المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملائكة وشياطين ..



عبدالمنعم حسن
07-08-2009, 07:29 PM
ملائكة وشياطين ..






سألني: ما الفرق بين الصديق والصاحب؟

فأجبته: لا أراك إلا في الدرك الأسفل من الحمق!! وقد عشتَ في هذه الدنيا ما عشتَ، وصحبتَ من البشر من صحبتَ ... ثم لم تزل بَعْدُ بَعيدَ مرمى الطرف، قصيرَ خطو النظر إلى منار الفرق بين الصديق والصاحب، لا تميز بين مَن عليك ومَن لك ومن كان الأمر كفافاً بينك وبينه ..

ولو سُطِّر اسمُك في سجل المعجزات مع الذين مشت معهم الخوارق، وانشق منك فرع آخر هو أنت وأنت هو ... لغاب تصنيفه عن فهمك، وتوارت صفته عن إدراكك، وكان الحكمُ عليه عينَ الحكم له عندك، مع الحرص على معرفة أمره وتفسيرِ كنهه وكشف سره وجهره ...

ثم أردفتُ موبخاً ومقرراً إياه على حمقه: كأنك أنكرت مني هذه القسوة في الخطاب، فإن فعلتَ فأنت جائر؛ إذ صرفتَ شيئا في غير مصرفه،وحكمتَ على أمر بغير حكمه، وألبستَ الواقع حلة لم تُفصَّل على قده، وكان الأولى بك والأليق أن تُسلط الإنكار على نفسك، وتتوجه بالاتهام إلى فهمك، وتسيء الظن بأمسك ويومك؛ لأن العاقبة لغدك، والتنبهَ للباقي من يومك، واللعنةَ على أمسك!

فاشْرأَبَّ الغمر بعنقه مستزيدا، وقرأتُ ذلك في قسماته، وعرفتُ مقتضى حاله، فأطنبتُ: ما أنت والحياة إن لم يسعفك فهمك بالتفريق بين الصديق والصاحب؟! إن استطعتَ إلى الموت سبيلا فمت لا أبا لك، وخلص قومك من مؤنتك، وتصدق عليهم بالتخفيف من ثقلك؛ فإنك قد أبرمْتَ وأثقلْتَ، وألحفْت ونفَّقْت... وللحياة حق عليك لم تؤده، وواجب لم تقم به فضلا عن أن تعرفه، وأنت مدين لها بثمن كأنك جحدته، واستفقرْتَ ـ مماطلاً ـ وأنت الغني ..

أي لكع .. إليكها سافرة جلية، واضحة نقية، بيِّنة عربية : لن تعرف نفسك ما لم تعرف من صحبت، وتستبطن من رافقت كما استظهرته .. فاسمع وع، تُرفع وتوق ...

لقد رافقتُ صنوفاً من ولد آدم كثيرة، لو وُضعوا في كفة وزحلُ في كفة لم يمِدْ بهم زحل، يجلُّون عن العد ولا يدقون عن الوصف، فهم صفحات فصيحة ماثلة لكل من ليس أميًّا، تنفذ سطورها عنوة في خلايا القراءة لدى كل من ألجأته الحياة إلى السير معهم في ميدان الصحبة، والامتزاج بهم في نظام الرفقة .. عرفتُ قوادمهم وخوافيهم، وخبرت مطالعهم وقوافيهم، وعجمت أعوادهم فكنتُ لها أمهر مثقف، واختبرت قسيَّهم فصرت لها أبرع مقوِّم، وما زال حكمي عليهم ذاتَ حكم الطبيعة عليهم، ورأيي فيهم عينَ رأي الحقيقة فيهم.. تندُّ طبائعهم من عُقُلها فتعدو لا تلوي على شيء حتى تأتي ساحتي متجردة من كل ستر، فصيحةً عن الرغوة، لا تذهب باللب من الشك أيَّ مذهب، بل تقر أمام العقل والحدس بحقيقتها الطبيعية إقرار التائب النادم ...

صحبتُ منهم من يُقبِل عليك بغير ما يدبر عنك، ويرضى منك حين لقياه ـ بحسه وروحه ـ راغباً لا مرغَماً، وسرعان ما يمحو مجلسٌ آخر مع غيرك أثر ذلك الرضى؛ فينكر ما كان به راضيا ـ بروحه وحسه ـ مرغَماً لا راغباً .. وإذا خلا إلى هواجسه وهمومه لم يحاسب فيك نفسه، ولم يراجع ثَم ضميره .

وصحبت منهم من يطلبك لنفسه، ويستأثر بك لمصالحه التي إن تَعارض أدناها مع أعلى مراتب صحبتك لعن الصحبة، وكال بمكيالين، وبخس الحقيقة، وطفف في ميزان الصدق .. ألا يظن أن مصلحةً ما ستُبعث غداً وتبعث حاجتُه إلى لون جديد من التهافت على ذلك الكائن المسخر له الذي يسميه مجازاً .. صاحب؟!!

وصحبت منهم من يصفي لك الود، ويخلص لك الخلة، فإذا نزلت به نازلة، وحلت به حالَّة، والتفت عنه الدهر ... زين له ابتسامُ الماضي بينك وبينه اللجوءَ إليك وإلقاءَ الثقل عليك، وويل لك إن لم يجدك حيث أمَّل، وافتقدك حيث تمنَّى، سيطفئ القنديل، ويسقي الترابَ الزيت، ويقطع الماء عن النبتة ... إلى إشعار آخر!!

وصحبت منهم الحالم اليقظ، الغافل المنتبه، فهو الدهرَ كلَّه أفرغُ من حجَّام ساباط، يتيقن في ظنه أنك ما خُلقت إلا له، وليس لك شغل إلا حشو ساعاته بالتسلية والتسري، ثقيل الظل، خفيف العقل، بارد الحديث، مجلسه لا يُهضَم، وصدره أوسع من وقته، فلا يأتي ما يستحق عليه الهجر صريحاً، ولا يمر بباله أن يغضب عليك فتنعم بالترك من قِبَله .. فسبحان من خلق الحمار!

وصحبت منهم من يهواك في مجلس، ويقليك في آخر؛ كأنك عمرو هناك وزيد هنا؛ فهو يقبل عليك هناك بملء بشاشته، يكاد يفر من جلده ليأرز إلى ثوبك إشعاراً لمن في المجلس بقوة الآصرة بينه وبينك، ومتانة العلاقة التي يتمتع بها كل منكما، وما هذا التهالك إلا من أجل عينين بينهما وبينك صلة يود لو يستأثر بهما لنفسه، ولا سبيل إلى الوصول إليهما إلا عن طريق جسر قريب مَدَّته إلى غايته صحبةُ إنسانٍ ما!!

وصحبت منهم الغربال الذي لا يمسك سرّاً ولا جهراً، يقيم صُلبَه على فُتاة الأنباء، فينقل إلى هذا ما قال عنه ذا، ويبْلغ ذاك ما سمعه من ذلك، فهو ببغاء لا يعرف مسالك الكلام، ولا يقْدر إلا على اجترار ما اقتاته من موائد غيره، فحديثه تكرار لما تَلقَّفه، ومؤانسته تقويض لفسطاط الصحبة .. ذَلّ!! ولو اكتفى بهذا القدْر لم يتضاعف الخطَر؛ بل إنه يلوي جيد المنقول بما أملاه عليه عقله الطفل، كالمتخم جار عليه سوء الهضم فجعل يدعو على نفسه بالويل والثبور تحت شمس السماء الملتهبة .. ذَلَّ وذل!!

وصحبت منهم من لم أذكر ممن اجتمعت عليه هذه الصفات ومثلها معها، فهو هالك إلا أن روحه لم تبْلغ ترقوته، وقلبَه ما زال يضخ دم الخيبة إلا رأسه ..

اللهم غفرا ..

وإذا كان هؤلاء شياطينَ .. فالصديق مَلاك .. فكُنْه ولا تكن شيطانا تنلْك الرفعةُ والوقاية .

د. سمير العمري
09-08-2009, 11:01 PM
الله الله ، ما أجمل نثرك ، وما أرقى همتك وأفصح عبارتك وأعمق نظرتك!

صدقت والله أيها الأديب المبدع الكريم.

ونص كهذا شكلا ومعنى يستحق التقديم والتقدير

للتثبيت تقديرا.

ملاك ... وددتها لو كانت ملكا.


أهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

سالم العلوي
09-08-2009, 11:26 PM
ما شاء الله لا قوة إلا بالله
إن من البيان لسحرا
ذكرتني بالمنفلوطي يرحمه الله
لقد جمعت الأدب والفكر كأجمل ما يكون الاجتماع ..
قلم كقلمك يا أخي حري به أن يكتب ويكتب
زدنا زادك الله من فضله ..
فتاة الأنباء =فتات الأنباء
دمت بخير وعافية.

فدوى يومة
11-08-2009, 01:12 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفاضل عبدالمنعم حسن
وكلما قرأت أعدت القراءة اتزان ودقة في الوصف
تقديري أيها الفاضل

سيلفا حنا حنا
11-08-2009, 03:00 PM
ماشاء الله ..
كلمات متزنة ولغة رصينة
وبيان مع فكر جلي
قلم مبدع يعيدنا إلى الأصالة.
سلم يراعك وسلم حرفك ونظمك
ننتظر ماتسطر هنا أيها الأديب المفكر..

ليوفقنا الله

خليل حلاوجي
11-08-2009, 06:55 PM
كان شرطي على الصاحب ... أن يعترف لي بذنوبي ... وجهاً لوجه .. فلبى

\


سطور عامرة بالثراء

لمى ناصر
12-08-2009, 01:29 PM
وصية غنية بالفكر

وكلمات تنبض بعمق اللوحة

فكانت كلمات أزهرت أوردتها بمتصفح الأناقة اللغوية

شكرا لأنك سمحت لنا الإقامة هنا.

عتيق بن راشد الفلاسي
13-08-2009, 12:26 PM
رائعة سطورك أيها الأديب الثبت.

محمد الحضوري
25-08-2009, 01:34 AM
الشاعر والكاتب
عبد المنعم حسن
أعجبني مقالك المتضمن تجربة حياة
وفيه من الحكمة ما يعتبر أولى الألباب
ودمت بخير

مصطفى السنجاري
28-08-2009, 07:53 PM
**)) دمت بإبداعك الثر أيها الأريب
يا لهذه الروعة..لك كل الود والتحية

راضي الضميري
30-08-2009, 01:49 PM
هذا نص رائع وبكل المقاييس ، أحييك أخي الكريم


كل عام وأنت بألف خير

عبدالمنعم حسن
10-09-2009, 04:33 PM
السيدات والسادة المحترمون ..


والله إني أكن في قلبي لكل من مر منكم هنا تقديرا واحتراما..
وأنا مدن لكم جميعا بالشكر العريض ..

واعذروني على التأخير
فللكسل أحكام..

تحياتي العطرات إليكم أيها السدنة الرائعون..

جهاد عفانة
27-09-2009, 09:28 AM
ضج المكان .. بحروف مرصعة بالماس
فنساب بين السطور بريق الابداع

نثرية جميلة فيها من المعاني ما يثلج الصدور

تقديري

ثائر الحيالي
24-03-2010, 08:00 PM
الأستاذ عبد المنعم حسن

نعم ..قد لايجد المرء في تزاحم الشخوص وهموم الحياة

ما يعينه على التمييز بين الصاحب ..والصديق..

فكم من شيطان إرتدى لبوس ملاك..

سلمت..وسلم مدادك

محبتي