المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اجزم قريبة مني



وائل راشد
29-05-2009, 07:59 PM
اجزم قريبة مني
إلى أبي ...
بعينيهِ شوقُ البلاد
واحتراق الانتظار
وأحلام المنفى

وائل راشد
في داخلهِ مقبرةٌ لا نهائيةٌ لملايينِ المفارقاتِ المؤلمة، آلامٌ ودمارٌ وانتظار ما قد لا يأتي. لا امرأةٌ كانتْ تأتي في يقظتهِ ولا في أحلامهِ. بُعد المسافات، بُعد الأهل، فالطريقُ إلى حيفا طويلٌ طويلْ، ولن يمّتدَ بهِِ الأجل على كلِ حال، سيموتُ قبلَ العودةِ إلى بيتهِ الطيني، سيموتُ بعيداً عن الأرضِ التي شهدتهُ صغيراً.. الأرضِ التي ربتّهُ. رجلٌ اعتصرَ في قلبهِ أنهاراً من الألم، وصوراً من الماضي صارخةً بالأسى والتعب. ما كلَّ ولا ملَّ مِنَ الانتظارِ، من الاحتضارِ بعيداً عن بيتهِ الريفي.
كم هي صعبة ٌأن تتحولَ بين عشيةٍ وضحاها إلى لاجئ!!.
أذكرهُ جالساً أمام الدارِ على كرسيهِ الخشبي الصغير، ممسكاً بين أصابعهِ "سيجارتهِ" التي كانتْ رفيقتهُ في رحلةٍ طويلةٍ امتدتْ بهِِ من البلادِ إلى المنفى إلى غرفةِ الإنعاش، واستقرتْ بهِِ في قبرهِ الواسعِ المريح. يحكي لجارنا كيفَ أَنهم وضعوا للبقراتِ علفها ليومين، وكيفَ أنهم خبئوا محصولَ القمحِ والشعير، وأخذوا معهم مفاتيحَ الدارِ واثقينَ من عودةٍ ستكونُ قريبة. لم ترهقهُ السنون، ولا بُعّد الأولادِ وهجرتهم، ولا متاعبَ الحياةِ و بساطةُ جارنا العزيز، بقدرِ ما أرهقتهُ كَلمة ُلاجئ.
موجةٌ أخرى من سعالٍ أجشٍ خانقٍ تبتلعُ أنفاسَهُ، وتعتصرُ عينيهِ دمعاً، ويصّفرُ لها وجهَهُ لدرجةِ الاختناق. وبعدَ أن تنتهيَ نوبة ُالسعال، كان ينظرُ إلى جارنا العزيز بعينيهِ الواسعتين اللامعتين قائلاً: "يا أبو أكرم أكادُ أراها أمامَ عيّني. هناكَ الجامعُ، وهناكَ بيتُ أبي محمود، تلكَ الشجرةُ زرعتها أم العبد، ذاك المقهى حيث كان أبي يجلسُ كلُ يوم، وهذا هو الطريقُ إلى حيفا. أراها أمامي يا أبو أكرم أحسُ بها قريبةً مني". وكمن لا يريدُ تصديقَ كل ما جرى له، يلتفتُ إلى صديقهِ الوحيد مُبعداً عنه سيلَ الأفكارِ المتشائمة: "صّب الشاي يا جار سنعود، والله سنعود، المسألة مسألة وقت لكننا سنعود".
كان والدي كلما تذكرَ بلدتهُ "اجزم" وطريقُ حيفا لمعتْ عيناهُ كأنهما نجمانِ في سماء.
في غرفةِ الإنعاشِ كان ممدداً على سريرهِ يصارعُ الوقتَ والمرضَ والموت. لم أستطعْ أن أخففَ عنهُ آلامهُ التي بدتْ لا نهايةَ لها. في تلكَ الغرفةِ صاحبة الأجهزةِ الحديثةِ المعطلة، و التي لم يكن يتحركُ فيها سوى ذلك "السيروم" المتراكض نقطةً إثر نقطةٍ، مطمئناً نفسي ولو قليلاً بأن هذا الجسد المحطم مازال على قيد الحياة.
هبتْ نسمةٌ رقيقةٌ إلى غرفةِ الإنعاشِ من خلال النافذةِ المفتوحةِ، جعلتهُ يشعرُ بارتياحٍ واضح. راحتْ عيناهُ الزرقاوان اللامعتان تحدقان مجدداً في السماء. في تلك اللحظةِ رأى والدي سرباً من العصافيرُ تطيرُ مبتعدةً، وانكشفتْ له سماء رأى فيها والدهُ جالساً على كرسّي الخيزران في مقهى القرية. رأى شيخهُ مَنْ حفظه القرآن وعلمه الكتابة والقراءة، رأى بيتهُ والبقرات التي قد تكون الآن جائعةً بعد غيبةِ يومين عنها. رأى أمهُ وكل الوجوهِ التي أَحبها، رأى طريقَ حيفا، وجارهُ العزيز"أبو أكرم"، ثم أغمضَ عينيهِ واستسلمَ لنومٍ عميق. نظرتُ إلى والدي الملقى أمامي على سريره البارد، فأدركتُ حينها أنه الآن فقط تخلصَ من عذاباتهِ اليومية، ومن سعالهِ الحاد، ومن وجعِ الصدرِ والرجلين، ومن آلامِ البُعاد عن الأرضِ، وهجرةَ الأولاد. . رحلَ موقناً أن اجزم صارتْ قريبةٌ مني.. إنها قريبةٌ مني.
11 /1/2000

حسام القاضي
30-05-2009, 08:56 PM
أخي الفاضل الأديب / وائل راشد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً مرحباً في الواحة
قرأت قصتك أكثر من مرة فقد شدتني أحداثها
وأسلوبك المميز في السرد ..
عمل يشير إلى قاص متمكن من أدواته
طرحت مشكلة اللاجئين بشكل عميق مؤثر وبلغة معبرة
تحمل في طياتها الكثير من الشجن والأسى لتحفر في وجداننا
آخاديداً لا أظنها تندمل..
تنقلت بين الماضي والحاضر بسلاسة مع تصعيد الحدث
ليبلغ ذروته مع لحظة النهاية المؤثرة ، والتي قد أختلف
معك على جزئية بسيطة فيها
ولكن العمل رائع في مجمله .

للتثبيت

وائل راشد
31-05-2009, 01:35 PM
الأديب الجميل حسام القاضي:
ببالغ تقدير واجلال انحني لمرورك الكريم على قصتي. وصفك لقصتي بالعمل الرائع اسعدني ، وما اسعدني اكثر هو قراءتك لها اكثر من مرة. اعجابك بقصتي وتقييمك سيدي شرف كبير حضيت به . خالص المودة والاحترام والتقدير

راضي الضميري
31-05-2009, 07:53 PM
في قصتك هذه وجدتك تتكلم عنّا جميعا ، تتكلم عن جدي وعن مدينته الخضيرة في حيفا ؛ وجدتك تتكلم عن بلادنا كلها وعن كل لاجئ أخرج قسرا من دياره ، فذهب وهو يمني النفس بعودة قريبة ، الكل عاد إلى موطنه ، وبقينا نحن لاجئين من طراز خاص وفريد من نوعه .

لكننا سنعود " سنرجع يوما إلى حينا "

كنت رائعًا جدًا أيّها الأديب الجميل .

تقديري واحترامي

مازن لبابيدي
31-05-2009, 08:06 PM
السلام عليكم ورحمة الله
أخي وائل راشد
أرحب بك في الواحة الخضراء
أسعدتني جداً مشاركتك الأولى المتميزة من خلال قصة رائعة فعلاً في مضمونها وحبكتها وصورها ، وقد أحسن الأستاذ حسام بتثبيتها .
مشاركة تعدنا بمزيد من الأعمال الراقية لك والتي سننتظرها بشوق .
أخي وائل تحيتي وتقديري .

رشدي مصطفى الصاري
31-05-2009, 10:50 PM
إلى أبي ...
بعينيهِ شوقُ البلاد
واحتراق الانتظار
وأحلام المنفى
الأخ الفاضل وائل راشد
لقد استطاعوا بحقدهم أن يبعدوا أجسادكم عن أرض الوطن
لكن أرواحكم وعقولكم مازالت مغروسة في كل افيائه ,تزرع في كل ذرة تراب غرسة أمل وتصميم بالعودة
وطرد المحتل
وتعد الطيور والبلابل بأنها لا محالة ستغرد في يوم ما أنشودة الحرية والانتصار
امتناني واعجابي الشديدين بهذه القصة المعبرة

وائل راشد
01-06-2009, 12:42 AM
الأديب راضي الضميري:
" ان تشاركني حلم العودة الى بيتنا الطيني....الى حينا"، وبلهجة الواثق، ترك في نفسي انطباعاً ساحراً. انحني لكل الاقلام، والاصوات التي تعلو مناصرة لقضيتنا الفلسطينية. ولقضية كل لاجىء حمل الوطن بين ضلوعه ، جرحاً دامياً لن يلتئم الا بالعودة . شكراً لاحساسك المرهف.شكراً لنبيل مشاعرك. اديبنا الرقيق شكراً لمرورك الكريم ولجميل كلماتك.

وائل راشد
01-06-2009, 01:01 AM
الأديب الجميل مازن لبابيدي :
سعدت بشهادتك التي أعتز بها، وبتزكيتك لقصتي المتواضعة. وأشكر لك جميل مشاعرك ، وشوقك لمشاركاتي القادمة.
سيدي شرف لي أن تنال قصتي اعجابك . مع بالغ مودتي واحترامي

وائل راشد
01-06-2009, 01:17 AM
الأديب رشدي مصطفى الضاري:
" كلماتك العذبة. وامنياتك الرقيقة..ومرورك البهي .. واعجابك بقصتي .. شرفني . وان تشاطرني حلم العودة ، وطرد المحتل. عودة كل الطيور الشريدة والبلابل لتنشد نشيد الحرية والاستقلال يزيدني شرفاً. اسعدني مرورك سيدي لك جل احترامي

الطنطاوي الحسيني
03-06-2009, 07:06 PM
قصة غاية في الروعة والمعالجة
شيئ منها يحفر داخل كل عربي ومسلم
البعد والهجرة والغول التعسفي القابع على ارض الطهر
اخي الحبيب وائل راشد انت قاص مبدع
واجزم ستكون قريبة بعد ذلك للاحياء ان شاء الله
تقديري وامتناني
دمت مبدعا متألقا

سمير خليفة
03-06-2009, 09:16 PM
الاستاذ الفاضل والكاتب المبدع وائل راشد
العودة هي الحلم الذي نحيا لاجله . طوبى لكل الاقلام التي ما زالت تدق نواقيس العودة وانا لعائدون .

وائل راشد
03-06-2009, 11:34 PM
الشاعر الجميل الطنطاوي الحسيني:
عندما كتبت قصتي هذه منذ فترة طويلة، كنت مدركاً بأن موضوعها سيكون مرافقاً لي حتى مماتي . لأني كتبت عن بيتي وعن قريتي وعن مدينتي "التي اخبرني والدي عنها بما يكفي من الحكايا"، لأحبها و لتسكن بين ضلوعي محتلةً مكان القلب. كتبتُ أبي... اللاجىء العجوز الذي عانى ما عاناه.. فتكون لدي خليط عجيب من العشق، والحنين المعجون بتراب فلسطين "التي ولِدتُ بعيداً عنها". ولا أُخفيك لم أشعر بالدهشة عندما تفاعل مع قصتي مجمع الأدباء والكتاب. فصاحب كل قلم حر يدرك بأننا وحدنا القادرين على كتابة مستقبلنا نحن أبناء هذا الوطن ، ونحن من يحمل همومه وأوجاعه من المحيط الى الخليج . كل أرضٍ محتلة هي أرضنا، وهي لأولادنا من بعدنا. فطوبى لكم يا أصحاب القلم الحر.
مع بالغ مودتي واجلالي لك أيهاالشاعر الرقيق

حسام القاضي
04-06-2009, 03:12 PM
نُشرت هذه القصة في جريدة القبس الكويتية
عدد اليوم الخميس الموافق 4 / 6 / 2009
هنا:
http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=505862&date=04062009
مبروك
إلى مزيد من التألق بإذن الله

وائل راشد
05-06-2009, 01:12 AM
اسعدني سيدي اهتمامك بقصتي وتزكيتها لتنشر في جريدة القبس الكويتية . لك مني ارق السلام والتقدير مع خالص شكري

سعيدة الهاشمي
10-06-2009, 01:22 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أول ما قرأت عند دخولي الواحة أخي الكريم وائل قصتك المنصهرة حروفا أليمة هاهنا

أخذتني بعيدا وزرعتني وسط الحدث فعشته ولامست مرارة الواقع ولو من بعيد

أحييك على أسلوبك السيق وسردك الراقي وتستحق أن تنشر في الجريدة وأكثر

احترامي وتقديري.

وائل راشد
10-06-2009, 06:01 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أول ما قرأت عند دخولي الواحة أخي الكريم وائل قصتك المنصهرة حروفا أليمة هاهنا

أخذتني بعيدا وزرعتني وسط الحدث فعشته ولامست مرارة الواقع ولو من بعيد

أحييك على أسلوبك السيق وسردك الراقي وتستحق أن تنشر في الجريدة وأكثر

احترامي وتقديري.
الأستادة سعيدة الهاشمي:
شكرا لمروركم الكريم على قصتي المتواضعة، وان كانت قد نالت منكم شرف القراءة والاهتمام ، انما يدل على ان المشاعر الانسانية في الوطن العربي واحدة . نفس الوجع ، نفس الحلم ، نفس الهدف
شكرا لك سيدتي على عميق مشاعرك

وائل راشد
11-06-2009, 02:51 AM
الاستاذ الفاضل والكاتب المبدع وائل راشد
العودة هي الحلم الذي نحيا لاجله . طوبى لكل الاقلام التي ما زالت تدق نواقيس العودة وانا لعائدون .
الاستاذ الفاضل سمير خليفة:
لعلي التقي واياك ببعض المواضيع التي تحمل جرح الوطن الدامي .العودة .اللجوء . المنفى. ووجع سكن بين ضلوع كل لاجىء دمت جميلا ومتألقا سيدي
مع بالغ التقدير

وائل راشد
15-06-2009, 01:07 AM
الاستاذ الفاضل والكاتب المبدع وائل راشد
العودة هي الحلم الذي نحيا لاجله . طوبى لكل الاقلام التي ما زالت تدق نواقيس العودة وانا لعائدون .
الكاتب الجميل سميرخليفة
شكرا على مرورك اللطيف على قصتي مع بالغ محبتي

ربيحة الرفاعي
14-07-2014, 02:49 AM
عرضت مأساة اللاجئين ببراعة قصّيّة وتمكن من الفكرة نجحت من خلالهما بشد القارئ لنصك واستدراجه ليعيش حسّه ويعايش معاناة بطله
قص موفق بغايته وتوصيلها

دمت بخير

تحاياي

خلود محمد جمعة
16-07-2014, 03:53 PM
خرج والدي من قريته وهو لم يتجاوز السابعة من سنين عمره وعاش وحلم العودة يرفرف في سماءه
رفض شراء أي قطعة ارض أو بيت على يقين العودة
في النهاية ادرك بسره انه لن يعود
كان أمله الوحيد ان تعانق روحه تراب الوطن ويدفن هناك
لم يتحقق الحلم
عاش لاجئاً ومات غريباً
ابي العزيز لم أستطع دفنك هناك ، فهل ستسامحني؟
رحم الله أرواحهم
قصة اخترقت القلب وهزت الوجدان
دمت بخير
كل التقدير

أ

نداء غريب صبري
13-09-2014, 01:46 AM
قصة اللاجئ واللجوء هي العذاب الذي لن يفهمه يوما من لم يعشه
كنت أتصور أني قادرة على فهمه من خلال قراءاتي، لأجد بعد أن عشت التجربة أني كنت مترفة أتفرج على المقهورين

قصتك جميلة ومؤثرة الحبكة مميزة زادتنا بقفزاتها الزمانية انشدادا للنص

شكرا لك أخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
13-09-2014, 07:40 PM
كم هي صعبة ٌأن تتحولَ بين عشيةٍ وضحاها إلى لاجئ!!.
وكم هو صعب أن ينحول نصف سكان الوطن العربي إلى لاجئين
فمن فلسطين إلى سوريا والعراق وليبيا .. والحبل على الجرار
وفي قصتك وصف لشعور كل لاجئ ـ قصة مؤثرة تستقي جمالها
من واقعيتها.. قصة جمعت بين لغة عذبة أثيرة ووصف باهر
وحسن بناء ، وعميق فكر .. لوحة شاعرية أنيقة بتصوير رائع
وسرد ماتع ونهاية اتقنت نسجها.
جل تقديري وتحياتي.