محمود مرعي
21-03-2004, 10:48 PM
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_1.jpg
صفورية عام 1931 / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 1 . ص 128 "
يحدثنا المؤرخ محمد أمين بشر في كتابه " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث " عن بلده صفورية حديثا يجعلك ترى كل بقعة في صفورية رأي العين ، ولكن حين تكون جارا لصفورية وكما يقال " خبط العصا " أو تكون صفورية على مرمى حجر منك لا تشعر باكتفاء من حديث المؤرخ محمد أمين بشر ، تريد أكثر من السرد والتأريخ ، تريد معاينة المكان ، فأنت تعرفه حق المعرفة ، وليست صفورية غريبة عنك حين تذكر .
قال صاحبي : مر أسبوعان منذ سفرنا إلى السجرة ، كأنك تراجعت عن مشروع الزعتر والمناقيش والهليون .
قلت : لا لم أتراجع ، ولكن الحياة تشغلنا أحيانا وتأخذنا مما نحن فيه .
قال : الطقس اليوم يكاد يكون صيفيا ، فإلى أي اتجاه سنمضي ؟؟ .
قلت : جارتنا صفورية ، سنمضي إليها فلها حق الزيارة علينا .
**********
ركبنا السيارة وانطلقنا ، خرجنا من القرية باتجاه الجنوب ، وتظهر في جهة الشرق مستعمرة " هار يونا " التي قعدت على جبل سيخ ، ومحت آثاره التي كانت مسرحا للعين ، وكان لوزنا وزيتوننا ينتصب في أعلى قمة جبل سيخ ، وتعود الذاكرة سنوات قليلة ( 1996 ) يوم بدأوا بقلع اللوز والزيتون ، كان أبي أطال الله عمره قبل ذلك التاريخ كل يوم يصلي الفجر في المسجد ثم يفطر ما تيسر وينطلق صاعدا إلى الجبل ، يضع عكازه على كتفيه ويلف يديه حول العكاز ، ويعود من الجبل ظهرا ، ليعاود الصعود عصرا والعودة مساء ، وكانت القرية كلها تتحدث عنه وما زالت .
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_2.jpg
من اليمين اللوز ومن اليسار الزيتون ربيع 1994ـ تصوير الكاتب
وكانت الأرض تجود بالخير ، فالزراعة الصيفية لم تكن تمر سنة دون زراعة ، كالبامية واللوبياء وغيرها :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_3.jpg
يحوشون البامية صيف 1994 تصوير الكاتب
ومنذ اقتلعوا اللوز والزيتون ، بدأ المرض بزيارة الوالد أطال الله عمره ومتعه بالعافية والصحة ، حتى لكأنهم في اقتلاعهم اللوز والزيتون قد اقتلعوا من صدره شيئا ، فانقلبت حاله بعدها ، وتتفاءل قليلا حين ترى مستوطنة ( هار يونا ) بقوله تعالى ( على شفا جرف هار ) وتعقد مقارنة بين ( هار العبرية = جبل ) وبين ( هار القرآنية ) وتبتسم في سرك ، وتردد وحدك قوله تعالى ( ويسألونك متى هو ، قل عسى أن يكون قريبا ) ، وتذكر " عيون جنان " تلك العيون التي كنت تملأ الماء منها لتسقي اللوز صيفا ، وكنت تسبح فيها ، والمزارع الذي كان يمتلك الأرض هناك والتوت والرمان ، والآن لا أثر لـ " عيون جنان " سوى الصورة :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_4.jpg
منظر " عيون جنان " في جبل سيخ / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 1 . ص 75 "
تصل الدوار قبل قرية الرينة ، حيث الشارع النازل من ( نتسيرت عيليت ) و ( هار يونا ) صوب الغرب مرورا بصفورية ، والذي التهم من الأرض مساحة كبيرة في تلك المنطقة ، وتتذكر أن مكان الشارع حيث الدوار صعودا جهة الشرق ، كان أرضا لأهالي الرينة يفلحونها ، واليوم قسمت الأرض إلى شمال الشارع وجنوبي الشارع .
وانعطفنا غربا ، وسرنا في الطريق المنحدرة ، وما زلنا حتى وصلنا مدخلا فرعيا إلى الوعر من جهة الشمال ، دخلنا فيه وتابعنا ، وعلى الجانبين ينتصب الزيتون ، وبعده تظهر أرض خلاء بلا شجر ، لكن الربيع كساها بلونه ، وتطل على صفورية من جهة الشرق ، وتمتد الأراضي أمام العين ، وكل مارس من الموارس بلونه ، فهذا يموج الزرع فيه بلونه الأخضر ، وبجانبه مارس مشجر بالزيتون ، وبجانبه مارس محروث ليزرع صيفيا ، وتلك بقعة جرداء تنتشر فيها الصخور .
أوقفت السيارة ونزلت وصاحبي ، وأنزلنا القهوة والماء ، وسرنا حتى وجدنا مساحة خضراء كالبساط فجلسنا .
في هذا الجو وهذا المحيط لا بد لك أن تنسجم مع الطبيعة حولك ، فالهدوء شامل لا يكسره سوى الطير بألحانها الشجية ، ويأتي من البعيد صوت شاة أو عنْزة أو بقرة ، فالمراعي في تلك المنطقة متيسرة ، جو متناغم يخرجك من ضجيج الحياة حتى في القرية ، التي أصبحت لا تختلف عن المدينة .
تجيل الطرف في الجهات حولك ، ففي الجنوب تظهر الناصرة وحي الصفافرة الذي يتوسد التلة ، وفي الشرق ما زالت مستوطنة ( هار يونا ) بأبنيتها الحديثة الغريبة عن الأرض والناس تجثم على جبل سيخ ، تحس أنها نشاز في المكان ، واحساسك لا تدري سببه ، أو ربما تدري ، وفي الغرب تظهر صفورية أو بالأصح أطلالها ، فصفورية أصبحت أثرا بعد عين ، فقد طُرد أهلها منها عام 1948 ، ولم يهربوا كما يحلو للبعض أن يردد عن أغلب سكان البلاد عام 1948 ، تركز النظر في بقعة كانت حتى عهد قريب تسمى " مغارة بَسِّيم " وتتذكر أنك كنت تصيد الحمام والورش في داخلها ، هذه البقعة أصبحت منطقة سياحية مسيجة ، تأتي إليها الحافلات محملة بالسياح من أقاصي الأرض ، وخلف تلك البقعة ما زالت قلعة ظاهر العمر رابضة على رأس الهضبة ، وتعود الذاكرة إلى أيام قرأت فيها سيرة ظاهر العمر ، وكيف صوره من كتب سيرته ، والتي تجدها في نفسك عكس ما يحاولون غرسه في الناس ، فلم يكن ظاهر العمر سوى خارج على الدولة العثمانية ، متآمر عليها ، تتذكر هذا كله وتتنهد حسرة وألما ، حيث تدرك أن القائد الذي أرسل لقمع تمرد ظاهر العمر أطلقوا عليه لقب " الجزار " وما هو بجزار .
يصب صاحبي القهوة ، ونرتشف مع سيجارة عربية بماركتها الغربية ، فقد أصبحت السجائر جاهزة مع جهاز لتعبئة التبغ فيها ؛ قلت لصاحبي بعد ارتشاف القهوة ، وهو ما زال يجول ببصره في الجهات المحيطة :
ـ ماذا مع الزعتر ؟؟
ـ اصبر قليلا فالجو دافئ ، والجلوس في العراء غنيمة هذه الأيام ، فربما غدا يكون مطر .
ـ الراصد الجوي يقول غدا كاليوم .
ـ ههههههههه ، الراصد الجوي ؟؟ وهل تصدق هذا ؟؟
ـ ولماذا لا أصدق ؟؟ ثم أنا أعني راصدي أنا وليس راصدهم .. فالفلاحون كانوا يعرفون الطقس كيف يكون كل يوم من أيام السنة ، وحتى من رائحة التراب كانوا يستدلون على حالة الطقس .
قمنا لقطف الزعتر ، وتجولنا في المنطقة ، لكن لا زعتر حيث نحن ، سوى أبيات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فقلت لصاحبي :
ـ أرى أننا أخفقنا اليوم ، فلا زعتر هنا .
ـ قلت لك من البداية ونحن في السيارة هنا لا يوجد زعتر ، لكنك أبيت ، فالزعتر هناك حيث الخزان ، هناك الزعتر وليس هنا .
ـ حسنا يا صاحبي ، لن نتشاجر من أجل عيون الزعتر ، تعال نمض إلى مكان آخر ، فخير الله كثير ولا ينضب .
ـ إلى أين ، لقد قارب وقت العصر .
ـ سنذهب من داخل صفورية شمالا ، فقد بلغني أنه يوجد هناك زعتر .
ـ لا تلمني إن عدنا بخفي حنين هذا اليوم ، لقد أخبرتك عن مكان الزعتر ، وأنت لم تسمع كلامي .
ـ يا صاحبي ، حتى لو لم نجد زعترا ، فقد تمتعنا برحلة .
ركبنا السيارة ، وعدنا حتى الشارع الرئيسي ، ثم اتجهنا غربا حتى مدخل صفورية ، وما إن تنعطف السيارة براكبها هناك حتى يرى العشب يغطي مجرى ماء القسطل ، وهذا المجرى يشتهر بنبات الحميض ، الذي يكثر قطفه في بداية الربيع لطبخه مع اللوف ، فهو موصوف ، أوقفنا السيارة حتى نشرب من القسطل ، والوقت عصرا ، قلنا نتوضأ ونصلي في المكان ثم نتابع ، وجلسنا هناك ما يقارب الساعة ، ورحت أتأمل القسطل كما قرأت عنه وكما هو واقع أمامي وقلت في نفسي :
لقد تغير القسطل يا أستاذ محمد أمين عما أخبرتنا عنه :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_5.jpg
عين القسطل والنساء يغسلن الصوف / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث . ج 1 ص 75 "
فلا نساء يغسلن الصوف على القسطل ، أين استقر المقام بأهل القسطل ؟؟ ، وهل سيعودون يوما ما إلى القسطل ؟؟ .
انطلقنا إلى داخل صفورية ، حيث تستقبلك في مدخلها بوابة تفتح فتعبر السيارة ، وتغلق فينغلق الشارع ، وتابعنا الطريق ، حيث تظهر على الجانب حظائر البقر الذي يربى للحليب ، ومررنا بآثار عربية على جانب الطريق ما زالت قائمة تأبى الزوال ، كأنها تتحدى وتنتظر عودة من غابوا عنها ، وما زلنا حتى خرجنا من صفورية ، حيث نبات الصبار " الصبر " يمتد على طول الطريق هناك ، والصبر ثمره معروف ، وحلاوته كالعسل ، فما بالك حين يكون من صبر صفورية ، والصبر ينطبق على ثمره قول الشاعر قديما :
تريدين اِدْراكَ المعالي رخيصة =ولا بد دون الشهد من إبر النحل
فكوز الصبر يحتوي على الشهد داخله ، لكنه في نفس الوقت مغطى بالشوك " إبر النحل " مع فارق التشبيه ، ومما قلت في ثمار الصبر :
وللصبر أكواز تروق لناظر = وفي جوفها شهد ألذ من الشهد
ولكنما الأشواك قامت كحارس = ومن رام قطفا دون حرز ففي جهد
ستطعنه الأشواك حتى ترده = عليلا ويشكو طعنة الشوك في الجلد
قطعنا الطريق حيث الصبر وتابعنا ، وعلى الجانب الأيسر بدا السهل بزرعه يموج مع نسائم العصر ، وعلى الجانب الأيمن فوق التلة بدت القلعة شامخة رغم مرور الدهر وصروفه عليها :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_6.jpg
منظر عام لقرية صفورية ما قبل الشتات وتظهر القلعة في أعلى البلدة / صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 2 . ص 67
وظهرت على يمين القلعة حيث ننظر مدرسة الراهبات ، ودير حنة حيث ولدت السيدة مريم العذراء عليها وعلى ابنها السلام ، وهي المكان الوحيد في صفورية الذي تجد اللغة العربية ما زالت تعيش فيه حتى يومنا ، وتذكر أنك زرت الدير منذ زمن بعيد وتفحصت الأعمدة في باحته وتجولت داخله أكثر من مرة .
تابعنا السير حتى خرجنا إلى الشارع الرئيسي المحاذي لمشروع المياه القطري ، حيث يمتد سهل البطوف خلفه على مد البصر زاهيا بخضرته وتربته ، وما زلنا حتى وصلنا إلى طريق جانبي فدخلنا فيه ، وكانت الشمس حينها قد شارفت على الغياب ، فقال صاحبي وقد رأى ما جرى :
ـ لقد أضعت علينا اليوم زعترا كثيرا ، وسنعود بخفي حنين .
ـ لا بأس في ذلك ، فإن عدنا بلا زعتر فقد ربحنا جولة في أحضان صفورية ، أليست جولتنا ممتعة ؟؟ .
ـ بلى ممتعة ، ولكننا لم نأت للتجول ، لقد جئنا لقطف الزعتر ، وها نحن بلا زعتر ، ولا يحزنون .
ـ هنا في السفح يوجد زعتر ، وشومر ، سنجمع ما نستطيع قبل أن تسقط الشمس ، هيا بنا .
نزلنا من السيارة ، وبدأنا نبحث عن الزعتر ، لكن الغروب حلَّ علينا ، وعوضنا ذلك بقليل من الشومر ، وانطلقنا عائدين ، وحين وصلنا مدخل مصنع فينيسيا الذي لا يختلف عن " هار يونا " في التهام أراضي القرية ، كان صوت أذان المغرب يصدح من جميع مآذن القرى المحيطة بنا ، ورحنا نردد مع المؤذن ، حتى انتهى الأذان ، حينها كنا قد دخلنا القرية من جهة الشمال ، بعد أن طفنا بين ربوع صفورية ، وعدنا بلا زعتر .
صفورية عام 1931 / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 1 . ص 128 "
يحدثنا المؤرخ محمد أمين بشر في كتابه " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث " عن بلده صفورية حديثا يجعلك ترى كل بقعة في صفورية رأي العين ، ولكن حين تكون جارا لصفورية وكما يقال " خبط العصا " أو تكون صفورية على مرمى حجر منك لا تشعر باكتفاء من حديث المؤرخ محمد أمين بشر ، تريد أكثر من السرد والتأريخ ، تريد معاينة المكان ، فأنت تعرفه حق المعرفة ، وليست صفورية غريبة عنك حين تذكر .
قال صاحبي : مر أسبوعان منذ سفرنا إلى السجرة ، كأنك تراجعت عن مشروع الزعتر والمناقيش والهليون .
قلت : لا لم أتراجع ، ولكن الحياة تشغلنا أحيانا وتأخذنا مما نحن فيه .
قال : الطقس اليوم يكاد يكون صيفيا ، فإلى أي اتجاه سنمضي ؟؟ .
قلت : جارتنا صفورية ، سنمضي إليها فلها حق الزيارة علينا .
**********
ركبنا السيارة وانطلقنا ، خرجنا من القرية باتجاه الجنوب ، وتظهر في جهة الشرق مستعمرة " هار يونا " التي قعدت على جبل سيخ ، ومحت آثاره التي كانت مسرحا للعين ، وكان لوزنا وزيتوننا ينتصب في أعلى قمة جبل سيخ ، وتعود الذاكرة سنوات قليلة ( 1996 ) يوم بدأوا بقلع اللوز والزيتون ، كان أبي أطال الله عمره قبل ذلك التاريخ كل يوم يصلي الفجر في المسجد ثم يفطر ما تيسر وينطلق صاعدا إلى الجبل ، يضع عكازه على كتفيه ويلف يديه حول العكاز ، ويعود من الجبل ظهرا ، ليعاود الصعود عصرا والعودة مساء ، وكانت القرية كلها تتحدث عنه وما زالت .
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_2.jpg
من اليمين اللوز ومن اليسار الزيتون ربيع 1994ـ تصوير الكاتب
وكانت الأرض تجود بالخير ، فالزراعة الصيفية لم تكن تمر سنة دون زراعة ، كالبامية واللوبياء وغيرها :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_3.jpg
يحوشون البامية صيف 1994 تصوير الكاتب
ومنذ اقتلعوا اللوز والزيتون ، بدأ المرض بزيارة الوالد أطال الله عمره ومتعه بالعافية والصحة ، حتى لكأنهم في اقتلاعهم اللوز والزيتون قد اقتلعوا من صدره شيئا ، فانقلبت حاله بعدها ، وتتفاءل قليلا حين ترى مستوطنة ( هار يونا ) بقوله تعالى ( على شفا جرف هار ) وتعقد مقارنة بين ( هار العبرية = جبل ) وبين ( هار القرآنية ) وتبتسم في سرك ، وتردد وحدك قوله تعالى ( ويسألونك متى هو ، قل عسى أن يكون قريبا ) ، وتذكر " عيون جنان " تلك العيون التي كنت تملأ الماء منها لتسقي اللوز صيفا ، وكنت تسبح فيها ، والمزارع الذي كان يمتلك الأرض هناك والتوت والرمان ، والآن لا أثر لـ " عيون جنان " سوى الصورة :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_4.jpg
منظر " عيون جنان " في جبل سيخ / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 1 . ص 75 "
تصل الدوار قبل قرية الرينة ، حيث الشارع النازل من ( نتسيرت عيليت ) و ( هار يونا ) صوب الغرب مرورا بصفورية ، والذي التهم من الأرض مساحة كبيرة في تلك المنطقة ، وتتذكر أن مكان الشارع حيث الدوار صعودا جهة الشرق ، كان أرضا لأهالي الرينة يفلحونها ، واليوم قسمت الأرض إلى شمال الشارع وجنوبي الشارع .
وانعطفنا غربا ، وسرنا في الطريق المنحدرة ، وما زلنا حتى وصلنا مدخلا فرعيا إلى الوعر من جهة الشمال ، دخلنا فيه وتابعنا ، وعلى الجانبين ينتصب الزيتون ، وبعده تظهر أرض خلاء بلا شجر ، لكن الربيع كساها بلونه ، وتطل على صفورية من جهة الشرق ، وتمتد الأراضي أمام العين ، وكل مارس من الموارس بلونه ، فهذا يموج الزرع فيه بلونه الأخضر ، وبجانبه مارس مشجر بالزيتون ، وبجانبه مارس محروث ليزرع صيفيا ، وتلك بقعة جرداء تنتشر فيها الصخور .
أوقفت السيارة ونزلت وصاحبي ، وأنزلنا القهوة والماء ، وسرنا حتى وجدنا مساحة خضراء كالبساط فجلسنا .
في هذا الجو وهذا المحيط لا بد لك أن تنسجم مع الطبيعة حولك ، فالهدوء شامل لا يكسره سوى الطير بألحانها الشجية ، ويأتي من البعيد صوت شاة أو عنْزة أو بقرة ، فالمراعي في تلك المنطقة متيسرة ، جو متناغم يخرجك من ضجيج الحياة حتى في القرية ، التي أصبحت لا تختلف عن المدينة .
تجيل الطرف في الجهات حولك ، ففي الجنوب تظهر الناصرة وحي الصفافرة الذي يتوسد التلة ، وفي الشرق ما زالت مستوطنة ( هار يونا ) بأبنيتها الحديثة الغريبة عن الأرض والناس تجثم على جبل سيخ ، تحس أنها نشاز في المكان ، واحساسك لا تدري سببه ، أو ربما تدري ، وفي الغرب تظهر صفورية أو بالأصح أطلالها ، فصفورية أصبحت أثرا بعد عين ، فقد طُرد أهلها منها عام 1948 ، ولم يهربوا كما يحلو للبعض أن يردد عن أغلب سكان البلاد عام 1948 ، تركز النظر في بقعة كانت حتى عهد قريب تسمى " مغارة بَسِّيم " وتتذكر أنك كنت تصيد الحمام والورش في داخلها ، هذه البقعة أصبحت منطقة سياحية مسيجة ، تأتي إليها الحافلات محملة بالسياح من أقاصي الأرض ، وخلف تلك البقعة ما زالت قلعة ظاهر العمر رابضة على رأس الهضبة ، وتعود الذاكرة إلى أيام قرأت فيها سيرة ظاهر العمر ، وكيف صوره من كتب سيرته ، والتي تجدها في نفسك عكس ما يحاولون غرسه في الناس ، فلم يكن ظاهر العمر سوى خارج على الدولة العثمانية ، متآمر عليها ، تتذكر هذا كله وتتنهد حسرة وألما ، حيث تدرك أن القائد الذي أرسل لقمع تمرد ظاهر العمر أطلقوا عليه لقب " الجزار " وما هو بجزار .
يصب صاحبي القهوة ، ونرتشف مع سيجارة عربية بماركتها الغربية ، فقد أصبحت السجائر جاهزة مع جهاز لتعبئة التبغ فيها ؛ قلت لصاحبي بعد ارتشاف القهوة ، وهو ما زال يجول ببصره في الجهات المحيطة :
ـ ماذا مع الزعتر ؟؟
ـ اصبر قليلا فالجو دافئ ، والجلوس في العراء غنيمة هذه الأيام ، فربما غدا يكون مطر .
ـ الراصد الجوي يقول غدا كاليوم .
ـ ههههههههه ، الراصد الجوي ؟؟ وهل تصدق هذا ؟؟
ـ ولماذا لا أصدق ؟؟ ثم أنا أعني راصدي أنا وليس راصدهم .. فالفلاحون كانوا يعرفون الطقس كيف يكون كل يوم من أيام السنة ، وحتى من رائحة التراب كانوا يستدلون على حالة الطقس .
قمنا لقطف الزعتر ، وتجولنا في المنطقة ، لكن لا زعتر حيث نحن ، سوى أبيات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فقلت لصاحبي :
ـ أرى أننا أخفقنا اليوم ، فلا زعتر هنا .
ـ قلت لك من البداية ونحن في السيارة هنا لا يوجد زعتر ، لكنك أبيت ، فالزعتر هناك حيث الخزان ، هناك الزعتر وليس هنا .
ـ حسنا يا صاحبي ، لن نتشاجر من أجل عيون الزعتر ، تعال نمض إلى مكان آخر ، فخير الله كثير ولا ينضب .
ـ إلى أين ، لقد قارب وقت العصر .
ـ سنذهب من داخل صفورية شمالا ، فقد بلغني أنه يوجد هناك زعتر .
ـ لا تلمني إن عدنا بخفي حنين هذا اليوم ، لقد أخبرتك عن مكان الزعتر ، وأنت لم تسمع كلامي .
ـ يا صاحبي ، حتى لو لم نجد زعترا ، فقد تمتعنا برحلة .
ركبنا السيارة ، وعدنا حتى الشارع الرئيسي ، ثم اتجهنا غربا حتى مدخل صفورية ، وما إن تنعطف السيارة براكبها هناك حتى يرى العشب يغطي مجرى ماء القسطل ، وهذا المجرى يشتهر بنبات الحميض ، الذي يكثر قطفه في بداية الربيع لطبخه مع اللوف ، فهو موصوف ، أوقفنا السيارة حتى نشرب من القسطل ، والوقت عصرا ، قلنا نتوضأ ونصلي في المكان ثم نتابع ، وجلسنا هناك ما يقارب الساعة ، ورحت أتأمل القسطل كما قرأت عنه وكما هو واقع أمامي وقلت في نفسي :
لقد تغير القسطل يا أستاذ محمد أمين عما أخبرتنا عنه :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_5.jpg
عين القسطل والنساء يغسلن الصوف / محمد أمين بشر " صفورية تاريخ ، حضارة وتراث . ج 1 ص 75 "
فلا نساء يغسلن الصوف على القسطل ، أين استقر المقام بأهل القسطل ؟؟ ، وهل سيعودون يوما ما إلى القسطل ؟؟ .
انطلقنا إلى داخل صفورية ، حيث تستقبلك في مدخلها بوابة تفتح فتعبر السيارة ، وتغلق فينغلق الشارع ، وتابعنا الطريق ، حيث تظهر على الجانب حظائر البقر الذي يربى للحليب ، ومررنا بآثار عربية على جانب الطريق ما زالت قائمة تأبى الزوال ، كأنها تتحدى وتنتظر عودة من غابوا عنها ، وما زلنا حتى خرجنا من صفورية ، حيث نبات الصبار " الصبر " يمتد على طول الطريق هناك ، والصبر ثمره معروف ، وحلاوته كالعسل ، فما بالك حين يكون من صبر صفورية ، والصبر ينطبق على ثمره قول الشاعر قديما :
تريدين اِدْراكَ المعالي رخيصة =ولا بد دون الشهد من إبر النحل
فكوز الصبر يحتوي على الشهد داخله ، لكنه في نفس الوقت مغطى بالشوك " إبر النحل " مع فارق التشبيه ، ومما قلت في ثمار الصبر :
وللصبر أكواز تروق لناظر = وفي جوفها شهد ألذ من الشهد
ولكنما الأشواك قامت كحارس = ومن رام قطفا دون حرز ففي جهد
ستطعنه الأشواك حتى ترده = عليلا ويشكو طعنة الشوك في الجلد
قطعنا الطريق حيث الصبر وتابعنا ، وعلى الجانب الأيسر بدا السهل بزرعه يموج مع نسائم العصر ، وعلى الجانب الأيمن فوق التلة بدت القلعة شامخة رغم مرور الدهر وصروفه عليها :
http://mahmod22.jeeran.com/images/saforya_6.jpg
منظر عام لقرية صفورية ما قبل الشتات وتظهر القلعة في أعلى البلدة / صفورية تاريخ ، حضارة وتراث ج 2 . ص 67
وظهرت على يمين القلعة حيث ننظر مدرسة الراهبات ، ودير حنة حيث ولدت السيدة مريم العذراء عليها وعلى ابنها السلام ، وهي المكان الوحيد في صفورية الذي تجد اللغة العربية ما زالت تعيش فيه حتى يومنا ، وتذكر أنك زرت الدير منذ زمن بعيد وتفحصت الأعمدة في باحته وتجولت داخله أكثر من مرة .
تابعنا السير حتى خرجنا إلى الشارع الرئيسي المحاذي لمشروع المياه القطري ، حيث يمتد سهل البطوف خلفه على مد البصر زاهيا بخضرته وتربته ، وما زلنا حتى وصلنا إلى طريق جانبي فدخلنا فيه ، وكانت الشمس حينها قد شارفت على الغياب ، فقال صاحبي وقد رأى ما جرى :
ـ لقد أضعت علينا اليوم زعترا كثيرا ، وسنعود بخفي حنين .
ـ لا بأس في ذلك ، فإن عدنا بلا زعتر فقد ربحنا جولة في أحضان صفورية ، أليست جولتنا ممتعة ؟؟ .
ـ بلى ممتعة ، ولكننا لم نأت للتجول ، لقد جئنا لقطف الزعتر ، وها نحن بلا زعتر ، ولا يحزنون .
ـ هنا في السفح يوجد زعتر ، وشومر ، سنجمع ما نستطيع قبل أن تسقط الشمس ، هيا بنا .
نزلنا من السيارة ، وبدأنا نبحث عن الزعتر ، لكن الغروب حلَّ علينا ، وعوضنا ذلك بقليل من الشومر ، وانطلقنا عائدين ، وحين وصلنا مدخل مصنع فينيسيا الذي لا يختلف عن " هار يونا " في التهام أراضي القرية ، كان صوت أذان المغرب يصدح من جميع مآذن القرى المحيطة بنا ، ورحنا نردد مع المؤذن ، حتى انتهى الأذان ، حينها كنا قد دخلنا القرية من جهة الشمال ، بعد أن طفنا بين ربوع صفورية ، وعدنا بلا زعتر .