تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بقعة سوداء



هيثم عبدربه السيد
01-07-2010, 11:56 PM
بلكونة غرفتى المطلة على الشارع ضيقة جدا..تكاد تطبق على ومكتبى الصغير وأنا اكتب مقالتى الأسبوعية للجريدة ،ومن ضجيج الضحى بالشارع تتناثر الأفكار فى رأسى ،ألملمها سربعا قبل أن ييشتتها صوت بائع متجول أو أدعية درويش بمبخرة أو طرقات بائع أنابيب أو حوار صباحى بين سيدتين عبر نافذتين يفصلهما عرض الشارع الضيق .
عادة قديمة أن اكتب فى هذا المكان رغم ضيقه وضجيجه وكأنه جزء من الشارع ولا أعرف لعاداتى سببا أو تفسير سوى أنى فى هذا المكان الضيق استشعر انفلات روحى كلحظة ميلاد من رحم معلق بين الارض والسماء لتهيم فى فراغ الشارع وتصطدم بالكتل المتحركة فتعود إلى محملة باختلاجات أرواح أخرى تسكن تلك الكتل لألتقط من بينها مفتتح رواية أو فكرة قصة أو موضوع مقال .
وأكتب " أيها الساكنون بلا حراك كفيلة أفريقية مترهلة على مقاعد وثيرة فى مسرح أوروبى تشاهدون توليفة مسرحية عبثية لشكسبير أبطالها هاملت المدعى الجنون وبروتس الخائن وعطيل المتهور وديدمونة المسكينة و...."
يخلعنى صوته من شخصيات شكسبير وهو ينادى
- أحلى بطاطا يا بطاطا.....ياسكر وعسل يابطاطا
تتابعه عيناى وهو يجر العربة المحملة بالبطاطا قادما من اول الشارع .. تنفلت الروح من رحمها ،تتقافز حتى تصله ،تمرق من أمامه لتلتف حوله وعربته الخشبية الضخمة ،تلامس صدره العارى العريض وتقاسيم وجهه البارزة فتعود إالى محملة بعبق رجولى وجير أسنان متراكم منذ زمن فأجدنى أضيف إلى ديدمونة المسكينة
"......وجيفارا المكافح المناضل ......"
يهب شيطانى المثقف
- جيفارا مش من شخصيات شكسبير ....انت بتستهبل ...؟
فأرد عليه
- ولو ..دراما الحدث تحتاجه.
واتابع البائع وهو يقطع الشارع بطوله مناديا بايقاعات منتظمة لايخطئها ولم يستوقفه أحد ولو لمجرد الفرجة وتقليب سلعته المتكومة كالتل فوق عربته الخشبية ،فيتوقف من تلقاء نفسه أمام محل الجزارة المقابل لمنزلنا وينادى متوجها بندائه إلى المراة التى يمتلئ بها الكرسى فى واجهة المحل
- بطاطا يا بطاطا
تنظر اليه المرأة وهى تلوك لبانتها التى لاتفارقها وتهز ساقها القبيحة فوق الأخرى الساكنة فيهتز معها جسدها المترهل وثدياها المتدليان البارزان تحت ثوبها الشفاف المنحسر طرفه بين ساقيها .
- بطاطا ...!! مش عيب على طولك وعرضك تجر عربية يا.......
وأكملت المرأة عبارتها بضحكة فجورية طويلة أعهدها منذ أن ظهرت تلك المرأة فى شارعنا كمارد حط فى الشارع تؤرق البنى ادمين ،تنغص عيشتهم وتقلق راحتهم بلسانها السليط وجر المشاكل كعادة حياتية يومية.
يتوقف البائع ، يفلت من قبضته ذراعى عربته ،تنتصب قامته ،يستدير فى هدوء ليواجه المرأة
- انت ست مش محترمة
تملأ أجوائى موسيقى داخلية تصاحبها اهتزازات يدى بالقلم الحبر ولاأدرى لماذا ؟
هل هى طبيعتى الدرامية التى تهوى مثل تلك المواقف ؟ أم هو فرح داخلى حقيقى لموقف ذلك البائع أمام المرأة صاحبة محل الجزارة ؟
اختلافاتى الداخلية لاتبدل واقعية المشهد فى الشارع ..تنتفض المرأة من كرسيها ،تبصق لبانتها ،وتستند بيديها على جانبى خصرها المترهل
- ناولنى سكينة باردة من عندك يا "لولو"
وكأن هذا ال "لولو" كان ينتظر النداء بسكينه البارد فأجده كالعفريت يظهر وفى يمنيه سكين
ترتفع سخونةالمشهد وتتجلى عادات البشر فى شارعنا ..يتحلقون حول الحدث صانعين منه حالة شبه مسرحية ،همهمات الجمع تحجب عنى تطاولات كلامية استنتجها من اشارات أيدى البائع والحركات الجسدية لفاضحة للمرأة وتلويحات لولو بالسكين .
أضع قلمى ، أزيح مكتبى الصغير بضع سنتيمترات للامام ،أقف ،أدلى رأسى من فوق حافة البلكونة لأرى وأسمع ملء العين والأذن
يدفعنى شيطانى
- انت سلبى ليه ؟! شارك فى المشهد
أتحرك بسرعة ،أتخطى باب الشقة ..درجات السلم ..باب المنزل ..أجدنى فى المشهد ..شيطانى يدفعنى ..أمرق بين الكتل غير ابه لتعليقات النسوة ولغط الرجال ، أصل الى البائع والمرأة ولولو ..أضع نفسى بينهم مواجها المراة ولولو ..ترمقنى المرأة بنظرة
- لو سمحت ياأستاذ خليك انت بعيد
وكأنى لم أسمعها ألتفت الى البائع تتلاقى أعيننا .أحدق فى ملامحه ...للحظة أستشعر استثنائيته،استحضر قدراتى التحليلية ،يشتتنى الضجيج ..أعجز ..يستيدير ويقبض على ذراعى عربته ملقيا بابتسامة عريضة أشعر أنها غطتنى والشارع ،يسير فى هدوء مخترقا الجموع
- ياسكر وعسل يابطاطا
أعود إلى البلكونة لأنتهى من مقالتى ..أجد الجزء الأبيض المتبقى من الصفحة تملأه بقعة سوداء ..نسيت القلم الحبر دون غطاء ،أنزع الصفحة ،انظر الى الشارع فأجد "لولو" يعلق ذبحا جديدا فى واجهة المحل

قلم/ هيثم عبدربه السيد....

مازن لبابيدي
10-07-2010, 08:45 AM
أتعرف هنا على أديب قاص مبدع بكل معنى الكلمات .
أخي هيثم اسمح لي أن أرحب بك وأعبر عن سروري بالقراءة لك .

شدتني قصة بقعة سوداء من بدايتها حتى الخاتمة بأسلوبها المتميز ولغتها الجميلة وتعابيرها البليغة التي طرزت ببراعة الصور المتقنة التي رسمتها .
قصة اعتمد الكاتب فيها نفسه كمحور وإطار من خلال السرد الشخصي لكوامنه النفسية ودوافعه الشعورية ولكنه نجح ببراعة في دمج المحيط حوله كحدث مرتبط بالحالة الإبداعية . الحبكة تماشت مع الوصف المتمكن وتصاعدت حتى الذروة .
العنوان ارتبط مباشرة بخاتمة القصة ، وأرى هنا أخي هيثم أن لحظة التنوير سبقت الخاتمة فالحدث الرئيس للقصة يبدو أنه انتهى بكلمات البائع الذي انصرف بابتسامته العريضة . ثم عدت بالقارئ لخاتمة أخرى ، والربط الذي وجدته بين البقعة السوداء والحدث هو في تلك المرأة التي عكرت بياض الحي بخلقها السيء ، وتمزيق الصفحة كان معبرا عن الرفض .

القصة أمتعتني بحق وتستحق التقدير الكبير .

بعض الملاحظات أخي هيثم لو سمحت لي :
- بعض العبارات بالعامية المصرية ربما تناسب البيئة المحلية وتعبر عنها ولكن لا تنسى بأنك تكتب لجميع القراء العرب وليس فقط للمصريين ، علاوة على أنها تضعف مستوى العمل الإبداعي ، وأنا على يقين أن كاتبا بمقدرتك يسهل عليه أن يصوغ تلك العبارات بلغة فصيحة معبرة .

- يبدو لي كذلك أخي هيثم أن براعتك في لوحة المفاتيح لا تتناسب مع براعتك في القص وخبرتك الأدبية ، فهناك الكثير من الأخطاء التي يسمونها "الكيبوردية" ومن أهمها استعمالك للألف المقصورة ى بدل الياء ي .

ملاحظة أخيرة - وأرجو أن يتسع صدرك الكبير لكثرة تعليقاتي - التشكيل هو جزء من لغتنا المكتوبة وهو ضروري وخاصة في مواضع الالتباس .

أكرر إعجابي الكبير بالقصة وكاتبها وسأقرأ لك دائما أخي الكريم إن شاء الله

هيثم عبدربه السيد
10-07-2010, 11:14 AM
الشاعر الطبيب تحياتى ...قد أعدت قراءة القصة بطريقة أثارتنى أنا وأنا كاتبها فعلى قدر ابداعكم يبدو انه قدر مقدرتكم النقدية والتحليلية....أما عن الملا حظات
1- اللغة العامية تأتينى كضرورة فلست أرى من المعقول مثلا ان ينادى بائع بطاطا على سلعته بالفصحى ولا فمصداقية المشهد سوف تقل كما أن الكاتب عندما يكتب هو يكتب نفسه ومحيطه وبيئته ولايبغى ترويج سلعة فينسج منها مايناسب قارئ بعينه او يضع فى حساباته لحظة الابداع ان قارئ سعودى او بحرينى او فلسطينى سقرا ..فليقرلأنى من يقرأ ولكن بلغتى..وفى رأيى الشخصى هذا مايصنع ابداعا صادقا
2- اعترف بانى عدو للتكنولوجيا ولولا انها تربطنى بالاخر لما سعيت اليها فانا الجأ اليها للتواصل ومواصلة الابداع حيث انى بعيد تماما عن المراكز الثقافية حتى التى فى وطنى بحكم موقع قريتى البعيدة المنسية الجغرافى على حدود كون الوطن ولذلك اقر واعترف بانى لازلت فى طور النشأ بالنسبة للكتابة على الكيبورد لكنى أبذل جهدا
3- مماسبق يتضح انى لا أعرف من اين أشكل النصوص واكون شاكرا لفضلكم لو دللتنى على الطريق
نهاية شكرا شكرا شكرا جزيلا على مروركم الكريم ودقة سيادتكم فى قراءة النص وملاحظاتكم التى لفتت انتباهى الى امور ليست بالعادية ورجاء تقبل ردودى بقلب شاعر ..ولكم منا خالص التحية

آمال المصري
08-10-2013, 02:00 PM
مصور ماهر نجحت في نقل المشهد ببراعة وكأن الشخوص تتحرك وكان الوصف دقيقا والسرد ماتعا أخذني للمتابعة حتى كانت الخاتمة وما ترمز إليه تلك البقعة السوداء التي لوثت نقاء المكان
أثني على ملاحظة شاعرنا القدير د. مازن وأشيد بأن حرفك بديع وأن النص احتل من الذائقة مسكنا
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

نداء غريب صبري
29-10-2013, 12:17 PM
قصة جميلة وفكرتها مهمة وقيمتها عالية

أرى أخي أن اللغة العامية في القصة تضعفها وليست ضرورية أبدا حتى في حديث بائع البطاطا والفران والفوال

شكرا لك اخي

بوركت

خلود محمد جمعة
04-11-2013, 10:22 AM
عشنا القصة بأبعادها الثلاثية
غريبة هي العادات التي نتبعها لتصبح كشيء لا مفر منه
نقطة قد تغير معالم النفس وتقلب موازين الذات
قصة توقظ الكثير من المعاني
دمت
مودتي وتقديري

ناديه محمد الجابي
04-11-2013, 08:44 PM
قصة بديعة بأسلوب رائع في السرد
نجح الكاتب في شد القاريء إلى مسرح الحدث الذي كان الكاتب نفسه أحد أشخاصه
قاص بارع يمزج الصور البيانية الموحية بمعان قصدها, ويرسم بالحرف المشهد
عملا قصصياً راقياً في مجمله أمتعني واسعدني.

ربيحة الرفاعي
09-12-2013, 10:51 PM
ابتداء من البلكونة كان التأثيث الماهر للنص برسم بيئته وترتيب حجارة الرفعة لتمكين المتلقي من اتخاذ موقعه متابعا حركتها المتوافقة مع صورها الخارجية وما تحمل من دلالات تكشف دخيلتها، وبسردية حكت تمكنك كبلت القارئ لنص تصاعدت وتيرته وليس من حدث رئيس تتحرك حوله وهذا بحد ذاته إبداع وتفوق

أظنني قرأت خاتمتين هنا كانت أولاهما في ابتسامة بائع البطاطا وانصرافه بعربته


دمت بخير أيها الرائع

تحاياي

سامية الحربي
10-12-2013, 04:00 PM
نحن أمام قاص متمكن من أدواته مع الأخذ في الإعتبار ملاحظات الدكتور مازن.ساعد المنولوج الداخلي على إضفاء بُعد ثالث حمل رسالة الكاتب بإيحاءات متعددة القراءات . اللغة الوصفية تشد القارىء حتى النهاية .كل التحايا والشكر.

عمر الصالح
25-11-2021, 11:30 PM
رسم المشاهد أعجبني كثيرا.. ورشاقة السرد

تحياتي