تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : معجزة القلب الإنساني



عبد الله راتب نفاخ
29-06-2010, 11:20 PM
ما نحن وهذا الكون الدائر من حولنا إلا كوريقات صغيرة في مكتبة عظيمة الأسفار.


والكون الذي تحكمه إرادة هي فوقنا وفوقه محط لما يكون من أعمالنا فسدت أم صلحت ، والطريق أمامنا مفتوح للعمل بهذه وتلك ،فما أحد منا ولد والأغلال في عنقه ، أو أفاق ليجد نفسه حبيس الأوامر التي توجهه وتسيره نحو أحد الطريقين الفساد أو الصلاح، إذ مهما بلغت الأوامر والنواهي مبلغاً فهي لن تصل حد تكبيل الأيدي والأرجل وإغلاق الفم والأعين وتجميد العقل و الفكر، لكنَ إعمار الكون هو الذي يرتبط بما نقوم به إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.


والقلوب التي نملكها وبما بها من خير ندرك سر الحياة، وبإحساسنا المتولد عنها نعرف معنى الوجود هي ما يصلنا بالعالم حولنا و فوقنا ، فما نحن لولا قلوبنا ومن نكون وما نكون لو لم يجعلها الله في صدورنا ، أولم يجعلنا ممن يملكونها.


قلوبنا هي سر ارتباطنا بحقيقة الوجود إن كانت عقولنا هي واقع ارتباطنا بظاهر الوجود ، لذا أعيب على من يقولون بالسير في الحياة تحت راية العقل وحده،فالعقل إن جعلناه مرشدنا الوحيد صيَر حياتنا أفكاراً مجردة، بلا سعادة ولا حزن ولا حب ولا كراهية ، فنعيش ونحن لا نعيش ، وربما نموت ونحن لسنا بميتين.


فالقلب البشري هو محط الخير في نفوس البشر‘ فدون الحب والشفقة والرحمة والإخلاص والإيمان والحزن والفرح لا يكون الإنسان إنساناً،ولا ترتفع عنه غشاوة البهيمية الرعناء إلا بسعيه في ركاب العلو بتنمية تلك العواطف الخيرة والتعبد في هيكل ترويض الشهوات والحد من سلطانها،ذلك الهيكل الذي كان سر ظهور الديانات الوضعية التي سعت لخلق عالم الأبدية انطلاقاً من الأرض لا صعوداً نحو السماء.


والقلب البشري الذي يحمل كل ذلك، ويصنع بناءً عليه قصر السمو الإنساني المشمخر أو هاوية الوحش البهيمي التي لا قرار لها، إنما هو مملكة لا حدود لسلطانها ، إن شاء الإنسان سعى بها نحو السمو فغدت عنده سلماً ذهبياً يصله بالملكوت السماوي المطلق فيخلد فيه دون رجوع ولا أوبة.


وتلك المملكة التي تسكن أجسادنا وتقبض بزمام قضائها على أرواحنا أكثر الممالك جهلاً لدينا ، فقد يعرف العالم عدد المجرات والكائنات وأحوالها، لكنه لا يعرف شيئاًَ ولو قليلاً عن سر ما يعتلج في داخله ، في تلك العضلة الحمراء العجيبة . وذلك دليل واضح على أن القلب و مملكته غير المحدودة إنما هما من شأن إلهي لا يحيط به البشر ، ف(و في أنفسكم أفلا تبصرون)ولو شاء الملحدون أن يؤمنوا لكان كافياً أن ينظروا في حال النفوس التي بين جوانحهم ليخبوا في طريق الإيمان خبباً، ولكن (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً).


وعندما يجنح بعض من لم يدركوا حقيقة الأمور، و اكتفوا بظاهر الحياة وعموا و صموا عما سواه إلى حد سلطان العقل السامي وتحويله إلى العقل المجرد بدعوى ضبط الشهوات والرغبات فهم إنما يسيرون نحو الجنة من بوابة جهنم، لأن العقل المجرد يجعل الإنسان صنماً أثرياً كالحجارة المعروضة في متاحف اليونان ، وإن أردنا من الإنسان أن يخضع لما يسمونه العقل وحده فكأنما نقول له اخضع لنداء شهوتك و مصلحتك المغلفة بإطار فكري مثله كمثل قشرة نبات ذابلة تتفتت عند أول لمسة يد أو نسمة هواء .


فالعقل مكان المحاكمة الفكرية والمعرفة العلمية ، لا مكان الإحساس والشعور وترويض ذئب الشهوات ليس بإبراز سيف العقل الصقيل في وجهه ، بل بتسليط نور الخير و أشعته المنبعثة من القلب الصالح عليه ، لأن الظلام قد يحيا مع النار ، لكنه أبداً لا يحيا مع النور .


و إن نظرنا إلى أكثر الناس ازدهاراً في عقولهم وجدناهم يعيشون ازدهاراً مثله في قلوبهم ، فلا فيلسوف ولا أديب ولا عالم ارتقى مرتقى صعباً إلا وهو ذو قلب موار بالأحاسيس يغذي بها نفسه و يزقها إياها زقاً، كالذبالة التي لا يضيء السراج من دونها وهي ليست وقوداً يشتعل ، لكن لولاها ما كان للوقود فائدة.ولذلك فإن كان العقل حوذياً في مركبة الحياة ، و إلى جانبه حوذي آخر هو القلب، سار الإنسان بأمان إلى تلك السعادة التي هي غاية كلٍ منا في داخله و إن لم يصرِح بها .


و يا أيها القلب الإنساني العظيم ، يا سر الإنسانية المنبعث من الأزل ، يا شعاع الإلهية المقذوف في جسد البشر ، يا حامل رسالة إصلاح الكون و السير به نحو السمو اللا نهائي ، نرجو أن تصلح أمرنا لنصلح بك ، و أن تقودنا حاملاً لواء الخير ، فدونك لن تقوم للإنسانية قائمة من غفوتها ، ولن تسترد قدراً من عافيتها ، وسيغدو البشر بهائم عاقلة ليس لها من الإنسانية إلا رسمها ، ومن الحضارة إلا اسمها.

وفاء شوكت خضر
30-06-2010, 12:18 AM
فلسفة جميلة ارتبطت بالدين والمشاعر الإنسانية التي ترتبط بخفق هذا القلب المتأثر بكل الحواس ..
مقالة أدبية جميلة جاءت فيها اللغة بسيطة والتصوير واقعي ، والمخاطبة عقلية لمن خصه الله على كل مخلوقاته وكرمه ..
القلوب تلك العلب الصغيرة المغلقة ، المنتفضة بجزيئات الروح لتكون أول مؤشر على الحياة ..
تلك القلوب التي تتقلب ما بين مشاعر حب وكره وخوف وأمان وسعادة وحزن ؟؟
تتقلب بميولها فساعة مع الله وساعة مع الشهوات وساعة مع العقل وساعة مع العاطفة كان رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام يدعو بـ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ..
فالقلب معجة من معجزات خلق الإنسان التي إن تفكرنا فيها أذهلتنا ..

أترك لك التحية والاحترام ..

عبد الله راتب نفاخ
30-06-2010, 11:24 AM
ألف شكر لك أستاذتي لمرورك الكريم و كلماتك الطيبة .......
لا ندرك سر قلوبنا لأنها سر وجودنا ....... و ذلك مما استأثر به رب العالمين ......لكننا نحسها و نكتب في عظمتها
تحياتي لك .....
و دمت بخير
:0014: :0014: :0014:

شيماء عبد الله
30-06-2010, 01:41 PM
فكر رائع مستنير ومتفتح لجوهرية وواقعية الحياة التي ينبغي ان نسلك مسالكها في الصحيح..

أستاذيّ المبدع / عبد الله راتب

إختيار مميز لمضمون ما أفصحت به؛ كلمات تجريدية لتصفية النفس البشرية

ونقاء سريرتها ..

سلم اليراع الذي خط بخير نص مقنع وموجه ومستفيض في الحس

دمت بألق

عبد الله راتب نفاخ
30-06-2010, 04:04 PM
ألف شكر لك أيتها الأستاذة الغالية شيماء .....
مرورك بكلماتي المتواضعة يسعدني ..... و تعليقاتك تثلج الصدر
سلمك الله
و دمت بألف خير
:0014: :0014: :0014:

عبد الله راتب نفاخ
01-07-2010, 11:00 AM
يؤسفنا أن الكتابات الأدبية أقفرت هذه الأيام مما يدعو إلى تصفية النفس و صلاح البشرية
بل بات هنالك من يخرج هذا النمط من حظيرة الأدب بالكلية ...... :006:
و هذا يدل في أحسن الأحوال على جهل بقضية الأدب و حقيقته .... و مهمة الأديب في الحياة

زاهية
02-07-2010, 10:30 PM
عبد الله ياوريث الأدب من معين صافٍ نقي زلال
مقالة قرأتها جميلة، غنية بالمفردات اللغوية القوية، والنظرات الفلسفية
النافعة التي تهدي النفسَ إلى نور العقل برفقة القلب النابض بالحب والجمال
كما تعلم ياعبد الله القلب هو الأساس حتى قيل إنه العقل (لهم قلوب لا يعقلون بها)
وقد قرأت ذات مرة بأن العقل هو وزير القلب فما استقر في القلب بعد مناقشة العقل له
يصدره إلى الجوارح فتقوم به.
فلا نجاح إذا بتعطيل وظيفة القلب والعمل بالعقل فقط فيصبح الفعل ناقصا
، ولو كان علينا إهماله ماكان الله جعله يخفق بالحب والأمل ، بالخير والشر.
العقل والقلب صنوان لايمكن التخلي عن أحدهما عملا أبدا.

عبد الله راتب نفاخ
03-07-2010, 05:22 AM
ألف شكر لمرورك خالتي بكلماتي المتواضعة و تعليقك عليها .......
بوركتم و بوركت كلماتكم ......
دمتم بألف خير

ربيحة الرفاعي
03-07-2010, 12:18 PM
جميلة العبارة غنية المفردة ورفيعة الطرح

في نص مقالي الصيغة ومعالجة فلسفية لجملة معان تائهة بين الشيء ونقيضه

اجدت اختيار الفكرة وبرعت في تقديمها

دمت متالقا

عبد الله راتب نفاخ
03-07-2010, 02:28 PM
بارك الله بك أستاذة ربيحة ........
مرورك يبهج النفس و يسعدها ......
و بكلماتك تضعين الهناء موضع النقب ......
ألف شكر لك ....
و دمت بألف خير
:010: :010: :010:

سمو الكعبي
04-07-2010, 05:27 PM
هنا سفر من اسفار الفلسفة أقرب منه للأدب إلا أن النص لا يخلو من جودة السبك وحلاوة النظم
سلمك الله ولا أسلمك

عبد الله راتب نفاخ
04-07-2010, 08:12 PM
سلمك الله أستاذتي .........
ما بين الأدب و الفلسفة في كثير من الأحيان برزخ صغير شفاف .... ندخله و نحن لا ندري ........
و كثير من كتابات العمالقة داخلتها الفلسفة فلم تخرجها من حظيرة الأدب ......
ألف شكر لمرورك ....
دمت بخير
:0014: