عبدالسلام المودني
29-03-2009, 12:08 AM
في حضرة مولدي
فزعاً ينبض قلبي العليل بقوة شديدة. مطارق تدق بشراسة محدثة عويلا أخرس الملامح. يجتثني البياض المدثر لغرفة العمليات من عباءة الإدراك، ويلقي بي مترنحاً إلى أغوار غيبة بلا لون. تتراءى أمام ناظري صورة ملك الميلاد يبشرني أن ولادتي في الموت أمر وشيك ما دمت قد أتممت تشكلي الجنيني في رحم المرض. الأمر سيان عندي، لأن طفولة الأشياء تولد من رحم نهايات باهتة، بينما النهايات تبشر دوماً بشموس جديدة.
أستأذنه في أن يمنحني بعض الوقت لأناول معارفي رقم هاتفي الجديد، وعنوان سكناي القادم، وبريدي الإلكتروني. يبدي تفهماً ومرونة، ويطمئنني أني سأقع في حب أمي الجديدة كما القديمة التي أرهقت أيامي وقفاي ضرباً، وسترضعني من أثدائها السبعة طيلة حياتي في الموت حتى مولد آخر. يستمر في إغرائي فيعلمني أن ماري سبب تعاستي ومصدر آلامي هنا، أصبح اسمها هناك ماري، وأنها مشتاقة لي وتنتظرني بصبر لاهث.
لو أستطيع أن أفاوضه عن اسمي الجديد، إذ أني أكره اسمي الحالي، وأكره أن يفرض علي اسم يظل لصيقاً بي في الحياة الأخرى دون أن تحدث بيننا مودة كبيرة.
أفكر أن أفاعي الزمن هناك ستعوض عقارب الساعة هنا، وستلسع جسدي وتذكرني بضعفي كل يوم، وأن شيخوختي ستبدو سعيدة، حيث ستودعني أمي كتاباً أفر منه بعدما يمعن الفقيه في جلدي بسياط رهبته، وسيعودني كل ليلة في أرض الكوابيس، لأقصد الروض جذلاً مبتسماً في وجه معلمتي ذات اللباس الأبيض كممرضة تسهر على علاجي من داءاتي التي ورثتها عن أمي. وسألعب مع أترابي المسنين في الحدائق العامة. وطبعاً ستضربني أمي عندما ألطخ ملابسي، وسيغتصبني عشيقها حين تؤشر أفاعي شهوته إلى السكر التام.
أبرأ كهلاً من جراحي المقعية على ناصية روحي، وألج جامعة الموت لأتم جهلي القديم بنفسي ومعرفتي الكسيحة بما حولي. أقبل على الحب وعلى باقي ضرورات انصهاري في الآخرين، وجلد الوحدة التي تصر على تعقبي ومحاصرتي في زواياها الصدئة.
تلقيني أيادي الأيام إلى نمطية النسيان لألفيني شاباً يكتشف العاهات والبطء، ونوافذ الذكريات المشرعة على الفراغات القاتلة.
تفارقني ماري إلى ولادة أخرى، أو موت محموم جديد، وأخلص إلى وضاعة عيشي وحقارته، ولا جدوى حياتي، وصمت سماواتي، وشح روحي.
في انتظار الخلاص والرحيل أهرع إلى طفولتي، أعتكز الألم، وأتبول في سريري، وأدرك بحرقة حاجتي لمن يرعاني. وليداً أبحث لخطوي عن أرض غير متجهمة، ولأحلامي عن سماء تحويها. أقابل أمي على فراش الكلمات الأخيرة. أخبرها بعد صمت تتخلله زفرات شاحبة بسر كتمته طويلاً عنها وآن لها معرفته.
- لست ابنك سيدتي، أنت أم لقيطة.
هدير القطار يشي بطول الرحلة، والعناكب تلمح إلى هجر شقوق المحطة، والخرابات توحي بأني ساكنها الوحيد. يصفق باب غيبتي حين تنفخ فيه رياح لاشمالية عاصفة.
أتحسس بارتياح موضع قلبي العليل، أجده كعهده يرسل ذبذبات ولادتي. أبكي فراق عالمي الجميل، وأصرخ في وجه الحياة محتجاً على كل ما يحدث خارج إرادتي.
تشرع عيناي على ممرضة بيضاء تضع عجيزة شهية. لم يأخذوا الحياة أو الموت مني إذن، ولم يسلبوا مني أي عضو من أعضاء جسدي حتى إني حين أطلقت العنان ليدي تنزلق على عريي ألفيتني بثلاثة أرجل.
عبدالسلام المودني
"سم بدون كولسترول" سعد الورزازي للنشر 2008
فزعاً ينبض قلبي العليل بقوة شديدة. مطارق تدق بشراسة محدثة عويلا أخرس الملامح. يجتثني البياض المدثر لغرفة العمليات من عباءة الإدراك، ويلقي بي مترنحاً إلى أغوار غيبة بلا لون. تتراءى أمام ناظري صورة ملك الميلاد يبشرني أن ولادتي في الموت أمر وشيك ما دمت قد أتممت تشكلي الجنيني في رحم المرض. الأمر سيان عندي، لأن طفولة الأشياء تولد من رحم نهايات باهتة، بينما النهايات تبشر دوماً بشموس جديدة.
أستأذنه في أن يمنحني بعض الوقت لأناول معارفي رقم هاتفي الجديد، وعنوان سكناي القادم، وبريدي الإلكتروني. يبدي تفهماً ومرونة، ويطمئنني أني سأقع في حب أمي الجديدة كما القديمة التي أرهقت أيامي وقفاي ضرباً، وسترضعني من أثدائها السبعة طيلة حياتي في الموت حتى مولد آخر. يستمر في إغرائي فيعلمني أن ماري سبب تعاستي ومصدر آلامي هنا، أصبح اسمها هناك ماري، وأنها مشتاقة لي وتنتظرني بصبر لاهث.
لو أستطيع أن أفاوضه عن اسمي الجديد، إذ أني أكره اسمي الحالي، وأكره أن يفرض علي اسم يظل لصيقاً بي في الحياة الأخرى دون أن تحدث بيننا مودة كبيرة.
أفكر أن أفاعي الزمن هناك ستعوض عقارب الساعة هنا، وستلسع جسدي وتذكرني بضعفي كل يوم، وأن شيخوختي ستبدو سعيدة، حيث ستودعني أمي كتاباً أفر منه بعدما يمعن الفقيه في جلدي بسياط رهبته، وسيعودني كل ليلة في أرض الكوابيس، لأقصد الروض جذلاً مبتسماً في وجه معلمتي ذات اللباس الأبيض كممرضة تسهر على علاجي من داءاتي التي ورثتها عن أمي. وسألعب مع أترابي المسنين في الحدائق العامة. وطبعاً ستضربني أمي عندما ألطخ ملابسي، وسيغتصبني عشيقها حين تؤشر أفاعي شهوته إلى السكر التام.
أبرأ كهلاً من جراحي المقعية على ناصية روحي، وألج جامعة الموت لأتم جهلي القديم بنفسي ومعرفتي الكسيحة بما حولي. أقبل على الحب وعلى باقي ضرورات انصهاري في الآخرين، وجلد الوحدة التي تصر على تعقبي ومحاصرتي في زواياها الصدئة.
تلقيني أيادي الأيام إلى نمطية النسيان لألفيني شاباً يكتشف العاهات والبطء، ونوافذ الذكريات المشرعة على الفراغات القاتلة.
تفارقني ماري إلى ولادة أخرى، أو موت محموم جديد، وأخلص إلى وضاعة عيشي وحقارته، ولا جدوى حياتي، وصمت سماواتي، وشح روحي.
في انتظار الخلاص والرحيل أهرع إلى طفولتي، أعتكز الألم، وأتبول في سريري، وأدرك بحرقة حاجتي لمن يرعاني. وليداً أبحث لخطوي عن أرض غير متجهمة، ولأحلامي عن سماء تحويها. أقابل أمي على فراش الكلمات الأخيرة. أخبرها بعد صمت تتخلله زفرات شاحبة بسر كتمته طويلاً عنها وآن لها معرفته.
- لست ابنك سيدتي، أنت أم لقيطة.
هدير القطار يشي بطول الرحلة، والعناكب تلمح إلى هجر شقوق المحطة، والخرابات توحي بأني ساكنها الوحيد. يصفق باب غيبتي حين تنفخ فيه رياح لاشمالية عاصفة.
أتحسس بارتياح موضع قلبي العليل، أجده كعهده يرسل ذبذبات ولادتي. أبكي فراق عالمي الجميل، وأصرخ في وجه الحياة محتجاً على كل ما يحدث خارج إرادتي.
تشرع عيناي على ممرضة بيضاء تضع عجيزة شهية. لم يأخذوا الحياة أو الموت مني إذن، ولم يسلبوا مني أي عضو من أعضاء جسدي حتى إني حين أطلقت العنان ليدي تنزلق على عريي ألفيتني بثلاثة أرجل.
عبدالسلام المودني
"سم بدون كولسترول" سعد الورزازي للنشر 2008