المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أستاذي لا يحمل شهادة عُليا



د عثمان قدري مكانسي
11-03-2009, 12:53 AM
أستاذي لا يحمل شهادة عليا
الدكتور عثمان قدري مكانسي

دخلت بيته وأنا غلام ، سألتهم أين صاحب البيت ؟ قالوا في غرفة أمه .. كان الصبيان وأمهم يأكلون الخبز اليابس مفتتاً في شوربة العدس مع البصل اليابس . .. كان الوقت ظهراً وأنا جائع ، فجلست معهم آكل . وكل طعام لذيذ حين يكون المرء جائعاً . شبعت ،ثم شربت كأسين ماءً بارداً من ( الخابية ) ، فارتويت – والخابية : إناء فخاري كبير ذو مسامات دقيقة يرشح منها الماء فيبرد ما فيها، وحمدت الله تعالى على نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى .
طرقت الباب ودخلت عليهما ، فسلمت فردّا السلام . كان وحده معها يطعمها بيده اللحم المشوي ، ويحدثها ، ويمازحها ، فتردّ عليه بما يثلج صدره فيضحك ، ثم يعود إلى إلقاء بعض الكلمات فتسبه سباً لطيفاً فيعود إلى تقبيلها من يديها ثم من خديها ورأسها . وتقول لي أسمعت ما يقول عمك يا عثمان ، فأرد : لا دخل لي بين البصلة وقشرتها ، فتسبني قائلة أنت مثله قليل الأدب ، فأضحك وأقول : قصدت التفاحة وقشرتها يا جدتي . فتبتسم وتقول داعية لنا جميعاً : اللهم ارض عنهم وعن أبنائهم ، فأنا راضية عنهم .
لم يكن عمي وقتذاك ميسوراً ، وطلبت منه جدتي اللحم المشويّ . إنه يطلب رضاها ويودّ أن يكون بها باراً ، فالجنة تحت أقدام الأمهات ، وكان يردد القول المأثور : " برّوا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم " . فكر قليلاً ثم قال لزوجته – وهي امرأة لبيبة عاقلة – يا ابنة عمي ؛ لن أستطيع شراء ثلاث كيلات من اللحم لتاكل الأسرة كلها معاً ، ولن أشوي نصف كيل من اللحم وأضعه أمام أمي ، والأولاد ينظرون ، إنهم لا يقدّرون الظروف فهم صغار لا يعقلون . وسيتألمون إن رأوا جدتهم تأكل اللحم وحدها ، وهم يأكلون شوربة العدس المطحون . وقد يمدون أيديهم إلى اللحم ويسبقون جدتهم في أكله . أشغليهم بالأكل وسأدخل إلى أمي فأطعمها ثم أعود إليكم .
حفر عمله هذا في قلبي حباً للوالدين ، فكان لي أستاذاً ومعلماً ، ولن أنسى هذا الدرس ما حييت ، ولأحدثَنّ به كي يتأساه كل ذي قلب حي وعقل عقول .
مرت الأيام ، وشب الصبيان فصاروا آباء . وكانوا بارين بواليديهم ، يتأدبون بحضرة والدهم ويتلطفون مع أمهم .
علّموا أولادهم أن الجد والجدة مقدّسان ، وأن نيل البركة كل يوم بتقبيل يديهما وطلب الدعاء منهما والتأدب بحضرتهما . وإدخال السرور إلى قلبيهما .
عمي الحبيب له بقالة يعمل فيها ويساعده أبناؤه .. كبرت هذه البقالة ، وفتح الله باب الرزق الطيب الوافر عليهم ،
يجلس الآن بينهم فيسارعون إلى مرضاته ، ويقولون له : إذا دخلت المحل كثر الزبائن يا أبانا ، فما السبب؟!
فيقول : أدبكم يا أولادي معي ومع والدتكم ، وحسن أخلاقكم ،وطلب الرزق الحلال ، وابتسامتكم في وجوه الناس يجلب رضاء الله . ويزيد في الرزق .
يلتفت إليّ قائلاً : أنا رجل عامّي يا ولدي ، لا أعرف العربية مثلك ، ولا أتقن القراءة ، فأسمعني شيئاً من القرآن وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهما الماء للعطشان والزاد للغرثان .
وعلمت أنه – أطال الله في عمره وحسّن عمله – يجلس بين أترابه ، فيحدثهم بما سمعه وما فقهه من علم وأدب وتفسير وسيرة ، فهو يتعلم ويعلم . ونعم المعلم المتعلّم .

حسام القاضي
11-03-2009, 06:27 PM
أخي الفاضل الأديب / د. عثمان قدري مكانسي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً بك وبأدبك الهادف الراقي
قصة حوت الكثير من الدروس والعبر في سرد أنيق متمكن
نعم هو أستاذ في الحياة كما كان السابقون ..أستاذ بالفطرة السليمة
لقننا دروساً يحتاج شرحها إلى مجلدات ..
هكذا يكون المسلم الحق .

تقبل تقديري واحترامي

بهجت عبدالغني
11-03-2009, 06:44 PM
( أستاذي لا يحمل شهادة عُليا )

نعم .. يحملون الشهادات العليا والألقاب العلمية الفخمة ، ولا يستفادون منها شيئاً ..

أما أستاذنا هذا ، وإن لم يحمل شهادة عليا ، فهو المعلم الذي نأخذ من كلماته البسيطة التي تنبع من فطرته السليمة دروسنا ، ونستلهم منها المعاني الجليلة ..

الدكتور عثمان قدري مكانسي
دمت بخير


تحياتي

د عثمان قدري مكانسي
11-03-2009, 10:26 PM
أستاذيّ الحبيبين الأخ الفاضل حسام والأخ الفاضل بهجت
شكر الله لكما هذا التشجيع ، وأسأل المولى أن يتقبل أعمالنا جميعا ، وأن يبصّرنا درب الهدى والرشاد .
وتقبلا مني الود والتحية
عثمان

عطا سليمان الطل
13-03-2009, 09:01 AM
أخي عثمان
نعم العم ... ونعم الإبن ...!!
استمتعت كثيرا بالقصة وأكثر ما أعجبني زوجة العم فهي ندرة في هذه الأيام تستحق فعلا
الإحترام .
دمت مبدعا

د عثمان قدري مكانسي
13-03-2009, 08:45 PM
شكراً يا سيدي لمرورك اللطيف .. أحسن الله إليك
أخوك عثمان

آمال المصري
25-08-2013, 09:17 PM
هو لم يحمل شهادة عليا .. ولكن ما حمله من تجارب وحكمة أجل وأعظم ممن يحملون شهادات لاينتفعوا بها ولم ينفعوا بها غيرهم
نص يحمل درس وحكمة بأسلوب ماتع يجبر المتلقي على المتابعة حتى النهاية بحبكة قوية وسرد بديع
بوركت شاعرنا الفاضل
تحاياي

د عثمان قدري مكانسي
25-08-2013, 10:30 PM
نعم يا أختاه ،،، وأرى أن (أختاه )أقرب إلى قلبي من ( أختي)
نتعلم من كبارنا ما لا نراه في الكتب
ويثبت العلم العمليّ في النفس أكثر من العلم النظري
لك خالص تحيتي

نداء غريب صبري
13-09-2013, 11:49 PM
قصة جميلة فيها درس كبير وحكمة
شكرا لك

بوركت

د عثمان قدري مكانسي
14-09-2013, 07:58 PM
كنت في حلب في الاسبوعين الماضيين وزرت عمي الفاضل وتعرفت على أولاده وأحفاده ،
تصوروا أنني لم أكن أعرفهم منذ خرجت من مدينتي حلب في أول ثمانين القرن الماضي ، ورأيت نفسي بينهم مثل أصحاب ا لكهف..!
كان قصف النظام المجرم للاحياء وتدميره للبنية التحتية والفوقية يذكر بالتتار ، بل هم أرحم منه لكن السوريين اعتادوا ذلك وصمموا أن يرتاحوا من هذا النظام الجائر
لك تحيتي أختي نداء..

كاملة بدارنه
18-09-2013, 10:14 PM
نصّ رائع فيه عبرة من معلّم لا يحتاج للشّهادات
بوركت
تقديري وتحيّتي

ربيحة الرفاعي
05-10-2013, 02:37 AM
لم تصنع الشهادات يوما الرجال ولا شهدت بأقدارهم إلا إذا وافقت في بناهم الفكرية والأخلاقية ما يعادلها ألقا ، فإن كان ولم تكن فالألق قائم، وإن كانت ولم يكن فهي ليست أكثر من أوراق إقرار بما أمضوا من أعوام في دراسة محددة الاتجاه لا تزيد فيهم

قصة تربوية هادفة سامية الغرض

دمت بروعتك

تحاياي

ناديه محمد الجابي
05-10-2013, 06:55 PM
ونعم المعلم المتعلم
وما أجملها من قصة تدخل إ لى القلب تبصرنا وتعلمنا وترشدنا
إلى كل معنى جميل وجليل ـ وكما قلت إن العلم العملي هو أثبت
في النفس من كل كتب العالم.والرجل لا تقيمه شهاداته وإنما
يقيم بدينه وإسلامه لإن الذي يعرف الله ومتمسك بتعاليمه
سوف يكون أفضل من كل شهادات الكون.
نص قصي جميل وهادف في لوحة لغوية راقية
أشكر لك نصا أمتعنا وعلمنا وأحييك أديبا.

د. سمير العمري
18-12-2013, 02:38 PM
العنوان يلخص الحكمة البالغة والتي يجب أن يعيها كل إنسان ممن بات معيار الفهم عندهم ومقياس التعلم شهادات باتت أرخص من ثمن فطيرة وبات أصحابها أهون من طفلة غريرة.

نعم الأستاذ هو من ملك الحكم والحكمة وجعله الله نبع خير ومصدر حب وخلق وسلام.
أنعم به أستاذا ، وليت أبناء الأمة يدلون دروبهم ويعرفون مواردهم ويشكرون ولا يجحدون.

تقديري

د عثمان قدري مكانسي
24-12-2013, 09:39 PM
ادخل إلى صفحتي هذه فأرى نجوم الواحة الثقافية يضيئونها
- الدكتور سمير العمري
- الاستاذة ربيحة الرفاعي
- الأستاذة كاملة البدارنة
- الأستاذة نادية محمد الجابي
فأسعد بوجودهم وأشكر المولى تعالى أنه رزقني إخوة وأخوات أدباء من الطراز الرفيع ،
بيننا تنعقد كلمة الحق الأبدية ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )
لكم كل حبي وتحياتي القلبية
عثمان

خلود محمد جمعة
30-12-2013, 11:50 AM
بل يحمل شهادة عليا من الصعب على الكثيرين الحصول عليها
ويحمل من الأخلاق والحكمة ما يستحق عليه اعلى الشهادات
سردت الكثير من الحكم بأسلوب رائع وحرف جميل
دمت بخير
مودتي وتقديري

د عثمان قدري مكانسي
30-12-2013, 01:04 PM
كدتُ أبكي - يا أختاه حين وصل تعليقك على القصة - ، بل دمعت عيناي حقيقة ،
فعمي هذا لم أسمع بخبر عنه منذ ثلاثة أشهر ،
وقد نزلت مئات البراميل على حلب فهدّمتْ عشرات الأبنية التي لحقت باخواتها
وقتلت أكثر من سبع مئة رجل وامراة وطفل .... هذا ما يريده لنا الأعداء و( الاعدقاء )
ليس في حلب كهرباء ولا نت ولا اتصالات .. وفي سورية كلها
ألا لعنة الله على الظالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله