تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ما لا تعرفه المعلمة.



ابراهيم أوحسين
17-12-2009, 10:42 AM
لم يكن يعلم عبد الحميد أن السجن قصر من قصور موتى يتنفسون.. قدر من قضبان حديدية وجرذان بحجم الخراف. ومن كان قدره قصرا ،لا يبحث عن أقدار أخرى..

فتح ألبوما- شغل الغبار نصفه-، وأخذ يدحرج ذكريات الحياة الأولى الخضراء.. حياة تحت الشمس..

ابتسامة هنا وضحكة هناك .. وشعار مانديلا- الذي قضى عشرة آلاف يوم وراء البنادق- كان سلوته.

رأى الصغير أباه ،فأطلق ساقيه للريح نحوه، وارتمى وسط الألبوم ،فقطع حبال خيالات أبيه، واندثر التاريخ الأبيض..

! - ماذا هناك بني ؟

- أريد أن ألعب معك يا أبي ..

- ماذا ؟؟ ألست تراني أتسلى بهذه الصور ؟؟

- إنها قبيحة المنظر يا أبي .. دعني ألونها لك بملوناتي ..

ضحك عبد الحميد وقال :

! ! - إنها أفضل هكذا.. إيه يا بني ، ما أجمل السواد عندما يكون حرا

لكن الإبن أذعن لأسئلة الفطرة وفاجأ أباه قائلا :

- أبي .. أبي.. أحقا يعود الموتى إلى الحياة ؟؟

- قطعا لا يا بني .. ولماذا السؤال ؟؟

! - ولماذا إذن كانت أمي تخبرني أنك ميت ؟

تفقع لون عبد الحميد لما سمع سؤالا لم يسأل مثله من قبل . أطلق زفرة طويلة.. شخص نظره في سقف الغرفة ،وأغلق الألبوم وقال :

- يا بني .. إن لله سنة في خلقه وحكمة ما بعدها حكمة، فالبشر وإن علا فكره وأدرك الحقائق وفك رموزها ،فهو للحظة لم يملك إلا النزر القليل منها .. إنه عاجز أن يطال كل شيء، وأن يفهم كل غامض..

يا بني .. الحياة سر من أسرار هذا الكون الشاسع، سر عظيم تحوم حوله التساؤلات و الإجتهادات و أفكار

هنا وهناك .. أخطأ من أخطأ، وأصاب من أصاب .. أخطأ من قال أنها حياة واحدة لا ثانية لها، وأصاب من قال أن الإنسان يعيش حيوات متعددة في لحظة واحدة ..

يا بني .. عندما أخبرتك أمك بموتي، كانت صادقة كل الصدق، فالبعيد عن العين، بعيد عن الحياة..

عظمك مازال طريا على هذه الأمور ،ولن يكون سهلا أن أمرر لك كل شيء.. الحكمة في غير مكانها تعد جهلا..

بدأ الإبن يقاوم النعاس ،لكنه استطاع هزيمة أجفانه وقال :

- أبي.. أبي.. تقول المعلمة دائما أننا نعيش مرة واحدة ،ثم نموت بعدها ..

- يا بني .. عندما يفتح أحد عينيه ولا يجد أبا يلاعبه ويضمه ،فلا بد أن يقبل أحد الأمرين ،إما أنه ولد بغير أب، وإما أن يعزي نفسه على موت أبيه.. والأمر الثاني على الأرجح ما يقبل عقلا ومنطقا ..

يا بني.. لم أشأ أن تفتح عينيك على نصف فراغ ،بل وددت أن أكون أول من تلقي عليه ناظريك.. أول من تكحل به جفنيك، ولكن جرت الرياح بما لم تشتهيه سفني، فلم أكن بقدر حلمي وودي..

يا بني .. منا من يعيش حياة واحدة، ومنا من يعيش أكثر، فكان قدري أن أعيش حياتين.. حياة قبل الخطأ القضائي وحياة بعده، فكان الثمن إحدى عشرة سنة من الظلام واليأس والموت ... ولدت من جديد ،وهذا

!!هو الأهم .. وهذا ما لا تعرفه المعلمة

أخذ عبد الحميد وسادة ووضعها تحت خد ابنه المستسلم للنوم وللكلام الكبير الذي لم يفهم منه حرفا..

آمال المصري
21-02-2010, 01:28 PM
- أبي.. أبي.. تقول المعلمة دائما أننا نعيش مرة واحدة ،ثم نموت بعدها ..






مالا تعرفه المعلمة ....
أننا نعيش حيوات متعددة في لحظة واحدة
ومالا تعرفه المعلمة ...
سنوات إحدى عشر كان يتنفس في قصر من قصور الموتى يحيا فيها بلون الظلام
سيدي الفاضل ... استمتعت هنا بقراءة نص يتميز بعمق فكرة .. ومتعة في السرد .. وبراعة في انتقاء الصور والمفردات حيث لك نكهة حرف وفلسفة متميزة في إيصال المعنى وماتريد وكأننا على أرض الحدث نرى ونسمع حديث الأب ونهدهد الابن الذي لم يعِ ماقاله الأب الذي سرح بذاكرته يستنطق الماضي ويسرد أحداثه
دمت بهذا الألق الباذخ
ومرحباً بك فارساً من فرسان القصة هنا في الخضراء

لطيفة أسير
21-02-2010, 04:41 PM
الحمد لله أن هناك ميلاد جديد يبشر بحياة ثانية تنير ظلمة خلفتها الحياة الأولى
حقا هي حياة واحدة..تتخللها حيوات كثيرة بحسب تقلباتنا الحياتية
خالص التحية والتقدير أخي الكريم إبراهيم أوحسين

ربيحة الرفاعي
29-05-2014, 05:02 PM
ملفتة جميلة ومؤثرة في سردها تشويق وفي تفاصيلها عمق وإنسانية
غير أني وجدت فيما بث ابنه في آخرها إقحاما على النص بمحاضرتية مبتشرة

دمت بخير

تحاياي

نداء غريب صبري
21-07-2014, 06:13 PM
حياة يملأها الأحياء الأموات
وتتغير من حياة لحياة ومن موت لموت

لكن الحياة الحقيقية تكون بعد القارعة

شكرا لك اخي

بوركت

خلود محمد جمعة
22-07-2014, 01:46 PM
الحياة ربما ما زالت سرا نتكهن به جميعا
ويختلف مفهومها بين كبير وصغير ومتألم ومستسلم وما عاش الفرد من تجارب
عميقة تبعث على التأمل في كثير من دقائق الأمور
وفيما لا تعرفه المعلمة ولا نعرفه نجن أيضا
سرد ماتع
دمت بخير
تقديري

ناديه محمد الجابي
18-09-2021, 06:43 PM
كان قدري أن أعيش حياتين.. حياة قبل الخطأ القضائي وحياة بعده، فكان الثمن إحدى عشرة سنة
من الظلام واليأس والموت ... ولدت من جديد ،وهذا!!هو الأهم .. وهذا ما لا تعرفه المعلمة

أعجبتني القصة .. سردها وفكرتها وقضيتها الإنسانية وأسلوبها المؤثر العميق.
دمت بكل خير.
:001::wow:

أسيل أحمد
23-09-2021, 07:53 PM
سرد شائق، وأداء ماتع أوصل فكرة عميقة موجعة
مضمون هادف راقي يأسلوبه وذكاء توجيهه
تحياتي.