مشاهدة النسخة كاملة : 3- حمارٌ وفيلسوف وحكماء
احمد فارس
28-02-2009, 04:09 PM
حمارٌ وفيلسوف وحكماء
قبيل الغروب
بعد عشرة أعوام من سماعه كلمات الحقيقة
كان العابر يجوز أطراف المدينة حيث راحت الشمس تلملم آخر خيوطها عنها تاركة وراءها شاهقات المباني تغرق في عالم من الدخان والضجيج والوجل؛ فراح الظلام ينشّر أجنحته … يطوي بهن الأفاق.
كان العابر يغذ السير حاملا فانوسه؛ يحدّق في كل صوب؛ يبحث عن شيء قد أشتد لأجله شوقه وانتظاره.
وبينما هو على حاله إذ بفتى يرقبه، ثم ما لبث أن ناداه:
يا شيخ تبحث عن ماذا ؟ فسكن العابر برهة، ونظر إلى الفتى وهو يبتسم ... يلوّح بيده، ثم راح يواصل سيره، فما ازداد الفتى إلا فضولا، فخاطبه ثانية:
- ناشدتك الله إلا أخبرتني علامَ تبحث، وإلى أين أنت قاصد ؟
فرفع العابر رأسه كمن ضاق بأمر ذرعا:
- أيْ أخي قد مللت معاشرة السباع والهوام، وأجهدتْ روحي مخالطة الكسالى والأقزام الذين تعج بصخب ألسنتهم تلك المدائن؛ وتشمئزٌ من برودة أرواحهم كلُ الآفاق؛ فخرجتُ أطلب ماردا يملأ ذاتي بعنفوانه؛ ويعيد لهذه الحياة معناها ومبناها؛ ويروّح عن نفسي التي أثقلتها ثمارها حتى كادت أن تميد بها.
والحق فان أحدا سواه ليس أهلا لأن أقدم له ثمار نفسي، بعد أن فسدت أذواق الناس فما عادت تستسيغ إلا خمط الثمار. فعن ذالك المارد أبحث، وإن ِشئتَ: أبحث عن إنسان.
- قد غرتك نفسُك فخرجت تطلب العنقاء في ذراها وأنت الواهي الضعيف… عد أدراجك أيها الشيخ. ولست أدري علام تجهدُ ذاتك وقد أمكنك أن تقصرَ فضائلك على نفسك، ويسعك ما وسِع الناسَ، وليس لديَّ بعدُ ما أقول.
فلوح العابر بفانوسه وهو يحدق قائلا:
ما سألتك عن شيء لأطلب منك المزيد، " ولإنْ كان هذا رأيك فقد استرحتَ ".
أي أخي؛ لتعلم أن أحبَّ شيء عندي أعزُه وجودا. وأن كنتُ أبحث عن العنقاء في ذراها - كما تقول - فلست مثلك أبحث عن إثباتِ أمرٍ طاله الشكُ في نفسك فشبهته بالمحال؛ بل عن آت طال اغترابه أبحثُ، ومن أجل هذا قلت أنفا: " أبحث عن إنسان " ذاك الذي خُط اسمه من نسيج الحقيقة، واشتق سمته من روح الخير. ولو تدبرتَ لأدركتَ بأني أنتظر حضور يقين، أمّا أنت فتبحث عن دحض ٍ لشك، وأظن أن من أبحث عنه ينتظر أمثالي أيضا؛ لا أقصد شخصي الفاني، بل ما قرّ في ذاتي من يقين.
- هب أنك وجدته فما أنت فاعل؟ وأي شيء يقدمه مجهدٌ واهٍ مثلك؛ بفانوسه الكابي هذا!!
- هيهات لفانوسي أن يلف نورُه صرحَه الشامخ، غير أني بسعيي وجهدي أشعر بيقين يرفع ذاتي؛ يملؤها عطاء؛ أتطلع فيه أن يمكنني من أن أنبه نيام الناس كي يدركوا واجبهم تجاه الآتي عبر الأفاق وهو ينوء بوقر ثقيل. وهل مِن شيء أقدمه أكثر من عصارة نفسي وفكري... وهذه الدنيا قد لبستُ بها فأبليتُ الثياب. ومع هذا أراني ما زلت متسائلا عما إذا جاز للتلميذ أن يستعرض أمام الأستاذ حصيلة ما جناه من سانحاتِ المعارف وآلام الحقيقة؟ ثم رفع العابر رأسه منادياً:
يا حادي العيس هذه الجادةُ فأين السالِك ...!
قال الفتى: يا معلم وضح لي، فذهني عاجزَ عن أدراك ما تقول، إلا أنْ تريدَ أن تنأى عني بما تعرف.
- ها قد خالط الشكُ الموعظة، ألا ترى أن الرمزَ أبلغ في البيان حين تتحدث عن يقين شاخصٍ لا يحتاج إلى برهان صريح. على أني لا أجد فيما قلتُ رمزا مستعصيا، ولكن يبدو أن عارياتِ الحقائقِ قد غدتْ في أذهان الناس رموزا مستعصية وألغازا؛ لهذا كان عليّ أن أخوض الغمار وأقتحم سُخامَ الزيف وهو يعلو هامة العقول والأفهام.
- لكن قل لي أيها العابر ما لي أراك راجلا؟ وهل لعاقل أن يقطع الآفاق دون راحلة وزاد ؟
أجاب العابر: أما الزاد فقد صار لي دربة على تحمل الجوع مذ ألفت الطبيعةَ فصرت كما الطيور تخرج مع طلائع الفجر يملؤها الأمل والحبور لتعود إلى أعشاشها مساءا وقد امتلأت حواصلها حَبا، ولست حريصا بعدُ على أن انتقي لذيذ الطعام؛ فلذتي قد عبرت آفاقها وتحولت صوب بقية تحولاتي. أما عن الراحلة فأقول:
يُحكى أن رجلا حلّ به الترحال فنزل ضيفا على منتدى حكماء المدينة، وكان معه حمار، فجلس مع أناس منهم يعرفهم لينال قسطا من الراحة، فلما دنا وقتُ العشاء جِيء بسفرة الطعام فتذكر راحلته فقال للخادم:
يا هذا اذهب إلى الحظيرة حيث أودعتُ حماري وهيئ له التبن والشعير.
قال الخادم: قد سالتَ خبيرا فلا تشغل بالك.
- ولتقدم له الماء يشرب.
- ليس أحدا أحرصُ مني على واجب.
- وأوصيك بان تنزل عنه سرجه، وتداوي جرحه الذي في ظهره.
- يا سيدي: لا توصِ أمينا، أم تظن بي مثل أولئك الخدم الذين لا يأتي منهم سوى الإهمال والمراوغة.
هكذا تكلم الخادم
ثم انطلق مسرعا، لكنه لم يذهب إلى الحظيرة؛ وانتهب ثمن العَليق الذي كان للحمار، وخادع الضيف وانطلق إلى صحبٍ له أوباش.
كان الضيف مجهدا من طول السفر وكذلك كان حماره فنام، لكنه رأى الحمارَ في منامه وقد وقع بين براثنَ ذئابٍ ما تنفكّ تنهش لحمَه وهو يجأر متألما، فانتفض الرجل يتمتم:
وا حسرتاه أين الخادم .... أين الخادم
عجبا، ألم يأكل معنا الخبز بالأمس والملح؟ أم لعل هذه أضغاث أحلام.
لقد أكرمتُ الخادمَ وهو بلا شك سيعتني براحلتي، ثم عاودَ فنام؛ فرأى الحمار يسقط حينا في بئر وحينا في بركة آسنة؛ وكرة أخرى تنهشه عقاربُ وحيات. فاستيقظ وجِلا قائلا: وا حسرتاه ما الحيلةُ ؟ ..... لقد ذهب القوم وغلقوا دوننا الأبواب.
إنني لم افعل مع الخادم إلا خيرا فلمَ يتصرف هكذا ؟
لكن ما صنع الإنسان للحية والعقرب حتى أنَّ كلا منهما لا تُكِن له في سمها إلا الموتَ والهلاك.
لا.. لا
لا يجدر بي أن أقول هذا؛ فلمَ أظنُ هكذا بأخي الإنسان؟ كيف .... ؟ وقد أحسنتُ إليه وأكرمته!!
وظل الرجل تنازعه الوساوس حتى طلع الصباح.
أما الحمار فكان في حال لا تسر، فقد ظل المسكين طوال الليل بين التراب والحصى وقد تقطع لِجامُه وأنهكه الجوعُ والعطش. فبات جلّ ليله يردد:
يا الهي قد تنازلتُ عن الشعير، فهلْ اقلُ من حفنةِ تِبن؟ وهل ساعة من راحة وأمان؟
أيها الحكماءُ رحمة بي فقد هلِكت جرّاء هذا الغرور والكذب.
أيها الحكماء لقد احترقت في أتون أنانيتكم ووضاعتكم.
وحين طلع النهار جاء الخادم وسوى السرجَ الذي على ظهره طوال الليل؛ ووخزه فأخذ المسكينُ يتوثّب وينتفض من وخْزِ الإبرةِ، لكنْ من أين له لسانٌ ليفصحَ؟ ومَن له بأذن تسمع؛ فتلبي نداء آلامِه.
وحين امتطاه الضيف اخذ يسقط على وجهه ويتهافت، والناس ينهضونه كل مرة وقد ظنوا انه مريض فهذا يمعن في تقليب أذنيه وذاك يبحث عن حصاة في عينيه، ويقولون: أيها الرجل ما سبب هذا ؟ ألم تقل بالأمس إن لي راحلة قوية فارهة؟
- إن هذا الحمار الذي تعشى بالأمس حوقلات؛ لا يستطيع أن يسير في الطريق إلا على هذا النحو. فما دامت الحوقلاتُ كلَ غذائه بالأمس؛ فقد قضى الليلَ في التسبيح، وهو ذا يقضي نهارَه في السجود !.
إن كثيرا من الحكماء والساسة أكلة للبشر، فلا تلتمس في أقوالهم كثيرا من الأمان؛ ولا في أفعالِهم نصيبا من الخير؛ وما عاد – بمعزل عن الخير والشر – ثمة إنسان.
إن من يبحث عن معاناة الحمار ينبغي أن لا يفتش في أذنيه؛ بل في ضمائر الحكماء وخدمهم الأفاقون يفتش؛ فهناك تكمن معاناتُه.
هذا ما كان - يا أخي - من خبر الحمار. أما أنا فقد صار عليّ الا امتطي راحلة وأنا أجوس خلال الديار، وقد اتخذت من قدميَّ هاتين راحلة لي، كي لا أقع في حبائل الأفاقين.
أيْ أخي كثرا ما مررت بأمثالك وأنا أسبر حادثات الماضي وأعري أستار الحاضر فيشتد في نفسي أمل المستقبل وضّاءة أفاقُه؛ فما أعاقتني برودة من مررتُ بهم عن يقيني وواجبي، لكنني سأذكر لك - ممتنا - رغبتَك وصبرك على محاورتي … وداعـــا.
هكذا تكلم العابر
خليل حلاوجي
09-03-2009, 02:23 PM
بعد اسبوع ..
يحجم القراء عن قراءة هذه الخريدة الفلسفية المتقنة ... ليأخذنا الأمر إلى غثبات حقيقة موجعة ..
لم يعد لنا هنالك مكاناً ... ضمن السطور المحركة للوجدان
فقد انتصرت ثقافة الصورة ...
\
ولا عزاء ... للولاء أيها الفارس الذي يستصرخ فينا الوعي .
راضي الضميري
09-03-2009, 05:47 PM
أخي الفاضل أحمد فارس
نصّ يحمل أفكارًا قيّمة ، وقد قرأته منذ أنْ أدرجته ، ولكنّني آثرت أنْ أؤخر مشاركتي على وعد بالعودة ، فهو يستحق قراءة متأنية ومناقشة جادة لكل ما جاء فيه . أمّا من حيث الجمال والصياغة فهو جميل حقًا .
وربما تأخرت بسبب ظروف طارئة لكنّنا سنعود حتمًا .
تقديري واحترامي
احمد فارس
09-03-2009, 06:50 PM
((فقد انتصرت ثقافة الصورة .......... ولا عزاء)) لا اعرف كيف أرد على لغتك ايها الخليل. أتعرف انها غالبا تبهجني وتحزنني .... هكذا خليط من الانفعالات، لكن اجمل ما فيها هو ضغطها الساخر لكثير من المعاني بقليل من الكلمات. كم هي رائعة.
دعك من نص " الحمار " ودعني.
اريد التعليق على نافيتك للجنس هذه: ولا عزاء ههههه هل تعني لا عزاءَ ام الأخرى ؟
اذكر - حين اذكر - معلمَ العربية كان شرح لنا معنى لا النافية للجنس. وكان يهيمن عليه شاهدٌ دون آخر. فيردد لا رجلَ في الدار فيغرق في الشرح ويقول: نحن ننفي وجود جنس الرجال في الدار فلا رجل قصير ولا طويل والا ابيض والا اسمر ولا ولا .... هكذا لا أحدَ من انواع الرجال في الدار. فهل حقا الرجال أنواع أيها الخليل ؟؟؟
اما عن ثقافة الصورة واحجام القراء فهذا يا اخي شيء طبيعي؛ فلو كان لمثل هذه النصوص قراء - على الصورة التي تريد - ما كان لهذا النص ولا لسواه من وجود اصلا، لان قصديته تنتفي من منهجيتي.
انت تعرف لمن أكتب يا خليل. وقد كتبت وقد قرأ. وانت تعرف انْ لا تعنيني كثيرا الردود فلو كانت تعنيني لعرفتُ كيف احمل الناس عليها؛ وأين كل هذا مني! يا خليل
تحياتي لك يا اخي وامنياتي
احمد فارس
09-03-2009, 07:08 PM
أشكر لك مرورك يا استاذ راضي الضمير، وسرني تفاعلك وفهمك لمعاني النص. ولا شك فان لرأيك وذائقتك وقع في نفسي جميل. ارجو ان تتحفنا بالمزيد مما تكتب من موضوعات فهي تسرني وتبهجني وإن كان لا يسعني غالبا الرد عليها. لكنني على أيه حال أقرأ وأتابع. تحياتي لك أستاذي
خليل حلاوجي
10-03-2009, 07:47 AM
ثقافة الصورة لا تزل تؤكد أن رجلاً مثل عادل إمام سرق جمهورنا أيها الفارس وضاع السؤال من جديد عن الإمام العادل ... والناس يضحكون يضحكون لعادل الإمام ...
ثمة مفارقة في الممانعة ... تجعلنا نؤكد أن أمام المفكر مهمة جليلة ...
فماهوممكن من تغيير ... لانريده
وما نريده ... غير ممكن .
البداية عند النخب ... والمصير عند الجمهور .. هذا هو سر الحكاية
\
لك الود عامراً بالولاء ... فارسنا
بهجت عبدالغني
14-03-2009, 07:55 AM
نص ثري تمتزج فيه الحكمة مع الفلسفة في أسلوب أدبي مبدع ..
والكاتب الفارس يأبى أن يطفو على السطح في نصه ، بل يتوغل ليلامس البعد الثالث في الإنسان .. العمق ..
كاشفاً المظاهر الخادعة ، والشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ..
لينتج أخيراً هذه الخريدة الفلسفية المتقنة ـ على حد تعبير أديبنا الحبيب خليل ـ
أيها الفارس
دمت بألف خير
تحياتي
احمد فارس
14-03-2009, 05:30 PM
اشكر لك مرورك وتعليقك الثر يا أستاذ بهجت، وأتمنى أن اساهم معكم بما استطيع خدمة للحقيقة والجمال .... الجمال على اطلاقه؛ فهو سر الحكمة؛ لهذا احاول مزج عناصره بالفكرة؛ وصولا الى قلب الحقيقة.
تحياتي لك يا أخي وامنياتي
عبدالصمد حسن زيبار
17-03-2009, 01:26 PM
عميقة هي دلالاة هذا النص المتقن
إنها لغة الارتباط بين الواقع و المثال
وهو الهدم المكسر لوحدة الذات المتشاركة حد التشاكس
تجليات ذات بعد طهراني يتجاوز العتمة ليضيء بفانوس الحكمة مراتع الناس
يبدد أوهام التكلس الجامد
ويبني الوطن الحلم
احمد فارس
17-03-2009, 06:44 PM
شكرا لمرورك الكريم أستاذ عبد الصمد. ولقد أبهجتني طريقة اختصارك لتصوراتك عن معاني النص. لكنني وقفت أمام قولك: هو الهدم المكسر لوحدة الذات المتشاركة حد التشاكس. والحقيقة أنا لا افهم هذه اللغة الحداثية أو ما بعدها كما يقولون. فهل لي أن اطمع بمزيد من تفسر لعلي أفيد من فكرتك شيئا غاب عني. كن مرآتي. وتحياتي لك وأمنياتي
البربريسي
18-03-2009, 10:55 PM
نعم ما اجمل هالكلام الطيب الذي يربط بين الواقع والميثال
مشكور اخي الفاضل علي هذا الموضو الرائع
راضي الضميري
19-03-2009, 02:02 PM
في نصّ يتألق روعة وجمالا ، يحكي زمن الوجع هذا بلغة سلسة تصل إلى القلوب قبل العقول ، تخاطب إنسان اليوم ليتفكّر ويتدبرّ ويقول له لو أنّه استقبل من أمره ما استدبر لما رضيّ بحاله هذه ، ولانتفض على نفسه وعلى محيطه بكل قواه أو ما تبقى منها ؛ وليقول كلمته بدون خوف أو وجل ولراجع قراراته وتحمّل مسئولياته كما ينبغي .
نصّ ثري اللغة متوهجًا بعمق الدلالات والإيحاءات التي يطرحها بثقة وفلسفة رائعة ؛ تثبت بما لا يقبل مجلا للشك أنّ إنسان اليوم تحوّل إلى وحش كاسر ، سادي يلهو بمقدرات البشر بدون وازع من ضمير ، غير أنّّني لمحت – وهذا لا يقلّل طبعًا من قيمة النصّ - أنّ فيلسوفنا هنا ألقى خطابًا لم ينزل إلى مستوى فهم المخاطب ؛ فقد كانت لغته تحتاج إلى بيان مقصده بصورة أعم وأشمل مما بدا لذلك الفتى – إنْ أخذنا مدلول هذا المعنى على الحقيقة لا المجاز – فوضعه في زاوية حرجة مع نفسه ومحيطه فجعلهما سواء بسواء ، أي أنّ الفتى ودلالة وجوده كانت تقتضي فتح حوار يتناسب و حجمه ، لأنّ الحكمة إنْ لم تكون في موضعها تفهم بشكل خاطئ ، وعلى صاحبها أنْ يعمل جاهدًا لإثبات منطقه ، وما نلحظه هنا أنّ الفيلسوف كان يخوض حوارًا غير متكافئ مع ممثل – فتى – لمجتمع غارق في الفوضى ، وأغلبه قابع في معتقل صغير تفصل بينه وبين أقرب حضارة عاصرت التطور ولم يعشها قرنين من الزمان على أقل تقدير ؛ وهذه المسافة الضوئية قد أعطى الحمار صورة واضحة وجلية عن أسبابها وبدون أدنى شك كانت صورة مبهرة ورائعة أحييك عليها من كل قلبي وصفت بدقة متناهية عصرنا الحالي ، في اختزال مدهش .
لكن ما قصدته هو أنّ الفيلسوف بدا لي رغم عمق فلسفته بحاجة لأنْ يكون أكثر رفقًا بالفتى – بصرف النظر عن رمزية وجوده في هذا النصّ – لأنّ هذا الأخير ملتصق بمفاهيم بدا واضحًا أنّه لا يملك حولًا ولا قوة أمامها ، بل كان يائسًا وفاقدًا للأمل في تغييرها ، في مقابل آخر رأى أنّ البحث والتجوال عن شيء كان موجودًا ثم اختفى بفعل عوامل السياسة والاقتصاد والظروف الاجتماعية ، والسؤال الذي يطرح نفسه ؛ أين كان يتوقع فيلسوفنا أنْ يجد ذلك الإنسان إنْ لم يجده حيث كان ؟
ما يدعوني لهذا التساؤل هو أنّ بعض النّاس يهربون بحثًا عن الحكمة ، وإيجاد متنفس معقول لإعادة صياغتها وتعميمها بما ينفع النّاس حتّى يشعر بكيانه ووجوده كفرد يقدم واجبه نحو أمّته ، ولأنّني – وهنا فأنا لا أقصدك حتمًا – وجدت أناسًا كانوا ينشدون فلسفة وفكر يريدون لها أنْ تكون العلاج لكل ما نعانيه ، لكنها ثبت فيما بعد أنّها بعيدة جدًا عن العنوان الذي رفعه كشعار يبين مقصده ووجهته ، وخذْ عندك مثالًا على ذلك الفيلسوف الساقط خالص جلبي المتحصن في جبال كندا والذي كان حتى الأمس القريب يمتطي دراجة هوائية ثمّ رأى المرسيدس في ألمانيا فجنّ جنونه ؛ ثمّ أذهله بياض ثلوج كندا فنال جنسيتها ليقول فيما بعد ؛ إنّ فلسفة اللا عنف هي الحل الأمثل لحل مشكلاتنا في الشرق الأوسط بل في العالم كله من فساد وخراب يعمّ أرجاء وفضاء هذه البقعة الجغرافية المنكوبة ، ويا جماعة لمَ لا تضعوا الورود في فوهات البنادق – ويضرب أمثلة عن أوكرانيا وتركيا وإسرائيل أيضًا – في فوهات الأمريكان والصهاينة الذي يعيش في مجتمع متراحم ؛ رحماء بينهم أشداء على من حولهم ؛ بدلًا من هذا العنف الذي تمارسونه ، لمَ لا تكفون أيها الفلسطينيون والعراقيون عن سفك الدماء ، لمَ لا تتوقف موضة الانتحار التي أوجدها الفلسطينيون والتي جعلت أولمبياد بكين – في وقته – يعيش على أعصابه ، ولمَ كل هذه الوحشية في قتل عميل في غزة حيث أحرق فيما بعد ، وبالطبع هو ينسى هنا أنّ أمثال هذا العميل قُتل بسببه قيادات كبيرة وعظيمة ووطنية ما كان لإسرائيل أنْ تعرف بأماكنهم لو لا هؤلاء العملاء ، كما أنّ - يضيف هذا الساقط - الشهداء الحقيقيون هم من امثال غادني الذي يعتبره رمزًا له و وسقراط وأفلاطون والقس الفلاني والبابا العلاني وحدث ولا حرج عن فساده وفسقه الذي ملأ الآفاق ويوجد على شاكلته الكثير من أصحاب الكتب والفلسفة الفارغة .
ومما سبق – وأرجو أنْ لا يأخذك التفكير بعيدًا لأنّني لا أٌقصد النصّ ولا كاتبه في هذا الكلام إنّما أقصد كل مفكّر لا ينزل إلى أرض المعركة ويثبت وجوده الفعلي ، بدلًا من أنْ يوجهها بالريموت كنترول فإن أصابت كان بها ، وإن أخطأت فهو في حلّ من كل تبعاتها – أقول إنّ الفلسفة والفكر الذي يتلبسها عليه أن يكون قريبًا جدًا ما استطاع إلى ذلك سبيلا من عقول وقلوب النّاس ، وكلما جهل النّاس واستشرت مفاسدهم عليه أنْ يتقرب أكثر وأكثر ، هذا هو واجب المفكّر ، أنْ ينزل بفكّره وعلمه إلى الحارات والشوارع والأزقة متسلحًا بإيمانه وعقيدته الفكرية قائدًا لا تابعًا لرغبات من حوله ، مترفقًا بهم ، متواصلًا معهم .
أرجو أنْ لا تكون مداخلتي قد سبّبت لك أي إزعاج ، وأنا شخصيًا معجب بكل ما طرحته ههنا ، ويشرفني أنْ أتابع كل ما تكتب ، وما تعليقي إلا محاولة لخوض حوار بناء ، لأنّني بصراحة أمقت التعليقات الفارغة وكلمة شكرًا وجميل ويعطيك العافية ؛ لأنّها هي من تقتل تلك الأفكار الرائعة التي يطرحها من هم يحملون فعلًا هموم وقضايا ومشاكل هذه الأمّة ، وأنتَ منهم أخي العزيز أحمد فارس .
تقديري واحترامي
احمد فارس
20-03-2009, 05:13 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة أستاذ راضي
أكثر ما أبهجني من كلامك قولك: (( بصراحة أمقت التعليقات الفارغة، وكلمة شكرًا، وجميل، ويعطيك العافية ؛ لأنّها هي من تقتل تلك الأفكار الرائعة .... )). لأني أنا أيضا امقت هذا وأنظر إليه كنظرتي إلى الحضيض؛ إلا إن يكون مجاملة تلقائية، لا سلوكا مرضيا يتفشى فينا، على حساب الحق والموضوعية؛ لا سيما حين يكون الممدوح امرأة أي إمرة، المهم أنها امرأة. وهذا سلوك الصغار يا أخي؛ وهو متفش في منتدياتنا إلا من رحم الله. فهل رأيتني انتظر هذا ؟؟ لا أظنك. هههههه
أما تعليقاتك فهي وجهاتُ نظرٍ قد نتفق فيها وقد نختلف. ولا املك إلا أن احترمها.
ألفت نظرك أن النص جزء من مجموع، وهو يتكافل مع بعضه ليشكل رؤية استراتيجية لتصورات لا أظن بك تسلم بصلاحية امتدادها لتكون نصا يقرأه كل قارئ. وارجو ان تقرأ: نص " قبل عشر من السنين " وبنات الليل؛ لمزيد من التوضيح.
أما النزول إلى الجمهور فهذا طور من أطوار الخطاب؛ لست بصدده مباشرة؛ لأن هذا لا يجدي الآن فالتلوث جاوز القاعدة وأصاب الرأس والرأس بؤرة الآلام.
أما بخصوص " خالص جلبي " فببساطة لا اعرف الرجل ولم اطلع على أفكاره بما يعطيني الحق لأحاكمه. ومَن أنا كي أحاكم الناس؟ لكن أذهلتني مقارناتك رغم انك كررت الاستثناء. تمنيت أن تنظر إلى النص نظرة لا علاقة لها بافرازاتٍ وخلافات لست طرفا فيها ولا يعنيني أن أكون.
أميل هنا إلى التجريد لتصحيح الأفكار ونقدها ودحض مرتكزات التخلف والوهن من الداخل. وأرجو أن تعرف أنني أتصدى في هذه السلسلة لأعتى منافذ الشر ومصادر الظلام وبآليتها وخطاباتها، ليس في واقع المسلمين فحسب بل أهاجم روح الشر أين ما حل وعلى أية هيئة تشكل، وخصوصا في مضمار جرائم الفكر والخطاب واللغة وفلسفة القيم، وهذا أمر يطول شرحه، لكنْ أحجم عن بسط كل الأفكار لأنك تعرف أن هذا ليس مكانها؛ بدليل أن مَن تعنيهم ويكترثون بها قليلون. ولعل كلماتي ليست لآذانهم، وما الضير؟ ليبحثوا لهم عن كلمات يسمعونها.
ليس هذا خطاب للجمهور الذي تعني، وهذا ليس ترفعا بل تخصصا بل تمييزا بل فرزا؛ والا لكانت سلسلة تاريخ الفكر كلها على نمط واحد.
وحتى لو حملنا الأمر على مستوى الفن والأدب فانا مؤمن تماما أن من الفنون والآداب وتحولات الجمال وتعبيراتها ما ترتقي إلى مستويات بحيث لا تستسيغا إلا ذوائقَ خاصة. علينا أن نحمل الناس على الارتقاء نحوها لان الجمال تجريدي. وسترى لاحقا إن شاء الله كيف تحارب الكلمات على كل المستويات حتى مستويات الفن واللغة ونظريات المعرفة والدين والسياسة. أما مصطلحات السلام والعنف والقوة والضعف والتميع والتشدد والغلو والأبراج العاجية والانكفاء فهذه كلمات لا تعنيني الآن، وليست هي إلا افرازات وقائع معينة ونتائج تمخضات لأشياء سبقت. وأجدني مضطرا أخيرا – لأني اشعر بحاجة إلى التوسع حيث لا يسعفني المقام - أن اختصر لك الأمر فأقول إن هذا النص وسابقه ولاحقه هو تعريف مستجد لروح الشر؛ فالشر أصبح متخفيا بلبوس الخير فما عاد من السهل تسميته بهذا الاسم وتلك هي الفاجعة. فلا تتعجل وتطالبني بحلول فأنا لست من قادة ثوار العرب.
يسعدني أن تكون قسيمي في هذه الرحلة التي اطرح شذرات منها؛ على ضعف بشريتي وقلة حيلتي. وهل أنا في هذه إلا عابر سبيل.
نعم يسعدني أن تكون قسيمي بذكائك الوقاد ونفسك الوثابة، لكن خفف الوطء فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد. كما يقول المعري.
بارك الله فيك واسعد قلبك.
راضي الضميري
21-03-2009, 11:32 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة عطرة أستاذ أحمد
سيكون كلامي تحديدًا عن أول 15 سطر – ولن أقتبسها تجنبًا للإطالة – ففيها برأيي كان ردك ، وفيها اختصرت كل ما تريد قوله .
أمّا بخصوص الإشادة التي أشكرك عليها فهي واقع ملموس ، وإنْ كنت لا أعني بها كل أخ أو أخت بشكل عام ؛ لأنّ النوايا لا تستطيع أنْ تحكم عليها إلا من خلال شواهد تؤكد وتثبت حقيقة مذهب سين أو صاد من النّاس .
أمّا بالنسبة للاختلاف أو الاتفاق على وجهات النظر ؛ فهذا حقّ مشروع للجميع ، كما تفضلت وقلت " يحترم "، وهذا واجبنا جميعًا كقراء وكتّاب .
أمّا بخصوص لفت نظري لقراءة النصوص التي أشرت إليها فقد قرأتها أكثر من مرّة ، ولعلك لاحظت ذلك على الأقل مرّة واحدة لأنّك ردّدت عليّ فيها . .
أمّا بخصوص النزول إلى الجمهور وقولك أنّه طور من أطوار الخطاب لست بصدّده مباشرة ، فلديّ قناعة تقول : نحن هنا نتكلم عن أمور فكرية بالدرجة الأولى - وبثوب فلسفي بديع كما نراه واضحًا من كلامك - الهدف منها إصلاح منظومة من الأفكار الدخيلة - والعميلة - والتي أفسدت العقول ، و شوهت المفاهيم ، تحت شعارات الحداثة والتجديد وحاضنتها الأمّ العولمة ؛ وهذه الأمور لا مجال لتفكيك أوصالها وفرزها للاشتغال على جزء منها دون آخر ، والاشتغال على جزء دون الآخر يترك مساحة كافية وزيادة لكي يلعب ليس طرف واحد بل أطراف ؛ يحملون معاول الهدم ويمتلكون كل أدواته ، ونحن بحاجة إلى تضييق الفجوة تلك ، وعدم منح الفرصة أثناء محاولتنا للإصلاح لأولئك الذن يدّعون أنّهم من حملة لواء الإصلاح ، والإعلام له سلطة حقيقية على جمهور لا أريد أنْ أطلق حكمًا قد يبدو قاسيًا عليه ؛ كي أبدو وكأنّني لست منهم أو متعالي عليهم لا قدر الله تعالى ، ولكن أقل ما يمكن قوله أنّ هناك شريحة كبيرة منه لا تملك القدرة على تمييز الغث من السمين ، وأولئك صوتهم يصل حيث لا تستطيع أصواتنا أنْ تصل حاليًا على الأقل ، ويمتلكون من المؤهلات – لغة ، علم ، مال ، منابر إعلامية لها وزنها ..الخ – فلمَ لا يكون الخطاب عام وموجه .؟ ستقول لي اقرأ ما كتبته ، سأقول لك قرأت ما كتبته ، ستقول لي ألم تفهم ما أعنيه ؟ سأقول لك فهمت ؛ ولكن لم أرَ أي إشارة في نصّك هذا يقول بأنّه تتمة للأفكار التي سبق وأنْ طرحتها في النصوص التي أشرت إليها سابقًا ، مع العلم أنّني قرأت ردًا لعضو أديب فاضل أشار عليك بجمعها في متصفح واحد لكونها سلسلة تكمل بعضها بعضا ، إضافة إلى أمر مهم يقول : كيف يمكن لمن يقرأ هذا المقال الجميل – وهذه ليست مجاملة لأنّني لا أجامل في مثل هذه الأمور وأعلم أنّك ترفضها من حيث المبدأ – أنْ يعرف أنّها ضمن سلسلة ولها تتمات وأنت لم تشر إليها هنا في هذا المقال بالذات ؟ إذا افترضنا أنّه لن يقرأ سوى هذا النصّ ؟ بينما نجد في نصّ " بنات الليل وأبناؤه " أنّك ذكرت في مقدمته تفاصيل الرحلة التي ستقوم بها ، وهذا الأمر الذي ذكرته هنا هو تابع أصيل لما سأقوله لاحقا .
النقطة الأخرى المهمة في حديثي – وهي لاحقا - تقول بعد أنْ أقتبس هذه الفقرة :
((
أما بخصوص " خالص جلبي " فببساطة لا اعرف الرجل ولم اطلع على أفكاره بما يعطيني الحق لأحاكمه. ومَن أنا كي أحاكم الناس؟ لكن أذهلتني مقارناتك رغم انك كررت الاستثناء. تمنيت أن تنظر إلى النص نظرة لا علاقة لها بافرازاتٍ وخلافات لست طرفا فيها ولا يعنيني أن أكون.
.
بداية أنا لم أشر إلى هذا الرجل لمعرفة شخصية لسابق عداء ومعرفة شخصية بيني وبينه ، ولا يحق لأحد محاكمته دون الرجوع إلى ما يكتبه هذا هو العدل ، وإنّما قلت ذلك للفت نظر القارئ الذي قد لا يكون قرأ – ربما- باقي نصوصك ، ولأقول له أنّ هذا الفيلسوف الذي يخاطب الفتى والباحث عن الإنسان والحق والفضيلة والتارك لمن هم خلفه على خلفية جملة من الأسباب كان " الحمار " أبرز مثال لها جسد الواقع على صورته الحقيقية وبمنتهى الدقّة ، إلى أين سيذهب ؟ أين سيجد مراده بعيدًا عمن تركهم خلفه ؟ سؤال قد يوجهه أي قارئ لنصّ لم يطّلع على باقي فصوله الأخرى ، لأنّ من السهل أنْ نتحدث بلسان الحكمة ، ولكن التطبيق العملي وقراءة ما بين السطور لهذا الحكيم أو ذاك هي التي تجعلنا نحكم على الفعل والقول ومدى مصداقيته وشفافيته ، وعدم خروجه أيضًا عن سكته الصحيحة ، وليشوه فيما بعد القيم ؛ ويبث شكوكه وسمومه في ثوابت هذه الأمّة ؛ وخير مثال على ذلك خالص جلبي هذا ؛ وهو أمر عادي أنْ نستشهد حين نتكلم عن مثل هذه الأمور الفكرية أنْ نستعرض نماذج حيّة لأشخاص سواء أكانت مع الفكرة أو ضدها .، وهنا أقتبس للمرّة الثانية ما يعزّز رؤيتي من " 3 قبل عشر سنيين " إذْ تقول :
3
لا تدعْ لسانَك ينطق بكل ما يسمع؛ حينها ستجد أن قليلا من الكلماتِ هي التي يجب أن تقالَ قُبالةَ الكثيرِ من الأفعال. فلا تجعل عقلك عبدا ذليلا لتصوراته؛ يظن انه قد أوتيَ حكمةَ الشمس.
****
وهل من عار أحط من عار أولئك الذين يجعلون الكلماتِ مطية يجتازون بها مفاوز المسؤولية هربا من الواجب؛ أو يتخذون منها شاهدَ زورٍ أو وسيلة تدليسٍ؛ ليمرّروا بها مواقف الأنانية والطمع في آرائهم وأمانيهم.
****
لا تحوّل اللغةَ إلى بغيّةٍ لعوب لتجعلِ المعاني ماخورا للأهواء، فتحول الكتابة إلى سلعة تتكسب بها؛ ثم توهم نفسك انك عن الحقيقة تدافع؛ وبالمعرفة تنطق، وهذا لن يدعك حتى تتحول إلى مهرج أفّاق لا يرى إلا نفسَه وهو - على الحقيقة - لا يرى إلا ظلالا شاحبة.
****
وها أنت تشهد صبيان المعرفة قد تناوشوا أثوابه التي كان بها مسجّى. فراح ارث الفلاسفة تتخطفه سماجة كل منحل معاق تتفجر نفسه شبقا وعنجهية؛ فحتى مواخير الليل بات لها فلاسفة وفلسفات.
****
كم من كلمةٍ أحرقتْ عالما بأسره، وكم من حروف أزهقتْ أرواحا وحطمت آمالا فتية! فلا تحسبْ أن ما تلقيه على العُشبِ اليابس لن يخلُفَ وراءَك حَطْما ودمارا.
****
وكل ما ورد ذكره في كلامك القيم والرزين ؛ ينطبق قولًا واحدًا على هذا المذكور أعلاه ، وهذا واجبنا أنْ نكشف خلال محاولاتنا هذه المتواضعة كل أساليب وأفكار من يحولون دون تنقية الأجواء وخلق المناخ المناسب لبعث الروح وإيقاد شعلة الإصلاح في ذهن وعقول أبناء هذه الأمّة. ولا يعني عدم معرفتك بخالص أنْ لا نقحمه في مواضيع تتناول كل ما سبق ذكره وهو يتناولها أيضًا ؛ ولكن صوته مسموع أكثر ، وسبق لي وبينت كل ذلك .
الخطاب أستاذ أحمد عام ، ولكل إنسان حقّه المشروع في فضح وكشف زيف إدعاءات كل أولئك الذي يعملون على تخريب وعينا بل وإفساده ، وأنا طبقت عمليًا كل ما جاء في الاقتباس الثاني من " 3 قبل عشر سنيين" .
أمّا حديثك حول أمنية تناولي للنصّ بعيدًا عن خلافات وإفرازات لا علاقة لك بها ولا يعنيك ؛ فهنا دعني أقول بصراحة مطلقة أرجو أنْ تكون هي سمة أي حوار قد يدور مجدّدًا في المستقبل ؛ هذا الكلام يشي بأنّني كنت في عالم ونصّك في عالم آخر ، ويقول أيضًا بأنّك حكمت على الأمر برؤية شخصية ولم تنظر لها من زاوية ما يقول الرجل بدليل أنّك على الأقل لم تبدي تأييدًا أو اعتراضًا على ما ذكر ، وهذا من حقك ولا نتدخل به ، لكن قولك لا يعنيني فاسمح لي هنا أنْ أقول لك أستاذ أحمد و بالرجوع إلى الاقتباس الثاني من " 3 قبل عشر سنيين " أنّك معني بشكل أو بآخر ، لأنّ الإصلاح ومحاربة الفكر الفاسد والدخيل والمجرم - وهذا كله ذكرت أنّك ضده بل ذكرت أكثر من ذلك - فكيف لا تكون معنيّ بمن يهدم في حين أنّك أنت تبني ، وكيف لمن يبني بإمكانيات محدودة أنْ يستمر ويأمل بأنْ تثمر ما يقوم به من محاولات و جهود صادقة في مواجهة من يملك إمكانيات هائلة ويهدم بسرعة قياسية .
هذا ما أردت أنْ أقوله أستاذ أحمد ، ذكرت " الحمار " فكان شاهد عيان على الحال الذي نعيشه ونتخبط فيه ، وذكرت الحكماء فكانوا خير مثال على فسادهم وبؤس مجالسهم ؛ وسوء أعمالهم ، وقبح أفكارهم ، ثمّ ذكرت الفيلسوف وكانت وجهته غير محدّدة في هذا النصّ على اعتبار أنّ للحديث بقية ، وهذا الحديث كان له خلفية ، فجاء مثالنا عن فليسوف – وهو على أية حال لا فيلسوف ولا ما يحزنون – لنقول لمن يقرأنا أنّ بعض النّاس يبحثون وقد يتوهون في معمعة هذه الدنيا ، وحين تقف المصلحة الشخصية أمام المصلحة العامة ويبدأ ميزان التجارة لعبته المكشوفة ، فنرى عندها كيف يتحوّل الفيلسوف أحيانًا إلى تاجر شاطر بالمعنى الحرفي لمعنى شطار .
وأتفهم تمامًا كل ما جاء في ردّك ونحترمه ونقدّره .
أرجو أنْ لا أكون قد أطلت في الحديث ، وأتمنى لك التوفيق من كل قلبي ، وسنكون قارئين لكل ما تكتب ، وقلمك أمام مهمة جليلة؛ ونحن نبارك هذه المهمة .وأرجو أنْ لا يكون الاقتباس من نصوصك قد شوه النصّ أو أنْ يفهم منه ذلك .
بارك الله فيك وأسعدك في الدارين .
تقديري واحترامي
احمد فارس
23-03-2009, 07:11 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة مباركة استاذ راضي
اشكرك وافر الشكر على ملاحظاتك القيمة
وددت ان اضيف شيئا يا اخي:
عندما قلتُ: انني غير معني فانما اردت انني غير معني بالرد على الاشخاص في هذا المضمار؛ وانما عنايتي منصبة على مقارعة النظم التي تسير هؤلاء الاشخاص وتصنّع مواقفهم وتتحكم بمنتجاتهم. ولك ان تقول: هدفي ان اكون خزافا يصنّع من يقاومهم بوصفهم أشخاص.
مشكلتنا اننا بتنا لا نستطيع االحصول على اسلحة مناسبة للاتيان على معاقل الشر بادوات مستجدة. اما حملة أفكار الشر والانحطاط بكل الوانه فلا قيمة لسعيهم لو تمكنا من دحض وتحطيم مرتكزات الافكار والنظم التي تصنعهم.
والتساؤل الان: هل يعني هذا اننا نتركهم يسرحون ويمرحون. الجواب لا . لكن لكل مضمار ادواته ولكل مهمة رجالها و نساؤها. فهذا يحارب من على منبر وهذا يحارب بريشة وذلك يحارب بسيف، وثمة من يحارب بابتسامة . ثم أن هنالك من يحارب الجراثيم التي يعاني منها الجسد وهناك من يحارب الجراثيم التي تصيب القيم والسلوك. لكن هناك على الدوام حاجة ملحة الى من يصوغ قوانين تعبئة الجنود ..... هناك حاجة الى من يحدد ويؤشر على مواطن ومعاقل الشر ومرتكزاته وادواته؛ وهذا هو المستوى الاستراتيجي الذي لا بد من اجراء عملية احيائية له؛ مع مراعاة التبسيط وانزال الافكار من عليائها - لاسباب كثير - بحيث تخاطب العقل والوجدان بمستوى ما تخاطب الفكر والافهام؛ لأجل هذا اتت هذه النصوص مبحرة على امواج الفن والكلمة الجميلة، وليقل عنها من يقول ما شاء؛ فلن ادعي غير انها تجربة.
واعترف اني اخطأت بانزال المقتبسات هنا لانها على الرغم من ان موضوعاتها مصنفة تصنيفا منظما بحيث يمكن لكل واحدة منها ان تفي بغرضٍ تصدت له؛ لكن اعود واقول بان الافتقار الى التركيب والربط افة ثقيلة. وعلى اية حال ارجو قبول هذا الاقتباسات على اساس انها موضوعات مستقلة. اما الكل، اما الهدف الاكبر منها فلمّا يحن وقته بعدُ، فافترضْ ان هذا قصور مني. فمعذرة
تحياتي لك وامنياتي
راضي الضميري
23-03-2009, 08:07 PM
أخي الأستاذ أحمد فارس
أنت إنسان نبيل ، وثقتي بك كبيرة ، ولم يكن هناك من داعي لكلمة "المعذرة" ؛ ونحن هنا نتحاور حول أمور غاية في الدقّة الغاية منها النهوض بهذه الأمّة والمحافظة على ثوابتها وقيمها ، وكشف زيف كل من يدّعي أنّه مع هذا الهدف ؛ في حين أنّه يحمل مشرطًا - وإنْ شئت قل مدفعًا - ليهدم كل ما سبق ذكره.
قد نتفق أحيانًا مع بعض الطروحات وقد لا نتفق ؛ وهذا مؤشر صحّي لا غبار عليه ، ما دام الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية ، وما دامت الثقة بيننا كبيرة والهدف واحد .
أحترمك كثيرًا ، وبانتظار جديدك .
تقديري واحترامي
عبدالصمد حسن زيبار
02-04-2009, 09:13 PM
شكرا لمرورك الكريم أستاذ عبد الصمد. ولقد أبهجتني طريقة اختصارك لتصوراتك عن معاني النص. لكنني وقفت أمام قولك: هو الهدم المكسر لوحدة الذات المتشاركة حد التشاكس. والحقيقة أنا لا افهم هذه اللغة الحداثية أو ما بعدها كما يقولون. فهل لي أن اطمع بمزيد من تفسر لعلي أفيد من فكرتك شيئا غاب عني. كن مرآتي. وتحياتي لك وأمنياتي
يقول رب العزة في محكم تنزيله :
{ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا } (الزمر:29)
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir