المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كأس وبرج



فتحي العابد
03-10-2009, 02:06 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
كأس وبرج
كانت ليلة مطيرة، غير أن العم كمال أحضر ليمونه المعصور والمخلوط بالسكر، وحلوياته المعطرة بماء الورد والمذرور عليها من فوق السمسم، مبرجة في شكل هلال، حيث كان يسمى كأس الليمون مصحوبا بقطعة البسكويت (كأس وبرج)، ليقدمهما لحرفائه في الشوارع والمحطات العمومية من الصباح حتى الظهيرة..
لقد ساعدته زوجته في عصر الليمون طيلة المساء، وطهي خبزة الحلويات وقصها في شكلها النهائي.
غدا يوم جديد من أيام الله التي يقضيها عادة يدفع عربته المزيّنة على الجنبات بالورود البلاستيكية المختلفة الألوان، والمحملة بالعصير البارد بفاعل الثلج الذي يضعه كل صباح تحت سطلي الليمون المتمركزين داخل حوض العربة، بعدما يشتريه من سوق السمك القريب منه.
تهيأ للخروج طلبا لرزق عياله إثر تحميل عربته بأشيائه قبيل صلاة الصبح. طوى أزقة المدينة الهامشية تخللتها في الأثناء بعض الوقفات في الطريق قبل أن يستقر عند زاويته المعتادة ، لم ينس أيام الحر التي لا تكفيها مظلته الوارفة والمصنوعة من سعف النخيل، كان جرسه لا يكف عن النداء، الكل يعرف رنات جرسه المميزة.. الأطفال كانوا يهرولون إليه، يتحلقون حوله، يطلبون من كأس ليمونه أن يروي عطشهم.. ومن برج بسكويته أن يشبع جوعهم.. يتحدثون إليه، يسألونه عن كؤوسه وأبراجه وكيف صنعت؟ ولماذا هي مميزة عن باقي الكؤوس والأبراج؟ وعن أولاده، وهل يتمدرسون مثلهم؟
يتذكر الصغار مرة أنه رفض لنفر من السياح، أن يلتقطوا له صورة فولكلورية، ويتذكر هو كيف استغرب الأطفال الصغار تصرفه هذا، حيث عادة مايدفعون لمن يقبل أن يلتقط له صورة كتلك دراهم تكفيه أحيانا لمدة شهر.. وأنه رضي بالنزر اليسير مما اعتاد أن يطلبه من الأطفال عقب كل كأس وبرج..
ارتكن زاويته المألوفة، لم ينطق الجرس كالمعتاد، لم يعلن عن وصول الكأس والبرج.. إلا أنه كان يُسمع للجرس رنينا في همس، وكأنه استحيى ممن يمر به، عندما كانت قطرات المطر تلامس رأس الجرس الصقيل، أو لربما حتى لا يُنعت رفيقه بما لا يبغيه.
فجأة استفاق على أصوات.. استدار، خشي أن يكون هناك من يحذره من أمر ما.. فرك عينيه، وإذا بالصغار يتحلقون حوله كما اعتادوا في الأيام السابقة، وأيام الهجير.. وابتسامات اشتياق مثل الفراش تطير حول وجوههم الصغيرة والبريئة، والكل يصيح: إعطني كأس وبرج.. فقد شاح حلقي وهدني الظمأ..
كان العم كمال يعاقر شراب الكلمات التي تخرج من أفواه أولائك الصبية، كما يعاقر أولائك الصبية كؤوس ليمونه التي لا يرتوون منها، مثلما لا يرتوون من بوح حكاياته الطريفة والجميلة...
كانت تلك الأيام بالنسبة لي، حلم.. ولّدت في أفكارا جديدة في عيون الغد، وحكاية كفاح تتجدد عند بداية كل صرخة تأتي من أفواه أولائك الصبية الذين هم في عمر الزهور.. وشكل الورود..
العم كمال ذاك العملاق المرهق رغم قامته القصيرة.. كان يناضل لاجلنا، ويعلمنا دروسا في الحياة تنقش على حجر..
كم بي شوق الآن يصل حد الجنون لأشرب كأس ليمونه وآكل برج بسكويته..! ولأرسم له قبلة على الجبين والعين.. يقتلني الحنين إليه ويرميني في دوامة الهيام والذكرى، فأصبح رغما عني أسير كأسه وبرجه..!
اليوم تعذر اللقاء وازدادت المسافات اتساعا.. وتداخلت فرضيات الأشياء.. مع واقع الزمن المعاش.. ورغم هذا سيظل وده عبر المدى.. وفوق احتمال الخيال..

آمال المصري
22-03-2010, 06:02 PM
اليوم تعذر اللقاء وازدادت المسافات اتساعا.. وتداخلت فرضيات الأشياء.. مع واقع الزمن المعاش.. ورغم هذا سيظل وده عبر المدى.. وفوق احتمال الخيال..

كنت أتمنى أن نظل على هذا التماسك والترابط الاجتماعي , أعتقد لكنا أفضل حالا
رائع سيدي الفاضل ماقرأت لك من فكرة وسرد ووصف راقي
سلم القلم والقلب
ومرحبا بك في ربوع الواحة
ود يليق

فتحي العابد
22-03-2010, 10:02 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
شكرا لك سيدتي وأتمنى ذلك من أعماق قلبي

راضي الضميري
22-03-2010, 11:54 PM
في الذاكرة النقية فقط نرى مثل هذا الوفاء النادر والحنين لكل إنسان كافح وما يزال يكافح من أجل لقمة العيش بحلال وبشرف ، إنها دعوة للتذكير بماض جميل ، ورسالة لكل إنسان بأن يبحث عن لقمة الحلال فقط والرزاق هو الله سبحانه وتعالى ، وبعد أن أصبح مبدأ الحلال هذا شبه معدوم - إلا ما رحم ربي- بعد أن تم اعتماد مقولة ميكيافليي الشهيرة والتي يكاد يتبناها معظم البشر في وقتنا الحالي.

سرحت مع قصتك وقرأتها بكل شوق وسأعود لقراءتها مرة أخرى.

أسلوبك جميل ورائع أستاذي الفاضل

تقبل تقديري واحترامي .

فتحي العابد
23-03-2010, 08:47 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
هو الصواب ماقلته ياأستاذ راضي الضميري
أصبح اليوم في واقعنا المعاش من يبحث عن الحلال ويثبت عليه كمن يبحث على إبرة في كومة قش
رضي الله عنك

ربيحة الرفاعي
06-02-2014, 07:16 PM
استذكار قصّي ماتع لماض رائع نفتقده كمال البدر في الليلة الظلماء
هادف حرفك أيها الكريم
وطيب سردك

دمت بخير

تحاياي

عبد السلام هلالي
06-02-2014, 08:40 PM
نص فيه من الوفاء الكثير لأناس بسطاء في عيشهم ومظهرهم، كبار في همتهم، تضحيتهم و و قناعتهم.
في كل حي من مدينة عربية ستجد شبيها ب"العم كمال" هو صورة الحي النقية و تاريخه المحفور تجاعيد على وجه الزمان.
راقني ما قرات هنا، و جعلني أسافر رجوعا إلى أيام كأيامك و أناس من طيبة صاحبك.
تحيتي و تقديري

نداء غريب صبري
21-04-2014, 12:37 AM
قصة جميلة تتحدث عن زمن كانت مجتمعاتنا فيه حيّة وجديرة بالحياة

شكرا لك أخي

بوركت

خلود محمد جمعة
23-04-2014, 10:09 AM
جميلة قصتك
اعدتني لأيام الطفولة وذكرياتها بسرد بلسمي
دمت بخير
مودتي وتقديري