فائز حسن العوض
10-06-2009, 10:21 AM
الشهيد (4)
حين تحسست أصابعُه نعومة الحديد وهي تنزلق في إنسياب على ماسورة البندقية من مقدمتها متجهة صوب وسطها غمرة إحساس ملمس فروةِ كلبٍ ضخم ، كان في ذلك تعزيه لنفسه وتسلية لها في وحدتها ، في هذه الأثناء هبت نسائم شمالية باردة تدحرجت إثرها ذرات الرمل من فوق رؤوس التلال وظلت تسيل حتى بعد أن توقفت النسمات باتجاه المنحدرات على الجانبين متدافعة فوق بعضها مكونة تلالاً جديدة تكبر شيئاً فشيئاً مقتطعة لها شكلاً وظلاً تجلوها الرياح وتحدها كنصل ثم لا تلبث الريح أن تصنع من هذه التلال الجديدة تلالاً أخرى تكبر مع الأيام وهكذا مُتبعة كل ذلك بصفير متقطع أشبه بالمناحة.
كانت السماء قريبة لحدّ لا يوصف فيكفي أن تصعد أحد هذه التلال لتمسها بيديك والنجوم تتمرجح على خيوط من نور مربوطة إلى السماء كان ضوءها الدقيقي الأبيض قد غبّر كل شئ ، التلال الرملية ، وخوذات المقاتلين وبنادقهم ، الأسلاك الشائكة حول المعسكـر ، كما كان اهتـزاز النجوم في خيوطها يبعـث في النفس خدراً لذيذاً فلا يكون بمقدورك إلا أن تتمرجح معها وتملأ عينيك بالنعاس حيث تنسرب الأحلام من شروخ في السماء يأتي منها الأهل والأقارب لزيارة أبنائهم وأحبتهم كلّ ليلة لا يكون فيها قتال ، وغالباً لا تكون الليالي المقمرة للقتال. إذ يفضل المقاتلون الظلام لأنه يسمح بحرية المناورة والإنسحاب تحت جنح الظلام ، أما الليالي المقمرة فهي لأشياء أخرى ... كان المقاتلون يسامرون أهليهم وأحبتهم همساً في دواخلهم فالجلبة تأتي بالأعداء والتعليمات صارمة . لا سجائر ، لا أصوات ، لا أنوار ، باختصار لا شئ مسموح سوى الرصاص ، إذا إرتاب احدهم في شئ ما وقد يحدث أن يطلق احدهم النار على شجرة أو صخرة أو بنطال على حبل تركه احدهم ليجفّ فيصبح ذلك مثار تندرهم في اليوم التالي ولأيام أخرى قادمة ، وقد تصيب احدهم الحمي فيهذي بالقتل والمدافع ويطلق النار في الهواء خائلاً أنهم الأعداء ليختلط الحابل بالنابل وتعم الفوضى حتى تتضح الأمور... على العموم كان المقاتلون من وحداتٍ مختلفةٍ جنود متمرّسون ، متطوّعون ، وحدات من الدفاع الجوي بعضهم حارب في الجنوب. أكثرهم سمع عن الحرب ولم يعرفها. أما أغرب ما في الحرب هي أنها مع وضد أبناء الوطن الواحد في نفس الوقت مما يوغر في صدور الرجال ويورثهم تعاسة ومرارة لا حدود لهما. كان شبح الموت يحوم فوق الجميع بلا استثناء ولا يتركهم إلا مؤقتاً في إجازاتهم القصيرة ، وفي بعض الأحيان يفرّ نفرّ من الجنود صغار السن والذين لم يعرفوا الحرب ، قبلا ، من ميدان القتال فيقبض عليهم ويتم إرجاعهم مرة أخرى مع تشديد الحراسة عليهم منعاً لإنهيار الجبهة كما يتم تهديدهم بالإعدام رمياً بالرصاص حسب القوانين العسكرية.
كان طعم المكان كريهاً ولزجاً كالجيفة المتعفنة ، لكن حين يطلع الصباح يتنفس لمقاتلون الصعداء ويكون عليهم إخلاء الجرحي ودفن الموتى أو أحلام البارحة إن لم يكن هنالك قتال ، وكثيراً ما يرحل الرجال عن هذه الدنيا وصدورهم ملأى بالأحلام العريضة ، كان الموتى يُدفنون بملابسهم كما تقضي بذلك اللوائح العسكرية. أما الجرحي فيسحبون للخطوط الخلفية تشيعهم نظرات الحسد من زملائهم ، كانت المعارك تفضي للتعاسة وهي بدورها تقود للحزن الذي يورث المأساة والفجيعة لتتشابك سلسلة طويلة ومتصلة من الحلقات تجر إحداها البقية كما تسحب حلقة الجنزير إخواتها الأخريات فتدور تروس المأساة والأيام والقتال والطلقات والحرب وأخيراً أمنيات المقاتلين بإنتهاء الحـرب دون جدوى ... وفي بعض الأحيان يصيب المقاتلين يأس مقيت من إستمـرار الحرب ولا يدرون لماذا لا تتوقف الحرب اللعينة ؟!! وما هو سببها أصلاً ؟ !!
وفي الصباح الباكر تتمرّغ الحياة بأحلامها في الغبش ويرفع الموت يديه من فوق المقاتلين إلى حين فيسعد الجنود أن كتب الله لهم يوماً آخر في الحياة.
بإنتظار حدوث المعجزة ولكن رغم فظاعة المأساة فإن ضفاف الرجال تموج قمحاً محلول الضفائر تمشطه الرياح زمناً حتى تتعب أناملها فتترك الباقي دون تمشيط ، أما البقية الباقية من ضفاف الرجال فكانت ماءاً وطمياً وحليباً وعسلاً وأشرعة محلولة بانتظار الرياح ، لكن لا رياح تأتي أو تمني بالمزار .
على يمين المقاتلين بجانب المعسكر ترقد المقبرة في هدوء وجلال مهيب بما يتناسب وجلال الموت ووقاره ، كانت تقترب من المعسكر في كثير من الأحيان وتدخله أثناء ساعات القتال لتختار سكانها الجدد فيصبح الواحد منهم ليجد نفسه قد فرش لحافه فوقها تماماً ويظل يبيت لياليه التالية في المقبرة ، لكنه في النهار ينظف سلاحه ويسامر أصدقاءه ويسخر منهم في بعض الأحيان حتى إذا تم نقل المعسكر أتعسه ارتحال المقاتلين فيفقد أنسهم وأنيسهم ويقرر الإقامة بصورة دائمة في المقبرة ، حينئذٍ يفتقده المقاتلون للفراغ الذي تركه فيهم ويظلوا يذكرون كلماته وطريقته في حمل السلاح وتنظيفه فتكبر في دواخلهم مساحة الحزن وتتمدد فوق مساحات الفرح حتى تصبح أكواماً فوق بعضها البعض أكبر من التلال الرملية من حولهم فتمطر المقاتلين بآلياتهم وبنادقهم والمقبرة ومناطق القتال بأكملها فلا يبدو منها سوى جبال من الحزن والتعاسة فوق بعضها ... ثم لا شئ.
يتذكر المقاتلون تلك الليلة بالكثير من المرارة ويقولون أن الليل كان أشد سواداً من الظلم وأكثر نعومة من قطعة مخمل في البحيرات الباردة والسماء مغطاة بألحف سميكة من الغيوم كقطع الدم المتجلط الجامد. كان الموت يُملسُ رؤوس المقاتلين ويخلل شعورهم بأصابع نحيلة تتراخي إثرها جذوة الحياة في بعضهم ممن يسمون فيما بعد بالشهداء. كان شهيدنا اليوم واحداً من الذين استطيبوا تمليس الأصابع على شعره. في تلك الأثناء وفي الخطوط الخلفية كانت الاجتماعات الصاخبة على الجانبين على أشدها ، والتصريحات المتضاربة تُجترُ كقطعة لحم مُضغت عشـرات المرات وفي كل مرة يتهرّأ لحمُها وتنتنُ رائحتها. قال أحدهم بعد أن ضرب المائدة بباطن كفة بقوة.
إن أي تنازل لهو خيانة عظمى في حق الوطن ودم الشهداء. وبعد أن أنهى خطابه غاص في كرسيه الوثير تاركاً لبرودة الهواء في القاعة أن تتخلل ذرات جسده ذرة فذرة. في تلك اللحظات كانت الشظايا تمزق أحشاء المقاتلين من الطرفين.. حينها كان بعضهم يتضرّج في دمائه وتسحبه الطلقات بعيداً عن زملائه وعن الدنيا بصخبها وضجيجها ورنين أجراسها وورودها النضيرة المتفتحة ، والتي لم تتفتح بعد ، والتي تتأرجح على أغصانها متشابكة كالأيدي ذات يوم ، أو يتبادلها مقاتلوا الطرفين إذا توقفت الحرب حيث ترقص الأغصان فوق الجميع ، حينها تمتلئ السماء بالأناشيد وتطير الحمائم فرحاً بالشمس وهي تدفئ ريشها بين السماء والأرض قبل أن يصلنا شعاعها على الأرض فيخبرنا أن الشمس قد أشرقت فتقرع الكنائس أجراسها مُحدِثة رنينها الحلو وتتردد أصوات الآذان في جنبات السماء وتمتلئ الأديرة بالدعوات ، والغابات بقرع الطبول والرقصات فيترك المقاتلون بنادقهم ويستقبلون الشمس كالآخرين ويبتسم شهداؤنا في قبورهم قائلين:-
بمقدورنا الآن أن ننام في هدوء. وتنبت في أرض المعركة أزهار الياسمين ويصدأ نحاس الألغام ويتآكل ثم يذوب وتمتصه جذوع الأشجار نسغاً دون أن يصيب أحداً.
كانت تلك هي أحلام الجميع بمن فيهم شهيد الليلة رغم انه ما زال ينزف بغزارة قبل أن يُسحب للخطوط الخلفية ليعالج من جرح في جنبه ، لكن يدا الموت كانتا قد طوقتاه تماماً ، طلب منهم مقابلة والده ليوصيه لكنهم تعللوا بعدة أسباب حتى لا تفزع المدينة فكان يردد الشهادة ووصيته الأخيرة.
حين غسلوه كانت أصابعه مطبقة لكنهم وجدوا في راحتيه عبارة ( أوقفوا هذه الحرب اللعينة ).
حين غسلوا يديه بالماء صار بعض الحبر يذوب ويتحلل حتى إزرقّ الماء لكن العبارة لم تمحى ودفنوه والحروف براحتيه وإحمرار الحناء على أظافره.
مسرحت وحصلت علي عدة جوائز ( مهرجان الثقافة الثالث _ كسلا - السودان )
1/ جائزة الأولي _ أحسن إخراج
2/ جائزة الأولي _ أحسن ممثل
3/ جائزة الأولي _ أحسن ممثلة
4/ جائزة الأولي _ أحسن ديكور وإكسسوار
5/ الجائزة ( الثانية ) أحسن نص مسرحي ؟!!
حين تحسست أصابعُه نعومة الحديد وهي تنزلق في إنسياب على ماسورة البندقية من مقدمتها متجهة صوب وسطها غمرة إحساس ملمس فروةِ كلبٍ ضخم ، كان في ذلك تعزيه لنفسه وتسلية لها في وحدتها ، في هذه الأثناء هبت نسائم شمالية باردة تدحرجت إثرها ذرات الرمل من فوق رؤوس التلال وظلت تسيل حتى بعد أن توقفت النسمات باتجاه المنحدرات على الجانبين متدافعة فوق بعضها مكونة تلالاً جديدة تكبر شيئاً فشيئاً مقتطعة لها شكلاً وظلاً تجلوها الرياح وتحدها كنصل ثم لا تلبث الريح أن تصنع من هذه التلال الجديدة تلالاً أخرى تكبر مع الأيام وهكذا مُتبعة كل ذلك بصفير متقطع أشبه بالمناحة.
كانت السماء قريبة لحدّ لا يوصف فيكفي أن تصعد أحد هذه التلال لتمسها بيديك والنجوم تتمرجح على خيوط من نور مربوطة إلى السماء كان ضوءها الدقيقي الأبيض قد غبّر كل شئ ، التلال الرملية ، وخوذات المقاتلين وبنادقهم ، الأسلاك الشائكة حول المعسكـر ، كما كان اهتـزاز النجوم في خيوطها يبعـث في النفس خدراً لذيذاً فلا يكون بمقدورك إلا أن تتمرجح معها وتملأ عينيك بالنعاس حيث تنسرب الأحلام من شروخ في السماء يأتي منها الأهل والأقارب لزيارة أبنائهم وأحبتهم كلّ ليلة لا يكون فيها قتال ، وغالباً لا تكون الليالي المقمرة للقتال. إذ يفضل المقاتلون الظلام لأنه يسمح بحرية المناورة والإنسحاب تحت جنح الظلام ، أما الليالي المقمرة فهي لأشياء أخرى ... كان المقاتلون يسامرون أهليهم وأحبتهم همساً في دواخلهم فالجلبة تأتي بالأعداء والتعليمات صارمة . لا سجائر ، لا أصوات ، لا أنوار ، باختصار لا شئ مسموح سوى الرصاص ، إذا إرتاب احدهم في شئ ما وقد يحدث أن يطلق احدهم النار على شجرة أو صخرة أو بنطال على حبل تركه احدهم ليجفّ فيصبح ذلك مثار تندرهم في اليوم التالي ولأيام أخرى قادمة ، وقد تصيب احدهم الحمي فيهذي بالقتل والمدافع ويطلق النار في الهواء خائلاً أنهم الأعداء ليختلط الحابل بالنابل وتعم الفوضى حتى تتضح الأمور... على العموم كان المقاتلون من وحداتٍ مختلفةٍ جنود متمرّسون ، متطوّعون ، وحدات من الدفاع الجوي بعضهم حارب في الجنوب. أكثرهم سمع عن الحرب ولم يعرفها. أما أغرب ما في الحرب هي أنها مع وضد أبناء الوطن الواحد في نفس الوقت مما يوغر في صدور الرجال ويورثهم تعاسة ومرارة لا حدود لهما. كان شبح الموت يحوم فوق الجميع بلا استثناء ولا يتركهم إلا مؤقتاً في إجازاتهم القصيرة ، وفي بعض الأحيان يفرّ نفرّ من الجنود صغار السن والذين لم يعرفوا الحرب ، قبلا ، من ميدان القتال فيقبض عليهم ويتم إرجاعهم مرة أخرى مع تشديد الحراسة عليهم منعاً لإنهيار الجبهة كما يتم تهديدهم بالإعدام رمياً بالرصاص حسب القوانين العسكرية.
كان طعم المكان كريهاً ولزجاً كالجيفة المتعفنة ، لكن حين يطلع الصباح يتنفس لمقاتلون الصعداء ويكون عليهم إخلاء الجرحي ودفن الموتى أو أحلام البارحة إن لم يكن هنالك قتال ، وكثيراً ما يرحل الرجال عن هذه الدنيا وصدورهم ملأى بالأحلام العريضة ، كان الموتى يُدفنون بملابسهم كما تقضي بذلك اللوائح العسكرية. أما الجرحي فيسحبون للخطوط الخلفية تشيعهم نظرات الحسد من زملائهم ، كانت المعارك تفضي للتعاسة وهي بدورها تقود للحزن الذي يورث المأساة والفجيعة لتتشابك سلسلة طويلة ومتصلة من الحلقات تجر إحداها البقية كما تسحب حلقة الجنزير إخواتها الأخريات فتدور تروس المأساة والأيام والقتال والطلقات والحرب وأخيراً أمنيات المقاتلين بإنتهاء الحـرب دون جدوى ... وفي بعض الأحيان يصيب المقاتلين يأس مقيت من إستمـرار الحرب ولا يدرون لماذا لا تتوقف الحرب اللعينة ؟!! وما هو سببها أصلاً ؟ !!
وفي الصباح الباكر تتمرّغ الحياة بأحلامها في الغبش ويرفع الموت يديه من فوق المقاتلين إلى حين فيسعد الجنود أن كتب الله لهم يوماً آخر في الحياة.
بإنتظار حدوث المعجزة ولكن رغم فظاعة المأساة فإن ضفاف الرجال تموج قمحاً محلول الضفائر تمشطه الرياح زمناً حتى تتعب أناملها فتترك الباقي دون تمشيط ، أما البقية الباقية من ضفاف الرجال فكانت ماءاً وطمياً وحليباً وعسلاً وأشرعة محلولة بانتظار الرياح ، لكن لا رياح تأتي أو تمني بالمزار .
على يمين المقاتلين بجانب المعسكر ترقد المقبرة في هدوء وجلال مهيب بما يتناسب وجلال الموت ووقاره ، كانت تقترب من المعسكر في كثير من الأحيان وتدخله أثناء ساعات القتال لتختار سكانها الجدد فيصبح الواحد منهم ليجد نفسه قد فرش لحافه فوقها تماماً ويظل يبيت لياليه التالية في المقبرة ، لكنه في النهار ينظف سلاحه ويسامر أصدقاءه ويسخر منهم في بعض الأحيان حتى إذا تم نقل المعسكر أتعسه ارتحال المقاتلين فيفقد أنسهم وأنيسهم ويقرر الإقامة بصورة دائمة في المقبرة ، حينئذٍ يفتقده المقاتلون للفراغ الذي تركه فيهم ويظلوا يذكرون كلماته وطريقته في حمل السلاح وتنظيفه فتكبر في دواخلهم مساحة الحزن وتتمدد فوق مساحات الفرح حتى تصبح أكواماً فوق بعضها البعض أكبر من التلال الرملية من حولهم فتمطر المقاتلين بآلياتهم وبنادقهم والمقبرة ومناطق القتال بأكملها فلا يبدو منها سوى جبال من الحزن والتعاسة فوق بعضها ... ثم لا شئ.
يتذكر المقاتلون تلك الليلة بالكثير من المرارة ويقولون أن الليل كان أشد سواداً من الظلم وأكثر نعومة من قطعة مخمل في البحيرات الباردة والسماء مغطاة بألحف سميكة من الغيوم كقطع الدم المتجلط الجامد. كان الموت يُملسُ رؤوس المقاتلين ويخلل شعورهم بأصابع نحيلة تتراخي إثرها جذوة الحياة في بعضهم ممن يسمون فيما بعد بالشهداء. كان شهيدنا اليوم واحداً من الذين استطيبوا تمليس الأصابع على شعره. في تلك الأثناء وفي الخطوط الخلفية كانت الاجتماعات الصاخبة على الجانبين على أشدها ، والتصريحات المتضاربة تُجترُ كقطعة لحم مُضغت عشـرات المرات وفي كل مرة يتهرّأ لحمُها وتنتنُ رائحتها. قال أحدهم بعد أن ضرب المائدة بباطن كفة بقوة.
إن أي تنازل لهو خيانة عظمى في حق الوطن ودم الشهداء. وبعد أن أنهى خطابه غاص في كرسيه الوثير تاركاً لبرودة الهواء في القاعة أن تتخلل ذرات جسده ذرة فذرة. في تلك اللحظات كانت الشظايا تمزق أحشاء المقاتلين من الطرفين.. حينها كان بعضهم يتضرّج في دمائه وتسحبه الطلقات بعيداً عن زملائه وعن الدنيا بصخبها وضجيجها ورنين أجراسها وورودها النضيرة المتفتحة ، والتي لم تتفتح بعد ، والتي تتأرجح على أغصانها متشابكة كالأيدي ذات يوم ، أو يتبادلها مقاتلوا الطرفين إذا توقفت الحرب حيث ترقص الأغصان فوق الجميع ، حينها تمتلئ السماء بالأناشيد وتطير الحمائم فرحاً بالشمس وهي تدفئ ريشها بين السماء والأرض قبل أن يصلنا شعاعها على الأرض فيخبرنا أن الشمس قد أشرقت فتقرع الكنائس أجراسها مُحدِثة رنينها الحلو وتتردد أصوات الآذان في جنبات السماء وتمتلئ الأديرة بالدعوات ، والغابات بقرع الطبول والرقصات فيترك المقاتلون بنادقهم ويستقبلون الشمس كالآخرين ويبتسم شهداؤنا في قبورهم قائلين:-
بمقدورنا الآن أن ننام في هدوء. وتنبت في أرض المعركة أزهار الياسمين ويصدأ نحاس الألغام ويتآكل ثم يذوب وتمتصه جذوع الأشجار نسغاً دون أن يصيب أحداً.
كانت تلك هي أحلام الجميع بمن فيهم شهيد الليلة رغم انه ما زال ينزف بغزارة قبل أن يُسحب للخطوط الخلفية ليعالج من جرح في جنبه ، لكن يدا الموت كانتا قد طوقتاه تماماً ، طلب منهم مقابلة والده ليوصيه لكنهم تعللوا بعدة أسباب حتى لا تفزع المدينة فكان يردد الشهادة ووصيته الأخيرة.
حين غسلوه كانت أصابعه مطبقة لكنهم وجدوا في راحتيه عبارة ( أوقفوا هذه الحرب اللعينة ).
حين غسلوا يديه بالماء صار بعض الحبر يذوب ويتحلل حتى إزرقّ الماء لكن العبارة لم تمحى ودفنوه والحروف براحتيه وإحمرار الحناء على أظافره.
مسرحت وحصلت علي عدة جوائز ( مهرجان الثقافة الثالث _ كسلا - السودان )
1/ جائزة الأولي _ أحسن إخراج
2/ جائزة الأولي _ أحسن ممثل
3/ جائزة الأولي _ أحسن ممثلة
4/ جائزة الأولي _ أحسن ديكور وإكسسوار
5/ الجائزة ( الثانية ) أحسن نص مسرحي ؟!!