالغ فيه أحيانا. بعض الأفواه تشرع من ضحك أفواه أخرى.
ويقفز صوت من فم مهشم.
- زوجتي، عدوي الدائم. أفر قدر استطاعتي من البيت الذي صار حلبة صراع لاتحكمها أحكام ولاتضبطها قوانين. لانتفق حتى على أبسط الأشياء. تصوروا معي أنها حين وضعت إبننا البكر، كنت أريده أن يحمل اسم والدي "محمد"، بينما أصرت الملعونة على اسم آخر "علي"، ولست أدري من أين أتت لي به؟ المهم أنه وبعد طول صراع، وأخذ ورد، ولكم ورفس رسينا بتواطؤ على "محمد علي"، فأناديه "محمدا"، وتناديه "عليا"، بينما تذكرنا شهادة ميلاده اسمه الكامل، وأدركنا متأخرين أنه كاسم أشهر ملاكمي التاريخ، واحترفنا الملاكمة بعد ذلك نحن أيضا، وأنتم ترون نتيجة ذلك، فمي الذي أسقطت كل أسنانه.
كنت تنصت لحكاياهم ومجونهم معتصما بصمت قدّ من مملكة الأموات. ماذا كان بوسعك أن تقول؟
- الحب شعور جميل، والخيانة أسوأ ما في المرأة، والضحك على الذقون أحط ما قد يتعرض له إنسان.
ليجيبك خبير في شؤون الخيانة:
- ما استضفت امرأة في فراشي إلا وأقسمت أنها تفعلها لأول مرة، مع أنها وبعد مدة تبكي رجلا خائنا غدر بها إذ قضى منها وطرا.
وكأنك لا تعلم قط أن بعض النساء خائنات، وأن من النساء أمهاتكم وأخواتكم وزوجاتكم وبناتكم، وأن بعض الرجال خونة وإن كان منهم آباؤنا وإخواننا وأزواجنا وأبناؤنا، أم أن الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ؟
ويصيبك الندم صباحا وتمسك الربكة مساء. فتصيح:
(أعلم أن صباحي عنوانه الندم، وأعلم أني ضعيف منقاد إليه بيأس، فلمَ لا أعيش ربكتي الحلوة كاملة أو سعادتي المغنمة مطلقة دون أن أسمي الأشياء. ألا توجد في النهاية أشياء بلامسميات؟)
وتجيب معاندا:
(بلى.. إذن فافعل ما شئت وليذهب الجميع إلى الجحيم، واندم على كل شيء صباحا ولكن ليس الآن، وإلا عشت ندمين).
تراك كنت تضاجع أفكارك دون أن توقفك قوانين أو أخلاق وضعناها وتعارفنا عليها خدمة لنا، فإذا هي أغلال في أعناقنا تطوق حركاتنا والسكنات.
كان حبكما وجاقا. ناره وصل وانتظار. آنيته سعادة تغرفان منها أوقاتا أحالتها الأقدار طيفا يظلل أيامها السابقة متى أطلت من نافذة ماضيها القريب، والعبق بشذا نسائمك. ملاذها البحر حيث شهدت ذرات رمله خطوات حبكما الأولى، تغني لك بصوتها الطروب:
" يا موجة غني يا بحر غني كيف اللي سايب محبوب متهني
على البحر نغني".
معك سما حبها للغناء وازددت عشقا للموسيقى بجانبها. لعلك تذكر يوم سألتها إثر تلك الأغنية السلاوية التي برعت في شدّك إليها.
- ماذا تمثل لك الموسيقى؟
- هي عشقي الثاني، أو لنقل إنها وجه حبي الآخر للحياة وللناس.
وانطلقت مسترسلة أنها ترى الأغنية ككائن حي. كأنت وأنا قالت. الكلمات عمودها الفقري، واللحن لحما يكسوها، أما الأداء فروح تحرك هذا الكائن الفني ومعه أرواح من يسمعونه إذا كان جيدا ولم تصبه إعاقة في أحد أطرافه. كانت أصيلة في غنائها مطهرة للأعماق والأسماع، تشفي كل ما يصيبه صوتها بعد أن عمّ التلوث الأسماع والأغنية. كنت هناك في حانة "طاهيتي" الحقيرة التي أدمنتها لأمر أجهله، تتجرع كؤوس الفشل المترعة، وتجتر خيبات وهم الخيانة. وكانت تبكيك في الشاطيء السلاوي. صارت الدموع جزءا من وجهها، فقد بكت المسكينة كثيرا، وناحت طويلا حتى لا تكاد تخلو مسامة من مسام وجهها إلا ونزّت عبرة استقرت بها، واستوطنتها.
كانت "آمال" تعرض عليك جسدها الفتان فوق طبق عاجي، وأهدتك "وعد" روحها كاملة فماذا تفعل وقد ملكتك زمامها وما عاد لها تصريف في أمرها؟ أخذت تناغي البحر وتناجيه مجهشة، وتتمثل صورتك فيه. ثم إنها ارتجلت:
لا تسلني عنهم.. فقدت ذكرهم..
ذات صباح.. بين تلك المحايا.. بين صراخ ونواح
ذات صباح.. مروا من هنا.. لعلهم هناك
فلا تسلني عنهم.. فقد فقدت ذكرهم
ذات ليلة.. والأرض المسكينة.. حزينة
ذات ليلة.. على تلك المقل العليلة.. بلا حيلة.. قتيلة
جفت شرايينها.. عليلة..
تستجدي واردها.. قتيلة..
ذات ليلة..
لعلهم هناك.. أو هنا
واروا أبدانهم.. تحت أحزانهم
فلا تكترث لهم.. فقد أضاعوا فجرهم
وفقدت ذكرهم.. فلا تسلني عنهم.
نضبت عيناها إذ استنفذت عبراتها. تغيرت حياتها كما تبدلت حياة من تحب. سوء فهم منك رماكما إلى ما أنتما عليه الآن، ولو استعلمت لكان خيرا لكما. أيعقل أن تظن أنها و"محمدا" عشيقان؟


(يتبـــــع)

مروة عبدالله
01-02-2009, 02:26 PM
أخي عبد السلام

زدت شوقاً على شوق وربي
رواية رائعة
مازلت أتابع وأنتظركَ بشغف
جل ودادى وكل تقديري
محبتى

عبدالسلام المودني
02-02-2009, 04:58 PM
العزيزة مروة

شكرا لأنك هنا.
لاعدمتك.
محبتي الوارفة
عبدالسلام المودني

عبدالسلام المودني
02-02-2009, 05:08 PM
الشريـط الخامس
الوجـه الأول:
"محمد" الذي استيأس من حبها له فقلبت طباعه، حتى إنه قصد طنجة باب الأمل الزائف فرارا أو محاولا ذلك. استوى في عينيه الموت والحياة.
ظن خطأ أن "وعدا" أحبتك لغناك، فقرر المغامرة حتى يعود إليها ثريا يخضعها لحبه. كأني به أراد أن يعبر إلى الضفة الأخرى حيث أنت وعائلتك. ظن الأمر يسيرا. زورق صغير يقوده مجدفا وصفيره سعادة يرتفع في العنان فإذا به في الرباط. لكن الأمر أشق وأصعب. ينقلب الزورق به وبمن كان معه. ويغرق العشرات من أشباهه. وينجو بعد أن رأى الموت رأي العين. ويؤوب إلى سلا المغبونة أشد يأسا وصمتا من ذي قبل. وتتحول انقطاعاته عن الدراسة إلى هجر قاطع امتد حتى الحي الذي ولد فيه. وغابت أخباره عنها مدة غير يسيرة. كان قاربه الأول الذي انقلب به شراعه اليأس نحو أمل مجهول. ولإن ارتد من الموت منه إذ صدمه، فقد ظل طيف الموت يتماهى مع طيفه الذي لمحته ذات يوم من أواسط ماي، يبيع مصاحف في أبواب أحد المساجد. تعرفته بصعوبة لشدة شحوب وجهه وللحيته الصهباء الطويلة التي حاذت صدره. كان يلبس ثوبا أبيض قشيبا. كان يلبس كفنه، ويحمل نعشه بين يديه. كان يبيع كلام الله عند أبواب المساجد. كان...
أشك أن توصل رياح الكراهية العاتية التي تدفع شراع الظلام المحرك لقاربه الثاني حيث الإرجاف، مطامع من يتاجر في يأس بنينا. أشك في ذلك! حسرة عليكم أبنائي. من ذا يقول أنه "محمد" الوديع الذي رأيته زهرة تتفتح أمام عيني يغدو بتلك البشاعة التي أبصرتها تلك الليلة؟
وانغمس أبوك في مستنقع "آمال" التي وإن خسرت رهانها كسبت رهانات حياتها، ولامست أحلام طفولتها وحققت أهداف سدارتها ومالم تحلم به يوما قط.
شراك "رافان" الماكر شدت عقاله إلى القعر ليقضي حاجاته في غيبته. وكنت غائبا أيضا.
هنا ألومك. ألم تكن تحصن أوقات لهوك من ساعات الجد والعمل. فلم تركت أحزانك ومشاكلك الشخصية تؤثر على عملك؟ غبت فاستفرد "رافان" بـ"محمد مبروك" الذي لا طاقة له وحده على التصدي له. حاول أن يحذرك غير ما مرة بعدما تعذر عليه الاتصال بأبيك المفقود في صحراء "آمال". أتذكر ذاك الصباح الذي هاتفك، وكنت ماتزال تجتر آثار ليلة لما تخبو جذوة المجون فيها فوبخته بكلام قارع. جرحته وهو في منزلة عمك. تأثر كثيرا فقد جرحته وما ود إلا مصلحتكم.
طاغ جدا "رافان" ذاك ولا حدود لسعة تطلعه وتحجر قلبه، هذا إن ملكه. بعد أن قتل أباك، طلق أختك وطردها وأمك من نعيمهما ورمى بكم جميعا إلى البؤس والحرمان بعد الرغد والثراء. أصابتكم صفعة الغدر برجة نفسية قوية. مرضت أمك جراء موت الزوج المباغت، وضاعت كل الممتلكات في غمضة عين، وأصابها شلل نصفي. أما "سهد" فقد فُقدت في بحر الشرود وغدت شبه ميتة.
أكان ذاك "رافان" الذي رأته وأعجبتها أخلاقه السامية؟ وأمسكت بيده برفق وحب ترتقي به الدرجات حتى صار ما صار. وألفيت نفسك وسط أكثر من نار. حب فاشل، وملك ضائع وأم وأخت مفجوعتان تحتاجان إلى الرعاية والمواساة وما أحوجك إليهما. ليتك أنصت لـ"محمد مبروك" قبل أن تدهسه سيارة في حادثة سير. ولن يحتاج ذكاؤك إلى كثير عناء ومجاهدة ليدرك من يقف خلف قتله كي يخرسه إلى الأبد. كان كالإعصار يا بني ينسف كل يقف في وجهه. من لم يستطع أن يضمه تحت جناحه دمره. قتل "محمد مبروك" وضمّ "آمال" تحت جناحيه ودجّن "وجدا" إذ وعدها بالزواج، وشدّها إلى وحل نفسه الوضيعة بالتدرك، وأفلح في ذلك. بلغت بها درجة التخديرأن صارت تتجسس له، وتقوم بتصوير ملفات سرية احتفظ بنسخ منها، وجهز عقودا أعملت "آمال" فتنتها والخمر مغعولها ليوقعها دون وعي منه.
وإذا أملاك الإمبراطور الماجن، عذرا، تنتقل إلى "رافان" وتجدوا أنفسكم لا تملكون شيئا. ترحل إلى فاس في حمى أخوالكم. هناك تتصل بك "وجد" بعدما استفاقت من مفعول تخديره لها لإيمانها بأن الحق يقف إلى جانبك، وتأتي بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال حيث ستكتشف أن "وجدا" كاتبة والدك الميت و"وعدا" حبيبتك، أختان. هذه طردها "رافان" الذي جعل يتخلص من كل معاونيه. "آمال" غادرت الدنيا أيضا مع المغادرين بجرعة سم زعاف. وجدت في شقتها وجثة والدك بعد أن انبعثت منها رائحة كريهة انتبه لها الجيران وأعلموا الشرطة. فكانت الفضيحة.
وتلك حصلت على شهادة الباكلوريا بصعوبة بالغة بعد أن عانت في شق هذه السنة الثاني. خسرت حبيبا وفقدت أخا إلى الأبد. لقاؤكما الأول بعد شهور البعاد كان باردا رغم سعادتكما الخفية ولكنه بعض من عناد المحبين. كذبة صغيرة منك ضخمتها الأيام، وظروف أحاطت بها فإذا هي جبل يفصل بينكما. وسوء تفاهم بسيط نفخت الغيرة رياحها العاتية فيه فإذا هو معقد يشقيكما. تناسيتما أن الحب أسمى من ذلك وحبكما أعظم بلاشك.
قد تظن الوقت غير مناسب لأروي لك تفاصيل حكاية حب عجيبة عرفتها هذه الجبال التي تتطلع إليك اليوم بحدب وحنو، وعاشت وقائعها هذه الوهاد التي ترنو معك لصوت الذكرى والأمل، ولكني اختبرت صبرك بما يكفي، وامتحنت سعة تحملك.
قبيلتان جبليتان ألقت بهما أيادي القدر إلى اقتسام واد يفصلهما ينتهي إلى عين رية. عرفت حياة أناسهما الاحتياط والترقب وتحول ذلك إلى تنافر، وبلغ سناه عندما وصل إلى تباغض. بل تعادوا وكادوا يتحاربون لولا الألطاف الإلهية نفخت رياح الحكمة والتعقل عند شيوخ القبيلتين.
حديثي هنا عن حب كسر أسوار رفض الآخر، ضفتنا الأخرى. "عيشة" بطلة حكايتي فاتنة ذات كعب في الجمال وساق في التأدب جعلاها فتاة قبيلتها الأولى، زد على ذلك كونها ابنة شيخ شيوخها المالك لأطايب أرضها ولجنان زيتونها وتينها. لاحقتها الأعين وهي بعد في الثانية عشر من عمرها. تعقبتها وهي بعد "عويشة الصغيرة". كان أول المتيمين بها ابن عمها "علي" فرفضته منذ أول محاولة له. قالت له صراحة ودون مواربة، "لا". لم يكن يعجبها كما أنها سمعت كثيرا من فتيات القبيلة عن مغامراته داخل وخارج ديارهم. لم تكن تريد ملكية مشتركة. رفضته رغم إصراره، وصدته رغم عناده. انتحلت أعذارا بعده لرد خطابا آخرين، وصارت موضوع رهان بين شباب القرية الذين خسروا رهاناتهم جميعا. صرت تعلم الآن أن الرهان للظفر بشخص أمر قديم جدا وليس حكرا على أبناء المدينة. كانت حصنا منيعا لايقربه أحد، ولايستطيع أن ينفذ إليه ليعلم خبايا ما حوى. لم يكن جميع من تقدم إليها خاطبا مفتونا بجمالها فحسب، بل طامعا أيضا في أملاك سترثها بعد موت أبيها. كانت تعلم ذلك فرفضت الجميع. وحقيقة الأمر أنها كانت تحب في صمت. قلبها اهتز لقلب آخر في السفح المقابل.
لم تكن هذه القبيلة "طاطا" لتلك. غريبة هذه الكلمة غرابة معناها. لاأحسب أنك سمعتها من قبل ولقد خبرت مفعولها. عند خروجي وابني نبحث عن وطن يأوينا، وعن رزق يحفظ كرامتنا، وعن ماض تاه عنا، رسينا في جولتنا في ازعير حيث لم يكن "النجديون" ولا "العبيديين" أعداء، بيد أن علاقتهم كانت احتياطا وترقبا وإمعانا في الاحترام. يبدو ذلك جليا عندما يتزاورون، إذ يدخل الزائرون حفاة محملين بالهدايا احتراما لمضيفهم، لكنهم لا يتصلون فيما بينهم بزواج. كان النجديون "طاطا" للعبيديين، وكذلك كان العبيديون للنجديين. ولم تكن قبيلتانا " طاطا" لبعضهما إلا أنهما كانتا كذلك ضمنا.
العين التي كانت سبب تشنج القبيلتين ومصدر بقائهما ونبع مائهما، كانت حضنا لأول لقاء بينهما. اشتدت وشائج النظرات بينهما، وعاهدته في حلمها اللجي وهي في أحضانه أنها لن تكون إلا له وإلا فإنها لن تكون لسواه. لم تكن النظرات حديثهما الأول فقط. كان جريئا جرأة أهل الريف المجاهد وشجاعا شجاعتهم في ردع المستعمر ومقاومته. يوم رآها أول مرة أخذ يحاور قلبها مدندنا:
- بسم الله نبدا بيكم انتما بجويجات بيكم
نطلب الله يحضيكم
مع أرفيق الحجــل زينك ما يتبــدل
الحناء طرية من العيد والقديد مازال جديد
الحجلة البلدية ريشها فشكل.
لإن كان اتفاق قبيلتاهما ضمنا على "الطاطا" فلقد كان تواعدهما على الحب ضمنا أيضا، وجعلت العين موطنها ودندنته مناجاة، فإذا به في كل يوم يرنم لها.
- مساك مساك للا البنيه مضركة الخد عليه
احكي لي ما بيه
ويحسبها تجيبه:
- منين جايبني لبلادي ربي وفى لي مرادي
وفين ما دير الفرح صرد لي انجي
وفي يوم آخر.
- مساك مساك للا بوخرسة يوم الخميس في الجلسة
انزول المفوض احكمي أنت
وسمعته يقول لها وقد علا صوته هذه المرة:
- مساك مساك للا منانة جالسة في الدكانـــة
السالف حتى لبنانـة البارود راه معــانـا
إلى جينا نيشان ما نخطاوا حد
جاهد كثيرا ليسمع صوته أيضا لقبيلته فرفضت ذلك منه وردته عليه. جابه أهله بقوة رفضهم حتى أوشكوا على طرده ونبذه. ومع شدة التضييق عليه وقرب اختناقه إلى وجده المزمن أقدم على خطوة شجاعة زلزلت نفوس أفراد القبيلتين ورجت أركان التنافر بينهما. عبر الوادي الذي يفصل الضفة المقابلة خاطبا يحمل سلة تين وعنب وخمسة لترات من زيت الزيتون ومن زيت "علوانة" وقلب رجل يخفق بحب "عيشة" بنت البنوت. اقتحم عالمهم المسيج بخطى واثقة ثابتة. فاجأهم في معقلهم بطلبه ذاك، وأربكهم إذ تحدث إلى ناهزهم، أبيها، بجرأة واحترام وثقة مودعها النفس بمنطق سليم متحديا ابن عمها الذي يريدها لنفسه وشبانا آخرين كثر. ولما سأله والدها أسئلته التقليدية:
- ... وأين والدك، وأهلك؟
كان يجيبه بثقة:
- أنا المعني بأمري.
- ومن رأى البنت وأطلعك على أمرها حتى لتكاد تعرفها؟
- لإن كانت قمرا يزين سماءكم إنها تضيء سماءنا أيضا. اشرأب عنقي إلى القمر ليل سهري فأخبرت نفسي بأنها ستكون لي ولا شأن لأي كان بهذه الزيجة. أنا من سيتزوجها. عارضت الجميع في أمري هذا بعدما عارضوني، وأنا مستعد للقتال من أجلها حتى الظفر بها، إلا أن ترفضني هي.
تبادلوا نظراتهم بين إعجاب بجسارته ومنطقه، وتنقيص من اعتداده بنفسه. ظنوه شخصا أخر سينضاف إلى قائمة من ترفضهم. لم يظنوا أن يصدر عن شاب من قبيلة منافسة وفي مجلسهم كل ذلك التحدي والإباء، فإذا بأبيها يقول مهدئا من حدة الموقف وتصاعد وتيرة غليانه الذي حاول "علي" النفخ فيه.
- لقد نطقت حقا وقلت صدقا، سننادي عليها وإن وافقت باركنا، أما إن رفضت وليت من حيث جئتنا حاملا هداياك معك.
أحنى رأسه موافقة والأمل يداعب نفسه. وأدخلت "بنت البنوت" مجلس أبيها تتعثر في ثوب الحياء، تشخص إلى الأرض، وتتوجس إلى رجفات قلبها المتسارعة. همست دونما تردد.
- نعم أبتاه. إن كان سيحسن معاشرتي، ويقيم أودنا فنعم أبتاه.
أخرست كل الألسن، وأقفلت كل الأفواه إثر صدور حكمها. وبوركا في تلك الليلة التي لم يغمض لها جفن إذ استمر الاحتفال بالعروسين حتى الغبش و"علي" يعض نواجذ الغيظ والتميز. لم يغفر لهما حبهما وهو الذي ودها لنفسه ليستولي على كل أراضي والدها إذ كانت وحيدته. وجعل يدبر لها مكيدة تعصف بزواجهما ذاك. فاجأته قبيلته عند نزوله وعروسه عليهم باحتفال كبير لم يقل عن الأول كرد عليه، إلا أنه دام سبعة أيام على عادتهم انتهى بفك حزام العروس. ترى أن العبور إلى الضفة الأخرى لايفشل دوما إذا كان قاربه الصدق وشراعه الحب تدفعه رياح الخير، رغم العثرات والإخفاقات. فعساك قد فهمت أن الحب الصادق شحنة قوية تجمع الناس حولها وتحارب أعداءها، فلماذا عمي بصرك عن الحقيقة وأنت محب صادق؟

عبدالسلام المودني
04-02-2009, 07:33 PM
الوجــه الثاني:
لم تكن استعانة "علي" بالسحرة بالأمر الجديد عليه. فقد دأب على ذلك طويلا، وقادته الغيرة وحب الإنتقام إلى أحد أصدقائه القدامى العاملين في الظلام، فأعمل سحره لتفريقهما، بيد أنه خاب إذ ظلل زواجهما صراخ توأم ذكر بعد عامهما الأول: "إبراهيم" و"عمر". ولم يعل صبره ولا كلّ عزمه، فمازال متنقلا من دعي إلى دجال إلى ساحر إلى محتال إلى أن تحرك شيطان الخبث لديه وجعل يفكر في سبيل يصيب به مناه. وهل يستيقظ الشيطان إلا في أوكار الظلام؟ إذ وبينما كان يجالسها أفتت عليه بشرك يقضي به على غريمه.
فاجرة يا بني لا حصر لعدد من قاسمتهم لياليهم. فضحته بإيعاز من "علي" الغادر، وطعنته في أعز ما ملك طول عمره، ونزعت من فوق رأسه تاجه المرصع الذي يبهيه. كانت ترقبه آيبا من صلاة الفجر، فإذا بها تستدرجه إليها ثم تشرع بالصياح والاستنجاد بأعلى صوتها بعدما قدت ثوبها وشقته، فرمته بالفجر. لاشك أن صوتي يصل إليك مضمنا بنحيبي في مرارة تأثرا.
أيكون فاجرا من كان بمثل خلاله الفاضلة النبيلة؟ ثم إنه كان قادما من بيت الله فجرا. لايمكن أن يكون السلوك فضيلة في ساعة ورذيلة في أخرى. أشك في ذلك حقا! وانطلت حيلتها على الناس أجمعين، وتناسوا من كان الرجل فيهم. حيلة نسائية أفلحت فيما عجز عنه عتاة السحرة. أخبرتهم والدمع يجري من عينيها مدرارا أنها عابرة سبيل لم تجد مكانا يأويها، غالبها النعاس فلم تنتبه إلا وهذا الرجل ينقض عليها كوحش ضار يفتض بكارتها. بقع الدم يا ولدي، أعدتها سلفا منثورة على ثوبها شفيعتها فيما ادعته. أنكروا ذلك عليه ولم يمهلوه دفاعه عن نفسه، كما لم يمهلوا أنفسهم وقتا حتى يتبينوا صورته جيدا وكانوا علماء به، فإذا أحكامهم تنزل عليه قاسية مجحفة وظلم الأحبة وذوي القربى أقسى وأمر.
"عيشة"، زوجه، الوحيدة التي لم تكن منهم. لم تشك في براءته قط. وكان صك براءته معرفتها المتجذرة به. لكن رجة نفسه الحساسة كانت عنيفة مدمرة أمام نظرات الزراية والاتهام التي جعلت تصيبه كسهام سامة أينما سار وأيان اتجه، وكانت سبب عارض ألم به فإذا هو مدنف لا يبرح بيته وجعا وكمدا. والده الشيخ أصابه أيضا لفح المهانة والمقاطعة. لم يقاوم آثاره طويلا ليسلم روحه إلى صاحبها. وجعلت "عيشة" تعنى بزوجها الراقد مرضا الذي اشتد ألمه حينما علم بأنه كان سببا في موت والده. حاولت عبثا أن تخفف عنه، وتداويه بحبها وبأعشاب تغليها له فتسقيه ماءها. بدأ يتضاءل بالتدرج حتى تلاشى واضمحل في ليلة ممطرة قارس بردها. امتزجت صرختها بصرخات السماء المرعدة وعبر المسكين إلى الضفة الأخرى، مجبرا كارها.
لم تتلق فيه عزاء من أحد وجاهدت كثيرا وحيدة منكسرة تودع جسده الثرى ليلا. غريبة أضحت وسطهم كما كانت. لا تكاد امرأة تحدثها أو تلقي عليها تحية إذا صادفتها أو تسمع ردا على تحية لها. ولملمت شجاعتها الكامنة وأجمعت أمرها على حمل ابنيها إلى قبيلتها، ملاذها الأخير حيث بيت أبيها.
لم تأبه قط بـ"علي" الغادر وتحرشاته. قوية كما عرفت على الدوام رغم انكسارها. نظراتها المتحدية لم تتغير أبدا حتى أمامه، وإن تفنن في ابتداع خطط للتودد لها والتقرب منها. كانت نافرة منه ترده في كل مرة موليا والخيبة تتعقب ذيوله. كان متذمرا كما يبدو للعيان من عقر زوجه ظاهرا وأخفى سرا عقمه وهو الذي عاشر نسوة من داخل قبيلته ومن خارجها دون أن يفلح في إخصاب أحداهن.
وإذا بالفاجرة تظهر مجددا من لا مكان. كأنها تتعقب "عيشة" الصبورة لتنغص عليها مقامها حيثما تواجدت. لم تكفها الأرواح التي أزهقتها ولا الأنفس التي شقيت جراءها. أتت مرضعة لأنثى قالت إنها ابنتها. واستوطنت القبيلة إثر اتفاق ضمني مع "علي" المهاب الجانب في قبيلته. صاحبته سرا في البدء بيد أن الناس ما عتموا أن بلغتهم آيات ظاهرة عن تلك الصحبة المريبة المخزية، ولم يجرؤ أحد على قول شيء خوفا من بطشه. زوجه هي الأخرى صمتت متواطئة مذعنة، وهي المرأة العاقر التي لا تصلح لشيء ولاشوكة لها ولاسندا.
يكبر ابناها. تسيجهما بحنانها ودفئها، وتوجههما بنصائحها ودعواتها. "إبراهيم" كان طامحا بلاحدود. مشرئب العنق على الدوام. لايرضى بالقليل ويبذل كل ما يملك وما لايملك للحصول على ما يريد. وورث "عمر" قناعة أمه وبساطتها وصمودها، وطيبة أبيه وعزة نفسه.
لطالما حذرتهما من "علي" الثعبان الذي يربض بقربهما، يتحين نهزة من جود الأقدار وغفلة الزمان ليذيقهما سم نفسه الحاقدة الزعاف. لم يرعو "إبراهيم" لذلك وهو المستخف بعظام الأمور التواق إلى المجازفة، واستجاب لنصحها "عمر" البر.
ضبط ليلا يتلاعب بالحدود ويغيرها فإذا حكم العائلة المجاورة ينزل عليه يهدده في حياته. علمت أمه أن الأسرة كانت تتربص به إذ قيل أنه كان يتحرش بإحدى بناتها فإذا به يفر ليلا كسارق يخرج من القبيلة إلى ضفة طالما حلم العبور إليها. يعتصم في فاس حذرا من أن يتعرفه أحد أو يدل عليه واش. وإذا هو يحتفظ بـ"إبراهيم" ويضيف "الشرقي" لقبا له.
أرى البغتة تعودك مجددا وما ينبغي لها. ألم أقل لك إن ماضيك ستبصرك من خلاله؟ لم يحدث والدك أحدا عن ماضيه ولاأتى على تاونات ذكرا. ظل شبح الخوف يستوطنه حتى بعدما أسس إمبراطوريته المغتصبة. لم يكن يدري أنه ولو فرّ منها فإنها ستلحق به أنّى ذهب.
في فاس، ضفته المرجوة، سيتعرف على خالك، وهناك سيشرع في إنشاء أولى ركائز أحلامه. تزوج من أمك التي وضعتك هناك وأختك الشريدة. ومن فاس، بعدما بدأت نجاحاته تطفو على حياتكم، سيتطلع إلى ضفة أبعد ودرجات أعلى. الرباط حيث سيخطو خطوته الكبرى لدخولها والتدرج في سلم الثراء فيها ومنها إلى البيضاء. لكن شيئا غريبا قلما حدث معه يربطه بالرباط فيستقر فيها بعدما بلغ ازدهار أعماله أوجه، وانتشرت شركاته ومصالحه داخل المغرب بل وخارجه أيضا. لم يحاول العودة للبحث عن أمه وأخيه "عمر" حتى بعد أن أضحى من الثراء ما يدفع عنه خوفه. حقيقة الأمر أنه كان يخشى ماضيه. قطع كل تلك المراحل وحيدا، وعبر إلى ضفاف أحلامه الرابضة وحيدا، وعدّ نفسه وحيدا. كذب يوم تعرف على خالك ومن بعد على عائلته، حين أخبرهم أنه قادم من الشرق لذلك لقب بـ"الشرقي"، وأن كل عائلته قضت في عام الجوع. أسقط منطقة بأكملها من جغرافيا نفسه، واجثت أناسا أحبوه وأخلصوا في رعايته، من ذاكرته. وإذا به يستعيض عن أسرته بأسرة زوجه التي منحته فيما منحته، لقبا ورأسمال تجارة. كانت فاس منطلقه الثاني بعد تاونات، أصل الحكاية ونبعها وأمه الثانية التي لم يبر بها إذ قلت زياراته لها مع توالي نجاحات عمله وازدهار تجارته حتى نسيها كما فعل مع أمه الأولى.
كذاك كان "إبراهيم". ولإن فعل ما فعل، فليعلم أن أمه قد غفرت له خطاياه وزلاته أجمعها. لقد سمعتها تبكي موته. نعم يا بني، لقد كان صوتها الأصم يصلك مع نحيبها في هذه الشرائط. فاعلم أني قد غفرت له قسوة قلبه وغلظته.
وإذا أنا و"عمر" نحاول جبر شروخه العديدة التي ما إن ننتهي إلى حل عقدة حتى نفاجأ بمصيبة أخرى قام بها في الخفاء. أنفقنا الكثير من الوقت والجهد والهدايا وماء الوجه في اعتذارياتنا المتواصلة لإصلاح أخطائه فإذا بنذر الشؤم تعاود زيارتنا تحلق فوق رأسينا.
لإن أوتي "إبراهيم" من نزقه وقوة طموحه، إذا بي أصاب في "عمر" بخيبة موجعة أليمة وقد أوتي من مسالمته ورهافة حسه وطيبة قلبه.
تشبه عمك كثيرا يا "قاسم". ورثت عنه بعض ملامح أعماقه يا بني. وقع في الحب من عل كما وقعت، وشتان ما بين الوقوعين.
أمام كل بنات القبيلة، لم يجد إلا ابنة الفاجرة "ليليان". كان اسمها غريبا عن قبيلتنا وعن منطقتنا كلها غرابة أمها وأفعالها وأصلها ومنبتها.
ابنة من كانت حقا؟
كذلك ملامحها كانت غريبة عنا. جميلات بناتنا إلا أن جمالهن أثيل متزن شامخ شموخ الجبال التي احتضنتهن. جمالهن يا بني يتوافق وطبيعتنا وأعرافنا وعيون وأذواق رجالنا، بيد أن جمالها كان من نوع آخرغريب عنا لم نعهده فينا من قبل. كان مكشوفا فاضحا، يبهر الأعين حد العمى ويخيف. كان مخيفا حقا.
ولإن كانت بيضاء البشرة، فإن بناتنا بيض أيضا رغم لفح شمس تطاردهن في أعمالهن خارج بيوتاتهن. لم يكن الإختلاف هنا ولاكانت الغرابة ثمّ. لون عينيها الشهلاوين وشعرها الأشقر لم يكن مألوفا لدينا، ثم صعوبتها في إخراج بعض الحروف بسبب لثغ لسانها الظاهر ولكنتها الغريبة.
ما أزعجني أكثر في حكاية حبها المزعوم ذاك، أنها كانت ابنة الفاجرة التي سقتني من كأس الشقاء والحرمان، وكانت سببا في موت والده، جدك، لؤما وغدرا وطعنته في ظهره وأخذت منه كل ما كان يملك. بدأت حكايتهما في غفلة مني. ظننتني وضعت في نفسه ما أمكنني من سلاح يواجه به "عليا" و"الفاجرة"، فإذا به يهزم في جبهة منسية. أوقعته نظرات "ليليان" وأدخلته جنة من ظلال حسبها حقيقة جهلا وتوهما. دأب سرا على الالتقاء بها. فاجئني ذات يوم بخبر رقصت له جوانحي فرحا بدءا، بيد أنه غمّني مع استرساله في الحديث عن عروسه المرتقبة.
أتاني عازما مصمما يحفظ ما يقول وكأنه لقن ذلك تلقينا. كان يملك إجابات على كل أسئلتي. كان يريدني أن أذهب إلى "الفاجرة" صاغرة أطلب يد ابنتها لـ"عمر" ابني، وأنا أعلم أن ذلك كله ما أريد منه حقا إلا أن تكسر شوكة أنفتي وتذل ناصيتي. كنت أعلم أن "عليا" الملعون من يخطط ويدبر، وما "الفاجرة" وابنتها إلا يديه اللتين يسلطهما علينا لغايات دفينة في نفسه نجهلها وتعلمانها معه حتما.
أكان علي أن أقبل ذلك الحب الموهوم؟ أمر دونه الموت.
أكان علي أن أبارك كل ذلك وأنا "عيشة" الشموخ والقوة والتحدي؟
زد على ذلك جهلي الكلي بما يخطط له "علي" في عالمه الخفي المظلم. كنت أخشى علينا من تدبيره الشيطاني. ولما جابهته بحقيقة "الفاجرة" و"علي" صاحب وشمة قلبي المحرقة وندبته الغائرة، وفتحت عينيه على "ليليان" كما أراها ويراها معي من في القبيلة سرا، استسلم لرغبتي الجارفة بدون حماس وبألم أخرس صامت. ولعلمي بعذابه وشقائه، وعدم استطاعته نسيانها تماما هرعت إلى حل آخر. رضيت بعذابي على أن يجهز عليه القهر والعذاب يوما إثر يوم إذ يراها دنية منه محرمة عليه.
لو خيرت لافتديت ابناي بروحي وحياتي على أن ألمح طيف عبرة تستوطن مقلة أو تعبر منها. كنت دوما متحفزة وما أزل. لأن أقضى على أن أسمع همس أنين يمرق بين ضلوع أحدكم. واخترت أن أفعل مثل ما فعلته مع أبيه من قبل حين تركت كل شيء خلفي في سبيل حب تحرك بين أحشائي، وهزم حبي لابني حبي لأرضي الطيبة المباركة. خرجنا ليلا، نلتف بعباءته القاتمة. نتعثر في طيفينا محاذرين أن تقع عين ساهرة علينا. ترقبنا السماء بعينها المقمرة. ترافقنا دعوات جبال الأنفة والعزة. ذرات تراب أرضنا تشبثت بأرجلنا متوسلة متضرعة ترجونا ألا نغادر. لم تكن تردنا أن نكـون "إبراهيم" آخر. كانت تخشى علينا الضياع بين الضفاف. كان يصل صماخيّ انتحابها وتوسلها. أخذت أحفن منها وأودعها صرة صارت بعد ذلك ملاذي عند الضيق واشتداد الوجد. كنت أتشممها بشوق مشفوع بأمل العودة ذات يوم، مرفوعة الهامة لاأخاف من شيء ولاأخشى على أبنائي أحدا.
(يتبـــــع)

عبدالسلام المودني
04-02-2009, 07:34 PM
الشريـط السادس
الوجــه الأول:
ريح قبيلتي ورائحتها.. صورها ووجوهها.. دورها وأغراسها.. واديها ونبعها.. سماؤها وطينها، كانت زخرفا بديعا لما بداخلي، ولم أحتج معها إلى الحفنات والصرة.
لو كان الأمر بيدي لمكثت هاهنا على الدوام، ولكني عليمة بضعف "عمر" وسرعة استجابته لدواعي قلبه مع شدة مكر الفاجرة، واتساع حيلة ابنتها. فخرجنا وأسئلة عديدة تكاد تمزقني.
أين عسانا نذهب؟
وإذا ابتعدنا، هل نأمن على نفسينا؟
لكن السؤال الذي ألح علي كثيرا:
أيقدر لي أن أعود يوما إلى قبيلتي، موطني؟
كان همي العاجل إثر فرارانا، الذهاب بعيدا ما استطعت عله ينسى "ليليان". أعلم ما يمكن أن تقوله عني. قد تراني ظالمة في حكمي عليها بجرم لا يد لها فيه، وقد تقول أنها ربما كانت صادقة في مشاعرها تجاه ابني. ولن هل تعلم عدد الليالي التي رحت أصارع فيها فكري وعواطفي أقلب الأمر على فراش الروية؟ وكنت أخلص في كل مرة أنها لم تكن صالحة له. لقد رأيتها نسخة عن أمها، ولكن بشكل آخر.
بلون عيون أخرى. بطريقة مختلفة وبكلام مختلف.
ماذا كنت أنتظر من فتاة ربتها أفعى سامة قتلت جدك وأباه؟
لم أظلمها حين أنزلت عليها حكمي الذي ما كان حكما عليها. حاكمت نفسي وكنت المتضررة الأولى من كل ذلك. وبعد أن اطمأن قلبي في مكناس الأسوار و"الهديم".. "بركاتك الشيخ الكامل"، أخذت عاطفة الأمومة تستيقظ من غفوها قوية ملحة، ولمت نفسي كلما لمحت في عيني "عمر" حزنا مدفونا وخيبة ثاوية. حاول حياء مداراتها بيد أن عينيه كانتا تئنان في صمت يسمعه قلب الأم. وكدت أضعف أمام بؤسه. وخيرا أني لم أفعل، إذ أسلمت أمري للأيام علها تكون دواءه. وفي غمرة مشاعري الفياضة، ومع ما قد يكون لحق بابني "إبراهيم"، وأنا جاهلة ساعتها مكانه، انتابتني رغبة قوية في لملمة أجزائي المبعثرة، فإذا برحلة بحثنا ترمينا من مصر إلى بلدة، ومن قرية إلى مدشر، إلى أن ألقتنا إلى سلا الشموع والأولياء. وهي كما يقولون في كل خطوة ولي صالح "بركاتك سيدي جبل بن جبل فكاك العقدة من الحبل". وأحسسنا بألفة غريبة سرت في عروقنا إذ وجدناها ضفة هي الأخرى كتاونات الجبال وأساطيرالرجال "بركاتك مولاي بوشتة الخمار".
حين كنت أسكن قبيلتي، كانت نارا وأهلها حطب أتلظى بها في كل آن وحين. وحين خرجت منها مضطرة، صارت تسكنني. وإذا هي أشواق غامرة فياضة تجرفني وتنزع بي إلى أطايب الذكرى في كل آن وحين. واحتضنتنا زقاقات المدينة العتيقة نتنسم في جدرانها جزءا من ذواتنا، وإذا نحن نطوف خلالها و"عمر" يصيح:
- هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟ هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟
حتى إذا انتهينا إلى حي الزناتي، أطل رأس فتاة زينه خمار كستنائي مطرز، وأوقفتنا كلماتها بصوتها العذب مشيرة لنا بأن لديها غايتنا. وإذا مصراع الباب يفتح في وجهينا، وأذر ابني لدى الباب ينتظر هنالك فيما تقتادني الفتاة التي اكتشفت بدانتها عبر دهليز التف بنا يمينا ارتقينا بعد نهايته بضع درجات حيث قابلتنا غرفة، توسطها مجلس سيدة بدينة فاضت ضحكتها، وامتزجت بكلمات ترحيب ودودة.
- أهلا بك أختي.. أهلا بكم في سلا العلا.
أجبتها ممتنة:
- بارك الله فيك سيدتي.. أحسب أن ابنتك أخبرتنا أن عندكم غايتنا.
عجيبة ابتسامة المرأة التي لا تفارقها، كأنها تطلع زوارها من خلالها على نابي فكها العلوي المذهبين.
- تقصدين ابنة ابني يا أختي.. أي نعم.. لدينا ما تبحثون عنه إن أراد الله.
كانت الفتاة التي استقبلتني لدى الباب، والتي تشبهها بدانة وملامح وجه، حفيدتها. والمرأة كما تبدو في مثل سني أو أصغر، تمتلك وجها ينضح بالحياة، لم تنفذ إليه تجاعيد، ولم يكن من شيء يفضح سنها غير شعيرات حمراء تساكنت وأخرى بيضاء في سلم ورضى تسللت من غير إرادة تحت منديل رأسها الضخم.
وتدلف الحفيدة إلى الغرفة دون أمر. تفاجئنا فعلا بخفة وهمة ولا تتفقان واكتناز جسمها المفرط، تحمل بين يديها صينية بدت صغيرة، ضمت أكوابا وإبريقا. وضعتها أمام جدتها في حركة كما بدا لي وقتها اعتيادية. وإذا المرأة تملأ كوبين معممين كشيخين قرويين. كنت مبتهجة في أعماقي. فالبيت جميل جدا، ينشرح له الصدر إذ توسطت باحته أغراس تخلب الأبصار، وأصحابه خيرون. تذكرت "عمر" الذي سلوت عنه بسبب انشغالي بحسن حديث المرأة وحاتميتها المنعنعة.
- إذا سمحت لي سيدتي أرى الحجرة.. لأني تركت ابني "عمر" في الخارج.. أحسب أنه متضايق من طول انتظاره.
رمقتني المرأة بنظرة عتاب لطيفة وصلتني مع أنها حافظت على بسمتها الذهبية العجيبة، فقالت موجهة حديثها لحفيدتها:
- "جميلة".. انزلي عند ابننا "عمر".. وادخليه إلينا.
فقلت معتذرة.
- اعذريني سيدتي لا أظنه سيدخل.. لأنه يستحيي كثيرا.
بدا أنها لم تكترث لي، وأشارت إلى حفيدتها برأسها التي ذرعت الحجرة كما دخلتها بخفة غزال ومرح طفولي لذيذ. سألتني المرأة وقد نست تماما أمر ابني.
- ترين البيت الملاصق لبيتنا هذا، هو لإبنتي "جميلة" حرصها الله. ومن حسن حظكما أن إحدى غرفه قد أفرغت بالأمس فقط.
كان اعتراضي لعلمي بطباع ابني المتحفظة، وذلك ما تأكدت منه المرأة حين عادت "جميلة" والخيبة تكدر ملامح وجهها العريض زامة شفتيها العبلتين، وإذا جدتها تدرك ذلك فتقول لها بكلمات ذات معان:
- لا بأس يا ابنتي. سندخله بيتنا هذا في القريب. خذيهما إلى الغرفة علها تعجبهما.
لم أكن على علم بما قصدته خلف كلماتها تلك. وإذا الفتاة تقتادنا إلى البيت المجاور فبدا لي الفرق بين بيتهما المعمور والبيت المكترى المأهول أيضا. وانتهت بنا إلى غرفة في أقصى اليمين من بابه الذي قابلته باحة غابت عنها أغراس دارهم واستوطنتها حبال ارتمت فوقها أسمال الجيران بخمول. وتدخلنا حجرتنا الموعودة فإذا هي فضلات حجرة بقيت ملامحها أو بعض ملامحها. وإذا بصرصر يتغندرأمامنا غير مبال بنا وكأنه في موطنه غير آبه بأحد، ومن سوء حظه أن لمحته "جميلة" إذ داسته بقدمها الضخمة فتلوى على إثرها صريعا دون حراك. وترميني بنظرة غائمة وشبه ابتسامة دلالة على التعود على الفعل وهي تقول:
- لا بأس يا خالة.
وتذرع حجرتنا، فيفاجئني الصرصر إذ قام كأن لم يمسسه شيء. أدركت ساعتها لعبة الضعف التي تمارسها الحشرات أمام بلادة القوة المستعرضة، وأدركت أن الضعف أيضا ينتصر من حيث يدع للقوة انطباع النصر المزيف. كان ذلك أول عهدنا بسلا. لقاء مع هذه العائلة التي غمرتني سيدتها الأولى بأفضالها. لم تناقش الإيجار معي والذي اكتشفت فيما بعد أنه نصف ما كان يؤديه الذين سبقونا. أدينا ذلك من بعض ريالات احتفظنا بها من أعمال "عمر" المتفرقة، ولم تقف أفضال السيدة الأولى عند حدها ذاك، بل ذهبت أبعد من ذلك. وجبتان في اليوم، تبعث بهما مع "جميلة" التي اكتشفت بعد اقترابي اليومي منها بأنها بخراء. وشيء أن تكون رائحة فمها أولى عذاباتي في سلا.
وإذا الأسئلة تتعقبني ملحة لم كل هذه العناية التي أضحت عادة؟ كدعوتي المسائية لكأس الشاي عندها. كنت كلما اعتبرت الأمر عن حسن نية، كرما فياضا، أنظر إلى حال جاراتي التي لم تعمل مع إحداهن حسب علمي، عملها معي. ثلاث نسوة لا تمتد إليهن يد الكرم بشاي النعناع المسائي، ولا الوجبتين المغذيتين، وكن كما يبدو في حاجة مثلنا لذلك.
كان الأمر يضايقني كثيرا إذ لم أتعود على مد يدي لأحد، ولا وددت أن يكون لأحد فضل يكبلني به ويذلني، ولكني لم أشأ ظلم المرأة وابنتها، وأنا لم يمسسني منها سوء إلا رائحة فم "جميلة".
كان ابني متضايقا أيضا في صمته الهاذر من "جميلة" التي تتوافق أطباقها وساعات تواجده. لحظت ذلك فيما لحظت نظراتها الشرهة وإعراضه المطلق عنها. وإذا الأمور تبدأ بالوضوح أكثر، عندما همست لـي "غيثة" الجارة مازحة:
- احذري على ابنك "عمر" من "السمينة"، ستأكله إن تركته لها ولجدتها بعد أن يذبحه والدها الجزار.
هنالك أخذت أتحاشى ما استطعت اللقاء بالجدة التي لم تكن تفارق مجلسها، وصارت تعلم لماذا؟ وأتخلف عن مواعيد الشاي المعتم. أتظاهر بالإنشغال مرة، وبالمرض أخرى والسفيرة "جميلة" تنقل اعتذاراتي المتواصلة لجدتها، وأخذت أتحين الفرصة لأصدها وأطباقها التي قد يكون "عمر" ثمنا لها. أزجينا بعد ذلك شهرين هنالك على مثل ذلك الحال، تدحرج "عمر" خلالها بين عدة مهن ارتبطت جميعها "بالسوق الكبير". فمن حمال، إلى صبي بائع داخله، ثم على طرفه بعد ذلك. وكان خروجه من السوق الكبير إلى مقهى عمل فيها نادلا. عرف هنالك بـ"اجبيلو". تلك المقهى الصغيرة المكونة من بضع طاولات وكراسي خشبية مسجاة على طول ممر ضيق، ستصير له معها حكاية عجيبة ستغير حياتنا كلها. المقهى الصغيرة أضحت موطن رزقه الجديد ومودع قلبه. حدث ذلك منذ أن أطلت عليه ذات صباح ابنة صاحبها من نافذة بيتهم المتثائب. لم يقاوم أحد قبله مذلة الإشتغال في المقهى الصغيرة، إذ ما أن يمضي وقتا يسيرا حتى يفر من لهيب تسلط مشغله، وتطاول الزبائن، بيد أن اصطباحاتها كانت زاده في صبره وإصراره. طلتها ظلت تمده بشحنة نفسية قوية لمواجهة أعباء يومه، وملاحقات "جميلة" البدينة عند عودته مساء. كان يأتيني جذلا فرحا. وكنت ألحظ ألق ذلك في عينيه، وأرهف السمع إلى أنفاسه عند نومه كأنغام سعيدة، وأعلم أن شيئا ما يحدث معه.
وتشاء الأقدار أن يقعد المرض مشغله في بيته. وإذا "بعمر" يحقق أعز أمانيه. لم تعد اصطباحاتها مجرد نظرات نافذة من عل، إذ أخذ يصعد إليها كل صباح لأخذ المفاتيح ويعيدها عند المساء ومداخيل المقهى اليومية. همسها بتحية الصباح يداعب صماخيه ويطرب قلبه اليوم كله.
كانت دواءه من كدر الإبتعاد عن "ليليان". صفت نفسه وتعرف على الحب في أبهى صوره وأسماها، ونجحت في محو أثار الحزن الرابض في عينيه فأحالت أيامه إنتشاء لم يتذوقه من قبل.
ويدأب على الوفاء لعادته شهرين آخرين، بينما تدعوني المرأة إليها على عجل لأمر هام حسب المبعوثة "جميلة" فإذا بها تحدثني صراحة ودون مواربة:
- صرتم الآن تعرفوننا جيدا كما أننا نعرفكم.
أحنيت رأسي إصغاء للأمر المتوقع فتضيف مقترحة:
- نريد أن نفرح بالأولاد، وتأتيان للعيش معنا هاهنا، فالبيت كما تعلمين كبير. وليس فيه إلا أنا وابني ووحيدته.
أبديت غباء في غير موضعه رميت من ورائه البحث عن طريق للخلاص ووقت للتفكير في رسمه.
- ماذا تقصدين سيدتي؟
اتسعت ابتسامتها الذهبية وهي تقول:
- نزوج "عمر" "لجميلة".
"بركاتك سيدي المخفي". حدث ما كنت أخشاه. أكنت أقبل أن يعذب ابني كل هذا العذاب الأرضي البدين؟ طبعا لا. كنت مستعدة لفدائه وأخيه بروحي في سبيل رؤية سعادة كتلك التي بدأت تسكن سماءه.
- صراحة سيدتي الأمر مفاجئء لي، وأحسب أن هناك سوء تفاهم كبير.
لأول مرة منذ تعرفت عليها، اكتشفت وجهها بلا ابتسامة. وبعينين جاحظتين تساءلت صامتة تطلب مزيد توضيح:
- قرأنا للولد الفاتحة مع ابنة عم له في تاونات.
كانت سيماء الغضب بادية عليها..وهي تمنحني حلا لهذه الورطة.
- الفاتحة؟ وما تعني الفاتحة؟ نعيد قراءة فاتحة أخرى والمعوذتين والصمدية، بل نستدعي فقيها يقرأ لنا القرآن كله "وكفى الله المؤمنين شر القتال" ولو كان متزوجا يطلق.

عبدالسلام المودني
04-02-2009, 07:49 PM
ال
وجــه الثاني:
كانت صادقة في قولها، وأرهبني ذكر القتال في حديثها، فانكمشت في ركني أنظر إليها في شبه استسلام وأتصور "جميلة" البدينة تعينها علي. أضافت:
- ... إنه يحب ابنتنا وهي كذلك متعلقة به. إلا يتزوجها تقتل نفسها.
صحت بدوري في محاولة أخيرة يائسة.
- ولكن ذلك لا يمكن. نقض العهود ليس من عاداتنا. وإذا منحنا الكلمة لأحد لا يمكننا التراجع عنها مهما حدث. على الكلمة تهدر الدماء وتزهق الأرواح.
تغيرت نبرة صوتها فإذا هي قوية مجلجلة.
- العهد؟ وما تعني العهود إذا كانت ابنتي ثمنا لها. ثم إنه منحها وعدا بمعاملته اللطيفة لها. لقد كانت تنتظره ورفضت لأجله خطابا أتوها؟
لم يكلمها "عمر" في حياته قط. حتى عندما كانت تلقي عليه تحيتها الغليظة، كان المسكين يكتفي بهزة من رأسه. أكان ذاك عهده الذي أعطاها؟ المفترية! والخطاب الذين تتحدث عنهم، لو لمحت طيف رجل لحسبته خاطبا، ولألقت له بأطنان لحمها المتكدس. وتضيف المفترية في شبه تهديد أقلقني حقا وأفزعني.
- أختي.. لن يمر استخفافكم بنا بهذه السهولة.
تصورت ابنها الجزار الذي لمحته مرة بشاربه الكث يذبح "عمر" ابني كشاة مغلوبة على أمرها، وأدركت أن علي مجاراتها بدل تهييجها فالمواجهة معها غير متكافئة، وهي غير مأمنونة العواقب. وبدا لي الشرر يتطاير من حدقتيها حتى لأكاد أجزم أنها ستبتلعني. أأكون مثل ذلك الصرصر الذي ظنت حفيدتها أنها انتهت منه، وأمنح لنفسي وابني حياة أخرى أم أجابهها ولاشك أني سأكون خاسرة أمامها؟
واستهوتني لعية الصرصر، وسقطت أمامها بلا حراك.
- لا تقلقي نفسك سيدتي، سنتشاور في الأمر، ونرد عليكم بالخير إن أراد الله.
بالسرعة التي غضبت بها علي، رأيتها ترسم ابتسامتها الإعتيادية وهي تقول في اقتناع بظفر نالته.
- حسنا. سننتظر زيارة "عمر" لإبننا.
وتدخل جذلى العروس المرتقبة كأنما كانت تتسمع حديثنا. ضفيرتاها تاهتا فوق كتفيها العريضين، محملة بصينية تضعها أمام جدتها في حركة اعتيادية، وضحكة ثخينة تلتهم فمها. لست أدري لمَ تصورتها من موقعها خارج غرفة جدتها تسترق السمع لنا وقد حطت الصينية المعلومة عن يمينها وساطورا عن يسارها. والواضح أني اجتزت هذا البلاء بنجاح وإلا لكنت ضعت هناك بضربة ساطور قاصمة.
وإذا ارتعاشة قوية تسري في جسدي سريان الدم في عروقي. وأحسست بدوار شديد، فاستدعيت قواي من معاقلها، وأنسحبت معتذرة إلى حجرتي أحمد ربي أن أنجاني من شر مستطير إلى حين.
يوم أسود ذاك الذي مررنا بحيهم وتلقفت أسماعهما نداء "عمر"، وأجابتنا "جميلة" الرشيقة. لو علمت الصعاب التي ستعترضنا معها لما مرقنا من حيهم حتى صرنا مهددين في حياتنا. خلت متاعب يومي انتهت مع خروجي من غرفة المرأة، وأصارحك أني لم أعرف لها اسما ولم أسع إلى معرفته. ناديتها في سري منذ أول مرة وقعت عيناي عليها بـ"دردورة"، وبدأ يعني لي هذا الإسم الفزع والخوف والقلق.
غادرت إذن غرفة "دردورة" وجلة مضطربة والدوار يتلاعب برأسي الواهنة، ولم تكد تمضي إلا لحظات حاولت خلالها استرداد أنفاسي المشتتة ولملمة نفسي المبعثرة واستعادة هدوئي المفقود، حتى تناهى إلى سمعي صوت خطواتها العاتية تهدج إلي دبا على الأرض بثقل في إحدى خرجاتها النادرة، وإذا هي تلج حجرتنا كإعصار مدو من دون كلفة أو استئذان.
عاودتني تلك الرعشة الباردة عند رؤيتها، وشحب وجهي، وتصلبت أطرافي وتحلب دمي وخلت أنها نهايتي الوشيكة تسرع نحوي دون إمهال، فإذا هي تحط بعناء على الأرض جالسة، وطبقات لحمها بعضه فوق بعض كدور سلا المهمشة. كانت البسمة تعلو محياها في شبه ارتياح منها، وكان كل ذلك حقا مشروعا تمارسه دون تفريط. ألم تكن في بيتها؟
- اعذريني يا أختيعلى زيارتي المفاجئة هاته.
قلت في شبه استسلام:
- البيت بيتك.. سيدتي.
وجهها طالعني كصفحة بيضاء تعذر علي فك رموزها، وقراءة ما حوت، لذلك ما انفكت تفاجئني.
- أتيتك لأطمئن عليك أولا، إذ بدا لي تكدرك من حدة كلامي معك...
لطيفة هي "دردورة" فعلا تحاول الاطمئنان علي. قاطعتها أود الاطلاع على الأمر الثاني الذي هو الأهم.
- لا تكترثي لذلك فأنا أختك.. أليس كذلك سيدتي؟
استطردت:
- أما الأمر الثاني، فلست أدري كيف سقط عن رأسي؟ يبدو أني كبرت وصرت أنسى كثيرا.
ولما لم أعلق، تابعت:
- هو شيء هام مررت عليه في حديثنا دون أن أوضح قصدي فعلا، عندما قلت بأنكما ستأتيان للعيش معنا، لم أكن أعني فقط أني أريد "عمر" "لجميلة"، ولكني قصدت أن تكوني أيضا لابني.
لست أملك وصفا لدهشتي وبغتتي الشديدتين. فالمرأة خارقة للعادة حقا. كنت أتوقع أن تأكلني في أية لحظة لكن ليس بهذه السرعة، ولا بهذه الطريقة.
كان الأمر أبعد عن كل حسبان. هل كانت حقا تخطبني لإبنها الذي لمحته مرة واستنتجت أنه لا يكبرني إلا بقليل، بيد أنه كان يعرضني بحوالي ثلاثة أضعاف؟ كان مندلق البطن بشكل عجيب. كان من فصيلة "المدردرتان" أمه وابنته. لا أذكر من ملامح وجهه إلا شاربه الكث وأنفه الروماني العظيم، وشفتيه الغليظتين. هل من مخرج لي من هذه الكارثة التي قادتني إليها قلة الحيلة وتصاريف القدر الغريبة. استنتجت بما استبقيت من رشدي أنها تساومني، وتحاول تطميعي بزينة الرجال ابنها الذي سيسترعرضي، ويملأ وجبات يومي من خير لحمه، ويدفئ فراشي من خير لحمه أيضا. أرادتني أن أقبض ثمن "عمر" لحما. أراداتني أن أذعن للتضحية بابني "لبنت البنوت" "جميلة" التي ستلملم طيش ابني وتمنحه "دردورات" صالحات من فصيلتها. مسكينة حقا هي، وساذجة هي فعلا. لم تكن تعلم أني رغبت عن كل متاع الدنيا وزهدت في كل شيء منذ فقدت زينة الرجال سراج قلبي الذي مازال منيرا.
ظنتني لاحمة من فصيلتها، ولم تكن تدري أني صرت عاشبة عاشبة عاشبة. كنت في قراري المكين أعلم عن سابق تجربة ألا فائدة ترجى من مجابهتها، فإذا بي ألجأ إلى المهادنة عساني أتخلص من طيفها الثقيل على قلبي حتى أتمكن من استرداد وعيي بعدما أفقدتنيه بلكماتها المتلاحقة والموجعة في مباراتنا اللامتكافئة. لم أكن في وزنها ولا في جبروتها، وإذا ابتسامة لا أعلم كيف أبصرتها وحكمت عليها أخفي بين طياتها خبثي وتذمري.
- نفكر في الأولاد أولا وبعدها نرى ما يكون من أمرنا نحن الكبار.
قالت بصوتها المجلجل الذي أحسبه وصل مسامع الجارات المتحفزة.
- لا تقولي ذلك وأنتما بعد شباب. والله يا أختي لو جاءني خاطب لما رددته.
هنا فقط حمدت ربي في سري على نوازله الهينة وإلا لو رأت "عمر" لعدت ابتسامة منه أو رد تحية تصريحا منه بخطبتها، ساعتها حتى الأمم المتحدة ما كانت لتنفعنا لتخليصه من قبضتها الفولاذية ونابيها الذهبيين، ولكانت انتزعته من "جميلة" اللذيذة عنوة التي كانت ستقف في غرفة الإنتظار وعيناها على ضحية أخرى. أخذت تسترسل في هذرها.
- تعلمين ما أحلم به؟
همست كالبلهاء.
- هه؟
- حلمي أن نقيم عرسكما في ليلة واحدة فماذا تقولين؟
إنتشلت نفسي من كوابيسها البشعة.
- الحقيقة أن الأمر مفاجئ كما قلت لك عزيزتي. تمهليننا بعض الوقت للتشاور، وثقي بي أرى الأمر فيه خير كبير لنا جميعا. فلا تستعجلي.
واصطنعت بجهد ومشقة دلال العرائس وخجلهن، ولست عليمة إن كنت بارعة في تصنعي، وشككت للحظة في ذلك إذ أفلت بسمتها مجددا، وأخذت ترنو إلي بلا معنى، وصعد قلبي ساعتها إلى بلعومي، واحتجز هنالك ولم يعد إلى مكانه إلا بعدما عفت عنها مجددا لتريحني بعض الوقت.
وتتمايل في مجلسها كأنها تستعد للقيام أو تحاول جاهدة لذلك فتدخل علينا الخفيفة المرحة "جميلة" من حيث لا أدري وهي بلا شك كانت تسترق السمع إلينا وهو أمر بدأت أعتاده ولم يعد يضايقني، حتى إن درجة تفاجئي لم تصل أبداً حد فعلها. وتغادر الفيلتان حجرتي الصغيرة المتراقصة على إيقاع خطواتهما العاتية. خرجتا تركبان حصانهما الطروادي، ورايات النصر وأعلام الظفر تخفق في سمائيهما.
تركتني "دردورة" و"دريدرة" ما بين الغيظ ومغالبة الضحك. حقا لقد كان شر البلية ما يضحك، بيد أني خشيت على نفسي من الضحك الذي كان سيسترسل بلا شك إلى ما لا نهاية، حتى تتهاطل الدموع من عيني، فتصير من برودة ضحك مستخف إلى حرارة بكاء مرير.
ماذا عساني أصنع أمام هذا المأزق الثخين الذي ألفيتني وابني داخله؟
أكانت المجابهة تنفعني مع هذه الأسرة وقد بلغني من صريح تهديد زعيمتها ما لا يدع مجالا للشك على خطورة عصابتها؟
لم أكن محتاجة في حقيقة الأمر إلى كثير وقت لأصل إلى قراري. مخرج وحيد كفيل أن ينقذ رأسي وبقية حياة "عمر". مخرج وحيد من هذا البيت ومن الحي أجمعه، ومن كل سلا إن لزم الأمر ذلك. طيف نور باهت عند نهاية السرداب بدا لي، وقررت أننا سنخرج من هناك كما خرجنا من قبيلتنا متسللين.
ولإن كان السبب واضحا في الخروجين معا، الخوف من الآخر وسوء تدبيره، فإن الفرق بينهما جلي واضح. نحن إن خرجنا من قبيلتنا فقد خلفنا وراءنا بيتنا، وأرضنا وزيتوننا وتيننا وبقية أهلنا وذاكرتنا. لكننا هاهنا، سنرحل غير آسفين، وسنهجر المكان هجرا لا عودة بعده. ما يبقينا والموت يتهددنا من قبل "ريا".. و"سكينة"؟
لا أدري كم استهلكت من وقت منتظرة قدوم "عمر"، أغلي على نار الإنتظار المستعرة، حتى تناهى إلى سمعي وقع أقدامه يجرها بثقل في تعبه المسائي المشروع. واستلمته لدى الباب بلهفة، ورغبتي تجمح بي إلى بسط الأمر إليه دفعة واحدة مع نيتي المبيتة، ولكني تراجعت في آخر لحظة بعدما شممت رائحة اللحم والشحم والعرق غير بعيد عنا. ولما كنت الأعلم بطبيخ الجارات، استبعدت أن تكون لعشاء أسرة من جاراتي المعدمات، إذ اللحم منتف أساسا من قائمة غذائها.
تميزت طول حياتي كما تتميز جل الأمهات بتلك الحواس الحيوانية المتيقظة على الدوام المتحفزة عند اقتراب الفرائس التي ستفتك لا محالة بصغارها.
وإذا أنفاسي تلتقط أنفاسا غريبة معهودة تزكمها. تضايقني هذه اللعبة المكرورة فقررت استخذام الحيلة، وقد صرت خبيرة في ارتجال الحيل منذ تعرفت على "دردورة" الفريدة فقلت لـ"عمر" مصطنعة فرحة مرتجفة.
- لدي خبر سيبهجك حقا حبيبي.
ابتسم في وجهي بوداعته المعهودة. أشرت له بالصمت بأن وضعت سبابتي فوق فمي ثم جعلت أحطها على شحمة أذني وأهزها مشيرة له بأن أحدا يتسمعنا، فرسم تساؤلا عريضا على عينيه، وقلت:
- السعد يدنو منك، وأخال أبوابه ستشرع لك.
أكله الشوق والفضول وعدم إدراك ما أرمي إليه صراحة بإشاراتي المتواصلة وهو الذي تعودني مباشرة في أحاديثي غير خبيرة بليها.
- غدا سنخرج لشراء هدية نقدمها لخطيبتك.
لاحت فرحة صبيانية من وجهه، وتساءل بمرح:
- أحقا ما تقولينه؟
أجبته من فوري وأنا أهز يدي بألا يتكلم فيفضحنا.
- طبعا حبيبي. كنت تظن نفسك قادرا على خداعي وسعادتك بها تكشفك أمامي.
تساءل بحيرة:
- لكن، كيف عرفت؟
المسكين. حسبني أحدثه عن حبيبته ابنة صاحب المقهى، مشغله. لهذا لم يكلف نفسه مشقة اصطناع فرحته، وإلا لكان أفسد علي ترتيبي. ولم يخذلني حدسي الأمومي إذ لمحت طيف الفريسة من فرجة الباب قبل أن تندرئ علينا كعادتها.

(يتبــــع).

عبدالسلام المودني
24-03-2009, 01:11 AM
الشريــط السابع
الوجــه الأول:
كان الطبق بين يديها، ونظراتها تكاد تأكل "عمر" حتى لكأنني فهمت أنها كانت تنوي أن يمتد كرمنا لدعوتها معنا لتختار هديتها بنفسها. الخفيفة الظريفة! لو تجرأنا على ذلك لأفزعت كل من في الطرقات، ولأخليت رعبا منها. ما أوسع طاقة تحملنا ! قالت بصوتها الحنون:
- مساء الخير.. سيدي "عمر".
لم يجبها، وكان التضايق باديا على وجهه، ولم يحاول إخفاءه من طريقة دخولها علينا. لم تكترث له، وقالت موجهة حديثها لي:
- جدتي تقرئك سلامها، وتبعث لك من فضل خيركم يا خالة.
يا لأدبها وحسن تأدبها! جدتها تبعث لي سلامها ورائحتها مازالت تعطر حجرتي، وكأنها تبعث لي سلامها من العمرة! وفي أثناء خروجها ترشق "عمر" بسهام نظراتها في دلال فياض مبتذل. علمتني "جميلة" تلك الحذر في أقصى درجاته، لذلك حين همّ "عمر" أن يعاود فتح باب الحديث معي عن صدق قولي، وعن كيفية علمي بأمره، أشرت إليه بالصمت وأخذت أغير دفة الكلام حتى يغدو عاديا لا يثير أذن متلصص.
ليلي محيطي، ونفسي سفينة تمخره. تحاول البحث عن الضفة الأخرى. الضفة المفقودة! وعندما ألجه مرغمة كرسالة دون عنوان، أبحث عن مرفإ أجعله ضفتي، لكن دون جدوى. تعيدني سفينتي حيث بداية الرحلة. لامستحيل أعترف به. أعاود الكرة في حلمي الإرادي المقبل وأكررها في كل ليلة عبثا. ولكن لا مستحيل أعترف به!
أرفرف جفني وأوصوص عيني في الظلماء أبصر أنفاسه المنتظمة. أمد إليه يداً مرتعشة أحاول أن أوقظه. أهمس له محاذرة أن تلتقط حديثنا أذن ساهرة فتكون نهايتنا.
كان الاضطراب جليا على وجهه. اخترقته عيناي مع همسي له في هدأة الليل وحلكته. ولم يكن سبب اضطرابه تنغيصي لنومه الهادئ، وإنما لما حمله له صوتي من مكيدة "دردورة" والجزار وابنته. ومع حرصي الشديد وحذري الأقصى، لم أضئ الحجرة، وهي قاعدة في الحروب، فالأضواء المنارة عند الليل، أهداف سهلة للقنص من عل. ولم أرد أن أكون وابني هدفين لغارة غير متوقعة.
ومع الغبش الزاحف إلى حجرتنا تنبولا، ومع بوادر يوم جدي، تسللنا خارجين نطارد الظلام الفار منا في جبن ورعونة حذرين من أن نصدر أصواتا تصل أذان الأعداء، إذ الأذن عين الليل، وهي قاعدة عسكرية أخرى، وقد صرت خبيرة عسكرية من حيث لاأدري، كما صرت خبيرة في أمور أخرى كثيرة مع هذه الأسرة الفتاكة.
كنت أعلم أنه لابد مما ليس منه بد، علمي بأن غايتنا الكبرى فك الحصار الذي يطوقنا والإبتعاد قدر استطاعتنا عن هذا الحي الذي خلفناه وراءنا يغط في نومه العميق. وصرت كلما ابتعدت عنه إلا واستشعر دفئا في أوصالي رغم برودة جو الصباح، كما أحس انتعاشة روحي رغم حرقة المجهول الذي نقصده مسرعين. أين ترانا نذهب في هذا الصباح؟
أكان ينفعنا الفرار من المجنزرة وابنها وحفيدتها؟
أمسك "عمر" بيدي، وقال في شبه إصرار، لكن بهمس.
- نذهب إلى بيت مشغلي وإذا روينا "للبتول" مشكلتنا ما أراها تردنا.
لم أكن قد رأيتها من قبل..ولم أسمع عنها إلا منذ وقت قصير عندما أخبرني "عمر" في حديثنا الليلي الهامس عن حبهما..وأنه كان يتحين نهزة من وقت لمفاتحتي..ومحاولة إقناعي..للذهاب وخطبتها له.
ارتفعت أصوات المآذن..في سماء سلا تحث الناس أن "الصلاة خير من النوم"..وإذا بعض ملبيي النداء..يحثون خطاهم إلى المساجد..كنا قرب بيت مشغله..وإذا يد "عمر" تهز مطرقة بابه محاذرا أن يتجاوز صوتها أذنا "البتول"..وأطياف المصلين تتعاقب علينا..تذكرني بزوجي..الذي حرص حياته كلها على صلاة الصبح..لم يدعها يوما دون تأديتها في المسجد..وأذكر يوم كان مريضا معتلا..لا يستطيع الحركة إلا بوهن وبعد طول عناء..لم يقدر على إضاعة صلاة الجماعة..بعد أن وصله صوت المؤذن..بعبارته الشهيرة..وقام متحاملا على مرضه حتى بلغ المسجد..ودخل مشواره النسكي الصباحي في خطة أعدائه المتربصين به..لعلمهم بعاداته..كان ذلك جدك يابني الذي يصر على قراءة حزب عند عودته عاملا بالآية الكريمة "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا".
لم نمض وقتا طويلا عند الباب حتى لاح لنا وجه "البتول" من نافذة حجرتها المطلة على الزقاق والإستغراب باد عليها..إذ لم تتعود أن يأتيها "عمر" باكرا..قبل موعده..ثم إنه برفقة امرأة ملتفة في ملاءتها البدوية..فدرجت إلينا مسرعة..وفتحت باب بيتها والدهشة لازالت تسكنها..ولم تزايلها وترحل عنها إلا و"عمر" يقدمني إليها. وأخذ "عمر" يروي لها تفاصيل الذي جرى معنا..فقالت بصوتها اللطيف..
- ثقي يا خالة..ألا أحد يستطيع الوصول إليكما..هاهنا.
قال "عمر":
- تدبري لها المقام معكما حتى أبحث عن مسكن جديد.
قالت محتجة:
- دبر مسكنا لك إن أردت أما أنا فلن أدع خالتي تخرج من هنا أبدا.
وضمتني إلى صدرها بحرارة وشوق..فلثمتها في جبينها امتنانا على غمرة حبها البادي..أنفاسها العطرة..تألقت مع حاسة شمي النشيطة..وهي بعد قائمة من نومها..أدركت هنالك ما كنا فيه..وما صرنا عليه.
ماذا أقول في وصفها؟
وهل يستطيع اللسان أن يصف كل ما تشاهده العين..وتقع في حبه الروح؟
كانت فيض حنان دافق..ومبعث نور لا ينطفئ..زد على ذلك أني ارتحت لها بسهولة ويسر..قلما حدث معي أمام مخلوق..ولا يخيب حدس المرأة أمام المرأة..وباركت حبهما..وزكيت اختيار ابني للملاك المنتصب أمامي.
أخذ "عمر" المفاتيح وقصد المقهى يفتحها مبكرا..بينما صعدنا نحن إلى غرفة "البتول"..المرحبة ببشاشة وجه..كانت سعادتها بي لا توصف..وحرصها على إراحتي شديدا.
كانت تشبه "وعدك" حد التطابق..عيناها الصافيتان..نافذة تلجها إلى أعماقها..فتكتشفها دونما حاجة إلى دليل أو مرشد..وتتعرف على جغرافية نفسها الساحرة.
وكنت تشبه "عمر"..في تلبية نداء الحب..الذي ارتفعت به مآذن القلب.
لإن دعتك "وعد" من رباطك..فلقد لبى "عمر" نداءها من تاونات..وكل ماحدث معنا كان من المقدرات..وكانت سلا تحضن قلبيكما..ومع جلوسي إليها أدركت البون الكبير بين "ليليان" ابنة الفاجرة..والمجنزرة القاتلة..وبين "البتول" الوديعة..كانتا في كفة رغم سعة حيلة الأولى..وجمالها الظاهر..ورغم ثقل وزن الثانية..وثراء أهلها..وكانت كفة "البتول" هي الراجحة..إذ جمعت بين الجمال الظاهر..وصفاء الطوية فرق كبير بينهما..وبينها..وشتان مابين الثريا..والثرى. وأدركت أيضا وهم الحب الذي كان سبب حزن "عمر" الجلي عند خروجنا الأول كما علمت سبب دره منه وشفائه بعد تعرفه على الحب في أجل معانيه..وأصفى صوره. ووصل إلينا ونحن جالستين في غرفتها..سعال بدأ منقطعا..ثم صار متلاحقا بشدة وقد انبعث من حجرة مجاورة..وصوت واهن يسأل.
- "البتول"..هل من أحد معك؟
استأذنت مني للخروج وهي تقول بتأثر:
- اعذريني يا خالة..إنه أبي وهو مريض..سأخرج أجيب دعوته..وأعود إليك بعد ذلك.
جمال..وأدب..وتأدب..نعم البنت كانت!
وبعد وقت مر علي سريعا..عادت إلي مقترحة أن أدخل عليه لأراه..ففعلت من دون تردد..فإذا هو في الستين..راكن إلى سريره كان صدر حجرته المتواضعة. كان جبارا كما قال "عمر" عنه..متسلطا على كل الذين مروا من مقهاه من نادلين..وكذا كان معه في أيام اشتغاله الأولى التي تحملها بجلد..قبل أن يفاجئه المرض ويدنفه ومع..اكتشافه وفاء " اجبيلو " الذي ما تأخر عن أداء مداخيل المقهى كل يوم كاملة غير منقوصة..بأمانة قل نظيرها..وارتفعت أسهمه لدى المشغل..وجعل يحترمه ويقدره فما أن رآني..وسمع عني حكايتي حتى هش لقرار "البتول"..وأخذ مني وعدا بالبقاء مع "البتول"..وبتزويجها من "عمر"..وبرعايتهما معا. وكانت تدرك من احمرار عيني..ومن تغضن وجهي..تعبي الشديد وحاجتي المضطرة إلى نوم عميق دون خوف من غد قد يحمل معه الخطر لابني ولي..فخلتني لنومي الهادئ..واستفقت عند الظهيرة..خرجت أبحث عنها فإذا هي بالمطبخ..شغلت بإعداد كعك..وزلابية..والمخرقة..والم قروط..المسكينة علمت ما كانت تفكر به ساعتها أرادت أن تريني حنكتها كامرأة بيت..وأنها فعلا تستحق ابني..لغة نسائية قديمة..شددت يدها بحرارة..وأنا أقول:
- لا أريدك..أن تنظري لي كحماة..أو أن تعامليني كذلك لقد عرفت هذا الصباح من تكونين فعلا..فاعلمي أنني أعدك ابنتي التي رزقت بها بعد طول عمر..دون عناء الوضع..فاقبليني أما لك.
ارتمت في أحضاني..دامعة العين..وضمتني إليها بقوة وحرارة..ومنذ ذلك الوقت وهي تناديني..أمي..وأدعوها..ابنتي ..ولأمر ما عددتها "إبراهيم" الذي أضعته عن سوء طبع..واسترددته في شكلها وصورتها.
وعلى المحبة كان عيشنا..استعدنا فيه حلاوة الحياة..من غير غصة إلا البعاد عن الأوطان..واشتدت الأواصر بيننا لدرجة أني وثقت بها كثيرا..وأطلعتها على قصتنا الجبلية كاملة..وكانت أحاديثنا تدور حول قبيلتنا..ولحبها الشديد وقربها مني..حين..وضعها لزهرتها الأولى..عند سؤالها عما تريد أن تسميها قالت دون تردد.
- "وجد"..يا أمي.."وجد".
سألتها مستغربة.
- لماذا "وجد"..يا ابنتي..و"وجد" لمن؟
قالت كلمة واحدة بإصرار:
- تاونات..
وكان والدها يخال نهايته دنية منه..قريبة..وكنت أرى طيف الموت يرقد جانبه..بيد أننا أخطأنا تقديراتنا جميعا..إذ عاش بيننا حتى رأى حفيدته الأولى وشهد موت "البتول" في وضعها لحفيدته الثانية..قبل أن يلحق بها متأثرا..مطمئنا عليها..معي و"عمر"..الذي سألته حزينة إذ توفت زوجه.
- ما تختار لابنتك من إسم؟
أجاب دونما تردد:
- "وعد"..يا أمي.."وعد".
سألته مستغربة لاختياره:
- "وعد" بماذا ؟ ولمن يا بني؟
قال بإصرار عجيب..لازال صداه في أذني.
- "وعد" بالوفاء للأحبة..
الإبن من فصيلتي..حيث الوفاء لذكرى الأزواج..الحب الأول كان آخر عهدنا به وبذلك انطوت صفحة من حياتنا ميزها عذاب..وفراق..وفرار..وجعلنا نقرأ صفحة أخرى بكل أسى..على من مات..وغاب عنا..يضيئها..بدران.."وجد" و"وعد". كنت في تاونات أما لابنين امتدت يد المنية إلى أبيهما..وأنا ذي في سلا..أم أيضا لبدرين متألقين..امتدت نفس تلك اليد إلى أمهما. وكما أعطيت للأولين حبي وعطفي..سقيتهما من خالص حبي وحناني..كما ظل يعب كما كان على الدوام "عمر"..الذي كان مسؤولا عن المقهى..مصدر رزقنا الوحيد..وملتقاه مع "البتول" الطيبة التي رحل عنا أبوها بعدها بأشهر قليلة. ومع انصرافي المطلق إلى "وجد"..و"وعد"..غفلت عن أدق أحوال أبيهما..الآخذة في التغيير يوما إثر يوم..وأحسسته يبتعد عنا مع الوقت..ويطيل صمته..ويمعن فيه. إلى أن أتى يوم ذهلنا لمرضه المفاجئ..الذي لم تظهر له أعراض بينة..ولا قدمت له مقدمات صريحة. هوى في المقهى..فإذا هو غائب عن وعيه..غارق لوحده في بحر الشرود المسجر الأمواج..حاولت مد يدي لإنقاذه بيد أنها لم تكن تنفذ إليه..وغابت نظراته في لا شيء..لا يكاد يحس بوجود أحد أمامه ولا يتعرف على أحد ويستجيب لدعاء قريب. زرنا الطبيب غير ما مرة..ولكنا في كل زيارة..تطالعنا علامات الجهل والحيرة..ولم نملك إلا سلك طريق الانتظار.

عبدالسلام المودني
24-03-2009, 01:37 AM
الوجــه الثاني:
وانتظرت عسى أن يراوحه مرضه فجأة..كما داهمه فجأة..بيد أن شيئا من ذلك لم يحدث..خمس سنوات كبرت الفتيات خلالها قليلا..وأضحت كل واحدة تحاول مساعدتي في العناية بأبيهما إلى أن خبت جذوة الحياة داخله..ولحقت روحه بروح من سبقوه ممن أحبهم وأحبوه..بعدما تمطط ألمه وألمنا معه طيلة فترة مرضه.
" عيشة " يا بني خبرت الموت جيدا..صاحبته وصادقته وحاربته حتى لم يعد يهيبها أو يفزعها..كانت تنتظره وتعلمه قريبا يترصد من تحب في زوايا الحياة وأركانها. لكنه مع "عمر" عذبها كثيرا وأرهقها طويلا وأراها وجها آخر من وجوه تجلياته..لم يكن مباشرا وصريحا كما تعودته ولا جسورا شجاعا كما عهدته..أو عابثا كما علمها وإنما أضحى يسلك معها سبل الإلتواء..والجبن في حركته.
لقد أغاضها..تصرفه مع عمك..داعبنا وقتا طويلا بمكر..وساكنه سنين ألمه الخمسة..وقدم لنفسه طويلا..حتى ألفت سماع صوته ومحادثته..ورؤية وجهه البغيض على قلبها..وتركنا "عمر".
أكان داعي الدم الذي جمعك و"وعد"..بعد أن جرف إلى إمبراطوريتكم "وجدا" دون علم منها ودون إدراك منكم؟ حتى أنا لم أكن مطلعة على ذلك الأمر..وإنما صادفته عن طريق صورة..كانت صورة هزت كياني..وزلزلت نفسي زلزالا قويا عنيفا. لفرط ما نبذر جهودنا للبحث عن شيء أضعناه..أو عزيز افتقدناه..وهو أقرب إلينا من أنوفنا حتى لا نكاد نتبين وجوده..أو نبصره.
يومها أتتنا "وجد"..العاملة وقتها في إحدى الشركات الكبرى..وقد أضحت معيلنا أيضا..وإيجار الدكان الذي عوض المقهى التي رحلت كما رحل أصحابها. كانت الفرحة متلألئة على وجهها الفيروزي..إثر نجاحاتها في عملها..وفي ذلك اليوم قدمت إلينا تحمل صورة التقطت لها مع رؤسائها في إحدى الإحتفالات. وكنت بينهم لكن الذي شدني أكثر..وجعلني أتطلع متفرسة فيه..وجه قريب مني بل هو جزء من ملامح حياتي السابقة قبل أربع وثلاثين سنة..انقضت.
كانت وفاة "عمر"..قد جعلت تعلقي بابنتيه قويا شديدا..ومع مضي الأعوام..بدأ أملي في العثور على "إبراهيم"..يتقلص ويتضاءل فإذا بتلك الذؤابة تشع من جديد..وإذا بها ترسل ضياها كابيا إلى نفسي تدغدغ مشاعر أم فقدت ابنها.
أتتيه أم عن ابنها ولو كان على صورة؟
كان وجهه يجرني إليه..حتى إني لم أنتبه لوجوه من حوله..وكان علي أن أجلد..وأتماسك حتى لا أظهر شيئا ينغص على ابنتي حياتهما..الهادئة..فقلت لها وعيني مركزة على وجهه:
- أهذا يكون مديرك حبيبتي؟
وأشرت إليه..فقالت ببراءة:
- أيبدو عليه ذلك إلى هذا الحد؟
أضفت دون اهتمام لما تقول:
- واسمه كما قلت "إبراهيم"..
أجابت مستغربة نبرتي:
- نعم جدتي..إنه السيد "إبراهيم الشركي"..الإمبراطور.
- الإمبراطور؟
لم أضف شيئا..إذ أخذت كفايتي..وحنيني..والصورة ترتعش في يدي..ولا أحست أنهما غفلتا عن اضطرابي الجلي..وأنا أنسحب إلى حجرتي..أغالب الدمع..الذي انهمر من بعد وبلل خدي. ورغم محاولة إخفاء تأثري الشديد..ورغم مقاومة الدمع الذي تسلل من عيني فقد لحقتا بي تستفسران سبب هذا الذي طرأ علي لحظة رؤية الصورة..فجعلت أرقب الصورة مجددا..وأنظر إلى وجد التي وقفت في الخلف ولم يظهر منها إلا وجهها..ومع ذلك كانت سعيدة بالصورة سعادتها بنجاحات عملها الأولى..فقلت مدارية:
- لقد كبرتما حبيبتي..تذكرت أباكما..من ذا يقول أنه غاب عنا منذ ثلاثة عشر سنة وتذكرت أمكما التي عمر رحيلها..من عمرك يا "وعد"..وتذكرت جديكما..
كنت أود أن أضيف..وابني التائه الذي عاد إلي فجأة في صورة..ولكني تماسكت..كنت أحب أن أستطلع الأمر أولا..وقلبي لا يحتاج إلى مزيد تأكد..ولكن حتى أجنبهما متاهات البحث..وعناءاته..وحتى لا أضيع على "وجد" مجهوداتها التي بذلتها لتحقق ذاتها في هذا العمل..وهي كما عرفتها مثابرة طامحة..وإلا فإني سأفقدها هي الأخرى وتعانقنا في حب وحنين. وضمتني حجرتي تلك الليلة..والصورة دوما معي..والأصل بقلبي محفور..منقوش نبشته الأيام لا أعيى من تفرس ملامح "إبراهيم" ابني..في كل آن وحين..فإذا السنون قد ألبسته وقارا..ووزنا..وجاها. وتساءلت والليل يرد صدى سؤالي:
- كيف لم تتعرف "وجد" على عمها..وهو شقيق والدها التوأم؟
لقد كانا..يقتسمان نفس الملامح كما كانا يقتسمان طعامهما وتنفسهما في أحشائي..هما ورقة واحدة..كتبت عليها نفس الكلمات..عند "عمر" تقرأها من فوق إلى تحت بينما عند "إبراهيم" تبدؤها يمينا لتنتهي يسارا.
كان أبوها نحيفا..رقيق العظم..أما "إبراهيم"..فقد كان وافر البنيان..تراها لحظت ذلك وحدثت به نفسها لكنها دفعته عن رأسها..لعدم علمها بأمر توأم والدها..ولأنها كانت تظنه ولد إمبراطورا ؟
لو كانت أم لتعرفته ولو عن طريق صورة..
أيتها الحمائم النائحة على أغصان الروح..أرويها من شدوك..لتنبت لك غصناآخر تنوحين فوقه
أيا عبرة تتلوى وجعا في لحظي
ثبي من خدرك المهجور..وتمردي
واملئي كأسك..واثملي من دمعك
ويممي وجهك شطر الأحبة..فغدا لقيا الأحبة
وغدا لقيا تلك الأفئدة الصلبة
ولتكن صلاتك ترانيم صمت..ولتكن طقس همس أو نسك لمس في محراب العين
علها تعفوعلى كل المطرودين علها تعيد كل الملاعين
أيا سبية الجوى والنوى
ملي غيرك أنيس وسادة
تربعت يوما فوق جرحي..فإذا أنت سلطانة جرحي
سادية كنت..وسادية صرت..تتلذذين بذبحي
أيتها الليالي المنتشية بعذاباتي الغائرة..انمحي من زمني
فاليوم آتيك فجرلم يسبقه ليل..واليوم آتيك نصر..وفخر..وصدر متوج بألف إكليل وإكليل.
كنت جالسة إذن وليلي إلى جواري..أشاوره في أمري..حتى أسفر عني الصباح..والعزم مستقر داخلي على زيارة "ابراهيم" لرؤيته محاذرة..أن أطلع ابنتي عن ذلك.
في ثوبي البلدي..وخطواتي الجبلية..التي أستعيدها مع استعادة الأمل..خرجت متسللة صباحا..في إحدى خرجاتي النادرة..والفرحة تمتزج بالرهبة مما قد سيأتي. لم أضع كثير وقت وجهد في التردد أو البحث عن العنوان..رغم سهادي..وعناء التفكير في الإبن المفقود..ركبتاي ترتعشان وصدري منقبض لأمر أجهله
أيكون الأمر محض تشابه..ووهم كبير..لاح فجأة في سمائنا..ليعيد تقليب ذكرى بعيدة..وينكأ جرحا منسيا.. وينغص علي حياتي؟
أيخذلني قلب أم فقدت ابنها..وقلما فعلها معي؟
كانت المرة الأولى..التي أعبر فيها إلى الرباط..قضيت كل حياتي الجديدة قبل ذلك اليوم في سلا..أدركت حين روكوبي سيارة الأجرة كم أضعت من وقت وجهد في بحثي عن عنوان إمبراطوريتكم والتحايل على "وعد" لتدونه لي.. والكذب عليها عندما سألتني:
- ماذا تريدين أن تصنعي بالعنوان؟
أجبتها معللة:
- قد نحتاجه يوما..من الضروري أن نحتفظ به.
وعندما حاولت طمأنتي..
- لا عليك جدتي..أنا أعرفه.
كان ردي حاسما..
- لا بأس أن نعرف معا أين تعمل أختك يا بنية؟
اقترنت المهام الكبرى التي أنجزها بوجوب التسلل والحذر..خرجت من البيت قبل أن تستفيقا..وعزمت انتحال عذر إذا ما اكتشفتا خروجي المبكر. وأوصلتني سيارة الأجرة بمجرد ذكر اسم إمبراطوريتكم الشهيرة التي أذهلتني..بناية سامقة..أنيقة..بمرآب كبير..وواجهة زجاجية..وحديقة مشارفة..
أيكون "ابراهيم" حقا مالك كل هذا؟
مكثت غير بعيد عن المدخل..أرقب دخول العاملين وجعلت أتفرس في الوجوه..ولمحت وجه وعد تدخل في سيل دافق..وتساءلت:
- أيعمل كل هؤلاء عند "ابراهيم" حقا؟
لكن أين هو؟ ما باله لا يدخل مع الداخلين؟
كنت ساذبة حقا في تلك الأسئلة إذ لم يملك "ابراهيم" إلا ما رأيت..ولم يعمل لديه فقط سوى أولئك..ولأنه الآمر الناهي فإنه لن يدخل معهم بل سيتأخر قليلا عنهم.
أمر آخر أربكني..أو شخص ألحت علي ملامح وجهه المألوفة في باطن ذاكرتي..ارتبطت بالمكر والحيلة..مرأمامي دون أن يبصرني..كانت ملامحه قريبة دنية من حياة عشتها..وترهقني معاودة تذكرها..كان يشبه أحدا أعرفه..ولا أذكره الآن..أو أني لا أريد أن أذكره. قطع طيف "إبراهيم" حبل تذكري الممدود..فإذا به يمد خطواته اتجاه المدخل..وإذا بي أترك مخبأي وأخرج إليه متلهفة للقياه..وقلبي الذي بشرني بأنه ابني..تتواتر نبضاته..مسرعة..وقد دلني عليه..ولم يخذلني.
- "إبراهيم".
التفت إلي.. وكأنه لم يلحظ تقدمي المباغت نحوه..وأضفت:
- ولدي.."إبراهيم".
ولقد كدت أضمه إلى حضني..ووددت ذلك..لو لم ألحظ نفوره البادي مني..وربكته الجلية..وهو يتساءل.
- ماذا؟
طيلة الليلة الماضية..وأنا أعد لهذا اللقاء..وأتصوره في حضني..ودموع الفرحة تبلل خدي..لكن هذا الموقف لم يخطر أبدا في خاطري.
- ألا تتعرفني..يا وليدي..إنها أنا أمك.."عيشة"..يا بني..أربعة وثلاثون سنة والأمل بداخلي حي لا يموت..كنت أعلم أني سأعاود رؤيتك..ولقد أنفقت و"عمر" أخوك تسعة أعوام..نبحث عنك قبل أن نستقر في سلا.
- ألا تذكرني..يا حبيبي؟
اقترب منا حارس أمن المجموعة في حركة ما بين الهرولة والركض..وظنني إحدى المتسولات..أو صاحبة حاجة عند مديره..الذي سيطرده بسبب تقاعسه وعدم تدخله لإنقاذه مني..وحاول الوقوف بيننا..بيد أن "إبراهيم" أشار له بيده بأن..دعها ومد يده إلى جيبه وأخرج منه..بضع ورقات..وناولينها..دون أن يقول كلمة.
ماذا أقول لك لأصف حالتي وقتها؟ لم أعد أبصر غيرالظلمة التي كحلت عيني..وأخذ الدوار يتلاعب برأسي المفجوعة وتمنيت لو لم ألقه..أو أقابله طيلة حياتي..على أن أفقده بتلك الصورة.
أأكون مجنونة..فاقدة العقل كما أوحت بذلك نظراته التي رشقني بها..خلف نظارتيه السميكتين كسهام تمزقني؟ ولكن هذا الذي يتحرك بداخلي صادق لا يكذب..وهو يقول لي..إن هذا الذي يقف أمامي هو نفسه "إبراهيم" الذي خرج من أحشائي..وأخوه "عمر"..ولإن تغيرت أحواله..وفعلت السنون..ومكانته الجديدة..فعلها..فإنه هو مهما يكن..ظلت يده معلقة في الهواء بيننا..ووريقاته النقدية ملتصقة بها..أحسست بالدماء الساخنة تتصاعد إلى ناصيته..وأنا أضيف:
- لا أريد منك شيئا..يا بني..أريدك أنت.
لم يبال لقولي وهو يعيدها إلى جيبه بحركة عصبية..واستدار يكمل طريقه نحو امبراطوريته مبتعدا عني..وخلاني هنالك مثبتة في مكاني..مشدوهة..بلا حراك أرقبه..والدمع صار جزءا من وجهي. وارتقى بضع درجات..قبل أن يصل إلى باب مجموعة..هنالك..ألتفت إلى وجعل يشخص بي..وقد قرأت خلف نظراته تلك التأثر والحسرة. لقد كان المسكين متحسرا على نفسه..ولست أدري لليوم..داعيه لفعل ذلك معي؟
(يتبــــع).

مروة عبدالله
27-03-2009, 08:16 AM
أخي عبد السلام


ما زلت أنهل من جمال الحرف والفكرة والمضمون, بت أكثر شوقاً على شوق, أنتظر البقية بشغف.

محبتي

عبدالسلام المودني
11-04-2009, 10:45 PM
العزيزة مروة..

شكراً لأنك قريبة جداً. ابقي بالجوار فهناك المزيد.

محبتي الصافية..
عبدالسلام المودني

عبدالسلام المودني
11-04-2009, 10:47 PM
الشريــط الثامن
الوجــه الأول:
كان ذلك لقائي بابني "إبراهيم" الذي أسمع صوته والذي ما ندمت عليه بعد ذلك قط. ولإن ضرني فعله، إلا أني احتفظت بصورته القديمة في تاونات، ذكرى عذبة جميلة. وظل كذلك بداخلي بخفته ومرحه، ومقالبه الكثيرة التي يسيء بها لغيره، ولنفسه أيضا فيس غالب الأحيان.
وعدت أدراجي منكسة الأعلام، مهيضة الجناح، ثقيلة الكتفين والخطوات، منكسرة النفس، تمشي الخيبة والحسرة جواري، وتحاولان مواساتي في مصابي بيد أني ما لبث أن عدت للبيت، وهدأت نفسي قليلا حتى غفرت له كل ذلك، ورحت أنقب له عن أعذار دفعته لفعل ذلك معي، وسامحه قلب أمه الذي ما كف عن حبه رغم جفاء معاملته وقسوته بل وصل الأمر بي إلى شيء أعظم. فقد رحت أزوره كلما استبد بي الشوق وأحرص على الإختفاء حتى لا أغيظه، وترشف نفسي من طلته، وتطور بي الأمر حتى أضحت زياراتي بمثابة حج أو إعتمار أسبوعي. ولم تلحظ البنتان شيئا من ذلك إذ انغمست كل واحدة منهما في شأنها. "وجد" في مشاكل عملها بينما كانت "وعد" تتعرف على الحب إلى جانبك، وصار الخروج إلى الرباط ديدني وأنا التي مكثت في سلا أكثر من ثلاثة وعشرين سنة دون أن أبرحها. هي ذي خطواتي تتعود عبور الجسر المفضي إليها مرة على الأقل في الأسبوع. وحدث معي شيء لست أدري إن كان من تصاريف القدر أم هي عبثية الأشياء التي تصادفنا دون معنى ولا تحتاج إلى تفسير، إذ وبينما كنت أشق طريقي من حسان متجهة إلى مقر المجموعة ذات صباح، إذا ملاءتي الجبلية تثير نظرات رجلين جعلا يحدقان بي، واستشعرت نظراتهما لكني لم أجرؤ على التحقق منهما.
من يكونان؟ ضايقني منهما إصرار نظراتهما، ورمقتهما بطرف خفي، فإذا أحدهما في مثل سني، بجلباب صوفي زعفراني اللون، وبعمامة عظيمة تغطي رأسه الصغيرة المتراخية إلى الخلف، وقد سترت لحيته البيضاء الخفيفة ذقنه المربع. كان شبه باسم، وعيناه مقلصتان كآسيوي مرح. لمحت كل هذا بنظرة خاطفة، كما لمحته يقول شيئا للشاب الواقف إلى جانبه. كانت ملامحه أليفة لي كما بدت ملامحي له.
نحن يابني، أبناء البدو نملك ذاكرة لا تنمحي أبدا. ترسخ الصورة داخلها أبدا. تعرفني الرجل وتعرفته، رغم تلك السنين التي تفعل فعلها في صورنا وأحوالنا وذاكراتنا. لقد كان ابن قبيلتي. هو ابن عمي "محمد"، فقيه القبيلة. دنوت منهما مهلة الوجه، هاشة لهما. وسلما علي بكثير من الود الجلي. أخبرني أنه جاء مع ابنه الجندي الذي قدمه لي، ويحمل اسم أبيه أيضا، إلى مستشفى محمد الخامس العسكري. السن يا بني، رفيق العجز والمرض. وبعد حديثنا القصير عن الحال والصحة، سألت ابن عمي "محمد":
- ما تراها أحوال القبيلة بعدنا؟
تنهد بعمق فيه أسى:
- ماذا أقول لك "أعيشة" ؟ البلاد هي البلاد، لكن الناس من يتغيرون. بين راحل منها وقادم إليها، الحال كما تركته، وربما أسوأ.
واسترسل دونما حاجة إلى مزيد استفسار مني:
- تزوج "علي" من تلك أعوذ بالله -يقصد الفاجرة- التي أضحت سيرة ابنتها على كل الألسن بعدما غادرت في أثركم إلى فاس، وعادت بابن لم نعلم له أبا. كان يشبهها في كل شيء، ويرطن مثلها. وله اسم لا أقوى على نطقه "رهان" أو "كهان" كاسم أمه "يلان" -يقصد "ليليان"-.
قلت بألم..
- حسرة على القبيلة وأهلها.
فقال والحنين يقطر من صوته:
- ألا تعودون؟
قلت هامسة..
- ربما، ربما نعود.
واستمر حجي ذاك مدة إلى أن استقر ناظري على الرجل ذي الملامح المألوفة لدي، وعلمت اسمه من تحية صباحية ألقاها عليه حارس أمن المجموعة، ونطق اسمه الذي أتاني إلى أذني قريبا كإسم آخر غريب عاش معنا ليال طويلة وسبب لنا عذابات كثيرة، "ليليان". وعند المقارنة بينهما أدركت لم جعلت ملامحه تبدو لي مألوفة أول مرة أبصرته خلالها. كان يشبهها، ابنة الفاجرة. وتذكرت حينها كلام ابن عمي "محمد" وهنا ابتدأ عنائي، وألمي. من يكون "رافان" في مجموعة "إبراهيم"؟ لقد كان يبدو نافذا داخلها، كما اتضح من هالة الإحترام التي يعامله بها الحارس الذي يحييه في شبه انحناءة مقدسة لا يمنحها إلا "لإبراهيم".
وتأكدت من يكون فعلا حين عدت للصورة التي كانت سببا في تعرفي على ابني، ووجدته داخلها واقفا بينكما، واستدرجت "وجد" متحايلة، فقالت والحمرة تخضّب وجنتيها، لم ألحظها ساعتها لانشغالي بأمره أكثر وقد حسبت المسكينة أني صرت مطلعة على أمر تحرشه بها. الفاجر المحتال.
- إنه زوج ابنة الإمبراطور.
حينها أدركت أن الثعبان ابن الحية، قد تغلغل وسطكم بشكل فظيع. ألا ترى أن حكايانا يا بني موصولة بخيط واحد؟ لم أعرف لمَ لم ينتبه "إبراهيم" له، لملامحه، ولرطانته في كلامه، ولتعسر نطق بعض حروف كلماته؟
أم أنه لم يعد يملك عيون أهل قبيلته، وانمحت ذاكرته القديمة كلها حتى إنه لم ينتبه للقب "وجد" الذي كان فيما مضى لقبه هو. لعله كان محقا. لم يكن ابني، رغم أنه "إبراهيم" نفسه. مات ابني منذ خرج متسللا من قبيلتنا فارا من موت محدق به، وماتت روحه القديمة، وأنجبت الأيام "إبراهيما" آخر، صار برا بها، خاضعاً لها. ولكن ما الفعل وهو يذكرني "بإبراهيمي" الأول؟
"رافان" إذن ابن "ليليان" التي خرجت في إثرنا متسللة أيضا كأنها تتعقبنا مخلفة وراءها أمها الفاجرة، تأكل من خير أرضنا، وتجني من يانع ثمرها. لم تذهب أبعد من فاس، ولم يمض عليهما وقت طويل حتى بان انتفاخ بطنها على شاكلة أمها من شخص غير معلوم. قالوا إنها طارحت رجالا كثيرين، وأن الإبن كان لسائح ألماني، عاد إلى بلاده. وقالوا إن ابنها ذاك أخذ عن كل من ضاجعت صفة. وقالوا... وما أكثر ما قالوا، وترددت أصداؤه في القبيلة. لقد أتى إذن كما أتت أمه، مجهول الأب. وربته ما بين فاس والقبيلة. وزرعت في نفسه بذرة الكره والبغض، وبعد أن تعقبت خطواتنا وأضلتها. لم تخطئ "إبراهيم" وقد أمسى مشهورا، وتعرفت على صورته في التلفاز، وبعد ذلك في الجرائد. وأرت ابنها عدوه الأزلي. لمثل ذاك اليوم أعدته، ولأجل تلك الغاية ربته. هكذا تسرب إليكم، يطوي الإنتقام في نيته، وكان صبورا. ألا ترى كم أنفق من وقت بين التزلف والحيلة والإجتهاد والمكيدة للوصول إليكم أخيرا، وأمه من خلفه تهمس في أذنيه، أن اصبر وتجلد، ستصل غايتك إن اجتهدت أكثر؟
ووصل المجموعة في فتح مظفر وحاز نصرا لم يخله يأتيه عدوا. "سهد" رأته وأغرمت به، وما عدها إلا جسرا تنقله إلى ضفته المنشودة ليكون في خندق أعدائه. ودخل بيتكم، كما دخل مجموعتكم من قبل. وصار محسوبا على "آل الشرقي".
كان ذاك مساره الذي أفزعني سماعه، ومعرفة جزئه الأكبر من ابن عمي "محمد" في مستشفاه عندما كنت أزوره، أما حزؤه الآخر فكان من "وجد".
ركضت بعد علمي بكل ذلك أبحث عن أبيك لأطلعه على أمر "رافان"، بيد أني تأخرت في الوصول، إذ وبعد طول انتظار، لم يظهر في موعده الذي ألفته يقدم خلاله. وقدم "رافان" وحده هذه المرة، ولم تحضر حتى أنت. كنت تعيش خيبة الحب في حانة " طاهيتي " الحقيرة، ولياليك التي لا تنهيها إلا سكرانا معربدا. وكان أبوك يعيش وهم حب مع "آمال" التي هي في مثل سن "سهد" ابنته، وهي التي جعلته جسرها إلى ضفة الثراء الذي كانت تحلم به حياتها كلها، متواطئة مع "رافان" لتنتقم منك. لم أجد أحدا يمكنني إعلامه بما يجري، ولم يكن هناك من أحد يمكنني الوثوق به غير "وجد" التي انهارت بعدما علمت الحكاية كاملة مني، وأدركت أن رئيسها عمها، فطفقت تروي لي ما حدث لها مع "رافان"، وكيف نجح في تسخيرها لأغراضه الدنيئة؟
كانت "وجد" طموحة جدا. ذكرتني "بابراهيم" الذي فقدته، ولم يكن بوسعي أن أخسرها كما خسرته.
أيقدر لي دائما أن أضيع أحد أبنائي؟ واستعدتها نادمة على ما فعلت. كان قلبي ينذرني باقتراب الكوارث منا، إذ لم يكد يمضي وقت طويل، حتى وجد الناس موضوعا لأحاديثهم اللامنقطعة، بعد أن أمدتهم صحافة الفضائح بمادة جعلوا يضيفون إليها ويحذفون، كما شاءت أهواؤهم بتشف فيمن يسقط من عل. موت "إبراهيم" وعشيقته الشابة في وكر عشقهما المزعوم، كان الحدث الذي تناقلته الألسن ورجّ أركان بيتكم، وأفقد أمك حياتها أو جل حياتها. وأتى بعد ذلك موت "محمد مبروك"، عقبة "رافان" الوحيدة، الذي دهسته سيارة مجهولة الأرقام. وظهر "رافان" بعد ذلك، بحججه ووثائقه، وطردكم شر طردة، حتى من فيلا باب ازعير التي أضحت إقامة "ليليان". وطلق أختك التي صدمت بحقيقته، وبوجهه الذي كان يربض خلف قناع الحيلة. عدته محبا فإذا هو متلاعب، لا يحب إلا نفسه، ولا يحمل إلا الكره. كنت ياقنا في داخلك من أن حجج "رافان"، واهية، باطلة وأن وثائقه هي الزيف، غيرأنك لم تملك فعل شيء، فخرجت بأمك وأختك صاغرا مهزوما، وقد عدت لتوك من رحلة الضياع التي رميت نفسك فوق مطاياها. ما أغاضني حقا منك، سلبيتك المفرطة أمام تسارع الأحداث أمامك. لم أكن أريدك أن تخطأ أخطائي الماضية نفسها. ألا ترى كم خسرنا جراء فرارنا الدائم؟ صرت تعلم يا بني الداء، ودواؤه المواجهة إن أردت استعادة حقك الذي أخذ منك بالغصب والحيلة. لذلك دعوتك إلى هنا، تاونات البدايات. أرضك وموطنك، لأصل لك الحاضر بالماضي حتى تستطيع رؤية المستقبل.
أعلمتك حكايتي وجدك، وحكاية والدك وعمك. فاعلم يا بني أن ما دعاني إلى نقل كلامي إلى هذه الشرائط خوفي من الموت، صديقي القديم الذي بدأت أراه حولي، وحتى لا أضيع عليك التعرف على قطع من ماضيك. كما صرت ياقنا من حبي لك ولأختك ولأمك كما كنت على الدوام لأبيك من قبل. فاتعض بحكايتنا يا بني وانصت لما سأقوله لك لأنه خلاصة عمر. أمر ظل يشغلني، ويملك جل تفكيري. ما الذي يدفعهم إلى التشبث بأرضنا التي عدوها ملكا لهم، حتى إن "رافان" و"ليليان" دأبا على زيارتها بانتظام، وهو الشيء الذي لم يفعله "إبراهيم" من قبل، ولا فكر فيه قط، ولو بحثا عن أمه وأخيه بعدما أضحى نافذا، ذا جاه وسطوة. ما بال أرضنا نراها قفرا ويرونها جنة خضراء؟
ولمَ نغادرها ولا نكاد نعود إليها، بينما إذا استقروا فيها، واستوطنوها لا يتزحزحون عنها فتيلا، حتى إن ماتوا تمرغوا بحب تحت ثراها؟
ذاك أمر ظل يعذبني طول تلك الفترة، وجعلت الأسئلة تسقط علي من حيث لا أدري.
هل العيب فينا أم هو في عشقهم الجنوني لأرض لم تكن يوما لهم، أم أن هذه الأرض تقابل صدا أكبر منه، كامرأتك تتمنع عليك وترغب في وصال الغريب؟

عبدالسلام المودني
26-04-2009, 01:53 AM
الوجــه الثاني:
وخلصت مستسلمة إلى يأسي بأن أرضنا بلا شك تحوي بواطنها كنوزا مخفية عنا اطلعوا عليها، وهم متربصون فرصة الظفر بها، وهجرنا بعد اسستنفاذها كاملة. بيد أن ذلك أبعد ما يكون عن الواقع، فقد عمروا فيها سنينا طويلة زادت من تعلقهم المحموم بها، وغربتنا عنها.
وإذا دخائلي تحتدم على قلة حيلتي وضعفي عن حماية ابني، كما عجزت عن حماية أرضنا من قبل، وإبلاغه بالخطر المحدق به. بعد ذلك، ولجت غيابات كانت ابنتاي تلحظانها، إذ كنت أغيب عن الوعي وأهذي بكلام غير مبين، وحتى بعد أن كانتا تعيدان علي ما كنت أقوله إثر عودتي، كنت أستغرب له وأعجب من فحواه، ولا أستطيع فك طلاسمه أو ربط حلقاته. مرت علي يا بني أيام ما بين الصحو والنوم، كان شيئا بشبه الإغفاء أو الإغماء أعود منه مجهدة، متعبة كأني أقطع الصحارى راجلة بلا زاد.
شيء ما كان يعودني. يشبه صوتا أو ظلا لايستقر على حال أسمعه حينا وأتمثله أحايين أخرى. ودام ذلك وقتا متقطعا، اتصل بعد ذلك وأمسى عادة لا فكاك لي منها. كان صوتا واثقا، تشعر وأنت تسمعه بالرهبة، وبقشعريرة تجتاح جسدك بأكمله، وقد ظهر إلى جانبه ظل. وكانت المرة الأولى التي يجتمعان لدي، فأنشأ يقول.
- مسكينة أنت يا "عيشة". أصابك الجور فآلمك أشد ألم.
حاولت طرده، وأشحت عنه بوجهي. ووددت لو أتخلص من تركيزي عليه فإذا به يضيف:
- عيبك أنك لم تتعلمي وترفضين التعلم. مازلت تتجرعين كؤوس فرارك من مواجهة مصيرك، وتصرين على الهرب مني مجددا رغم أنك تدركين في قرارك السحيق أني مصيرك.
مقدر عليك أن تنصتي لي، وخير لك عميم أن تؤمني بقولي، وفرج لك عظيم أن تعملي بنصحي.
لم يعد بمقدوري تجاهله أكثر، وإذا بي أتطلع إليه معاودة استكشافه فإذا هو شفاف كأنه غير موجود، وأدخلني ذلك متاهة لم أعرف إلى خروج منها سبيلا. وجعلت أسائل نفسي.
أكنت داخل كابوس موحش أم أعيش واقعا لم أختره؟
أستوطن معي هذه الغرفة أم أني مصدره ومبعثه؟
أكان الطيف الذي بجانبي النسخة أم الأصل، وكنت أنا الطيف والصوت لا يعدو يكن لمواطن يسكن مملكتي الداخلية التي لا أكاد أتبين جغرافيتها؟
- لا تفكري كثيرا يا"عيشة" ليس لك إلا أنا، مصيرك، وخلاصك ومخرجك الوحيد، فانصتي لي فإن الخير ما أعدك به.
وإذا بي استشعر اهتزازات بداخلي كأن روحي تنتزع مني نزعا..لكأنها تغادرني وتبرح جسدي إلى ضفة أخرى غير معلومة. رأيتها، أو رأيتني من خلالها أذرع حجرتي إلى الرحب الفسيح كطائر انعتق لتوه من قفص جثم فيه ردحا أسيرا مسجونا. وألفيتني أبصر من خلاله كل ما تمر عليه. لكم كانت دهشتي شديدة حين لمحتها تحلق فوق رأسي لاألحظ وجودها وأنا بعد صغيرة، راكنة إلى عشقي الأول تاونات، راكضة بخطوات الصبا بين أشجار التين والزيتون وأعراصها، تتلاعب بوجهي الصغير هبات أنسام سمائنا العطرة، تتلقفني مياه النهر الدافقة. ما أجمل أن يرى الإنسان نفسه صغيرا، لكأنه يعاود ذلك الشوط من أشواط حياته الماضية! وإذا بي شابة يافعة على حافة الوادي نفسه وفتيات قبيلتي، وعينا ذلك الفتى ترقبنا، وقد تظاهر بالسقي، وشدوه المتغزل يداعب أسماعنا:
- أنا للا المهبـــول ملي كا يسهل كنكـــول
الغيوان فيّ مسجون بحالوا بحال المثمور دلفول
سرابة ديالي من الثمانية للظهر.
كان مولعا بالغناء، وورثت حفيدته ذلك عنه. لقد كان ماضي ضفتي الأخرى، جسرها اليقين والتسليم. هكذا قلت في نفسي.
طائري محلق في سماء تاونات الخفيضة، و"عيشة" اليوم عروس في مراسيم الحناء، وقد أسقطت حزامها في سابع أيام عرسها. لكأني أراها على ظهر بهيمة، يقتادها عريسها إلى بيته. كان العرس يا بني، عرسا للقبيلتين، اجتمعتا حوله، ونسيتا فرقتهما فيه وتصالحتا في أثره، وعمت أيامنا مظاهر البشر والصفاء. طائري الذي لم يكن يبصره أحد رغم انخفاض ارتفاعه وقربه الشديد من الناس يحلق مدفوعا برياح غريبة بالكاد يستشعرها، أو قوى خفية غير ظاهرة إلى كوخ موحش الظلمة إلا من شمعتين تتراقصان بين يدي شيخ يلبس ثوبا خشنا مرقعا، وقد افترش حصيرا مهترئا كان كل فراش كوخه ذاك، كأنه ناسك زاهد، وبين يديه صحن أبيض حوى سائلا أحمر كأنه دم. وإذا بصوته المضطرب الوجل يقول:
- أيتها الروح العظيمة. أسكن السفح الذي أنت صاحبته. وأنا تابعك وخديمك الأوفى المتألم لاجتماع الأغيارعلى فرحة صغارهم، وإني لمعمل سحري ببركتك وأنفاسك لتشتيت لحمتهم، ولأبث فيهم أسباب الفرقة والتشرذم التي تقوينا وتظهرنا عليهم. لقد أتاني رجل منهم، سواد قلبه ظاهر، وحقده على العريس جلي، وانتقامه من العروس مرغوب فيه، يطلب عوني، وشدة دهائي. وإني لمرسل بابنتي، خادمتك إليهم لتنسف قواعد الإتفاق الأول. وإنا لمنتصرون مادامت روحك العظيمة تبارك خطونا وترشدنا في ممالك الظلمات التي أنت سلطانها الأول، والتي فقأت عيني كي لاأبصر غيرها. السواد لواؤنا، منه أتينا، وفيه نحيا وإليه مسارنا.
وهذي الدماء المهروقة على عتبات وجودك تنعش أقدامك بيننا، وتقوي صوتك على أعدائنا، فلتدم لنا دوام الليالي التي مآل النهارات إليها مهما عتت أو طالت. كنت خاتمة الأشياء ومازالت، والظلمة نهايتها وبدايتها. فلتكن أنت النهاية والبداية.
ثم أخذ يرش الدم من حوله. وإذا بي ألمح جدك آيبا من المسجد فجرا، ولسانه لاهج بالذكر والتسبيح لربه وابنة الساحر الضرير تتربص به في الخفاء، إلى أن استشعرت مروره قريبا وحيدا، فدعته مستنجدة، فهرول إليها دونما تفكير، ووجدها ممزقة الثياب ملقاة على الأرض فإذا بها تصرخ هائجة ثائرة.
- ماذا فعلت يا عدو الله؟ أغيثوني يا عباد الله. الفاجر اعتدى علي.
لم أشك يوما في براءته، وهي ذي الآن تصرخ في وجهي. كان جدك المسكين جامدا في مكانه، والباطل يهطل عليه من حيث لا يدري، ولم يشفع له أنه عائد لتوه من صلاة الفجر أداها بين العشرات من أبناء القبيلة، ولم يشهد أحد لصالحه كأن ألسنتهم شدت بفعل ساحر.
عاد طائري يعرج بي في عنان الذاكرة، يخترق بي مسافاتها الزمنية، وإذا به يستقر في كوخ الساحر الضرير الذي حلت الفاجرة مكانه، وتقول شبه ناحبة.
- أيتها الروح العظيمة. بحق روح أبي الذي فقأ عينيه يوم أبصر صوتك. كي لاينظر إلا لظلمتك المديدة بسحرها الفتان الذي مجده طول حياته. متعصبة أنا لك، كما كان من قبلي. وهو إذ أخذته إلى حضرتك المهيبة، خادما إلى جوارك، أرث خدمتك بعده، ومن بعدي نسلي لك على الدوام. فاشدد عودنا جميعا وقونا حتى نغنم، وتنتشر ألويتك في هذه البقاع.
الفاجرة المجرمة. لاتعمل إلا في الظلام، ولاتعبد إلا الشر.
ومن هناك إلى قبيلتنا، وخروج أبيك المستتر الأول. وفرارنا لواذا من بعده. لم نكن وحيدين خرج في أعقابنا الكثيرون.
حياة "إبراهيم" مرت أمامي كشريط موصول. ولقاؤك "بوعد". وتحرش "رافان" "بوجد". وكل ما أطلعتك عليه من قبل، وما لم أجرؤ على قوله. وإذا بحادثة موت أبيك تنتصب أمامي فجأة. رأيت "آمال" تجلس إلى "ليلى" صديقتها اللدودة وعدوتها الحميمة. كان موضوع حديثهما ونقاشهما، رهان آخر على أبيك هذه المرة. صار ألعوبة في يد الصغار. وإذا برنة جرس الباب، فتقوما على إثرها مسرعتين. لم يكن الناقر على جرس الباب "إبراهيم" إذ كان يملك مفتاحا. ألم يكن في بيته؟ كان "رافان" من وصل غرة. ولشدة ربكة "ليلى" فقد اختفت دون أن يلمحها بعدما سمعت صوته ذا النبرة الرهيبة. لم يمهلها حتى يدخلا. كان يعلم أن "إبراهيم" لم يكن هنالك، بيد أنها لم تكن "كآمال" التي كانت تقابله مباشرة لترى الغضب الطافح من عينيه وهو يذكرها بوعودها التي لم تبر بها.
ألم تكن من فصيلته؟ ثم قال متوعدا وقد استقر على كنبة توسطت صالون شقة "إبراهيم" و"آمال".
- سأنسفك، إن حاولت التلاعب بي.
كانت قد أعدت العدة لليلة حمراء شهدت عليها مائدتها المزينة بصنوف الطعام التي ساعدتها فيها "ليلى"، وزجاجة الويسكي التي توسطتها. أخذ "رافان" يتطلع إلى ذلك ثم قال لها بغتة:
- ألديك عصير برتقال؟
- طبعا "رافان". لمَ؟
- لأني بكل بساطة، عطشان.
وهرعت "آمال" متوترة إلى المطبخ، بينما أخرج "رافان" قنينة صغيرة من جيبه حوت سائلا أفرغه بكامله في زجاجة الويسكي، وعاد إلى مكانه ينتطر كأس البرتقال الذي ما أن وضعته أمامه حتى أمسك به، وحاول أن يلقي بما فيه داخل جوفه إلا أنه وبحركة فجائية توقفت يده المتجهة صوب فمه. كان يخشى أن تضع له شيئا داخل عصيره، مثل ما وضعه لها داخل الويسكي، وأراد أن يخفي ذلك. فوضع الكأس متصنعا حركة غضب طارئة. ممثل رائع "رافان" ذاك. فقد نجح في جر اهتمامها وهو يقول:
- من تظنين نفسك لتتلاعبي بي؟
- عيبك أنك تتسرع في إصدار أحكامك. مازلت لما أتمكن منه بعد. تصور أني لحد الساعة لم أنجح في أخذ شيء منه سوى الوعود.
وإذا بخطوات ثقيلة تدنو من باب الشقة. يتحسسها رافان وهو يشير لها بأن اصمتي، وتصرفي كأني غير موجود، فحالما ستتسنى لي فرصة للخروج سأفعل، فوافقته. ودخل متخفيا إلى المطبخ، بينما هرعت هي لاستقبال "إبراهيم". كانت قد أعدت العدة لأمر رهانها مع "ليلى" المختفية داخل الشقة، بيد أنها لم تكن تتوقع حضور "رافان" الذي فاجأها بهذه الزيارة. أفلتت من حضن "إبراهيم" الملهوف عليها، وهي تقول بدلال أنثوي صارخ لم يخف ربكتها.
- انتظر حتى نشرب كأسا، بعدها احضني كما تشاء.
كانت غير رائقة المزاج، غير صافية البال والخاطر وقد انشغلت عن "ليلى" تماما حتى أنها نسيت تواجدها، بينما كلمات "رافان" وتهديده الظاهر ملك جل تفكيرها وكرعت الكأس الأولى، والثانية دون علمها بأن "رافان" قد نفث من حقده وبغضه في شرابهما.
لهفي عليك يا بني. لو قدر لهذا الطائر الحزين أن يكون حقيقة وواقعا لاظلا مسافرا عائدا من الحاضر إلى الماضي إذن لهرع إلى كأسك يزيحها عنك، ويطوح بالخطر بعيدا، ولكن هيهات يكن له ذلك.
ماذا تصنع أم ترى ابنها يقتل أمامها بسم زعاف؟ نعم يا بني. كان ما وضعه "رافان" في الشراب سما، وقد بيّت في نفسه قتلهما معا.
قتل "إبراهيم" انتقاما منه لبغض "ليليان" له التي أورثته ذلك. وقتل "آمال" وهو العارف بأنها تشبهه كثيرا وأنها لو ظلت حية وعلمت بأمره إذن لظلت تبتزه، وتهدد بفضحه إلى ما لا نهاية.
كانت "آمال"، الوجه الآخر للشيطان. وكان "رافان" الشيطان نفسه، بينما "إبراهيم" غائب في سكرته.

يتبع...

عبدالسلام المودني
25-08-2009, 05:16 PM
الشريــط التاسع
الوجــه الأول:
خرج "رافان" من المطبخ حيث كان يختفي وبسمة خبيثة تطفو فوق شفتيه ونظرات اشمئزاز وزراية يصوبها إلى "إبراهيم" كسهام قاتلة، وطائري يضرب بجناحيه عله يستطيع إيقاف شيء أو يغير مساره، ولكن عبثا. كم كانت مفاجأة "إبراهيم" عظمى لوجود "رافان" هنالك. وحاول القيام بيد أنه لم يستطع، إذ بدأ السم يعمل عمله. لن أنسى يا بني ما حييت نظرات الضعف والذهول وهو ينصت له، كوشم على جرح، لا يحجبه زمن.
- "إبراهيم". ها قد حان وقت الحساب، أم تظن أنك ستظل فارا عمرك كله من إنتقام "ليليان".
- ليل...
- نعم، فأنا ابنها، ولا أظن إلا أنها كانت تتمنى أن تشهد بأم عينها مشهدك هذا، ولكن لابأس عليها مادمت أنا هنا. كنت أستطيع قتلك في أي وقت أريد، بعدما أخذت توقيعك، لكني مستعد أن أبذل كل ما صرت أملك، لأرى نظرات الذل والهوان المنبعثة من عينيك.
- ابنها؟
قال "إبراهيم" وكأنه لم يصدق ذلك، فصنع له غشاء على عقله وأذنيه حتى أنه لم يسمع ما قاله.
- تذكرون حين أتيت لخطبة "سهد" ابنتك، وسألتني عن أهلي. لم تكن ذكيا ساعتها، أو لنقل بأن انبهاركم جميعا بي أخفى عنك تلميحي، حين قلت لك أن كل أسرتي قضت في حريق أتى على بيتنا بتازة.
ألم تكن كذبتي كتلك التي اخترعتها على أسرة زوجك حين قدمت لخطبتها بمفردك وادعيت أنك من وجدة، وأنا لم أبتعد كثيرا، ورسيت بتازة.
وأطلق ضحكة عاتية، يفخر بما يقول، منتشيا بلحظة قوته. خرج صوت "إبراهيم" المحتقن الوجه، بوهن المحتضر.
- ولكن لمَ تنتقم مني "ليليان"، وأنا أحببتها يوما ولم أمسسها بسوء؟
- سؤال بليد، بلادة أصلكومنبعك. عيبكم أنكم لاتفهمون أبدا. سل نفسك لما قتلت جدتي والدك؟
ولمَ كل هذا الصراع؟ بلداء أنتم حقا. أسمع لحديثهما، وتتسارع نبضات قلبي، وأخاله يكاد ينفطر ويقفز من بين ضلوعي، لهول ما حدث مع ابني.
ما الفرق بين وصولي بعد فوات الآوان، وحضوري مشهد قتله دون أن أستطيع فعل شيء؟ في تلك اللحظة، غابت نظرات "إبراهيم" كأنه يلمح من وراء غيابه شريط حياته كلها دفعة واحدة. وإذا بصور تمر عليه تترى، ونطقت نظراته أسى، وحملت الندم، وحفلت به.
ألا يندم من أخذته الدنيا القصيرة في دروبها الملتوية وشغلته عن أهله وأرضه؟
ألا يندم من أفنت أمه عمرها في حبه، والبحث عنه فلما وجدته، ردها بقسوة؟
فلتعلم يا "إبراهيم" أني سامحتك وغفرت لك سوء المعاملة، وسوء الظن بي، وكل أخطائك. والتفت "رافان" إلى "آمال" وقد أدركت متأخرة أنها خدعت أيضا ولا أحسب إلا أن الندم عادها هي الأخرى، ولكن أليس الندم والحسرات هي آخر عهدنا بالدنيا، فتطلعت إليه واهنة، مستسلمة كأنها تنتظر حكمه هي الأخرى:
- أما أنت فغبية سمجة، لا تستحقين حتى أن أتحدث عنك. كان اتفاقنا أن تقتليه بعدما أخذت منه كل شيء، لأقتلك بعدها لكنك وددت التراجع.
وبصق في وجهيهما، وهو يصفق الباب. ويذرع شقتهما التي أخفت جثتيهما، وخيال "ليلى" المذعورة التي خرجت ترتجف وقد أذهلها ما رأت وما سمعت. وضعت يدها على فمها تئد صرخة ذعر كانت كفيلة بأن يجتمع لها كل سكان عمارة الرضى، وأسرعت إلى الباب، وركبتاها تصطكان خوفا، حتى أنها لم تشعر بخطواتها الفارة من مشهد القتل الرهيب، وقد أدركت هي أيضا متأخرة حقيقة "رافان" وخطورته، إدراكها ضرورة نسيان كل ما شاهدت وإخفائه على كل من تعرف إن أرادت النجاة بحياتها. وبلغ بها خوفها أنها حدثت نفسها بأن ما رأته لا يعدو يكن كابوسا فظيعا، ستمحيه من ذاكرتها إلى الأبد. وذلك ما رأيتها تفعله، حين حضرت جنازة "آمال"، عجبا!
وإذا طائري يؤوب إلى موطنه، ويستقر بجسدي، بعدما جاب بي في ربوع الذاكرة وأطلعني بما لم أتصوره لحظة في حياتي، حتى في أعبث أحلامي. كنت أظنني أمضيت شهورا وشهورا طويلة في رحلتي الزمنية تلك بيد أن الإستغراب استوطن مشاعري كلها حين أدركت أني، بعد جالسة إلى ليلي في مكاني نفسه، ولم تكد تمضي على بداية رحلتي إلا رفة جفن. وإذا الطيف والصوت يظهران مجددا:
- لعل حجب ما وقع في غيابات ماضيك انحسرت الآن أمامك، وانكشفت ستائرها وصرت عليها مطلعة. وإني لأقدر شدة تأثرك بكل ما حدث معك، لكن لا وقت نملكه للبكاء على ما مضى، والتحسر على ما فات، وإنما للعمل على ترميم ما أفسده الأشرار المبطلون وتمكينكم من حقوقكم كاملة دون نقصان. كان هذا الذي عشتيه سفرا لروحك من خلال رؤية نفسك في مرايا ماضيها وما فعلت ذلك إلا لأرسخ ثقتك بي، ولتؤمني بقولي، حتى ننجح فيما نحن فيه خائضون.
اعلمي يا "عيشة" أن الحياة تزاوج النفس بالجسد، وأن النفس خالدة خلود من في السماء، والجسد مآله حيث كان بدايته. والروح يا "عيشة" الرضية جسر بين النفس والبدن، وأنا روح الجبل، مشكاة الخير الأولى، وجسر الحب والخير بين السماء والأرض، وذاك الذي سمعت مناجاة أعدائك له روح الظلام، جسر الشر، وساكن سفح الجبل. وللناس اختيار بين أحد طريقين في عبورهم. طريقي واضحة سهلة يسيرة، وسبله ملتوية وعرة، لا تقوم إلا على الظغائن والأحقاد بين الناس. شرابي لبن خالص، والدم يثمله. نفسي جنة عذراء ونفسه جحيم تلدغ نيرانها نفوس تابعيه.
وشيء لنا أن تكون على الأرض صراعاتنا والأبدان واجهات حروب الأنفس المعتلة، ندول أياما، وندال أياما أخرى إلى أن تنصرم وساطات الأنفس بالأبدان وتنحل حيث مستقراتها الأخيرة في خلودها الأزلي، بينما تندثر الأجساد في الأرض التي انبثت منها. وشيء أن ينتهي بنا تصارعنا إلى أرضكم، وإذا بي استقر قمة جبلها، ويسكن سفحه. أروم القمة تقربا إلى السماء وصفائها، ويندحر إلى القعر تمجيدا لما فيه من دنس. وجعل يقوى ساعة ضعفي وفرقتكم، ويجبن خائبا إلى ظلمته حين انتشار الخير بينكم، وصفاء سرائركم. لقد كان سفر روحك جسر بين ضفتي حاضرك وماضيك، وذلك لتعيدي اكتشاف أخطائك ولتتعرفي على ما يتربص بكم من شر رابض. أبلغي "قاسما" كلامي، واسمعيه صوتي، قبل أن ترحل روحك إلى حيث الخير الدائم، حتى تجد نفسك ضفتها المفقودة الجديدة وحياة أخرى تنتقلين إليها في بدن آخر بوساطة روحك. وأعلميه أن النفس لها أكثر من بدن تسكنه وتحيا داخله وفي أبدان أخرى من بعده أكثر من حياة لا تحتفظ خلالها إلا ببقايا صور مبعثرة وغير متناسقة العرض، وتأتي أحيانا بشكل رؤى وأحلام، وأحيانا أخرى في بديهيات تلتصق بشخوصها، تؤمن بهاأو تكون قد آمنت بها قبلا، ولا تحتاج في ذلك إلا إلى نتف من الكلام. أعلمي "قاسما" بأمري، وأسمعيه صوتي، وإني لداعيه إلى سفر آخر في حياة أخرى عاشتها نفسه قبلا، فليتعلم مما علم، وليجعل يقينه للخير هو الغالب، وليذكر أن خدام روح الظلام تتعقبه حيثما سار، وهي ولا شك سترافقه دون علمه إلى سفره الآتي، فليحترس ولا يأمن أبدا لأحد، وادعيه إلى تاونات أرض الجبال والرجال، ومبتدأ صراعنا ما استطاع.
يا "عيشة" إذا كانت الروح مبدأ الحياة ومصدرها، ومحرك الأبدان ومسكنها، فإن النفس مصدر التوجيه، بعد الفهم والتفكير، وهي في ظهورها إما نامية تجمع ما ينمو من موجودات، أو حساسة تضم من لهم حس وعاطفة، أو ناطقة وانفرد بها من له عقل ولسان.
والروح هي الحقيقة المفكرة، والذات المتأملة للأشياء، المتصورة لها تقابل المادة كما تواجه الجسد.
لا ينبغي "لقاسم" الفشل، وإلا لضاعت روحه، ولظلت معلقة كجسر غير موصول ينشد ضفتيه ولا يستطيع بلوغ إحداهما بله الإثنتين، وسيخسر بكل ذلك كل ما يملك، أملاكه الحقيقية، ماضيه، حاضره، مستقبله، روحه، نفسه وبدنه وتشرد أرواح من تعلقوا به، وآمنوا بنجاحه.
أما إذا تحققت له العودة المرغوب فيها، ودحر أعداءه، فإنه سيستعيد كل أملاكه الحقيقية، وكل ما أخذ منكم بالغصب والحيلة. ارحلي إلى تاونات وادخلي بيت زوجك المهجور، ولا تخشي أحدا لأنك صرت تعلمين أشياء يشق عليهم الوصول إليها، وتملكين أشياء لا يملكونها، ولتصحبي معك ابنتيك لتكونا لك عونا وسندا، وادعي "قاسما" بعدما تسجلي له وصيتك وأطلعيه على حياته السالفة كلها، وليعلموا جميعا أنهم عائدون إلى أرض أجدادهم، ومستعيدون ممتلكاتكم الحقيقية. أنا في حاجة لكم يا "عيشة" كما أنتم في حاجة لي، فالفرقة بين الناس قد اتسعت، والشقة بينهم قد زادت، ألا ترين ما قامت به "ليليان" وأمها وابنها من دسائس ومكائد أعادت البغضاء بين أهليك أكثر من قبل. لم تعد العداوة بين القبيلتين فحسب بل أضحت بتدبير أياديهم الخفية في ظلام الليل بين الأسرة الواحدة، وفي قلب البيت الواحد، وإني لأخشى أن يستفحل الضرر، فيغدو الشقاق وسط البدن الواحد. وكل ذلك يقوي الشر، وينصره ويرفع ألويته، بينما نضعف أمامه مهما صلبت مقاومتنا. لم ألجأ لك، يا "عيشة الرضية"، و"لقاسم" إلا بعدما أحسست الخطر قد تضاعف من حولنا، وطوقنا من كل جانب، فاعلميه بأمري، واخبريه أنه من جند الخير المنصورين، وأوصيه حين عودته الظافرة، بأن يسجل وصيته بدوره لبنيه يوصيهم من بعده، ويعلمهم بما حدث معكم، حتى لا يتكرر ذلك معهم.
وكما لم يسبق ظهوره تقديم، أو سلام غادر دون توديع، فألفيتني أكابد إرهاق أرقي، ووحشة ليلي، وركوني إلى جوفه الساخن، وآلام التذكر تمزق أحشائي ولوعة معاودة مقاطع من حياتي، وحياة من أحببت تطالعني، كوحش ينشب مخالبه في بدني حتى لأخاله ينهشها دون رحمة. كنت في الهزيع الأخير من الليل، أسائل نفسي دون أن أنتظر إجابات، أو أطمع في ردود.
لماذا قرن ليلى بألمي؟
أما آن الوقت لبلوج الصبح وانصرام الليل وحلكته المخيفة؟ فلأنتظرن ذلك، أليس ذلك ما كنت أفعله طول حياتي؟ وأبصرت عمري كله كغرفة انتظار كبرى، أنفقته أنتظر أن تحل عقدي لوحدها دون أن أملك الشجاعة لمواجهتها، فليحن وقت العمل على حلها إذن، والخروج من انتظارياتي. أليس العيب في، وفي سلبيتي المطلقة؟ هل الفرار من المشاكل، حل لها؟
قطعا لا، فلأخرجن إذن من عيوبي، ولأتركها إلى الأبد دون تفكير في العودة إليها، ولتكن أرضي المنبوذة التي سأفر منها بلا رجعة أو حنين، ولأنطلقن من عالمي المسيج الذي دفعني إليه جبني الشديد وخوفي على أبنائي.
قضيت الليل كله أغلي، تتقاذفني أمواج الهواجس دون أن ترسى بي إلى مرفأ، وفجأة ظهر لي ضوء بعيد، رأيته يدنو مني شيئا فشيئا.

عبدالسلام المودني
25-08-2009, 05:18 PM
الوجــه الثاني:
كنت لي قبل تلك الليلة، وخلالها، وجها في صورة، واسما تردد كثيرا على مسامعي، وإذا بك بعد كل الذي سمعته، تصير أصل آمالي المنسية، وأحلامي المرجأة. كنت قريبا مني، دنيا من عيني، قبل أن يصيبك ما أصابكم، وإذا بي أدرك أن علي أن آمل في رؤيتك بعيدا عن الرباط. وكان ليلي قد ألقى بي إلى تاونات عشقي الدائم، ومشواري الأخير، ومحطتي النهائية. كانت البداية، ولا أرى غيرها خاتمة. ولما أسفر عني الصباح، وكنت قد غفوت قليلا، استفقت ونامت جراحي، أو أخذت سنة غفلة، وخرجت إلى ابنتي بقراري، فما كان منهما إلا الإذعان والموافقة بل لمست أيضا في طيات كلمات موافقتهما حماسة، وحنينا لأرض، انتقل حبها إليهما بالوراثة، ومن شدة حديثي عنها. لملمنا خفيف متاعنا، وحزمت قلبي في حقيبة سفري الصغيرة وقصدنا محطة القطار، بخطواتنا المبعثرة. صعب جدا أن أجد وصفا لحالتي هناك. لكأن نفسي انشطرت، وقد شق ضفتيها واد عميق فصل شعورين متناقضين، فرحة للقاء، وألم لوداع. كنت جذلى، أكاد أرقص طربا لمعاودة السير تحت سماء تاونات، بيد أن شعور الخيبة والإنكسار لازمني لفراقي سلا، التي لم أنظر لها يوما كشيء مني، أو حسبتني شيئا منها، بل عددتها محطة أخرى، طال مكوثي بها. لم أشعر نحوها يوما بشيء ظاهر، كانت منفاي الإختياري، أنأى به عن الجور، وأدنو به من قطع من داخلي، لكني اليوم، وأنا واقفة على عتبات أبوابها، عازمة على الرحيل عنها، يمتطيني شعور جديد علي ناحيتها، وعاودني شعوري القديم عند مغادرتي تاونات، الإحساس نفسه بالإغتراب، ولكن طريقة إحساسه في المرتين تختلف مع أن مذاقهما واحد.
أكانت سلا وجها آخر لتاونات؟
كانت تاونات من أنجبني، ولما تقطع حبل سرتي إلى اليوم، وظل ممدودا بيننا، موصولا رغم السنين والمسافات. وصارت سلا، حاضنتي، وهي التي تبنت غربتي، وأحزاني، وأدخلتني مدرسة المواساة، ومازالت تلقنني من دروسها. صعب جدا أن أجمع بين الأمين، إلا في قلبي. خرجت من سلا آسفة، وهي متربعة بداخلي، تسكنني كما أسكنها بوجوهها وأسوارها، بشاطئها وتاريخها، بدورها وأنينها، بذاكرتي داخلها وسني عمري التي قضيتها هنالك. كانت سلا وتاونات، وجهين لعشق واحد.
كنت كمن تأكد لديه يقينا عدم العودة إلى مكان نسج معه خيوط المودة والمحبة. وكنت كمن سيودع عالما إلى عالم آخر. أحتضر، أرقب موتي بعين، وأتطلع إلى شريط ما عشت في هذه المدينة بعين أخرى. يمرق أمامي، كالقطار الذي انتظره مسرعا، يخلفه الهدير، وكأن طائري أتاني في لحظة الصحو وحلق بي ذارعا أيامي ومعطلا آلة الزمن، وساعاته، تاركني جسدا إلى جانب ابنتي المنشغلتين معي عن تيهي بلهفة اللقاء، وبعض الحسرة تطفو على ملامحهما.
وكأن يوم وصولي إلى سلا لأسلو عن همي كان بالأمس فقط. لفرط ما يمر الوقت يوم جبنا أزقتها الخاوية، فتلقفتنا "دردورة" وألقتنا قسوتها، إلى "البتول" الطيبة التي وهبت لي أجمل هدية.
بدران ينيران حلكة أيامي. حافزان آخران لمواصلة الأمل في الحياة. سلا، مدينة العطاء والمواساة، تمنحك ما تريد، وتواسيك ما استطاعت، لكنها تسرق عمرك. "شيء لله سيدي مسعود بن سارة.. فك المسجون يتسارة" في كل خطوة ولي صالح، في كل خطوة أمل ورجاء. أيمسها الجحود مني كما مس غيرها الجحود من أقرب الأقربين إليها؟ لست أدري لمَ ألح علي وجه "محمد"، وقد أرخى لحية هدباء، أضرت بوجهه، إذ لم أتعرفه إلا بعد لأي، كما أضرت بمن حوله. ولست أدري، لمَ ظهر لي وقد أمسك قيثارته، لكنه لأمر ما عجز عن العزف هذه المرة، وهو الذي عهدته ماهرا حذقا، فطفقت أخاطبه أو أحاكمه:
- أوتار قيثارتك، حبل مشنقتك، وأنامل عزفك، خانقتك
صوت أنغامك، صدى طلقة استقرت في صدرك
إنشادك للموت، احتفاء به. تهابه أم تقدسه؟
الخوف والتمجيد لا يسكنان وطنا واحدا.
عديدات هن الأمهات اللائي مسهن جحود الأبناء، وانصرافهم عن أحضانهن، وقطع حبل سرتهم بأسنانهم حنقا وغضبا، طيشا وعقوقا. طريقة الجحود تختلف، بيد أن نتائجه واحدة. جحود الأبناء يحرق حقولا أمضت الأم أوقاتا طويلة في حرثها وتبذيرها، ويقضي على مساحة هامة في قلب الأم ولو تصفح. والصفح وردة بلا أشواك. لقائي مع "إبراهيم"، أعادني إلى الجحود، تزرع أرضا بورا بعدما تفني زهرة عمرك في إصلاحها، وبعد جهودك تلك كلها، يأتي غيرك ليستولي عليها، أو تصيبها حرائق لا تعرف لنشوبها سببا.
أأكون جاحدة مع سلا، وقد منحتني ما منحتني، وأنا من دخلتها وابني قفرا، وصحراء جرداء، لا واحة تخضرها؟ أأكون جاحدة معها، إذ قررت الخروج منها؟ ألم أكن كذلك مع تاونات من قبل، وقد تركتها خلفي كل هذه السنين؟ ولكن في كلا الخروجين، أكون مكرهة. ضعيفة أنا أمام الأقدار، وقشة أمام سيولها الجارفة، تلقيني من مكان إلى مكان آخر، دون رغبتي، ولكن ذلك يزيد من تشبثي بأماكن مغادرتي. أكذاك يكون الجحود؟ قطعا لا.
أو لم يكن "إبراهيم" مثلي، ضعيفا؟ ربما.
كان قدوم القطار، حكما في فض النزاع الذي نشب فجأة بيني وبين نفسي. حاكمت في المحطة شاردة من حاكمت، ممن أعرف، حتى إذا انتهيت من الجميع، فرغت لنفسي وطفقت أحاكم أخطاءها، وأدنتها، ونفذت حكمي الفوري عليها، وأدخلتها زنزانتها.
في مقصورة لم أذكر وجوه من ضمت معي إلى جانب إبنتي، كنت غائبة تماما، سابحة في بحر لجي مسجر الأمواج، هاذر الصوت. وألفيت طائري، يسيح فوق رأسي، وتمنيت لو أن الذاكرة، تخف أوجاعها، وتضعف حدتها قليلا حتى لا تجره إليها، وتقذفه في إهمال إلى الأمام، عله يطلعني على ما قد يأتي، ولكن عبثا ما تمنيت، إذا أدركت في قراري أني في قمة هذياني، وأنه لا يستطيع ذلك أبدا، إنما تواجده ينبع من التقهقر إلى ما مضى.
يا لضعفي!
وإذا القطار يطوي المسافات طي السجل للكتاب أعيد قراءته من بدايته. رأيت نفسي أحال على كلمات ماضي عينها، خطوط زمن الرحيل نفسها تطالعني مجددا، وإذا أنا منشغلة عن المسافات التي تقربني من عشي، بهواجسي التي تلاحقني وتعيدني إليه بطريقة أخرى. فاس أيضا محطة من محطات حياتي، وكما كانت بداية مشوار غربتي، أراها الآن بداية النهاية، وهي التي اعتبرتها يوما مستهل انطلاقي. وخرجنا من محطة القطار وتقتادنا سيارة أجرة صغيرة إلى "أبي الجنود" محطتنا الأخيرة حيث سنستقل حافلتنا الأخيرة. فاس، ظلت دوما بداخلي، وإحساس متناقض جهتها كان دوما يخالجني كذاك الذي يجمعني والرباط. مزيج من الرهبة والرغبة، أحبهما بقدر ما أحترمهما، وأخشاهما بمقدار ما أتطلع إليهما. كنت كالغريبة في فاس. لفرط ما تغيرت المدينة، التي أصرت على سجن ماضيها داخل أسوارها، وانطلقت بناياتها السامقة تعلن عن ردائها الجديد. لماذا نصر على إخفاء عتيقنا أمام الآخر، ونعلن جدتنا أمامه؟
لكن أليست تلك الأسوار جزءا من عراقتنا؟ لم أكن غريبة تماما في فاس "المولى ادريس"، فقد طالعني جبل زلاغ يذكرني بأني على عتبات جبال العز والأنفة. كان حنيني يسوقني إلى تاونات يسابق الحافلة التي غبت مجددا داخلها، بيد أن وجوه الجبليين وملابسهم وزعيقهم رافقني في غيبوبتي، ولا أخفيك يا بني سرا، إذا قلت لك، إني ما إن صعدت وابنتي الحافلة، حتى أحسستني فعلا بتاونات. لقد شممنا رائحتها، وأنا لما أصلها، فطفقت أصابعي تعبث بملاءتي الجبلية التي ما كانت لتفارقني في مشاوري الهامة. ذاكرتي الغائبة تجتر للمرة المليون منظر خروجي وابني "عمر"، وحجب الليل تدثرنا. كنت أتمنى أن أعود يوما، مرفوعة الرأس، مستعيدة خطواتي الواثقة كما كنت، وقد انقشعت شمس الحقيقة في سمائنا، بيد أني لم أرغب أن أعود مجبرة، متخفية في أحزاني، وأسرار تنوء بها كتفاي، ومستقرة خلف أمل كبير، أعجز فعلا أن أقدر إن كان يستحق الإيمان، أم هو سراب آخر، يلقي بي إلى ضفة الإنتظار ويحيلني إلى وهاد اليأس.
أترى الآن يا بني، كم يفضحني عجزي وأفضحه؟ عاجزة مرة أخرى أنا عن وصف حالتي، والحافلة تدنو متهالكة من "امتيوة" المنتظرة. اقشعر بدني، وأحسست نبضي يرتفع، حتى إني حسبت أن كل من في الحافلة سمعوا خفقات قلبي، وأحسوا الدماء تتجمد في شراييني، وريقي يتحلب في فمي، وأبصروا اصفرار لون وجهي، وارتداد أطرافي ولم أعد ألمح أمامي إلا أيامي الماضيات تسرع نحوي والدموع تبلل عينيها فرحة بمعاودة اللقاء. أحسست سماءنا الخفيضة دنية مني، وأرضنا الندية ثراها يرحب لمقدمنا، وخلت شجيرات التين والزيتون تبتسم في وجوهنا، وحسبت الزمان بتواطؤ قل نظيره وبجود لم أعهده منه، يتوقف ويدع لي حيزا أشبع لهفي، وأروي شوقي من عشقي الدائم، "امتيوة".
أما بنتاي فقد أحسستهما يقفان بين شعور السائح المستكشف، وإحساس الإبن الضال الذي يعود بعد طول غيبة. استشعرت الثاني يغالب الأول ويصرعه، خاصة ونحن ندخل دار زوجي –جدهما- المهجورة.
دخلت هاهنا دخولي الأول عروسا شابة، أحمل عشقا لرجل كان الإخلاص شارع مدينة بنيناها واستوطنا دورها، وعبرنا بعد ذلك سالمين رغم العثرات، وذي أنا أعاود دخولها عجوزا بالكاد تبصر، بالكاد تمشي، بالكاد تتكلم، جسدها وكر فرت إليه الأمراض، ونفسها حضن العلات والخيبات، بيد أنها تملك ذاكرة من فولاذ لم تمسسها تعرية الزمن وعوامله، ولا تكاد تفوت دقيقة من دقائق ما رأت وعاشت إلا وتستحضرها كاملة، غير منقوصة.
التغيير حاصل هنا أيضاً وأياديه مست بعض الدور بيد أن مسيرته أبطأ، ودار جدك المهجورة تجنبت مروره، وتفادت أياديه العاتية الطولى بمرونة في غير اهتمام.
بعض من أيامي هاهنا على قلتها ترثي رحيلي، وتبكي على بعضي المتبقي في الشتات. ولإن عدت دار جدك دوحا في سالف العهد فقد غدت قفرا، وأثرا غابرا لمن مروا منها.
لكم قضيت من ليال طوال أتصور، وأعيد تصور تفاصيل عودتي، ودخولي هنا، بيد أني لم أتصور أن يكون كهذا الذي أعيشه الآن، وكأني عدت ليلا. وكما خرجت من دار أبي –الذي رضي بزواجي وقضى بعد ذلك مباشرة- دون توديع، أعود إلى دار جدك دون ترحيب. مات من مات، وولد من ولد، وكبر من تركته صغيرا، وشاخ من كان في مثل عمري وأقعد المرض من أبقت الحياة في عدادها يتجشأون تباريح السن، ويجأرون ألما على ما مضى.
ما تنتظرني من أمور جسيمة، جعلت تحول بيني وبين ما بدأت أحسه في بدني من بداية العجز، ولو كنت مطمئنة عليكم يا بني، لأسلمت نفسي للمرض راضية، ولاستكنت خانعة للموت، لكني مازلت أقاوم عل كلماتي هاته تصلك، وتكن مخرجنا مما نحن فيه. خطواتي إلى دار جدك، رغم تلعثمها، كانت حافظة لمسارها، بطيئة، كأنها مشي المآتم، وحقيبتي التي تحمل قلبي، كأنها نعشي. تذكرت يوم حفرت قبر جدك وحملت نعشه وحيدة، في ليلة ماطرة، والأعين ترقبني خلسة. الأعين نفسها أحسستها ترقبني. قدر لي أن أمشي الجنازات وحيدة، دون أشياع.
أما "وعد" و"وجد"، فلحظت في عينيهما التبرم والتراجع إزاء البيت العتيق المتداعي، وكأنهما استخسرتا على نفسيهما الإقامة هاهنا. لا تخشيا شيئا حبيبتي، سنعيد إلى البيت وهجه، وسنضيء شموعه، بفعل عزائمكما.

عبدالسلام المودني
25-08-2009, 05:20 PM
الشريــط العاشر
الوجــه الأول:
كنت وقتذاك كهذا البيت المهجور، مقفرة الظاهر، بيد أن جوانحي كما جدرانه العتيقة ملأى بمشاعر الحنين الدافئة. ادخلا يا ابنتاي ولا تخشيا شيئا فإني كفيلة بضمكما، وضم كل عابر لأرضنا.
وكانتا تخشيان أن تستوطن بيتنا العتيق الحيات والأفاعي، كما ترقد في جوانحي الآلام والخيبات، وقد سمعتا كما سمعت عند دخولنا خشخشة بين متاعه المهمل ولاحت خيوط العناكب بزواياه، كحصون لها، وفخاخ لضحاياها. وكان علي أن أبدد مخاوفهما، وأطرد هواجسهما، وأعينهما على خلق ألفة مشروعة مع بيتهما الموروث، فتقدمت بخطوات همة وجسارة لا تتفق وسني وجبني المدفون، وطفقت أزيح بعض المتاع المغبر المرمي بعشوائية، وكنت أنتظر أن أجد أي شيء، إلا ذاك الذي وقعت عليه عيناي، وما اكتشفتاه معي، والبغتة مرسومة على ملامحهما.
لن أنسى في ما فضل لي من عمر تلك النظرات التي أخذت ترمقني بها تلك الكلبة التي اتخذت من البيت المهجور ملجأ لها، ولجرويها اللذين كانا منشغلين عن دهشتنا وربكتها بلبنها. نظراتها كانت مزيجا من الخوف والإستعطاف. خوف، لا تقدره حق مقداره إلا أنثى تدرك أنه قد يتحول إلى شراسة للدفاع عن فلديها. واستعطاف، تعرفه الأنثى أيضا، شعور المخلوق الضعيف، الذي قد يتحول سبب ضعفه إلى مصدر قوته. تذكرت حينها حديث روح الجبل الذي جمعنا والحيوان حينما قال بأننا نملك أرواحا حساسة، وعدت لتذكر الصرصر الذي قدم لي فرصة للنجاة من بدانة "دردورة" وابنتها، حشرة صغيرة علمتني درسا كبيرا بعدما تدبرت في سلوكها وتقربت منها وتأملتها، والآن ذي كلبة مرضعة تمنحني نظراتها، وتحفزها المستتر خلف ضعفها البادي درسا آخر للقوة الكامنة في الضعف، وأعطتني شحنة أخرى للتشبت بالأماني على بعدها وهي الآن صاحبة فضل علي، في أن أزيد في إقناع "وجد" و "وعد" بضرورة المكوث ها هنا، بل وفي العمل لنعيد له حياته السابقة، قبل أن يرتد عنه أصحابه بالجبر كل إلى وجهته.
كانت صاحبة فضل كبير علي، لأن ما حدث بعد انصرام صدمة الاندهاش الأولى لم أكن أتوقعه منهما إذ لحظت تبرمهما الجلي، فقد اندفعتا مستبشرتين بما رأتاه، وعلامات العطف، والدعة بادية عليهما وأحست المرضعة ذلك منا، فاستكانت ليديهما بثقة، وهي تداعبها وجرويها. وقامتا، إثر ذلك، بمثل همتي ونشاطي، وطفقتا في إعادة ترتيب ما بعثره الزمان وطول الهجر، حتى يليق بالجروين وأمهما.
كانت إعادة إعمار البيت تتطلب منا جهدا وزمنا يعادل مدة هجره، بيد أن همتنا وشوقنا والتغير المفاجئ الذي تبدى بعد أن أحست نفسيهما مسؤولتين عن الأم وجرويها، زاد من حماستهما، وقرب المسافات البعيدة، وأعاد للبيت روحه وأنفاسه، لكن أتعود له أيامه الماضيات؟ أشك في ذلك حقا!
لم ألحظ مثل ذلك الألق في عيني حبيبتا قلبي من قبل، فقد أحستا بروحيهما تؤوبان إليهما بعد أن فارقتهما مددا طويلة، وتحققت الألفة التي راهنت عليها ونسيتا شعور الغربة الذي تجرعتاه وهما خارجتان معي من سلا، مذعنتين. وألفينا "امتيوة" ، وجها آخر لحينا، كما أن تاونات وجه سلا الثاني، ووجدتا دار جدهما، صورة أخرى لبيت جدهما السلاوي. ولاأخفيك غبطتي وقتها رغم تعاظم الكروب، فقد أحسستني أولد من جديد، ولا أظنهما إلا أحستا الشيء نفسه. انطباع غريب تمنحك هذه الأرض، إذ تجذبك إليها بقوة، ودون مقدمات، فتجعلك تسلم لها، وتحس أنك جزء منها. وتبددت إذن أحاسيس الغربة، والجبر والواجب التي كانت لديهما مسبقا وهما تذرعان سلا، في أسى مكبوت وألم مدفون. كان ذلك يصلني رغم غياباتي وانشغالي عنهما، رغما عني كان يصلني. نظراتهما التائهة، ونحن في القطار الذي خالتاه يقودهما إلى المجهول، ولقاؤهما مع ماضي أجدادهما، حسبتاه نقطة عظيمة، غامقة اللون، لاتدركان ما ينتظرهما خلالها حتى حديثهما، أو نتف الكلام الذي أفرجتا عنه، ووصلني رغما عني وصلني. كان تافها بلا معنى، يداري شعورهما بالعجز، وبعدم القدرة على الفصاحة صراحة عما يدور في قرار كل واحدة منهما، بيد أني ما كنت لأتيه عن نظرات الضياع التي كانت تفضحهما، أو زفراتهما المتقطعة المعبرة عما تمور به دواخلهما.
وكانتا تخشيان أن يصلني شيء من ذلك حتى لا تجرحاني، أو تزعجاني، ولكنه وصلني، رغما عني وعنهما، وصلني. وكنت بين سموم "وجد" التي كانت تتجشأ شعور الإثم والإحساس بالخطيئة. كان قد بلغ ندمها سناه عندما علمت أنها لم تسئ لنفسها فحسب، بل ساهمت في أذيتنا جميعا، رغما عنها. ثم إنها أخذت تحدث نفسها وتفكر في أن "رافان" قد استخدمها يدا يضربنا بها لنتوجع نحن ويده، بعد ما علم بحقيقة قرابتها من "آل الشرقي"، بيد أن تخمينها ذاك كان خاطئا، إذ لو علم بذلك إذن لأمعن في تعذيبها، وتعذيبنا بها. وبين حميم "وعد" التي كانت تراود نفسها رغبة في أن تعاود رؤيتك لتعاتب فيك قسوتك التي أنستك حبها، وكانت تود أن تعاود رؤيتك لتبلغك أنها باقية على حبك، مهما تفعل، أو تجرم في حقها، ستظل مدلهة بك، وأنها وقفت قلبها لك، ونذرت عواطفها "لقاسمها". كانت تود رؤيتك لتعلمك أنها إلى جانبك في محنتك، ثم إنها كانت تصر على معاودة رؤيتك بكل بساطة لأنها ما فتئت تتعذب لغيابك، وانقطاع أخبارك، ولأنك صرت أقرب إليها من قبل، تربطك وإياها، عرى الدم، وضيق الحال. لم تعد تراك تقف في ضفة أخرى، يفصلك عنها واد كبير، يلزمها لعبوره جسر طويل، وسلم عال ترتقي درجاته لتبلغك. كنت إلى جانبها، دنيا من يدها، كما أحببتك، وتوهمتك بسيطا، مكافحا. ولأمر ما لم تستطع تفسير تناقضه مع رغباتها المعلنة، كان وضعك الجديد يروق لها كثيرا.
"وعد" يا بني، حساسة جدا، كبرت لشدة ما مرت بنا من أزمات ورجات وهزات في حالنا وأحوال معيشتنا، تعادي الغنى والثراء وتخشاه، لذلك تجنبتك في أول ليلة ظنا منها بأنك ابن طبقة علوية، هكذا هي "وعد".
وكان لكل واحدة منا مدارها العلوي تسبح داخله، وكأن لكل واحدة منا غاية من وراء هذه الرحلة، إلا أن هدفنا توحد الآن، وأنا ألحظ مثل ذلك الألق في عينيهما إذ أحستا بروحيهما تؤوبان إليهما، وأدركتا أن شيئا خفيا يجرهما لهذه الأرض. ترجلنا من غاياتنا المضمرة عندما وطئنا "امتيوة".
ولم تكن الكلبة المرضعة، والجروين إلا علامة، من العلامات التي توضع في طريق التائهين تدلهم إلى الوجهات الحقيقية التي يطلبونها واستوعبنا الدرس هذه المرة وأنفقنا على البيت ما يلزمه من وقت وجهد وحب ليعود كما كان على الدوام، فإذا به كما تراه الآن، نسخة حقيقية لا لبس يعتريها كما كان الأصل. هنا عاش جداك، وأرضه التي تراها أمامك، لم يتغير شيء في تربتها أو أغراسها. ولإن زحف "الكيف" إلى بعض الأراضي المحادية لنا قادما من كتامة "الكيف"، فإني أشك أن تقبله أرضنا يوما. أشك في ذلك حقا.
وكان الحنين يضطرم في نفسي وينزع بي خارج الدار على الدوام، فأجد بصري يرتد بي من تلقاء نفسه سنوات إلى الخلف حيث الكدية المجاورة. ما من شك أني ألمح بيت والدي من هنا. لكم تهفو نفسي لمعاودة دخوله، ولكم حزمت أمري للذهاب إليه، لكني كنت أصطدم بجبني عن فعل ذلك، فيلقي بي في يأس المستكين الخانع إلى السؤال.
هل خرجت فارة من جرم ارتكبته؟ وأجد الجواب بديهيا، يسعفني ويزيد في عذاباتي، بأن قطعا لا.
فلمَ الخوف إذن، وممَ الخجل؟ لكني مع كل ذلك أجبن، رغم أن الحنين يضطرم في نفسي، وينزع بي خارج الدار على الدوام، أرقب دار والدي، تلك الدار التي جئت إلى الدنيا في صبيحة يوم، داخل إحدى غرفها، نطقت كلماتي الأولى داخلها، وتعلمت أول دروس الحب والعزة والشرف في مدرستها أعاود رؤيتها اليوم، فأجد التغيير قد مسها، كما مس دورا عديدة هنا، حيث ارتفعت عن الأرض واصطبغت بصبغة المدينة، وأطلت من سطوحها مقعرات لاقطة للفضائيات، غيرت ملابسها، كما شبابنا وشاباتنا في تنافس على التقليد الخاوي. ولم أشك للحظة أنه مأهول، إذ وفي كل مرة أميز حركة جواره، وحول بابه، من تراهم من احتلوه في غيبتنا؟
أيكون "علي" وعصبته من استوطنوه؟ كنت أحسها غريبة عني تلك الدار رغم أن جنبات الذاكرة تزهى بها، غربتي عن هذه الأرض التي هي لنا قطعا، كما أني كنت أظنها تراني كغريبة ومازاد إحساسي ذاك ووطده، ما اعترى الأولى من مسخ، وما قابلتني عيون الناس هاهنا، تلك النظرات التي يقابل بها الغرباء عادة، بل امتد ذلك الإحساس وتعاظم واستفحل ضرري به حين زارنا زائر تبدو عليه أمارات الرزانة والهدوء، وأظنه إمام المسجد الجديد بعد عمي "محمد" كما أظن أن الناس من أرسلوه، فأخذ يسألنا من نكون؟ ومن أين أتينا؟
ولم يرحل إلا بعدما تأكد له يقينا أننا مالكات هذه الأرض، بعدما تمنى لنا مقاما طيبا.
ألا ترى معي أخلاقنا وأخلاق أهلنا؟ فرغم أن الأرض قد أسقطت ملكيتها بالتقادم ورغم شعور الجفاء والنفور الذي أعقب تلك الحادثة المشهورة فإن أحدا لم يجرؤ على بسط يده على ملك غيره. لأجل الأرض تزهق الأرواح، وهي العرض والشرف يا بني، وهم يقدسون ذلك، رغم الخلاف والنبذ.
فلعلك تلمح الآن في أفقك الفرق بيننا وبينهم. نترك متاعنا فلا يجد طامعا به بينما يسارعون إلى أخذ ما ليس لهم بالحيلة حينا وبالغصب أحايين أخرى. ذلك يحسب لنا، يا بني، بيد أن أشد ما آلمني، هو تردي تلك النظرة المسلطة علينا كغرباء، إلى نظرات أعرفها جيدا وأعقل مفعولها. ليتهم أبقوا على نظرات الإستطلاع والفضول والإحتياط من غريب عوض أن يعيدوا إلى ذاكرتي نظرات المحاكمة والإدانة الأولى. كنت كالمستجيرة من الرمضاء بالنار. الناس هنا لاينسون. ذاكرتهم من فولاذ. ولإن تغيرت الوجوه، وعادات بعض منا فلقد ورثوا تلك الحكاية الملفقة، كما ورثوا سلوكهم معنا. وابتدأت المعاناة من جديد، فهل لنا من مخرج؟
لعلك تعلم الآن حجم التركة التي أودعها مع هذه الشرائط. جبال من المشاكل المعلقة تنتظر حلولا، ولكني أمنحك إلى جانبها كلمات لو أحسنت استيعاب دلالتها لأمكنك ذلك من تجاوز كل العقبات التي تعترض سبيلك. اعلم يا بني أن الأزمة أم العظمة، وأن الأخيرة تتغذى من الأولى وتصير في مثل حجمها، وما من محنة يمر منها إنسان، إلا ويزداد بها قوة وبأسا حتى إن الأهوال مهما تعظم بعد ذلك وتكبر تظل في عينيه هينة سهلة التجاوز. انكفأنا على ذواتنا كل إلى هواجسها، فبينما كانتا منشغلتين بالكلبة والجروين، رحت أنا أجالس أيامي الماضيات.
واعلم يا بني أني ما دعوتك إلى هنا إلا لأضع قدميك على أول طريق رحلتك. واذكر أن الإنتقام يدمر أول ما يدمر صاحبه ويقضي عليه ويعمي عينيه على أمور عدة، وأن العفو والصفح عند الإستطاعة سلاح الشجعان.
والآن وقد بلغت من حديثي إليك ما بلغت أحس في صدري العديد من الأسرار والخبايا المدفونة أريد أن أنقلها إليك وأطلعك عليها، علها تكن نبراسك في أيامك الآتيات، لكني أخشى ألا أستطيع فعل ذلك ويحول بيننا الصمت المطلق والرحيل الأخير، ذلك أني بدأت أرى طيف صديق قديم أيان ما اتجهت في أركان البيت، وتصلني أنفاسه دنية مني، وكأنه متربص بي ينتظر فرصة للإنقضاض علي. صديقي القديم يا بني، يترصدني كأني ضربت معه موعدا للإلتقاء به هاهنا. تتزاحم الأفكار في رأسي، وأراها تتصارع تارة مع بعضها البعض تريد الإنعتاق من حبسها، وتارة أخرى مع عواطفي، التي تصرعها، وتدفعها جميعا بقوة السيول الجارفة. كل ذلك لأخبرك مرة أخرى أني مشتاقة لك حبيبي ولأختك "سهد" ولأمك، فاخبرهما أني أحبهما وأحرص عليهما وعلى ابنتيّ حرصك على الحياة، وإني لأتمنى أن تعجل يا بني بتلبية دعوتنا علي أغنم رؤيتك وأظفر بلقائك قبل موتي، لكني أحسه يدنو مني، أستشعر وجوده قريبا مني فمعذرة.

عبدالسلام المودني
25-08-2009, 05:22 PM
القــرص المدمج
ذا أنا في وصال عشقي الموروث، وفي وطئي ذرات الذكرى تعيد إحياء كوامني. من ذا يقول أنني، أنا "قاسم الشرقي"، سابقا، ابن الإمبراطور المطاح به والمسفك دمه، لا أكاد أغيب عن تاونات الجبال والرجال حيث يحضنني حوض ورغة الأشم، بتينه وزيتونه، بزيته وعنبه، بأعراصه وأغراسه، بطيبة طبيعته وأريحية أهله؟ أرتوي من عيون بوعادل الدفاقة. تداعبني نسائم هذي الأرض الطيبة. تعاودني الذكرى بأنفاسها وأناسها، بأحداثها ودقائقها، بمسراتها وآلامها، بأصولها وظلالها، بوجوهها وأصواتها، وصوت الجدة يؤثت فضاءاتها، يصبغها بالحب الذي فتح باب قلبي، وأشع شعاعه داخله، وأنا جالس أنصت لكلماتها التي غيرت مسار حياتي، تلكم الكلمات التي ثوت بأعماقي، ورسخت هنالك كما رسخت الأصابع في راحة الكف، وكانت مرآتي أبصرتني من خلالها، وأنارت قطعا من حياتي الماضية حينما أشرقت شمس الجدة فيها، وسطعت فوق سمائي.
واليوم آثرت أن تتنسموا معي من عبق تلك الأشرطة العشرة التي حوت فيما حوت تجربة حياتها، وحياة بنيها، وما كابدت لننعم جميعا بما بلغناه. ثم إني وددت أن أبث لكم جريا على نصيحتها، كلماتي أنا أيضا وتجربتي، ومنتهى حكايتنا المثيرة، وخاتمتها في قرصي المدمج هذا، وجل الذي أتمناه أن تفيدوا منها وتأخذوها مأخذا يتوافق وأهميتها في صنعكم أنتم.
حياتنا، ماضيكم، فلا تعيدوا أخطاءنا الماضية حيث سرقتنا الحياة في دروبها المتشعبة ووقفنا على شرفاتها مأخوذين بزينة أضوائها، وأهملنا دواخل بيوتنا المظلمة. ألهتنا أضواء ما حولنا، فصرفتنا عن ظلام أنفسنا.
من ذا يستطيع أن يجزم بأني، أنا "قاسم الشرقي" سابقا، ذلك الشاب المتردد الذي وقف يوما مشدوها مذهولا أمام الغدر والخيانة؟ أقف اليوم بعد مرور عشر سنوات أمام ماضيَ القريب، وما عشته من أحداث وقد أيقنت تمام اليقين، أن الواجب يلزمني بمعاودة تلكم الأحداث على أسماعكم، وتلكم الحكاية على مخيلتكم، وأن أعاود مشاهدتها معكم، وكأنها حدثت بالأمس فقط. تلكم الأحداث التي تعيدني إلى ذلك اليوم، حيث كنت واقفا حائرا، أمام جامات نظرات "رافان" المسلطة علي، وكأنها خناجر سامة تبتر أوصالي، وتقطع أجزاء مني. كنت ماأزال أرشف اليأس، وأتجرع تباريح خيبة تجربة حب فاشلة، فاقد اللب والتركيز جراء ما اعتبرته خيانة وغدرا، وكانت ضربتي القاضية التي أسقطتني أرضا، منطرحا مندحرا في قعر اليأس ووهاده السحيقة.
لم أكن أتصور "رافان"، الذي عددته أخا أكبر يخفي كل مشاعر البغض والكره تلك، حين أزال القناع الذي تستتر خلفه ملامحه الحقيقية في ذلك اليوم الذي حضر بفيلا باب ازعير، يصحبه ثلاث رجال وامرأة في سن أمي، التي بعثت "بسهد" تطلبني أن أنزل إليهم لأمر غاية في الخطورة. قمت وأنا شبه نائم، إذ وعلى عادتي لم أدخل فراشي إلا متأخرا. لم يدعني "رافان" أسلم عليه، إذ أني لم أكن قد رأيته منذ مدة، ولم يتركني أسأله عن ضيوفه، من تراهم يكونون؟ إذ قال دون تقديم، وبحسم:
- تخرجون اليوم من بيتي.
تساءلت أمي، والبغتة تركبها.
- ماذا تقول، "رافان" ؟
أجابها بنبرة صوته الأولى الجديدة علينا:
- ما تسمعينه. زوجك المحترم، باع لي كل ممتلكاته. الشركات، العقارات حتى الأرصدة المالية، منحني إياها قبل انتحاره وعشيقته التي هي في مثل سن ابنته.
ورثت إمبراطورية "الشرقي" كلها إلا أنتم، فأنتم خارج الشركة، لذا أرديكم أن تتفضلوا خارج داري.
كنت أعتقدني داخل كابوس إذا ما استفقت سيرحل عني، بيد أني كنت واهما فكل ما أعيشه واقع لا علاقة للتخييل والنوم به، فخرج صوتي رغما عني:
- مستحيل ما تقوله، "رافان"، فأبي لا يمكنه أن يسئ لنا بهذه الطريقة.
أفرجت شفتاه عن ابتسامة هازئة، وهو يخرج من جيبه أوراقا رماها لي فإذا هي نسخ عقود بيع مسجلة، تحمل توقيع والدي المشهور. ازدادت ابتسامته اتساعا، وحملت مزيدا من الخبث وهو يخرج ورقة أخرى من جيبه قائلا:
- ما دمنا نتحدث عن الأوراق -وهنا التفت إلى "سهد" التي كانت تعاني في داخلها وفضحها احتقان وجهها الشديد- هذه ورقة طلاقي منك غيابيا حبيبتي، أو خلاصي منك، لا يمكنك أن تتصوري عذاباتي معك التي كنت أتحملها. كنت مجبرا على تحملك، بل تحملكم جميعا، والآن أزفت ساعة الحساب. والحقيقة، هذه التي معي-وأمسك بيد السيدة التي كانت برفقته وقبل يدها-هذه أمي، وهي الوحيدة المستحقة لحبي، وعطفي. اخرجوا من بيتي، لا أطيق رؤيتكم أمامي.
قال جملته الأخيرة هاته صارخا، وهو يدفعني بقوة تقهقرت معها إلى الخلف وتخاذلت لتتلقفني الأرض. كانت الأرض تميد بنا جميعا، وأحسسنا زلزالا بأنفسنا قويا شديدا، وسقطت أمي فاقدة وعيها، بينما ظلت "سهد"، جامدة بمكانها، شاخصة البصر لا تبدي حركة، وقد خبا بريق عينيها، فهرعت إلى أمي، أحاول الإطمئنان عليها. رجة قوية تلك التي أحدثها انكشاف "رافان" أمامنا، ونض عن نفسه المساحيق التي ظلت تصبغ وجهه، والمجاملات والرقة التي ما كانتا تفارقان حديثه وسلوكه، وكل منا تأثر لذلك إلا أن الطريقة اختلفت. شيء من داخلي كان يدفعني للقول بأن ما حدث، رغم الوثائق والحجج، لا يمكنه أن يصدر عن أبي، أن يفرط في كل ما أنفق أجمل سنوات عمره لجمعه، وكابد لأجل ذلك ما كابد، بتلك السهولة "لرافان". ولمَ "رافان" ونحن الأولى منه؟ رفضت أن يصدر ذلك عن أبي في داخلي، إلا أن تسارع الأحداث، وإفلاتها مني بسرعة ركضها جعلني مشتت الفكر، فاقدا هدوئي، بين أمي العليلة المكلومة، التي مازالت في أيام حدادها على أبي، ومازال جرح فضيحته لم يندمل، وأختي التي أسلمت نفسها لسلطان الشرود، الذي خطفها بعيدا عنا في حدود سلطانه الوهمية.
قد تعتقدون يا أبنائي، أني ولدت غنيا، وأختي "سهد"، لكن ذلك غير صحيح. رافقناه في رحلة صعوده الشاقة والمتعبة صغارا سنين طويلة، وفي كل مرة كان يقول بأن ما بلغناه، ليس إلا محطة استراحة، نقف عندها قليلا قبل معاودة التسلق. كل تلك السنين وما كابدنا خلالها من غياباته المستمرة جراء سفره، وكل صبر أمي وجهادها ذهب أدراج الرياح في لحظة واحدة. هكذا، ببضع كلمات على ورقة، وإمضاء. بيع وشراء وتنازل، ألا ما أشق الصعود، وما أقسى آلام السقوط!
لم نحمل معنا من بيتنا شيئا إلا كلوما غائرة في صدورنا، وما جاد به علينا "رافان" وأمه من ساقط الكلام، وبذئ التجريح. طردنا كما نحن. كان علي أن أذهب بأمي أولا إلى المستشفى. كان ذلك عزمي وقصدي، بيد أني ما أن انتبهت "لسهد" حتى أدركت أنها أيضا تحتاج ما تحتاجه أمنا.
وأتاني رأي الطبيب بعدما أخبرته بما جرى أن ذلك نتيجة لتراكم الصدمتين فقد كان لوفاة الوالد بتلك الطريقة الفاضحة، أثر مكبوت أختفى في صدريهما، وكانت صدمة خيانة "رافان" التي حركت آثار الصدمة الأولى من جحرها، وإن كانت لا تقل عن الأولى، فكلتيهما اكتشفتا خيانة الزوج. وجعل الطبيب يشرح لي كل ذلك وهو ينظر إلي بارتياب كأنه يبحث في ملامحي عن أعراض مرض مشابه، بيد أني كنت متماسكا لإدراكي ضرورة الصبر والجلد، ليس لأجلي فقط بل لأجلهما معا، وقد صرت المسؤول الوحيد عنهما. أطرقت أعمل فكري، وأنصت لنفسي على اضطرابها، ووصلت ألا مقام لنا في الرباط بعدما ضاع منا كل شيء، ولأخضع لنصيحة الطبيب الذي قال بأن علي أن آخذهما بعيدا في رحلة علاجية، لأن ابتعادهما عن مكان الصدمة يساعد على نسيان آثارها اعتمادا على عامل الوقت. شيء آخر دفعني إلى قراري ذلك، إذ أني كنت أخجل من أن أقابل أحد معارفنا بوضعنا الجديد، حيث لاشيء نملكه، وقد كنا من أثرى عائلات الرباط. ورغم أن أعراض إصابتهما كانت متباينة إلا أن نتائجهما كانت واحدة وحدة أسبابها، فبينما شلت أطراف أمي كلها، إذ لم تعد تملك من حركاتها شيئا، واحتفظت عيناها بمسحة حزن واضحة، كانت "سهد" تستطيع الوقوف والحركة، بيد أن حركاتها كانت متراخية بكسل غير مفهوم، في حين غابت نظراتها إلى المجهول في حين اشتركتا في غياب النطق.
كانت المرة الأولى التي أجدني فيها وحيدا، لاأحد يحيط بي أو يبحث عني، أو يجاهد كي يصل إلى رفقتي. وأدركت متأخرا أني بلا صديق. قد أملك معارف بالكثرة التي أضيع أسماء بعضهم، أو أنهم هم من كانوا يملكونني، بيد أني لم أعرف صديقا أستطيع الوثوق به، وإطلاعه على ما كان يضيق به صدري. وهراء كان ما أطلبه، إذ أني لم أنصت لشكوى أحد من قبل، بل ولم أعبأ بأحد. أدركت أنانيتي المطلقة، حين أدركت فقري الشديد. ووصلت إلى أمر آخر أكثر أهمية وهو أني لم أكن أحدا، سوى أني "إبن الشرقي"، الإمبراطور، صاحب المال والجاه والمركز. وكذلك كانت أمي، وعمتكم "سهد". لم نكن نملك شيئا سوى أننا من "آل الشرقي". لم يفكر فينا أحد بأن يطالب بشيء له من كل ما نملكه، أو ما كان يملكه والدي، لذلك وجدتنا بلا مال. السيارة كانت ملكي الوحيد، واسم أمي العائلي كان ملكها الوحيد أيضا، يمنحها، ونحن معها، مكانا في بيت العائلة بفاس.
مكثنا في فاس زهاء الشهر على حالنا، بين الوحدة والألم والغياب. ضياع مطلق ومتاهة أدخلتنا إليها سذاجتنا وبراءتنا وثقتنا في خائن طعننا في ظهورنا في غفلة منا.
لم أكن أتوقع جديدا أو أنتظر انجلاء سحائب الأزمة عن سمائنا، وإنما كان هدوئي في هذا الشهر هدوء الخانع الراضي المستسلم لواقع الأمور، أمي جدتكم، وأختي عمتكم، على مثل حالهما دون تقدم أو تغيير. وفي كل مرة أخلو فيها إلى نفسي، كنت أجدني و"وعدا"، إذ أني رغم ما كنت أحسه من نفور ظاهر تجاهها، إلا أن حبها ظل رابضا بقلبي لا يتزحزح، ورغم أني كنت أحمل لها نقمتي وغضبي وحكمي عليها بالخيانة، كما "رافان"، وحاولت وضعها معه في الكفة نفسها، إلا أنني لم أستطع.
تعلمون يا أبنائي، أنه يوجد دوما في آخر نفق العزلة والوحشة، شخص ينتظرنا، ويؤنس وحدتنا ويمسح على جبينها، كانت "وعد" نوري الذي ينتظرني. هكذا كنت أراها، رغم مافعلته بي. وحدث في أعقاب ذلك بقليل شيء مفاجئ، إذ أتتني خالتي في أحد الصباحات، توقظني وتخبرني بأن شابة تسأل عني وأنها تنتظرني خارجا. خرجت إليها وآلاف الهواجس تخترق صباحي، وسؤال يقلقني، من تراه يكون زائري ولا أحد يعلم عنوان عائلة أمي إلا أقرب المقربين لنا؟ وخشيت أن تكون زائرتي الصباحية مبعوثة من "رافان"، وذلك ما تأكد لي فعلا، فالطارقة لم تكن سوى "وجد"، كاتبة والدي. لاشك أنها أضحت الآن كاتبته، وحسبت حدسي قد صدق، وأن "رافان" يقف خلفها لأمر أجهله.
كانت كأنها وقعت على فار من وجه العدالة.
- سيد "قاسم"، لكم عانيت في سبيل العثور عليك.
قلت لها مستخفا:
- وهل أنا شخص مبحوث عنه؟
أجابت، وكأنها تود الإعتذار:
- كلا سيد "قاسم" ليس تماما، ولكن هناك من يطلب رؤيتك.
إذن فهي مبعوثة من "رافان"، هكذا خمنت. قلت لها آمرا، وأنا أصفق الباب في وجهها، وقد انتابتني نوبة غضب شديدة:
- ارحلي عني، فأنا لا أرغب في رؤية أحد.
ودخلت أرغي وأزبد وأنا أفكر جادا في تغيير سكنانا، إذ أني خمنت أن "رافان" بعد أن وصل إلينا هنا فإنه لن يدعنا ننعم بهمنا، دون أن يدبر لنا هوة أخرى يلقينا داخلها، وكأن ما بلغناه وما نعانيه لا يكفيه.
وما زاد في ثقتي بأنه هو من بعثها أنه كان يعلم موقع منزل عائلة أمي، إذ سبق وزار خالتي هناك رفقة "سهد". وجمعت أمري أني لابد أن أدبر مكانا آخر نفر إليه، وأبحث لنفسي عن عمل أعيل منه نفسي وأسرتي المعتلة، ولكني لا أكاد أتقن عملا، إلا إلقاء الأوامر من خلف المكاتب. كان ذلك وقتها تنقيصا من قدراتي، لشدة يأسي واهتزاز مشاعري وسوداوية نظرتي للحياة. نسيت التجربة الكبرى التي اكتسبتها طيلة سنوات عملي إلى جانب جدكم، وهو مدرسة إقتصادية كبرى، إضافة إلى شهادة جامعية قسم فلسفة، تلك الشهادة التي تسببت في غضب والدي علي، وهو من بعثني إلى فرنسا لدراسة الإقتصاد لكني غيرت وجهتي تلك وملت إلى الفلسفة عشقي القديم. قضيت تلك الليلة متقلبا متفكرا، وعادت إلي صورة "وجد"، وزيارتها الصباحية، ولأول مرة منذ عرفتها، وجدت تشابها بينها وبين "وعد"، وقد غفلت عنه لقلة ما كنت أجالس نفسي أو أفرغ لها، أما وقد صار لدي من الوقت، ما أنفق منه كيف أشاء، فقد ألفت أن أفكر بترو كبير، وأعيد كل الصور التي عرفتها، واللحظات التي عشتها والمواقف التي مررت بها. ذلك التشابه أصابني بنوع من الخلط إذ أني وجدت رابطا متينا يصل "رافان" "بوعد"، وهو الأمر الذي ظلت عواطفي تنكره بيد أن عقلي يؤكده صراحة، قد تكون "وعد" أختا "لوجد"، ذلك ما خمنته. وإذا تأكد ذلك فإنها لابد مشتركة في هذه المؤامرة، التي أعدها، وأخرجها "رافان".
كل الدلائل كانت تدين "وعدا" في نظري، فهي أخفت عني قرابتها من "وجد"، كما أخفت عني علاقتها المشينة المستمرة مع ذلك الفتى الذي وجدته وإياها في "الموعد" السلاوي في حميمية. الخائنة الملعونة. هكذا صرت ألقبها.
كانت كل هذه الأفكار تتلاطم برأسي وأنا في فراشي، وقد لعنت سخفي وغبائي لأني وثقت بعواطفي ومشاعري. أسفر عني الصباح، وأنا بعد في حيرتي وعتابي لنفسي. وأخذتني غفوة لم أصحو منها إلا على صوت خالتي توقظني، وهي تخبرني مستغربة بأن فتاة أخرى تنتظرني خارجا. ارتديت ملابسي وبقايا صور الأمس تمور بداخلي، وقد علمت ألا راحة لنا بعد اليوم في هذا البيت، وقد وصلت مبعوثة "رافان" الثانية، بعد الكاتبة "وجد"، على من الدور اليوم؟
أتراها "وعد" الشريكة الأخرى "لرافان" المحتال؟
أحدث ذكرها في نفسي زلزالا قويا. كنت أحمل لها شعورين متناقضين، حب ساكن بقلبي لايتزحزح رغم أني كنت في شبه يقين من أنها متآمرة ضدي، وذاك سبب احتقاري لها. وجرت الرياح بسفني إلى مرافئ تخميني، إذ كانت هي من تنتظرني لدى الباب، بفستانها القاني الذي كان آخر ما رأيتها تضعه في مقهى "الموعد" يوم الخيانة العظمى.
أكانت متعمدة أن تضعه ذاك اليوم إمعانا في تعذيبي، ولتذكرني بذلك اليوم المشهود؟ قابلتها مبديا تبرمي وتضايقي، واضطررت أن أظهر ذلك لها، وجاهدت لأجل ذلك إذ أني أحسست خفقات قلبي تتواتر مسرعة.
- صباح الخير، "قاسم".
أيمكن أن يكون هذا الصوت الملائكي وذاك الوجه البرئ لمخادعة كبيرة "كوعد". قررت أن أتمادى في إظهار نفوري فتجاهلت تحيتها الرقيقة، وقلت بجفاء واضح:
- ماذا تريدين؟
كانت خجلى، وخرج صوتها مبحوحا:
- محادثتك على انفراد، إذا لم تمانع.
كيف أقاوم رغبة الإنفراد بها والإستماع لها، ولو أني أحمل لها ما يحمل العدو لعدوه؟
- لماذا؟
- مسألة هامة. قضية حياة أو موت، وأمانة أسلمها لك من قريب.
فكرت بأن القريب لا يمكن أن يكون إلا "رافان" الملعون.
- تقصدين "رافان".
تساءلت مستغربة،
- "رافان" ؟ لا أعرف أحدا بهذا الإسم.
هاجمتها، وقد أنكرت فعلا أن تتمادى في التلاعب بي وبمشاعري.
- لا تعرفينه، ولا تعرفين "وجدا" ؟ فكيف عرفت أين أقطن إذن؟
قالت والأسى يقطر من صوتها، وقد أحست أني أدينها بجرم لا تعلم عنه شيئا.
- وجد أختي ولا أرى ضرا في ذلك وهي من دلتني على عنوانك، أما صاحب الإسم الأول فأنا لا أعرفه، أقنعتني بضرورة المجيء إليك بعدما تعذر عليها الحديث إليك، رغم أني لم أكن أرغب بذلك.
- إذن فاعلمي أني أيضا لاأريد رؤيتك أو محادتثك وقد بدا لي مكرك وخداعك.
كان غضبي هنالك قد بلغ مداه، فأعدت الكرة معها كما فعلت مع أختها من قبل، بأن صفقت الباب بقوة في وجهها. رغما عني فعلت ذلك، وكأن الخوف من فقدانها أبدا حرك داخلي مشاعر الندم، فأنا بحاجة أن أراها، ولو فعلت ما فعلته معي. خاطبت نفسي أدافع عنها، ومن يدري فلعلها آتية لتعترف بأخطائها معي وتود التوبة والتكفيرعنها؟ وبسرعة اندفعت إلى الباب أعاود فتحه لألحق بها علي أجدها عند ناصية زقاقنا، بيد أن مفاجأتي كانت كبيرة، وأنا أجدها واقفة ثابتة بمكانها، وقد غطت دموع ثقيلة عينيها الصغيرتين. جمدت بمكاني وأنا أحملق بها، ثم صدقت حدسي، وأن تلك الدموع كانت جراء ندمها وطلبها الضمني الصفح والعفو. خلصت إلى ذلك وأنا بعد واقف كأنني مشلول الأطراف. ثم قررت أن أحتفظ ببعض قسوتي حتى أعلم حقيقة ما تود قوله، والأسباب الحقيقية الكامنة خلف زيارتها.
- أراك، لازلت تقفين هنا، فماذا تريدين؟
ردت بصوتها الممزوج بانكسارها وذلها كوقفتها أمام باب البيت.
- أريدك أن تسمعني بعض الوقت.
كان كل ذلك يؤشر لما هداني إليه تفكيري، فقلت بثقة:
- لنبحث عن مكان نستطيع التحدث فيه.
ومشينا متحاذيين معتصمين بالصمت، من حي الطالعة حتى البطحاء، وهي تجفف دموعها بمنديل أخرجته من حقيبة يدها الصغيرة. همست لسائق سيارة الأجرة التي ركبناها.
- مقهى "النوبليس" من فضلك.
وجلسنا متقابلين، حيث طلبت قهوة سوداء لي، ولما لحظت شرودها وصمتها، قلت وأنا أنظر إليها في شبه اتهام.
- عصير ليمون، أم أنك غيرت مشروبك؟
تجاهلت نبرتي ونظرتي بأن هزت رأسها نفيا، :ثم قالت بالصوت المختنق نفسه
- أرجوك، ألا تكن قاسيا معي أكثر، ولتؤجل حكمك الظالم حتى تكتشف الحقيقة كاملة.
- ماذا تقصدين؟
- أحمل لك دعوة من شخص يرغب في رؤيتك، لإطلاعك على أشياء تخصك. أما عن علاقتي بك، فثق أني لا أحب أحدا سواك، ولست أعلم ما تلومني من أجله، رغم أنك من تلاعب بي وبمشاعري الصادقة نحوك.
كنت مركزا على الشطر الأهم بالنسبة لي، علاقتي بها.
- تقصدين أنني من خان وتآمر، وأتى يطلب العفو والصفح.
قالت بتحد، كأنها لم تعد تطق صبرا على هجومي:
- لست أطلب صفحك لأني لم أذنب في حقك، بل أنت من تلاعب وكذب إذا ادعيت أنك تحبني بينما كنت تخدعني وتمضي وقتك بي، وغبت عني بعدما تأكدت أني علمت حقيقتك وحقيقة كذبك.
تساءلت بحنق:
- تسمين تلك الكذبة الصغيرة التي أجبرت عليها حتى لا أضيعك وأنا لما أتعرفك بعد، وتتحدثين عن غيابي وكأنك لا تدركين أني فعلت ذلك حين علمت بأمر خيانتك.
رفعت صوتها لأول مرة منذ التقينا، وقد بدا عليها الغضب.
- منذ رأيتك وأنت لا تتحدث إلا عن الخيانة، تتهمني ذلك الإتهام السافر مع رجل لاأذكر حتى اسمه؟
قلت محاولا تهدئة الوضع. أزعجني أن نثير فضول الجالسين حولنا.
- أنت تخلطين الأمور هنا. لعلك لا تعلمين أني رأيتك رفقة ذاك الفتى الذي كان معك يوم التقينا أول مرة في مدرستك، تذكرين أننا في ذلك اليوم كنا متواعدين على اللقاء. وحتى أؤكد لك الأمر وأزيد في تذكيرك به، كنت يومها ترتدين ثوبك هذا، والأنكى من ذلك كله، أنكما كنتما تجلسان في طاولتنا، وكان يمسك يدك في مشهد غرام لم أظفر به معك طيلة فترة تعارفنا.
أفرجت شفتاها عن ابتسامة لم أستطع قراءة ما وراءها.
- أبله. أنت أغبى من قابلت في حياتي. لو كان بيني وبينه شيء مريب كما تعتقد، لبحثنا عن مكان آخر لا تستطيع أن تصله، لاأن آتي به قبل موعد لقائي بك هناك بقليل بعدما ألح في التحدث إلي على انفراد. غبي أنت فعلا. كنت أود أن أعرفك عليه. تشك بمن كنت أعتبره أخا قبل موته، وهو الذي يقطن بجانب منزلنا، ويدرس في فصلي نفسه ويجلس معي في الطاولة ذاتها، بعد ذلك لاأجد مكانا أبادله الحب فيه غير تلك المقهى وتلك الطاولة.
فاعلم أنك تسرعت كثيرا في حكمك علي، ورغم ذلك فإني لن أحاول الدفاع عن نفسي لأنك لو ظننت أني كنت أخدعك مع "محمد"، وكان ذلك سبب هجرك لي، فستبرهن بأنك غبي حقا، ولاتستحق كل هذا الذي أحمله لك، بيد أني لم أحضر إلى هنا لأدافع عن نفسي أو أن أطلب عفوك، لأنه لو أن بقلبك ذرة حياة واحدة، فسيرشدك إلى أن حبي لك أكبر من اتهامك. فلأدع كل ذلك للأيام علها تنصفني أمام حكمك المتسرع. واعلم أني سامحت كذبك علي، وتلاعبك بي لأني حقيقة أحبك، ولم أكف عن حبك منذ رأيتك، بل قبل أن أراك.
قذفت كل هاته الكلمات بوجهي طلقة واحدة. أربكتني وزاد من ربكتي إحساسي بصدق كلماتها ولما لحظت ذلك مني، أضافت:
- هناك كما قلت لك شخص يلح في طلبك، وعلينا أن نعجل إليه حالا، إذ لاوقت نملكه، تساءلت وقد عادت إلي مخاوفي الأولى:
- من يكون، وماذا يريد مني؟
قالت وهي تستعد للقيام :
- ثق بي، ولو مرة واحدة، ولا تكن سيء الظن. لاأستطيع أن أخبرك شيئا الآن، لكن الأمر غاية في الأهمية والخطورة، فلتقم إذن فلاوقت أمامنا.
كنت أمام امتحان عسير. "وعد" أمامي التي أحمل لها كل الحب، وهواجسي ومخاوفي من أن تتحقق شكوكي.
ولما لم يكن لي شيء آخر أخسره، إذ لم يعد لي غير حبي لها فلأراهن عليه. قررت أن أركب المركب معها، ولتقدني أين تشاء. قلت وقد أعلنت موافقتي :
- إلى أين تريدينني أن أصحبك؟
كنت أتوقعها ستقول لي، سلا أو الرباط، أو أي مكان آخر هناك في فاس بيد أن جوابها فاجأني فعلا حين قالت مبتسمة، وقد سرت لثقتي بها.
- تاونات.

عبدالسلام المودني
25-08-2009, 05:23 PM
كنت مستعدا أن أمشي معها إلى آخر الدنيا. وأنستني رفقتها همي، وغمي، وحال جدتكم وعمتكم، لذلك لم أفكر في العودة إلى البيت، بل أخذتني "وعد" كما أنا، وقلت لنفسي ساخرا من الأحداث، ليلة قابلتها، وكذبت عليها رغما عني تلك الكذبة التي حسبتها صغيرة بسيطة إنما كنت أقرأ عليها ما سيكون عليه حالي، وتحققت النبوءة الكذبة، كنت برفقتها، كالحالم وأعادتني إلى لحظات ضعفي أمامها، ضعف كثيرا ما أحبه، وما أهواه وسرت بجانبها كظلها، وكانت الأصل. سعادة غامرة اجتاحتني لم أعش مثلها قط، حتى عندما كنت أقابلها في سلا، ألا ما ألذ اللقاء بعد طول فراق بين العشاق!
وأحسستني مالك عالمي. متوج أنا على عرش الحب، لا يهمني إلا مالكة عالمي، التي تجلس إلى جانبي بتلك الحافلة. ولم أفطن إلا وملكتي تنزلني من عالمي، الرحب الفسيح حين قالت:
- وصلنا، هذه "امتيوة".
لكن ما إن وطئت تلك الأرض حتى أحسستني أحلق من جديد إلى عالمي الأول، أو إلى آخر يشبهه كثيرا إلا أنه أوسع وأفسح، إحساس جديد آخر لم أعرفه من قبل. شعور بتآلف غريب تعجز الكلمات القاصرة أن تحيط بكل وجوهه، رابطة خفية ستتأكد معالمها فيما بعد.
تكثفت تلكم المشاعر وأنا أدخل في أعقاب "وعد" دارا، وجدنا هنالك "وجدا" جالسة متحفزة كأنها كانت تنتظر أحدا أو حدثا، وما أن رأتنا حتى هشت لنا، ودعتني بحفاوة إلى الدخول واقتادتاني إلى غرفة شبه مظلمة، ثم غابتا عني فترة عشتها ما بين خوف وترقب، وعادت إلي مخاوفي إذ طار عني مفعول سحر "وعد"، وبمجرد ظهور "وجد" أعاد ذلك في نفسي تلك الشكوك الأولى، حول علاقتهما بـ"رافان".
ولأمر ما كنت أجهله، كنت متوجسا مرتقبا أن يدخل علي في أي وقت، وجعلت أتجرع خيبة الندم لوثوقي "بوعد"، التي تعاود خيانتي بحيلتها الأولى نفسها، وتعاود عزف أنغامها نفسها على وتري الحساس عينه، وهي العاشقة للغناء، والموسيقى. كانت كل هذه الهواجس تهاجمني، وتنهش لحمي، وأنا قابع منكمش على ذاتي في زاوية بتلك الغرفة التي شعرت أني لم أكن وحيدا بها، وحالت رمادية لونها حتى لا أقول سوادها دون التحقق من الأمر. أنفاس طيف، أو أطياف غير مرئية، تثوى بجانبي، كانت تصلني واضحة.
ودخلتا علي فجأة، وانتشلتاني من أفكاري الرمادية. ودخلت في أعقابهما كلبة يتبعها جروان. وانتبهت إلى أن "وعدا" كانت تحمل شيئا في يدها، فإذا هي أشرطة عديدة، مرقمة بينما كانت "وجد" تحمل مسجلا، ودون أن تقولا شيئا، أو تتركاني أسأل عن الشخص الذي طلب رؤيتي. أعملت "وجد" الشريط الأول في المسجل، وانطلق الصوت منسابا كجدول نقيع يروي الضمآن بعد طول عبور صحراء واسعة، ملأى بالسرابات اللامنتهية.
كنت مقبلا على تلك الأشرطة بنهم المحب لإعادة استكشاف معالم حياتنا، واكتشاف حياة من ترويها، وما غاب عني من حياتي، وصوتها وطريقة عرضها. وعند بلوغ حديثها إلى ما أسمته سفر الأرواح الذي يقرب في أشياء ويبعد في أخرى عما جاهدت لمعرفته وتعلمه طيلة سنوات دراستي بفرنسا، وأزاحتني بلا رغبة مسبقة إلى المدرج أنصت للمحاضر باهتمام بالغ وهو يعتبر الروح أو النفس إشراقة للبدن ينطفئ ضوؤه على ظاهر البدن وباطنه وينقطع عن المنطقتين، أما عند النوم فإنه يختفي عن ظاهر البدن دون باطنه، فالموت والنوم كائنان من جنس واحد، إلا أن الموت هو الإنقطاع الكلي التام، بينما النوم هو أفول جزئي ناقص، وتذكرت آية رددتها ساعتها في سري مستشهدا بالقرآن الكريم "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها".
لا يهمني إن تسترت خلف ما أسمته بروح الجبل، ولكني كنت في يقين من أنها كانت تعلم أني درست شيئا مثل ما قالت، ولعلها ركبت طائرها، وحضرت معي المدرج، وأنصتت إلى كل دروسي، فأرادت أن تخاطبني بشيء لي عنه سابق معرفة لتجرني إلى تعقب أحداثها، وتتبعها لحظت ذلك مجملا في أشياء عدة ذكرتها، فهي إن اعتمدت "الجرجاني" في التعريف و"أرسطو" في التقسيم فإنها ارتكزت على "الغزالي" في التصنيف و"قسطا بن لوقا" عندما اعتبرت الروح كجسر بين ضفتين وواسطة بين النفس والبدن، أو عندما قدرت ملمحة أن النفس تستطيع فراق البدن بينما لا تعيش الروح إلا في البدن، وخلصت بشرودي أنها أتت على "أفلاطون" أيضا عند استدلاله على خلود النفس مستعينا بفكرة التذكر، إذ يرى أن كلا منا يستطيع إذا تأمل ذاته أن يدرك في نفسه حقائق فطرية عن الخلود، وغيرها من البديهيات التي اكتسبتها النفس قبل حلولها في البدن، ما يدفع للتحقق من أن النفس كانت وتستطيع الحياة حتى لو فارقت الجسم.
ثم إني وجدتها ترحل بي إلى قلب الهندوسية القديمة، كفلسفة ومعتقد حين أشارت إلى تناسخ الأرواح إذ الحياة في نظرهم متصلة لا نهاية تحدها مادام الوجود، فصاحب الحياة يموت ليولد على هيئة أخرى أو حيوان آخر ليموت ويولد مرة أخرى، هكذا إلى أن يصل إلى "الموكشا" أي مرحلة الخلاص عند ترقيه في الإخلاص والطاعة الروحية.
لكم أتمنى أن أبلغ تلك الدرجة، فتزول كوابيسي المتعاقبة!
شيء آخر أربكني فعلا، هو وصولها إلى كل دقائق حياتي، وحياة من أعرف رغم عدم تواجدها معنا.
والأدهى من كل ذلك، شعوري عند كل حادثة، كانت تصفها وصف المطلعين على الخبايا النافذين إلى الأعماق، كل ذلك جعلني أشك في هذه الشرائط، ومن وراءها. خشيت حقا أن تكون الشرائط كذبة كبيرة، والصوت لدجالة محتالة وعازفة محترفة على أوتار الأنساب والعواطف، وتمكنت مني إذ أن صوتها كان ينفذ إلى قلبي دون حواجز. لاشك أن "وعدا" خادمة من خدامها، وتابعة من تابعيها، وهي التي نجحت في الإتيان بي هنا رغم كل ما كنت أحمله لها من النقمة، كتلك الصبيحة التي أعقبت ليلة لقائنا، وخرجت إلى الأوداية كالمسحور، كحالي يومذاك حتى إني نسيت أن أعلم خالتي بخروجي، وسلوت عن توديع جدتكم وعمتكم العليلتين.
وأعلنت نفسي حالة الطوارئ، إذ ارتفعت أصوات منبهاتها، والتزمت الحذر، ودفنت أحاسيسي وأقبرتها داخلي، ولم أدر إلا وصورة "رافان" المقرفة تطالعني. لاشك أنه كبير السحرة ومعلمهم، فهو من سحر عقولنا حتى أتى على كل أملاكنا دفعة واحدة، وجعلت هواجسي تتقاذفني إلى دروب الشك في الجميع، كنت مستعدا أن أشك حتى في أقرب الأقربين إلي، وشككت بنفسي أيضا، وخمنت مرة أخرى أن "رافان" مهندس كل ذلك، وإنما يفعل ذلك، إمعانا في إذلالي، والإنتقام مني، ودفعي إلى الجنون، أكثر أن يبقي على أحد منا بنصف عقل، ونصف تركيز وأراد أن ينسفنا جميعا ويدمرنا.
كنت قد أخذت كفايتي، وأنا أنهي الوجه الأول من الشريط العاشر، ولم أجد ضيرا في التسليم بأحاديث "الجدة الغريبة"، وعدت للسؤال مرة أخرى.
أيعقل أن تكون "وعد" ابنة عمي و"وجد" أختها؟
لاشك في أنها حكاية ملفقة من ألفها إلى ما وراء الوجه الأول من الشريط العاشر، يبغي صاحبها الوصول إلى غاية غير معلومة، ولكنها شر لي على كل حال. أكان لدي اختيار، في أن أعلن أمامهما، بأن كل ما قالته "الجدة" الغريبة افتراء وكذب؟
أشك في ذلك. وتأتيني الحقائق، لتثبت ما قالت، ثم تذهب بي المظنة إلى أنها عمدت إلى ذلك لغاية أكبر.
كيف وصلت إلى ذلك كله؟ بل كيف استطاعت أن تخطفني إرادتي؟ إذ وبينما كنت أعلن رفضي الداخلي، لم أكن أستطيع التصرف وفق ذلك. ولم يكن سفر الروح المزعوم الذي أسمع عنه لأول مرة رغم ما تعلمت يحتاج إلى طقس أو تحضير الكل يجري في باطنك وقرارك، ولا تحتاج معه إلا إلى الصفاء، والمسالمة الروحية. كنت ساعتها هازئا بالأمر، ساخرا منه مستصغره، رغم شدة التحذير وقوة النصح، لكن الذي حدث بعد ذلك لم يكن ليخطر على خاطر. فقد اقتادتني مودعة، دون علم مني، "وعد" يقيني الوحيد إلى محطة سفري المزعوم التي أتتني بغتة عند نهاية الوجه الأول من الشريط العاشر، وقد بلغت كفايتي من الجميع، ثم إنها تداعت أمام ناظري ولم أعد أبصر إلا أنفاسها تداعب خياشمي وموجة ظلماء طمستني إلى قعر موحل أغبر. منطقة لم أصلها قبلا، ولا وطئتها سلفا، وصدتني تيارات هواء ساخنة من كل جانب جهلت مصدرها ومنبعثها واستشعرت رجات داخلية قوية، أحسست أنها للقطار الذي انطلق مسيره، وكان ذلك بداية السفر، وأتاني بغتة، ولم أستطع أن أحدد كم استغرق كل ذلك من وقت وجهد ومسافات زمنية، ولكني وجدتني شبه واقف داخل حجرة رطبة، في إحدى زواياها، مشدود اليدين، موثقهما بسلسلة حديدية كبيرة، مثبتة إلى الجدار السميك، وكانت الحجرة مظلمة، لا أكاد أبصر من خلالها شيئا، إلا صوتا كان يسترسل في حديثه بلغة غير العربية بيد أني كنت أفهمه جيدا:
- ... على كل حال، أرجو ألا يكون خصمك "كولوس".
كان صوت محدثي، يهمس لي بالكلام، بيد أن عنايتي فرت منه إلى ما أنا عليه، إذ الأسئلة أخذت تتناسل داخلي، وتتزاحم برأسي بسرعة تسارع الأحداث المذهلة حولي.
ماذا كان يعني ذلك؟ وهل حقيقة كل ما كنت أعيشه، أم أني تحت تأثير ساحر مخدر، أنامني وأدخلني كابوسا فتاكا؟ لمن يكون هذا الصوت؟ من يكون "كولوس" ذاك؟ ما يقصد بكونه خصمي؟ لم تمهلني الأحداث فرصة اقتفاء أثر إجابات أسئلتي، أو بعضها، إذ سرعان ما سمعت صرير باب الزنزانة الحديدي عند فتحه، وأضواء المشاعل يحملها خمسة من الغلاظ الشداد، توحدت أزياؤهم القصيرة، توحد أجسادهم الهائلة، كجنود رومان.
أأكون داخل إحدى تلك الافلام التاريخية القديمة، وقد أجبرت على دخولها؟ أأكون حالما دون إرادتي؟ وتذكرت في غمرة ذلك، يوم وجدتني على طلع الأوداية حالما بعدما خرجت من رحم حلم آخر لمسرحية يونانية كنت بطلها و"وعد"، تداخلت الصور في رأسي، مع شدة الموقف، فالغلاظ الشداد لا يتكلمون، الأصوات الوحيدة التي كنت أسمعها عنهم، أحذيتهم الجلدية تضرب الأرض الصلبة بشدة، في خطوات واطئة منتظمة، وأنفاس ثقيلة هي أقرب للترهيب منها لشيء آخر ولقد أفلحوا حقيقة في ذلك، ولم يكن الأمر يحتاج منهم إلى كثير عناء.

اقتادوني عبر دهليز ضيق، اخترقنا به مجموعة من البوابات الحديدية، يقف عند كل واحدة منها حارس، ما أن يلمحنا حتى يصدر عن مرتاج بوابته صوت يقشعر له بدني المنهك، فما أن نتجاوزه حتى يعيد الحركة من خلفنا بالقوة الأولى نفسها، فتفعل في نفسي فعل الأولى نفسه أو أكثر.
وإذا بالجند يتركونني، وقد اجتزت آخر باب كان نهاية النفق المظلم، إلى ساحة كبرى، جاهدت كثيرا لأبصرما بها، إذ تلقفني ضوء غامر كاد يعميني، وجعلت أتطلع إليها فإذا هي ساحة رملية دائرية، كتلك التي تخصص لمصارعة الثيران، لا مخرج منها إلا الباب الذي تقيأني إليها، وآخر يقابلني مباشرة. انتبهت لأول مرة أني لم أكن وحيدا هنالك، إذ عادني الصفير والهتاف من كل جانب وتلك الأسوار التي تطوقني ترجع صداها قويا في نفسي. تسلقت نظراتي، تتبع أصل تلك الأصوات فإذا هي للمتفرجين الذين وقفوا، وأطلت رؤوسهم الصغيرة من كل جوانب الساحة العظيمة. قاومت ذهولي، وأنا أتفرس في تلك الأفواه البعيدة، وسيل صراخها يكاد يجرفني، أكنت من المصارعين حقا؟ أكنت فعلا في ساحة الكوليزي الشهيرة حيث جلس القيصر في ردائه الأبيض ووجهه الحليق المدور وتاجه المرصع يعلو رأسه؟
وجعلت أكتشف جسدي، فإذا هو جسد مصارع حقا، إذ كنت أحمل ذراعين مفتولين، وصدرا كامل الإمتلاء، وبطنا بادي الطبقات، وفخذين ظاهري الصلابة، لكني رغم كل ذلك لم أكن مصارعا.
لقد حلت بي روحي، بجسم غريب لا يناسبني، ولا يروق طبيعتها، فأنا مسالم بطبعي، متبرم من المشادات وإن كنت غضوبا لجوجا، وما هذه القوة إلا ظاهرية فقط إذ كان الجبن والخوف، يقتتلان ارتعادا بداخلي، ولا ينتصر أحدهما أو كلاهما وسط هذه الأمواج الصاخبة المتلاطمة بداخلي. زارني صوت السجين ورجاؤه ألا يكون "كولوس" خصمي، فكرت وخمنت وأنا أثبت نظري على البوابة المقابلة، بأن "كولوس" هذا قد يكون اسم لسبع جائع أو نمر مجروح، أو ثور مشهور، أو هو اسم حيوان مفترس لا أعرفه، أو قد أكون أعرفه باسم آخر غير اسم عصرهم، وزمنهم، أو...
لم تعد لي نهزة لمزيد من الإفتراض والبوابة تشرع في وجهي والهتاف يعلو ويزداد. لم يكن "كولوس" كما ذكرت أو خمنت، بل كان كلها مجتمعة، إذ كان كتلة بشرية متحركة. لم يمنحني وقتا للتدقيق به أكثر حتى أستطيع وصفه، إلا عينيه اللتين كانتا تقدحان شررا مرعبا إذ اتجه نحوي بسرعة وخفة لا تتفقان وما يحمل من وزن، وأحسست الأرض تدك بي دكا مرعبا، لم أستطع معها التحرك والمقاومة، إذ الأحداث تلهث من حولي بسرعة عجيبة، ولو استطعت الحركة إذن لفررت لائذا منه، لكن ذلك كان أبعد عن قدرتي. لم أذكر شيئا بعد ذلك إذ رحب فكي المهشم بقبضته السميكة. تخاذلت أو تخاذل جسد من علقت به روحي، وسقطنا أرضا، وغشاوة دكناء تحجب الرؤية والوعي عني، امتدت لتصل مسامعي إذ أخذ صدى هتاف المتفرجين يتلاشى وكثافة الظلمة تزداد وتطغى. أخذت أوصوص من حولي فإذا أنا بمجلسي في بيت "الجدة" الغريبة والإنهاك رفيقي ومؤنس ظلمتي، فصرخت بحنق:
- الدجالة، الماكرة.
ذرعت الحجرة الملبوسة الممسوسة والغضب متلبس بي كشيطان مارد يهمس لي وينفخ في أذني بأني كنت ضحية لمقلب أريد به الزج بي إلى أغوار الجنون السحيقة، وأن "رافان" سبب تعاستي مايزال يتعقبني، و"وجد" و"وعد" يداه لضربي، وصوت تلك المرأة طلسم، مسلط.
وقفنا في باحة الدار الطينية المبنى، وأنا أرتجف. وألفيتهما تنظران إلي بترقب كبير والقلق باد على محياهما وخلت أنهما كانتا تودان الإطمئنان على نجاح مهمتهما على أتم وجه.
بادرتني "وعد" كأنها تجس نبضي أو هكذا أحسست.
- ماذا حدث معك، يا "قاسم" ؟
رغم عاطفتي الصادقة نحوها، فإني لم أستطع لجم غضبي وكظم غيظي وحنقي وتميزي.
- أنتم محتالون. كلكم محتالون. وإنما أتيتم بي إلى هنا للتخلص مني...
قاطعتني "وجد":
- ولكن يا ابن عمي، لا يمكن قول ذلك، لقد نفذنا وصية جدتنا وحسب، ولن نستطيع فهم ما تقوله مالم تخبرنا بما حدث معك، سمعنا صرختك المدوية قبل أن تخرج غاضبا تتهدد وتتوعد.
أجبتها، وأنا أحدجها بسهام جارحة:
- أين يختفي شريككما "رافان"؟
صرخت "وعد" غاضبة محتجة:
- أنت دوما كذلك، تتهم الناس بالباطل دون أن تتأكد. احكي لنا ما جرى معك أولا...
صمتت فجأة كأن يدا أقفلت فمها ومنعتها من مواصلة كلامها، ثم دنت مني متفرسة وهي تقول:
- من أين أتتك آثار هذي الدماء؟
يتبـــــــــــــــــع

عبدالسلام المودني
04-09-2009, 07:42 PM
مررت يدي على فكي الذي أحسسته هشا، وإذا بالدم على يدي. رؤية الدماء كانت ترعبني دوما. شيء لم أستطع فهمه كما أشياء أخرى كثيرة، كان يحدث معي.
أيعقل أن يصاب فك شخص آخر، في زمن آخر، ويقطر فمي دما، في حاضرنا؟
مستحيل، قطعا.
لم أكن أظن إلا أن الأمر من تدبير الساحرة لإقناعي بالمواصلة، واستمرار هذه المهزلة، فلم أشعر إلا وأنا أنتفض مجددا:
- السحرة، الأشرار. كلكم أشرار. لا توجد ذرة صدق واحدة في كل هذا. أين "رافان"؟ أين يختبئ؟
لا تريدون الإفصاح عن مكانه؟ حسنا. أنا راحل عنكما، وستفشلون جميعا في مراميكم. لإن نجح في أخذ أموالنا، وعقل أختي، وصحة أمي فإنه لن يظفر مني بشيء. أعلماه بهذا، أم أنه يسمعني؟ فاعلم هذا يا ابن الكلب.
كان الغضب والرعب مما رأيت وعشت حجابين يخفيان خلفهما أحاسيس حبي "لوعد"، يقيني المطلق الوحيد، وألفتي غير المبررة مع صوت المرأة التي رميتها بأرذل النعوت وأقبحها، وتآلفي مع تاونات الجبال والرجال، "بركاتك مولاي بوشتة الخمار".
شدتني "وعد" من يدي وعيناها مركزتان علي، تحاول نزع كل لبس، وتسكين خواطري ما استطاعت، ثم قالت بصوتها الحنون الذي لازلت أسمعه إلى الآن، كأن الامر حدث معي بالأمس.
- "قاسم" حبيبي، سل قلبك يحدثك من أكون فعلا؟ حياتي كلها فداء لك فكيف لي خيانتك وغدرك؟ ولو أمرتني الآن لرميت نفسي في بئر بلا قرار، فلا تدع الغضب والجهل ينالان منك، ويفسدان عليك الأمر كله.
كانت ساحرة فعلا، فهي نفسها التي في لقاء قصير ملكت كل نفسي، وأسرتني حرا في مملكتها فكيف الفعل؟ وما العمل وصوتها يتمازج مع أنفاسها فيلامسان قلبي وروحي ويفعلان فعل السحر وأكثر منه؟
كلماتها تلك كانت كفيلة بأن تعيدني تحت تأثير مخدر سحرها، وأرجعت إلى نفسي بعض ثقتها وهدوئها، وبعضا من ثقتي بها، وإذ أحسست التعب ينال منها كل منال عدت إلى تلك الغرفة أطلب الراحة، ثم طفقت أروي لهما ما جرى معي. أبديتا الدهشة، التي رددتها إلى غرائبيتها وجدتها عليهما، بيد أن الحقيقة لم تكن كذلك، إذ قالت "وجد":
- ولكنك لم تكد تمضي إلا وقتا قصيرا، كنت خلاله أحاول قلب الشريط إلى وجهه الثاني حتى سمعنا فيه صرختك المدوية، وخروجك بتلك الطريقة والغضب يجتاحك.
كانت الغرابة إذن في الوقت الذي قلت أني استغرقته في سفري، وما عشته داخل جسد المصارع، ورحلة العودة. كل ذلك، و"وجد" تحاول قلب الشريط. قرأت استغرابا صادقا وحيرة واضحة على طيفهما في الغرفة الرمادية. وفجأة سمعت صوتا كأنه انعتق لتوه من صدري. وكان صوت الجدة الغريبة نفسه يهمس بحنان دافق:
كأني مطلعة عليك يا بني والغضب يكاد يخبلك ويطفئ نور بصيرتك، ويوغل بك إلى وحل الجهل والجور، فهدئ من روعك ووطن نفسك على اليقين والثبات، وثق بأني لخيرك أسعى ولصالحك أدعوك.
قد تقول عني عجوز مخرفة فاقدة العقل مسلوبة الرشد أو ساحرة بئيسة قادتها سبل الحيلة إليك لتتسلى بك من خلف شرائطها وتمعن في عذابك، أو مشعوذة محتالة هدفها نهب روحك، وسلبك ماضيك والحجر على مستقبلك.
إنما أنا جدتك التي تحبك، وذاك ما ستزداد يقينا به فيما بعد، سل قلبك فإنه لن يخذلك، ولن يخونك ولو خانك، وخدعك كل من حولك فلا تكرر أخطائي القديمة التي أدركت نتائجها، ونجتر خيباتها جميعنا الآن.
الجبن والفرار عدواك، فاصرعهما تنجو بنفسك.
وأنا صغيرة كنت جاهلة لأمور عدة تتحرك حولي لا أكاد أبصرها إلا بعد طول تركيز وتأمل ولم أك أملك إلا شموخ هذي الجبال التي تحفك من كل جانب بالحدب والإنعطاف، بيد أن الأيام كانت مدرستي ومعلمتي، دخلتها دون علمي، أو سابق إرادة فأخذت عنها وتعرفت على أشياء كانت في عرفي وفي أعراف الناس غير مقبولة، وغير مستساغة. خلاصتي، درسي الأول والأهم على الإطلاق يابني كان ألا مستحيل في هذا الوجود العابث بأحكامه وتصاريف قدره. فلعله حي في مدينة الممكنات شق علينا دخوله والسير فيه بكل حرية. المحال كان دوما شقيقا للموجود والكائن. نبحث له عن تسميات نخفي من ورائها خوفنا من تقبله والتصديق به وجهلنا المطلق. فمرة خارق، وأخرى غريب، وبعدها معجزة. كل الروابط يا بني تجمع بين المعقول في نظرنا، واللامعقول في نظرنا دوما. العجز يأتي منا يا بني. نعجز دوما عن الإحاطة بتلك الصلات، فالقصور من سماتنا وضعف البصيرة من ضعف شخوصنا.
أجد لك أعذارا يا بني في كل ما رأيت وسمعت. كيف لا أفعل وأنا أيضا رغم سني، وتجاربي ضقت بالأمر بدءا وخلته وهما أو مسا من الجنون يزحف إلى عقلي بعدما استوطن اليأس قلبي والشيخوخة بدني؟
كان الشك يقيني الوحيد، رغم كل ما رأيته من حقائق انتصبت أمامي تعلن وجودها. لكن التصديق لم يكن مطلقا، وإذا بصوت روح الجبل يعلن وجوده مرة أخرى في حياتي:
- أعلم هذا الذي تمور به نفسك ويعتمل داخلها حتى ليكاد يفتك بك، ويلقي بك إلى ما تجهلين وقعه عليك وعلى من تحبين، فاعلمي أن الأمر جلل لا يحتمل منك ذرة شك واحدة وإن كان الشك طريقك نحو اليقين. فماذا ترين أني أريد وراءك غير صالحك، وصالح الخير فيك، وفي الناس أجمعين عبرك؟
تثبتي يا "عيشة"، وشدي بيده لأني أرى "قاسما" من طينتك، شكاك مرتاب، وأخشى عليه أن يجبن فنفقده إلى الأبد، ويظل معلقا بين الماضي وما سيأتي.
وحتى نثبت قلبه على الإيمان والتصديق، سنعمل على إعادته إلى فترة من حياة عاشها ولا يكاد يعقلها، على أن نتحكم في طريق ذهابه وعودته، مشبكين أصابعنا آملين ألا يتعقبوه هنالك. مرمانا من خلف ذلك أن تصفو نفسه، ومتى تحقق له ذلك أعلميه أن رحلته قد ابتدأت.
لا أعلم، إن كان سيدرك إذا أدخل سفره من يكون أو من أين أتى؟ لكن علمي أكيد أنه لن يكون وحيدا هنالك، فأوصيه بالحذر ما استطاع، فليحذر الجميع.
اعلميه أن ذاكرته ستؤوب معه. فليروي لأبنائه من بعده ما حدث معه، وليوصيهم كما أوصيته. فالخير معهم من بعده خالد، خلود الشر مع أعدائهم. تلك أعراف الطبيعة حرب إلى ما لا نهاية نخسر في جبهة، ونفوز في جبهة أخرى. وأتمنى صادقاً أن ننتصر في جبهة قاسم.
كلمات روح الجبل يا بني مازالت قارة في نفسي، وهي كما سمعتها أعيدها لك عسى أن تفيد منها وتكون لك عونا وملاذا ساعات حرجك وضعفك.
ما بالك تقابل حب أخيك لك، بالجفاء والقسوة؟
لم لا تسعى إليه سعيه لك؟
انصت لأمك يا بني التي للم شملكما تهدف، ولا تعر كلام "أبانا" اهتماما. لإن أخذت السنون الطوال بصره فقد أذهبت نور بصيرته، فإذا به يسعى بينكما بالشقاق والفرقة، وكأنكما لم تتدحرجا من بطن واحدة. إصعد الجبل صباحا إلى أخيك الأكبر، واطلب صفحه ومعذرته، فإنه غافر لك ما أذنبت في حقه، كيف لا يفعل وهو يحبك؟ كنت دوما في قلبه. ألا تذكر يوم انتشلك صريعا من الوادي؟ خاطر بحياته لأجلك. لم يفكر إلا في إنقاذك، ولبث بعد ذلك يشكو المرض أياما بلياليها تردد أنينه ظلمات الأفق المديد.
كم من الحوادث علي أن أسرد لك مذكرة ما فعله معك، حتى تدرك نبله وسماحة خلاله؟
أحب المسكين "حنين" في صمت وثوت بقلبه أعواما تتقاسمه أعذب أيام حلمه، وفي ساعة من ساعات حاجته لمن ينصت له، اختارك وأنزلك منزلة عظمى، فحدثك بأمرها فانظر ماذا كان فعلك؟
هرعت لوالدها تخطبها لك. أكذا يفعل الأخ مع أخيه؟ ماذا كنت تنتظر منه؟ لو كان غيرك من فعلها إذن لصرعه دون تفكير، ولكنك "سرمد" الذي يحب، فاختار أن يعتزل البلدة ومن فيها، واعتصم بالجبل يرافقه الألم من سوء صنيعك. ولو كنت صادقا في حبها لما حدثتك بشأنها، ولكنك غير ذلك. فما أن اطمأن خاطرك أنه لن يظفر بها، حتى اعتذرت عن خطبتها وأذهلت الجميع بفعلك ذلك، فمتى تعقل؟
أتريد أن تقتلني حسرة وكمدا على "لاوي" أخيك الذي ساح في الجبل هائما على وجهه، وهذي أعوام ثلاثة مرت على غيبته دون أثر لحياة؟
لا تقابل أباك غدا، فإنه سيثبطك عن تعقب آثاره وذكراه، وامضي خلفه متى فتحت عينيك. ليكن إفطارك صباحا، بحثا عن "لاوي" ومغنمك الوصول إليه، ومفازتك إحضاره هاهنا.
أرجوك، "سرمد" لا تعد بدونه، فإن قلب أمك لا يعرف السكينة وقطعة منها غائبة عن عينيها اللتين ما فتئتا تنزفان. فعجل يا بني، عجل إليه.
كانت صرخة شقت، الظلام، وهدأة الليل انبعثت فارة من صدره المضطرب الذي أحسه سيلفظ قلبه المتواتر النبضات أمامه. مرر كفيه على وجهه المبتل عرقا يمسحه كأنه كان يعدو في حلمه مسافات طويلة أنهكته مع كلمات أمه التي ظلت تردد صداها داخائله، أن أقصد الجبل وأحضر "لاوي" أخاك.
خرج من خبائه مكدودا منهك القوى خائرها، تنبعث غلائل الدخان من جسمه الفاتر، فلفحته أنسام ليلة ساهرة. سمق بناظريه إلى السماء كأنه يطلب غوث نجومها المنثورة على صفحتها التي جعلت ترقبه على استحياء كأنها غيد فاجأها غريب لدى استحمامها عارية في الخلاء.
انتصبت أمامه جبال تستعرض عنادها وصلابتها أمام كل مقتحم، وتذكر وصية أمه له في رؤياه. كان يود أن ينتظر حتى انبلاج الصبح، بيد أن صوتا من داخله ظل يلح عليه، أن عجل يا "سرمد"، عجل يابني، ثم استشعر نفسه كأنه يساق إلى تلك الجبال دون أن يستطيع منع نفسه عنها، كأنه مدفوع بيد خفية ذات قوى عظيمة. كان سيره مسرعا، ثم أضحى هرولة، فعدوا بأقصى سرعته إليها.
كلمات أمه أحيت بداخله شعور الأخوة الذي أفل عنه حين بزغت بوادر الشقاق والفرقة بينهما، و"حنين" نقطة في محيط اختلافهما، بيد أنه بعد سماع اسمها بدأت ملامحها تجتاح عقله وقلبه. أكان دافعه إليها حب أم غيرة من أخيه وتنغيصا لهنائه وسعادته؟
لماذا خانها وشعور بالحب نحوها مدفون بقراره؟ لم يكن يذكر صورة أمه جيدا، إذ قضت وهو بعد صغير، بيد أن "لاوي" الذي يكبره، يعقلها جيدا. لم تعده في نومه أبدا، وإصراره على تنفيذ وصيتها تلك الليلة إعتراف منه بشوقه المحموم لها، فقال بإصرار يحادث نفسه:
- أعدك أمي أني سأجد أخي وسأعتذر منه على سوء تصرفي معه وطول صبره علي، فليعد لأراضينا ويتزوج من "حنين" التي أحب فعلا، وإن كان في ذلك شقائي. فمرحى للعذاب، إن كان فيه سعادة أخي و... "حنين"، وراحة روحك المعذبة.

عبدالسلام المودني
04-09-2009, 07:53 PM
اللهفة والشوق يأخذاه في موجة عاتية وتلقي به إلى الجبال دونما استعداد أو زاد. تذكر ذلك مع الجوع الذي عصف به دون سابق إنذار. أتاه دفعة واحدة دون تمهيد أو إشارة، ولكنه زاره لقاء جهده الكبير إثر صعوده الجبل الأول الذي اكتشف مع ضيهبه تبدد الظلمة مع إطلالة شمس محتشمة من مرقدها كأنها عروس ترقبه مستحية من وراء طرفها الغضيض. لم يكن يملك إختيارا إذ كان صوت أمه يدفعه إلى تناسي جوعه الفتاك ويحثه على الإسراع ما استطاع. كأن أمه كانت تدرك أن أخاه في خطر داهم. عجل يابني، عجل. زاد شعوره ذاك من انقباض صدره المرتج مع نزوله السفح راكضا يسابق ظله المتواري خلفه معاندا جوعه وبدايات تعبه. لم يكن جبله الأول الذي اقتحمه إلا خطوته الأولى لما قد سيأتي، وفتح شهية لما سيلاقي. انحدر حتى إذا بلغ سفحه مع انتصاب الشمس في سمائه، ازداد عطشا وجوعا مزجا بشدة التعب والإعياء والشمس المحرقة، حرقة مكان تواجد أخيه "لاوي". الإرهاق امتد أيضا حتى ناظريه وهو يشخص إلى قمة الجبل الذي يقابله في عناد وتحد وقد أظهر مخالبه وأشهرها يعلن استعداده دفاعه عن نفسه إذ نتأت صخوره وبرزت لتبعث الخشية والرهبة أمام كل متحد. وعر هو في صعوده، ومحتاج إلى القوة والصلابة والشدة. فمن أين له بكل ذلك وهو على تلك الحالة؟ وزاده الوحيد كلمات أمه، ولهفته على إعادة أخيه. فذاك مأكله ومشربه ومكمن قوته ومنبع طاقته التي أخذت تدفع به إلى القمة المرجوة. لاشك أنه يدرك الآن لم نعتت هذه الجبال بحفر الموت. فلكم غيبت من أبناء أراضيه ممن أخذتهم حماسة الشباب والإصرار على الوقوف بوجهها، ولا أحد يقف بوجه الموت. والجبال كلها عناوين للموت، لانعدام أسباب الحياة بها. فلا ماء ولا نبت. الحجارة والشمس والضواري والفخاخ غير المعلومة. كانت خطواته دفاعا عن أمر علق برأسه بأن "لاوي" مازال حيا. حجته على ذلك أمه التي مافتئت توصيه بنجدته. قد يكون على وشك الموت، لذلك طلبت منه التعجيل، وذاك ما يحاول فعله الآن قدر استطاعته. لم تكن خشيته على نفسه بقدر خشيته على حياة أخيه. لأجل ذلك نفذ الوصية ومنطوق الرؤيا، ما يجعله الآن عرضة للموت هو أيضا. أخذت الشمس تزحف إلى حتفها حين كان دنيا من القمة التي أحسها باردة من تسلل ذلك إلى جسده مع شدة ما عاناه من حر طيلة يومه القائض، وعند مغربها كان قد بلغ قمة كل شيء، التعب والجوع والعطش والبرد واللهفة والشوق والجبل. منزو "سرمد" على نفسه في دجنات الليل الموحش واليأس يطوقه من كل جانب، حتى ليكاد يهجم عليه ويصرعه. وفي حمأة شعوره بالوحدة، صرخ بأعلى صوته:
- "لاوي".
رددت الجبال صدى صرخته، ووصلت صماخيه مع ضوء بلغه كابيا ينبعث من سفح الجبل الذي يعتليه. أتراه سراب الجبل والجوع والبرد والوحدة والوحشة؟
ما يملك غير تصديق سرابه، فإما يصيب الضوء ومنبعثه أو يقضي هنالك؟
قام مترنحا يقصد مصدر الضوء، محاذرا السقوط ونتوءات الصخر تفعل فعلها في قدميه الداميتين.
كلمات أمه ملتصقة به، أن عجل يا بني، عجل إلى أخيك. سقط مغشيا عليه، وهوى في طريق نزوله نحو الضوء الخافت البعيد، وصوت دافئ آخر يتردد بين جوانحه.
- لا تثق بأحد، واحذر كل الناس.
غشاوة دكناء تلك التي استلقت على عينيه، وثقل كبير تنوء به كتفاه، وهم أثقل يرزح تحته. كان يقاوم عبثا الظلام المتلبد حوله، يحاول طرده، وتبديد سكونه بحركة حياة من أحد أطرافه المتوجعة. كان يدرك في قراره الغائر أنه ما يزال حيا، بيد أن جسده لا يطيع أوامره إليه. أذناه اللتان تعملان بشكل عادي التقطتا حركة غريبة عنه، لعلها لأحد الضواري المستوطنة الجبل، يدنو منه ليفترسه. كان الصوت خافتا ثم بدأ يقترب أكثر. حاول مقاومة موت وشيك بيد أنه عجز عن الحركة، ولبث متكوما على نفسه ينتظر نهايته مع بداية الهجوم عليه. لم يدم ذلك طويلا، إذ هرعت الأحداث إليه مسرعة، وحانت نهايته التي أفزعته فزعا رهيبا. كان هجوم المفترس عليه، قدر كبير من الماء البارد، صب عليه فأصاب وجهه، وأماط دثر السواد عن عينيه، والعجز عن حركته، فانتصب متحفزا متوثبا لمصدر الهجوم. ولما أن طال انتظاره، جعل يدعك عينيه.
الصورة التي قفزت إلى عينيه، كانت غير واضحة تماما يغمرها الضباب، وتراقص داخلها شخص يقف أمامه والقدر بيده. استقرت ملامحه مع بداية انقشاع الضباب عنها فإذا هو أخنف أحدب قصير جدا حد التقزم. أخذ يشير إلى طبق تمر وقدر لبن وضعا أمامه. حاول الإستفسار بصوته الأرجف.
- من أنت، وماذا أفعل هنا؟
بدا وكانه لم يسمعه، وهو يشير ويلح عليه أن يأكل مما أمامه. عاود السؤال وكرره عبثا، كأنه لا يفقه كلامه أو لا يسمعه. شدت عنايته هنا إلى أذنيه فإذا هو أصلم أيضا. ولما أضناه ذلك منه، وأمام إلحاح الجوع الشديد، أصاب مما وضع أمامه دون أن يبقي منه شيئا ودون أن يتحرج من الأخنف الذي ظل واقفا بمكانه يرقب نهمه الشديد، وسرعة التهامه. ولما أطفأ جوعه، أوقدت نار تلك الأسئلة من جديد، إذ اكتشف أنه بواد أخضر يحاذيه نهر رقراق.
كيف جئت إلى هنا؟ ومن أتى بي؟ أيعقل أن يكون هذا الأخنف الصغير الضعيف من فعلها؟ وكم أمضيت في غيبتي عن رشدي؟
كل هذا والأخنف يرقبه، ويهز رأسه هزا غير مفهوم. قام متخاذلا وقد استرجع بعض قواه، فقصد النهر، وطفق يغتسل منه، ويمسح بقع الدم المنثورة على ساقيه وقدميه وساعديه. حسب ساعتها أنه لا تكاد تخلو منطقة من جسده لم تصب بخدش، وجرح. وعادت إليه أسئلته مرة أخرى، وكأن الماء أفاقها من سباتها.
أيعقل أن تتوارى هذه الخضرة خلف هذي الجبال، وهذا الجمال خلف تلك القسوة، وهذي الحياة خلف ذاك الهلاك؟
التفت إلى الأخنف، فألفاه يقف غير بعيد عنه، فاجأه بأن قال إذ تحرر لسانه كما بدا من عقاله، وفتح فمه الذي اكتشفه أدردا.
- تأخرت كثيرا، يا "سرمد".
رمقه بنظرة متفحصة حملت الشك والريبة.
- كيف عرفت اسمي؟ ومن تكون؟ وماذا أفعل هنا؟ وما هذا المكان الذي نحن فيه؟
قال هادئا، وبسمة تكسو نصف وجهه الكبير.
- لا تتعب نفسك بكثرة السؤال فإنك الوحيد صاحب ردودها، وما أنا إلا محطة سفر، أزودك بما يعينك على المواصلة، لتقابل سلطان الجبال.
- سلطان الجبال؟ تقصد "لاوي" أخي؟ هل هو سلطان جبالكم؟
رد بالهدوء نفسه الذي لا يتناسب والنار التي تأكل محدثه.
- ألم أقل لك ألا فائدة ترجى من أسئلتك؟ لكن لابأس، قد يكون هو، وقد تكون أنت، وربما أنا.
ازداد حنق "سرمد" وتميزه، وهو يقول محدثا نفسه يحاول إخفاء ذلك عنه:
- الملعون يهزأ بي.
قاطعه وقد ابتسم له بمكر، رافعا سبابته محذرا:
- لا تسب فأنا أسمعك.
رسمت البغتة على ملامحه برهة، ثم عاد فاستهان الأمر كله، وقال في نفسه كأن ذلك أعجبه
- وفم أهتم أيضا، كم من حسنة جمعت يا صاح.
أحنى رأسه كأنه سمعه، ثم قال:
- الآن وقد استعدت نشاطك وقوتك وروح دعابتك، أطلب منك أن ترحل.
جنة عذراء غريبة استترت خلف باسق نخيلها وعذب مائها وخضرة أرضها عن العيون وتوارت خلف هذه الجبال الوعرة المسلك والعبور، وشخص أخنف حارسها وصاحبها وحاكمها، ينفذ إلى أعماقك فيطلع على ما حوت من أسرار، ويقرأ ما تفكر فيه وتنوي قوله وفعله. هو بلا شك يملك قوى خفية أخرى وملكات لا قبل له على مواجهتها. قد يكون له جيش من أشباهه الخنفاء الأقزام لا يظهرون إلا عند اشتداد الخطر على زعيمهم، قال "سرمد" مذعنا للأمر المنتظر.
- على كل، أشكرك فلقد أنقذت حياتي. كانت جنتك الغناء هذه نقطة الضوء البعيدة التي تراءت لي قبل أن أهوي مغشيا علي، لعلها نار ليلك.
أجابه مستغربا:
- ضوء ونار؟ أنت مخطئ ولا شك، فأنا لست بحاجتها إذ لا ليل لي عزيزي كما ترى، قد يكون هيئ لك أو أنك تصورت الأمر كله وحلمت به إذ تمنيته، ولكن لا بأس عليك، مادام قد أنقذ حياتك.
- لا فائدة ترجى من الحديث مع هذا...
ألجم فمه مخافة أن يُسمعه تفكيره فيسلط عليه بعض جنده يجزوا رقبته ويردوه رديا، فابتلعه مع ريقه وغضبه وتساؤلاته. غريب هذا الرجل وغريب كلامه غرابة جنته وشكله. عندما انتبه إليه مجددا كان قد ابتلع هو أيضا لسانه كأنما نفذت كلماته، إذ اكتفى بإشارة من يده إلى اتجاه عليه أن يقصده. هز "سرمد" يده محييا، ببرود ودون كلمة، وقصد الجبل مستعيدا ثقته الأولى بنفسه، وكأنما أعطاه لقاؤه لهذا الأخنف شحنة أخرى، أو جدد داعيه الأول لسفره ورحلته مع صورة أمه من جديد، أن عجل يا بني، فلا وقت نملكه. بيد أنه بغت لشيء لم ينتبه له قبلا، إذ وبعد ابتعاده عن جنة الأخنف اكتشف أن النهر الذي اغتسل به سلفا كان يحد تلك الأرض من كل جانب، فهو ليس نهرا ولا واديا، وإنما بركة كبيرة أو بحيرة عظيمة، جف ما بداخلها وأقيمت عليها واحة الجبل على ذلك النحو العجيب ولم يجد مندوحة من عبور الماء، إلى الضفة الأخرى إن أراد مواصلة طريقه مع بقايا صوت الأخنف يعيد:
- لك أن تختار، إما أن تبقى هاهنا وإما أن تتحدى الصعاب لملاقاة سلطان الجبال، وما رأيت وما عشت إلا نتفا يسيرا من الأهوال والمخاطر التي تنتظرك، فانظر ماذا ترى؟، الكل بيدك.
لكم يكره أن يطلع الأخرين على تردده ومكامن ضعفه، لأجل ذلك ودونما إطالة التفكير، إرتمى في أحضان الماء، وعينه على الضفة الأخرى ياقنا ومصمما، بل ومتشبثا بملامستها. كان يحسب حساب الغرق إذ لا سابق علم له بفن العوم، فآثر أن يخاطر ويغامر على الإنتكاس نحو الأخنف بيد أن مخاوفه لم يكن لها من داع، فمنسوب المياه بلغ صدره ولم تكن المشكلة ثم، بل كانت في قعره المطمي اللزج، وجعل يتمهل مخافة الانزلاق الذي فيه هلاكه. ولم يكن يتقدم نصف خطوة إلا بعد أن يتأكد من ثباتها. "سرمد" يا أبنائي لم يعد يعبأ بالأحجار المترسبة في قعره، والتي كانت تصيب قدميه، كأنه تعود الخدوش وما تصحبها من آلام. وأزجى في عبوره وقتا غير يسير، يخترق الماء، ويقاوم شراك قعره حتى بلغ سالما ضفته المنشودة، غير أن التعب كان قد نال منه كل منال. لكأن تلك البحيرة ضاهت عناء عبور الجبلين في الجهد والتعب، لكنه لم يحفل بذلك قط وانتصب أمامه جبل يشبه أول جبل عبره. لم يتردد كثيرا، أو يمهل نفسه وقتا لإستعادة قواه التائهة إلى مرابضها، بل قصده رأسا وهو يردد في داخله:
- لن أكون أضحوكة لك أيها الأخنف.
تمثل أمامه، يشرع فمه الأدرد وهو يقول:
- أنا أسمع كل ما تفكر به.
هز كتفيه بلا مبالاة.
- وما يضيرك أن أسميك أخنفا أو أدردا وأنت كذلك أم تريد أن أناديك كامل الأسنان؟
وأتاه همسا في أذنه، كأنه صوته وكان واضحا لم يتخيله:
- جد غيري لتتسلى به، ويكفيك ما أنت فيه.
كان قد بلغ منتصف الجبل فأجفل في مكانه، وتوقف عن المسير، ولأول مرة منذ أن غادر جنته الغريبة التفت إلى أخنفه فألفاه حيث تركه آخر مرة، لم ولا يتحرك كأنه صنم ثبت هنالك. وكان يبدو كنقطة سوداء وسط هالة الخضرة التى حفته من كل جانب، ولفرط صغره وسط ما يراه أمامه، فقد عده سرمد كتمرة من أطايب التمر الذي ضايفه به والذي لم يذق أجود منه طول عمره. فكر في دواخله مجددا:
- حقا تبدو لي كتمرة طيبة، أيها الأخنف. لاأقول ذلك تقربا منك أو لعلمي أنك تسمع ما أفكر به، ولكني ممتن لك، معترف بجميلك وحسن صنيعك.
شيء غريب رغم كل شيء يذكره دوما بذلك الكائن الغريب، ورابطة خفية رفضت أن تعلن وجودها، رغم علمه بأنها كائنة حقا، وجعل يتحسس موقع أذنه اليمنى مركزا انتباهه عليها عله يتلقى رده، لكن شيئا لم يصله عنه، فالتفت وعينه على قمة الجبل.
- يبدو أنك لا تسمع إلا ما يعجبك، إنك لماكر، ولكنك لطيف، فاسمعهما معا.
وعلى غير ما توقع، إذ كانت كلمات ألقاها دون أن يأمل في رد، أتاه أوضح عن ذي قبل، وكأن المسافة التي تفصلهما تزيد في قربهما:
- وإنك لمتسرع في أحكامك على الناس، هازئ بمشاعرهم.
أصابه الضيق لما وصله، ورغب عن التعليق والمواصلة في محادثته فواصل طريقه بعزمه الأول، بل أكثر ليظهر له أنه قوي قادر على التحمل عكس ما قد يتصوره، ولكنه ما إن أحس أنه غاب عن ناظريه حتى جعل يعاود التفكير مجددا محاذرا أن يصل شيء منه إلى الأحدب وخشية هزئه منه إذ طلب الراحة:
- ما الذي جاء بي إلى هذه الجبال الوعرة؟ وصية أمي أم أعمالي؟ كيف استطاع "لاوي" أن ينجو بنفسه من شراك الجبل وأن يعيش موغلا داخله؟
لإن كان زادي من التعب قوة إصراري وشدة عزيمتي، ما أفعل أمام الجوع؟ أما كان حري بي أن أطلب تمرا من صاحبي الذي ما أراه يردني وهو المضياف الكريم؟
لا حيوان هنا أصرعه وآكل لحمه، ولا حشائش أقتات منها. صحراء من الصخور الجرباء التي لا تزيدك إلا شعورا بالإنقباض والتبرم.
بدت له السماء واطئة لشدة ارتفاع الجبل. تأملها يبحث من خلالها عن مخرج له أو مجيب لأسئلته الكثيرة، فإذا هي صافية إلا من شمسها المائلة إلى شوطها الثاني والتي خالها تلامس قفاه، وعقبان تدور حول الجبل فجفل لذلك من مكانه، وهو يقول:
- الملاعين، يعدونني وليمتهم المقبلة.
وقام يلتفت وراءه فإذا هم يحلقون بهدوئهم الساحر الذي يغيضه ويزيد في اضطرابه، ويحسب أنهم مطمئنون أنه وجبتهم، فتتحرك الهواجس في نفسه ويزيد من سرعته حتى إذا استقبله الجبل الثاني مرحبا، أحس أنفاسه تكاد تمزق صدره من فرط اهتزازه وشديد لهاثه.
فقد "سرمد" لفرط تعبه، إحساسه برجليه وباقي أطرافه، كما فقد إحساسه بالمسافة التي قطعها عدوا بين ارتفاع وانخفاض، إذ كان وعيه يغيب ويحضر إلى أن عم الظلام رؤيته، فسقط مغشيا عليه، متأكداً هذه المرة أنه جاوز نهايته. فألف ألف خطوة تقربه من الموت. إن لم يكن فريسة يسيرة المنال لضواري الجبل فالجوع والتعب قاتلاه. سقط بلا حراك، وهو يردد بين الصحو والغيبوبة:
- لو أن نورا امتد إلي مرة أخرى، لعرفت أن الأخنف منقذي، ولكن هيهات ليتني ما فرطت في أراضينا، أسيح بين الجبال ضائعا أبحث عن حتفي.
وإذا بصوت يهمس له كأنه للأخنف، وخال أنه هيئ له من فرط هذيانه:
- إنك قريب جدا من ضالتك، فتصبر وتتشجع.
وصوت أمه يعود مذكرا:
- عجل يا بني، عجل.
وصوت آخر يتماهى معه، ويظهر بوضوح:
- إحذر حتى لا تضيع، إحذر الجميع.
تداخلت الأصوات فيما بينها، قبل أن تصمت وتخرس جميعها دفعة واحدة، فأطبق عينيه وأصاخ لنفسه ينتظر مصيره المحتوم. لحظة الصمت والترقب لم تدم طويلا، أو أنه فقد زمنه وحركاته، واستمرت وقتا أكثر مما حسب إذ عادت إليه تلك الأصوات من جديد صاخبة هاذرة، بيد أن صوتا واحدا استطاع أن يسكتها ويخرسها جميعا وبدا له أنثوي ناعم:
- تظنينه حيا؟
وآخر يشبهه نعومة يرد:
- بلهاء، ألا ترين صدره المرتج. لهفي عليك يا بني، ما أقسى ما تعانيه في رحيلك هذا.
صمت الصوت ثم استدرك.
- محظوظ هو أني لم آكل طعامي بعد، وإلا لما وجد ما يسد به جوعه.
وأحس يدا مرتعشة تسنده، واستشعر لبنا باردا ينزل إلى جوفه، ويدا تتحسس شعره. قاوم الظلام مستبسلا، وفتح عينيه بعناد. انزاحت الغشاوة السوداء والستر المظلمة عنها لتبصرا وجهين لامرأة وفتاة، جعلتا ترقبان بتأثر واهتمام تطور حاله. انطفأت الصورة من أمامه فجأة إذ استسلم لإعيائه مطمئنا إذ أنه بأياد أمينة، وعادت إليه صورة الأخنف، وأمه كما يتصورها ويحلمها، وصورة لها كما سمع عن أوصافها، وصورة المرأة التي انطفأت لتوها رفقة تلك الفتاة. تزاحمت كل تلك الصور برأسه، وتداخلت فيما بينها، قبل أن تفر كلها دفعة واحدة، وتتركه وحيدا بلا أنيس. لحظة الوحشة والوحدة لم تدم طويلا، أو أنه فقد زمنه وحركاته، واستمرت وقتا أكثر مما حسب يبحث عن صورة يتمسك به، يتسلى بها وفجأة تأتى له ذلك ففتح عينيه مجددا فإذا هو منظر المرأتين نفسه ترقبان بالتأثر والإهتمام عينهما تطور حاله. كانت المرأة تسنده بينما أخذت الفتاة تداعب شعر رأسه. قام متثاقلا، فقالت المرأة:
- كنت تهذي عن رجل تبحث عنه هنا في الجبل، من يكون؟
قال بتراخ:
- إنه أخي، وقد غادر أراضينا قبل ثلاث سنوات.
قالت متحسرة:
- لا نعرف رجلا هنا، غير سلطان الجبل المتجبر.
تساءل:
- متجبر؟
قالت المرأة:
- نعم يا بني إنه لكذلك، أترى البيت هناك في السفح؟ لقد كنا نعيش داخله وزوجي.
فلما ظهر ذاك المتجبر، شبه ميت كحالك أغثناه وآويناه، وأقام بيننا وقتا إلى أن اشتد عوده، واستعاد قوته، فتسلط وتجبر، فقتل زوجي غدرا، واغتصب ابنتي هاته، وهي بعد صغيرة فأصابها مس كما ترى وطردنا من بيتنا ومنعنا عنه، وهددنا إن عدنا إليه، ووجدنا داخله سينكل بنا، ففررنا إلى هنا. لقد استبشرنا بك خيرا عندما لمحناك هنا إذ أنك الوحيد القادر على ردنا إلى بيتنا، فأنت لا تقل قوة وبأسا، كما أن الشجاعة لا تنقصك لتوغل في هذه الجبال وحيدا.
تساءل، يريد أن يغير الحديث:
- كيف كنتم تعيشون هنا في عزلة عن الناس؟
- صعبة حياة الجبال ياولدي، ولكن زوجي كان صيادا ماهرا، والجبل لا تنقصه الطرائد، وقد أقام لنا بئرا داخل بيتنا.
- وبعدما طردكما من بيتكما؟
- ذاك أمر عجيب يا ولدي، مازلت أفكر فيه دون أن أجد له تفسيرا، كل صباح أجد عند رأسينا قدرا تمر، وقدرا لبن، لا نعلم مصدرها. ولكنه طعامنا الوحيد، وهو شهي جدا.
هل أخبرك شيئا يا ولدي، لقد حاولت عبثا التظاهر بالنوم علي أعثرعلى صاحب اليد البيضاء والجميل العظيم، فأشكره، وفي كل مرة يغلبني النعاس، فلا يأخذ الامر إلا غفوة قصيرة، أنتبه بعدها لأجد الطعام، عند رأسينا.
فكر "سرمد" في نفسه:
- الأخنف وصل كرمه، وتمره إلى هنا أيضا!
- ماذا قلت يا ولدي؟
كاد يقفز من مكانه وقد تساءل في نفسه، أتملك هي أيضا قراءة كل ما يدور داخلي؟
هزت رأسها إيجابا، وبسمة حزينة تصدر عنها رغما عنها:
- طبعا يا ولدي، فدخائلك معلومة لا تخفى عن الخيرين، من الأخنف الكريم؟
زايلته البغتة إذ تأكد له يقينا قدرتها أمامه.
- لست أعلم، ولكنه يقيم بعيدا عنكما، وتفصله عنكما حواجز وموانع، فالماء والمسافات، وأكثر من جبل، وأنت كما تقولين يأتيكما الطعام كل ليلة. لا، صعب عليه الوصول إليكما، بل مستحيل.
تساءلت وهي تنظر إليه باستعطاف:
- أتساعدنا، ولدي؟
حانت منه التفاتة إلى الفتاة التي أذهبت صدمة الإغتصاب عقلها، ولكن ماذا لو كان المتجبر هو نفسه "لاوي"؟ أيجبر على قتال أخيه من أجل أغراب؟ ولكن الحق يقف بجانبهما فليدافع عن الحق، ولو يبذل في سبيله حياته كلها؟ ثم ماذا لو كان واهما؟ و"لاوي" لا يمكنه أن يكون غاصبا مغتصبا. لابد أنه أحد غيره.
هز رأسه بعزم، وتصميم:
- أساعدكما يا خالة، لكن علي الإحتياط قبلا. هل هو وحيد أم معه شركاء؟
هزت كتفيها، وقد ابتسمت ابتسامة ذات معنى.
- لست أدري يا ولدي، لم نره منذ طردنا، وكان ساعتها وحيدا.
- أخشى أن يكون في عصبة، فيتكاثروا علي وأهلك.
- ذرة خوف واحدة تفسد عليك أمرك كله، ولو لم أكن عاجزة كما ترى، لفعلت ذلك بنفسي، فانظر ماذا ترى؟
تقدم "سرمد" بخطوات حذرة، وقد أمسكت يداه على حجرة كانت سلاحه الوحيد، وشيء بداخله يدفعه بقوة وحماسة وحذر أيضا للمواجهة. لم يتوقف إلا وهو أمام باب البيت الحديدي.
كان بيتا فسيحا واسعا من طابق واحد بغرف عديدة، وفسحة داخلية مربعة توسطها بئر كما وصفت له المرأة. كان الباب مشرعا، فدخل البيت متحفزا لكل خطر قد يباغته وقد أفزعه السكون المهيمن على البيت، بيد أن شكوكه ومخاوفه لم يكن لها من داع إذ كان خاليا تماما، وذاك ما تأكد منه بنفسه إذ عاد وتجول في البيت بخطى أكثر اطمئنانا ودعة.
خرج مهرولا، ثم أخذ يلوح لهما بإشارات النصر والظفر منتشيا بفرحتهما، وقد لحظ أن البنت قد عاد إليها رشدها، وهي تعاود الدخول إلى بيتهما المغتصب، فابتسمت له ابتسامة امتنان وشكر، وقالت في أولى كلماتها له عرفانا.
- الشكر لك إنك لشجاع حقا. لم تخب نظرة أمي، حين تنبأت بأنك مخلصنا.
هز كتفيه:
- لم أفعل شيئا يذكر، فالبيت كما رأيتما كان خاليا. ويبدو أن معذبكما وقاتل رجلكما قد رحل منذ زمن. عودا إلى حياتكما الهانئة.
قالت الأم معقبة:
- بل فعلت الكثير أيها الهمام. لقد لحظت استعدادك لمواجهة نفسك في سبيل الحق ولقد سمعت ما فكرت به وإني لأقدر كل ذلك.
ثم دعته للمكوث إذ قالت:
- تعلم أيها الشجاع ألا رجل يحمي ضعفنا. إذا شئت تقيم بيننا وتتكفل بنا بجلب الطرائد كما كان يفعل زوجي على أن أزوجك ابنتي هاته فماذا تقول؟
ابتسم شاكرا وقال معتذرا:
- إعلمي أيتها الخالة أن ابنتك هاته جميلة فاتنة، وأن المكوث بينكما كان سيسعدني لولا أني أبحث عن أخي التائه في هذه الجبال، ثم إن لي من ينتظرني بأراضينا، وإني إذ أرحل عنكما كأني باق بينكما.
- دعني إذن أدعو لك بالسلامة والنجاة في رحلتك يا بني، وأعيد شكرك على جميل صنيعك.
أمسك يدها بحرارة وقبلها، وهو يقول:
- أنا من أشكرك سيدتي لأنك أنقذت حياتي، ومنحتني فرصة أخرى للعيش.
فكر لحظة، كأنه تذكر أمرا سلا عنه، ثم تساءل:
- ولكن خبراني، كيف ستعيشان؟
ردت، وكأنها كانت تنتطر ذلك منه، وتعد له جوابا مسبقا.
- لا تخشى علينا يا ولدي، ما أظن تمرات ولبن الكريم الجواد تنقطع عنا، ويده الممدودة تمسك دوننا، وإذا ما حدث ذلك، تخرج ابنتي للصيد، ولطالما فعلت ذلك مع أبيها، فلا تستهن بها، فهي أقوى مما تبدو عليه، وقد عاد إليها رشدها.
ودعهما بحرارة وخرج، فتعقبته الفتاة وهي تقول:
- طريق سلطان الجبل من هنا.
وأشارت بيدها ثم أردفت:
- احرص على حياتك فإننا بحاجتك، وآخرين هم كذلك، وتذكر دوما، الحذر ثم الحذر من الجميع، فاحذر الناس، ولتكن السلامة رفيقتك.
شكرها على نصحها ببسمة رسمت على شفتيه، وراح يقد الطريق في الإتجاه الذي صوبته له.
- جميلة جدا هذه الفتاة وطيبة، لولا "حنين"، لبقيت إلى جوارها.
فهمس له صوت في أذنه، محذرا :
- لا تطل التفكير بي، فحنينك أحق بذلك مني.
أفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة، وضرب رأسه مازحا، وهو يفكر.
- وي بي، كيف نسيت أن أهالي الجبال يقرأون قراري، ولو وقفت بيننا المسافات؟ سلمي على أمك، وخذا حذركما أنتما أيضا.
(يتبـــــــــــــــــع)

عبدالسلام المودني
10-09-2009, 07:50 PM
هين الجبل الأول في صعوده والإنحدار عبر سفحه، بيد أنه ما أن يشرع في اقتحام الثاني حتى تستعيد ذاكرته أحداث ما جرى له ليلة خروجه الأولى، وعند فراق الأخنف، وها هو الآن يحدث معه الشيء ذاته، إذ ما إن هم بثانيهما حتى باغته التعب وحرقة الشمس والجوع، ومنظر العقبان التي لاحت في سمائه منذرة بمصيره المقدر،لكأنها تدعوه لمزيد من التشبث بالحياة، والإصرار على النفاذ بجلده، والإسراع في مساعيه، وأصوات وصور تعاوده في إلحاح وتسابق:
- عجل يا بني، وعد لنا بأخيك.
- احذر الجميع، ولا تأمن لأحد، فهم الذئاب تسللوا إلى القطيع.
ومع اشتداد الجوع والعطش والتعب بداية المغيب، تفر إليه هواجسه رغما عنه وينضاف صوته إلى أصوات تهرج بداخله:
- لو أن للمرأة، وابنتها زاد لأخذت منهما، لكنهما تنتظران أن تمتد إليهمايد بالعون والسند. ما أحوجني لمثل تلك اليد الآن!
وأخذت العقبان تقترب منهأكثر والدوار يتلاعب برأسه الواهنة من فرط التفكير وما سلط عليها من لفح شمس يومه ذاك ويوميه السابقين. لم يعد يذكركم من مسافة قطع ومشى. كأنه لم يتوقف منذ بدأ مسيرته، ولابد له أن يفعل ذلك، شاء ذلك أو أجبر عليه، وهو مجبر على كل حال. فخطواته بدأت تهن وتعجز عن حمل وزر جسده، وتأخذه إلى حالة بدأ يتآلف معها، إذ سقط مرة أخرى أقرب للموت منه إلى حياة، وتدحرج تدحرجا أليما شديدا من عل فكانت الهاوية نهايته، ولم يعد يستشعر الوجود من حوله وانقطعت صلته به بالتدرج ولم يعد له إلا خيط دقيق يبقيه حيا. أنفاس حارة حوله. أنفاس حيوانية حارة ومتقطعة بمذاق وعطر أنثوي معلن، ووجهان نسائيان يجثتانه بقوة إلى الحياة. تهمس له إحداهما بفتنة ودلال:
- دثر ليلتي الباردة هاته، وجد بوصالي، يا هاجري.
ويفكر بما فضل مشغل له من حواس:
- جميلة وشاعرة في قلب الجبل؟
الفتاة الأخرى فاتنة أيضا، بيد أنها لاتتكلم، نظراتها كلماتها إذ جعلت ترمقه في رجاء، وأمل.
أكانت ترجو وتطلب هي الأخرى وصالا؟
وإذا بصوت يهمس داخله، ناعما كتلك النظرات.
- لا، لست أطلب ذلك عزيزي، إنما أبغي أن تنقذ أختي التائهة بين قمة وسفح الجبل المقابل لنا.
فغر فاه مستعدا للحديث والإستفسار بيد أن الصوت عاد ليوقفه.
- أرجوك لا تفصح عما تريد قوله فتفضحنا، قل كل ما تود قوله في داخلك، ولا تطلع هذه المعتوهة على سرنا.
تساءل :
- أولا تسمعنا؟
ردت بتلك النظرات نفسها وحملتها أسفا وحيرة:
- لا يسمعك إلا الأخيار. وأنا أسمع بعض كلماتك، وتغيب عني أخرى، لكني أفهمك، أنا بين المرتبتين بينما هي ممعنة فيما هي عليه.
عاد متسائلا.
- وماذا تفعل أختك هناك؟
- رهان، أيها العزيز، لم تقدر عليه أدخلتها إياه أختنا المتسلطة هاته، وخسرته وهي الآن كما صرت تعلم.
عادت الأولى بنبرتهانفسها:
- ماذا قلت؟ تلبي طلبي فأمنحك السعادة تعب منها كما تشاء.
تجاهل هذه إلى الأخرى، محدثا نفسه:
- ولكني ضعيف واهن القوى لم أصب طعاما ولا شرابا منذ مدة، وخارج لتوي كما ترين، من غيبوبة طويلة.
- لابأس عليك أيها العزيز إذا قمت وشربت من نبع سفح الجبل الذي فيه عافيتك، واستعادة همتك وقوتك.
- وأين أجده؟
- في طريقك إليها، ولا تعد إلى هنا، لأن المتسلطة المحتالة لن تدعك تغادر أراضينا أبدا، فتحجج بحاجة تقضيها، واذهب لنجدة أختي، ولا تعد معها.
- حسنا، مادام الأمر إغاثة ملهوف، فلابأس.
- الطريق المقابلة لك طريقك، وليكن النجاح معك.
أمسكت الأولى بيده، وهي تدعوه:
- هيا بنا إلى خدري، ندفئه.
سلها برفق، واختلق عذرا.
- اسبقيني هناك، وانتظري مقدمي، فإني عائد إليك بعدما أقضي حاجتي.
تساءلت وهي تحدق فيه بعين الريبة والشك:
- أية حاجة تقضيها بعيدا عني؟
تصنع لطفا معها، وهو يدنو منها هامسا في أذنها:
- حاجتي الطبيعية. انتظريني، وأعدي العدة لبداية سعادتنا، ولا تفسدي الأشياء بشدة إلحاحك.
واتجه بما تبقى له من قوى مهرولا، غير ملتفت وراءه، حتى نبع السفح، فجعل يعب منه، وأدرك صدق الذي سمعه من ناصحته بالإبتعاد عن المتسلطة الجبارة فقرر أن يبر أيضا بوعده لها، بمحاولة إنقاذ أختها، وإعادتها سالمة.
صعد الجبل مسرعا، وقد استعاد همته ونشاطه. لكأن ماء النبع فعل فعل الساحر بنفسه التي ارتوت منه، واستعادة من فورها سابق ثباتها وقوة عزمها. أمضى نصف يوم في صعوده، وبعضه منحدرا، متفكرا في أمر رهان الأخوات الثلاثة وكيف أن الوقت لم يسعفه لسؤال الأخت الثانية في حديثهما السري عن سبب الرهان المجنون الذي قد يكون قضى على حياة أختهما؟
أي قلب تملكه المرأة لتوقع بأختها في مثل هذه المخاطر التي يعجز أمامها الرجال؟
لم تدعه أصوات نجدة وصرخات استغاثة، لنفسه إذ هرع يتعقب صدى الصوت الأنثوي، فإذا هي فتاة متشبثة بقوة بإحدى الصخرات الناتئة بمنحدر قاتل. كان ثوبها ممزقا وقد أطل من عينيها الرعب والهلع، فما أن رأته حتى أخذت تصرخ غير مصدقة أنه مخلصها من موت محقق، ترجو معه الإسراع إذ كانت قواها تكاد تخذلها، ويداها المتشبثتان بقوة وإصرار على صخرة الحياة، تكادان تسلمان للهاوية السحيقة، فقالت مستغيثة:
- أرجوك أيها العزيز، عجل إلي، أرجوك.
قال بلهفة:
- لا ترهقي نفسك بكثير كلام، أنا آتيك ومنقدك، فتثبتي.
تدلى الحافة بحذر شديد، وهو يقول في نفسه:
- ما الذي جاء بهذه المسكينة إلى هذه الحافة القاتلة؟
خال أنه يحدث نفسه وينشغل عن الأهوال التي يواجهها في سبيل إنقاذها، ولم يكن يحسب أنها كمن قابل يستمعون إلى كل ما يقوله.
- رهان من فتاة حسبتها أختي، ولكنها كانت تود قتلي. الشريرة، ستجرب ذلك أيضا مع أختنا الأخرى.
رد محذرا:
- قلت لك لا تتحدثي، وتشبثي جيدا ولا تنظري إلى أسفل.
كان قد اقترب منها، فمد يده القوية، وأحكم قبضته الفولاذية على معصمها، وطلب منها آمرا أن تدع يدها الأخرى وتمسك بزنده، ففعلت دون تردد رغم خوفها أن تهوي، ولكنها أذعنت لأمره إذ هو منقذها الوحيد، ومخرجها من موت وشيك ينتظرها في الحافة، ثم جذبها إليه بقوة وأمان. ومازال يصعد بها من الحافة القاتلة، من صخرة آمنة إلى أخرى أكثر أمنا حتى بلغا أقصى درجات الأمان المنشود، ولهاثهما يصدر صوتا قويا شديدا. عانقته بما فضل لها من قوة:
- أيها العزيز، إنك لي لأخ من هذا اليوم الذي انتشلتني فيه من الضياع. فاعلم أني حافظة لك جميلك وحسن صنيعك ما حييت.
اكتست نبرة صوته تأثرا لمشاعرها الغامرة، وهو يقول:
- لا بأس عليك، إن ما فعلت كان واجبا، ولو صادفت غيري، إذن لفعل الشيء ذاته.
ازدادت دفقة مشاعرها وإعجابها.
- إنه لتواضع منك كبير ونبل عظيم أن تقول ذلك فاعلم أني حافظة لجميلك هذا ولن أنساه أبدا، وإني لرادة بعضا منه.
شكرته، وعاودت شكره، وهو يوصلها نبع سفح الجبل وقد اطمأن عليها، فأرته طريقه إذ أعلمها أنه يبحث عن أخ له تائه. ودعها وانصرف إلى مسيرة بحثه بعدما تزود من مائه الزليل. كانت مرته الأولى التي يتذكر فيها أنه مقبل على مسير وجوع وعطش وتعب، فنال منه ما نال، آملا أن يظل مفعوله، ويمده بتلك الطاقة التي استشعرها أول مرة شرب منه. وهو في طريق عودته ضرب كفه برأسه كأنه تذكر أمرا ذا بال أسقط من ذاكرته، فقال متفكرا:
- الرهان كان الأمر المهم، كيف أسلو في كل كل مرة عن شيء مهم.
وجاءه صوت الفتاة كما ألفه حنونا صافيا:
- أنت تعلم بأمره، ولقد أضعته كما أضعت أشياءك الثمينة في طريقك، فامضي والسلامة رفيقتك.
كانت الشمس تؤوب إلى خدرها متثائبة، والنعاس يغالبها، وهي المرة الأولى منذ انطلق من أراضيه عند ابتداء رحلته، التي يقابل بها الظلام وهو بعد بحال جيدة لا يحس نقصا أو خوفا أو جوعا أو تعبا.
اعتزم التوقف حتى لا يضل طريقه، أو يصادف ضاريا شاردا في ليل الجبل، فأقام عند صخرة عظيمة ملساء، واستلقى على ظهره، وعيناه إلى السماء ترقبان نجومها الوضاءة التي استترت فجأة خلف سحائب عظيمة أحالت سماءه قفرا موحشا، وليله سوادا مقيما، فسمع بوعي هذه المرة صوتا أنثويا قريبا منه:
- سامحني "سرمد"، لقد أجرمت في حقك إذ أسأت ظني بك، وإني لمكفرة عن ذلك، فاعذر سوء ما رأيته مني.
صوتها مألوف له، إلا أنه في زحمة الأصوات والصور أضاع وجه صاحبته، كأن ملامحها نقشت بروحه، لكنها ترفض أن تعلن عن وجودها، فتساءل وقد أعلن ضعفه على معرفتها.
- من تكونين؟ وعما تريدينني أن أسامحك؟
تساءل الصوت الذي أتاه مجددا بعض صمت.
- ألا تتعرفني، يا "سرمد" وأنا أخت زوجك "حنين" سامحني "سرمد".
"حنين" زوجه؟ لكنه لا يذكر أنه تزوجها، ذاك ما كان يعتقد. كانت قريبة جدا منه حتى ليكاد يمسك أنفاسها، ويستشعرها تطوقه بعبق عطرها، لكأنه يلامس شعرها المسدول. حاول فعلا ذلك، كما حاول سؤالها عن حقيقة أمره مع "حنين" بيد أنها اختفت فجأة كما ظهرت علامات قربها منه وصوتها فجأةأيضا، وأحس حين ابتعادها عنه، أنها تفعل ذلك مجبرة مذعورة، ولم يطل التحقق ليعرف سبب ذلك إذ أن طيفين لامرأتين انتصبا أمامه.
إندرأتا عليه فجأة، فجعل يمعن النظر فيهما، فإذا هما قد وقفتا متحاذيتين. لم يكن الطيفان لامرأتين، بل إمراة واحدة بظلين، أو هما طيفا امرأة واحدة، تضعان لباسا واحدا، استطاع أن يدرك ذلك رغم الحلكة المتبدية أمامه كما تعرف على ملامحهما، فقالت التي تقف إلى يمينه:
- عجل يا "سرمد" ، عجل يا بني، الخطر دني منك.
تساءل:
- أمي؟
فردت الثانية:
- بل شريرة محتالة يا بني، تريد تشريدك عن أرضك، وطردك منها، فتضيع أنت في هذه الجبال، وتفقد عقلك.
- لا تصدقها يا ولدي، بل هي الشريرة الماكرة.
- أنا أمك يا "سرمد" ، عد إلى أراضينا، إن أباك وأخاك بحاجتك.
- لا تنصت لها يا ولدي، وارحل بعيدا عن تلك الأراضي ففيها قوتك.
- هاهي ذي تعترف أمامك الآن يا ولدي، إنما أرادتك بعيدا عن تلك الأراضي كما قلت لك.
- لا تصدق كل ما تسمع وتشاهد، يا بني، ولا تتعجل في إصدرا حكمك وأنت جاهل للحقائق بعد.
- عجل في عودتك لأراضيك يا ولدي، وستكتشف زيف هذه المرأة وسواد قلبها، سلها يا ولدي، أكان حقيقة كل ما عشته في الجبل؟ الناس الذين صادفتهم أكانوا أناسا فعلا أم هم أطياف من فعل سحرها حتى تنسيك طريق عودتك؟ وما بالهم جميعا يتعرفون الطرق التي عليك سلكها، فما أن تهم بسؤال أحدهم حتى ودون أن تسأل، تجد لديه جواب سؤالك، فيبادر إلى ضلالك؟ ثم ما بال ما عشته يعاد عليك أكثر من مرة دون أن تستطيع الخروج من دائرته؟ وما بال عدد الجبال هو نفسه في كل مرة، جبل أول والثاني لا تستطيع تجاوزه فتسقط دون وعي؟ ألا يكفيك هذا يا ولدي، أم تريد مني المزيد؟
كان "سرمد" مشدوها، من هذا الذي يسمع، ممعنا في الصمت كحال الطيف الأول الذي بدت صاحبته قد انكشفت نواياها ومزاعمها، وفجأة انبسطت أساريره، وبدا أنه يتقبل الأمر، وأشار إلى الثانية صاحبة الحجج المفحمة الدامغة، وقال:
- إحساسي لا يمكنه خيانتي، إنك أمي التي أسمع همس نبضها مع نبض قلبي، فماذا تطلبين مني الآن؟
أفرجت شفتاها عن بسمة حانية، وهي تدنو منه:
- ما أريد إلا خيرك، وصلاحك يا بني، ألا ترى أن الموت ما ينتظرك في الجبل، عد إلى أراضيك يا ولدي، ففيها حياتك وصلاحك.
وكان بين الفينة والأخرى يرقب الطيف الأول بنظرات ضيق وتبرم جلي، وأردفت الثانية:
- عند رحلة عودتك يا ولدي ستكتشف يقينا، صدق الذي قلته لك، فلقد قيدت لك هذه الملعونة أناسا من أشياعها، وصوروا لك أوهام ما عشته كأنه حقيقة. جنان ونخيل وأودية وينابيع وبشرا حدثتهم، أيجتمع كل هذا في مثل هذا الجبل المقفر؟ عجل يا ولدي، عجل قبل فوات الأوان.
صمت لحظات كأنه يفكر ثم تساءل:
- أوان ماذا؟
قالت من فورها:
- أن يدرك أباك الموت، وأنت بعيد عنه فتروح وصاياه، وحكمته لأخيك دونك. أريد لكما العدل في كل شيء، فعجل يا ولدي.
لبث في مكانه كأنه يفكر في الأمر مليا، أو أن تلك الكلمات كانت تحتاج منه وقتا ليقلبها على نار تفكيره المستعرة ثم هب من مكانه، واقفا مستنفرا حواسه فانقشع عنه الطيفان كغشاء كان يحجب عنه الرؤية فإذا وجه فتاة تقف على رأس جبل مقابل له ترقبه، وقد أحاطتها هالة من نور تضيئها، فاستطاع رغم المسافة أن يتفرس في ملامحها جيدا، فإذا صورتها تشبه "حنين" زوجه. لكأنها هي، هكذا فكر.

عبدالسلام المودني
10-09-2009, 07:51 PM
ذرع صخرتها البطحاء تلك، إلى نبع السفح الذي عب منه قبل المغيب، يبغي التأكد مما قالته أمه عن مكر وخداع الطيف الأول فإذا هو كما قالت، وهم وسراب لا وجود له، داخله العجب من ذلك إذ أنه ياقن من أنه شرب منه حتى إن ماءه مازال يعلن عن وجوده داخله. وجعل يطوق بالمكان يريد أن يعرف إن كان قد أصابه فعلا أم أخطأه. كان هو عينه، ولكن بلا نبع، ولا أخوات ثلاث يسكن بمحاذاته. تأكد من ذلك أكثر من مرة إذ وعلى الرغم من الليل وظلامه، فلقد أطل عليه وهج من قمة الجبل ينير سبيله.
لم يداخله شعوره القديم بالتعب والجوع، بل أحس نفسه كطائر يسبح عابرا تلك الجبال التي تفصله عن أراضيه، والضوء المنير يتعقبه أيان اتجه، وفي كل مرة كان يتفحص مكان من قابل لكن دون أثر لأحد منهم، ولا لشيء جمعه بهم، فعندما مر من مكان لقيا المرأة المطرودة وابنتها التي كانت بلهاء، لم يجد بيتهما بله المرأتين، بيد أنه عند اقترابه من جنة الأخنف الأولى التي كانت وهما كما رأى، وكما قالت له أمه صاحبة الطيف الثاني، ألفى مكان وهم الجنة، رجلا حسن الوجه والمظهر وهالة من نور تحيط به يلبس لباس الأخنف حاول أن يفكر في شيء يبغي مخاطبته بيد أنه لم يستطع وكأنه شل عن تلك الإرادة الخفية والحركة الداخلية، وإذا المرأة الطريدة وابنتها تظهران وذاك النورنفسه يحيط بهما، إحاطته بالفتاة التي تشبه زوجه "حنين"، والفتاتان الأولى التي دلته على مكان تواجد أختها التي وقفت حذاءها، والكل يرقبه بعين رضية. هز لهم رأسه هزا خفيفا خفيا، كأنه يفهم قصدهم جميعا، ويدركه ودون كلام أو توديع. اختفوا جميعهم كما ظهروا تباعا وكان آخرالمغادرين أول الظاهرين، الأخنف الذي خلاه إلى ظلمة قاسية باردة، أصابت جسده بموجات برد لافح، وأصابت رأسه بالدوار فسقط حيث هو، وصرخ صرخة مدوية ظنها شقت صدره كما شقت ليله.
قام فزعا من نومه مضطربا، وصدره يرتج، ونبض قلبه متواتر كأنه عاد عدوا لتوه من مكان سحيق، وقال لنفسه:
- يا له من كابوس!
وإذا بصوت يهمس له في أذنه بشيء لم يستطع تبينه.

قام، ووقف بجانب مدخل خبائه متخفيا، وقد استل خنجره، وجعل ينتظر. لم يكد يمضي وقت طويل حتى بلغ إلى أذنيه اليقظتين، وقع خطوات حذرة تدنو من مدخله، فتجمد في مكانه، وتحفز لصد الخطر القادم إليه. وفجأة انقض الشبح بخفة على مرقده يحسبه هنالك، وجعل يسدد طعنات قاتلة إلى غطائه في مواضع متفرقة وانقض بدوره على الشبح دون أن يمهله وقتا وتله بضربة خنجر واحدة. فسمع هدير صوت نسائي صار يحفظ نبرته جيدا وكان لأمه التي أوصته بالعودة إلى أراضيهم. أضاء قنديله، قربه من وجه الهاجم فكان "للاوي" أخيه. زفر بشدة، وهو ينظر إلى جثة أخيه المسجاة أمامه وقد استشعر حزنا أليما على قتله، فقال والمرارة تكسو نبرة صوته.
- بعت نفسك لهواك، وما عاد شيء يرضيك إلا الموت، فارض الآن، وطب خاطرا فإني لم أعد كما عهدتني جبانا، أفر منك.
خرج متوترا، مرتبكا إلى خباء أبيه يطلب لقاءه، متمنيا أن يجده مستفيقا إذ كان الوقت ليلا، فبغت لما سمع صوته يدعوه إليه، إذ بلغ مدخله.
- ادخل "سرمد" يا بني. فعلتها إذن.
قال بصوته المرتجف.
- نعم "أبانا"، كان يود قتلي.
عاد صوته الهادئ يخرج من فيه باتزان ورصانة:
- لا تحسب كوني أعمى لا أبصر، فقد كنت أنتظرك يا بني، فاقصص علي ما حدث معك في الجبل.
تساءل "سرمد"، وقد داخله العجب.
- أتطلع على أحلامي أيضا، "أبانا"؟
- أحلام؟ أية أحلام تقصد يا بني؟ يبدو لي أنك لم تتعلم شيئا، فاحكي لي ما جرى.
تنفس بعمق، وقال:
- شيء غريب لا يصدق، في بضع ليلة عشت أكثرمن يوم، ونمت أكثر من مرة، وقابلت الموت حتى تعرفته وتعرفني، وشاهدت نفسي على أكثر من صورة وتعلمت شيئا وأشياء، فأما الذهاب على طوله، كان شيئي وأما الإياب على قصره كانت أشيائي.
هز "أبانا" الحكيم رأسه، ومرر يمناه على لحيته البيضاء المرسلة حتى صدره ثم قال:
- سررت بشيئك وأشيائك، ومادمت قد نجوت بنفسك فلأنك أدركت من تكون أمك فعلا فكيف عرفت ذلك؟
- كان ذلك "أبانا"، شيء ذهابي وهو الذي دلني عليها بسهولة ويسر، أدركت خلال رحلة ذهابي أن الخير والشر منبعهما القلب الواحد، يتصارعان داخله صراعا أبديا لا نهاية له، والخير يخاطب الخير ويسمعه، والقلب يحدث القلب حديثا لا تسمعه الآذان، كلماته مشاعر صادقة، لذلك وعندما وقفتا أمامي، قلت في نفسي:
- مادامت الأخت الشريرة لم تسمع حديثي مع أختها، فلأن الشر يوقر آذان قلبها، وذاك سبيلي لمعرفة أمي، حينذاك سمعت همسا في داخلي، صافيا كلبن الأخنف الذي أشربنيه أول مرة، وذقته من بعد لدى المرأة وابنتها، وماء نبع السفح بعد ذلك مع الأخوات الثلاثة. أتاني صوتها عذبا:
- ذاك المؤمل والمرجو فيك، أيها الإبن البار.
تطلعت فيهما، وأنا حائر بينهما، ثم ركزت نظري على المرأة الأولى التي كانت تقف يميني، فسمعت صوتها مجددا:
- كذاك القلوب ترشد الأبصار، إنها أنا أمك يا بني، فسايرها في كل ما ما تريده، واسمع قولي جيدا، ولا تدع ذرة شك واحدة تفسد علينا الأمر كله. أعددت لك هذه االرحلة، ويسرت لك كل ما شاهدت، والتي ستصر على إزالتها الليلة، لأن الليل سلطانها وقوتها، أما سحائب النور التي ستلمحها فهي لقوة في أصحابها لا يبصرها إلا الأخيار، وعند عودتك تظاهر بالبحث في مواقع كل ما مررت به، وتظاهر بالعجب والسخط علي، حتى تعود.
قاطعتها متسائلا:
- لمَ هذه الرحلة الشاقة المتعبة؟
ردت بحنو أم ملهوفة، غمرني وأنعشني فيض حبها الدافق.
- لولا الصعاب، ما نعمت في خير وهناء. إنما فعلت ذلك لتقابل ماضيك يا بني، ولقطع دابر الشر الثاوي بيننا، لقد حاولت مع "لاوي" أخيك يا بني، بيد أنه باع نفسه لليل وظلامه، وإنه لمتسلل إليك الليلة لقتلك.
- لماذا يريد قتلي؟
- ولماذا لا يقتلك يا بني، وبذور الخير فيك ستحارب نوازع الشر داخله؟
- وهاته الشريرة التي تشبهك، أما تستطيع أن تقتلني، وهي كما قلت تملك جندا من أتباعها؟
- وأنا يا بني، أملك أيضا جندا من أتباعي المخلصين، إذن لقتلت "لاوي" ، ولحجبت شره عنك ولكني لا أستطيع كما لا تقدر هي. قتالنا يصعب أن تعيه، فعله أكثر من القتل وأكبر منه، وإنما تحثك هي الآن على العودة ليلا، لأنه ينتظرك فتيقظ وسايرها كي أطلعك على أسرار أخرى، وتظاهر بالتفكير.
طريق وصولك إلى هنا كان وعرا. شمس سمائه قائظه. عقبانه جائعة. عانيت ما عانيت فيه وصبرت، وأعنت المستغيث الملهوف. ذاك طريق الخير صعب إذا مشيت فيه، وآخره طيب المحمد، وسترى ذلك عند نهاية الأمر كله. بينما طريق عودتك سهلة يسيرة ستحملك لغرض في نفسها بسرعة إلى أماكن تشبه تلك التي مررت عبرها، ولكنها ليست هي. ستأخذك من مسالك الشر المظلمة المقفرة، وحتى أذهب عنك شكك، لعلمي أنك شكاك، سترى كل من قابلت عند جبلك الأخير، يودعونك متمنين لك النجاح.
سأل "أبانا" الحكيم:
- وهل رأيتهم؟
- بلى "أبانا" أبصرتهم، إلا الأخنف الذي قابلني بعد الجبلين الأولين، فقد رأيت رجلا حسن الوجه، كان مقدما على كل من عرفت، وكان رجلهم الوحيد بيد أنه كان يلبس لباس الأخنف.
قاطعه "أبانا" الحكيم:
- لقد رأيته أول مرة، كما تصوره داخلك مع نوازع الشك التي كانت تهب بداخلك. ذاك المخلوق الذي رأيته، وتصورته هو الحب.
سأل:
- الحب؟
- نعم يا بني. لقد تصورته أخنفا بشعا، ولم تحسن صورته لديك إلا بعدما عبرت من صورته الأولى إلى الضفة الأخرى، حيث حسن صنيعه وخيره العميم. لقد عميت عن حقيقته أول الأمر، رغم أنها كانت بادية وحجبت عنك.
ألم يحيي قلبك بعدما ظننت نبضه توقف؟ الحب يا بني كان بابك الذي أدخلك تلك الجنة، فتذوقت أطايب تمرها وخالص لبنها.
- أكان ذلك حبي "لحنين"؟
- لنفسك و"حنين" وأمك وللناس أجمعين.
للناس أجمعين يا بني كان حبك بعدما أدركت الحقيقة. واذكر أني جدتك، وأني لخيرك أسعى. بعد كل الذي عشت ورأيت، صرت أفرق بين الأصوات التي تصدر من داخلي، والتي تأتي من حولي فتنفذ في غوري. وأدركت دون حاجة أو جهد أن صاحبته، جالسة إلى يميني، فإذا أنا أتبينها بوضوح، إذ أن الغرفة التي كانت، أو كنت أحسبها رمادية اللون دنية من الظلمة، محسوبة على السواد، كانت حقيقة غامرة الأنوار، وإذا صاحبته امرأة مسنة تكومت على حزنها، والتفت بعباءة حنان فاض من كل جسمها، وأصاب كل من حولها وغمرتني أنفاسه العطرة، التي غدت مرئية، فارتميت في حضنها وأنا أجهش باكيا، متأثرا.
- واعلمي، أني أحبك أكثر جدتي.
ضمتنيوصوتها يختلط بنحيبها:
- أهلا بك، يا بني في "آل العربي". لقبك، ماضيك، شهرة عائلتك.
قفر أسرني قره، وما استطعت فكاكا منه. بيت كان مخلصي، أتاني يسعى دافئا، فاردا ذراعيه، منشرح الصدر، باسم الثغر، عذب القسمات، زكي الأنفاس، حلو التقاطيع. بيت جذوره تغوص عميقا في الأرض، ولكنه أتاني يسعى مخلصا. منتشون نحن، نستمرئ لذلذات اللقاء. كل ما نفعله تعبير عن فرحتنا. الدموع، النحيب، اللوم، حتى أفراحنا، لا تختلف طرق الإحتفاء بها عن إظهار الحزن.
ورفع بيتنا أعلام الحبور والإبتهاج، وبدا كأن الناس لحظوا ذلك، فقصدونا وصدى جلبة يصلنا، فهرعنا مستطلعين، متحفزين، فإذا شيخ رث الثوب، طويل اللحية، غائر العينين منكسرهما. كان مثير الجلبة وقد تجمهر الناس حوله، وجعلوا يرقبونه، مبدين تبرمهم من منظره الغريب المنفر، ويسمعوا صوته الواهن.
- "عيشة"، "عيشة"، أريد "عيشة".
لمح جدتي، وارتمى على يدها يهم بتقبيلها لولا أنها منعته، مستغربة فعله، ثم جعلت تتفرس فيه، فقالت مستذكرة:
- "علي"؟
لم يكن يقوى على رفع ناظريه إليها مخافة أن يلاقي عينيها، فقال وعيناه أرضا:
- نعم، "عيشة"، إنه أنا "علي"، جئت لرؤيتك وطلب الصفح منك بعدما علمت بعودتك إلى هنا. لا تستغربي لحالي، فهذا ما جنيت من تآمري على أهلي. واليوم، وقد اجتمع حولي كل أهالينا، أطلب صفحهم وعفوهم أيضا، لقد أعماني الطمع والشراهة والغيرة، ودفعني غضبي الشديد إلى سلك دروب الشر المظلمة التي أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن.
سأشرع لكم من البداية أحبتي، لقد آن الوقت لتعلموا أن من كنتم تسمونها الفاجرة، هي فاجرة حقا. لا تقولوا بأنكم نسيتموها، وهي من دبرت بمعيتي تلك الحيلة التي أحالت حياة "عيشة" العروس وزوجها وأهله جحيما مستعرا، إذ تربصت به وهو قادم من صلاة الفجر وأوهمت الجميع أنه اعتدى عليها، وما مسها العفيف الطاهر. أين الشيوخ؟ أين حفظة تاريخنا وسارديه؟ ليعلموا جميعا أن الرجل لم يفعل شيئا غير استجابة لنداء غوث، وإنما كان ذلك من كيد الشريرة ومكري، فلتغفروا لي. أحبتي، الفاجرة الشريرة هي ابنة أحد السحرة، ولقد أعماني سحرها فدخلت قبيلتنا وجعلت تدبر المكائد، وتثير النفوس للصراع والإقتتال بين قبيلتنا. كم كان ذلك يغبطها ويبهجها. ثم إنها إذ استفحلت العداوة بيننا، وثوت فينا تقتات من ضعفنا وسقمنا، انتقلت إلى أبناء القبيلة الواحدة، فأدخلت "الشيرا" إلى زراعتنا، وأزهقت الأرواح لأجل شبر أرض بين الأخوين. أترون أين كنا و أين صرنا؟ فلتسامحوني جميعكم، ولتسامحيني يا "عيشة". أترين الآن جزاء ما فعلته، ولقاء انغماسي في وحل الشر. الطرد بعد أن أحكموا قبضتهم على القبيلتين؟ طردت غصبا، كما طردت حيلة. وإني لعائد إلى أرضي، فعودي معي، وخذي حقك بقوة كما أنتزع منا. صاح شيخ بين الوقوف.
- كما حافظنا على دارك وأرضك وأراضي ودور الغائبين، إنا لقادرون إن اتحدنا أن نمنع أي متسلل إلينا مهما كانت قوته وطرد أي محتل لملك غير مشروع مهما كان جبروته. لتعد "عيشة" إلى دار أبيها، ولنعد إلى أنفسنا نحاسبها على عثراتها، وعلاتها، وكفانا ما أتلفته الفرقة والشقاق.
والتفت حول الشيخ الجموع والعزائم، وتوحدت وجهتنا، إذ عبرنا الوادي عبر جسره الصغير بخطوات واثقة ترسخ على الحق، حتى إذا بلغنا مقصدنا وجدناها خالية وقد رحل عنها غاصبوها. قطعنا إلى الضفة المقابلة حيث جزء منا هنالك. أكانوا يعلمون بمقدمنا فغادروا قبل وصولنا؟ لاشك أنهم إن فعلوا، مطلعون على ما ننوي القيام به مستقبلا، أم أننا كنا نخشى أشباحا لا وجود لها إلا في جغرافية ضعفنا وممالك كوابيسنا التي أدخلنا سجونها مجبرين، وعشنا داخلها واهمين أنها الحقيقة؟ والنتيجة واضحة، لكن الأسباب غير مهمة، الفرحة، بلغت أقصى درجاتها لدينا، لكن أحدا لم يسأل عن الغاصبين.
هل فروا جبنا كما اعتقد الكل، أم امتصهم وأذابهم بإراداتهم جسدنا المعتل؟
وإذا بي أستشعر اهتزازا داخليا، لم يكن استعدادا لسفر جديد، بل هو هاتفي النقال يرتعش فرحا لفرحتنا، فتحت الخط فإذا صوت نسائي يأتيني عميقا:
- "قاسم"؟ "قاسم الشرقي"؟
كنت أود أن أعقب، أن أصحح، "قاسم العربي"، لكني أحجمت، لمعرفة المتحدث:
- نعم، من المتحدث؟
فقالت والتردد باد على صوتها.
- إنها أنا "ليليان" يا ولدي. أتصل بك لأعتذر عن طيش ابني الذي أعماه غضبه فتصرف معكم بذلك السوء وأنتم أهله، فأرجو أن تقبل عذري، وتأتي إلى هنا لجبر ما أتلفه ذاك المعتوه. وأحسب أننا أسرة واحدة. أرجوك أن تقبل عذري ودعوتي. أرجوك، عجل يا بني.
لم تكن تنتظر مني ردا، إذ قالت كل ما لديها دفعة واحدة، وأقفلت الخط. كأنها أدت كل مهمتها بنجاح، وخلتني أقدح زناد فكري، والهاتف بيدي وقد ذكرتني بوجود هذه الوسيلة معي، التي استخذمتها لصالحها، لغاية في نفسها، وكلماتها مازالت تطن في أذني، أن عجل يا بني، عجل. جعلت أعبث بذاكرة هاتفي، فإذا بي أقع على رقم، أحالني على وجه أليف جدا، حامله محام شهير من أصدقاء والدي المقربين، فطلبته معلنا رغبتي في رفع دعوى قضائية ضد "رافان"، زوج أختي السابق، أتهمه فيها بقتل أبي، و"آمال"، وخيانة الأمانة، واحتلال ملك الغير، والتزوير والإختلاس، ووجدت سابق علم له بالأمر، إذ أخبرني أنه كان ينوي الإتصال بي لنصحي أن أفعل الشيء ذاته، بعدما التقى محامي المجموعة، صديقه أيضا، فأعلمه أنه يملك أدلة تدين المجرم المحتال. وكنت قد أسقطت محامي المجموعة من حساباتي إذ توهمت أنه أضحى محسوبا على "رافان" خاضعا لعطاياه وهباته، وظلمت الرجل.
أقفلت الخط، وقد انتابتني نوبة فرح زادت من شحن عزيمتي، أيحمل لي هذا الجهاز الصغير كل هذه الفرحة، ويمنحني كل تلك الحلول، وكأن "ليليان" ساعدتني من حيث لا تعلم، وإذا الهاتف يهتز مجددا مؤكدا دوره، فإذا الطالبة "ليلى". و"ليلى" اتصلت تخبرني علمها بأمر هام عن مقتل والدي، وأنها حضرت المكان الخطأ في التوقيت الخطأ فشهدت جريمة "رافان"، الذي قضى على "آمال" أيضا، فلبثت في بيتها مريضة لأجل ذلك، وقاومت خوفها وترددها، ورست سفينة تفكيرها على مرفأ مساعدتي، وأنها تقبل الشهادة إن دعيت لها، لتستعيد راحة نفسها وسكينتها. قبلت هاتفي، مخلصي، ومنجدي. أتكون الحلول قريبة منا، ولا نكاد نبصرها لشدة ربكتنا وخوفنا؟
وأذهلني تسارع الأحداث من حولي، وتلاحقها بتلك الوتيرة المتسارعة، فجلست إلى جدتي وأمكم وابنة عمي أروي لهن ما جرى معي، وما أنوي القيام به. فقصدنا الرباط ومازالت "وجد" تجلس جانبي، وتسرد علي ما اطلعت عليه من مخالفات "رافان" الكثيرة، التي ستدينه، حتما. وأدانته فعلا، إذ اعترف بجرائمه كلها، ما علمنا منها وما استتر في المجهول. ففضحها كلها، بعد ما حاصرته الحجج، وأوقعته بشهادة الشهود فانهار، وخر من عل على رأسه. وزاد من تعقد الأمر عليه، وعدم قدرته على تقبله لما علم بأن أمه قد تخلت عنه تماما ونفذت بجلدها دون أن تلتفت خلفها إذ فرت خارج البلاد إلى وجهة غير معلومة.
وأعيدت لنا أملاكنا كما أعيدت لنا حياتنا الماضية، وعادت الدماء إلى شرايين أمي والنبض إلى قلب أختي "سهد"، وانزاحت عن سمائنا غيمات الشر التي رحلت مطرودة دون رجعة، ودخلت مدننا التي تسكننا، وأعدنا بناءها وتصميمها، فأزلنا عنها أسوارها وأحزانها وانكفائها على جراحها، وانقسامها إلى ضفاف، فإذا هي أرض واحدة لا فاصل بينها ولا قاسم.
واستعادت الحياة خطوها، ونسينا مآسينا، وتلك الصور الأليمة التي كنا جزءا منها أو كدنا ننسى، إلى أن تذكرت يوما الوجه الثاني من الشريط العاشر فشغلته فإذا هو فارغ.
وأدركت حينها، أني كنت أعمى لدرجة أني لم أبصر جدتي وهي جالسة جانبي كما أني لم أتفطن إلى أن كل تلك الشرائط كانت فارغة عند مقدمي الأول، وقد سمعتها من جدتي مباشرة، في نفس الوقت الذي كانت "وجد" تسجل فيه، حتى إني لما أعدتها، لكأني أسمع أنفاسي، وأتلمس وجودي مع وجود "الجدة"، وآثرت اليوم أن أفعل الشيء ذاته معكم، حتى تحسوا أنكم كنتم معنيين بذلك، لدرجة حضورها في الذكرى الأولى لرحيل جدتنا "عيشة" الرضية، التي عاشت للحق، وعاشت به وعاشت معه. فاعلموا أن الحق مهما جبن وضعف سيأتيه النصر لأنه حق، وأن الباطل مهما كبر وتجبر سيصيبه الخذلان لأنه باطل.




النهايـــــــــــــــــــ ــــة


سلا، أكتوبر 2004

ربيحة الرفاعي
13-03-2014, 12:07 AM
ساعات قضيتها في قراءة هذا العمل الروائي المتقن الحبكة
أداء حكائي مائز ببناء ورسم للشخصيات متمكن وتصاعد حدثي ممنطق بجمالية وانسياب

للرفع لتنال حقها من القراءة

تحاياي

نداء غريب صبري
26-05-2014, 02:43 AM
قرأت الشريطين الأول والثاني
وسأقرأ بقية هذه الرواية الجميلة المشوقة غدا إن شاء الله
فقد شدتني بقوة

شكرا لك أخي

بوركت