تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سرب الحمام



كاملة بدارنه
24-10-2009, 09:45 PM
سرب الحمام

"يطيرُ الحمام ، يحطّ الحمامُ " في حركات دائرية لم يَنتبه لها سكّان المكان، حتى بدأت القطّة تموء بصوت يختلف عن ذاك الصوت الذي اعتاد أهل الحي سماعه، ثم بدأت تدور أمام عتبة البيت ذي الباب الخشبيّ المهترئ، وكأنها تشارك السّرب في دورانه.
لفتَ الصوتُ والحركات نظر " أحمد "، جار "الحاجّة" التي تسكن البيت، وأحسّ أن في مركز الدائرتين العلويّة والسفليّة أمرا ما.
قرّر الاقتراب من باب البيت، فضاعفت القطّة حركات دورانها وتضاعف معها خفقان قلبه، عندما نظر إلى وعاء الطعام الذي اعتادت "الحاجة" تعبئته، تزامنا مع موعد ذهابه إلى عمله، وإيابه منه. فوجده فارغا، كذلك لم يرَ حبوب القمح، والعدس، والسّمسم مبذورة في ساحة البيت، حيث اعتادَ الحمام الذي يحلّق الآن فوق السطح، التقاط هذه الحبوب - والقطّة تراقبه دون مبالاة - ليتجمّع بعد ذلك حول جرن الماء القابع وسط صحن الدار، قرب البئر. ألقى نظرة على الجرن فوجد ماءه قد جفّ.. غزت الشكوك أفكاره إثر هذه المشاهد، وازداد قلقه عندما لمح شعاع شمس الغروب قد اخترق البيت، عبر شقّ دفتي الباب ولم يشعر بأي أثر لحركة في الداخل.
تسمَّرَ في مكانه ولم يدرِ أيقدمُ ليستوضح الأمرَ أم يحجمُ؟!
اثناء وجومه سيطر على مسامعه صدى أحاديث "الحاجّة" التي زارها آخر مرة ليلة العيد، قبل أسبوع من الآن. وكان قد اعتاد زيارتها كلّ ليلة جمعة ليأنس بحكاياتها الخرافيّة، وحكاياتها الواقعيّة المشبعة بهموم شعبها وهمومها. إلا أنّها كثّفت حكاياتها ليلة العيد، لأنّ عدد الزوار كان أكثر من المعتاد..
تذكر بشرتها السّمراء الجافّة وملامح وجهها التي عقدت قرانها على البؤس والشقاء، حافرةً أتلاماً من التّجاعيد، وغارسة فيها شتلات التّعب والإعياء. وتذكر محتويات أتلام ذاكرتها، التي نكَشتها تلك الليلة،واقتلعت جذور مزروعاتها لتعتصر منها سائل مرارة الغربة، المحتقن داخل تلك الجذور، ولتسيحه أمامه أثناء أحاديثها،أملا في إبداله بَعَسل أيام العودة إلى الوطن.. الوطن الذي غادرته مع ابنتها عقب نكبة فلسطين بعامين؛ هربا من ظلم وطمع ذوي القربى في الزّواج من ابنتها، عقب مقتل زوجها، وعادت إليه وحيدة، إلّا من جعبة المرارات التي ذاقتها سنوات طويلة، مقرورةً من برد الاغتراب تارة، ومحمومةً من حرّ الحنين للوطن طوراً.
عادت إلى الوطن في التّسعينات؛ لتجد البيت العتيق الذي تركته قد أصبح أوكاراً للفئران وأعشاشا للحمام وعصافير الدّوري، فوجدت ألفة وأُنساً بين أعشاش همومها وأعشاش الحمام الملآى بالبيض والأفراخ التي تذكّرها منذ عودتها، بطعم رحيق الحنين الذي ارتشفته وقت عبور جسر "الشيخ حسين"، عندما شاهدت زوجاً من الحمام الرّاقد على نافذة غرفة التفتيش، حيث أثار فيها المشهد تفاؤلا لا تعلم سببه.
وتوطدت العلاقة بينها وبين سكان المكان، الذي انتزعت حقّ الرجوع إليه من السّلطات التي أغلقته. ولم تسمح منذ وصولها للجيران بالاقتراب من الأفراخ - مثلما اعتادوا سابقاً - ومهاجمة الأعشاش، والسّطو على " الزّغاليل" لطَبخ حساء " الفريكة" على لحومها.
ها هو السَرب يحلّق فزعا فوقه ولا يدري لَفزعِه سبباً، ولا يرى "الحاجّة" كي تسعفه وتشبع تساؤلاته ، وأثناء دوران شريط الصّور والذّكريات الذي استحضره وقوفه أمام البيت وأصحابه.. أذهله أن تمسك القطّة طرف سِرباله وكأنَها تجرّه نحو الدّاخل، فاستجمع قواه وفتح مصراع الباب، وصوته ينادي " الحاجّة " ولكن لا مجيب. قرّر الدّخول إلى غرفة نومها فأحسَّ أنَّ سائلا ما تحت حذائه كاد يتسبب في انزلاق رجله.. تتّبع مسار السّائل حتى وصل المنبع، فإذا بمعول الجشع الماديّ، الذي هربت منه الحاجّة قبل عقود، ملقى إلى جانبها، وقد نكش لها أتلام الجمجمة والدّماغ والذّكريات طمعا ببعض الدّريهمات!
وإذا بعلقم الغربة وبلسم الوطن، الذي دخلت لتصنيعه مختبرات متعدّدة،يختلطان ليكوّنا سائلاً مميّزا، يسحّ ويزيد من رطوبة ثرى البيت الذي رطَّبته دموع فرح العودة!

نبيل مصيلحى
08-11-2009, 05:33 PM
هكذا كما قلوا . ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..
القصة بها من المعاني ما يشجن الوجدان
دمت .. كاملة بدران
تحياتي
نبيل مصيلحي

ربيحة الرفاعي
06-02-2014, 12:02 AM
كان سرب الحمام يحلّق فوق المسرح الدامي شاهدا على جريمة توالى وقوعها بحقها رغم هربها ، وضعف قطة كشف الستار وقاد لخيط الدم المهدور

وددت لو حظي النص العميق الدلالة الثقيل الرسالة ببعض الاختزال

دمت أيتها المبدعة

تحاياي

عبد السلام دغمش
06-02-2014, 12:56 PM
كانت تلك الدماء التي تسحّ واختلطت بالثرى الرطب ..مزيجاً بين الدمع والدم ..
كم هي قاسية غربة الرحيل عن الوطن .. وغربة من يحسبون من ذوي القربى .
انتقال ما بين الزمان والمكان .. لكن المصير كان نفسه لو بقيت مكانها .. لربما .
تحياتي.

ناديه محمد الجابي
06-02-2014, 05:16 PM
ما أروع وأعمق ما قرأت هنا رغم مأساوية النهاية
تمازج السرد بالوصف والإسترجاع بأناقة لغوية فاخرة
وأسلوب قوي متين ومميز
دام هذا الألق.

كاملة بدارنه
06-02-2014, 08:55 PM
هكذا كما قلوا . ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..
القصة بها من المعاني ما يشجن الوجدان
دمت .. كاملة بدران
تحياتي
نبيل مصيلحي
أعتذر للأخ نبيل بسبب عدم الرّدّ سابقا فقد غاب النّصّ بين الصّفحات
شكرا لك على الحضور الكريم ..
بوركت
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
06-02-2014, 09:00 PM
كان سرب الحمام يحلّق فوق المسرح الدامي شاهدا على جريمة توالى وقوعها بحقها رغم هربها ، وضعف قطة كشف الستار وقاد لخيط الدم المهدور

وددت لو حظي النص العميق الدلالة الثقيل الرسالة ببعض الاختزال

دمت أيتها المبدعة

تحاياي
سرب الحمام هو الذي كشف الجريمة بعد حدوثها ، والغريب في الأمر أنّ هذه القصّة ترفع هذا اليوم بعد سنين من نشرها في ذكرى مقتل (الحاجة)، فالقصّة واقعيّة !
شكرا لك عزيزتي الأخت ربيحة على الحضور المتألّق دائما ... والإحساس المميّز!
بارك الله فيك
تقديري وتحيّتي

سامية الحربي
06-02-2014, 10:33 PM
جلست مع قاتلها وقد أنستها رائحة الوطن رائحة الموت القادمة من تلك اليد الآثمة...
سرب الحمام له دلالاته غير أنه خيط يدل على الجريمة. هو أيضا روح تلك المغتربة. جميل هذا النص بلغته الأنيقة و سرده المشوق. تحياتي وتقديري.

فاطمه عبد القادر
07-02-2014, 02:18 AM
عادت إلى الوطن في التّسعينات؛ لتجد البيت العتيق الذي تركته قد أصبح أوكاراً للفئران وأعشاشا للحمام وعصافير الدّوري، فوجدت ألفة وأُنساً بين أعشاش همومها وأعشاش الحمام الملآى بالبيض والأفراخ التي تذكّرها منذ عودتها، بطعم رحيق الحنين الذي ارتشفته وقت عبور جسر "الشيخ حسين"، عندما شاهدت زوجاً من الحمام الرّاقد على نافذة غرفة التفتيش، حيث أثار فيها المشهد تفاؤلا لا تعلم سببه.

السلام عليكم
اسلوبك في القص عزيزتي كاملة ,فيه قوة دافئة تشد القارىء للنهاية ,فيشعر كأنه يستسلم لنعاس لذيذ ,
ثم تجفله الخاتمة ,
أي حقارة تلك التي تدفع شخصا ليرتكب جريمة شنعاء من أجل درهمين تخيل أنهما في حوزة عجوز مسكينة ,؟
يا لها من نذالة لا تحتمل ,
الويل له من غضب الله في دنياه وآخرته .
أمر محزن للغاية
شكرا كاملة
ماسة

د. سمير العمري
19-02-2014, 04:15 PM
قص تقليدي لحادثة أثق بأنها واقعية ، فيها من التشويق ما يمسك بتلابيب التشويق حتى النهاية.

كأنه القدر الذي لا مفر منه ، وابتلاء دائم ، ويظل شوق الأنسان دوما للأمان والعودة للأوطان ، ولكم يظل الشر دوما يطارد الخير والموت يطارد الحياة.

أما من حيث الأسلوب واللغة فأترك هذا باعتبار أن النص قديم وإن كنت أدعو لإعادة صياغته ولو بالحد القليل.

تقديري

كاملة بدارنه
19-02-2014, 06:15 PM
ما أروع وأعمق ما قرأت هنا رغم مأساوية النهاية
تمازج السرد بالوصف والإسترجاع بأناقة لغوية فاخرة
وأسلوب قوي متين ومميز
دام هذا الألق.
أهلا بك أخت نادية وبمرورك الكريم
شكرا لك ودام بهاؤك
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
19-02-2014, 06:18 PM
جلست مع قاتلها وقد أنستها رائحة الوطن رائحة الموت القادمة من تلك اليد الآثمة...
سرب الحمام له دلالاته غير أنه خيط يدل على الجريمة. هو أيضا روح تلك المغتربة. جميل هذا النص بلغته الأنيقة و سرده المشوق. تحياتي وتقديري.
هي فعلا يد آثمة وأي جريمة ارتكبت؟!
شكرا لك أخت غصن على المرور الكريم وبارك الله فيك
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
19-02-2014, 06:21 PM
عادت إلى الوطن في التّسعينات؛ لتجد البيت العتيق الذي تركته قد أصبح أوكاراً للفئران وأعشاشا للحمام وعصافير الدّوري، فوجدت ألفة وأُنساً بين أعشاش همومها وأعشاش الحمام الملآى بالبيض والأفراخ التي تذكّرها منذ عودتها، بطعم رحيق الحنين الذي ارتشفته وقت عبور جسر "الشيخ حسين"، عندما شاهدت زوجاً من الحمام الرّاقد على نافذة غرفة التفتيش، حيث أثار فيها المشهد تفاؤلا لا تعلم سببه.

السلام عليكم
اسلوبك في القص عزيزتي كاملة ,فيه قوة دافئة تشد القارىء للنهاية ,فيشعر كأنه يستسلم لنعاس لذيذ ,
ثم تجفله الخاتمة ,
أي حقارة تلك التي تدفع شخصا ليرتكب جريمة شنعاء من أجل درهمين تخيل أنهما في حوزة عجوز مسكينة ,؟
يا لها من نذالة لا تحتمل ,
الويل له من غضب الله في دنياه وآخرته .
أمر محزن للغاية
شكرا كاملة
ماسة
هو الجشع وقلّة الدّين والأخلاق ما يدعو لارتكاب هذه الجريمة
شكرا لك ولمرورك الكريم
بوركت
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
19-02-2014, 06:39 PM
قص تقليدي لحادثة أثق بأنها واقعية ، فيها من التشويق ما يمسك بتلابيب التشويق حتى النهاية.

كأنه القدر الذي لا مفر منه ، وابتلاء دائم ، ويظل شوق الأنسان دوما للأمان والعودة للأوطان ، ولكم يظل الشر دوما يطارد الخير والموت يطارد الحياة.

أما من حيث الأسلوب واللغة فأترك هذا باعتبار أن النص قديم وإن كنت أدعو لإعادة صياغته ولو بالحد القليل.

تقديري
أهلا بك أخي الدّكتور سمير وبحضورك الكريم
يبدو أنّ هناك نقدا موجّها لأسلوب كتابة القصّة ولغتها مع أنّ أسلوب السّرد استرجاعي، وعنصر التّشويق الذي هو من ميزات الأسلوب النّاجح لجذب القارئ، وحثّه على إكمال القراءة حتّى النّهاية متوفّر هنا وبلغة مؤثّرة بشهادة من تفضّلوا بالرّدود، ومن قرأ القصّة من النّقاد ... ولا أدري لمَ أعيد الصّياغة وكيف ؟!
شكرا لك دائما ولما تتفضّل به
بارك الله فيك
تقديري وتحيّتي

خلود محمد جمعة
23-02-2014, 11:03 AM
تروين نصوصك بمداد الحياة فهي متجددة لا تشيخ
وينبض حرفك بالأحاسيس الجياشة التي تفيض من كلماتك فتغرقنا
رائعة كعادتك
حبي وتقديري

نداء غريب صبري
28-06-2014, 12:21 AM
قصة جميلة
أتمنى أن لا تكون القصة حقيقية

وأسلوب رائع أستاذتي الحبيبة كاملة بدارنة

شكرا لك

لانا عبد الستار
21-08-2014, 08:19 PM
الحكاية مؤثرة وواقعيتها واضحة
والأسلوب يختلف بحكائيته عن مانعرف من أسلوب الأستاذة كاملة بدارنة السريع القوي المباغت

كما قال الأميرالعمري
ارجو قراءتها بصياغة تشبهك أكثر دكتورة بدارنة

أشكرك

كاملة بدارنه
21-08-2014, 08:40 PM
تروين نصوصك بمداد الحياة فهي متجددة لا تشيخ
وينبض حرفك بالأحاسيس الجياشة التي تفيض من كلماتك فتغرقنا
رائعة كعادتك
حبي وتقديري
وحضورك يبهج دائما عزيزتي خلود
شكرا لك على مداخلتك الكريمة
بوركت
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
21-08-2014, 08:44 PM
قصة جميلة
أتمنى أن لا تكون القصة حقيقية

وأسلوب رائع أستاذتي الحبيبة كاملة بدارنة

شكرا لك
فعلا عزيزتي نداء هي قصّة واقعيّة مؤلمة أثّرت بي كثيرا..
يمكن كتابتها في فصول روائيّة، لكنّي ضغطت الأحداث في قصّة قصيرة
شكرا لك على حضورك دائما
بوركت
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
21-08-2014, 08:51 PM
الحكاية مؤثرة وواقعيتها واضحة
والأسلوب يختلف بحكائيته عن مانعرف من أسلوب الأستاذة كاملة بدارنة السريع القوي المباغت

كما قال الأميرالعمري
ارجو قراءتها بصياغة تشبهك أكثر دكتورة بدارنة

أشكرك
أهلا بالغالية الأخت الأستاذة لانا وشكرا جزيلا على لقب (دكتورة) الفخري الذي منحتني إيّاه
هذه القصة أحداثها راسخة في ذهني، ولم أتمكّن من إيجاد أسلوب آخر لكتابتها.. كانت الأحداث والصّور تسبق أيّ تفكير في الأسلوب، وفي النّهاية قرأتها جيّدة
حاولت بعد ملاحظة الأخ الدكتور سمير ( وما زبطت معي) أي لم أفلح
شكرا لك عزيزتي على مداخلتك الكريمة وملاحظتك
بوركت
تقديري وتحيّتي

محمد حمود الحميري
21-08-2014, 09:02 PM
لا يشك القارئ في واقعيه القصة ، والشاهد الأول خفقان قلب القارئ .
الحياة صراع بين الخير والشر إلى قيام الساعة .

شكرًا عزيزتي .