د عثمان قدري مكانسي
30-03-2009, 11:52 PM
شرور الثقلين
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قرأ الإمام في صلاة فجر هذا اليوم من سورة فاطر ، ولما قرأ آخر آية في هذه السورة " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) " كررت في نفسي " ما ترك على ظهرها من دابّة " ثم قلت : أأراد سبحانه وتعالى بكلمة دابـّة مَن يعقل فقط ( الأنس والجن ) وهم المكلفون ، وعليهم يجري القلم أم أراد سبحانه أن كل نسمة في الأرض من حيوانات وحشرات يبيدها الله تعالى بذنوب الجن والإنس وشرورهم ؟ .
وحين عدت إلى البيت لجأت إلى كتب التفسير أستجلي الأمر فوجدت الرأيين كليهما ، وقبل أن أورد ما ارتاحت له نفسي أذكر ما قيل فيهما ، ولعل القارئ يقدم أحدهما على الآخر لعلة قوية يرتئيها .
قال بعض المفسرين في هلاك الجميع " لَوْ أخذهم بِجَمِيعِ ذنوبهمْ لأهلك جَمِيع أَهل السَّمَاوات وَالأرض ، وَمَا يملِكُونَهُ مِن دَوَابّ وَأَرزاق . ويورد ابن كثير عن ابن مسعود " كَاد الجُعل أَن يُعَذب فِي جُحره بِذَنْبِ اِبن آدم " . وزاد القرطبي معللاً : وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ زَمَن نُوح عليه السَّلام . وَقَالَ سَعِيد بن جُبَير وَالسُّدِّيّ في هذه الآية : لَمَا سَقَاهُم الْمَطَر فَمَاتَت جَمِيع الدَّوَابّ . وَقَالَ يَحيى بن أَبِي كَثِير : أَمَرَ رَجُلٌ بِالْمَعرُوفِ وَنَهَى عَنْ المُنكَر , فَقَالَ لَهُ رَجُل : عَلَيْك بِنَفسِك فَإِنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلا نَفسه . فَقَالَ أبو هريرة : كَذَبت ، وَاَللَّه الَّذِي لا إِلَه إلاّ هُوَ - ثُمَّ قَالَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هُزْلا فِي وَكرهَا بِظُلمِ الظَّالِم . وَقَالَ الثمَالِيّ وَيَحْيَى بْن سلاّم فِي هَذِهِ الآية : يَحبِس اللَّه الْمَطَر فَيَهلِك كلّ شَيْء .ويقول مُجَاهِد فِي تَفسِير " وَيَلْعَنهُمْ اللاعنون " في سورة البقرة هم الْحَشَرَات وَالْبَهَائِم يُصِيبهُم الْجَدب بِذُنوبِ عُلَمَاء السُّوء الْكَاتِمِينَ فَيَلعَنُونَهُم . وَذَكَر القرطبي حَدِيث الْبَرَاء بن عَازِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فِي قَوله : " ويلعنهم اللاعنون " قَالَ : ( دَوَابّ الأرْض ) .
ولا تدل لعنة الحيوانات التي لا تعقل وغيرها للمفسدين من البشر والجن في الحديث أن الهلاك يصيبها إلا ان الأذي قد يلحق بها ، وتشعر به . وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه " " كَادَ الجَعْل أَنْ يُعَذَّب فِي جُحْره بِذنبِ اِبْن آدم " فللتهويل وتعظيم الأمر حين استعمل الفعل ( كاد) . وأما حبس المطر في قول الثمالي وابن سلام فيرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولولا البهائم لم يُمطروا " .
وقال بعضهم في هلاك الإنس والجن فقط ، فهم أصحاب الشرور . وَقَالَ الْكَلبِيّ : " مِنْ دَابَّة " يُرِيد الْجِنّ وَالإنس دُون غيرهما ; لأنهما مُكَلَّفَانِ بِالعقل . وَقَالَ اِبن جَرِير والأخفش والحسين بن الفضل : أَرَادَ بِالدابة هُنَا النَّاس وَحدهم دُون غَيرهم .
ويقول الفقير إلى ربه : حين قال تعالى " ولكنْ يؤخّرهم " فالضمير المتصل هنا يعود على العاقل فإذا كان التأخير للعاقل ، فالإهلاك لو حصل فللعاقل نفسه ، كما أعتقد أن كلمة " عباده" تطلق على العاقل في القرآن كله ، فالحديث إذاً عن العاقلين ليس غير ...
ولعل القارئ علم من الأسطر الأخيرة وما علّقت عليه في آخر سرد الرأي الأول ما ارتحت إليه من المعنيين ، ولك يا أخي أن تختار ما اطمأنّ قلبك إليه ، فالقرطبي رحمه الله تعالى يرى غير ما أرى ، وهو عالم جليل ذو فكر راجح وآراء صائبة . ولكنْ قد يصل إلى الصواب أحياناً تلميذ صغير لا يؤبه له ، وكلنا ننشد الحقيقة ، هدانا الله إليها ، وعلى الجميع أن يُعمل عقله وفكره ...
والله وليّ التوفيق.
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قرأ الإمام في صلاة فجر هذا اليوم من سورة فاطر ، ولما قرأ آخر آية في هذه السورة " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) " كررت في نفسي " ما ترك على ظهرها من دابّة " ثم قلت : أأراد سبحانه وتعالى بكلمة دابـّة مَن يعقل فقط ( الأنس والجن ) وهم المكلفون ، وعليهم يجري القلم أم أراد سبحانه أن كل نسمة في الأرض من حيوانات وحشرات يبيدها الله تعالى بذنوب الجن والإنس وشرورهم ؟ .
وحين عدت إلى البيت لجأت إلى كتب التفسير أستجلي الأمر فوجدت الرأيين كليهما ، وقبل أن أورد ما ارتاحت له نفسي أذكر ما قيل فيهما ، ولعل القارئ يقدم أحدهما على الآخر لعلة قوية يرتئيها .
قال بعض المفسرين في هلاك الجميع " لَوْ أخذهم بِجَمِيعِ ذنوبهمْ لأهلك جَمِيع أَهل السَّمَاوات وَالأرض ، وَمَا يملِكُونَهُ مِن دَوَابّ وَأَرزاق . ويورد ابن كثير عن ابن مسعود " كَاد الجُعل أَن يُعَذب فِي جُحره بِذَنْبِ اِبن آدم " . وزاد القرطبي معللاً : وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ زَمَن نُوح عليه السَّلام . وَقَالَ سَعِيد بن جُبَير وَالسُّدِّيّ في هذه الآية : لَمَا سَقَاهُم الْمَطَر فَمَاتَت جَمِيع الدَّوَابّ . وَقَالَ يَحيى بن أَبِي كَثِير : أَمَرَ رَجُلٌ بِالْمَعرُوفِ وَنَهَى عَنْ المُنكَر , فَقَالَ لَهُ رَجُل : عَلَيْك بِنَفسِك فَإِنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلا نَفسه . فَقَالَ أبو هريرة : كَذَبت ، وَاَللَّه الَّذِي لا إِلَه إلاّ هُوَ - ثُمَّ قَالَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هُزْلا فِي وَكرهَا بِظُلمِ الظَّالِم . وَقَالَ الثمَالِيّ وَيَحْيَى بْن سلاّم فِي هَذِهِ الآية : يَحبِس اللَّه الْمَطَر فَيَهلِك كلّ شَيْء .ويقول مُجَاهِد فِي تَفسِير " وَيَلْعَنهُمْ اللاعنون " في سورة البقرة هم الْحَشَرَات وَالْبَهَائِم يُصِيبهُم الْجَدب بِذُنوبِ عُلَمَاء السُّوء الْكَاتِمِينَ فَيَلعَنُونَهُم . وَذَكَر القرطبي حَدِيث الْبَرَاء بن عَازِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فِي قَوله : " ويلعنهم اللاعنون " قَالَ : ( دَوَابّ الأرْض ) .
ولا تدل لعنة الحيوانات التي لا تعقل وغيرها للمفسدين من البشر والجن في الحديث أن الهلاك يصيبها إلا ان الأذي قد يلحق بها ، وتشعر به . وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه " " كَادَ الجَعْل أَنْ يُعَذَّب فِي جُحْره بِذنبِ اِبْن آدم " فللتهويل وتعظيم الأمر حين استعمل الفعل ( كاد) . وأما حبس المطر في قول الثمالي وابن سلام فيرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولولا البهائم لم يُمطروا " .
وقال بعضهم في هلاك الإنس والجن فقط ، فهم أصحاب الشرور . وَقَالَ الْكَلبِيّ : " مِنْ دَابَّة " يُرِيد الْجِنّ وَالإنس دُون غيرهما ; لأنهما مُكَلَّفَانِ بِالعقل . وَقَالَ اِبن جَرِير والأخفش والحسين بن الفضل : أَرَادَ بِالدابة هُنَا النَّاس وَحدهم دُون غَيرهم .
ويقول الفقير إلى ربه : حين قال تعالى " ولكنْ يؤخّرهم " فالضمير المتصل هنا يعود على العاقل فإذا كان التأخير للعاقل ، فالإهلاك لو حصل فللعاقل نفسه ، كما أعتقد أن كلمة " عباده" تطلق على العاقل في القرآن كله ، فالحديث إذاً عن العاقلين ليس غير ...
ولعل القارئ علم من الأسطر الأخيرة وما علّقت عليه في آخر سرد الرأي الأول ما ارتحت إليه من المعنيين ، ولك يا أخي أن تختار ما اطمأنّ قلبك إليه ، فالقرطبي رحمه الله تعالى يرى غير ما أرى ، وهو عالم جليل ذو فكر راجح وآراء صائبة . ولكنْ قد يصل إلى الصواب أحياناً تلميذ صغير لا يؤبه له ، وكلنا ننشد الحقيقة ، هدانا الله إليها ، وعلى الجميع أن يُعمل عقله وفكره ...
والله وليّ التوفيق.