حسين الطلاع
09-05-2009, 09:28 AM
القضاء والقدر
ــــــــــــــــــ
دعوة للتفكر لتحديد المسئوليات ، وعدم العبث بنواميس الكون ،،، والنظر بجدية وعقلانية من خلال الحق والرأي والحكمة .
ــــــــــــــــــ
زارني زميل لي ، رفيق عمل لأعوام نافت على العشرة ، ثم صار صاحبا ومحطّ أسراري ، أستودعه ما خفّ وما ثقل ، واسمه : محمد . ف . ن . م . ،،، وكنيته : أبو فيصل .
وقد كانت زيارته على حين غفلة ، حيث كنت وحيدا أقلّب أوراق وتصاوير ولدي مصعب يرحمه الله ،،، بحالة لا أظن أحدا يحسدني عليها ، ثم دار بيننا نقاش طويل ، طويل جدا ، وكان من الأهمية بحيث أعدت سبكه بأسلوبي على النحو التالي :
ــــــــــــــــ
قال : أتذرف الدمع أيها الحبيب ؟
قلت : نعم ، أذرفه كالسيل على الخد ، وأجود به كالسماء ، حتى إذا ارتوت منه العِيْس بقي منه ما ينبت عشب الأرض ،،، على ولدٍ أُخِذَ مني قسرا ، وأُزْهِقَت روحه قهرا ، في يومٍ أرْوَنَانِي[1] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn1) تحرّقت سمائه ، وفي هاجرة تغلي مراجلها .
قال : ولم كل هذا يرحمك الله ؟
قلت : لأن الشقيّ سفك دم ولدي طاهرا زكيا ،،، آه يا صاحبي ممن يقال له ......... ، لا كان أحمدهم بل أذمّهم ، كيف ألحّ وألحف ، وكيف كالشيطان أزّ ولدي أزّا ، حتى أرسله إلى شَعُوْب[2] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn2)، ثم جاء مرموقا بالرحمة والكل يحضنه ويحمد الله على نجاته وسلامته ! ثم فاضت عيناه !!! هِهْ ، والله لقد ذكرت إخوة يوسف عندما جاؤوا أباهم عشاء يبكون ! فما أغنى ذلك عن شيء البتة .
ثم ،،، ثم القهر يا صاحبي ، كيف حالوا دوني ودون سؤاله عن كيفية حدوث الحادث ! وكيف منعوه حتى صار أمنع من أمّ قِرْفة[3] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn3) .
ومن عجب أبا فيصل : قيل لي ( نحن تنازلنا ) !!! أتعي هذه الجملة يا صاحبي ، هم تنازلوا !! تنازلوا عن ماذا ؟ هل مصعب خروف ؟ ولمن هذا الخروف ؟ وأين أنا ؟ ومن الذي يتنازل أنا أم هم ؟؟؟ ،،، ثم غيّبوا ذلك القذر كما غيَّبَت السُّنُّورُ خُرْئَها[4] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn4) .
وتقول لي يا أخي : لم كل هذا ؟؟؟ دعني ، دعني أوفي الكيل لمن أراد أن ينهل .
،،،، ثم بدأ الحبيب يربّت على كتفي ويرفّه عني حتى ظعن الحزن ،،، وحتى إذا حلّ العقل محل العاطفة ، والضحك محل البكاء ، قال : أليس ذلك قضاء وقدر ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟ .
قلت له : أنا لا أدري كيف ينظر الناس إلى القضاء والقدر ، كأنهم يلقون التهم على السماء وهم من جرائمهم براء !!! كأنهم يريدون قول أن هذا الشيء أو الحدث أراده الله وأن الإنسان مجبرا على الفعل ، ومكتوب له ذلك في اللوح المحفوظ .
قال صاحبي : لكأنك يا حسين حِدّت عن الطريق ،،، بل هو القضاء والقدر ، وكل شيء في كتاب .
قلت : تريّث أخي ولا تشطط أصلحك الله ، إنما القضاء هو : على أوجه عدة منها الأمر كقوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ،،، ومنها الانتهاء من الشيء كقوله تعالى ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) ،،، ومنها الحكم كقوله ( فاقض ما أنت قاض ) ،،، ومنها الخلق كقوله تعالى ( فقضاهن سبع سماوات ) ،،، ومنها الإرادة كقوله تعالى ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ،،، ومنها القتل ( فوكزه بعصاه فقضى عليه ) ،،، ومنها الحكم بين الناس كقاضي المحكمة ،،، ثم إذا رجعنا إلى فقه اللغة العربية نجد أنه ما اجتمع حرف قاف وضاد ومعتل في أي كلمة إلا دلّ على فعل محكم تام أو عمل متقن كامل أو أمر نافذ لا محالة وهذا هو الأصل .
ولعلنا إذا ربطنا القضاء بالقدر يظهر لنا وجه جديد وهو الأمر بنفاذ وسريان القدر .
قال صاحبي : لسنا في هذا نبحث ، إلا أنني خشيت عليك حيود الاعتقاد بلومك الغلام الذي تسميه قاتل ولدك يرحمه الله ، وأنك ترفض مبدأ القضاء والقدر بموته .
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله ، من قال أنني أرفض القضاء والقدر ؟ والله إني لأؤمن به أشد الإيمان وأفهمه وأدركه ، ولا أكفر به البتة ،،، ولكن اجلس لعلي أريك وجهة نظر منذ ثلاثة أعوام وأنا أتدبرها ، ومن يدري فربما تبعتني ورميت عن قوسي .
فضحك الحبيب وقال : هات ما عندك .
قلت : ما اجتمع القاف والدال والراء في أي كلمة عربية إلا ليدل على كنه الشيء أو نهايته بصفاته وخصائصه ، بغض النظر عن كون الكلمة ثلاثية أو رباعية ، ستجدها تشير إلى ما يتجاذب إلى هذه المعاني ، حتى كلمة ( قد ) إذا استخدمتها بقولك ( قد بلي المتاع ) فهي تفيد أن المتاع بلغ نهايته من البلى ،على أن القدر في حقيقته ( تقدير الخواص والصفات سواء كانت فيزيائية أو كيميائية في المادة أو الخلق ، وتحولاتها وتطوراتها من حالة إلى حالة باجتماع أسباب أخرى تؤدي إلى التغيير والتحول ) ،،، أما القضاء : فهو الأمر بنفاذ وسريان ذلك القدر والتقدير كنظام كوني فطري .
كخلق آدم عليه السلام ، حيث ذكرت بعض الآيات الكريمة أنه خُلِق من ( حمأ مسنون ) والحمأ هو الطين ، والمسنون صيغة مبالغة من الآسن ، وهو الراكد المنتن الرائحة لوجود البكتيريا والمواد العفنة فيه ، وغالبا ما تكون هذه الصفات الكيميائية بطين المستنقعات المتعفن لركود الماء الآسن فوقها ،،، وهذا ( قدر واحد من أقدار خلق آدم ) .
وذلك لحكمة بليغة من الخالق عز وجل ، أنه إذا مات الإنسان سرى عليه العفن والتحلل ، لوجود الأسباب المؤدية لذلك منذ الخلق الأول ( الحمأ المسنون ) وهو( قدر ) أو تقدير خواص محددة مؤدية للعفن ،،، وبعد الموت يتم التحول وهو ( قدر ) آخر مسبب ومرتبط بالقدر الأول ،،،،، والقضاء هنا أنه إذا اجتمعت هذه الخواص تم التحول لا محالة وهو أمر لا مفر منه .
النار : خواصها المعروفة الحرارة والحرق وهو ( قدر ) أي تقدير هذه الصفات بها ،،، والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان تلك الخواص المقدرة .
الوقود : خواصه السيولة والتطاير والبرودة وقابلية الإشتعال والإضطرام وهو ( قدر ) أي تقدير هذه الصفات والخواص فيه ،،، والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان تلك الخواص فيه .
وإذا اجتمعت النار والوقود حدثت الحرائق والكوارث وهو ( قدر ) إجتماع شيء مع شيء آخر في ظروف جديدة مؤدية لحالة أو تطور جديد ( الإحتراق ) والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان التطور الجديد ( الإضطرام ) طالما اجتمعت الأسباب المؤدية له .
وإذا لم تجتمع النار والوقود ( قدر ) يبقى الأمر كما هو بسلام وأمان وهو قدر ، والقضاء بإنفاذ أمر السلم والأمان طالما هناك أسباب مؤية إليه ( الفصل بين المتضادين ) .
ــــــــــــــــــ
التلقيح أو الحمل في رحم الأنثى :
البويضة في الرحم : من خصائصها الكيميائية أنها حمضية لجذب العنصر المغاير لها في الصفات والتركيب الكيميائي ، وتقبل التلقيح من النُطاف لأنه قاعدي الصفة الكيميائية ( وهذا قدر أو تقدير خصائص محددة ومعقدة قدرها الله سبحانه في البويضة داخل الرحم ) والقضاء هنا هو الأمر ببقاء الويضة على ما هي عليه من ركود طالما لم يتم إحداث تغيير في بيئة الرحم كوجود نطاف يؤدي إلى إحداث تغيير جذري في تحولات البويضة ، إلى أن تموت بعد شهر فتطرد من الرحم على شكل طمث لتحل محلها بويضة أخرى .
النطاف في الذكر : من خصائصه الكيميائية أنه قاعدي ينجذب للصفات الحمضية تماما كانجذاب السالب للموجب ، وله صفات القدرة على التلقيح ( وهذا قدر أو تقدير هذه الصفات فيه ) .
التلقيح : هو تحول البويضة ذات الخصائص المعينة ( تقديراتها ) ، من حالة إلى حالة جديدة ، الإخصاب ( وهو تقدير صفات جديدة ) بسبب وجود ظروف جديدة بصفات وخواص تؤدي إلى التحويل ، وهو النطاف مما يؤدي إلى حدوث الإخصاب وهو ( قدر جديد ) ناتج عن أتحاد ( قدرين مختلفين ) ، والقضاء هنا هو الأمر بنفاذ وسريان القدر الجديد طالما تهيأت الأسباب المؤدية إليه .
أليس هذا هو القضاء والقدر يا محمد ؟
قال : نعم هو كذلك والله .
ـــــــــــــــــ
ثم قلت : أريد أن أسألك يا محمد : هل بويضة الأنثى تفرق بين نطاف الزوج أو نطاف رجل آخر ،،، ؟؟؟؟؟؟ .
قال : لا ،،، لا تفرق ، بل تقبل النطاف والتلقيح من أي ذكر كان .
قلت : إذن فالبويضة تخضع للقضاء أو النظام الكوني أو للقانون الفطري بقبول التلقيح من النطاف لأن القدر فيها ألزمها ذلك ؟
قال : نعم .
قلت : إذن لماذا نعاقب المرأة والرجل إذا حدث هذا ونسميه ( جريمة ) طالما هناك ( قدر ) في البويضة ، و ( قدر ) في النطاف عند الرجل ، أدى اجتماعهما كقدرين إلى إحداث قدر ثالث وهو الحمل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ، هل ذلك الحدث أو القضاء والقدر في هذه الحالة ، شيء أراده الله عز وجل ؟ وإن كان كذلك ، فكيف يريد ذلك ثم يعاقب عليه ؟؟؟ .
قال : هاه !!!
قلت : أغلق فمك هذا ،،، بل هي إرادة من الرجل والأنثى ، تعبثوا بالأقدار التي جُعلت فيهما عبثا بدافع الرغبة والمتعة ، فهيئوا الأسباب الداعية لحدوث قدر جديد وهو ( جريمة الزنى ) .
في حين إذا قتل شخص شخصا آخرا بحادث سيارة فقط لمجرد العبث والمتعة والاندفاعات الجنونية لتحقيق رغبات لم يحسب لها حساب ،،،، نُعَوّل على القضاء وقدر ، ثم نُبرّئ ساحته من الجريمة !!!!!! .
بالله عليك ما الفرق بينهما : الحالة الأولى ( الحمل ) وتم تسميته ( جريمة الزنى ) وتستوجب العقاب ،،، مع أنه قدر متطور عن أقدار أخرى اجتمعت .
الحالة الثانية : السيارة وهي حديد وقدر الحديد ( خصائصه وصفاته ) الصلابة والقوة والوزن الثقيل ، يؤدي للجروح والكسور والقتل إذا استخدم بطريقة همجية ،،،، ويؤدي إلى المنفعة إذا استخدم الاستخدام الأمثل .
السرعة : وتؤدي إلى بلوغ النقطة المراد الوصول إليها بوقت قصير ، إذا كانت بتركيز وانتباه وعقلانية ،،، وتؤدي إلى القتل إذا كانت عبثا ومجونا ،،،،،،، .
في الحالة الأولى تعبث الرجل والمرأة ببعضهما البعض بهدف المتعة واللذة ،،، فتطورت حالة جديدة نتيجة المتعة ، تسمى ( جريمة الزنى ) تستوجب العقاب .
في الحالة الثانية تعبث الفاعل بالسيارة والسرعة أيضا بهدف المتعة ،،، فتطورت حالة جديدة نتيجة المتعة ( الموت ) ، غير أنه تم الإتفاق على تسميتها ( قضاء وقدر ) ولا تستوجب العقاب !!! .
أين العدل ؟ أين النظرة الثاقبة للسنن الكونية ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لماذا يا صديقي نطلق القضاء والقدر على الموت والحوادث ،،، في حين يتم البحث عن الأسباب وربطها بمسبباتها في كل ما يجري في الكون من أحداث وكوارث وحرائق ووووو ،،، الخ ؟؟؟ .
ـــــــــــ
أطرق أبو فيصل قليلا ثم قال : هذه حالة تستلزم إمعان الفكر والتمحيص ، غير أنه ينقصنا الدليل .
قلت له : لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أكثر من مرة إلى أن كل شيء قضاء وقدر ،،، الرقية التي ارتآها الأعرابي علاجا ، حيث أشار الرسول إلى أنها قدر أيضا !!! وحكمته صلى الله عليه وسلم تقول أن المرض قدر من الله ، والرقية وطلب العلاج قدر آخر من الله لدفع قدر المرض .
طاعون عمواس : مرض قاتل وهو قدر من الله ،،، والفرار منه هو فرار من قدر المرض إلى قدر العلاج والنجاة منه ،،، وقد اوضح ذلك الصحابيان الجليلان ابو عبيدة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
واعلم يا أخي أيما قدر وجد فهناك قضاء ،،، واعلم أن الكون بما حوى هو قدر ، وقد سبق تفسير القدر ( خصائص وصفات وتراكيب فيزيائية وكيميائية ) يجب أن تقوم بالوظائف المناطة بها وهو القضاء أو الأمر بالنفاذ والسريان أو الفطرة الكونية .
هل يكفي هذا دليل يا محمد ؟
إسمع ،،، لقد ذكرت شيئا : هل الذي يقتل عن طريق الخطأ ، يسمى قاتلا مجرما يستحق الإعدام ؟
قال : لا
قلت : هل هو قضاء وقدر ؟
قال : نعم
قلت : إذن لماذا ألزمه الشرع عقوبة مالية كدفع الدية مثلا ، ثم تطورت في العصر الحديث إلى زيادة العقوبة بإيداعه السجن كحق عام للدولة ؟
أين القضاء والقدر هنا ، وكيف ينظر الناس إليه ؟ بل كيف قدر وقضاء هذا الأمر ، وكيف عقوبة تلك عليه ؟؟؟
قال : ماذا تريد أن تقول ؟
قلت : ليس فقط أمر ولدي قضاء وقدر ،،، بل كل شيء في الكون قضاء وقدر ( أحداثه ، متغيراته ، ثوابته ، كوارثه ، أفلاكه ونواميسه ، مخلوقاته ، وحتى حضارات العالم ) وهذا من وجهة نظري لا يُبرّئ قاتل ولدي من افتعال الجريمة ، وهذه هي الحقيقة .
ــــــــــــــــــــ
اللهم اشهد انني مؤمن بقضاءك وقدرك خير الإيمان .
اللهم اشهد انني لا أريد أموالا ولا ديّات .
اللهم اشهد أنني لا أعدل مصعبا بقراب الأرض ذهبا .
اللهم عدلك أنت ،،، أنت وحدك .
اللهم أدعوك لمصعب بالرحمن الرحيم .
اللهم ، وعزتك وجلالك أخشى دعوتك بالمنتقم الجبار على شرذمة الأوغاد ،،، بل لا أستطيع فحبسة تروم لساني وخيفة تعتري قلبي ،،، فالعوض اللهم ، العوض اللهم ، والرحمة لمصعب ،،،،،،،،، آمين
ـــــــــــــــــــ
حسين الطلاع
18/أبريل/2008
المملكة العربية السعودية - الجبيل
[1] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref1) الأروناني هو الشديد الحر .
[2] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref2) شعوب من أسماء الموت الزؤام .
[3] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref3) أم قرفة امرأة من فزارة كان يعلق في بيتها خمسون سيفا لخمسين فارسا كلهم لها مَحْرم .
[4] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref4) السنانير هي القطط ومن في حكمها ، فإذا أرادت قضاء حاجتها حفرت في التراب ثم تدفنه فلا أحد يعرف أين قضت حاجتها .
ــــــــــــــــــ
دعوة للتفكر لتحديد المسئوليات ، وعدم العبث بنواميس الكون ،،، والنظر بجدية وعقلانية من خلال الحق والرأي والحكمة .
ــــــــــــــــــ
زارني زميل لي ، رفيق عمل لأعوام نافت على العشرة ، ثم صار صاحبا ومحطّ أسراري ، أستودعه ما خفّ وما ثقل ، واسمه : محمد . ف . ن . م . ،،، وكنيته : أبو فيصل .
وقد كانت زيارته على حين غفلة ، حيث كنت وحيدا أقلّب أوراق وتصاوير ولدي مصعب يرحمه الله ،،، بحالة لا أظن أحدا يحسدني عليها ، ثم دار بيننا نقاش طويل ، طويل جدا ، وكان من الأهمية بحيث أعدت سبكه بأسلوبي على النحو التالي :
ــــــــــــــــ
قال : أتذرف الدمع أيها الحبيب ؟
قلت : نعم ، أذرفه كالسيل على الخد ، وأجود به كالسماء ، حتى إذا ارتوت منه العِيْس بقي منه ما ينبت عشب الأرض ،،، على ولدٍ أُخِذَ مني قسرا ، وأُزْهِقَت روحه قهرا ، في يومٍ أرْوَنَانِي[1] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn1) تحرّقت سمائه ، وفي هاجرة تغلي مراجلها .
قال : ولم كل هذا يرحمك الله ؟
قلت : لأن الشقيّ سفك دم ولدي طاهرا زكيا ،،، آه يا صاحبي ممن يقال له ......... ، لا كان أحمدهم بل أذمّهم ، كيف ألحّ وألحف ، وكيف كالشيطان أزّ ولدي أزّا ، حتى أرسله إلى شَعُوْب[2] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn2)، ثم جاء مرموقا بالرحمة والكل يحضنه ويحمد الله على نجاته وسلامته ! ثم فاضت عيناه !!! هِهْ ، والله لقد ذكرت إخوة يوسف عندما جاؤوا أباهم عشاء يبكون ! فما أغنى ذلك عن شيء البتة .
ثم ،،، ثم القهر يا صاحبي ، كيف حالوا دوني ودون سؤاله عن كيفية حدوث الحادث ! وكيف منعوه حتى صار أمنع من أمّ قِرْفة[3] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn3) .
ومن عجب أبا فيصل : قيل لي ( نحن تنازلنا ) !!! أتعي هذه الجملة يا صاحبي ، هم تنازلوا !! تنازلوا عن ماذا ؟ هل مصعب خروف ؟ ولمن هذا الخروف ؟ وأين أنا ؟ ومن الذي يتنازل أنا أم هم ؟؟؟ ،،، ثم غيّبوا ذلك القذر كما غيَّبَت السُّنُّورُ خُرْئَها[4] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftn4) .
وتقول لي يا أخي : لم كل هذا ؟؟؟ دعني ، دعني أوفي الكيل لمن أراد أن ينهل .
،،،، ثم بدأ الحبيب يربّت على كتفي ويرفّه عني حتى ظعن الحزن ،،، وحتى إذا حلّ العقل محل العاطفة ، والضحك محل البكاء ، قال : أليس ذلك قضاء وقدر ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟ .
قلت له : أنا لا أدري كيف ينظر الناس إلى القضاء والقدر ، كأنهم يلقون التهم على السماء وهم من جرائمهم براء !!! كأنهم يريدون قول أن هذا الشيء أو الحدث أراده الله وأن الإنسان مجبرا على الفعل ، ومكتوب له ذلك في اللوح المحفوظ .
قال صاحبي : لكأنك يا حسين حِدّت عن الطريق ،،، بل هو القضاء والقدر ، وكل شيء في كتاب .
قلت : تريّث أخي ولا تشطط أصلحك الله ، إنما القضاء هو : على أوجه عدة منها الأمر كقوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ،،، ومنها الانتهاء من الشيء كقوله تعالى ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) ،،، ومنها الحكم كقوله ( فاقض ما أنت قاض ) ،،، ومنها الخلق كقوله تعالى ( فقضاهن سبع سماوات ) ،،، ومنها الإرادة كقوله تعالى ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ،،، ومنها القتل ( فوكزه بعصاه فقضى عليه ) ،،، ومنها الحكم بين الناس كقاضي المحكمة ،،، ثم إذا رجعنا إلى فقه اللغة العربية نجد أنه ما اجتمع حرف قاف وضاد ومعتل في أي كلمة إلا دلّ على فعل محكم تام أو عمل متقن كامل أو أمر نافذ لا محالة وهذا هو الأصل .
ولعلنا إذا ربطنا القضاء بالقدر يظهر لنا وجه جديد وهو الأمر بنفاذ وسريان القدر .
قال صاحبي : لسنا في هذا نبحث ، إلا أنني خشيت عليك حيود الاعتقاد بلومك الغلام الذي تسميه قاتل ولدك يرحمه الله ، وأنك ترفض مبدأ القضاء والقدر بموته .
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله ، من قال أنني أرفض القضاء والقدر ؟ والله إني لأؤمن به أشد الإيمان وأفهمه وأدركه ، ولا أكفر به البتة ،،، ولكن اجلس لعلي أريك وجهة نظر منذ ثلاثة أعوام وأنا أتدبرها ، ومن يدري فربما تبعتني ورميت عن قوسي .
فضحك الحبيب وقال : هات ما عندك .
قلت : ما اجتمع القاف والدال والراء في أي كلمة عربية إلا ليدل على كنه الشيء أو نهايته بصفاته وخصائصه ، بغض النظر عن كون الكلمة ثلاثية أو رباعية ، ستجدها تشير إلى ما يتجاذب إلى هذه المعاني ، حتى كلمة ( قد ) إذا استخدمتها بقولك ( قد بلي المتاع ) فهي تفيد أن المتاع بلغ نهايته من البلى ،على أن القدر في حقيقته ( تقدير الخواص والصفات سواء كانت فيزيائية أو كيميائية في المادة أو الخلق ، وتحولاتها وتطوراتها من حالة إلى حالة باجتماع أسباب أخرى تؤدي إلى التغيير والتحول ) ،،، أما القضاء : فهو الأمر بنفاذ وسريان ذلك القدر والتقدير كنظام كوني فطري .
كخلق آدم عليه السلام ، حيث ذكرت بعض الآيات الكريمة أنه خُلِق من ( حمأ مسنون ) والحمأ هو الطين ، والمسنون صيغة مبالغة من الآسن ، وهو الراكد المنتن الرائحة لوجود البكتيريا والمواد العفنة فيه ، وغالبا ما تكون هذه الصفات الكيميائية بطين المستنقعات المتعفن لركود الماء الآسن فوقها ،،، وهذا ( قدر واحد من أقدار خلق آدم ) .
وذلك لحكمة بليغة من الخالق عز وجل ، أنه إذا مات الإنسان سرى عليه العفن والتحلل ، لوجود الأسباب المؤدية لذلك منذ الخلق الأول ( الحمأ المسنون ) وهو( قدر ) أو تقدير خواص محددة مؤدية للعفن ،،، وبعد الموت يتم التحول وهو ( قدر ) آخر مسبب ومرتبط بالقدر الأول ،،،،، والقضاء هنا أنه إذا اجتمعت هذه الخواص تم التحول لا محالة وهو أمر لا مفر منه .
النار : خواصها المعروفة الحرارة والحرق وهو ( قدر ) أي تقدير هذه الصفات بها ،،، والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان تلك الخواص المقدرة .
الوقود : خواصه السيولة والتطاير والبرودة وقابلية الإشتعال والإضطرام وهو ( قدر ) أي تقدير هذه الصفات والخواص فيه ،،، والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان تلك الخواص فيه .
وإذا اجتمعت النار والوقود حدثت الحرائق والكوارث وهو ( قدر ) إجتماع شيء مع شيء آخر في ظروف جديدة مؤدية لحالة أو تطور جديد ( الإحتراق ) والقضاء هو الأمر بنفاذ وسريان التطور الجديد ( الإضطرام ) طالما اجتمعت الأسباب المؤدية له .
وإذا لم تجتمع النار والوقود ( قدر ) يبقى الأمر كما هو بسلام وأمان وهو قدر ، والقضاء بإنفاذ أمر السلم والأمان طالما هناك أسباب مؤية إليه ( الفصل بين المتضادين ) .
ــــــــــــــــــ
التلقيح أو الحمل في رحم الأنثى :
البويضة في الرحم : من خصائصها الكيميائية أنها حمضية لجذب العنصر المغاير لها في الصفات والتركيب الكيميائي ، وتقبل التلقيح من النُطاف لأنه قاعدي الصفة الكيميائية ( وهذا قدر أو تقدير خصائص محددة ومعقدة قدرها الله سبحانه في البويضة داخل الرحم ) والقضاء هنا هو الأمر ببقاء الويضة على ما هي عليه من ركود طالما لم يتم إحداث تغيير في بيئة الرحم كوجود نطاف يؤدي إلى إحداث تغيير جذري في تحولات البويضة ، إلى أن تموت بعد شهر فتطرد من الرحم على شكل طمث لتحل محلها بويضة أخرى .
النطاف في الذكر : من خصائصه الكيميائية أنه قاعدي ينجذب للصفات الحمضية تماما كانجذاب السالب للموجب ، وله صفات القدرة على التلقيح ( وهذا قدر أو تقدير هذه الصفات فيه ) .
التلقيح : هو تحول البويضة ذات الخصائص المعينة ( تقديراتها ) ، من حالة إلى حالة جديدة ، الإخصاب ( وهو تقدير صفات جديدة ) بسبب وجود ظروف جديدة بصفات وخواص تؤدي إلى التحويل ، وهو النطاف مما يؤدي إلى حدوث الإخصاب وهو ( قدر جديد ) ناتج عن أتحاد ( قدرين مختلفين ) ، والقضاء هنا هو الأمر بنفاذ وسريان القدر الجديد طالما تهيأت الأسباب المؤدية إليه .
أليس هذا هو القضاء والقدر يا محمد ؟
قال : نعم هو كذلك والله .
ـــــــــــــــــ
ثم قلت : أريد أن أسألك يا محمد : هل بويضة الأنثى تفرق بين نطاف الزوج أو نطاف رجل آخر ،،، ؟؟؟؟؟؟ .
قال : لا ،،، لا تفرق ، بل تقبل النطاف والتلقيح من أي ذكر كان .
قلت : إذن فالبويضة تخضع للقضاء أو النظام الكوني أو للقانون الفطري بقبول التلقيح من النطاف لأن القدر فيها ألزمها ذلك ؟
قال : نعم .
قلت : إذن لماذا نعاقب المرأة والرجل إذا حدث هذا ونسميه ( جريمة ) طالما هناك ( قدر ) في البويضة ، و ( قدر ) في النطاف عند الرجل ، أدى اجتماعهما كقدرين إلى إحداث قدر ثالث وهو الحمل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ، هل ذلك الحدث أو القضاء والقدر في هذه الحالة ، شيء أراده الله عز وجل ؟ وإن كان كذلك ، فكيف يريد ذلك ثم يعاقب عليه ؟؟؟ .
قال : هاه !!!
قلت : أغلق فمك هذا ،،، بل هي إرادة من الرجل والأنثى ، تعبثوا بالأقدار التي جُعلت فيهما عبثا بدافع الرغبة والمتعة ، فهيئوا الأسباب الداعية لحدوث قدر جديد وهو ( جريمة الزنى ) .
في حين إذا قتل شخص شخصا آخرا بحادث سيارة فقط لمجرد العبث والمتعة والاندفاعات الجنونية لتحقيق رغبات لم يحسب لها حساب ،،،، نُعَوّل على القضاء وقدر ، ثم نُبرّئ ساحته من الجريمة !!!!!! .
بالله عليك ما الفرق بينهما : الحالة الأولى ( الحمل ) وتم تسميته ( جريمة الزنى ) وتستوجب العقاب ،،، مع أنه قدر متطور عن أقدار أخرى اجتمعت .
الحالة الثانية : السيارة وهي حديد وقدر الحديد ( خصائصه وصفاته ) الصلابة والقوة والوزن الثقيل ، يؤدي للجروح والكسور والقتل إذا استخدم بطريقة همجية ،،،، ويؤدي إلى المنفعة إذا استخدم الاستخدام الأمثل .
السرعة : وتؤدي إلى بلوغ النقطة المراد الوصول إليها بوقت قصير ، إذا كانت بتركيز وانتباه وعقلانية ،،، وتؤدي إلى القتل إذا كانت عبثا ومجونا ،،،،،،، .
في الحالة الأولى تعبث الرجل والمرأة ببعضهما البعض بهدف المتعة واللذة ،،، فتطورت حالة جديدة نتيجة المتعة ، تسمى ( جريمة الزنى ) تستوجب العقاب .
في الحالة الثانية تعبث الفاعل بالسيارة والسرعة أيضا بهدف المتعة ،،، فتطورت حالة جديدة نتيجة المتعة ( الموت ) ، غير أنه تم الإتفاق على تسميتها ( قضاء وقدر ) ولا تستوجب العقاب !!! .
أين العدل ؟ أين النظرة الثاقبة للسنن الكونية ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لماذا يا صديقي نطلق القضاء والقدر على الموت والحوادث ،،، في حين يتم البحث عن الأسباب وربطها بمسبباتها في كل ما يجري في الكون من أحداث وكوارث وحرائق ووووو ،،، الخ ؟؟؟ .
ـــــــــــ
أطرق أبو فيصل قليلا ثم قال : هذه حالة تستلزم إمعان الفكر والتمحيص ، غير أنه ينقصنا الدليل .
قلت له : لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أكثر من مرة إلى أن كل شيء قضاء وقدر ،،، الرقية التي ارتآها الأعرابي علاجا ، حيث أشار الرسول إلى أنها قدر أيضا !!! وحكمته صلى الله عليه وسلم تقول أن المرض قدر من الله ، والرقية وطلب العلاج قدر آخر من الله لدفع قدر المرض .
طاعون عمواس : مرض قاتل وهو قدر من الله ،،، والفرار منه هو فرار من قدر المرض إلى قدر العلاج والنجاة منه ،،، وقد اوضح ذلك الصحابيان الجليلان ابو عبيدة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
واعلم يا أخي أيما قدر وجد فهناك قضاء ،،، واعلم أن الكون بما حوى هو قدر ، وقد سبق تفسير القدر ( خصائص وصفات وتراكيب فيزيائية وكيميائية ) يجب أن تقوم بالوظائف المناطة بها وهو القضاء أو الأمر بالنفاذ والسريان أو الفطرة الكونية .
هل يكفي هذا دليل يا محمد ؟
إسمع ،،، لقد ذكرت شيئا : هل الذي يقتل عن طريق الخطأ ، يسمى قاتلا مجرما يستحق الإعدام ؟
قال : لا
قلت : هل هو قضاء وقدر ؟
قال : نعم
قلت : إذن لماذا ألزمه الشرع عقوبة مالية كدفع الدية مثلا ، ثم تطورت في العصر الحديث إلى زيادة العقوبة بإيداعه السجن كحق عام للدولة ؟
أين القضاء والقدر هنا ، وكيف ينظر الناس إليه ؟ بل كيف قدر وقضاء هذا الأمر ، وكيف عقوبة تلك عليه ؟؟؟
قال : ماذا تريد أن تقول ؟
قلت : ليس فقط أمر ولدي قضاء وقدر ،،، بل كل شيء في الكون قضاء وقدر ( أحداثه ، متغيراته ، ثوابته ، كوارثه ، أفلاكه ونواميسه ، مخلوقاته ، وحتى حضارات العالم ) وهذا من وجهة نظري لا يُبرّئ قاتل ولدي من افتعال الجريمة ، وهذه هي الحقيقة .
ــــــــــــــــــــ
اللهم اشهد انني مؤمن بقضاءك وقدرك خير الإيمان .
اللهم اشهد انني لا أريد أموالا ولا ديّات .
اللهم اشهد أنني لا أعدل مصعبا بقراب الأرض ذهبا .
اللهم عدلك أنت ،،، أنت وحدك .
اللهم أدعوك لمصعب بالرحمن الرحيم .
اللهم ، وعزتك وجلالك أخشى دعوتك بالمنتقم الجبار على شرذمة الأوغاد ،،، بل لا أستطيع فحبسة تروم لساني وخيفة تعتري قلبي ،،، فالعوض اللهم ، العوض اللهم ، والرحمة لمصعب ،،،،،،،،، آمين
ـــــــــــــــــــ
حسين الطلاع
18/أبريل/2008
المملكة العربية السعودية - الجبيل
[1] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref1) الأروناني هو الشديد الحر .
[2] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref2) شعوب من أسماء الموت الزؤام .
[3] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref3) أم قرفة امرأة من فزارة كان يعلق في بيتها خمسون سيفا لخمسين فارسا كلهم لها مَحْرم .
[4] (https://www.rabitat-alwaha.net/newthread.php?do=newthread&f=107#_ftnref4) السنانير هي القطط ومن في حكمها ، فإذا أرادت قضاء حاجتها حفرت في التراب ثم تدفنه فلا أحد يعرف أين قضت حاجتها .