تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : آخر صفحة في كتاب الألم .. رواية .



عبدالغني خلف الله
08-07-2010, 04:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

آخرصفحة في كتاب الألم- رواية
عبد الغني خلف الله الربيع

الحلقة الأولي
كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال ) ..ومن بين ثنايا الجماهير انخرطت مسرعاً لأكون في الصفوف الأمامية مع القادة والزعماء وتقدمتهم بضعة خطوات وأنا أفتح صدري لكافة الأحتمالات غير عابيءٍ بالموت .. تناولني أحدهم وكان رجلاً في العقد الخامس من العمر ونحاني جانباً وقال لي ..تبدو مرهقاً جداً يا بني ووجهك شاحب ولونه أصفر ..هل أنت وطني أكثر من كل الحضور ؟ أم ماذا ؟ ..ما بك قل لي .؟ ..ترنحت من شدة الأعياء واستندت علي كتفه حتي لا أسقط ..أخذني إليه في حنو وحب ..كان من الممكن أن يكون في عمر المرحوم أبي لولا أنه رحل باكراً عن حياتنا ..بكيت علي كتفه..بكيت بشدة وكأنني أفرغ نهراً من الدموع ..طلب من أحد زملائي أخذي إلي عربتة التي تقف غير بعيدة عن المكان وأمر السائق بتوصيلي للجهة التي أرغب بها ..انطلقت بنا العربة تنهب الأرض نهباً ولم أكن متعوداً علي الركوب بالمقاعد الخلفية ولا علي الهواء الرطب الذي غمر وجهي والموسيقي الكلاسيكية التي تنبعث من جهاز التسجيل ..وعندما توقفت العربة أمام منزلنا ساعدني السائق علي الترجل منها وأنا أتعثر من شدة التعب وهو يدفعني أمامه بيسر نحو باب منزلنا ..صرخت أمي مولولة وقد كانت تراقب الموقف من النافذة .. ( ولدي مالو؟ !!!..قصي اتكلم ..الحصل ليك شنو ؟! ) ..رد عليها السائق وهي تندفع نحوي تحضنني .. يا حاجه ولدك بخير .. كان في المظاهرة وحضرة الريس قال يوصلوه البيت ..أنا بخير ..بخير يا أمي ( مافي مشكله .)..الريس ..الريس منو ..؟! هنا تذكرت الوريقة الصغيرة التي دسها ذلك الرجل في جيبي لدي تحركنا ؟!! وبها اسمه وعنوانه وأرقام هواتفه ..سالم عبيد التهامي..شركة التهامي للاستيراد والتصدير.. الخرطوم .أخرجتها بعناية فائقة ووضعتها في ثنايا مصحف صغير أحتفظ به منذ الصغر حتي لا تضيع .. من يدري فقد احتاجه يوماً ما .
* * *
لم تتركني (امتثال ) وشأني ..فهأنا أغادرالمنزل خلسة حتي لا تشعر والدتي بغيابي بعد أن صعب عليّ سماع الصخب والضجيج الذي تحدثه أصوات الغناء المنبعثة قبالة منزلنا حيث تجلس هي وعريسها وبعض الطلقات النارية تخترق الأجواء بين الحين والآخر تعقبها أصوات الزغاريد .. ركضت بكل ما لدي من قوةٍ نحو الفناء الواقع خلف المدينة والأصوات لا تزال تلاحقني ..غنيت بصوت عالٍِ ..أجهشت بالبكاء .. صرخت كالمجنون في هستيريا عارمة ولا مهرب من ضجة العرس .. تناوشتني بعض الكلاب الضالة وخفف نباحها من غلواء الموسيقي والغناء لكنها ولت هاربةً وقد أخافها جنوني ..ولدي وصولي إلي الربوة التي تطل علي المدينة خفت صوت الموسيقي ومن ثمّ توقفت .. جلست القرفصاء وأنا أكفكف دموعي ونال مني التعب كل مأخذ فغافلني النعاس ونمت ..نمت نوماً عميقاً وكأنني أنام فوق فراش من الرياش والحرير وليس الحصي والرمال ..وبينما أنا بين اليقظة والحلم التفت لأجد ( امتثال ) أمامي كملاك صغير تلفه هالة من الأضواء الباهرة ..جلست إلي قربي وكفكفت دموعي وهدهدتني حتي غلبني النعاس وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) وحين استيقظت وجدت من فوقي والدتي وشقيقتي وخالي وهم يتمتمون ..الحمد لله ..الحمدلله ..قوم يا ولدي ..قوم.
***
اعتكفت في غرفتي ثلاثة أيام لا أقابل أحداً ..وكانت شقيقتي رقية هي الوحيدة التي أسمح لها بالدخول ..حتي والدتي تتهرب من رؤيتي بهذه الحالة ..رقية تأتي لي بالطعام وتعيده للمطبخ بأكمله لأنني بالكاد آخذ منه شيئا ..توقفت عن التفكير ب(امتثال ) وزملائي وزميلاتي بالجامعة ورحلت بعيداً بعيداً إلي ربوع قريتنا عند السفح الغربي المطل علي النيل ..كنا نعيش حياة ملؤها الهدوء والسعادة ..فجدي عمدة الخط ووالدي شيخ القرية ..كان جدي رجلاً مهاباً من الجميع ..داره عامرة بالضيوف والزوار وأحياناً يزوره مفتش المركز البريطاني الجنسية فتولم له الولائم ..وقد يغيب أياماً بل وأسابيع وهو يقود قوافل الصلح و( الجودية ) بين القبائل ..ذلك لأنه عرف بالشهامة والنزاهة والجميع يحتفظ له بتقدير خاص ..ثم وبعد وفاته تولي العمودية من بعده والدي بالرغم من المنافسة الشديدة التي لقيها من بقية أعمامي فقد كان كل واحد منهم يطمح في تولي منصب العمدة ..وذات يوم مرض والدي مرضاً شديداً فأخذوه إلي مستشفي( البندر )..كنت وقتها طفلاً في الرابعة من عمري وشقيقتي رقية في الثالثة من العمر طفلة مترفة تتلمس طريقها في الركض والنطق ببعض الكلمات التي يطرب لها أبي ..ثم ومن بعد شهر تقريباً أعادوه لنا وكان ثمة همس يدور بأن حالته ميئوس منها ..والدتي جزعت وخافت رحيله في تلك السن المبكرة لا سيما وأنها ليست من المنطقة وأهلها يقيمون بالخرطوم ..وعلاقتها مع أعمامي وزوجاتهم لا تخلو من الفتور وربما التوتر أحياناً وقد يسمعنها عبارة ( لا أصل ..لا فصل ) ..فيؤلمها ذلك كثيراً فتبكي وهي تردد ( صحيح الما بعرفك بجهلك )..بيد أنها كانت تحتمل شتي الإهانات والمضايقات لأجل أبي ..كانت تحبه بجنون ولكن في صمت وهي نادراً ما تتفوه بما تشعر كما تقضي العادات والتقاليد بذلك فهي بالنهاية زوجة العمدة وهذا التوصيف جعلها تبدو أكبر من عمرها الحقيقي علي الأقل من زاوية التصرفات ..لكن ما كان الجميع يخشاه قد حدث ..فقد تضايق والدي وهو علي فراش الموت ..وتحلق الجميع كباراً وصغاراً حول فراشه ..واحتشدت النسوة في البهو الخلفي يبكين في خفوت مخافة إزعاجه ..في تلك اللحظات العصيبة تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة وأرعدت بصورة أخافت الجميع والصواعق تتلاحق وكأن السماء قد تحولت إلي مضمار للرماية ..رفع إمام المسجد كلتا يديه وهو يقرأ الفاتحة علي روحة معلناً وفاته لتنفتح أبواب العويل والبكاء ..بكي الرجال قبل النساء ..كل واحد أسند وجهه إلي الحائط ووضع طاقيته في فمه ..وسكبت النسوة حبيبات الرمل الباردة فوق روؤسهن ..وهُرع القوم بالجسد الغالي المسجي في (البرش الأحمر..) والملفوف جيداً بقماش الإحرام فقد كان والدي يحج كل سنة ويحتفظ في خزانة خاصة بأردية الأحرام تيمناً وبركة وحين يسأل عن سر اهتمامه بها يقول لمن حوله من الأصحاب أريد أن أتخذها كفناً لي حين أموت ..فيقولون له ( بعد خرف إن شاء الله يا عمدتنا )..ومع آخر طوبة في القبر بدأ المطر في الهطول وعاد الناس ركضاً لبيوتهم ..واستمرت الأمطار في الهطول طوال الليل وكأن السماء تشاركنا دموعنا وآهاتنا .. الشيء الذي أربك تدابير المأتم وإطعام المئات الذين حضروا بالدواب من القري المجاورة حين سمعوا بخبر وفاة أبي الذي تناقلته مكبرات الصوت بمآذن المساجد لتحمله الريح بعيداً في جميع الاتجاهات ..لكن حدثاً مريعاً تكشف في ساعات الصباح الأولي ومع انبلاج ضوء النهار ..فقد سال الوادي القريب وأمتلاْ حتي آخره لينفلت منه سيلاً عارماً أطاح بالجانب الشمالي من المقابر حيث دفن والدي ..وعاد الناس مرة أخري للتأكد من سلامة قبور أحبائهم ..انشلح جانباً كبيراً من قبر أبي وعكف أعمامي علي ترميمه وثبتوا اللوحة الحديدية التي تؤشر إلي وفاة والدي العمدة في مكانها ووعد أكبر اشقائه بإرسال أحدهم للمدينة القريبة لإحضار كيساً من الأسمنت وبعض الطوب الأحمر لضمان عدم تكرار ما حدث ..مضي اليوم التالي علي وفاة أبي بسلام لا تعكره سوي أصوات الثكالي وبكاء الرجال القادمين من أماكن بعيدة وكنت أقرأ الصورة بإمعان وانتباه وأشعر بشيء من الفخر والسعادة لكون أبي علي كل هذه الدرجة من المكانة والأهمية الاجتماعية بالرغم من حزني الشديد علي فراقه ..جُن الليل ونام الجميع نوماً عميقاً من شدة التعب فقد كان يوماً عصيباً ومرهقاً ..وحرصت أمي علي أن أنام بقربها أنا وشقيقتي رقية في الغرفة الوحيدة الخالية إذ يتعين عليها أن تمكث بها أربعة أشهر وعشراً كما تقضي بذلك تعاليم ديننا الحنيف ..وقبيل الفجر بقليل سمعت صوت صرير الباب الخشبي وهو يفتح وثمة شخص لم أتبين ملامحه لشدة الظلام يقترب من أمي وهو يوقظها بصوت هامس ( النعمه ..النعمه ..أصحي يا النعمه ) ..استيقظت الدتي مرتعبة وقد عقدت الدهشة لسانها وهي تهمهم ( العمده ..بسم الله الرحمن الرحيم ..بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ..ثم سقطت علي الوسادة مرة أخري وهي تصدر أنيناً خافتاً تتخلله عبارة ..أشهد أن لا إله إلا الله ..محمداً رسول الله ) بيد أن نفس الشخص الذي يشبه صوته صوت أبي عاد ليوقظها مرة أخري ..أصحي يا النعمه ..سألتك بالله تصحي ..انتزعت نفسها مرة أخري من الوسادة وهي ترتجف من شدة الخوف ..وكذلك خفت أنا بعد أن خُيل لي أن أبي عاد من الموت وكان الناس في قريتنا يقولون أن فلاناً تحول إلي شبح ويعيش فقط بروحه التي تتجول فقط أثناء الليل ..العمده .. سألتك بالرسول أرجع إلي قبرك ..مالك عاوز تجنني ..؟! ) ..أنا لم أمت يا رقيه ..أقسم بالله أنني لم أمت ..لقد كانت غيبوبة فقط ودفنت وأنا حي ..لكن الله ستر وجاء السيل ليكشف جانباً من القبر لتغمرني المياه فصحوت من غفوتي واستجمعت كل قواي ..مزقت الكفن وخرجت من القبر ثم توجهت نحو المغاره الواقعة خلف التلة وأمضيت بها بعض الوقت وهأنا أعود ..لا يا العمده لا تكذب ..أرجوك غادر وبسرعة حتي لا يراك أحد فيروج عنا القصص والحكايات ..أبوكم سحار ..وأبوكم طلع من قبرو ..طيب يا النعمه كما تشائين فقط أعطيني ملابس نظيفه وأوراق الميراث من الخزنه ..وابريقي ومسبحتي ومصحفي واحضري لي ماءاً لأستحم ..حاضر ..حاضر ..عاد يا الله وياالنبي و الأوليا الصالحين ما يشوفك زول ..إزدادت ضربات قلبي وتحولت لما يشبه دقات الطبول في يوم العيد الكبير وسال العرق غزيراً من جسمي يبلل جلبابي لا سيما بعد أن انسلت والدتي في هدوء باتجاه برميل الماء المنتصب في باحة المنزل وعادت بشيء من الماء ..وبعد أن نظف نفسه مما علق به من طين طلب منها أن تعد له شيئاً من الطعام فقامت وسكبت بعض اللبن بللته بنثار أرغفة هي ما تبقي من عشائها وقبل أن يغادر ناولته كيساً به نقود وأوراق كثيرة أخذه ثم وكأنه تذكر شيئاً ..النعمه ..الولد والبنيه وين ؟ .. ما أوصيك عليهم ..عاوز أودعم ..عليك الله ما تصحيهم يقومو يجنو علينا ..لكن برغم رفضها توجه نحو شقيقتي واحتضنها بقوة وهي غارقة في نوم عميق ومرر يده بين ثنايا شعر رأسي وهو يتمتم ..ودعتكم الله ..ودعتكم الله ..تظاهرت بأنني لم أسمع ولم أر شيئاً وظللت أحدق في سقف الغرفة حتي الصباح .
* *

حسام القاضي
08-07-2010, 08:08 PM
أخي الفاضل الأديب الكبير / عبد الغني خلف اله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كعادتك دائماً وأبدا تلقي بنا في خضم الأحداث مباشرة
لنتابع مأسورين

"كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال )"

رائع جداً هذا التداخل بين الخاص والعام والذي يدل على نفس مراهقة بالفعل
نفس عدلت بين احتلال القلب واحتلال الوطن..
تابعت حتى النهاية المشوقة والتي وقفت بنا بين طريقين ..
هل هي حقيقة ؟ أم أضغاث أحلام؟

ننتظر الآتي بترقب..

تقديري واحترامي

عبدالغني خلف الله
09-07-2010, 07:54 AM
ولك كل الود عزيزي حسام وصالح الدعاء ونحن نعيش 27 رجب الأغر ..وشكراً علي هذا الاستقبال المفرح لهذه الرواية .. سلمت لنا ودمت بألق .

عبدالغني خلف الله
09-07-2010, 07:55 AM
الحلقة الثانية
لم تطب الحياة لوالدتي بعد رحيل أبي وبتنا نسمع باشياء أشبه بالاساطير ..فالناس في يوم السوق يتحدثون عن الشيخ الصالح الذي ظهر بمنطقتهم وأطلقوا عليه اسم ( الشيخ الضهبان ) ..والذي اتخذ من المغارة الواقعة خلف التلة سكناً له بعد أن هيأها بالبروش وريش النعام وجلود الحيوانات وأنه يداوي أمراض الحصبة و( البرجم )التي انتشرت ذاك العام بين الأطفال فذاع صيته بين الأهالي ..وكانت كل سيدة يصاب لها طفل تأخذه للشيخ الضهبان في المغارة فيقوم بمسح وجوههم وأيديهم بمسحوق من الطين جلبه من حفرة قرب النهر ويقرأ عليه بعض الآيات من القرآن الكريم ..كانت النتائج مذهلة ..فالأطفال يتعافون بنسبة مائة في المائة تقريباً ..وفي تلك الأيام أصيبت شقيقتي رقية بالحصبة ونصحتها نسوة القرية بأن تأخذها للشيخ الضهبان وقلن لها ..الشيخ الضهبان( واصل وكلو بركه ) ..لكن شيئاً ما منعها من التوجه للمغارة خوفاً من أن يكون أبي هو الشخص المقصود وعوضاً عن ذلك أخذتها للمستشفي في المدينة القريبة ..
لن تأخذي أولاد أخونا المرحوم العمدة ليتهملوا في الخرطوم ..وإذا كان غرضك بداية حياة جديدة وتفكرين في الزواج كل واحد منا علي استعداد للزواج بك وتربية أولاد العمدة فقط إختاري بيننا الخمسة..هكذا كانت تدور النقاشات المحتدمة صباح مساء بين أمي وأعمامي ..بيد أنها صممت علي الرحيل وبصورة لم أعهدها فيها من قبل ..لقد كانت سيدة علي قدر حالها ..رزينة وصبورة ولا ترفع صوتها أمام القوم ..لكنها في تلك الأثناء تحولت إلي كائن شرس لا يخشي أحد ..وبالنهاية اقتنع الكل تحت إصرارها .. قاموا بحصر الورثة وخيرونا بين الإبقاء علي الغنم والضأن والإبل ترتع في باديتهم وبين بيعها ومن ثّم أخذ نصيبها نقداً ففضلت البيع وكأنها قد قررت أن تقطع صلتها بالمكان وأهله وبصورة نهائية .

لم أكن أتصور في يوم من الأيام منذ أن التقيت ( امتثال ) للمرة الأولي أمام دكان الحاج عثمان في أول الحارة بأنني سأفقدها وبهذه السهولة لأصبح بلا قلب .. بلا أحلام ..وبلا مستقبل ..كان ذلك في الأسبوع الأول لانتقالنا من القرية للمدينة لنعيش مع أخوالي .. وبالرغم من الفتور والإعراض اللذين قوبلنا بهما من قبل زوجة خالي وأولادها إلا أننا شعرنا بالراحة والأمان ..فقد منحنا الغرفة الغربية بالدار والباحة التي أمامها بناءاً علي طلب من والدتي وبإلحاح شديد بالرغم من تواضعها وصغر حجمها فقد كانت غرفة جدتي قبل أن تصعد إلي بارئها ..وكانت أمي تشم فيها رائحة جدتي قالت لنا هنا كانت تعيش أحب إنسان ألي قلبي في هذه الدنيا ..أمي نفيسة ..يا لروعتها وحنانها ..كانت سيدة بمعني الكلمة ..جدتكم يا رقية ويا قصي هي التي علمتني أن يكون للحياة طعم خاص وقانون خاص ..وكان تأثيرها يتعدانا ليشمل الجميع.. فهي التي كانت تصلح فيما بين نساء الحي المتشاكسات علي الدوام ولأتفه الأسباب ..وهي من تتلقف المواليد الجدد لكل سيدات الحي إنابة عن أمهاتهن وتقوم مع القابلة بفصل الصرة وتعقيم الجرح وغسل الأطفال لتضعهم بحنو وحب بين أحضان الزوجات الصغيرات وهي تردد ( بسم الله ما شاء الله ) ..لكن معرفتي مع ( امتثال ) في ذلك الصباح الممطر الذي كان يتسربل بالرزاز بدأت بعراك سببه أنني وصلت قبلها لبقالة الحاج عثمان .. فقد أرسلتني أمي لإحضار بعض السكر والشاي ثم وصلت هي من بعدي بثوانٍ قليلة ٍ ومعها قائمة طويلة من الطلبات ..رطل زيت ورطلين سكر وكبريت ودقيق ومعجون أسنان وعندما شرع العم عثمان في تجهيز طلباتها اعترضت بطريقة بشعة علي تجاهلي فقد كنت لا أزال أتشرب روح وسطوة والدي العمده ..أنا أولاً يا عم ..لماذا تتخطاني من أجل هذه البنت الثرثاره .. ثرثاره أنا يا عربي يا جبان ..لا ..لا .. يا عزيزتي الفاضلة مثل هذا الكلام لا تقوله حرمة لابن سيد القبيلة..صفعتها بقسوة علي وجههاوتهيأت لأصفعها مرة أخري ..في البداية ألجمت لسانها المفاجأة ..لعلها لم تصفع حتي من قبل والدها وأفراد أسرتها لأجي أنا من لا شيء فأقوم بتأديبها ..استوعبت الصدمة وهي تردد ( ده شنو السويتو ده يا شافع ؟ ..) ثم وبدون مقدمات هجمت علي بقوة تنشب أظافرها في وجهي ..كانت قوية وجامحة وشعرت للحظات بأنه من العيب عليّ أن أتعارك مع امرأة ..بيد أنها طرحتني أرضاً وركبت من فوقي وكالت بيديها الصغيرتين لكمة أطارت صوابي ..هُرع العم عثمان ليفصل بيننا وكان أنفي ينزف من شدة اللكمات التي صوبتها نحو وجهي ..لكنها وعندما رأت الدماء تسيل علي ملابسي أسرعت نحو إبريق الحاج عثمان تصب منه الماء فوق يدي بل وتغسل لي فمي وأنفي وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) نفس العبارة التي عادت لتعيدها علي مسامعي بعد ثمانية عشرة عاماً وهي تزف لي نبأ موعد خطبتها من الدكتور جلال .. المحاضر الذي يقوم بتدريسنا مادة الأدب الانكليزي بالكلية ..وأنا يا صباحات عيوني من تراه يأسف لحالي
قرعُُ بالباب وكانت شقيقتي رقية هي الطارق لتخبرني بأن ثمة ضيوف بانتظاري ..من هم ..؟ سألتها في تثاقل واضح ... زملاؤك بالجامعة .. تقول البنت أنها علياء ومعها عصام وطارق ..قولي ليهم اتفضلوا ..ارتديت ملابسي علي عجل وخرجت إلي بهو الغرفة الخارجي ..أخذني عصام وطارق بالأحضان وهمست علياء في وجهي وهي تضغط علي يدي ..( افتقدناك في الجامعه ..الأساتذه بسألوا عنك ؟ ..معقول أسبوع كامل ما تجي الجامعه يا قصي ؟ ) ..علياء تسأل وكأنها لا تعرف السبب ..أسالي صديقتك وجارتك بالمدرج ( امتثال ) لتخبرك لماذا أنا متغيب عن الدراسة ولماذا أنا ضائع وبلا رغبة في الحياة ناهيك عن التعلم ..أنا بخير لدرجة أنني أتمني لو أموت الآن ..أكملت في سري.. بخير .. نعم بخير ..وتغيب عن الجامعه أسبوعاً بحاله يا قصي ..كيف يعني ؟ يما ..ديل زملائي وأصحابي في الجامعة ..الوالدة وقد أسعدتها هي الأخري تلكم الزيارة ..أقعدوا يا أولادي ..مالكم واقفين ؟ ..كان لزيارتهم صدي طيباً في نفسي إذ من النادر أن تزور طالبة منزل زميلها إلا في ظروف استثنائية للغاية .. وطارق وعصام هم شهود المأساة دون غيرهم من الطلاب ..أصدقاء وأحباء وكل واحد منهم أكثر من كونه مستودع أسراري ..والكتف التي أستند عندها في الملمات ..وهاهي الملمات قد أتت ..ملمات البسيطة دي يا قصي ؟!..ما تقول الموت الأحمر جاء يمشي علي رجلين .
* * *

محمد ذيب سليمان
09-07-2010, 09:14 AM
نتابعك أخي بافتخار كبير
ونكبر فيك قدرت وبراعتك وألقك
دمت متميزا

عبدالغني خلف الله
09-07-2010, 04:43 PM
أخي الغالي محمد ..هذه الرفقة الحلوة رفقة الواحة الثقافية .. تحفزني وتحرضني علي الكتابة من جديد لا أن ألوذ بأرشيفي الخاص وإصداراتي السابقة ..فالوقت موجود ..والقلم موجود بيد أن الذاكرة ظلت ولفترة طويلة عصية عليّ لكنها تبدو الآن أكثر مرونة وتقبلاً للأخذ والرد ..سلمت لنا من كل سوء .

عبدالغني خلف الله
10-07-2010, 02:30 PM
الحلقة الثالثة
أحاول أن أجد معنيً جديداً لوجودي بعد أن أنهار كل شيء حولي في أسبوع واحد ..وكأن الآلام لا تجد الوقت الكافي لتتكثف من حولي ..في أسبوع واحد قررت ( امتثال) قبول عرض الدكتور جلال بالزواج منها وفي نفس الأسبوع تمت مراسم العرس وسافرا لقضاء شهر العسل بالقاهرة ..في أسبوع واحد تحولت آفاق الحياة أمامي من اللون الوردي إلي اللون الأسود القاتم..وقررت أن أخرج من هذه الدوامة المفجعة والرحيل بعيداً من كل شيء يذكرني ب( امتثال ) ..بوابة منزلهم وشجيرة ( الجهنمية ) التي تسلقت مدخل المنزل ونافذتها الصغيرة التي تفتح لي كل صباح لتقول لي ..أنا جاهزه .. دقيقه واحده ..وأظل مصلوباً أمام منزلهم لتخرج لي بعد خمس دقائق وهي تجرجر خمارها تحاول إعادته لرأسها ..وحقيبة يدها التي تنفلت منها حتي توشك أن تقع وهي تلعن الدبوس الصغير المغروز في صفحة الحقيبة فتجده بعد عناءٍ وقبل أن نصل إلي محطة الباص تكون قد أكملت ترتيب اشيائها ..وأشاعت الفوضي في ضميري .. صباح الخير ( أنا آسفه ..وقفتك كتير مش ..) ..دائماً آسفه يا امتثال وأنا ..كيف هي أحوالي من بعدك ألم تفكري بهذا وأنت تعطيه معصمك ليضع عليه دبلة الخطوبة يا ألمي ..إذن لماذا لا أسافر إلي البلد حيث ولدت وترعرت لأعود بريئاً كما كنت فقط لو أستطيع تنظيف دواخلي من غبار الأيام السبعة التي أثقلت كاهلي ..لا يا ولدي لن تذهب إلي البلد ..لكن يا أمي ..قلت لك لن تذهب وإن انطبقت السماء علي الأرض .. مع من ستنزل يا قصي ؟ ..مع عمك بشاره أم مع عمك خضير ..؟.. كل واحد منهما تحل بداره قبل الآخر سيظن بأن إبن العمده القديم ينحاز له أو ينظرون إليك باعتبارك طرف ثالث فيقتلونك ..كيف فكرت بهذا الأمر الرهيب يا بني ..خلينا نعيش في أمان بعيداً عنهم ..أرجوك يا ولدي ..قالت ذلك وهي تبكي ..أرجوك ..أنت كل ما تبقي لي بعد وفاة المرحوم أبوك ..لا تبكي يا أمي ..لا تبكي أرجوك ..خلاص ..لن أذهب ..أمي معها حق يا قصي ..رقية وهي تدلو بدلوها ..ناس عمي للأسف الشديد بينهم ثأرات رهيبه ..كيف تجازف بحياتك بهذه البساطة ..حاضر يا فيلسوفة مدرسة الحي الرابع النموذجية للبنات ..نعم ..معك حق ..فقد ساءت الأمور بصورة لا تصدق بين أعمامي بعد وفاة والدي ..وكان عمي بشارة وعمي خضير علي طرفي نقيض منذ صباهم الباكر وعندما احتدمت المنافسة بينهما علي خلافة أبي قرر كبار القوم اسناد العمودية لعمي ( الماهل ) كحل وسط ..وسارت الأمور علي ما يرام حتي توفي عمي قبل بضعة أعوام لتشتعل المنافسة من جديد وبالنهاية قرر كل واحد منهما أن ينسلخ بما يليه من أولاد وبنات عن الآخر ونسبة لأن عمي بشارة هو الأكثر عدداً باعتبار أنه تزوج زوجته الخامسة بعد أن توفيت الخالة حسنه ولديه أكثر من ثلاثين ولداً وبنت .. حمل عمي خضير وأولاده متاعهم ونصبوا خيامهم علي بعد خمسة كيلومترات من القرية ثم قاموا بهدم بيوتهم وحمل أنقاضها من طوب وأبواب ونوافذ علي اللواري وشيدو قريتهم الجديدة التي أطلقوا عليها اسم ( حلة العمده بشاره ) ..وسارت الأمور علي نحو مرضٍ ..بيد أن رقعة من الأرض في منتصف المسافة بين الفريقين أثارت معركة شرسة انتقلوا بها إلي المحاكم التي ماطلت في إصدار الحكم لهذا الطرف أو ذاك نسبة للتداخل في حيازات الأراضي قبل أن تنشطر القرية إلي نصفين ..وقبيل خريف أحد الأعوام قرر عمي خضير أخذ القانون بيده ..فخرج ومعه ثلة من أولاده وأتباعه وشرعوا في فلاحة الأرض ..سمع عمي بشارة بالأمر فأعد عدته وخرج هو في صبيحة اليوم التالي ومعه حشد كبير من أولاده وأتباعه فنشبت معركة دامية تداعي لها الجميع من القريتين وأستعملت فيها الفئوس والعصي وحتي الأسلحة النارية علي قلتها فكانت الحصيلة قتل ثلاثة من أبناء عمي العمدة بشاره وإثنين من أبناء عمي ( خضير ) واستقبلت مستشفي البندر العشرات من الجرحي والمصابين ..وتدخلت قوات البوليس لاحتواء الموقف واعتقلت كل من شارك في تلك المعمعة المؤسفة وينتظر حوالي سبعة عشر فرداً من الطرفين تنفيذ حكماً بالإعدام في حقهم .. والله وحده يعلم كيف ستحل تلكم المعضلة ..يا ألله .. ما كان ذلك ليحدث لولا وفاة جدي العمدة الكبير ووالدي برجاحة عقله وورعه ..ولكن هكذا الحياة .

* * *

هل أنت متضايق يا قصي بسسب زواج امتثال من الدكنور جلال أم من احتمال خروجها نهائياً من حياتك أم من الإثنين معاً ؟ ..متضايق ..ماذا تقصد بكلمة متضايق ؟ ..هذه الكلمة أصغر من توصيف حالتي ..قل هل أنا محطم ..محبط ..يائس ..ولا تقل لي هل أنت متضايق ..بالطبع أنا كذلك ..وكيف أشعر شعوراً مختلفاً و( امتثال ) تتسرب من بين يديّ كقطرات الماء ..لكمّ تحدثنا أنا وهي عن أضرار الزواج بين إثنين لديهما اختلافات في العمر ونمط التفكير والوسط الذي أنتج كل واحد منهما ..وكل هذه الفروقات موجودة بعمق بين الدكتور جلال وامتثال ..فهو في الثانية والأربعين من العمر وهي في الثانية والعشرين ..هو من أسرة أرستقراطية ثرية وهي من أسرة تستطيع أن تقول أنها من الطبقة المتوسطة طبقة الموظفين فوالدها باشكاتب المجلس البلدي .. كيف تسني لها أن تتنكر لكل تلك الأفكار التي كانت تتشبث بها لا سيما عندما يتعلق الأمر بصديقاتها ..لقد عارضت زواج علياء من مهندس يعمل في الخليج بحجة أنه يكبرها بعشرين عاماً إلي أن أقنعتها بذلك فغادر الرجل مكسور الخاطر ..وقال لعلياء في التلفون بعد أن حطت طائرته في مطار الرياض عبر الهاتف .. أسمعي يا علياء أنت أهم فرصة ضائعة في حياتي بل أكبر هزيمة يمكن أن يمني بها شخص مثلي في الحياة وبالرغم من ذلك لا أملك سوي أن أتمني لك السعادة ..أما أنا فلا أتمني لامتثال السعادة ..بل أريدها معذبة وتائهة وضائعة مدي الحياة ..لكن أنظر لنفسك يا صديقي وأنت تناقض ذلك الموقف النبيل للباشمهندس خطيب علياء ..ومالي أنا وماله ..قد يكون صبوراً وقد تكون هنالك علياء أخري تعوضه عنها ..أما أنا ..فمن يعوضني امتثال ؟ ..أنت تستحق الرثاء فعلاً يا قصي ..لذلك عليك أن تغادر هذه الغرفة وتذهب للجامعة تنغمس في المحاضرات وتقابل أصدقائك تتجاذب معهم أطراف الحديث وتناقشون كما في السابق مشكلة الجنوب والمشكلة الفلسطينية وانتقال ذاك اللاعب من المريخ للهلال في ذروة موسم التسجيلات ..لن أذهب لأي مكان .. فلأجرب سماع شيء من الموسيقي علها تخفف عني وطأة هذا الاحساس القاتل بالعجز واللاشيئية والعدم ..هيا ..هيا ..هنا لندن ..هنا مونتي كارلو ..هنا صوت أمريكا ..بالله عليكم ماذا أفعل بكم وبأخباركم ونقاشاتكم السخيفة هذه ..( في عز الليل ...ساعة النسمه ترتاح علي هدب الدغش وتنوم ..أنا مساهر..هد الحيل غرامك ..) والصوت العذب يتحدر كشلال من الفرح ..كفي يا كابلي ويا تجاني ..هل أنتما جادان فعلاً في هذا الكلام ..أنتما مساهران وأنا ميت ..مدفون وفي قلبي بقايا نبض يبكي ..لمن هذا الصوت ؟ ..إنه لصديقنا شرحبيل ..( الليل الهادي بذكرني ..حبيبي الغائب من بدري ) ..من بدري ؟ وماذا تنتظر يا عزيزي الفاضل ..فتش عنه وألحق به في آخر الدنيا لو تقدر ( أوووو ..لالالللا..) ..لن تجديك نفعاً زفراتك وآهاتك هذه ..صدقني لن تجديك شيئاً ..فلو كانتا تجديان لشعرت أنا بشيء من الراحة ..لا أريد سماع المزيد ..إذن لماذا لا تجرب الكتابة ؟ ..أكتب شيئاً في شكل خواطر أو مذكرات أو أي شيء ..فالأوراق كضمادات الجراح ..لا تجلب لك الشفاء التام ولكنها تريحك نوعاً ما ..والله فكرة لا بأس بها ..فقط أين أجد القلم ..هذه هي الأوراق ..رقية ..رقية ..أين أنت ؟ ..أنا هنا أذاكر ..لماذا تناديني بصوتٍ عالٍ هكذا وكأننا في غابة ؟ ..عفواً يا شقيقتي الغالية ..تبدو كئيباً وعصبياً منذ يوم أمس وشكلك لا يطاق ..آسف ..احتمليني بعض الوقت حتي أتعافي من هذا الوضع المزري وأعطني قلمك لنصف ساعة فقط ..قلمي ؟ ..لا يمكن ..لإ.. ليس الآن ..أنا أقوم بحل بعض المسائل الشائكة ويتعين عليّ تسليم كراستي غداً صباحاً وأريد أن أنام ..أرجوك يا رقية..سلفيني قلمك عشرة دقائق فقط.. ولو كنت أضمن وجود بقالة فاتحة في هذا الوقت لذهبت واشتريت قلماً ..طيب ..اتفضل.. بسرعة .. أكتب بسرعه ..أمسكت بالقلم وكتبت ..بسم الله الرحمن الرحيم ..التاريخ : العاشرل من مايو 1970 ..الساعة الثانية عشرة منتصف الليل .. أحتاجك يا امتثال ..أحتاجك وبصورة لا توصف ..الليل ينتصف وأنا أتجزأ لنصفين ..نصف هنا ونصف معك هنالك في فنادق القاهرة وأنديتها .. بل كلي معك يا روحي وذكرياتي ونفسي ..أنا هنا مجرد بقايا ظلال لشخص كان يعيش في هذا العالم ..شبح يروح ويجيء مثل هيكل بشري يتهدم علي رصيف الحياة ..أنا هنا ..) ..قصي ..قصي ..أرجوك قلمي ..الآن وبسرعة ..فأمامي خمسة مسائل وأستاذة الرياضيات وحش كاسر لا يرحم ..رقية وقد قطعت عليّ حبل أفكاري ..حسناً ..تفضلي أنا ذاهب لأنام ...تصبحين علي خير ..وأنت من أهله ..

* * *

كيف أصبحت ..؟ ..الحمد لله ..والدتي وهي تضع أمامي ( صينية) الشاي و بعض ..( الفطائر) التي صنعتها خصيصاً لي ..ولا أدري إن كان المقصود هو رفع المعنويات أم أن لديها شيئاً تود البوح به .. أمي صامتة بشكل دائم ..دائماً تستمع وتتلقي الأوامر من المرحوم أبي ..لا تشتكي ولا تتذمر ..لعلها من جيلٍ لا يعرف التمزق وأوجاع الحب والهيام ولم يسمع بحقوق المرأة وحرية التعبير ..والله ماأسعدهم ..وربما كان الوضع غير ما نتصور ..لماذا لا أسألها ؟ ..فلأسري عن نفسي قليلاً ..أمي ..نعم يا قصي ..كيف تعرفت علي أبي ..أعني كيف تزوجتما ..أقصد كيف أحببته وكيف أحبك ؟ ..أظنني أول طالب جامعي في السودان يوجه سؤالاً كهذا لأمه ..ده كلام شنو ده يا قصي ..إنت حاصل ليك شنو ..؟! شايفاك ما علي بعضك اليومين ديل .. معقول تكوني لاقيتي والدي صدفه أم ماذا ؟ ..يمكن اتعرفتي عليه بالمراسله ..أرسلت زفرة عميقة ً ..عميقةً جداً وأراحت راسها علي الكرسي وتوقفت عن صب الشاي في الكوب ..كيف يعني بالمراسله ..؟ ..أبوك كان يأتي مع جدك للخرطوم ومنزل والدي هو المكان الذي يرتاحان به ..جدك كان يملك ثروة كبيرة من الماشية .. يأتي للسوق يبيع الأبقار والخراف والإبل وبثمنها يشتري الأقمشة من دكان والدي الذي كان من أكبر تجار القماش بالخرطوم رحمهما الله ومن ثمّ يعود للبلد .. وكنت وقتها أدرس في مدرسة الأحفاد الأولية للبنات .. رآني فأعجب بي علي ما أظن أو لعل الكبار أرادا لصداقتهما وتجارتهما أن تتوطد أكثر عبر المصاهرة ..وهل حدث ذلك بسرعة ؟! ..أقصد في أسبوع ..أسبوع واحد ..لا بالطبع فقد التحق أبوك بالمعهد العلمي بأمدرمان إلي أن أنهي دراسته بالمعهد .. وأصبح جزءً من عائلتنا بالرغم من أن دائرة تحركاته داخل الحوش الكبير مقصورة فقط علي الديوان ..وكنت أحياناً أحمل له طعام الغداء بنفسي عندما يكون أخوالك خارج المنزل ..؟ معني ذلك أنك تعلمت بالمدرسة يا أمي ..طبعاً وأعرف القراءة والكتابة ..وكانت تحملني للمدرسة عربه ملاكي من ماركة ( الشيفورليه) ..يملكها والدي من بين عشرة أو خمسة عشرة تاجراً لديهم عربات ملاكي ..يااه ..كنت يعني فتاة ( مدلعه ) في حياة جدي ..والآن ها نحن محشورين في غرفة واحده ..لا يا بني ..كنت أكثر من (مدلعه) فقد كان جدك يصطحبنا في الإجازة معه لبيروت والقاهرة ودمشق لعقد صفقات القماش مع أصدقائه في الشام ..بيروت ودمشق ..وال ... والقاهره ..؟! ..القاهرة لا يا أمي ..وكنا نمشي أسكندريه ونصيف هناك ..اسكندريه لا ؟ ..الشواطيء و( البلاجات ) .. ( بلاجات .. لا يا امتثال ..أرجوك يا أمتثال ..بلاجات لا ..) ..بتقول في شنو يا قصي ؟ ..لا شيء يا أمي ..لا شيء ..ربما سأسمع بقية القصة في فرصة قادمه ..قلت ذلك وأنا أتوجه نحو الغرفة وأغلق الباب من خلفي ..دفنت وجهي في الوسادة ورحت أنشج كالأطفال ..بكيت طويلاً ..ورميت بعصبية كل شيء كان علي طاولة المذاكرة فتناثرت الكتب يمنة وشمالاً ..دواوين شعر وروايات ودراسات في الأدب الإنجليزي والتاريخ ..هرطقات وأكاذيب لعشاق عاشوا قصص الحب في الخيال فقط علي ما أظن وعادو ليضحكوا علي بلاهتنا وغبائنا ..لعل التاريخ يذكرني كأغبي وأتعس إنسان في الوجود منذ حواء وآدم .

ربيحة الرفاعي
10-07-2010, 11:44 PM
لحرفك نكهة خاصة بجمالية المساحات التي يفتحها مسرحا لحبكة تمسك بزمام القاريء ابتداءا من الخطوة الأولى في سراديبها ...
وفي هذه الاستدعاءات لمشاهد من الماضي، تلقي بإضاءات توضيحية على اللقطات الحدثية، جمالية أخاذة تعمق من غوص القاريء في سردية يخاف أن تفلت منه خيوطها إن فاتته مفردة أو حرف ...

ممتعة هي القراءة في مساحات من واسع الخيال حين يكون المقروء حرفا بهذا الجمال

أتمنى عليك فقط إيلاء هذا النص البديع بعض مراجعة لما تخلفه سرعة الأنامل على لوحة المفاتيح من سقطات إملائية تنعكس أحيانا على الضبط النحوي للنص

بانتظار الحلقة التالية تستبقينا مرتقبين

دمت بألق

عبدالغني خلف الله
11-07-2010, 11:30 AM
الإبنة الغالية ربيحة ..أسعد الله أوقاتك بكل خير ..
بشفافيتك المفرطة تذهبين مباشرةإلي حيث مخابيء بعض عيوبي التي لا أنفيها .. فأنا واستغفر الله من أنا هذه .. أكتب مباشرة علي الكي بورد كل رواياتي ..ثانياً لا أقدم نصوصي للمراجعة بواسطة جهة متخصصة ..وأخيراً لا أطلب من مبدعين كبارالتقديم لأعمالي ..وها أنا أتعلم كل صباح منذ التحاقي بهذا المنتدي الرحب كيف تسير الأمورعلي الوجه الصحيح ..سلمت لنا من كل سوء .

عبدالغني خلف الله
11-07-2010, 11:33 AM
الحلقة الرابعة
عدت للجامعة أجرجر اذيال الخيبة والندم وقد ضاع مني تؤام روحي ورفيقة صباي البكر ( امتثال ) سافرت لقضاء شهر العسل ..كنا نطمع فقط في أن نسافر معاً إلي أي مكان دون وجهة محدده ..قالت لي ذات مرة وكنا لوحدنا بالكافتيريا ..اشواقنا هذه يا قصي لا يطفؤها إلا سفر طويل ..بالطائرة ؟ .. سألتها في بلاهة لا تصدق ..أنت لم تفهم قصدي ..دائماً لا تفهمني وكأنك بلا قلب ولا احساس .. قلت لك أشتهي السفر معك إلي مكان بعيد دونما زاد .. دونما اتجاه ..فليكن بعربة تشق بنا الوهاد والوديان وفي ثنايا الغابات الاستوائية لا يرانا أحد وعلي ظهر قارب صغير تتلاعب به الأمواج ..بيد أنها حققت أمنيتها في السفر ولكن مع شخص غيري هو الدكتور جلال ..قابلني الزملاء بفرح عارم لا سيما علياء وكأنني خرجت من المستشفي بعد إجراء عملية جراحية ناجحة ..حمداً لله علي السلامه ..الله يسلمك ..لكنني كنت مشتت الخاطر وبالكاد أفهم أو حتي أتابع ما أسمع من محاضرات ..مر اليوم الأول وكل ركن وزاوية ونبتة بالجامعة تعيدني إليها ..وبعد حوالي عشرة أيام وأنا أدلف إلي المدرج لمحت فتاة تضع علي وجهها إزاراً خفيفاً لا يظهر سوي عينيها ..وعاصفة من العطر تسبقها نحونا ..تجمدت وتجمد معي بقية الزملاء عاصم وطارق وعلياء لنكتشف أن القادم ليس سوي ( امتثال ) ..غادرت المكان بسرعة البرق وعبارات ( مبروك يا عروسه ..كيفك ..فقدناك ..اشتقنا ليك ) تركض خلفي ..اتخذت مكاني المعتاد بالمدرج استعداداً للمحاضرة التي سيلقيها علي مسامعنا دكتور يوسف زميل الدكتور جلال في شعبة اللغة الانجليزية ..وكانت حول النصوص المترجمة للانجليزية ل( رباعيات عمر الخيام )..التقت نظراتنا لثوانٍ ولم استطع مواصلة التطلع في عينيها ..كانت متألقة بصورة لا تصدق ..أشحت بوجهي عنها ورجعت إلي الوراء درجاً ثم الدرج الثاني ..تراجعت هي أيضاً في محاولة منها لتقريب المسافة بيننا ..قمت من مكاني وجلست في آخر مقعد أعلي المدرج ..فهمت هي قصدي فجلست في منتصف القاعة صحبة علياء ..دخل المحاضر وكان الدكتور جلال وليس زميله الدكتور يوسف ..وقام بتغيير الموضوع من رباعيات عمر الخيام إلي (قيصروكليوباترا ) للكاتب البريطاني برنارد شو ..ومع بداية المحاضرة شعرت بألم شديد أسفل عنقي من الخلف ..وكلما تمر دقيقة أو دقيقتان يزداد الألم سوءاً وكأن شخصاً ما يغرز سكيناً في نفس المكان ..قرأت مرة أن الألم خلف الرقبة هو.. ألم معنوي وليس حسي ..لا بد إنه كذلك ..وقبيل الانتهاء من المحاضرة طلب مني الدكتور جلال بأن أقف وأقوم بتلخيص المحاضرة ..وكنت قد سبق لي ولحسن الحظ قراءة الرواية بالمركز الثقافي البريطاني ..لخصت كل جوانبها وقمت بتحليل شخصياتها ..دهش الطلاب من إلمامي بالنص وتداعياته فضجت القاعة بالتصفيق كأنها تؤازرني في مواجهته ..أما هو فقد بدا عليه الضيق والعبوس فغادر القاعة مسرعاً .. انتظرت لحين تأكدي من أن ( امتثال ) قد غادرت القاعة فأقبلت نحوي علياء وجلست بقربي ..سألتها إن كانت تحمل معها ( باندول ) في حقيبتها ..اشعر بألم فظيع في ظهري ..فهرعت نحو المبرد وأحضرت لي كوباً من الماء وأخرجت من حقيبتها قرصاً واحداً فطلبت منها أن تخرج قرصاً آخر ..ولكن هذا كثير يا قصي ..رقبتي توجعني ..والآن ألن تذهب معنا لتناول وجبة الفطور بالكافتيريا ..لا يا علياء ..أريد أن أكون لوحدي ..ممكن ..أحتاج لأن أبقي وحدي حتي موعد المحاضرة الثانية ..كما تشاء ..عموماً سأحضر لك معي ساندوتش ..لا أرجوك ..لا داعي للتعب ..لا أشعر بالرغبة في الأكل الآن ..استدارت لتغادر بيد أنها أقفلت راجعة وكأنها تذكرت شيئاً مهماً ..بالمناسبة يا قصي ..امتثال تضايقت جداً من تصرفاتك أمام المدرج ..وكانت طوال المحاضرة تسألني عن أحوالك ..أنا بخير .. قولي لها بأنني سأكون بخير ولا تقلقي بشأني .

* * *
أحاول جاهداً إعادة ترتيب حياتي وأولوياتي بما في ذلك ترتيب الغرفة التي تضمنا أنا والوالدة وشقيقتي رقيه ..لم يقصر خالي لدي عودتنا من البلد وعرض علي أمي أن تسكن في الشق الشرقي من الحوش وبه غرفتان وحمام ومطبخ ولكن والدتي آثرت أن تعيش في غرفة المرحومة جدتي ..قالت هنا أشعر براحة أكثر وأشم رائحة أمي في كل جزء من الغرفة ..هذا التفكير العاطفي هو الذي أضاع علينا الكثير من الحقوق ..كيف ندع المكان الأكثر راحة لنا من أجل حفنة من الذكريات لنعيش في هذا الحيز الذي لا يسمح لك حتي بالتحرك ناهيك عن وضع منضدة للمذاكرة والإطلاع ..لكنني أحترمت قرارها ..فلو أننا فكرنا في كل شيء من زاوية الربح والخسارة وبحسابات دقيقة لتحولت الأسرة إلي ما يشبه المنشأة أو المصلحة الحكومية .. وحتي هذه المواقع وبالرغم من رسمياتها المشددة فهي لا تخلو من العواطف والمشاعر .. إذن فلندع القسم الشرقي من الحوش لعفش خالي ماجد ..سافر لأمريكا للدراسة منذ عشرة أعوام وتزوج من سيدة مسلمة من الفلبين ..وهو بالكاد يتذكر أن له أسرة وأهل في السودان باستثناء أيام الأعياد ..يتصل ليقول العيد مبارك عليكم والعفش كيف ؟ ..العفش ؟ هل تسمي هذه ( الكراكيب )المتهالكة عفشاً يا خال ؟ اطمئن فقد عاثت فيها ( الأرضة ) فساداً واتخذتها الفئران غرفاً لصغارها ..ما تسأل عايشين كيف ..؟ أو حيصلكم فلان من نيويورك أو نيوجرسي لا فرق ويسلمكم مبلغ كذا دولار ..يااااخال ..يلا ..وأنت ما دخلك بالدولارات وكل شيء ميسر والحمد لله ..إذ بعد انتقالنا للعيش هنا بعدة أعوام ناضلت أمي بقوة لألحاقي بإحدي المدارس الأولية وشقيقتي بروضة الأطفال وقد كلفها ذلك الكثير من الجهد والمال واستنزف معظم ما حملناه معنا من ريع أملاك المرحوم أبي ..هل تعمل وأين ستعمل وكل رصيدها من التعليم الفصل الثاني بالمدرسة قبيل خطبتها وزواجها من أبي ..حتي أن فكرة العمل ووجهت بمعارضة شديدة من خالي وقام هو بالإنابة عنها بدفع أغلب الرسوم من حر ماله بما في ذلك الملابس والحقائب المدرسية والكتب والكراسات ..لكن حدث شيئاً لم نكن نتوقعه .. فقد طرق باب منزلنا ذات مساء شخص عّرف نفسه بأن اسمه هاشم وأنه مندوب لمنظمة خيرية تُعني بالأرامل والأيتام ..وأن المنظمة ومذ ذلك اليوم ستتكفل بمعيشتنا وتعليمي أنا وشقيقتي رقية ..انعقدت ألسنتنا من شدة الدهشة وأصابنا نوع من الذهول والارتباك هو خليط من الفرحة والاستغراب ..ثم وقبل أن يغادر سلم والدتي مظروفاً به مبلغاً محترماً من المال وطلب منا أن يكون الأمر سراً بيننا وبينه لأن مدير المنظمة يحب العمل الخيري في صمت وهدوء ..رجاءاً لا تخبروا أحداً حتي أقرب الناس إليكم بهذا الأمر وسأزوركم أول كل شهر إن شاء الله ..لم ننم ليلتها وقد أرسل الله لنا هذا الرجل بعد معاناة مع الحياة في الخرطوم ومتطلباتها الكثيرة بعكس الحياة في الريف ..والتي لا تتطلب الكثير.. بحيث يمكنك شطب أكثر من فاتورة واجبة الدفع في الخرطوم ..الغاز ..المواصلات ..الكهرباء ..الرسوم الجامعية ..وما إلي ذلك ..هل كانت ليلة القدر ..أم ماذا ؟!وفي ثاني يوم لالتحاقي بالمدرسة الأولية المكونة من قسم للأولاد وآخر للبنات يفصل بينهما حائط علي امتداد المدرسة من الشمال للجنوب تعرفت علي ( امتثال ) داخل الحافلة التي تقلنا من وإلي المدرسة وكانت هي الأخري في الصف الأول ..توطدت العلاقة بيننا لا سيما ونحن جيران ..وسمحت لها أسرتها بالمذاكرة في منزلنا أيام الامتحانات وأحياناً أنتقل أنا إلي منزلهم الفخم بعكس غرفتنا المتواضعة ..كانت أكثر مني ذكاءاً واستعداداً للفهم والاستيعاب لذلك أجد نفسي محتاجاً لها في شروحات معظم المواد .. وقد أراحتني امتثال من عبء إعداد وجبة الفطور أو تدبير ثمنها ..فقد أقنعت والدتها بأن لديها زميلة مسكينة لا تملك ( حق الفطور ) ..وبتُ أقابلها في ( الفسحة ) عند السور الفاصل بين المدرستين ..كانت أطول مني لدرجة اضطرتني لأن أضع عدداً من الطوب الأحمر فوق بعضه البعض مشكلاً بذلك منصة تجعلني في مساواة وجهها الصبوح وعينيها اللتين تشعان ذكاءاً وروعة ..تسلمني الساندوتش وتعزمني علي أخذ قضمة من الساندوتش الخاص بها ..وقضمة من هنا وقضمة من هناك ..ثم الثرثرة في شتي المواضيع والتهكم علي المعلمين والمعلمات وأحياناً صنع (المقالب ) لهم فيمر الوقت بسرعة ليأخذنا صوت ( الجرس ) بعيداً عن بعضنا البعض ..لكننا نعود بعد انتهاء اليوم الدراسي في نفس الحافلة وقد اتسخت ملابسنا من كثرة الركض واللعب في فناء المدرسة ..في البداية كانت تجلس مع زميلاتها في مؤخرة الحافلة ومع مرور الوقت صارت تجلس إلي قربي تؤانسني ونتبادل القصص والحكايات وأحياناً مجلات الأطفال التي لا تتوفر لي .. وظللنا علي هذا المنوال علي مدي تسعة أعوام وظن الكثير من الأساتذة والمعلمات والزملاء بأننا شقيقين .. وافترقنا فترة الثانوي العالي لأذهب أنا للدراسة في الداخلية بإحدي مدارس واد مدني بالجزيرة وواصلت هي تعليمها الثانوي بإحدي مدارس أم درمان ..كنت اشتاقها وأفتقدها أثناء العام وقد أضحت كالماء والهواء بالنسبة لي لنعود فنلتقي في الإجازات ..نذاكر معاً ونذهب إلي السوق معاً لشراء حاجيات والدتها التي كانت تثق بي ثقة عظيمة وتعتبرني كواحد من أفراد أسرتها وكانت تحب والدتي أيضا ونشأت بينهما مع الأيام صداقة شهدت بها جميع نسوة الحي ..كانتا تتقاسمان كل شيء ..وكنت أسعد عندما تطلب مني أمي في مرات قليلة توصيل شيء من الطعام والحلوي لمنزلها إذ باتت هذه وظيفة شقيقتي الصغري رقية وليست وظيفتي كشاب بدأ شاربه في الظهور ..استمرت علاقتنا تتعمق وتتوثق بدون أن نمنحها عنواناً محدداً ..هل هي علاقة حب ..؟ هل هي علاقة جيرة وصداقة وأخوة ؟ أم ماذا ؟ ..حقيقة لم نكن متأكدين من كنه تلك الصلة ..لكن ما ندركه تمام الإدراك أن مرور يوم واحد دون أن نري فيه بعضنا البعض يعتبر بنظرنا يوما لا يحسب لنا ..وأظل أنا وتظل هي مشوشة ومتضجرة ومتوترة عندما نغيب عن بعضنا البعض بعد انتهاء العطلة الصيفية ..فأين ذهب كل هذا يا تري ؟ ..هل يغير أسبوع واحد مجري غرام دافيءٍ كالشمس ويحولها عن مدارها ..يبدو أن هذا ما يحدث فعلاً وإلا ..إلا ماذا يا قصي؟ ..دعنا من ذلك

عبدالغني خلف الله
12-07-2010, 07:28 AM
الحلقة الخامسة
لم أعد أحتمل رؤية ( امتثال ) كل يوم وهي تترجل من عربة زوجها الدكتور جلال وتواجدنا داخل قاعة واحدة توحدنا الجغرافيا ويباعد بينناإحساس عارم بالإذلال .. أن يخونك شخص ما التقيته صدفة ..هذا شيء طبيعي ..أما أن يخونك شخص حفظته وساهمت في تشكيل شخصيته ووضعته في قائمة احتياجاتك الروحية والمادية مباشرة بعد الماء وقبل الهواء الذي تتنفسه ..فهذا شيء لا يحتمل ..لذلك تقدمت بطلب كتابة لعميد الكلية لتحويلي إلي المجموعة ( ب ) التي يقوم بتدريسها الدكتور يوسف بدلاً عن مجموعة الدكتور جلال متعللاً باكتظاظ القاعة وعدم قدرتي علي فهم ( الأكسنت ) أو الطريقة التي ينطق بها الدكتور جلال فوافق علي طلبي .. وفي ثاني يوم لاحظ أصدقائي عصام وطارق وزميلتنا علياء غيابي فاعتقدوا بأنني مريض أو شيء من هذا القبيل ..لكنهم تفاجأوا بي وأنا أغادر في الجهة المقابلة مع طلاب المجموعة ( ب ) ..شخص واحد لم يلحظ ذلك ولعل عشرات الأسئلة دارت بخلده عندما لاحظ غيابي في مكاني المفضل بالدرج الأخير ..إنها الرائعة المؤلمة ( امتثال ) .. سلمنا علي بعضنا البعض وسألوني عن سر وجودي مع المجموعة ( ب ) ..فشرحت لهم تفاصيل مقابلتي مع العميد وما حصل بعد ذلك ..لم تضيع علياء وقتاً فانحنت علي مقدمة إحدي العربات في باحة الكلية وأخرجت قلماَ وورقة سطرت عليها طلباً مماثلاً وتوجهت مباشرة نحو مكتب العميد لأجدها في ثاني يوم تجلس بقربي في قاعة المجموعة ( ب ) ..وتبعها في ثالث يوم طارق وعصام .. وعندما اكتشفت ( امتثال ) هروبنا من مجموعة الدكتور جلال واستحالة أن تفعل الشيء ذاته جُن جنونها وأصابها نوع غريب من الإحباط وبكت فوق كتف علياء آخر النهار مثل طفلٍ صغير وقالت لها ..ماذا فعلت لتتخلوا عني بهذه البساطة ..هل كفرت بالله وبسيدنا محمد ؟ ..لقد تزوجت علي سنة الله ورسوله ..والزواج قسمة ونصيب فلماذا تعاقبونني بهذه الطريقة ..قالت علياء ذلك وزادت بأنها تتمني لو تموت لتريحنا وترتاح ..وكان أول شيء فعلته بين المحاضرتين الأولي والثانية أن توجهت نحو مقعدها وقد بكرت هي في الدخول قبل الجميع ..كانت منكبة علي بعض الأوراق .. ولم تشعر باقترابي منها ..صباح الخير ..صباح ..صباح النور ..سلمت عليها بمحبة وصدق وبادلتني نفس الشعور ..كيفك ( امتثال ؟ ) ..آمل أن تكوني سعيدة مع الدكتور جلال ..وأنا ..وأنا ..أنت ماذا ؟ هكذا سألتني عيناها ..وأنا لست عاتب عليك بعد ..صدقيني يا امتثال أنت الآن أغلي عندي من أي وقت مضي تماماً كرقية أختي ..وإذا أساء الدكتور جلال معاملتك أو اضهدك لأي سبب في يوم من الأيام ..فقط كلمينا لنحضر أنا وبقية الشلة لنغتاله أو علي الأقل نعلمه كيف يتعلم أن يصون جوهرة غالية مثلك ..وكنت أعني كل كلمة أقولها ..نهضت من مكانها وقالت لي بحرارة ..أشكرك من كل قلبي يا قصي أشكرك جداً علي تفهمك لموقفي .. وفي الواقع ..وفي الواقع ..ثم لحظة صمت ودمعتان غاليتان انحدرتا علي وجنتيها الساحرتين ..كان الموقف فوق احتمالي وخفت أن يدخل أحد الزملاء فجأة فيسيء الظن بنا . .تركتها تكفكف دموعا ..وأنا أهمهم ..نشوفك ..اتفقنا ؟ ..اتفقنا..قالتها وهي تؤمي برأسها ونصف ابتسامة ارتسمت فوق شفتيها الورديتين .

* * *

لا تزال علاقتنا مع أعمامي في البلد قائمة بالرغم من الأحداث المروعة التي وقعت هنالك وسقوط عدد من أبناء عمومتي بين قتيل وجريح ..فقد كانوا بالرغم من كل ذلك الواقع المرير يرسلون لنا نصيب والدنا كل من التركة التي تليه ..بعض الأغنام والبلح والفول المصري والقمح ..لذلك عندما حضر عمي بشارة لمنزلنا اعتقدت أن زيارته تجيء في هذا الإطار ..بيد أنه فاجأ الجميع عندما شرح لأمي الغرض من زيارته ..إنه يطلب شقيقتي رقية لابنه المعتصم بالله وكان قد حضر معه في آخر زيارة لنا .. قالت له المعتصم علي العين والرأس وهو منا وإلينا ولكن رقية صغيرة علي الزواج وأمامها مشوار طويل في التعليم .. متي ستكمل الثانوي العالي وهي في السنةالأولي .. ومتي تلتحق بالجامعة وتتخرج ..والمعتصم ما شاء الله ولد ليهو قيمه وتاجر مواشي كبير ..خلينا ننتظر شويه يا عمده ..وأنت يا كبير العائلة ..ما رايك ؟ ..وكان يوجه الحديث لي ..والله يا عم أنا أتشرف بالمعتصم بالله زوج لشقيقتي ..فهو شاب خلوق ومهذب وهو في النهاية إبن عمي ..أري أن نسأل رقية عن رايها فهي صاحبة الشأن ..ثم .. كيف نقيم عرساً وأبناء عمومتي من الجانبين ينتظرون تنفيذ أحكاماً بالإعدام ..ألا تري يا عنمي أن الوقت غير مناسب للأعراس ..صحيح نسيت أن أخبركم ..لقد توسط الشيخ ( الضهبان ) بارك الله فيهو بيننا وأبرم صلحاً برعاية حاكم الأقليم يتولي بموجبه شقيقي العمده ( خضير) العمودية وأمثّل أنا أهل الدائرة في الانتخابات القادمة وقد بارك الرئيس جعفر النميري ذلك الصلح وأصدر عفواً شاملاً عن المحكومين ..لقد أقمنا احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة ..يا الله كيف فات علينا دعوتكم ..أصابني نوع من الأحباط من القضية برمتها خطوبة شقيقتي واحتمال أن توافق وتقطع تعليمها ..لماذا ؟ ..ألم توافق ( امتثال ) بالزواج من الدكتور جلال خلال أيام ..لكن ما أحبطني حقيقة تجاهل أعمامي لنا .. نحن من نحن .. والله آسف وتمسحوها لينا في وجوهنا وليكم عليّ نعزمكم ونحتفل معاكم أسبوع كامل ..اسبوع ؟ ..ما قصة هذا ( الأسبوع ) معك يا قصي ..تتزوج امتثال خلال اسبوع ويحتفل بكم أعمامك لمدة أسبوع ..ها قد عادت رقية من المذاكرة ..أهلاً عمي بشاره ..كيفك .. إن شاء ناس البلد بخير ..بخير يا عروستنا ..أقصد يا بنيتي .. رقية قبل ما تقعدي دايرك في كلمتين .. أخذتها خارج الغرفة وحملت لها السبب من زيارة عمي ..هل تمزح يا قصي ..أم أن هذه نكته سخيفه ..عشان كدااا .. يا عروستنا ويا بتنا ..لا بالله .. معقول أتزوج وأنا في أولي عالي وأترك مستقبلي ودراستي ..؟ ..المهم رأيك شنو ..أرفض رفضاً باتاً بالرغم من احترامي وتقديري لابن عمي المعتصم فهو ( زول جنتلمان ) ..يعني هذا رأيك الأخير ..طبعاً يا قصي ..تركتها وهي تردد يا الله ..دي مفاجآت شنو دي ؟ .. قلت لعمي بطريقة الكبار ..والله يا عمي كان لينا عظيم الشرف لكن القسمه ما ساقت ..رقية ترغب بالدراسة .. لم تتفوه أمي بكلمة واحدة وتحولت إلي قطعة حجر لا تري ولا تسمع بعد أن جاء عمي علي ذكر الشيخ (الضهبان ) ..هل يكون هو أبو قصي ؟ ..استغفر الله العظيم

هذا موسم الأحلام المؤجلة بل والميتة ..ما الذي بيديك لتؤجله وقد انتهي كل شيء ..انتهي الدرس يا غبي ..اين سمعت هذا الكلام ..في الإذاعة ؟ ..ربما .. أم في التلفاز والصحف اليومية ..هل أنا غبي فعلاً.. اذهب كل يوم إلي الجامعة وأتظاهر أمام زملائي لا سيما امتثال بأن كل شيء عال العال ..أضحك بكل العنفوان لأوهم الجميع بأنني بخير وفي الواقع كنت إنما أضحك علي نفسي وعلي حالي ..وعلي أية حال لن أذهب إلي الجامعة اليوم .. سأتسكع في مكان ما ..مكان يمكنني أن أرهن فيه أحزاني ..توجهت صوب محطة السكة حديد إنه أفضل مكان لذرف دموع الوداع ..وباحة لتلويحة متعبة بمنديل ..يطير بلا جناحين في فضاء المحطة ليعود بعد أن تطلق القاطرة صافرتها الحزينة ليكفكف دمعة ما تسربت من بين زوايا العيون ..باااي ..مع السلامه ..ما تنسي تتصل ..الجوابات ..نعم ..؟! ..قلت ليك الجوابات ..ما تنسي تكتب لي بعد ما تصل ..بيد أن كلماتها ارتطمت بجدار طقطقات عجلات القاطره ..وفي لمحة واحدة ..تباعدت عيون وأحضان ولم تبق سوي الذكريات ..لمحتها وهي تنتحب بشدة والزفرات ترجها رجاً الجوابات ؟! ..مع من تود التواصل هذه الأنيقة الصغيرة .زيا الله ..يا لنعموتها وإشراقها ....علي مهلك يا صغيرتي علي مهلك يا ..مي ..اسمي مي ..هل تعرفني ؟ ..أم حدث والتقينا من قبل ..لا ..أنا لا أعرفك ..لكن دموعك من بين جميع المودعين شدتني إليك ..هل أنت عاشقة ..أم ..آسف إذا سألت يعني ..لا ليس كما تتوقع ..إنه شقيقي الأكبر والوحيد يسافر إلي كوستي ومنها بالباخرة للجنوب ..هل هو جندي في الجيش ؟..لا في البوليس ..أخشي أّلا أراه ثانية ..لقد تخرج حديثاً من كلية البوليس ونقلوه إلي ملكال ..ملكال مدينة عظيمة وكبيره ..مثل الأبيض وكسلا والقضارف فلا داعي للخوف ..أمي لم تتمكن من الحضور لوداعه لأنها مريضة ولكنها كانت تبكي طول الليل ..ووالدك ..أين والدك ؟ ..والدي توفي منذ عام ..كان يتلهف لرؤية شقيقي (سراج ) وهو يرتدي البزة العسكرية ..لكن سائق شاحنة متهورة دهسه وهو يهم بالدخول إلي مكتبه ..كان يعمل في حقل المحاماه ..ولكن لماذا اتكلم معك بهذه الصراحة ..من أنت ؟ ..حتي أنني لا أعرف اسمك ..أنا قصي وأدرس في الجامعة كلية الآداب ..ويتيم أيضاُ ..نحن إذن يتيمان في المدينة ..وأخيراً عادت الإبتسامة إلي فمك الرقيق يا مي ..تعرف يا قصي ..ما جعلني أطمئن إليك ذلك الشبه الرهيب بينك وبين سراج ..علي الأقل في الشكل بيد أنه عصبي ومشاكس وقوي الشكيمة وهذا ما يجعلني أخاف عليه .. سراج إنسان حبيب إلي قلبي ولا نريد أنا ووالدتي أن نفقده في حرب الجنوب .. ليت السلام يعم البلد ليعود لنا سراج سالماً ..أتمني ذلك ..ولكن قل لي ..من كنت تودع ..لا أحد ..جئت لأرهن أحزاني هنا حيث الدموع والمناديل ولحظات الفراق الصعبة ..وأظنني وجدت الشخص المناسب لأودعه أحزاني ..ولماذا أنت حزين ؟ ..تزوجت حبيبتي وزميلتي من شخص آخر ..ما هذا الهراء يا .... قصي .. يا قصي ..تعرف ؟ ..اسمك صعب جداً ..أنت في مقتبل العمر وأمامك الكثير من الفرص ..زواج حبيبتك لا يعني نهاية العالم ..أها ..هنا فيلسوفة أخري تماماً مثل شقيقتي رقيه ..اختك اسمها رقيه ..نعم ..اسم حبوبات لكنه حلو وهو في البداية والنهاية اسم إحدي كريمات الرسول صلي الله عليه وسلم ..يا سلام عليك يا مي ..مذاكره كويس ..جبت 75% ورفضت التقديم السنه الفاتت وسأعود لأجلس ثانية لأدخل الطب ..موفقه يا مي ..طيب ..عندك مانع نمشي لأي مكان نتعرف فيهو علي بعض أكثر ..زي وين يعني ؟ ..جنينة الحيوانات مثلاً ..والله فكره هائله ..علي الأقل نخفف الضغوط الواقعه علينا ..واقعه علينا بس ؟ ..قولي عامله فينا عمايل ..وضحكنا بعفوية لا تصدق ..أخيراً ضحكنا بصدق وليس إدعاءاً .

* **

ربيحة الرفاعي
12-07-2010, 10:52 PM
متابعون أيها الكريم
فلا تتأخر علينا بالتالي من الأجزاء

دمت متألقا

عبدالغني خلف الله
13-07-2010, 08:04 AM
سعيد يا ابنتي ربيحة بهذه الحفاوة التي هي شيمة كل عربي..تحياتي لك .

عبدالغني خلف الله
13-07-2010, 08:09 AM
الحلقة السادسة
طلبت من امتثال أن نخرج في نزهة لدقائق خارج أسوار الجامعة ..قلت لها أود لو نتحدث قليلاً ..اشعر بأنني سأختنق ..بعدك عني هذا يقتلني ..قالت لي موافقه ..فقط أنتظرني حتي أنهي بعض الفروض ..أي فروض ؟ ..سألتها بانزعاج واضح ..بحث حول قصة ( روميو وجوليت ) طلبه مني الدكتور ..قصدك الدكتور جلال ..؟ ..بالضبط ..ولكن ما دخل( روميو وجوليت) بمقرر السنة الثانية ..هذا جزء من مقرر السنة الثالثة ..لا أعرف ..عموماً لا بأس ..فلنخرج ..توجهنا نحو الشاطيء ..وجلسنا لساعة كاملة وربما أكثر ..أفصحت لها عما يجيش بخاطري ..حدثتها عن طيفها الذي ما أنفك يزورني في أحلامي ومن ثمّ يؤرقني حتي الفجر ..قلت لها كلاماً كثيراً أضحكها معظم الوقت وأحياناً أبكاها ..قتلتني نهنهاتها واضطرابها ..قدمت لها منديلاً لتكفكف دموعها وتمنيت لو كنت أنا ذلك المنديل ..والآن قصي ..قصي ..هل تسمعني أنت هناك ؟ نعم ..نعم ..كيف نعرب هذه الجملة ( معللتي بالوصل والموت دونه ) ..نعم دكتور ..معللتي ..معللتي ..لعلك كنت شارداً أثناء المحاضرة صحيح ..إنه علي حق..كانت أحلام يقظة لا أخالها تتحقق .. إجابتي جاءت خاطئة تماماً سرت علي إثرها همهمة وعبارات تندر وسخرية من الزملاء والزميلات ..علياء التقطت القفاز وأجابت نياية عني ..وما بين المحاضرتين قالت لي ..ما بك قصي ؟ ..كيف تشرد بهذا الشكل وأنت في المحاضرة ..لا ..لا ..قلت لها ..إنما كنت أعاني من صداع بسيط بسبب الأرق ..لم أنم جيداً ليلة البارحة ..أنت تفكر بامتثال ..صاح ..؟ لا علياء ولم أفكر بها ؟..امتثال خرجت من حياتي ومن تفكيري ..لا يبدو ذلك يا قصي ..علي العموم أنا جوعانه هل ترافقني للكافتيريا ؟ ..بالطبع أفعل ..يبدو أن لدينا ضيوف ..نسرين ..طالبه بالسنة الأولي اقتصاد ..عصام وهو يقدمها لنا ..سلافه ..طالبة بالسنة الثالثة حقوق ..طارق وهو يحذو حذو عصام ..أهلاً بيكم ..اتشرفنا ..علياء زميله في ثانية آداب ..الآن حان دوري أنا لأقدم قصي ..قصي يا شباب زميلنا في ثانية آداب ..اتشرفنا ..وأنا لن تفوتني هذه الرفقة الرائعة ..امتثال وهي تفرد يدها تسلم علسي طارق ثم عصام ونسرين وسلافة وأخيراً توقفت لدي وهي تتمتم ..حقو الزول ما يسلم عليك يا قصي ..اتفضلوا يا جماعه واقفين ليه ..علياء وكأنها بصدد ترأس الإجتماع ..ايه المفاجأة دي يا امتثال ..؟ ..طارق وهو يسأل ربما بالإنابة عني ..ليك مده ما فطرت معانا ..أهو جيت وتقدرو تعتبروني عازماكم علي شرف الآنستين ..منو ..؟ ..نسرين وسلافة .. طارق يعرفها علي الزميلات الجدد .. ومضي الوقت سريعاً دون أن نشعر به وكانت سلافة تطوف بنا حول العالم وتحكي لنا مشاهداتها وذكريات طفولتها في جنيفا وباريس وأكرا ..أنا شخصياً لم أغادر السودان ولا مرة واحدة ولا أعرف شكل الطائرة من الداخل ..وطبعاً البقية هي الأخري خارج إطار العالم الجديد .. نسرين من الجزيرة وطارق من الشرق ( أدروب يعني ) ..إيتنانينا يا طارق ..نسرين وهي تبدأ مشوارها مع طارق ..شنو يعني ( إيتنينا ) ؟! ..معناها السلام عليكم ..حلوه مش ؟! ..سلافه تعلق علي المفردة الهدندويه ..بالمناسبه أنا عشت في كسلا حوالي شهر ..والمناسبه شنو ..لا أبداّ مشيت قعدت مع شقيقتي محاسن وهي تضع مولودها الأول ..لكن المسائل دي مهمةالأمهمات ..أمي متوفيه ..رحمها الله ..هتفنا بصوت واحد ..أنا آسفه يا سلافه نسرين الرائعة وقد أرخت لدموعها العنان .. وعصام القادم من كردفان يسفح كل حنان الربي والوديان السمراء أمام عينيها ويطوقها بإحساس لافت ..خلاص يا نسرين ..خلاص ..في الأول ما تسالني ليه أنا ببكي ..لأني برضو فقدت الوالده الله يرحمها ..رحمها الله هتفنا مرة أخري وبصوت لافت ..دي جامعه ولاّ دار أيتام ..طارق أدروب وهو يضفي علينا شيئاً من المرح ..في البداية ضحكت امتثال يصوت عالٍ لكنها وضعت يدها علي فمها وهي تحرك عينيها يمنة ويسرة ليطلق الجميع لأنفسهم العنان فضحكنا كلنا ..في البداية كانت الضحكات الحبيسة تأني فرادي لتنتظم الجميع الشيء الذي أثار انتباه كل الحاضرين بالكافتيريا .. ..لكن شخصاً ما أراد لتلك الدقائق المترعة بالروعة أن تنتهي إلي لحظة صمت وألم ..فقد ظهر الدكتور جلال في مدخل الكافتيريا وصرخ في وجه امتثال في حدة وغلظة ..امتثال ..تعالي هنا بسرعة ..فوجئت المسكينة بصراخه وزعيقه في وجهها واعتراها إحساس جارف بالحرج والمهانة فقامت علي عجل تلملم أشيائها فاصطدمت بكوب العصير القابع أمامها ليأخذ العصير طريقه عبر سطح الطاولة مباشرة نحو ملابسي .. هل هي رسالة من نوع جديد ؟ ..هُرعت نسرين الرائعة تخرج منديل لها من حقيبتها تساعدني في إزالة البلل الذي لحق بملابسي وهي تردد حصل خير يا جماعه ..إندفق الشر ..أما إمتثال فقد رددت عبارتها التي أحفظها عن ظهر قلب ..أنا آسفه يا جماعه ..أنا آسفه ..دائماً آسفه وأنا يا حياة عمري ..كيف أبدو ؟..وتناهت إلي اسماعنا عبارات الدكتور جلال وهو يعنف امتثال ..كم مره قلت ليك تفطري في المكتب ؟ .

وإلام ستظل تحمل فوق ظهرك ( صخرة سيزيف ) هذه ..لقد تزوجت إمتثال وأضحت خارج حياتك ..لا لم تخرج ..بل خرجت ..قلت لك لم تخرج ..إذن إذهب وتكوم خارج غرفة نومها لتكفكف دموعها وتمسح أحزانها وهي تغدو وتروح ..والدكتور جلال يسومها سوء العذاب بعد أن تأكد له أنها معه فقط بجسدها وليس قلبها ..تحرر يا صديقي من استعمار إمتثال وعد إلي تلك اللحظات المترعة بالروعة مع ( مي ) في حديقة الحيوانات .. يا لعذوبة الطفولة في عينيها ..بل آه من الدهشة والإنبهار وهي تتقافز وتعدو أمامك من حظيرة إلي حظيرة كفراشة جذلي ترفرف للمطر ..هل تتذكر يا قصي تلك العاصفة من الحبور التي ظللت وجهها الصغير وهي تضع حبات ( التسالي ) في كف الشمبانزي ..والمجنون يمنحها ابتسامة عريضة ..لعله قرأها بنفس اللغة التي أفهمها وتاه في سطور انفعالاتها كما أفعل .
ولدي باب منزلهم المتواضع ألحّت علي علي أن أدخل واسلم علي الوالده ..من وين إنتو يا ولدي ؟ ..من الأرياف ..يعني إنتو زينا ..(نحنو جات) من حلفا القديمة ..وتركت للعجوز المجروحة بذكريات الرحيل المر تفضفض خلجاتها وتستعيد ذكريات طفولتها هنالك عند ضفاف النيل القادم من الجنة .
علياء تلتف حولي كالسوار للمعصم..تضبط إيقاع يومي كسكرتيرة خاصة وليست كزميلة..هذا الأهتمام الشديد أربكني ..تحفظ جدول المحاضرات ..وتنتظر مقدمي لدي بوابة الجامعة ولا تدخل إلا وهي معي..لماذا وكيف ؟!! ..نعرج علي ( كنبة ) نائية بأحد أركان الجامعة تحت شجيرة بلوط عتيقة فتأمرني بالجلوس نذاكر دروس الأمس ونستعد لمحاضرات اليوم والسمنارات والبحوث التي يطلبها منا الأساتذة ..هذه الصبية جادة ومنضبطة برغم جمالها الساحر ..لو أن فتاة أخري تملك قوام وجمال علياء لأصبح شغلها الشاغل تعذيب الآخرين ..لكنها تتجاهل حقيقة أنها جميلة وملفتة للأنظار ..وكانت رؤية أعناق الزملاء تلتفت نحونا لدرجة أن بعضهم تتعثر خطاه تشعرني بالغضب ..هل هي الغيرة يا قصي ؟! .. ربما ..وعليّ أن أعترف بأن علياء تتشرنق حولي في لطفٍ وتؤدة يوماً بعد يوم ..هل ستذهب معي إلي الندوة يا قصي ؟ ..وما هو الموضوع ؟ ..تجربة عبد الناصر في الحكم ..تعلمين يا علياء أنني لست مهتماً بأمور السياسة ..أعرف ..ولهذا السبب بت تتهرب من صديقك أسامة ..أسامة شاب لطيف للغاية لكنه ما أنفك يدعوني للانضمام للأخوان ..وأنا أيضاً مثلك ..فترت علاقتي بصديقتي سامية لأنها تلمح لي وبإلحاح غريب للأصطفاف مع الشيوعين .. قالت لي إنها رغبة الرفاق بالجامعة ..ألا يوجد حزب وسط ؟ ..بالطبع ..فهنالك حزب البعث العربي ..حزب البعث ؟! ..لا تقل لي بأنك لم تسمع بحزب البعث أو أنك لا تستمع لخطب زعيمه ( ميشيل عفلق ) ..هل أنت متأكدة بأن هذا هو اسمه الصحيح ..آمل ألاّ يكون اسم وزير خارجية لبنان..لا ..لا ..أظنه هو ..حزب البعث يا قصي هو بالأصل سوري عراقي لكنه يجتذب الكثير من الشباب العرب هذه الأيام كحزب منافس للقوميين العرب والأخوان والشيوعيين ..تعرفي يا علياء ..بطلي الخطب الرنانة هذه يااا ..ماذا ؟! .. رنانه ..ودعينا ندخل سينما ال ( بي . أن ) ..والتذكرة علي حسابي يا شيخة ..شيخه أنا ؟!! ..مقبوله منك ..والفلم اسمو شنو ..صوت الموسيقي ..لم نتأخر في الوصول إلي سينما النيل الأزرق ..ذهبنا سيراً علي الأقدام علي طول شارع النيل نثرثر في مواضيع شتي وغير مرتبة..كنت مشوش الذهن وهذه الجميلة تسير إلي جواري ..تأملنا لحظة بزوغ القمر واتفقنا أنه وبعد التخرج يغادر كل واحد منا مكانه مهما كانت الظروف ومهما تكن أهمية من هم في معيته لتأمل البدر لحظة اكتماله ويقول ..يقول ماذا ؟ يقول كيفك يا علياء ؟ ..كيفك يا قصي ؟ مشتاق ليك ومشتاق لأيام الجامعة ..ساعتها تكون آلام الرطوبة وضجة العيال قد هدت حيلي ..حيلك ..حيلك يا قصي ..لقد ذهبت بعيداً جداً إلي آخر نقطة في المستقبل ..والحاضر يا قصي ألا يستحق منك ولو التفاتة قصيرة ..أم أن امتثال أصابتك بعمي الألوان ؟..لا والله يا علياء .. يستحق وأكثر ..بالجد يستحق ..وهكذا مضي الوقت ولم نشعر به كما أننا لم نتابع مجريات الفلم ..بل هوّم كل منا في أحلامه السرية وطموحاته الغائبة ..وعند مدخل داخلية البنات ودعتها وكأنني سأفارقها للأبد وليس بعد سويعات قلائل ..ولدي حضوري صباح الغد أخذتني إلي ذلك الركن القصي وقالت لي في غضب شديد لم أعهده فيها .. ليتنا لم ندخل السينما معاً يا قصي ..لماذا وما المشكلة ؟ .. إنها امتثال ..قابلتها قبل مجيئك وسلمت عليها بحرارة وود كعادتنا دائماً بيد أنها سلمت عليّ بفتور شديد ..واختصرتني بحجة أنها علي عجلة من أمرها ..كانت في ما مضي تأخذني لساعات تحكي لي أدق أسرارها وبالتفاصيل المملة ..بدأت كلامها بالحديث عن فلم البارحة وكيف أنها قد شاهدته مع الدكتور جلال .. حدثتني عن الوفاء المفقود في هذا الزمان وكأنها تريد أن تقول لي ..( لا تكذبي إني رايتكما معاً ) ..سرعان ما أخذت مكاني يا صديقتي الغالية مع قصي ..قلت لها إذا كنت تلمّحين إلي أن ثمة علاقة ما تربطني مع قصي فإنها مجرد زمالة لا أكثر ..وأنني لا أفكر في هذه المرحلة سوي في دراستي فقط ..لكنها لم تقتنع ..لا بد أن السيدة امتثال لا تزال مغرمة بك يا أستاذ قصي ..حديثها عنك وبحماسة متدفقة ليس له تفسير سوي أنها لا تزال تحبك ..لا ..لا يا علياء أنت مخطئة تماماً ..امتثال خرجت من حياتي ..تماماً يا قصي ؟! ..عفواً علياء ..استطيع أن أقول بأن ثمة جراح يصعب أن تلتئم بالسرعة المرجوة ولكنها تأخذ وقتها ..لا أريد لتلك الجراح أن تنزف مجدداً لذلك سأتركها للزمن فهو كفيل بها ..وأنت ماذا تظنين ؟ ..هل كنت صادقة مع نفسك عندما شكلت العلاقة التي تربط بيننا علي أنها زماله فقط ؟ وهل يملك المرء حرية اتخاذ القرارات فيما يخص علاقاته بالآخرين دون التعرف علي وجهة نظرهم ؟ ..ماذا تقصد بكلامك هذا يا قصي ؟ ..ما خلاص أنت حللت واستنتجت وشكلت الإطار العام لما بيننا ..كنت أطمع علي الأقل في أن تنقليني إلي مرتبة الأصدقاء مثلاً ..فإذا بك تقيّمين العلاقة التي تربطنا بأنها مجرد زماله ..اسمع يا قصي ..هنالك مشاعر لا تحتمل الأخذ والرد وأي إفصاح عنها يقلل من روعتها ..هل تفهمني ؟ ..يعني .. 50% ..لا بأس يا قصي ..( الباص مارك ) في أمور الحياة يعادل ( كريدت ) في الجامعات.

عبدالغني خلف الله
14-07-2010, 07:14 AM
الحلقة السابعة
إقتربنا من إجازة نصف العام ..طارق أدروب قررتمضيتها في الشرق مع أهله الهدندوة ..صدقني يا قصي أنا لا أشعر بالراحة إلا في أربعة مواضع ..عندما أكون علي ظهر ناقتي أذوب في ثنايا السهول الخضراء ..أو عندما أسامر نهر القاش وهو يداعب الشاطيء بجنونه الغامر ..وعندما أجلس تحت شجيرة ظليلة في غابة ( هداليا ) ..أصنع لنفسي كوباً من القهوة وأتصيد الظلال ..والموضع الرابع يا أدروب لعلك نسيته ..الموضع الرابع يا صديقي الصدوق قصي هو الأهم وهو عندما أكون وسط جميلات الشرق أغني وأرقص رقصة السيف ..رقصة كسلا ..لذلك لا مكان لي في الخرطوم وأنا في إجازة ..أما نسرين وعصام فقد قررا قضاء الإجازة بالخرطوم وخططا لقراءة نصف مكتبة ( البريتش كاونسل ) معاً ..عصام يلقب نسرين بالواحة ..ويسأل عنها عندما تتأخر في الوصول للجامعة ..يا أخوانا الواحه ما عاودت .. ثم يتابع .. ( واحة البشيري )..هلا..هلا ..يا بت الجزيره ..يا بحر الدميره ..وقد يغني ( فتيل البخاخ ..وقع مني راح ..إن شاء كان ساعتين ..أنا أمشي وين ..) ..ما جننتنا جن يا عصام بفتيلك ده .. سلافه وهي تعلق في امتعاض ..وأنت يا ( اسير الغرام يا قلبي ) ..أين ستذهب ؟! ..أما أنا فسأذهب للبلد أيضاً فقد توطدت علاقتنا بابن عمي المعتصم بالله ..ما شاء الله عليهو ..أصبح من تجار المواشي المرموقين واشتري عربة بوكس آخر موديل ..والدتي سمحت لي بالسفر بعد أن اطمأنت لصحبة المعتصم والذي صار تقريباً فرداً من العائلة ..ينزل عندنا كلما أتي لمتابعة إجراءات تصدير الماشية لدول الخليج ويغدق علينا الأموال باستفاضة بالرغم من أننا لا نحتاج لدعم يذكر سيما ومندوب المنظمة لا يتأخر في توصيل الهبة المقررة لنا أول كل شهر..لكننا وفي آخر يوم للدراسة وبينما نحن نتأهب للدخول لقاعة المحاضرات لمحت خيال فتاتين تتقدمان نحونا وعندما اقتربتا وجدت أن البنت الأنيقة التي تركض باتجاهي ليست سوي الغالية ( مي ) ..مي !!! ..مش معقول ..إزيك يا قصي ..كيف يعني ولا مره واحده تسأل علينا ..الوالدة مصممه أني أزورك في الجامعة وأطمئنها عليك ..عقدت كلتا يديها أمام صدرها وهي تتحرك بكل الإتجاهات تنشر الدهشة والذهول وكأن الجميع يقول في سره ..يا لهذه الصبية الحلوة ويا لكل هذا النشاط ..كانت تتفجر حيوية ومرحاً ..قلت لها إنتظري سآتي معك ..قالت لي ..لا ..ما في داعي ..خالي ينتظرني بعربته عند بوابة الجامعة ..اشوف وشك بخير ..وإنتي كمان ..علياء سألتني باضطراب واضح ..دي أختك ؟ ..لا ..وإلا كنت قد حدثتكم عنها ..إنها من أقاربنا ..قرابه بعيده وكده ..لكن القلق لم يبارح وجهها الصبوح ..أما امتثال فقد حدجتنا من الجانب المقابل بنظرات مستغربة ذلك الموقف ..أدروب علق قائلاً ..هل هذه صبية أم كرة تنس ؟! ..هكذا أدروب ..دائما يبعث السرور في أنفسنا بتعليقاته المرحة .

* * *
تدحرجنا أنا والمعتصم في الطريق الترابية الوعرة وسط الوديان والمنعطفات الجبلية باتجاه قريتنا ..وكانت لحظات الفراق قاسية علي الوالدة وكذلك علي شقيقتي ( رقية ) ..فهي المرة الأولي التي أغادر فيها المنزل لمكان ما خارج العاصمة بدون رفقتها الحلوة ..وظلت طوال الليل مسهدة لا يغمض لها جفن وهي توصي المعتصم عليّ وكأنني طفل في السادسة من العمر وليس طالباً جامعياً في السنة الثانية بكلية الآداب لي راي وموقف حتي من رئيس الجمهورية وسياسات الحكومة واتحاد طلاب الجامعة ..لقد كبرت يا أماه وليتك تستوعبين هذه الحقيقة ..أنا أقدر لك حرصك وخوفك عليّ يا حياتي ولكن لا تبالغي في إظهار قلقك بهذه الطريقة ..يوماً ما ستدرك مقدار ما أعانيه يا قصي ..يوماً ما ستدركون جميعاً ما معني أن يكون لك ولد وتكون لك بنت ..أنت ولدي الوحيد ورجل هذا المنزل خاصة بعد وفاة المرحوم أبوك ..كيف تريدني أن أتجمل بالصبر بينما أنا أموت شفقة عليك يا ولدي ..ربما أمي معها حق في كل الذي قالته ..فنحن مهما كبرنا نظل أطفالاً بنظر آبائنا وأمهاتنا .
..استقبلتني القرية بحفاوة لا تصدق وكأنني زعيمها وسيدها الأوحد ..ربما كانوا يجدون في شخصيّ المتواضع ملامح أبي المرحوم العمدة ..كان ذلك واضحاً من الدموع التي ذرفت والآهات والزفرات التي خرجت من صميم الحنايا ..لله دركم يا أهلي وعشيرتي ..لقد اكتشفت ومنذ الوهلة الأولي أن الإنسان لا يساوي شيئاً بدون أهله وعشيرته الأقربين ..وبعد أن استعدنا حيويتنا ونشاطنا مما ألم بهما نتيجة المشوار القاسي بين الخرطوم والقرية تتبعنا قطعان الماشية أنا والمعتصم ليشتري ما يحتاجه منها للتصدير ..واكتشفت أنه أصبح خبيراً ضليعاً في هذا المجال ..كان يكشف عليها وكأنه طبيب بيطري وكلما نؤمن كمية بقدر ما يسعه صندوق العربة نعود أدراجنا للقرية لنعاود الترحال من جديد ..وكم كانت دهشتي عندما أخرج المعتصم بندقيته ذات صباح وظل يطارد سرباً من الغزلان حتي ضحي ذلك اليوم لنظفر باثنتين منهما ..لم استمتع كثيراً بالصيد وقد تعمدت عدم إصابة إحداهن وكانت في محاذاة العربة تماماً ..الشيء الذي أحبط المعتصم ..وعمدت النسوة إلي تجهيز وجبة مميزة من لحم الغزلان وسهرنا علي الغناء ينبعث من مسجل العربة ..وكان للفنان المعروف ( أحمد المصطفي ) ..أيام بتمر ووراها ليالي .. سقتني المر وأبت ترتالي ..أظنني أنا المقصود بهذا الكلام ..ولا أدري لماذا أعادني الغناء مباشرة إلي امتثال وليس علياء ..لكن أغنية أخري سجنتني في باحة طيفها ..في سكون الليل ..الليل ..دعنا نجتلي الصمت الرهيب ..إن في عينيك معنيً فوق إدراكي عجيب ..وتذكرت حديثها لي عن القمر ولحظة اكتماله وكان في واقع الأمر يكمل استدارته في تلكم اللحظة من تلك الأمسية الصيفية الرائعة وقد لف السكون القرية إلا من صوت المسجل وغثاء الشياه ونباح الكلاب وزغرودة سابحة في الفضاء أتتنا من الشاطيء الآخر ..هذا هو عرس الشيخ ابراهيم من ( هناء ) ذات العشرين ربيعاً ..والله إني لأغبط الشيخ ابراهيم إبن الستين سنة وهو يتزوج من أجمل بنات الناحية ..فتاة كثيرة الصفات ..فهي بجانب جمالها الفائق معلمة وسليلة أسرة عريقة بالجانب الشرقي وسرعان ما واتتنا أصوات النحاس والطلقات النارية ..لتؤكد لنا ما ذهب إليه المعتصم .
مرت أيام الإجازة هانئة لا يعكر صفوها شيء ..بيد أن حدثاً استثنائياً هو انتخابات الدائرة المؤهلة لمجلس الشعب بالخرطوم فجرت النزاع القديم بين أعمامي من جديد بالرغم من الصلح المكتوب الذي شهده حاكم الإقليم ..فقد أصّر عمي العمدة ( خضير ) علي الترشح للإنتخابات مخالفاً بذلك نصوص الصلح التي قضت بأن يتبؤا هو منصب العمده ويترشح عمي الماهل للمجلس التشريعي ..ودار صراع خفي واستقطاب حاد عندما ترشح كلاهما ..وفي صبيحة اليوم المحدد للتصويت تجمع عدد كبير من رهط وعشيرة الطرفين للإدلاء باصواتهم ..وكنت قد بذلت جهوداً جبارة للحيلولة دون وقوع ذلك النزاع مستثمراً مكانة والدي المرحوم والعمدة السابق غير أن نداءاتي ذهبت أدراج الرياح ..وفي لحظة حاسمة عندما أدرك أنصار عمي الماهل بأن أصوات العمدة قد باتت أضعافاً مضاعفة وقد جذبها بريق السلطة كما في كل أركان الدنيا هجم أبناء عمي الماهل ومرافقيهم علي غرفة الاقتراع بالمدرسة الأولية واقتحموها وحطموا الصندوق وأشعلوا النار في المكان الشيء الذي أدي لتدخل الشرطة وفض الاشتباك بين الطرفين وقد تطور من مجرد الملاسنات والاشتباك بالأيدي إلي تسبيب الأذي بالعصي والفئوس .. وكان موقفاً مؤسفاً لم أكن أتصور بأنني سأكون شاهداً عليه ..اعتقلت الشرطة مثيري الشغب وكان عددهم حوالي العشرين وهرعنا إلي رئاسة شرطة المنطقة وتدخل الأجاويد من الجانب الشرقي وبعض المسئولين وتم احتواء النزاع بعد أن قررت لجنة الانتخابات إعادة الإنتخاب تحت الحراسة المشددة ..وخاض عمي الماهل الانتخابات بمساندة الجميع بعد أن تنازل له العمدة ليفوز بالدائرة علي مرشح آخر من السياسين القدامي الذي ينتمي للقرية المجاورة ولا يقيم بها.. إنما يقيم بالخرطوم ونادراً ما يزور المنطقة هو وأسرته ..أقيمت الأفراح ونحرت الذبائح ابتهاجاً بفوز عمي الماهل وقد علمت فيما بعد أن ذلك الخصم استغل ذكائه ودهائه السياسي وخبراته لزرع الخلاف بين أعمامي وكان حتماً سيفوز بالدائرة فيما لو ترشح الإثنان ..وفي خضم تلك الساعات المترعة بالروعة بزغ القمر وأكمال استدارته فتذكرت علياء وطيفها الرفراف يدعوني للوفاء بوعدي لها ..استأذنت الحضور وصعدت علي التلة الصغيرة المطلة علي القرية وهتفت بصوت مسموع ..علياااااء ..كيفك يا علياء ..فجاوبتني أنسام المساء الفارهة وكأنها تحمل إليّ صدي مناجاتها .. وعدت للمنزل وأنا أحتضن طيفها حتي الصباح .

عبدالغني خلف الله
15-07-2010, 07:17 AM
الحلقةالثامنة
كانت عودتنا لقاعات المحاضرات بعد إنتهاء إجازة نصف العام عودة صاخبة ومفرحة .. فقد عدنا بلهفة وشوق للجامعة ولسان حالنا يقول إن أية لحظة نمضيها خارج أسوارها كئيبة ومملة ..وكان أول فرد من المجموعة التقيه الرائعة سلافة وما بين المحاضرتين الأولي والثانية أسرت لي بأنها ستضع أدروب في موقف لا يحسد عليه عندما يلتئم شملنا ..ولم تتأخر في الإفصاح عن نواياها وأخرجت علبة صغيرة بها خاتم ذهبي وقالت ..هذا الخاتم يخص شقيقتي رؤي ..وهي مخطوبة وقد طلبت مني أن أعرج علي سوق الذهب وأنظفه لها ..سأقوم بوضعه علي معصمي باعتبار أنني قد خطبت أثناء الإجازة لأري ردة فعل طارق أدروب فقد لاحظت أنه متيم بي ولكن طبعه البدوي المتأصل في دواخله يمنعه من التعبير صراحة عّما يجيش بخاطره ..قلت لها الكل يعرف إعجابه الشديد بك وهو بالمناسبة يلقبك بسلافه القيافه ..والله ..؟! قالت وهي تضحك ..بختكم يا ماما .. كل واحد في المجموعة لديه لقب إلا العبد لله .. نسرين الواحه وسلافه القيافه وأنا ..من يبيعني ولو شبح لقب أتفاخر به بين أقراني الطلاب ..لماذا ؟ ..ألم تسبغ عليك امتثال ولو لمرة واحدة أي لقب؟ ..وما الداعي لتذكيري بها الآن يا سلافة .؟ ..هل عادت من الإجازة ؟ ..والله لا أعلم ولا أريد أن أعرف .. وبالفعل أخذنا مواقعنا في الكافتيريا ونحن نقضم الساندوتشات ونرشف العصير الطبيعي لأننا نقاطع وبصفة شبه يومية قاعة الطعام بالرغم من أن الوجبات مجاناً وغنية بما لذّ وطاب لدواعي الكسل والحرص علي اغتنام زمن الإفطار لنجلس معاً .. سلافه يا خاينه ..صرخت نسرين وقد لاحظت الخاتم الأنيق وقد أخذ موقعه في أروع أنملة رايتها في حياتي ..معقول يخطبوك وما تدينا خبر أو تعزمينا ..منو الانخبطت ؟!! أدروب وقد هالته المفاجأة وجعلته يترنح كالسكاري من هول الصدمة ..سلافه .. ما شايف الخاتم يا طارق ..خاتم لشنو ..؟ ..ولم يكمل المسكين جملة واحدة علي بعضها البعض ..وتداخلت الحروف في الحروف والكلمات في الكلمات ..هنا شلحت سلافة الخاتم من أصبعها وهي تقول ..لا اتخطبت ولا انخبطت .. كل ما في الأمر أن رؤي شقيقتي طلبت مني أن أعمل شوية صيانه للخاتم وقد أعجبني فقلت في نفسي لم لا أجربه ..يمكن يجيب لي عريس ..كلها سنه واتخرج وأودعكم يا ( برالمه ) ..تنفس أدروب الصعداء وهو يهمهم ..ما جننتنا يا خي ..أيه الهظار البايخ ده ؟ ..لعلك تنوي خطبة سلافه يا أدروب ؟ ..فأجأته بسؤالي وأنا أنظر مباشرة في عينيه ..إنتو قايمين علي الليله دي مالكم ..منو المحرشكم ؟! ..تبادلت النظرات مع سلافة وكأنها تقول لي .. شايف يا قصي ..كلامي طلع صاح مش ؟! ..لكن يا سلافة .. يا عزيزتي الغالية حرام أن يتلاعب الإنسان بمشاعر الآخرين حتي ولو عن طريق المزاح فمثل هذه الأمور لا تقبل التلاعب ..كيف لأدروب المسكين أن يطال سماواتك البعيدة ومراسيك الصعبة ..إبنة سفير طافت العالم وتتكلم ثلاثة لغات أجنبية ولديها وثيقة سفر بريطانية ..وتسكن في منزل من ثلاثة طوابق ..هل سترضي بالحياة الصعبة التي يعيشها الناس في البادية ..ولم لا يا قصي ؟ ..فالحب يصنع المعجزات ويحطم الفوارق الأجتماعية في لمحة من البصر ..علي العموم سنري كيف ستسير الأمور بين هذين النقيضين إذا مد الله في الأيام ..

* * *
نحن الآن في عامنا الرابع بالجامعة ولم تتبق سوي أيام قلائل لنجلس لامتحانات التخرج وقد حدثت أشياء وأشياء كثيرة خلال العامين المنصرمين .. سلافة سبقتنا بعام في التخرج وتزوجت من القائم بالأعمال بسفارتنا بواشنطن..وكان وقع رحيلها صعباً للغاية علي أدروب لكن التحاق الصغيرة ( مي ) بالجامعة قد خفف عليه الأمر قليلاً لينصرف لها تماماً كشقيقها الأكبر ..وكدنا نفقد نسرين بسبب مرض البلهارسيا اللعين لولا لطف الله وعنايته.. فقد هُرعنا بها وهي في حالة الخطر للمستشفي .. وعندما علم عصام بما ألمّ بها جن جنونه فركض نحو شارع الجامعة يلتمس عربة أجرة تقله حتي المستشفي وفي غمرة انفعاله فقد القدرة علي التركيز لتطيح به عربة ملاكي وتهشم ساقيه ليصبح لنا مريضان بدلاً من مريض واحدة ..بيد أن نسرين تعافت وواصلت دراستها لكن عصام فقد عاماً دراسياً كاملاً وهو يتنقل من مشفيً إلي مشفي ومن طبيب إلي طبيب وأقسمت نسرين بأنها لن تستلم شهادة التخرج ما لم يكمل عصام الجامعة وستظل بجانبه تراجع معه مقرر السنة الرابعة محاضرة بمحاضرة حتي يلحق بنا ..ذلك لأن نسرين بطبيعتها الريفية ووجدانها السليم أدركت بأن عصاماً هذا القادم من ضواحي بارا لم يكن ليعاني لولا حبه الشديد لها ولهفته عليها .... أما امتثال فقد تعقدت علاقتها مع زوجها الدكتور جلال بصورة دراماتيكية أقرب للخيال .. فقد سبقت زوجها ذات يوم في التوجه من الجامعة لمنزلها لتفاجأ بامرأة بريطانية وهي داخل المنزل ..أخبرتها الخادمة بأن ضيفة أجنبية تدعي ( هيلين ) قد وصلت صباح اليوم من لندن وبمجرد وصولها توجهت مباشرة نحو غرفة النوم ..بدلت ملابسها وطلبت منها أن تعد لها كوباً من القهوة وعندما أتت به إليها وجدتها وقد راحت في ثبات عميق ..اتصلت علي الفور بالدكتور جلال لتخبره بوصول ( هيلين ) فاضطرب اضطراباً عظيماً ..ولم يقدم لها تفسيراً مقنعاً ..فأخذت عربة أجرة لتعود للجامعة..بحثت عن الدكتور جلال في كل مكان بالجامعه ولم تجده ..رأيتها تقف مع علياء وهي تبكي ..توجهت نحوهما أحاول تشجيعها ولأسري عنها قليلاً ولأخبرها أن عليها أولاً وقبل كل شيء أن تفهم كنه علاقة تلك الضيفة بالدكتور جلال قبل أن تقرر .. يا جماعه أنا آسفه قالت وهي تكفكف دموعها ..عدنا للاسف من جديد ..آسفه لأني تعبتكم معاي ..هل أذهب معك ؟ ..علياء تسأل في صدق ومحبة .. لا يا علياء سأتدبر الأمر بنفسي .. وتحت إلحاح وضغط علياء وبتشجيع مني وافقت علي إصطحابها .. أما أنا فقط ظللت واقفاً تلفني غيمة من الذهول والغضب علي ما آلت إليه أحوال امتثال من ضعف وخور وهي الباذخة القوية وكأنها صخرة عاتية لا تهزها الأعاصير ..يا حسرتي عليك يا امتثال. .ليتني أستطيع أن أفعل شيئاً لأجلك ..ليتني يا حياتي وعمري أستطيع ..ولم يتبق أمامي سوي انتظار علياء لتكشف لي سر تلك الزائرة المجهولة وما يمكن أن يمثله ذلك بالنسبة لامتثال وكيف ستعالج الموقف ..إذن لا بد من الانتظار وما أقصي الانتظار عندما يتعلق بمصير امتثال ..ورحت في شبه غيبوبة وأنا أرسم كافة السيناريوهات المحتملة للقضية برمتها .

مشكله كبيره يا قصي ..مشكله كبيره ..ما الأمر يا علياء أرجوك أخبريني ماذا حدث بالضبط ؟ ..أخذنا أنا وامتثال عربة أجرة أقلتنا حتي منزلهم ولدي دخولنا سمعناً عراكاً وضجيجاً داخل غرفة نومهما ..وكان صوت تلك الأجنبية هو الأعلي والأكثر شراسة والدكتور جلال يحاول دون جدوي تهدئتها ..زوجتك ؟ ..هذه البائسة الفقيرة زوجتك يا دكتور ..وأنا من أكون ..؟!! لقد تركتنا وأطفالي بانجلترا بحجة العودة للخرطوم وتدبر أمر شراء منزل لنا هنا وبدلاً من ذلك أنفقت مالي علي ملذاتك والزواج من فتاة باهتة لا تساوي شيئاً هي بالأحري إحدي تلميذاتك كما تقول .. هنا انهارت امتثال تماماً ..أخذتها برفق نحو ال( صوفيا ) الوحيدة الموجودة بالصالون وطلبت من الخادمة أن تحضر لها كوباً من الماء بسرعة ..في هذه اللحظة انخرطت ( هيلين ) من الغرفة وهي توجه كلامها له .. سأكون بال( قراند أوتيل ) وعليك أن تلحق بي هنالك مساء اليوم إن رغبت في البدء بمراسم إجراءات الطلاق وليكن معلوماً ليديك بانني سأغادر إلي لندن في أول طائرة متوجهة إلي هناك أما ( سوزان وناتالي) فلا تحلم برؤيتهما ثانية لأنني سأسافر إلي أي بلد أوروبي وأستقر به ولن تجدنا حتي ولإن استعنت بشرطة العالم مجتمعةً..والدكتور جلال جلال يمسك بها وهي تتملص منه وقبل مغادرتها توقفت لدي امتثال التي وضعت كفها بين يديها وهي تبكي وتهتز في شبه هستريا ..وهمهمت بكلمات مثل ..غبيه .. مسكينه ..تافهه ..إيه يا زمن ..كيف يحدث كل هذا وفي طرفة عين ..كيف ؟!!

لكن امتثال عادت ثاني يوم وهي متهللة الأسارير ..مرتاحة البال ..أخذتنا أنا وعلياء إلي مكان معزول بالجامعة بعيداً عن أعين الزملاء والزميلات وشرحت لنا ما حدث بعد مغادرة (هيلين ) للمنزل وتوجهها نحو الفندق ..قالت .. كان موقفاً عصيباً لم أحتمله وما كنت لأحتمله لولا وجود علياء إلي جانبي ..الآن تأكدت بأن نعمة الصداقة هذه من أنعم الله العزيزة إلي قلبي ولو أنني قسوت عليك يا علياء أكثر من مرة .زأرجوك سامحيني ..لا بأس يا يا امتثال فنحن بالنهاية بشر نخطيء ونصيب ..لا أدري كيف تماسكت حتي غادرت تلك الملعونة المنزل ..كانت قبيحة وبشعة وهي تكيل لي الشتائم وكأنني كنت أعرف أصلاً بوجودها في حياة جلال ..تصوروا أنه لم يرد ذكرها مطلقاً أمامي خلال العامين الماضيين .. لكنني أتذكر أن الدكتور جلال كان يعود للمنزل في بعض الأوقات مشتت البال مهموماً وحزيناً ثم سرعان ما يستعيد حيويته ..لكن حادثة واحدة أربكتني ولم أجد لها تفسيراً .. فقد زارنا في إحدي المرات بريطاني عرّف نفسه علي أنه من السفارة البريطانية بالخرطوم وأنه يريد الدكتور جلال في أمر يخص عائلته ..لم أتوقف كثيراً عند كلمة ( عائلته ) تلك لأن جلال أخطرني منذ البداية بأنه غير متزوج وعزا تأخره في الزواج للمشغوليات المترتبة علي الدراسة بانجلترا ومن ثمّ التحضير للماجستير والدكتوراة فصدقته وقبلت الزواج منه .. ذلك لأنني كنت مبهورة بقوة شخصيته وسطوته أثناء المحاضرات .. عاد جلال لأخبره بزبارة مندوب السفارة لنا ..في البداية اضطرب قليلاً لكنه تماسك وأخبرني بأنهم يطلبونه في لندن لتقديم بعض المحاضرات عن السودان ..ولعله كان يمهد بذلك لرحلة سريعة للندن قبل أن تفاجؤنا ( هيلين ) ..أمضي نهار أمس وحتي الغروب في تهدئتي وطمأنتي علي أنه سيذهب لها بالفندق ويبدأ غداً في إجراءات الطلاق وبأنه حريص عليّ أكثر من حرصه عليها وأخبرني أنه تزوجها فقط لرد الدين لأسرتها التي آوته وصرفت عليه أثناء إقامته الطويلة هناك ..قلت له سآتي معك ..وعندما أقنعني بضرورة التحدث منفرداً إلي ( هيلين ) وعدته بأن أنتظره بالعربة ..انطلقنا إلي شارع النيل وفي قاعة استقبال الفندق شاهدت الموظف وهو يقدم له مظروفاً فضه بسرعة وقرأه ثم عاد راكضاً علي الأدراج وأدار محرك عربته وهو يتمتم ..لقد توجهت ( هيلين ) إلي المطار لتغادر بطائرة الخطوط الألمانية ( لوفتهانزا ) ..علينا أن نسرع فلم يتبق علي إقلاعها سوي دقائق ..ولكن حاسب يا جلال ..فقد تخطيت علامة المرور الحمراء مرتين ..هكذا كنت أحاول تهدئته حتي لا يصطدم بعربة فيدمرنا معاً ..هُرع من العربة مسرعاً باتجاه قاعة المغادرين وتبعته لأراقب ما يحدث من علي البعد ..اوقفه ضابط الجوازات ورفض أن يمنحه فرصة التوغل أكثر فأكثر داخل مكاتب المغادرة ..وسمعته يقول له ..غير مسموح لك بتخطي هذه النقطة يا دكتور ..ولكنها زوجتي ويجب أن أذكّرها بأمور مهمة للغاية ..قلت لك لن تمر من هنا ..أنت تضيع وقتي ووقت المسافرين ..هيا تراجع .. وتحت إصرار الدكتور جلال علي رؤية (هيلين ) ما كان من الشرطة إلا أن أوقفته بحراسة قسم شرطة المطار بدعوي الإزعاج العام ومعارضة موظف أثناء تأدية واجبه ولم يفرجوا عنه إلا بعد أن حلقت الطائرة بعيداً في الفضاء .. عدنا للمنزل في ساعة متأخرة من الليل وقد أخذ التعب منا كل مأخذ ..وفي صباح هذا اليوم طلبت من الخادمة أن تعد له الشاي والإفطار وتركته وهو يغط في نوم عميق .

عبدالغني خلف الله
17-07-2010, 06:23 AM
الحلقة التاسعة
إمتثال هذه لا يأتي من وراءها خير أبداً..رقية أختي وقد بدت حزينة ومحبطة ..ماذا فعلت لك امتثال يا رقية ؟ ..تصور أنها أمرت شقيقها كمال بالإنتقال للعيش معها بمنزلها ريثما يعود زوجها من الخارج ..وهل سافر الدكتور جلال ..؟ نعم منذ حوالي أسبوع ..فأين المشكلة إذن ؟ ..كيف يعني يترك والدته المريضة لابنتيها انتصار واعتدال وهما لا تزالان صغيرتين علي تحمل مسئولية البيت ..فقد كان كمال يحنو علي أمه ويجلب لها الدواء ويعطيه لها حسب المواعيد التي قررها الطبيب ..فماذا سيحدث لهذه المسكينة يا تري ؟ ..هذا تصرف ينم عن الأنانية و.... مهلاً مهلاً يا رقية ..ألم تلاحظي بأنك تبالغين قليلاً في حكاية والدة كمال هذه وأن ما يهمك هو كمال نفسه وليس أمه ..ماذا تقصد يا قصي .. ماذا تقصد ..ها ..؟ أظنك تعتقدين بأن أخيك مغفل أو شيء من هذا القبيل ..لقد لاحظت مدي اهتمامك بكمال عندما يزورنا ..توتر وقلق وانفعال ..ثم زياراتك المتكررة لمنزلهم بحجة زيارة انتصار ..أنا أحذرك من كمال يا رقية فهو أكبر منك سناً وتجربة في الحياة ..لكن في النهاية الخيار متروك لك يا أختي العزيزة رقية ..أنت تفهمني خطأ يا قصي كعادتك منذ أن كنا صغار ..لكن لماذا لا نزورهم يا قصي ..؟ يقال أن منزل امتثال يجنن الواحد وليس مثل هذه الزنزانة التي نعيش فيها ..ما لها الزنزانه التي نعيش بها ؟ ..نحمد الله عليها كثيراً ..فغيرنا يعيش في العراء وتحت الأشجار ..لكن ولا يهمك سنزورهم غداً إن شاء الله .. صحيح يا قصي ؟ ..يا حبيبي يا قصي يا أعز الناس حبايبك ... بلاش الاستهبال ..وكفاك ثرثرة .. أصنعي لنا شيئاً نتعشي به .. رغيف بلبن .. ممكن ؟ ..أيوه ممكن .. دائماً تختارين الحلول السهلة .
أنا نفسي لم أتمكن من تبديد أشواقي لامتثال منذ أن أغلقت الجامعة أبوابها وانشغالنا بالركض هنا وهناك بحثاً عن وظيفة مؤقتة قبل استلامنا لشهاداتنا ..وكانت عبارة ( عفواً لا توجد وظائف خالية ) تصفعني بقسوة أينما اتجهت .
أخذنا عربة تاكسي إلي حيث تقطن امتثال ولدي بابهم استقبلنا كمال بترحاب شديد وكأنه سيد الدار وليس ضيفاً عابراً مثلنا ..وبعد حوالي نصف ساعة أطلت علينا شقيقته وكأنها إحدي أميرات الأغريق ..أمضينا وقتاً ممتعاً في ضيافة العزيزة الغالية امتثال وكان الانسجام واضحاً بين رقية وكمال ..امتثال غمزت لي بطرف عينها وهي تؤمي نحوهما ..هل تتدخل عوامل الوراثة في المشاعر يا قصي ؟ ..لكن قبل مغادرتنا بقليل وقع حدث لم يكن في الحسبان ..إذ سمعنا طرقاً مهذباً بالباب ..أنا سأفتح كمال وقد كان قريباً من الباب ..أهلاً ..تفضل ..شكراً .. في الواقع أنا المحامي أمير وأود مقابلة السيدة امتثال ..نعم ..أنا شقيقها هل لي بمعرفة الأمر ؟ ..لا للأسف فالموضوع شخصي ويخصها وحدها ..حسناً تفضل ..من الطارق يا كمال ..إنه المحامي أمير ويريد التحدث إليك علي انفراد ..أهلاً ..اللهم اجعله خير ..هل نجلس لوحدنا لو سمحت ؟ ..بالطبع تعال من هنا ..انتابتنا حالة من الترقب والقلق لتعود امتثال وهي تتأبط مظروفاً كبيراً وتدلف به مباشرة إلي غرفة نومها ..لحظة من فضلك .. ثم وبعد عودتها ..إمهلني ثلاثة أيام فقط لا أكثر ..هو كذلك .. بالإذن ..ما الموضوع يا امتثال ؟ ..كمال يسأل ..لقد باع الدكتور جلال هذا المنزل قبيل سفره وهاهو محامي المشتري قد أتي لتكملة الاجراءات ..علينا يا جماعه مغادرة المنزل دون إبطاء .. كمال خذ هذا المبلغ واتفق مع أي وكالة للدلالة واحضر معك شاحنة وعدداً من الحمالين وخذ كل اثاث المنزل وبعه لها .. انتظروني لحظة ..قصي ورقية ..ساحضر حقيبتي وأذهب معكم إلي منزلنا ..لا أريد أن يتبعني اي أثر للدكتور جلال من هذا البيت ..غادرنا علي مهلنا لتقول امتثال لسائق التاكسي من فضلك خذنا للبنك .. وحددت لهمصرفاً بالاسم ..ومن ثمً شرحت لي تفاصيل الصفقة ..لقد كان زوجي منصفاً يا قصي فهو علي الأقل لم يتركني وأنا مفلسة ..فقد أحضر لي المحامي ربع قيمة المنزل بعد أن أخذ هو نصف البلغ مقدماً وسيسلمني المحامي الباقي بعد استلامه للمنزل خالياً من العفش .

* * *
وهكذا عادت عصفورتي الجميلة إلي عشها..وهاهي حبيبات الدم الأرجواني تبحر عبر الشرايين إلي القلب المتعب الذي ما أنفك يواصل قرعه الممل في أبواب الحياة بكل السذاجة والغباء فلا يخلد للراحة أبداً والفرص الضائعة تؤرقه وتنغض عليه عيشه ..بيد أن امتثال التي عشقتها لم تعد بعد ..امتثال تلك الطفلة المشاغبة المترفة ..أين هي من امتثال اليوم ..هل كان باستطاعتي أن أبقيها طفلة وإلي الأبد ؟ ..وباي سلطة .. هذه الديمومة الطفولية ما أروعها إن وجدت ..بيد أن امتثال التي آبت إلي حينا العريق جاءت بأكثر من صفة وأكثر من عنوان .. فهي حرم الدكتور جلال وهي ومنذ اليوم سيدة أعمال ولديها حساب بالبنك وعدة تواقيع ..غريب والله أمر هذه الحياة ..تجمعك مع أناس مميزين فتحبهم بكل ذرة في كيانك المكدود لكنك في لحظة ما تجدهم وقد تسربوا من بين يديك وذابو في بحر الحياة العريض .
لم تضيع امتثال وقتاً طويلاً حتي حضروا إلينا هي ووالدتها وشقيقتيها لطلب يد شقيقتي رقية لابنهم كمال ..قدمنا لهم الشربات كبادرة ترحيب وموافقة وتم تحديد موعد الخطوبة بعد اسبوع ..وكان قد تصادف حضورهم لنا مع وصول مندوب المنظمة الذي أحضر لنا الدعم الشهري وكان يود الانصراف بسرعة كعادته معنا لكنه عندما علم أن تجمعنا يخص شقيقتنا وما بات يعرف ب( قولة خير ) .. انتظر بضعة دقائق لشرب شيء من الشربات وتناول بعض الحلوي ..وكم كانت مفاجأة أذهلتنا عندما حضر في مساء اليوم التالي وهو يحمل معه مبلغاً محترماً من مدير المنظمة مع تمنياته بأن يكون زواجاً ميموناً مباركاً ..الشيء الذي سيساعدنا حتماً في لجم ألسنة أخوال امتثال ونظرتهم لنا كمواطنين من الدرجة الثانية قدموا للخرطوم من الريف وليس لهم الحق بالتمتع بنفس الحقوق التي يتمتعون بها ..بذلت جهوداً مضنية لأعثر علي أصدقائي عصام وأدروب وعلياء ونسرين ومي لأدعوهم لحضور حفل الخطوبة وكانوا جميعاً في الموعد بلا استثناء ..( مي ) حضرت في معية والدتها وعصام جاء يتوكأ علي عصاه وكانت نسرين شاحبة ومرهقة جراء مرض البلهارسيا الذي استوطن جسدها النحيل ..سألت ( مي ) وهي تمد يدها لتصافحني ..ما بك يا ( مي ) يدك ساخنة جداً هل تشعرين ببعض الحمي ..لا ..هذا هو مستوي حرارة جسمي في جميع الأوقات ..ولكن يا ( مي ) ..لا تشغل بالك .. كانت تتحرك في جميع أنحاء المنزل بخفة ونشاط ..طارق أدروب اتفق معي علي أن حرارة ( مي ) غير عادية وأردف قائلاً بطريقته الساخرة تلك ..( البت دي المكوا ذاتو أبرد من إيديها ..بقيت أخاف لما تجي الجامعة وتمد لي إيديها عشان أسلم عليها ..قلبت لي أصابعي زي ( السلات ) .. مثلت عليها بأني ما بصافح ..كدا بس من بعيد ووضع كلتا يديه في صدره ..وضحكنا من قفشات أدروب التي لا تنتهي ..كأنك تجلسين في موقد كهبائي وليس كرسي يا ( مي ) ..هذه السخونة الشديدة ربما تحرق ملابسك يوماً ما ..أقول ليكم حاجه يا جماعه .. تصدقوا أني لما أطبق ( بلوزتي ) واضغط عليها بإيدي ..تستعدل زي الجابوها من المكوجي للتو ..( مي ) تعلق علي حديثنا لها ..أيوا اعترف يا ( مي ) .. أدروب يواصل ..لازماً اشتغل في المطافيء عشان خاطر النار الجواك .. ويبدو أن كمال قد تلقي دعماً سخياً من امتثال بالنظر إلي كثرة الهدايا التي قدموها لرقية والشبكة الباهظة الثمن .


* * *

إلتقتني علياء صباح اليوم التالي بالجامعة وهي متهللة الأسارير وكنت قد ذهبت لأطّلع علي النتيجة المعلقة بال( بورد ) وقد نجحت والحمد لله بتقدير جيد أما علياء فقد كانت بتقدير ممتاز ..هذه البنت تتحدث الإنجليزية وكأنها من مواليد أكسفورد .. لكن ثمة مفاجأة رهيبة كانت بانتظاري .. ولم أعرف كيف أتصرف أمام علياء وهي تخبرني بفرح طفولي غامر بأن الجامعة قد منحتها بعثة دراسية إلي انجلترا ..دبلوم عالي .. أدب إنجليزي بجامعة أكسفورد .. والسفر بعد اسبوع واحد ..أصابني نوع من الوجوم والبلاهة والتردد .. مبروك ..قلتها وأنا أتمزق من الداخل ..ما بك يا قصي ؟ ..ألم تفرح لنيلي هذه البعثة ؟ ..لا ..لا .. بالطبع فرحت لأجلك ..لكنني ..لكنني .أعرف ..تريد أن تقول لي بأننا سنفترق ولمدة طويلة جداً ..دعنا نعتبر هذا الغياب بمثابة إختبار لمشاعر كل واحد منا نحو الآخر ..والآن هيا ابتسم .. وإلا سأعتذر عن هذه المنحة .. أقسم بأنني سأرفضها إن كانت ستسبب لك أي قدر من التعاسة يا قصي ..وأعلم بأني جادة فيما أقول .. ترفضين السفر إلي الخارج والمضي قدماً في التعلم وربما نيل الماجستير والدكتوراه ..إطمئني سنتغلب علي مشكلة بعادنا عن بعضنا البعض بوسيلة أو بأخري .. سأكتب لك وستكتبين لي وسأهاتفك باستمرار وقد تسنح لي فرصة زيارتك ..وقد ..وقد .. لماذا لا تمكل يا قصي ؟..وقد نتزوج ونسافر معاً ..لا ليس بعد يا قصي ..دع المقادير تفعل ما تشاء ..وإذا كنا سنتزوج في يوم ما أعدك بأني سأحرص علي أن أكون لك إلا ..إلا .. إلا ماذا ؟ .. إلا إذا عادت الأمور إلي مجاريها بينك وبين امتثال ..قلت لك وأقول لك وللمرة الألف يا علياء أن ما بيني وبين امتثال قد انتهي ..لماذا لا تصدقينني ..حسناً سافعل هذه المرة وسنري ..والآن هل لديك أي ارتباط ما ..وددت لو نبقي معاً طيلة هذا اليوم لأنني سأغادر إلي عطبرة غداً لإنجاز بعض المهام الأسرية ..بالطبع سأكون معك وسألغي جميع ارتباطاتي لأجلك يا علياء ..سنحصد الثواني والدقائق وكل لحظة من يومنا هذا لعله يكون لنا زاداً خلال غيابك المباغت هذا ..أخذتني من مكان إلي مكان وكأنها تود لو تستبقيني داخل قفص ضلوعها ..تسكعنا في فرندات الأسواق ودخلنا المكتبات نقرأ عناوين الكتب وارتدنا المقاهي الراقية ومن ثمّ عرجنا علي جنينة الحيوانات .. فعلنا كل شيء لنبقي معاً .. كنا نركب أي حافلة متوجهة لأي إتجاه ونترجل في المحطة الأخيرة لنعود من جديد إلي قلب الخرطوم .. وقبيل الغروب أعدتها إلي داخلية البنات ولدي بابها قلت لها ..أحبك يا علياء ..أحبك بكل ذرة في كياني ..بكل نبض في عروقي وبكل خفقة في فؤادي ..وأنا يا قصي أحبك ..أحبك ..أحبك ..وسأظل أحبك لآخر العمر .. وكم من مرة راودتني نفسي لأسالك ..هل تحبني يا قصي كما أحبك ؟ ..لكنك قلتها بدون أن تكلفني عناء السؤال وأتمني ألاّ تندم علي اعترافك هذا في يوم من الأيام ..تصبحين علي خير يا علياء ..وأنت .

لا أدري لماذا يتبرع لك الناس بالمعلومة بعد فوات الأوان وكأنهم ينتظرون تأزمك ليجلدوك بأقسي العبارت .. (كيف يعني تدو بتكم لواحد ..سكير ..عربيد ..ومدمن قمار ؟! ) ..هل أخبر رقية بما سمعته عن خطيبها أم أترك كل شيء للظروف ..أم أن عليّ أن أتأكد بنفسي عن صحة تلك التخرصات ..وهذا ما فعلته بالضبط..توجهت نحو ( البوتيك ) الفخم الرابض في قلب الخرطوم حيث كمال والذي تضخم أكثر فأكثر بعد دخول امتثال كشريكة له بعد المبلغ الذي توفر لديها من ريع المنزل .. دخلت عليهم ووجدتها هي تجلس في المكتب تحاسب إحدي الزبونات بينما انهمك هو في مناجاة حالمة مع إحداهن ..كانت فتاة رائعة الجمال وصبية في حدود الثامنة عشرة من عمرها ..السلام عليكم ..قلتها بصوت عالٍ لألفت انتباهه ..قصي؟!!.. مش معقول ..امتثال وقد فوجئت بزيارتي ..وبالرغم من ترحيبها بي وبصوت فيه شيء من الانفعال والترحيب الشديد إلا أنه واصل تجواله الحالم في تضاريس تلك الفتاة ..إحم ..إحم ..نحن هنا يا أبو النسب ..قذفتها بأعلي صوت في وجهه ..ارتبك ارتباكاً شديداً وهو يردد ..قصي أهلاً بيك ..آسف ما لاحظت ظهورك ..هل الأسف سمة غالبة لأفراد هذه الأسرة ؟ ..ولا عليك يا بطل ..أما هي فقد هًرعت مغادرة البوتيك وهي تقول له سأراك في فرصة قادمة ..وهو كذلك .. سألتني امتثال ..ماذا نقدم لك ؟ .. شاي.. قهوة ..حاجه بارده ..لا ..لا ..شكراً لك ..في الواقع كنت علي مقربة من البوتيك ..قلت أسلم عليكم ..كتر خيرك يا قصي ..أها ..كيف كانت حفلة الخطوبة بنظرك يا قصي ؟ ..أسألي العريس ..قلتها باستهزاء فهمه كمال ولم تتوقف عنده امتثال ؟..كيف أخبار علياء لم أرها منذ يوم الخطوبة ؟ ..علياء غادرت إلي لندن ..وصلتها منحة من الجامعة لدراسة الأدب الإنجليزي ..بالضبط يكون ليها ثلاثة أيام هناك ..هل كنت في وداعها بالمطار وكيف كان شعورها وهي تسافر خارج السودان ..تجاهلت سؤالها واستأذنت الإنصراف وخرجت وكلماتها توشحني بإحساس باهر .

عفواً سيدي ولكنني لا استطيع العمل بالأقاليم الجنوبية في الوقت الراهن ..هذا هو شرط منحك وظيفة معلم مدرسة ثانوية عليا يا أستاذ والخيار متروك لك .. كان ذلك رد المسئول بوزارة التربية علي طلبي وموافقة الوزارة علي منحي الوظيفة ولكن بشروط صعبة للغاية .. العمل بالجنوب ليس سيئاً لا سيما بعد توقيع اتفاقية السلام لكن والدتي تحتاجني وليس بوسعي تركها هنا والتوجه للجنوب ..يا لسوء الحظ ..أخيراً حصلت علي وظيفة بدون فائدة ..لملمت أوراقي وشكرته وأنا أقول له ربما في فرصة لاحقة ..كل المصالح الحكومية تشترط العمل بالأقاليم ..لذلك اعتذرت عن قبول أكثر من وظيفة علي درجة عالية من الأهمية ..ضابط إداري ببحر الغزال ..معلم بمدرسة الأبيض الثانوية ..وهكذا ..ولكن ..لكن ..لكن ماذا يا قصي ..؟ لم لا أجرب القطاع الخاص ..وهل تعرف شخصاً ما في هذا القطاع ؟.. نعم ..نعم ..بالطبع أعرف ..السيد صاحب البطاقة الذي أوصلني بعربته لمنزلنا يوم المظاهرة ..لقد كان لطيفاً جداً معي ..وركبت في أول عربة تاكسي متوجهة لأمدرمان ..اقتحمت المنزل وأنا أنادي علي رقية ..بت يا رقية ..والدتي استيقظت من غفوتها التي تعودت عليها منتصف نهار كل يوم ..( سجمي ..مالك بتكورك يا قصي ..؟! ) ..لا أبداً يا أمي ( ما في حاجه ) ..وهُرعت رقية أيضاًُ وقد بدا عليها الإنزعاج الشديد .. الحكايه شنو يا قصي ؟ ..المصحف الصغير ..المصحف الأخضر حق الوالد الله يرحمه ..هل رأيته قريباً ؟ ..لا والله يا قصي ..إذن ..هيا أمامي نبحث عنه ..وظللنا حتي مساء ذاك اليوم نخرج جميع محتويات الحقائب ونعيدها إلي مكانها دون جدوي .. وحولنا المنزل إلي بؤرة للفوضي والارتباك ..يجب أن أعثر علي ذلك المصحف يا رقية فقد وضعت بداخله بطاقة ذلك السيد الذي اهتم بي يوم المظاهرة .يووم ..يووم زواج امتثال ..هل نسيتي ..نعم ولكنني وصلت درجه من التعب ..خلينا نؤجل الموضوع حتي الصباح ..ومع خيوط الفجر الأولي بدأنا رحلة البحث من جديد ..هذا هو ..الحمد لك يا رب ..قبلّت المصحف وأخرجت منه ( كرت ) ذاك السيد .. سالم عبيد التهامي .. شركة التهامي للاستيراد والتصدير ..الخرطوم ..يا الله .. ستكون يا عماه أول من أقصده هذا اليوم ..ووقفت حائراأمام المبني الضخم المكون من أربعة طوابق واللافتة المهولة وذاك الحشد من العربات وقد أخذت موقعها في جراج الشركة .. استوقفني أحدهم ووجهني نحو مكتب الاستقبال ..من هنا يا شاب ..لم يتحمس موظف الاستقبال كثيراً ولعله لم يشعر بوجودي أصلاً وظل منهمكاً في الرد علي الهاتف القابع أمامه ..وأخيراً رفع راسه ونظر نحوي ..نعم ..أي خدمه ..في الواقع أود مقابلة السيد سالم ..الأستاذ سالم .. ليقول لي أنه غير موجود أو أنه خارج الشركة لحضور اجتماع هام كعادة بعض موظفي الاستقبال وليس جميعهم بالطبع .. وقبل أن يكمل كلامه ناولته ( كرت ) السيد تهامي ..وقف علي أرجله ورحب بي ..عموماً أخليك تقابل السكرتيرة وهي مؤكد ستُعني بك ..اتفضل ..لكن الأستاذ تهامي خارج السودان ..زيارة قصيرة للقاهرة ومنها للأراضي المقدسة لأداء العمرة ..أترك لي اسمك ورقم تلفونك لو سمحت وسأتصل بك حالما يعود الأستاذ سالم من الخارج ..أمليت عليها اسمي ..والتلفون ؟ .. لا نملك تلفون بالمنزل يا آنسه ..ولكن خذي هذا الرقم ..هو رقم صاحب البقالة المجاورة لمنزلنا ..وغادرت المكان وأنا ما بين الرضا واليأس .. لكن لا بأس من الانتظار بضعة أيام علي الأقل نستكمل فيها الاستعداد لمراسم زفاف شقيقتي رقية وقد تبقي له بضعة أيام ..وما أن ترجلت من عربة التاكسي حتي صاح جابر صاحب البقالة بأعلي صوته .. قصي ..قصي .. تلفون عشانك .. معقول بالسرعه دي ..لكنك أعطيت هذا الرقم لكل الزملاء وقد يكون أحدهم ..وكان المتكلم ( مي ) وقد ران علي صوتها شيء من الحيرة والإحباط .. قصي ..إنت وين ..؟ والدتي بالمستشفي منذ أول أمس ..فقدت الدفتر الذي قيدت به هذا الرقم واليوم وجدته .. اي مستشفي ؟ ..المستشفي العمومي بالخرطوم عنبر الباطنية حريمات ..طيب طيب أطمئني .. سأحضر حالاً ..ولو سمحت كلم معاك أدروب .

عبدالغني خلف الله
18-07-2010, 07:56 AM
الحلقة العاشرة
إلتقطت أدروب من مكتبة المجلس البريطاني وكان قد انضم لكل من عصام القادم من سفوح كردفان ونسرين الواحة كما يسميها ..وإذ يسترسل في أوصافها ويتغني باسمها تصاب ( سلافة ) بالاستياء الشديد ..إيه يا سلافة ..تسافرين وتتزوجين وأين ..؟ في آخر الدنيا ..ونحن ألا نساوي لديك شيئاً ..هذه الجامعة اشبه بالحياة ..دخولها مثل يوم وضوعك ومغادرتها مثل موتك ..كلاهما رحيل محزن .
كان ثلاثتهم قد انتهوا للتو وخرجوا إلي الشارع بانتظار حافلة تقلهم لوجهتهم الثانية وقد دخلوا في جدال شديد أثار فضول المارة ..لا يا عزيزي ..لا يوجد ملك لا يتحدث الإنجليزية بطلاقه ..هذا التفسير خاطيء ..أها ..حضر شكسبير شخصياً ..أدروب يعلق وكان أول من شاهدني ..عينا أدروب تلتقط الأشياء في جميع الاتجاهات ..لعلها ضرورات البقاء والاستمرار في الحياة في بيئة صعبة هي من جعلته قوي الملاحظة حاضر البديهة ..مالكم تتحدثون بصوت عالٍ وكأن بينكم ثأر ..الموضوع باختصار شديد نريد أن نعرف عبارة ( أوكي ) إختصار لماذا ؟ ..أولاً الحرف ( أو ) لا وجود له وما يقرأه ويستخدمه الناس في كل مكان هو العدد ( زيرو ) .. صفر يعني ..أما ( الكاف ) فهو اختصار للكلمة الإنجليزية ( كيلد ) أي قُتل..وبذلك تصبح العبارة ( أوكي ) إختصار ل( عدد القتلي صفر ) ..لا .. لا يا قصي ..أنت تمزح ولا ريب ..يعني أنا لما أكتب جواب لحبيبتي وأقول ليها ( يجدها أوكي ) ..معناه أنا بكتب ليها يجدها عدد القتلي صفر ..أدروب يحلل المشكلة ..إنت شارب حاجه كدا ولاّ كده يا قصي قبل ما تجي هنا ؟ ..لا شارب ولا حاجه ..المهم ده ما الموضوع الأنا جاييكم بخصوصو ..اتصلت ( مي ) من المستشفي ..مستشفي .. مستشفي ياتو ..وين .زشنو ؟!..أدروب وهو يقاطعني بنوع من الهستريا ..قول بسم الله الرحمن الرحيم يا أدروب المريض أمها وليس هي ..الحمد لله ..رايكم شنو نمشي ليهم في مستشفي الخرطوم ..باطنية حريمات ..( أوكي ) .. نسرين وهي تحاول أن تعيدنا للمربع الأول ..سألنا إحدي الممرضات عن العنبر الذي ترقد به والدة ( مي ) فاشارت لنا إلي مكان قريب لا يبعد سوي خطوات فقط ..توجهنا نحوه دون إبطاء وعند الباب وجدنا شاباً في مقتبل العمر وهو يتلصص علي ( مي ) ويرشقها بنظرات مسمومة تنضح اشتهاءاً ..بتعمل في شنو هنا يا زول ..؟ وبخته وبخشونة متعمدة ..لا أبداً ..منتظر زجاجات العصير الفارغة من البت ديك .. تقصد ( مي ) .. بالضبط ..كانت تجلس بالقرب من والدتها تسقيها بعض الحساء بمعلقة وظهرها نحو الباب ..الشيء الذي مكن ذلك المعتوه من رؤيتها دون أن تلحظ ذلك .. أهلين بالشباب ..أدخلوا ..كفاره ..إن شاء أجر وعافية يا حاجه ..كتر خيركم وبارك الله فيكم قالتها وهي تقاسي آلاماً مبرحة في بطنها .. سلامه إن شاء الله ..عدت لمراقبة ذلك الشاب ووجدته وقد تجمد في مكانه ..أدخل يا سمير ..ديل زملاي في الجامعة ..عليك الله هات لينا حاجه بارده بسرعه ..حاضر يا ( مي ) ..القزاز الفاضي ..أيوا ..أهو هنا ..اتفضل .. ده سمير راقد مع أبوه في العنبر الجنبنا ..ود حلال خلاص ..( مي ) تعرفنا عليه .. يجيب لينا الدوا من الصيدليه وياخد العينات للفحص .. أمي بتقول ليهو شكراً يا سمير الأمير .. أمير أم خطير ..يا لطيبة قلبك يا ( مي ) ..لا تثقي به ..أرجوك لا تثقي به ..قلت لها ونحن نغادر ..حصل شنو يا قصي .. قلقنني ..المهم لم أشعر بالارتياح نحوه ..خلاص اتفقنا ..تكوني حذره في تعاملك مع هذا الشاب ..اتفقنا ..إتفقنا ..وإنتي عامله كيف مع الإجازه ..أهو ..بدي تلاميذ الثانوي الموجودين في الجوار حصص إنجليزي ..بختك ..مقرشه يعني ؟ ..لا والله .....( تضحك ) .. دروس تقوية مجانيه .

توجهت إلي الجامعة لأري إن كانت ثمة رسالة من علياء .بيد أن موظف البريد أخبرني بأنه لا رسالة لي ..وفيما كنت أغادر صاح ورائي ..مهلاً مهلاً ..أظن أن هذه الرسالة تخصك ..من المملكة المتحدة علي ما أظن ..بل هي كذلك ..أنظر ..أنظر إلي الطوابع ..شكرته وحملت الرسالة ولا أدري لماذا توجهت وبصورة لا إرادية نحو مقعدنا الأثير بذاك الركن البعيد ..كان الهدوء يلف المكان ولا شيء يسمع سوي أزيز الريح وصوت الأوراق الجافة التي تساقطت من أشجار المهوقني العملاقة تلك وحذائي الثقيل يضرب في ثناياها في تتابع رتيب ..(عزيزي قصي .. من أين أبدأ وكيف بوسع هذه الوريقة المسكينة تحمل ما يجيش به فؤادي من أشواق وفقد مريع لشخصك الغالي ..لم أعرف بأنك مهم بالنسبة لي إلا بعد أن فقدتك وافتقدتك في هذه المدينة الخضراء .. في البداية أصابني نوع من الدهشة والإنبهار وأنا أتجول في هذا العالم الجديد ..لكنني حين أنظر إلي أسفل الخارطة مروراً بالبحر الأبيض الموسط والصحراء الكبري ..اشعر وكأن المسافة ما بين لندن والخرطوم قد أصطبغت بالدموع والآهات والشجن ..والمدي الرابض يطلعني علي مآلاته المستعصية وشموخه المريب في وجه مسكنتي وضعفي ووحدتي آناء الليل والنهار ..هل أقول أحبك ..أم أقول أموت لأجل أن تكتحل عيناي ولو للمحة واحدة من محياك البهي .. هل تصدق بأنني أذبل وأتلاشي كل صباح كالجذر وقد منعوا عنه السقيا ..وأشعر بالخوف والبرد والمطر المثابر بتوقيعاته المنقطة علي صفحة نافذتي الزجاجية يشعرني بالتعاسة والندم ..ولولا ..) ..لم استطع أن أكمل بقية الرسالة التي كانت صعبة وفوق طاقة كل احتمال ..وذهبت مباشرة إلي ذيل الرسالة حيث ..ملحوظه :أود أن أخبرك بانني التقيت الدكتور جلال صدفة وهو يهيم علي وجهه في طرقات لندن بعد أن اكتشف بأن هيلين وابنتيه قد غادروا انجلترا إلي جهة غير معروفة ..وقد أوصدت أسرتها الأبواب في وجهه وطلبوا منه أن لا يحاول رؤيتهم مرة أخري..وهو يعد العدة للسفر إلي أمريكا بعد أن علم من إحدي صديقاتها المقربات بأنها ربما تكون قد سافرت إلي هناك .
ألهذه الدرجة يا علياء تشتاقين شخصي الضعيف ؟ ..فلو أخبروني قبل بضعة سنوات بأنني كإبن للطبيعة العذراء بالريف وتواضعه الجم سألفت مجرد خادمة بعمارات الخرطوم لما صدقت ناهيك عن هذه المترفة الباسقة الباذخة علياء ..وللمرة الثانية تكون كلمتنا مسموعة ..وهل تسمي استمالة علياء وحبها لك بأنه انتصار ورد اعتبار للذات ..لا سيدي أرجوك لا تتدخل فيما بيني وعلياء إنما أقصد تجليات العرس الكبير لشقيقتي رقية من كمال إبن الجيران ..ولماذا لا تقول شقيق امتثال ؟ ..حسناً شقيق امتثال ..هل ارتحت يا هذا ..المهم تمت مراسم العرس وفق تقاليدنا نحن وليس تقاليد الخرطوم عرس قروي بكل تفاصيله المفرحة ..( الجرتق وفتح الخشم والسيره مرقت عصر والغناء الجميل الذي يدعو للقيم السمحة قيم الشجاعة والإقدام ( ويا مقنع الكاشفات البدرج العاطلات )..مشوا وين ديل ؟! ..فقد حضر الأهل من البلد وأثاروا الفوضي الخلابة والرعب الجميل في طرقات الحي ..( العرضة والبطان ..وأبشر ..أمباشر ) ..لا ليس ( مباشر ) التي تكتب في زاوية الشاشة البلورية ..إنها البشريات والدعاء العريض ( تغلبك بالمال وتغلبها بالعيال ..أم العكس الصحيح ..تغلبك بالعيال وتغلبها بالمال ) هذا طبعاً إن سمحت سياسات الحكومة في التقشف وشد الأحزمة علي البطون ..لكن شخصاً ما غاب عن المهرجان الأنيق وقد مثل غيابه علامة استفهام والإجابة عندي أنا ..فقد غادرنا إبن عمي المعتصم بالله قبل يوم من الخطوبة وانتقل للسكن بأحد الفنادق وتغيب أيضاً عن العرس ..ياااه ..ألهذه الدرجة أحببت رقية شقيقتي .. لكن يا صديقي العزيز للقلوب منطق يستعصي علي الفهم وهي من تقرر وقراراتها لا تقبل الاستئناف .
غادرت والدة ( مي ) المستشفي فوجهت لنا دعوة لحضور ( الكرامة ) ..توجهنا أنا وأدروب إذ لم نتمكن من إخطار البقية وكان وصف المنزل سهلاً كأي منزل يرتبط برقم محطة مواصلات أو إسم محطة باص ..والذي غالباً ما يكون اسم أقرب وجيه من وجهاء المنطقة أو منشأة مثل البيارة والمسجد والمدرسة أو الصيدلية ..دلفنا إلي المنزل فاستقبلنا الملازم ( سراج ) والذي حضر علي عجلٍ في إجازة قصيرة من الجنوب للإطمئنان علي صحة والدته ..كان شاباً رائعاً ..منفتحاً ومثقفاً بعكس الصورة النمطية التي ارتسمت في اذهان الناس عن ضابط الجيش والذي تعني الحزم والقوة والجسارة ..تناقشنا حول مشكلة الجنوب وسير اتفاقية ( أديس أبابا) فعلمنا منه بأن الأمور تسير علي ما يرام علي الأقل حتي هذه اللحظة بيد أن الأجواء في أفريقيا تظل دائماً ملبدة بالغيوم ..غيوم المطر وغيوم السياسة .. سلمنا علي ( مي ) في باحة المنزل المخصص للعائلة إذ لن يسمح لها بالحضور لنا بالطبع حيث نحن ..هكذا تقضي تقاليدنا حتي وإن أضحت المرأة رئيسة وزراء ..لكن ما أزعجني وأصابني بنوع من التوتر الشديد وجود ذلك الشاب الذي ضبطناه وهو يسترق النظر نحو (مي) بالمستشفي المدعو ( سمير ) وما أغاظني أكثر تعامله مع الجميع وحتي النسوة وكأنه فرد من أفراد العائلة .. يحمل الطعام ويعود بالأواني الفارغة ..وهات يا سمير وجيب يا سمير وهو يتحرك كالطوربيد لا يكّل ولا يمّل ..حاول أن يقدم لي زجاجة كولا بعد الغداء فقلت له معليش أنا صائم ..ففهم بأنني لم أعد أطيقه فعاد بها ووضعها في الصندوق المخصص لها ..المهم قدمت الدعوة ل( سراج ) شقيق ( مي ) لزيارتنا بالمنزل ووعدني بأنه سيزورنا مع الحاجة وشقيقته ريثما يقل عدد الضيوف والزوار الذين يأتون كل يوم فرادي وجماعات

وفي زحمة تلك التفاصيل اليومية المرهقة تذكرت إبن عمي المعتصم بالله ..ذهبت إليه بالفندق الذي يقيم به وقلت له.. ما تقوم به يا أخي عيب علينا وعليك ..كيف جاز لك اتخاذ موقف كهذا مني ومن بيت عمك ومن الأسرة كلها لمجرد أن الحظ لم يكن حليفك مع شقيقتي رقية ..وأنت تعلم بأن الزواج قسمة ونصيب ..قال لي إنه لا يود السكن معنا حتي لا يضايق رقية وعريسها ..فإذا كان هذا هو السبب فأعلم بأن رقية تقيم مع زوجها بمنزلهم الجديد منذ عودتهما من شهر العسل ..لم أترك له أية فرصة ليتملص من الذهاب معي ..حملنا حقيبته وتحركنا بعربته عائدين للمنزل ..وفي لحظة دخولنا علي الوالدة كانت رقية وعريسها يسأذنان في الإنصراف لبعض شأنهما ..تجمدت عيناه في وجه شقيقتي ..وصافحه كمال ببرود شديد ..مبروك ..خرجت من فمه بصعوبة شديدة وهمهمت رقية بكلام غير مفهموم ..ثم مالكم واقفين ..؟ ما تدخلوا الحاجة الوالدة وقد سرتها عودة المعتصم .

ربيحة الرفاعي
18-07-2010, 04:07 PM
عجيبة تقلبات القلوب
ولقاءات المقسوم منها فيما يبدو من الظروف صعبا

إضاءات مميزة على دواخل النفس البشرية وتعاريجها ؟؟؟

نتابعك بشغف

عبدالغني خلف الله
18-07-2010, 09:14 PM
وأنا أسعد بمتابعتكم وكل أعضاء المنتدي وضيوفه لا سيما عندما تكون المتابعة بهذا القدر من الفهم العميق والانفعال ..دمت لنا بهذا التوهج مع أصدق أمنياتي لك بموفور الصحة والعافية ابنتي ربيحة .

عبدالغني خلف الله
18-07-2010, 09:27 PM
الحلقة الحادية عشرة
أسعدني هذا الإنجاز الرائع فتوجهت نحو الجامعة التي فتحت أبوابها من جديد منذ ما يقارب الأسبوع بمعنويات عالية ..فأنا عاطل بتقدير ممتاز وقد أوصدت كل الأبواب في وجهي ومع كل اصطفاق باب أزداد قوة وصلابة وأنا مقتنع بأن الأمور ستؤول للأحسن في نهاية المطاف ..فكرت في الذهاب إلي هناك لأطمئن علي طارق الكردفاني وأين وصلت إعاقته نتيجة حادث المرور يوم أن هُرعنا ب(نسرين ) للمستشفي ..وجدتها وهي تدفعه أمامها علي كرسي متحرك لتعيده للداخلية بعد نهاية المحاضرات ..استوقفتهما وسلمت عليهما بمحبة حقيقية ودعوتهما علي كوب من الشاي بالكافتيريا ..ومن ثّم جلسنا ونحن نستعيد ذكريات السنين الماضية وأخبار أفراد المجموعة الذين تفرقوا في أركان الدنيا الأربعة ..سلافة وقد هاجرت إلي أمريكا مع زوجها القنصل السوداني بسفارتنا بواشنطن ..وعلياء التي تدرس بلندن وأدروب الذي لا نعلم عنه شيئاً منذ ( كرامة ) والدة ( مي ) ..لعله قد سافر إلي كسلا .. بيد أن نسرين الرائعة أو (الواحة ) كما يسميها عصام قد أصبحت بالنسبة له واحة حقيقية بكل ما تحمله هذه المفردة من معامي .. تأتي كل صباح تنتظره أمام داخلية الطلاب تدفعه أمامها بكرسيه المتحرك حتي باب قاعة المحاضرات لتأخذه نحو أي ركن تذاكر معه مقررات السنة الرابعة ثم تعيده للداخلية ..هذا السلوك المستغرب لفت إنتباه العديد من طلاب الجامعة وهذه الجميلة تدفع أماها هذا المُقعد كل يوم ذهاباً وإياباً ..الطلاب القدامي يعلمون تفاصيل الموضوع أما الطلاب الجدد فيتعجبون من إخلاص ووفاء نسرين خاصة بعد أن علموا بأنه لا قرابة بينهما وإنما ذاك الإحساس الصافي إحساس العاشق المدنف.. الطبيب وعدني بإزالة الصفائح المعدنية من أرجلي في غضون ستة أشهر وربما يكون بإمكاني الوقوف من جديد ..لا بل ستقف وأنت بكامل الصحة واللياقة البدنية يا عصام بإذنه تعالي .

زارتنا ( مي ) وشقيقها سراج ووالدتها بمنزلنا وكانت فرحة أمي بهما جدُ عظيمة ..فمن ناحية ها نحن نتعرف علي أصدقاء جدد ومن ناحية أخري سحرت ( مي ) والدتي بروحها العذبة وأناقتها المفرطة وعفويتها ودماثة خلقها ومرحها الذي لا ينقطع ..ضحكت أمي كما لم تضحك منذ رحيل الوالد رحمه الله ..وقامت فنضحت عليها شيئاً من زيت السمسم ودلكت لها ظهرها وأرجلها وهي ترسل التعليقات المضحكة .. باختصار شديد حولت ( مي ) منزلنا إلي عالم من الفردوس ..ولدي مغادرتهم لنا بكت أمي وكأنها تودع فلذة كبدها فعادت مي من جديد إلي الداخل وطلبت من شقيقها أن يذهب بأمهم للمنزل وستوافيهم عند الغروب ربما معي أو مع ( سراج ) وتركنا الموضوع حسب ظروف كل منا ولم تستبعد ( مي ) قضاء الليل معنا إذا لزم الأمر ..لكنني أخذتها بعربة تاكسي حيث منزلهم ولدي عودتي أخذتني الوالدة في برنامج امتد لثلاث ساعات وهي إما تثني علي ( مي ) أو تلمح إلي أنها العروس المناسبة لي ..وربما كانت تلك هي أيضاً رغبة والدتها والتي أكثرت من ترديد بعض العبارات ..( إن شا الله ما نتحرم منك يا رب ..إن شاء الله تبقي لينا عرفه لأبد الدهر ..) .لكن الشيء الذي لا تعلمانه أن هنالك شخص ما يموت من أجل إيماءة واحدة من الساحرة ( مي ) ..إنه الصديق العزيز ( طارق أدروب ) .
لم يمكث( سراج ) طويلاً لقصر إجازته فعاد إلي الجنوب وهو يوصيني علي والدته وشقيقته .. قال لي ..والله يا قصي البت دي ما قاعده تقرأ ..كل همها الاستماع لبرامج الطهي بالتلفزيون ومحاولة تقليدها ..مرضتنا مرض بأكلات ما أنزل الله بها من سلطان وفوق ده كلو أرهقتنا مادياً .. فليتك تشجعها علي المذاكرة حتي تمضي قدماً بالجامعة وأنا في الواقع أشعر باطمئنان شديد عليها وهي ضمن مجموعتكم .. لكن وبعد مضي أسبوع واحد علي مغادرته التقينا أنا وأدروب في الجامعة ورحنا نبحث عنها وعن نسرين وعصام ..عثرنا عليهما وكانت نسرين توشك أن تدخله قاعة المحاضرات فأقترح علينا أن نذهب للكافتيريا لتناول بعض الساندوتشات علي أمل أن تنضم إلينا ( مي ) في أية لحظة ..وكان أدروب يلتفت بين الفينة والأخري باتجاه البوابة لعله يلمح قوامها الفارع يتقدم نحونا ..مضي الوقت بسرعة واقتربت مواعيد المحاضرة التالية ..التفت لأجد أحد الطلاب وبيده صحيفة وعنوانها الرئيسي يقول ( مقتل طالبة جامعية بواسطة مجهول والشرطة تحقق ) ..في البداية لم أكترث للموضوع لكن هاجساً ما ألحّ عليّ إلحاحاً شديداً لكي استعير تلك الصحيفة لأعرف كنه القضية ..استأذنته فناولني لها بلطف وهو يتهيأ للمغادرة وقال لي بإمكانك الاحتفاظ بها فقد إنتهيت من قراءتها ..بدأت أقرأ في تفاصيل الخبر لأجد أن الضحية هي ( مي ) شخصياً .. وقفت وأنا أترنح من هول الصدمة وأردد ( يا إلهي ..يا إلهي ) ..واستندت علي جزع شجرة قريبة من المكان ..أتأوه وقد التف حولي نسرين وأدروب يستوضحان الخبر ..لكنني تذكرت أدروب وما يمكن أن يحدث له فيما لو أخبرته بحقيقة الأمر..لا ..لا ..الموضوع وما فيه أن ( مي ) تعرضت لحادث بسيط وعلينا التحرك فوراً ..في أي مستشفي يا قصي ؟؟!!!..اي مستشفي ..مستشفي ..يبدو أنها قد أسعفت وأعيدت للمنزل يا أدروب ..هيا تحركوا .
وصلنا إلي هناك وعندما توضحت الصورة أمام ( أدروب ) ونحن نرفع إيدينا بالفاتحة ونسرين تجهش بالبكاء وتذوب وسط جموع النسوة لم أتمالك أنا نفسي أيضاً فبكيت بصوت عالٍ وكذلك فعل عصام ..حاول الحاضرون بالمكان تهدئتنا بطريقتهم الخاصة وهم يطلبون منا الصبر والاستغفار ويرفعون معنا الفاتحة ..تهاوي ( أدروب ) نحو جدار المنزل ودفن وجهه في كفيه ..أخذته بالأحضان وأنا أبكي .. بيد أنه ظل ساكناً وهو يرسل نظراته نحو البعيد البعيد ..سألت أحد أقربائها عما حصل فقال لي لقد وجدها تلاميذ الثانوي العالي الذين تعطيهم دروس تقوية ملقاة داخل المطبخ والسكين مغروزة في صدرها وهي تسبح في بركة من الدماء .. جُن جنونهم وخرجوا إلي الشارع يصرخون وهم في حالة مزرية من الرعب والارتباك ..جاءت الشرطة وأخذت الجثة للتشريح وواصلت تحرياتها وقد سمحوا بدفنها بعد ذلك حيث واريناها الثري في حوالي التاسعة أما الحادث فقد وقع عصر أمس ..لم نلبث قليلاً حتي وصل سراج وكان رابط الجأش قوي الجانب واستقبل المعزين وهو يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ومن ثمّ ازدحم المنزل بعدد كبير من ضباط الشرطة بعضهم زملاء لسراج جاءوا لتعزيته وآخرون من المباحث الجنائية وفي خضم تلك المأساة لمحت (سمير ) وهو يركض نحو سراج يحضنه بقوة ويبكي ..ومن ثمّ بدأنا في نصب سرادق العزاء ومعي بعض أبناء الحي وجنود الشرطة وكان سمير أيضاً يعمل معنا ..قرأت ملامحه ولاحظت أن ثمة خدوش جديدة خلف أذنه اليسري وأنه لا يستعمل يده اليمني وهو يساعدنا في شد الحبال وإنما يحركها بصعوبة شديدة ..تذكرت في تلك الحظة صورته وهو يتلصص علي ( مي ) بالمستشفي ..أيكون هو الفاعل ؟!! ..إنتحيت بسراج جانباً وعبرت له عن شكوكي بهذا الشاب ..في البداية لم ترق له الفكرة ولكنه عاد وأقتنع بكلامي ..لاسيما أن الشرطة قد عثرت علي بصمات الجاني في منضدة بالبهو الخارجي القريب من المطبخ وقامت بنقلها وتحفظت عليها كما أن السكين التي عثرت عليها الشرطة مغروزة في صدرها قد تكون مفيدة فيما لو تم القبض علي المشتبه به وأخضع لطابور استعراف بواسطة الكلب البوليسي .. أرسلت نسرين في طلبي لتخبرني بأن والدة ( مي ) بالمستشفي بالعناية المكثفة ..فقد عادت من الجيران لتصطدم بالتلاميذ وهم يصرخون ويولولون فما أن رأت ابنتها في تلك الحالة حتي أغمي عليها ونقلت بسرعة للمستشفي حيث لا تزال هناك ..طلبت منها أن تذهب مع عصام لأن سراج استبقاني لأحكي روايتي للمحقق و( أدروب )لا يزال يلتزم الصمت وهو غائب تماماً عن كل ما يدور حوله من هول الصدمة التي تلقاها لدي وصولنا للمنزل ..وكان من الممكن أن يصاب بالسكتة القلبية لولا أنني مهدت للخبر بقصة الحادث البسيط .. دون المحقق أقوالي وملاحظاتي وتم القبض علي سمير دون تردد .. في البداية حاول الإدعاء بأنه سيساعد الشرطة في إلقاء القبض علي قاتل ( مي ) ..ثم أصابته هستريا مفاجئة وهو يردد ..ما قتلتها ..والله العظيم ده ما أنا ..سراج قال له نحن نريدك كسشاهد لا تخف .. قبلقليل قصي أدلي بشهادتو .

عدت للمنزل وحاولت أن أنقل الخبر للوالدة بأقل ضرر ممكن حتي لا تلحق بوالدة ( مي ) وهي التي أحبتها ربما أكثر منها ..نقلت لها الخبر بالتقسيط وانتقلنا لتمضية أيام العزاء بمنزلهم كأي فرد من أفراد أسرتها ووصينا المعتصم ليأخذ حذره من اللصوص والمحافظة علي ممتلكاتنا علي قلتها .
أخضعت الشرطة ( سمير ) لتحريات في غاية الدقة ..أخضعته للكشف الطبي لتكتشف أن كتفه اليمني مخلوعة وثمة خدوش وكدمات خلف أذنيه وفي صدره ..وذلك بانتظار تقرير المعمل الجنائي حول مضاهاة البصمات التي عثرت عليها الشرطة في كوب العصير مع بصمات أخذت له وذلك قبل أن تخضعه لطابور الاستعراف البوليسي مستعينة بسكين المطبخ وثمة شيء آخر هو العثور في أظافر ( مي ) علي مزق صغيرة من الجلد وبها بقع دماء صغيرة جداً أرسلت هي الأخري للفحص مع عينة من دمه ..وجاءت كل تلك البينات لتعضد إتهامه بقتل ( مي ) فما كان منه إلا أن انهار واعترف بجريمته البشعة وحكي للشرطة كيف أنه حاول اغتصابها في ظل تواجدهما مع بعضهما البعض لوحدهما وأنها انفلتت منه وركضت صوب المطبخ وأخذت السكين لتدافع بها عن نفسها لكنه تمكن من أخذها منها ومن ثم طعنها بها في صدرها وغادر مكان الحادث لتغيير ملابسه التي راشتها بعض البقع الصغيرة من الدماء .. أخذته الشرطة إلي منزلهم وعثرت علي تلك الملابس مخبأة داخل خزانة الملابس .
تحسنت حالة والدتها واستيقظت من غيبوبتها ..وكم كان لافتاً حضور والدة ( سمير ) للمأتم وإصرارها علي البقاء حتي بعد أن تكشفت الحقيقة ..أعيدت والدتها للمنزل لتواجه عاصفة من البكاء من قبل قريباتها ونسوة الحي ..وأجهش بالبكاء كل الحاضرون ..الرجال والشيوخ وحتي الأطفال فقد كانت ( مي ) ..محبوبة لدي الجميع وفقد سراج وقاره المصطنع وتجمله ليحضن أمه وهو يردد ( مي يا أمي ..مي الغاليه ..آآآه يا مي ) أبعدته عنها بقوة حتي لا تنتكس حالتها وحمداً لله أنه بكي أخيراً وإلا من يدري فقد تكون لعدم بكائه عواقب مرضية خطيرة ....خرجت أمها من ( الغيبوبة ) ليدخل ( أدروب ) في ( كوما) من نوع جديد .. فقد صام عن الكلام والأكل والشراب علي مدي يومين كاملين فأضطررنا لنقله للمستشفي حيث قام الطبيب بزرع غابة من المحاليل الوريدية في جسده المنهك ..وقال لنا إن المريض في حالة صدمة فظيعة وسنعمل علي استبقائه هنا لحين تحسن حالته .
عكفت علي ملازمته علي مدي شهر كامل دون جدوي فسمع أهله بالخبر وجاءوا من كسلا للأطمئنان عليه ..وكنت قد أخذتهم لتقديم العزاء لوالدتها ومن ثمً أقوم بأخذهم آخر المساء بعربة المعتصم لمنزلنا وظللنا علي هذا المنوال حوالي أسبوع كامل وفي النهاية يئس ذووه من استفاقته وقرروا نقله لأحد المشائخ بالمنطقة لمداواته بالطريقة البلدية المعروفة
* * *

عبدالغني خلف الله
19-07-2010, 01:53 PM
الحلقة الثانية عشرة
بذلنا جهوداً مضنية لتجاوز مأساتنا برحيل( مي ) والحالة النفسية المزرية التي وصل إليها ( أدروب ) ..وكان لا بد للحياة أن تستمر برغم تلك الغلالة الرقيقة من الألم التي توشحنا بها وبرغم الإدعاء الزائف بالسعادة وبأن كل شيء علي ما يرام .. كيف صبرنا وتماسكنا ؟! ..الله وحده يعلم كيف وكان علينا أن نستصحب ( مي ) في كل تصرفاتنا .. تلك الإنسانة الرائعة التي علمتنا الرقة والعذوبة وكأنها نسمة صيف مسافرة في سهل واسع ..ضحكاتها .. لمساتها .. كل ما فيها يلون أحلامنا ويُذهب أحزاننا وهمومنا .. وما أنفكت عبارات مثل ( كما قالت ( مي ) وكما قال ( أدروب ) تسيطران علي نقاشاتنا وبوحنا الخاص بالحب والحزن والفرح ..ومضي عام كامل علي رحيل ( مي ) ومرض ( أدروب ) أو بالأحري إنسحابه من الحياة ..وهاهي رقية تضع طفلة رائعة بلون البنفسج اسميناها دون تردد ب( مي ) ..وكانت الصغيرة العزيزة بمثابة البلسم الذي يداوي جراحاتنا ويزرع الإبتسامة من جديد في حياتنا .. وهكذا ودفعة واحدة صرت خالاً وعندما تتعلم ( مي ) الصغيرة الكلام سأعلمها كيف تقول ( خالو قصي عسل ..وخالو قصي حلو ) وما أحلاك وأجملك يا ( مي ) الصغيرة وتلك الابتسامة الملائكية تلون قسماتك الجميلة ..لا لم لم تضحك بعد لكنها حتماً ستفعل .. وكانت سعادة أمي بها لا توصف وكذلك عماتها لا سيما امتثال التي أدمنت المجيء إلي دارنا لتراها وتأخذها بين ذراعيها تهدهدها وتقبّلها في عيونها بالرغم من إنشغالها الدائم بالعمل في السوق وحضور إجتماعات الغرفة التجارية وأسفارها المستمرة ما بين القاهرة ودمشق والخرطوم ..لقد صارت أكثر أناقة وإشراقاً ..ولم يتبق إلا أن تحسم علاقتها بالدكتور جلال الذي ظل يتنقل من هذا البلد إلي ذاك بحثاً عن هيلين وابنتيه.. وأخيراً استقر به المقام بأمريكا وكان من قبيل الصدفة أن يكون هو والقنصل السوداني بسفارتنا بواشنطن زوج الرائعة سلافة أبناء دفعة واحدة منذ الثانوي العالي ..وذات مرة ذهبت لأكون مع عصام ونسرين بالجامعة لحضور نتيجة آخر العام ..وقلت لم لا أراجع البوستة عساني أجد رسالة من علياء رداً علي آخر رسالة بعثتها لها ..لم تعد تكتب لي بكثافة كما في الأشهر الأولي ..وأضحت عباراتها باهتة ومصطنعة .. أقلقني هذا الأمر ولكنني عزيت ذلك لانشغاله ابالتحصيل مع كثرة الواجبات المنزلية التي ترهقها بلا شك .. حسناً يا إبني بلي لديك رسالة ولكنها هذه المرة من واشنطن ..أخذت الرسالة بفرح غامر ..أخيراً تذكرتنا سلافة الغالية علي قلوبنا..غريب أمر هؤلاء الفتيات ..تجد الواحدة فيهن قريبة منك وأنتما تعيشان أوهام الحب والهيام وما أن تتزوج وتُرزق باطفال حتي تركنك علي جنب وتصبح بالنسبة لها أثراً من آثار الماضي لا أكثر ..فضضت الرسالة وقد وجدت فيها الكثير من العتاب والكثير من الأعذار والمقدمات والسؤال عن أحوالنا لا سيما ( أدروب ) فقد خصته بنصف صفحة كاملة .. ثم عرجت علي امتثال ووصول الدكتور جلال لأمريكا بحثاً عن ( هيلين ) وعبر زوجها وعلاقاته بالمؤسسات الرسمية خاصة مكاتب الجوازات والهجرة والشركاتن الأمنية قام بتكليف شركة متخصصة في البحث عن المفقودين مهمتها إجراء تحريات واسعة حول المهام التي تكلف بها .. وكانت مفاجأة لا تصدق عندما عثرت تلك الوكالة علي عنوان إقامة ( هيلين ) في مدينة جامعية تدعي ( ألباني ) حيث تعمل كمعيدة في قسم التاريخ بالجامعة ..توجه الدكتور جلال وزوجها وهي لمكان إقامتها .. كان لقاءاً صعباً وعاصفاً .. تقول سلافة.. وقد استطاع زوجها بدبلوماسيته المكتسبة وبمهنية عالية في التفاوض إقناع هيلين بالعودة للدكتور جلال علي الأقل من أجل الطفلتين اللتين استقبلتا والدهما بالدموع والأحضان وتشبثتا برقبته ترفضان حتي تناول الطعام خوفاً من فقده مرة أخري ..وانتقلنا إلي واشنطن لتوثيق شروط ( هيلين) بالعودة بطريقة مؤسسية ..وكان شرطها الوحيد هو طلاق نهائي لا رجعة فيه لزوجته الثانية ( امتثال ) وكلفت محام أمريكي لهذا الغرض ..وافق الدكتور جلال علي طلبها ووقعت وثيقة الطلاق المرفقة يا قصي بحضور السفير وزوجي كشهود مع تعهد الدكتور جلال بدفع تعويض مالي مجزٍ لرأب الضرر الذي سيلحق بها كونها مطلقة ..لا أدري لماذا انتفض شيء ما في داخلي لكنني كبحت جماحه بعنف حتي لا أعود لدوامة امتثال من جديد .. علي الأقل في هذه المرحلة ..تقول والدتي عندما نطلق في وجهها خبراً أخافها ..( قلبي قال شح ) .. أنا أيضاً قلبي أصدر نفس الصوت ويا له من نبض عجيب لا يأخذ إذناً من أحد .. حملت الخطاب لمكتب إمتثال ووجدتها في إجتماع صغير مع ثلاثة من العملاء المرموقين .. رحبت بي ترحيباً حاراً ودعتني للجلوس ..قلت لها هل استطيع التحدث إليك علي انفراد ؟ ..الموضوع في غاية الأهمية ..استاذن ضيوفها وغادروا المكان وعندما صرنا لوحدنا وبعد مقدمة طويلة ناولتها الخطاب ومحتوياته وهرُعت خارج المحل وعباراتها تتبعني ( قصي إنتظر .. قصي ما الأمر ؟!) لقد خشيت أن أكون شاهداً علي ثاني انكساراتها وهي في عصمة الدكتور جلال وتركتها لتواجه الواقع لوحدها

لم أر شخصاً يفرح ويبتهج بطلاقه كما فعلت إمتثال ..شقيقتي رقية تحكي لنا الحكاية ..قالت لي ..أخوك قصي قدم لي نهار اليوم أغلي هدية تسلمتها منذ أن ولدت .. فقد أرسل لي جلال صك حريتي عبر عنوان قصي بالجامعة من واشنطن .. تمنيت لو أنه انتظرني لأشكره وليشاركني فرحتي ..بيد أنه سلمني المظروف وولي هارباً .. ماذا كان يعتقد قصي بربك يا رقية ..هل كان يظن بأنني سأبكي وأهيل التراب فوق رأسي لمجرد أن الدكتور جلال طلقني ؟! ..كانت تتقافز كطفلة صغيرة من غرفة لغرفة وهي تمسك بكتف كل من تقابله وتضحك ضحكات هي أقرب للهستيريا وأخيراً هدأت واستكانت وبدا وكأنها تفكر في الخطوة التالية ..لكنهاعوضاً عن ذلك أرخت العنان لدموعها فتدفقت بغزارة وصدي تأؤهاتها يغادر غرفتها ليلفحنا في البهو الخارجي ..حاولت أن أذهب لأواسيهاوأخفف عنها لكن حماتي سامحها الله منعتني وقدمت لي الدروس والمواعظ كعادتها في التنظير اليومي مهما كان الموضوع تافهاً وبسيطاً ..أتركيها تسفح كل أحزانها وتغسل دواخلها من الألم الذي سببه لها الدكتور جلال عندما خدعها وخدعنا وأوهمنا بأنه غير متزوج وأخفي عنا حكاية زوجته البريطانية تلك ..حماتي هذه يا قصي تتكلم بكلام ( كبار ..كبار ..) ..في مره شفت ليها صور قديمه وهي ماسكه مايكرفون وبتخاطب في حشد من السيدات ومره لقينا في غرفتها قصاصات لجرايد قديمه ..سمعت أنها كانت صحفيه خطيره ..لكن ضعف النظر والذاكرة معاً منعاها من الكتابة مجدداً للصحف ..المهم يا زول أغتنمت ليك فرصة مغادرتها للصالون لتأخذ قسطاً من الراحة بغرفتها ..إمكن هي برضو عايزه تغسل ..تغسل شنو ؟! .. دواخلها يا رقيه ..ما حرقتي روحنا ..أها ..حصل شنو بعد دااك ..دخلت عليها فوجدتها وقد دفنت وجهها في الوسادة وهي تنشج في خفوت ..قلت ليها هل أدخل يا إمتثال ؟ ..يبدو أنها فوجئت بوجودي وأنا أقف فوق رأسها فنهضت علي عجلٍ وهي تكفكف دموعها ..اتفضلي يا رقيه ..ممكن طبعاً ..هل أنت حزينة لطلاقك من الدكتور جلال ؟! ..لا ..لا ..إطلاقاً ..أبداً ..لكنني حزينة علي العامين اللذين انصرما من عمري مع هذا الدعي الأجوف ..وحزينة أكثر لأنني ظلمت أخوك قصي ..لقد أحبني وأحببته ولكن طموحاتي وتطلعاتي في الحياة حجبا عني نور الحقيقة الساطع و بأنني ما خلقت إلا لقصي ..يعني أنك لا زلت تشعرين بشيء ما تجاه شقيقي قصي يا امتثال ؟ ..طبعاً وبعد مرور أول أسبوع علي زواجي من جلال .. لكنني كنت أكابر علي أمل أن أنساه ..وكنت أتمزق من الغيرة عندما أراه في الجامعة برفقة صديقتنا في الجامعة ..علياء ..هنا تدخلت لأمنعها في الاسترسال في الحديث بأكثر مما صرحت به ..وغادرت منزلنا بل وركضت باتجاه منزلهم ..طلبت من والدتها أن تدعوها لمقابلتي حتي أتفق معها علي كيفية استلام التعويض الذي نصت عليه وثيقة الطلاق .. تجهمتني ومصمصت شفاهها وكأنها تود أن تقول لي .. خرجنا من كابوس لندخل في آخر .
والآن يا امتثال ..هل صرت أحسن ؟! ..الحمد لله ..أحسن بكثير ..أريدك أن تحددي المبلغ الذي تطلبينه كتعويض حسب الاتفاق الموضح في الوثيقة ؟ ..لا أطلب شياً فليتركوني وشأني ..وكيف ذلك يا امتثال ؟ ..هذا حقك وقد ظلمك جلال عندما كذب عليك ..تكفيني حريتي ومرارة التجربة التي عشتها وبرغم مرارتها ستكون تجربة مفيدة لي في الحياة ..لكن هذا لا يجوز .. إذن تصرف أنت بالإنابة عني ..ألست جاري وزميلي في الجامعة و..و..أخي ؟! ..طبعاً ..طبعاً وهل يساورك شك في هذا ؟ ..إذن انطلق علي بركة الله ..أتمني ألاّ أخذلك ..أنت لا تخذل أحد ..أنا من يخذل أقرب الناس إليه باستمرار وأولهم أنت يا قصي ..سامحني ..أرجوك سامحني يا قصي ..أنا آسفه وأعتذر عن كل المعاناة التي سببتها لك ..لم أمنحك التقدير الذي تستحقه ولم أعرفك علي حقيقتك إلا بعد أن تهورت وتزوجت من الدكتور جلال ..لا عليك يا امتثال دعي كل شيء للمقادير وإن شاء الله يحصل كل خير ..فقط أريدك أن تستعيدي صفاء ذهنك لتعودي كما عرفتك وحفظتك ..البنت الشقية التي توترني وتفقدني صوابي .. ولن تضيع مني هذهالمرة مهما كانت الظروف ..بالجد يا قصي ؟ ..طبعاً .زاشعر بالرغم من كل شيء بأنك ستكونين لي في نهاية المطاف بإذن الواحد الأحد ..لقد أخجلتني قصي .. كفاك تُرهات ....ولدي باب منزلهم قالت لي وهي تودعني ..أنا آسفه يا قصي ..بالجد آسفه ..وإلي متي سنظل نعيش (فوبيا) الأسف هذه يا شجيرة صحرائي الوارفة الظلال وكل كيمياء التفاعل والتناوش قد عادت لتبحر في عروقي من جديد ؟!!!

* * *
باشرت إجراءات استعادة تعويض امتثال والذي تحدد لاحقاً بمبلغ خمسين ألف دولار خصماً علي حساب السيدة ( هيلين ) ببنك باركليز فرع لندن وقد ساعدنا السيد هاشم مندوب المنظمة لما لديه من خبرات في هذا المجال .. طلبت منه أن يوضح لنا الخطوات الواجب اتخاذها عندما حضر لنا ومعه الدعم الشهري وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع وصل المبلغ وعلي الفور وردته امتثال في حسابها ودعتنا بهذه المناسبة لنذهب كلنا ونتعشي في الفندق الكبير علي حسابها .. تحركنا في حافلة صغيرة ..والدتهاوشقيقتاها انتصار ونوال وشقيقتي رقية وزوجها كمال وطفلتهما ( مي ) وأمي وأنا .. تحلقنا حول المائدة المستطيلة التي رصت فوقها أنواعاً مدهشة من الطعام ..أكلنا ودردشنا وتبادلنا النكات والقفشات وتعمدت امتثال أن تجلس بقربي ..لكن ما أحزنني أنها كانت طوال تلك الأمسية تحدثني عن مشاريعها التجارية بعد هذا الدعم السخي الذي هبط عليها من السماء ولم تمنحني ولو حيزاً صغيراً لأقول لها .. يبدو أنني ..أنني ماذا ؟ ..أنا نفسي لا أفهم هذا الخليط من المشاعر الذي يعتريني تجاهها .. هل هو الجرح القديم وقد عاد لينزف من جديد ؟.. هل هو إحساس حقيقي بالحب الذي لم تنطفيء جذوته أبداً برغم أنها قد تخبو وتشتعل في كثير من الأحيان ..يا إليهي ساعدني لأفهم نفسي وشعوري تجاه امتثال حتي أدخلها في تجربة مريرة جديدة وأدخل نفسي كذلك ..عدنا لمنازلنا وشكرناها بحرارة علي تلك الدعوة الرائعة التي أعادت تماسكنا كأهل وجيران وبيننا الغالية المترفة ( مي كمال ) .
وكما توقعت .. هاهي امتثال تنخرط في عدد من المشاريع الجديدة وتسافر إلي الخارج ولا تلبث أن تعود لتسافر مرة أخري .. انتبهت لنفسي وتذكرت شركة التهامي التي أسقطتها من ذاكرتي عندما علمت أن الرجل خارج البلاد ..لكنني صممت أن أحاول مرة أخري .. إرتديت أجمل ما لديّ من ثياب وأخرجت بطاقته من المصحف الصغير الأخضر..مصحف المرحوم والدي والذي أحتفظ به كذكري غالية ومنبع تفاؤل ..أعدت المصحف لخزانة ملابسي بعد أن قبلته تبركاً وأملاً في أن أوفق هذه المرة فقد سئمت المكوث بالمنزل بدون عمل باستثناء تلك الأنشطة المحدودة في سوق المواشي مع ابن عمي المعتصم بالله ..دخلت علي السكرتيرة التي لم تسمح لي بالدخول وقالت لي عليّ أن أرتب لك موعداً أستاذ قصي مع السيد التهامي لأنه سيذهب بعد دقائق لاجتماع هام بالغرفة التجارية .. أترك لي رقم هاتف وانصرف حتي استدعيك ..كتبت لها الرقم ومددت يدي به إليها وفي هذه اللحظة أطل السيد التهامي وهو يتهيأ للمغادرة .. رفعت راسي لأقول له السلام عليكم ..فجاوبني بشيء من المرح والود أخافا السكرتيرة ..مش إنت بتاع المظاهرات ؟ ..اتفضل أدخل.. ثم من فضلك يا هناء إتصلي بالغرفة واطلبي منهم تأجيل الاجتماع لمدة نصف ساعه فقدط ..جلسنا علي الأريكة الفخمة بمكتبه .. ولم يجلس علي مكتبه بل جلس قريباً مني ..كان حنوناً وعطوفاً كما رأيته في زحمة المظاهرة ولم أنس قط أنه أخذني إلي كتفه لأبكي من شدة ألمي من زواج امتثال في ذلك اليوم المشئوم ..والآن كيف اساعدك ؟ ..بصراحه أنا أكملت الجامعة كلية الآداب تخصص لغة إنجليزية وترجمه وأبحث عن عمل لأتمكن من إعالة والدتي ..هذا ما كنا نبحث عنه بالضبط .. أنا لا أفهم كثيراً في اللغة الإنجليزية والشركات التي أتعامل معها كثيراً ما ترسل لي مناديبها هنا في الخرطوم فأضّطر لإحضار مترجم .. ومهنة المترجم تتطلب الثقة والدقة والأمانة من الأشخاص المتحاورين ..أليس كذلك ؟ ..طبعاً ..طبعاً .. ُيخيل لي أنك الشخص المناسب لهذه الوظيفة .. ثم نهض وقرع جرساً كان علي درج مكتبه .. حضرت سكرتيرته هناء فأمرها باستدعاء مدير قسم ( البيرسونيل ) علي وجه السرعة ..جاء الرجل علي عجل وهو يردد ..أمرك سيد تهامي ..أمرك سيد تهامي ..خذ الأستاذ قصي وأكمل له إجراءت التعيين بالشركة كمترجم وكن سخياً معه في المرتب وخصصوا له عربه ..ثم هل لديك رخصة قياده سارية المفعول ؟ ..نعم ..نعم ..فقد ساعدني إبن عمي المعتصم بالله علي تعلم القيادة واستخراج الرخصة ..حسناً أراك في
آخر اليوم.

عبدالغني خلف الله
20-07-2010, 06:37 AM
الحلقة الثالثة عشرة
وسرعان ما توطدت العلاقة بيني وبين سكرتيرة المدير هناء ..جاءت مع والدتها وإخوتها من ( جوبا) بعد أن تدهورت الأوضاع هناك قبيل توقيع اتفاقية السلام ..كان والدها تاجراً مرموقاً بالاستوائية وعاش سني شبابه كلها بالجنوب يتنقل من مدينة إلي مدينة ..وأخيراً استقر به المقام بمدينة جوبا وتزوج من سيدة جنوبية من قبيلة الزاندي وكانت هناء أكبر اشقائها وقد تلقت تعليماً جيداً ..بيد أنها أخذت من والدها لونها الأسمر الغامق ومن والدتها تضاريس قوامها وهي تميل إلي التحدث بعربي ( جوبا) الشيء الذي جعلها محبوبة لدي جميع الموظفين ..وبعد وفاة والدها ووالدتها باعت كل ماكان لديهم من أملاك وعادت تبحث عن جذورها بشرق النيل .. وكانت رحلة صعبة وقاسية فقد كاد أن يفقد والدها كل صلة له بعائلته الأم نتيجة لبعد المسافة وصعوبة التواصل في ذلك الزمان البعيد .. بيد أن الجد المتعطش لأخبار ولده الغائب منذ نيف وأربعين عاماً وجد في أحفاده وحفيداته رائحة إبنه الغالي الذي ما غادر مخيلته قط ..وكانت هناء صورة طبق الأصل منه .. أخذها إليه وضمها بقوة وقبلهم جميعاً الواحد تلو الآخر ..كان ميسور الحال ولديه تجارة رائجة بالسوق العربي ومع تقدمه في السن اصبح خارج إطار المناخ الاستثماري الجديد فساءت أوضاعه المالية وانسحب من السوق بما تبقي لديه من مال وأودعه إحدي البنوك يسحب منه متي ما يشاء .. ولم يخذله أبناؤه الآخرين الذين تلقوا تعليماً مميزاً وتقلدوا مناصب هامة في الدولة ..كانت فرحتهم بأطفال أخيهم عارمة وتسابق كل واحد منهم لضمهم إليه لكن الجد المستوحش بعد رحيل رفيقة عمره وصباه وجد فيهم السلوي والفرح .. فعادت الحياة تدب في أوصاله من جديد .. ضم ما لديه علي ما أحضروه معهم من مال واشتري لهم منزلاً لا يبعد كثيراً عن منزل العائلة وانتقل للعيش معهم إلي أن لاقي ربه وهو غرير العين مرتاح البال ..يااه يا هناء ..لقد استغربت لغتك العربية المكسرة لدي أول لقاء لنا وأنت تخبرينني بأن السيد التهامي خارج السودان ( سيد تهامي مسا كايرو .. بعدين هو مال بجي بعد إيد ..) .. ساعتها قلت يا لهذه البنت الغريبة .. ربما تكون قد عاشت كل حياتها بالجنوب ..( موسٍ كدا يا كي ) ..ياهو كدي قلت لها وأنا أحاول تقليد عربي ( جوبا ) .
لم يضيع السيد التهامي وقتاً لتجهيزي لوظيفتي الجديدة فوجه الإدارة بأن تنظم لي فترة تدريبية وزيارات لكل الأقسام حتي أتعرف علي أنشطة الشركة وطريقة إدارتها ولم أكن أراه كثيراً في تلك الآونة وبعد مضي شهر تقريباً طلب مني أن أحضر جواز سفري لأننا سنسافر إلي لندن ..لندن لندن ؟! ..سألته وقد أذهلتني المفاجأه ..أيوه لندن لندن ..لكنني لا أملك جواز سفر وإنما مجرد جنسيه ..لا بأس سلمها مع عدد من الصور الفوتغرافية لقسم العلاقات العامة ولا تقلق بشأن هذا الموضوع..لندن عديل ؟!! ..والدتي ورقية وزوجها كمال يسألون في تعجب ..أيوه ..رحلة عمل ..فاكرني ماشي أتفسح ..لا ..لكن يا وليدي بخاف عليك من ركوب الطيارات ..والدتي المرهفة وقد انخرطت في البكاء كعادتها ..لا يا أمي لن يحصل إي شيء بإذنه تعالي فقط أدعو لي بالعودة بسلام وبالتوفيق ..عافيه منك دنيا وآخره ..يا ربي ترجع بالسلامة .

لم أكن سيئاً في ترجمة أول اجتماع للسيد التهامي مع رئيس إحدي المؤسسات التجارية بلندن وقد عقد الإجتماع في أجواء رائعة بأحد الفنادق علي هامش عشاء عمل ..لكنني وبعد الاجتماع الأول والثاني صرت أتحدث الإنجليزية بطلاقة أدهشت الخواجات ..وكان كل واحد منهم يسألني ..أين تعلمت اللغة الإنجليزية ..ليتني أستطيع التحدث باللغة العربية بنصف مهاراتك في لغتنا .. وكان السيد التهامي يعقب قائلاً .. لقد تخرج من الجامعة ويحمل درجة البكالاريوس في اللغة الإنجليزية والترجمة ..أوو .. رائع .. لابد أن نظام التعليم الجامعي عندكم لا يضاهي ..وفي عطلة نهاية السبوع استأذنت السيد التهامي في الذهاب إلي أكسفورد لزيارة زميلتي في الجامعة علياء ..فقد اشتقت لهل ولأيام الجامعة وستكون مقاجأة لها وهي لن تصور بأن الفقير إلي الله قصي سيزور انجلترا ولا حتي في الأحلام ..نقدني سيد تهامي مبلغاًً لا بأس به وهو يقول قد تحتاج شراء بعض الهدايا ..فالناس هنا مولوعون بتقديم الهدايا وقلّ أن يزورك شخص لا يحمل في يده بعض الأزهار والحلوي .
تأملت الريف الإنجليزي من نافذة القطار السريع المتوجه من لندن لأكسفورد وقد تحولت الأرض الممتدة حتي حافة الأفق إلي بساط أخضر ..والبيوت ذات الأسقف الحمراء تناثرت في ثنايا الخضرة الفاغمة مثل ورود ندية ..غادرت القطار وتوجهت صوب الجامعة لأكتشف أنني في ردهات مدينة ضخمة وعالم من الحيوية لم أر له مثيلاً من قبل يتقاطع في جميع الاتجاهات ..اصابني نوع من الدوار وأنا أتحول من مكان إلي آخر أعبر الميادين الفسيحة وأصعد فوق الجسورالمعكوفة والمصنوعة من المواد المحلية فوق منظومة من القنوات الصغيرة ..وأخيراً وبعد أن فقدت الأمل في العثور عليها وقررت العودة لألحق بقطار الثانية ظهراً ..وجدت نفسي أمامها وجهاً لوجه وعلي بعد خطوات فقط وهي تجلس بجوار شاب ذو ملامح مغربية وقد أسندت راسها علي كتفه وهو يمسد شعرها ويدغدغ كفيها .. تجمدت الدماء في عروقي وبت غير قادر علي التقدم خطوة إلي الأمام أو إلي الوراء .. قررت الانسحاب وبسرعة قبل أن تراني ولكنني وقبل أن أبدأ في التحرك التقت أعيننا للمحة عابره ..انتزعت نفسها من بين أحضانه ورأتني وأنا أركض مبتعداً عن المكان باتجاه محطة السكة حديد .. ركضت خلفي ولعلها خمنت بأنني من يركض وعند التفاتتي نحو الخلف في زاوية من المبني الرئيسي للجامعة تأكدت لها شكوكها فصرخت ورائي وهي تهتف ( قصي ..توقف ..أرجوك توقف ) ..لكنني واصلت الركض باتجاه محطة السكة حديد وكان رفيقها يحاول اللحاق بها أيضاً .. انفلت منها حذاؤها وخمارها فواصلت الركض وهي حافية ..( قصي أرجوك يا قصي ..بالله عليك لا تهرب ) .. ومع وصولي للمحطة كانت القاطرة تتهادي نحو الموقع المخصص لوقوفها وبسرعة دخلت القطار وأنا أصطدم بأول شخص كان يهم بالنزول..وما أن وطأت قدماها رصيف المحطة حتي بدأ القطار في التحرك وئيداً وئيداً وكأنه يعاندني .. جلست بقرب النافذة لأجدها أمام وجهي مباشرة عبر الزجاج المبلل بالمطر ..كانت تبكي وهي تضرب النافذة بقوة وحركات شفاهها تقول لي لا تذهب يا قصي أرجوك لا تذهب .. زادت سرعة القطار فتوقفت لتجلس القرفصاء وهي تضع كلتا يديها في وجهها .. في الك اللحظة لحق بها رفيقها وساعدها علي النهوض وفي أول إنحناءة للقطار علي القضيب لمحتها وهي تستند علي كتفه وتلتفت لآخر مرة نحو القطار وهي تلوح لي تلويحة الوداع .

كريمة سعيد
20-07-2010, 11:18 AM
أستاذي الجليل
لحروفك نكهة خاصة
تتوغل في المجتمع وتشرّح فئاته بمقدرة عالية جدا ....
ولأن نصوصك تمنحني دائما الفائدة مقترنة بالمتعة فأنا أحرص على متابعتها بشوق وشغف
دمت مورقا ومتألقا
تقديري الكبير

اماني محمد ذيب
20-07-2010, 02:52 PM
لك اسلوب مميز
اريد ان اعترف لك ان اول
ما شدني هنا...
على الرغم من كثرة الابداع في هذه الواحة
هي رواياتك الراااااااااااائعة
استاذي المبدع
اتابع بشوق ... احيانا احاول تخمين الحلقة التالية
ولكن في كل مرة اتفاجأ بالحلقة .. التي تكون عكس توقعاتي
سيدي
ان مثل هذه الروايات تجذب الشباب
اريد ان اطلب منك طلب ... ممكن؟؟
ارجوا ان يزيد التركيز على الجانب الديني
الذي يمكن ان تغرسه مثل هذه الروايات في شبابنا :-)
ودمت متميزاا

عبدالغني خلف الله
21-07-2010, 10:51 AM
بناتي العزيزات كريمه وأماني ..من هنا من السودان الملثم بالرزاز والمطر هذه الساعة وبمثل نداوة صباحاته المفرحة أبعث بتحاياي وللقيم الدينية بالطبع في قلبي مساحات بحجم الكون وما فائدة الأدب إذا لم يكن هدفه التنشئة الدينية والتربية وتمليكه المثل السائدة في المجتمع للشباب ..لذلك أحرص علي ترديد عبارات مثل ( الحمد لله ويا ما أنت كريم يا رب ...ألخ .. وأربأ بأبطال رواياتي الانزلاق في مهاوي الانحلال الخلقي والتفسخ ..لكن دعونا نعترف بأن فنون الرواية تقعد بنا عن الوعظ المباشر وتمنحنا الفرصة في غرس ما نريد من أخلاق فاضلة عبر مآلات الأحداث بصورة لا تفوت علي فطنة القاريء ..سعدت بكما وأتمني أن أراكم شموساً فس سماء وطننا العربي ومنارات سامقة بإذنه تعالي .

عبدالغني خلف الله
21-07-2010, 10:59 AM
الحلقة الرابعة عشرة
هل أنا ظالم أم مظلوم ؟ ..ظللت أطرح هذا السؤال علي نفسي طيلة الرحلة حتي لندن ..هل كان عليّ التوقف لأستمع علي الأقل لتبريراتها لذلك الموقف الرهيب الذي صفعني بقسوة وذبح كل تلك الأشواق التي عبرت بها المتوسط لأطفيء لهيبها لدي أقدام علياء ..ولكن .. تأتي الرياح بما لا تشنهي السفن كما يقولون ..لكّم كان صادقاً ذاك الذي أطلق تلك المقولة ..بيد أن العودة لأحضان الوطن والوالدة خففت عليّ الكثير من هول ذاك اللقاء المبتسر مع علياء ..قرعت الباب عند الثانية صباحاً وأنا أحمل حقيبة تنوء بالهدايا .. ملابس وكتب وعطور .. وفي التفاتة وفاء وتقدير أرسلت زجاجة عطر لامتثال مع رقية وزوجها شكرتني عليها بنفسها وهي تُهنئني بسلامة الوصول ..أما لماذا أرسلت لها تلك الزجاجة وعلي أي أساس ؟! ..حقيقة لا أدري .. أليست بنت الجيران وشقيقها زوج لشقيقتي .. ثم ماذا أيضاً ؟ .. أنت دائما تحقق معي يا قلبي وكأنك شرطي ..أليس بوسعي أن أتصرف كما أشاء دون إبداء أي أسباب ؟ ..علي رسلك ..علي رسلك يا فتيً ..أنت وشأنك .
كيف كانت ال ( جيرني ) تبع مستر تهامي ؟ ..هناء تسأل وقد أحضرت لها أيضاً زجاجة عطر فاخره ..شكراً لأنت ..العفو ..هل حضر السيد التهامي ( نوت يت ) ساعه تاني كمان .. دي مواعيد بتاع همن ..أوكي سأكون بمكتبي وأرجو إخطاري بمجرد وصوله .. أوكي .
راجعت التقرير الذي عكفت علي إعداده طوال يوم أمس عن رحلة لندن وطبعته بنفسي ..هائل ..هائل يا قصي ..أنت تتقدم في العمل بسرعه ..برافو عليك .. لكنني أريدك في خدمة صغيرة إذا كان وقتك يسمح بالعمل خارج الدوام الرسمي .. أنت تأمر سيد تهامي ..طيب ..أنت تعلم أن العام الدراسي قد أوشك علي الأنتهاء ..وابنتاي فاطمة الزهراء وأم كلثوم تحتاجان بعض المراجعة في اللغة الإنجليزية لا سيما فاطمة فهي ستجلس بعد شهر تقريباً لأمتحانات الشهاده السودانية وشقيتهقا في السنة الثانية ..أنت تعرف بيتنا .. بالطبع أعرف .. أعرف .. إذن نتوقع قدومك عند السادسة مساء ..وهو كذلك .
كانت سعادتي لا توصف بهذا التكليف لأتمكن من رد ولو بعض جمائل السيد تهامي التي طوق بها عنقي فقد منحني وظيفة وعربه وزيارة للندن والسفر للخارج لأول مرة في حياتي ..قرعت الباب ففتحت لي الخادمة وعندما أخبرتها بأنني هنا بناءً علي طلب السيد تهامي لأذاكر مع البنات ..رحبت بي ترحيباً حاراً وسمعت صوت أنثوي ينادي ..منو ده يا ( هويت ) ؟ ..ده الأستاذ ..ولم تتأخر كثيراً لتقف أمامي بقامتها الباسقة وتفتحها الغير معقول .. أهلاً أنا فاطمة .. وأنا أم كلثوم ..أيكم أكثر جاهزية للحصة ؟ .. أنا .. أنا .. هتفتا بصوت واحد .. طيب خليك مع أم كلثوم وسأصنع لك كوباً من الشاي ..هل السيد التهامي موجود بالمنزل ؟ ..لا ..ذهب لحضور مراسم عقد قران ابنة أحد اصدقائه .. سأعود حالاً ..يا للهول .. من أين لفاطمة كل تلك الوضاءة والنضارة والسحر .؟!
مضي الوقت سريعاً وقد راجعت مع كل واحدة منهما ثلاثة أبواب ولم اشعر بالتعب وعند التاسعة مساءً حضر السيد التهامي ووجدنا لا نزال نراجع ..أهلاً قصي .. هل كنت تعمل طوال الوقت ..؟! في الواقع بابا ..نحن من استبقيناه ..لأننا بصراحة فهمنا منه دروسنا أكثر من معلم المادة ..لا هذا يكفي .. قوموا وجهزوا لنا شيئاً نأكله .. تناولت معهم العشاء كعائلة واحدة وعدت لمنزلي لأسهر طوال الليل أتقلب في فراشي وأنا أحتضن طيف فاطمة .

* * *

أخذتني مشغولياتي المتصاعدة عن موضوع صديقي وزميلي ( أدروب )..إذ لم أسمع عنه شيئاً منذ أن أخذه ذووه لعلاجه علي الطريقة البلدية في كسلا فقد كان عليّ السفر إلي بورتسودان للتنسيق مع هيئة الموانيء البحرية وسلطات الجمارك حول بعض الحاويات التي تحمل أجهزة الكترونية شديدة الحساسية استوردتها الشركة وعوضاً عن السفر بالطائرة استأذنت السيد التهامي في أن استغل السيارة فوافق علي الفور .. أعدت لي الوالدة بعض الزاد ..وسطلاً من الماء البارد والقهوة والشاي اكتشفت لاحقاً بانني لم أكن بحاجة لها لكثرة المقاهي والمطاعم علي جانبي الطريق ..وكانت الطبيعة قد تزينت بالخضرة والهدوء والسكينة وامتدت الحقول الخضراء حتي حافة الأفق .. ومع اقترابي من كسلا التي لم أرها من قبل هالتني تضاريسها الغريبة وكأنها في أمريكا اللاتينية وليس في السودان .. قمم الجبل الملساء والحدائق المترفة وقد نامت علي جانبي القاش وطيبة أهل المدينة ..لم يأخذ مني البحث عن منزلهم كثيراً فقد أخذت تفاصيل المكان من أهله عندما حضروا لأخذه وكان الناس رائعون ومجاملون فكلما اسال أحدهم يشرح لي الاتجاه وأحياناً يرسمه فوق صفحة الأديم .. اعتراني شعور غامض وتوتر شديد خشية أن يكون ( أدروب ) غائباً عن الوعي وذاهلاً عن كل ما حوله .. أخذتني امه بالأحضان والفرحة لا تسعها بقدومي وهي تردد ..كنت أعرف أنكم لن تتخلوا عن زميلكم ..كنت أعرف ..وجدته جالساً فوق كرسي تحت شجيرة مانجو وارفة الظلال وهو ينظر نحو البعيد البعيد .. قالت لي أمه وأنا أتقدم نحوه ..ياهو تراه بالحاله دي ..لم يتغير أي شيء ..وقلت لنفسي لماذا لا أفاجئه بعنف عسي ولعل أن تفك المفاجأة عقدة لسانه .. صرخت باعلي ما استطيع ( أدروووب ..مش ممكن ) .. التفت مذعوراً وقد ايقظته صرختي المدوية تلك .. نهض واقفاً وأرتجف وجهه ..وثارت الدماء في عروقه ..أمتقع لونه واهتزت كل أعضاء جسمه ثم ويا للمفاجأة السارة ..أخذني في حضنه وهو يتمتم (..قصي أخوي ..قصي أخوي ..) ..طفرت الدموع من عينيّ وكذلك أمه فانضمت إلينا تحتضننا معاً ..وما أنفك أدروب يردد ( قصي أخوي ..قصي أخوي ) ومعها هذه المرة ..مي ماتت يا قصي ..مي ماتت ..قلت له بالله عليك يا ( أدروب ) الرسول الكريم تحت التراب ..قل إنا لله وإنا إليه راجعون ..إنا لله وإنا إليه راجعون .. قالها بصوت متهدج من شدة التأثر.
أمضيت معهم ليلتين لم أفارقه فيهما لحظة وهُرعت نحو السوق واشتريت خروفاً وقمنا بذبحه ( كرامة وسلامه ) كما نقول .. سألني عن كل فرد في المجموعة وقد استعاد ذاكرته تماماً وتناهي الخبر لأفراد اسرته الذين حضروا فرادي وجماعات للتهنئة بخروجه من عزلته ..كان ضعيفاً وواهناً واشبه بالهيكل العظمي ..خرجنا لوحدنا في نزهة في طرقات كسلا بعربتني .. ذهبنا للسواقي الجنوبية ووراء جبل التاكا..وطلبت من والدته أن تجهزه لي بما يلزم بعد أن دسست في يدها مبلغاً من المال ..يا ولدي جيتك لينا دي والله بالدنيا ..تراه أخوك طاب ..لا يا والده لا بد من أخذه إلي الخرطوم لمعالجة هذا الهزال ..لن أتأخر في بورسودان وسأعود إن شاء الله باسرع ما استطيع ..وبالفعل لخصت مهمتي في يوم ونصف وعرجت عليه وأخذته وعدنا معاً للخرطوم وفي الطريق لم اضغط عليه وتركته يعود لطبيعته في تمهل شديد خشية أن ينتكس ثانية ..وبعد وصولنا ذهبنا به إلي اختصاصي في الأمراض النفسية وآخر في الباطنية ومعاً عملا علي علاجه من أنيميا حادة ليتجاوز وضعه النفسي والجسدي السابق ويعود كما كان ( الأدروب ) المرح الذي أحببناه وعلي الفور وجدنا له وظيفة بالشركة بعد موافقة السيد التهامي لتعود رفقتنا من جديد لتالقها القديم .
*

عبدالغني خلف الله
22-07-2010, 07:28 AM
الحلقة الخامسة عشرة

كم يحلو لي الحديث مع هناء ..فلا تطلبني للسيد التهامي إلا وتستبقيني في دردشة خفيفة لدقائق قبل أن تقول لي تعال المدير ( عايزتك إنتا ) ..وقد أجده مشغولاً يهاتف شخصاً ما أو يوقع علي بعض الأوراق لأحد رؤساء الإدارات ..فأغتنم هذه الفرصة لأتناول كوباً من القهوة أو الشاي معها وهي ما تنفك تطلق تعليقاتها المرحة حول موظفي وموظفات الشركة وذات يوم وبينما أنا أجلس بجوارها دلفت إلي المكتب فاطمة الزهراء وشقيقتها وهما يتراكضان كطفلتين صغيرتبن ويرسلان الضحكات يمنة ويساراً وعبارة ( سبقتك في الطلوع من الأسانسير) تسبقهما نحونا ....توقفتا هنيهة وقد عادتا للهدوء عندما صافحتني وجوههما الحلوة التي تنضح طفولة .. اتفضلوا ..مالكم واقفين ..هناء تدعوهما . وشقاوة ... أستاذ قصي .. للجلوس .. كيفك .. أهلاً هناء ..بابا موجود ؟! ..أيوه موجود بس أستاذ قصي يدخل في الأول بعدين تدخلوا ..معليش هناء خليهم يدخلوا قبلي أنا بنتظر ..خرج المدير المالي فدخلتا وهما تتصايحان بابا ..بابا .. نتيجة الإختبار النهائي ممتازه .. شايف .. خاصة في الإنجليزي ..كنا قريبان أنا وهناء من الباب الذي تركتاه مفتوحاً والله يا بابا ( الأسبوتنق ) بتاع أستاذ قصي كلو ضرب وبنفس الكلمات ..) هناء غادرت مقعدها وأغلقت الباب وهي تهمهم ..بنات دي مزعجات خلاص ..وفهمت من تلميحاتها أنها لا تحبهما ..ثم ..هناء ..الأستاذ قصي لسه معاك ؟ ..أيوه أستاذ قصي بالله عليك يا إبني توصل فاطمة وأم كلثوم البيت لأنو السائق مريض إذا كان ما عندك مانع ؟ ..علي الرحب والسعة أستاذ .. يلا يا شباب ..تحركنا وشعور رائع يغمرني والسيد التهامي يكلفني من بين كل الموظفين بتوصيل بناته للمنزل .. وما معني ذلك يا بطل ..معناه أنه يثق بي ..معناه أنه يعتبرني كواحد من أفراد الأسرة ..معناه ..خلاص ..خلاص فهمنا .. وفي الطريق عرجت علي مكان للأيس كريم فاشتريت لهما بعضاً منه وعرجت أيضاً علي إحدي المكتبات واشتريت لهم عدد من المجلات ( جيب لينا يا أستاذ مجلة ماجد والعربي وريدر دايجست ) ..ولدي وصولهما للمنزل لم أجد سوي الخادمة وتساءلت بيني وبين نفسي ..تري أين أمهما ؟ ..وهل تعيش مع الأستاذ تهامي بهذا المنزل الفخم أم تعيش في مكان آخر ..كانتا سعيدتين للغاية لا سيما وأنا من سيوصلهما للمدرسة وأعيدهما إعتباراً من الغد كتوجيهات والدهما حتي ظهور النتائج .

هذا التقارب الجديد بين أدروب وهناء أراحني وقد بدأ صديقي اللدود يتعافي من محنته ويُقبل علي الحياة من جديد وكم كان مفرحا اسلوبهما في السلام كل صباح ..هي تحييه بلهجة الهدندوة ..( دبايوااا ..إيتنننينا) أدروب..وهو يرد عليها ..(كودوال أريييت) هناء ..وبالمثل يخفق قلبي بشدة كلما أعيد فاطمة وأم كلثوم لمنزلهما ..وأعد الساعات والدقائق التي تجمعني بهما مرة أخري بل لقد حسبتهما بالفعل .. أتركهما عند الثالثة ظهراً وأعود لأخذهما السابعة صباحاً ..يعني 16 ساعة وبكدا يكونوا تسعمائة وستين دقيقه ..وصارت فاطمة بنت السيد رئيس مجلس الإدارة كل أحلامي وآمالي .. وفي غمرة إنشغالي بها نسيت امتثال أو هكذا خُيل إليّ ..وذات صباح صدمني خبر بالصحيفة يقول أن الشركة التي تخصها قد عجزت عن سداد قرض كبير لأحد البنوك ..ويعرض الإعلان بعض ممتلكات الشركة للبيع في مزاد علني ..أسرعت إليها علي الفور بمكتبها ووجدت معها عدداً من الأشخاص هم أركان حرب شركتها ومعهما كمال زوج شقيقتي رقية وشقيقها بالطبع ..استقبلتني بحرارة لا توصف وأعلنت للحضور فض الإجتماع ..كانت متألقة بالرغم من حالة الإحباط التي تلون قسمات وجهها المُترف ..ما الموضوع يا امتثال ؟ ..مصيبه يا قصي .. كارثة ..تعرضنا لعملية نصب واحتيال كبيرة والسبب هو نسيبك العزيز شقيقي كمال.. الذي صار في الأيام الأخيرة يتلاعب بأموال الشركة كما يحلو له .. ودعني أبوح لك بسر لكن رجاءاً لا تخبر رقية ..فقد وقع في شباك فتاة خطيرة وذكية ومستهترة ..أغرته بجمالها واجتذبته لطاولة قمار بإحدي المنازل المشبوهة وعرفّته علي عدد من الأجانب لديهم شركة وهمية ..وعند هذه النقطة لم تتمالك نفسها فانخرطت في بكاء شديد .. لقد تهدم كل الذي بنيته بتعبي وعرق جبيني يا قصي بسبب شقيقي كمال ونزواته المملة تلك ..إهدائي يا امتثال ..إهدائي يا حبيبتي ..هنا رفعت وجهها المبلل بالدموع من بين ثنايا كفيها وحدقت في وجهي ..هل قلت حبيبتك ؟!! أنا حبيبتك يا قصي بعد كل الذي فعلته بك ؟ ..طبعاً ..حبيبتي أمس واليوم وغداً وإلي آخر العمر ..آهٍ قصي ..أنت تجاملني لا ريب وتحاول رفع معنوياتي ..أشكرك في جميع الأحوال ..قلت لها سأطلب من السيد التهامي مساعدتكم ..هنا انتفضت كمن لدغته حية ..لا يا قصي .مستحيل أقبل مساعده من أحد ..سأواجه مصيري في الشركة وحدي ولو أدي ذلك إلي إعلان افلاسها والخروج من السوق ..وبالفعل هذا ما حصل .. فبعد حوالي أسبوع من لقائنا ذاك أعلنت الشركة إفلاسها وطُلب من الدائنين مقابلة المحامي المكلف بتصفية الشركة .

* * *
لقد قالوا لك منذ البداية يا قصي أن كمال هذا عربيد وسكير ومقامر .. لكنك لم تأخذ الأمر علي محمل الجد ..وقلت في نفسك عسي ولعلّ يتحسن في المستقبل بعد الزواج .. وكانت شقيقتي رقية آخر من يعلم بما يدور حولها .. فقد كان يتذرع بشتي الأعذار وهو يزور تلك السيدة المشبوهة ويقامر .. بل لقد ذهب به العشق لأن يشتري لها ولوالدتها تذاكر سفر للقاهرة للعلاج وتكفل بجميع نفقات الإقامة والعلاج بدون علم شقيقته امتثال .. وكان لا بد من إخطار رقية بحقيقة زوجها وعليها هي أن تعالج الموقف وفق ما يمليه عليه ضميرها ووضعها لا سيما وقد ُرزقت منه بطفلة في عامها الأول ..ويبدو أن رقية لم تضيع وقتاً فقد حولت حياته إلي جحيم لا يطاق فانغمس أكثر فأكثر في شرب الخمر والسهر خارج المنزل ولم يعد يقامر كما في السابق بعد أن لفظه رفقاؤه أولئك ..ولماذا يسمحون له باللعب معهم وقد علموا بحقيقة إفلاسه ..وذات مساء وأنا أنام في باحة منزلنا ونسمات صيفية رائعة تداعب وجهي تناهت إلي سمعي أصوات استغاثة من الجانب المقابل للشارع وكأنها تقول ( ألحقني يا قصي !! ) .. هل يكون هذا صوت شقيقتي رقية ؟ ..ارتديت ملابسي علي عجل وهُرعت نحو منزل امتثال حيث يقيم كمال ورقية .. قرعت الباب بعنف شديد ففتحت لي الباب إنتصار كبري شقيقاته وقد بدا عليها الانزعاج الشديد ..ألحق يا قصي كمال أخوي عاوز يقتل رقية ..كانت غرفة نومهما مغلقةً وقد وقفت والدته وامتثال واعتدال بملابس النوم فقط وهن يطلبن منه في إلحاح شديد أن يفتح الباب .. لم أتواني في اقتحام الباب بكل ما أُوتيت من قوة لأفاجأ بكمال وهو يحمل سكيناً بيده ورقية تركض هنا وهناك وهي تقذفه في وجهه بكل ما يقع علي يدها من أثاث وكتب وأجهزة كهربائية وزجاجات عطر ..أرمي هذه السكين فوراً يا كمال وإلا سأقتلك فاهم ؟!! ..حالت والدته وامتثال بيني وبينه واختبأت رقية وراء ظهري وهي ترتجف من شدة الذعر ..أخذت والدته منه السكين وهي تردد ..إهدأ يا كمال ..الله يرضي عليك تهدأ يا ولدي ..ملعون أبوكي يا رقية يا وجه النحس يا فقُر يا تافهة يا حقيرة .. احترم نفسك يا تافه يا سكير يا مجرم .. إحترم نفسك وحافظ علي ألفاظك ..صرخت في وجهه وقد وصلت إلي درجة من الإنفعال جدُ رهيبة ..ثم ..اسمع يا قصي .. اختط طلقانه بالتلاته .. طلقلنه بالتلاته ..سامع ؟! .. يلا أطلع بره من هنا ..ثم ارتمي علي السرير وهو ينشج كالأطفال ..مقبوله منك يا كمال ..والحمد لله إنها جات منك ..ما تصدقوا يا ولدي ..كمال سكران ما واعي بالبقول فيهو دا ..يا خاله كمال ولدك طلق رقية وبالتلاته وكلنا شاهدين علي الكلام ده ..وبرضو إنتو أهلنا وجيرانا مهما حصل من كمال ..رقية تشبثت برقبتي وهي تردد .. أخرجني من هنا يا قصي .. أرجوك أخرحني من هنا ..يا أخوانا أخذوا الشيطان وحلو مشاكلكم بالهداوه ..إمتثال وهي تحاول ترميم الموقف دون جدوي ..حملت رقية رضيعتها التي كانت تغط في نوم عميق ولدي الباب طلبت مني إمتثال التزام الهدوء ..عليك الله ما تعمل اي حاجه وبكره نتقابل ونشوف البحصل ده شنو ..وفي صباح اليوم التالي حضرت إلينا وبرفقتها والدتها وشقيتاها انتصار واعتدال ومعهم بالطبع كمال ..إعتذر بشدة عما حصل منه من تصرفات ليلة البارحة ووعد بعدم تكرارها إن عادت إليه رقية ..قلت لهم أنا أتفهم مشاعركم النبيلة وأنتم دائماً هكذا نعم الأهل ونعم الصحبة ..لكن القرار بيد رقية .. ساسألها وأعدكم إن هي وافقت ستعود برفقتكم في الحال ..دخلت علي رقية وكانت قد استيقظت للتو من نومها وشرحت لها طلب عائلة زوجها كمال وأنهم موجودون في الخارج .. قالت لي إنها لن ترجع له مهما حصل وإذا كان قد تشكك في الطلاق بدعوي الخمر سأذهب إلي المحكمة واشرح لها ما حصل وقد أفتح بلاغ ضده في البوليس .. كيف سأطمئن إلي شخص كان علي وشك أن يذبحني ..كيف يا قصي ؟! .. رجعت لهم وقلت لهم إن رقية تحترم رغبتكم ..لكن كمال شرع في قتلها وهي لن تكون مطمئنة معه .. ومن حقه أن يزور ابنته في أي وقت يشاء أو يأخذها معه ..لكنها لا تحل له كزوجة بعد ما طلقها بالثلاثة .. إلا إذا ما تزوجها طرف ثالث وطلقها.. ساعتها ستفكر بالموضوع

أيام عصيبة عشناها بعد طلاق رقية ..فقد أدمن كمال إزعاجنا صباح مساء بحجة أنه يريد أن يطمئن علي ( مي ) الصغيرة ..وأحياناً يصر علي أخذها معه وهنا تثور ثائرة شقيقتي رقية وترفض رفضاً قاطعاً منحه إياها ليأخذها معه ولا تدري إلي أين ..بس البقاله القريبه دي أشتري ليها حلاوه .. وتحت إلحاحه الشديد تعطيها له علي مضض وتظل مصلوبة أمام الباب تراقبهما من علي البعد إلي يعيدها لها وبالمثل ترسل والدته في طلبها وكذلك امتثال وشقيقاتها ..لقد صارت طفلة لطيفة بلثغتها وراءاتها المثقلة بالتأتأة والجمال ..لذلك أحببناها نحن وأحبتها عماتها ..وكنت في كل مرة يأخذها أبوها أو تأخذها عماتها أتعمد رؤية امتثال لأوصيها عليها .. ولاحظت هي أن خطتي مكشوفة عي الآخر لأنني في الواقع لا زلت أحن لها وأشتاق لرؤيتها .. وقد أعاد لها هذا الاهتمام المفاجيء توازنها فعادت من جديد لتعني بمظهرها وتمنحني لحظات عارمة من السعادة والانتشاء .. يحدث كل ذلك بالرغم من وجود الرائعة فاطمة الزهراء ..وهاهو العام ينصرم وتظهر النتائج وتُقبل بالجامعة بدرجة جيد جداً ..وكان الأستاذ التهامي يغتنم كل فرصة يأتي فيها ذكر فاطمة ليذكرني بأن هذا النجاح الذي تحقق يعود لي من بعد الله سبحانه وتعالي .. سهرت الليالي الطوال أراجع معها كل دروسها وفي كل المواد وليس اللغة الإنجليزية فقط ..وقد أثار قبولها بالجامعة خوفي واضطرابي ..إذ أنني خشيت تحولها عني والاهتمام بأحد طلبة الجامعة مع كثرة الطلاب الوسيمين والمهووسين بالجمال .. وما أن تُقبل بعض الطالبات الجميلات بالسنة الأولي حتي يظهر لهن أكثر من طالبٍ خطيرٍ ..ومتمرس ٍ ..فينصب حولهن شباكه الجهنمية تلك .. ومع كل البراءة وضعف التجربة في الحياة تجد الواحدة منهن قد استسلمت لسطوته وجبروته باستثناء الطالبات اللواتي حددن لأنفسهن هدفاً معيناً في الحياة قبل دخولهن الجامعة هو التحصيل الجامعي فقط لا أكثر ..وها أنت تنهي عن شيء قد فعلته ..ألم تمارس كل صنوف التذاكي والشيطنة للفت إهتمام معظمهن ومنهن بالطبع علياء .. أرسلت لك خطاباً بالبريد المستعجل وأنت يا أيها الباهت الممل تقسم بينك وبين نفسك بأن لا تفضه وتقرأه وتركته قابعاً في خزانة ملابسك دون أن تجرؤ علي فتحه ..لعلك تخاف أن تقنعك بأن ما شاهدته من موقف لا يعكس الواقع المعنوي كما تصورت وقد تكون لحظة توقف وإغفاءة علي كتف صديق لا أكثر في مجتمع يتقبل مثل هذه الإشارات..أنت جبان بيد أنك لا تعترف ..ولماذا أعود مرة أخري إلي عذابات علياء وعندي فاطمة الزهراء ومعها حبيبة عمري امتثال وفي أي الحديقتين بنيت أعشاشي لن أندم ..أكيد ؟ ..أكيد طبعاً .

عبدالغني خلف الله
22-07-2010, 03:03 PM
الحلقة قبل الأخيرة ودخلت رقية ليلة طلاقها بهذا الباب ليغادرنا المعتصم بالله بالباب الآخر ..قال لي ليس من العدل أن أبقي تحت سقف واحد مع رقية مع كل الظروف المحيطة بكلينا ..أنت تعلم يا قصي أنني خطبتها من قبل ورفضتني ..وقد يكون في تواجدي قربها عامل ضغط جديد يفاقم معاناتها ..لكنها في النهاية أختك وابنة عمك ..بالتأكيد .. لكن علينا أن نتصرف وفق الأصول المرعية وتقاليد المجتمع وقيمه الفاضلة ..أنت تعطيني محاضرة يا أبن عمي سرعان ما صرت مثقف خرطومي يا أيها القروي المسكبن .. دار بيننا هذا النقاش ونحن نتوجه بعربته ومعنا أدروب الذي راح في ثبات عميق بمجرد مغادرتنا للخرطوم .. فنحن في طريقنا لحضور مراسم عقد قران عصام ود الأبيض علي ست الحسن والجمال( نسرين ) الواحه كما يسميها هو .. كانت الرحلة رائعة في ذلك الطقس الخريفي المبكر فقد هطلت الأمطار ونحن لا نزال في منتصف مارس ..طيب والحل يا ابن العم ..نحن نريدك معنا وفي الوقت ذاته ليس من سبيل لرقية شقيقتي سوي بيت العائلة ولهذا خلقت .. تغادر الفتاة منزل الأسرة مثل عصفورة خضراء ممتلئة بالزهو والكبرياء وعندما تُطلق تعود إلي كنف العائلة مهيضة الجناح .. الحل ببساطة أن نتزوج أنا ورقية ..ماذا ؟ ..ماذا ؟!!! ..هل أنت جاد يا ..نعم بالطبع وهل مثل هذه الأمور تقبل المزاح ..لقد انتظرت حتي تمضي اشهر العدة ولأعطي رقية الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها وبطبيعة الحال هي حرة في رفضي للمرة الثانية ورجاءاً ..رجاءاً يا قصي لا تضغط عليها ودعها تقرر في حرية تامه .
وإتأخرتوا كده ليه ؟ ..اتفضل معتصم ..حمداً لله علي سلامتكم ..والله إيدينا في قلوبنا منذ أن غادرتما ...والدتي وقد انضمت إلي رقية ..الحمد لله يا حاجه ..يلا .. عن إذنكم أوصل أدروب ( الميز) وأمشي الفندق ..وتمشي الفندق كيف يا المعتصم يا ولدي ..؟ ..مع السلامه .. تصبحوا علي خير .. دبايوا ..ثم من فضلك يا رقية أريدك في كلمتين ..ما رأيك رأيك في المعتصم بالله .. أخونا وابن عمنا ؟! ..المعتصم ؟!! ..قالتها في رعبٍ واضح ..أيوه المعتصم ده ..لماذا انزعجت هكذا ؟ ..لا أبداً ..لكن سؤالك غريب ..يا ستي ما غريب إلا الشيطان .. بصراحه وبالعربي الفصيح المعتصم طالب إيدك .. ؟ ..تاني يا قصي .. تاني المعتصم وبعد كل الحصل مني معاه ومع وجود ( مي ) ؟ ..مي ما مشكله وهو قد تعهد بأن يرعاها وكأنها ابنته ..أها .. لحظة صمت وشرود أناخت رحلها فوقنا ..ممكن تديني فرصه أفكر ؟ .. بس حتي الصبح ..ممكن طبعا
..ليه لا

من قال إن ( الصمت رضا ) ؟ لكم هو صادق ..فقد تجمدت شقيقتي رقية تماما وانعقد لسانها وأنا اسالها للمرة الثانية إن كانت تقبل بالمعتصم بالله زوجاً لها ..اشاحت بوجهها في حياء وهي تبتسم ابتسامة عريضة غابت طويلاً منذ زواجها بشقيق امتثال ..إذن علي بركة الله .. شرحنا الموضوع للحاجة وطلبنا منها التكتم الشديد علي الأمر علي الأقل في المرحلة الأولي حتي نسكمل استعداداتنا للعرس وعقد القران في المسجد ليعرف القاصي والداني بأن شقيقتي قد تزوجت للمرة الثانية من ابن عمها ..وبالطبع أخطرت السيد التهامي الذي كان سعيداً بهذا العرس وقد منحني مبلغاً كبيراً من المال وكباردة تقدير ووفاء طلبت منه أن يكون وكيل شقيقتي في كتب الكتاب وقلت له إن هذا الطلب يعني الكثير بالنسبة لي وللاسرة .. أفعل يا قصي بإذن الله أفعل ..وربنا يتمم علي خير ..وكعادتنا في مثل هذه الحالة وعندما تتزوج البنت للمرة الثانية يكون العرس محدوداً وفي نطاق العائلة والجيران ..وفي ليلة الخميس ومراسم عقد القران ستكون بعد صلاة الجمعة ..توجهت إلي منزل أسرة امتثال وشرحت لهم الموضوع وكانت ثمة تكهنات قد ثارت هنا وهناك بأنني أنا من سأتزوج وراحوا يرشحون لي أكثر من صبية جميلة بالحي ..استقبلت النبأ بفرحة طاغية وكانت تبدو مرهقة ومتعبة .. ما بك يا امتثال هل تشعرين بشيء ؟ ..لا ابداً لكنني كنت أعاني مؤخراً من الأرق الشديد ولا أنام جيداً .. ( هل يكون ذلك بسببي .. بسببك ؟! ..ومن أنت لتسهر امتثال الليالي بسببك ..ألا تلاحظ بأنك صرت مغروراً أكثر من اللازم لا سيما بعد أن مُنحت عربة جديدة وتقدمت في السلم الوظيفي بالشركة لتصبح مدير ( البيرسونيل) ..وإنت مالك يا ضمير المتكلم الخائب ).. وطلبت منهم بشكل خاص إخفاء الأمر علي كمال حتي تمضي المناسبة بخير وبعد ذلك من حقه أن يعرف بأن مطلقته وأم طفلته قد تزوجت .. أنت دائماً تراعي الأصول يا ابن الأصول يا إبني قصي ..والله ما عرفنا منك إلا كل خير وخلق حسن .. قالت لي ذلك ونظراتها نحو عينيّ امتثال وكأنها تريد أن تقول إياك أعني فاسمعي يا جاره ..وكان لحضور السيد التهامي لعقد القران وقعه الرهيب في نفسي ووالدتي وكذلك رقية والمعتصم .. ترجل من عربته المرسيدس الفاخرة وفتح له السائق الباب ليترجل .. وعندما سأله المأزون هل تقبل بزواج موكلتك من موكلي المعتصم بالله ...ثم أقبل ..ورُفعت الأكف بالدعاء الجهير اللهم اجعله زواجاً موفقاً ..آمين .. ومع خيوط الفجر الأولي غادرتنا رقية مع المعتصم بعربته ومعهما بالطبع مي الصغيرة لقضاء شهر العسل بكسلا ..وكنت أنا الوحيد الذي يعرف وجهتما تحسباً لمفاجآت كمال ..وبكل سذاجة وغباء حضر لنا صباح اليوم التالي ورائحة الخمر تنبعث من فمه ..وقال لي مبروك يا قصي .. تغلبك بالمال وتغلبها بالعيال .. سوري ..أقصد .. الله يبارك فيك يا كمال .. لكن رقية شقيقتي هي من تزوجت ولست أنا ..رقيه !!..رقيه !!!.. ومي .. اين مي ..مي وين ؟ .. إهدأ يا كمال .. مي طفلة صغيرة ولم تُفطم بعد وتحتاج لأن تكون مع والدتها لترضعها ..هل فهمت ؟ ..لا .. لن أقبل ..أريد مي حالاً وإلا سأدمر هذا البيت بمن فيه وبما فيه .. أعقل يا كمال .. وأكثر من شخص يتدخل لتهدئته .. إعقل يا إبني كلها كذا يوم وتعود رقية مع طفلتك ..هل ستكون أنت أحرص علي الأطفال من الأمهات ..هذا الكلام لن يقنعني ..ومن ثّم اقتحم منزلنا وصار يقذف بكل شيء يقع بيده ويحطم الأواني ويمزق الأغطية وقد تحول إلي ثورٍ هائج لا سبيل للسيطرة عليه .. حضرت والدته وشقيقته امتثال علي عجل وعملتا علي تهدئته فانخرط في البكاء بصوت عالٍ كالأطفال .. أخذتاه بمساعدة الجيران إلي داخل المنزل وأحكمتا إغلاق الباب ..وفي ثاني يوم حضرت لي امتثال لتقول لي إن كمال رفض الأكل والشراب منذ نهار الأمس وأن حالته الصحية تسوء ساعة بساعه .. أخذناه للمستشفي وكان واهناً وشاحباً وبالرغم من ذلك نزع المحاليل الوريدية من يده ودخل في حالة رهيبة من الهستريا والصراخ .. طلبت مني امتثال أن أفعل شيئاً وأحضر له( مي ) مع كل ما يسببه ذلك من إزعاج لرقية وزوجها ..قلت لها لكن رقية والمعتصم في كسلا ..إبقي أنت هنا إلي جانبه وسأعرج فوراً علي المطار وإن وجدت طائرة متوجهة إلي هناك أعدك بانني سأسافر فوراً وإلا فإنني مضطراً للسفر بالباصات .. إفعل ذلك .. أرجوك قصي .. أتوسل إليك .. حياة كمال في خطر ..
لملمت اشيائي وبعض النقود وأخذت عربة أجرة لأفاجأ بأن طائرة كسلا قد غادرت في الصباح الباكر فتوجهت نحو محطة الباصات وأخذت أول عربة متوجهة لكسلا وفي الطريق إلي هنالك دعوت الله في سري بأن يوفقني في العودة سريعاً بالصغيرة ( مي ) قبل أن يحدث شيء لا سمح الله لوالدها كمال .. ماذا ؟ .. هل جُن هذا الرجل ؟! .. المعتصم بالله وقد أغضبه تصرف كمال .. أما رقية فقد استسلمت وقالت لنا أنتما من يقرر .. وأنا سأقبل ..ودخلنا في نقاشات مطولة طوال تلك الليلة ..وأخيراً استقر بنا الراي علي مغادرة كسلا والعودة ثلاثتنا بعربة المعتصم لإنقاذ الرجل .. ومع وصولنا عند الثانية ظهراً توجهنا مباشرة نحو المستشفي لنجد امتثال ووالدتها بانتظارنا علي أحّر من الجمر .. سألناهما كيف حاله الآن ؟ ..والله مستقرة ..ولا جديد وقد أعطوه الكثير من المهدئات التي لا تلبث أن تزول ليعود للهستيريا من جديد ..هذا بالطبع لأن جسده متخم بالمواد المسكرة .. قلت ذلك في سري .. لا أدري كيف اشكرك يا قصي .. تسافر إلي كسلا وتعود في أقل من أربعة وعشرين ساعة وأنت يا رقية يؤسفني أننا قطعنا لكما إجازتكما .. هذا واجبنا يا امتثال وفي النهاية كمال هو أبو ( مي ) وسلامته تهمنا جميعاً .. دخلنا غرفة الإنعاش ومكثنا طويلاً بانتظار أن يفيق من رقاده .. وبالفعل أفاق ليجد ( مي ) إلي جواره .. حاول أن يقول شيئاً ولكنه عجز عن النطق .. وضعتها برفق علي صدره فضمها إليه وكانت هي نائمة في تلك اللحظة وبعد حوالي ربع ساعة تقريباً تراخت قبضته لتتدحرج مي إلي جواره ..أخذت رقية مي وهي تشهق من شدة الخوف واستدعينا الطبيب المناوب علي عجل .. طلب منا مغادرة الغرفة علي الفور ..ووضع علي فمه ( كمامة الأكسجين ) ..خرجنا كلنا وجلسنا أمام الغرفة وقد أخذ منا التعب كل مأخذ جراء الرحلة القاسية من كسلا حتسي الخرطوم وبعد ساعة من الزمن ودخل أكثر من طبيب وخرج والدقائق تمر بطيئة وقاسية وقبيل الغروب بقليل خرج علينا الطبيب ليقول لنا ..البقية في حياتكم ..إنهارت أمه ودخلت شقيته في نوبة بكاء عارمة ..وعدنا للمنزل بالجثمان لنواريه الثري في موكب مهيب حضره أهله والجيران .. وحرصت طيلة أيام المأتم علي البقاء بينهم لا أغادر المكان لحظة وأنهض لدي حضور كل واحد من المعزين لأتلقي العزاء .. وقد حضر لنا السيد التهامي والزملاء بالشركة .. ووجد موقفي هذا صداه الطيب في نفس امتثال ووالدتها وبقية أفراد أسرتها .

* * *

عبدالغني خلف الله
22-07-2010, 03:06 PM
الحلقة الأخيرة وكل عام والجميع بخير وأخيراً اكتملت إجراءات محاكمة قاتل ( مي ) وانتهت جميع مراحل التقاضي والاستئنافات وقد حاول محامي المتهم عبثاً إيهام المحكمة بأن القاتل مختل عقلياً فجاء القرار النهائي بإعدامه شنقاً حتي الموت وتأّيد الحكم وتم تحديد موعد التنفيذ .. لذلك عاد سراج شقيق مي من الجنوب لحضور تنفيذ الحكم وقد حرص بمجرد وصوله علي زيارتنا ومعه والدته لتقديم العزاء في وفاة والد الصغيرة ( مي ) وكذلك زيارة شقيقتي رقية وزوجها المعتصم لرؤيتها ..رافقتهما حتي منزلهما الذي لا يبعد كثيراً عن منزلنا ..كانت لحظات مفعمة بالدفء والحنان ..والإحساس الجامح والمشحون بشتي الانفعالات ..أخذت والدته الصغيرة مي إلي حضنها تضمها إليها في شوق ومحبة وتقبّلها بين عينيها وتشمها وهي تردد ( إزيك يا مي .. يا ست البنات ..الراسيات الريقات .. ربنايكبرك ويخليك لينا يا رب يا قادر يا مريد ..) ولم تتمالك أعصابها فبكت بحرقة ونحن نحاول مواساتها ..لم لا ومجرد ذكر مي يحرك مشاعرها ويبكيها فكيف بها وهي تحتضن الطفلة التي أخذت اسم الراحلة الغالية (مي)
وفي خضم هذه المتغيرات المتلاحقة عاد خالي من أمريكا بعد غياب امتد لعشرين سنة بالتمام والكمال .. جاء وبصحبته زوجته ريم التي تعيش مع أسرتها في المهجر ومعهم طفلتهما (دعاء ) ..وكان أول شيء سأل عنه ونحن نستقبله بالمطار هو أثاث منزله .. ( العفش كيف ؟ ..إن شا الله بتكونوا قاعدين تراقبوه )..وصممت ألاّ أذهب معهم لمعاينة الغرفة لأنني متأكد بأن من سيكلف بإزالة أطنان الغبار والحشرات تلك هو أنا ولا أحد سواي ..لذلك لم يكن بوسعه إلا أن يتكدس هو وزوجته وطفلته معنا .. لكن رقية وزوجها المعتصم بالله أنقذا الموقف بدعوتهما لنا أنا ووالدتي لننتقل للعيش معهما لا سيما والمنزل واسع وبه العديد من الغرف .. رحبت بالفكرة ترحيباً حاراً وعملنا أنا وهي علي إقناع الوالدة التي لا تزال تعيش في الماضي ورائحة الجدة التي توفيت قبل أربعين عاما ً ..وأخيراً وجدنا أنفسنا نعيش كأسرة واحدة بعد التشتت والضياع الذي عانيناه ..قلت لنفسي هذه فرصة مواتية لأتقدم لخطبة فاطمة الزهراء من والدها السيد التهامي .. عرضت عليها الموضوع وقد أعلم حماستها الشديدة وانفعالها بدخول الجامعة وطمأنتها بأن زواجنا لن يؤثر علي استراريتها بالجامعة بل علي العكس من ذلك لأنني حينها سأكون بجوارها طول الوقت أراجع معها دروسها .. لكنني يجب أن أعترف بأنني خشيت إن هي دخلتن الجامعة دون أن أرتبط بها من المؤكد بأنني سأفقدها وإلي الأبد ..وقلت لنفسي لا تكن أنانياً ودعها تحقق أحلامها وانتظرها حتي التخرج .. لا .. لا يا صديقي ..لقد عشت أجواء الحياة الجامعية وفاطمة لا شك ستلفت أنظار الطلاب القدامي بسحرها وجمالها الفائق وهؤلاء الطلاب لديهم اساليبهم الخاصة في استمالة الطالبات (البرالمه) ..فما أن يحدد الواحد منهم هدفه حتي يبدأ في نصب شباكه العنبوتية حولها .. وكثيرات منهن يافعات مترعات بالطفولة وضعف التجربة في الحياة فلا يفرقن بين المكر والدهاء وصفاء النفوس .. عدا طبعاً القلة التي جاءت للجامعة وقد رسمت طريقها سلفاً وبدقة متناهية ..الإطلاع ثم الإطلاع ولا شيء غير ذلك ..هكذا إذن .. أراك تنهي عن اشياء تفننت في فعلها وتفوقت فيها علي ( إبليس ذات نفسو ) .. فإن كانت شباكهم عنكبوتية فإن شباكك جهنمية تحرق الأخضر واليابس والدليل علي ذلك تشرنقك حول علياء وامتثال والآن فاطمة الزهراء .
طرحت الموضوع علي أمي ففرحت فرحاً غامراً وطرب أدروب لهذه الأنباء وقال لي صديقي سراج .. ده الكلام الصاح .. أيوا خليك جسور ومقدام .. وافقت فاطمة علي طلبي وأخبرتني أن الأمر يتطلب إخراجاً جيداً لعلمها بطبيعة والدها المتزمتة نوعاً ما .. تحضرون بدون موعد بنية التعرف وللتحية والمجاملة ومن ثمّ

تضعونه أمام الأمر الواقع ؟! ..فاطمة تسأل وقد اتسعت عيناها الواسعتين أصلاً ..والله فكره هائلة يا قصي ..لكن إياك أن تخبره بأنك فاتحتني في الموضوع لأنه سيقتلني دون شك .
قرعنا الجرس الخارجي فأخذنا الخفير إلي باب الفيلا الفخمة وطلب منا الإنتظار لحظة حتي يُعلم السيد التهامي بقدومنا .. وكنت أنا ووالدتي ورقية وزوجها المعتصم بالله وخالي القادم من أمريكا والذي لم يفتحح الله عليه من هدايا يحضرها معه لي من أمريكا سوي ( تي شيرت ) ضيق وقبيح مررته لأدروب الذي مرره بدوره للمراسلة ..وكان هنالك أيضاً سراج وأدروب .. استغرب حضورنا في تلك الساعة وبدون سابق موعد وبهذا العدد الكبير ..اتفضلوا .. أهلاً بيكم ..شرفتو .. كان مضطرباً واحواله ليست علي بعضها كما يقولون وكأنه اشتّم رائحة المؤامرة التي حكناها انا وفاطمة ..وعبثاً حاولت أم كلثوم استدرجها لمعرفة الأمر لكنها تكتمت عليه .. الجاتوه الكتير دده كلو لمنو ؟..عشرين علبة عصير وماكنتوش يا فاطمه .. ده كتيرشديد ؟.. لأنني سأحتفل بدخولي للجامعة ..أليس من حقي الابتهاج ودعوة صديقاتي ولو مرة واحدة في هذا البيت ؟ ..
لم حيدث أن رأيته مرعوباً وخائفاً منذ التحاقي بالعمل معه بالشركة ..عرّفته علي خالي القادم من أمريكا صاحب العفش الذي قضت عليه الأرضة وكذلك برقية أختي وزوجها المعتصم بالله وصديقي سراج .. أما أدروب فهو يعرفه من علي البعد .
إبتدر الحديث إبن عمي المعتصم وتكلم مطولاً عن العلاقات الإنسانية وسنة التعارف بين القبائل والجماعات واستشهد بقدرٍ لا باس به من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ..وصولاً إلي طلب يد ابنتكم صاحبة الصون والعفاف فاطمة الزهراء لإبننا قصي العمدة ..فغر فاه وسال العرق غزيراً علي وجهه برغم برودة الصالون الأنيق ..ابتلع ريقه وصار يردد .. في الواقع أنتم فاجأتموني بطلبكم هذا وقصي شاب ممتاز لكنني مضطر لرفض طلبه هذا وأتمني له التوفيق مع فتاة أخري وأسرة غير أسرتي ..هنا ساد الجميع وجوم رهيب قطعته أصوات ارتطام آنية منزلية وقد تهشمت .. أكواب وزجاجات عصير وحلوي تناثرت حتي وصلت تحت أقدامناحيث نجلس ..ذلك لأن فاطمة الزهراء كانت تقف قريبة وبانتظار أن يوافق والدها علي خطبتها لتقدم لنا الحلوي والشربات وعوضاً عن ذلك سقطت الأشياء من يدها وهرولت نحو غرفتها تدفن نفسها في الوسادة وتنشج بصوت مسموع .. لحقت بها أختها لتهدئتها .. أما أنا فقد شعرت بدوار رهيب ورغبة في التقيؤ واضطراباً لم اشهد له مثيلاً من قبل ..أحست والدتي بالمهانة والإذلال وأدركت بأننا ما كان أن نتطلع لهولاء الأثرياء ونحن بهذه الحالة من الفقر المدقع .. نهض خالي وهو يقول .. تشرفنا بمعرفتك سيد التهامي وعموماً الزواج قسمه ونصيب .. كذلك نهضت والدتي في تثاقل واضح ونظرت إليّ وكأنها تود أن تقول لي .. أحرجتنا وقللت قيمتنا .. ولم تكن شقيقتي رقية وزوجها بأفضل حال منا.. أما أدروب لوسراجافقد حاولا تخفيف مصابي وأمطراني بتعليقاتهما المرحة التي لم تجد صدًي في نفسي .. تماسك يا قصي .. في ستين ألف داهية .. ربنا ما كتّر غير البنات .. طيب مع السلامه ..ثمّ .. مهلاً .. مهلاً .. توقفوا .. لماذا لا تسألونني عن اسباب رفضي لقصي زوجاً لأبنتي ؟ .. ولماذا نسألك ..يا .. ( بوث ) .. ؟ همست في وجهه ..جلسنا من جديد تحت إلحاحه لنعرف ما الموضوع إن كان لديه أصلاً موضوع .. ثم أرسل في طلب فاطمة ورقية لتحضرا.. عادت وبقايا دموع علقت برموشها الطويلة وهي تكافح لتجفيفها .. أقعدن يا بنات .. فاطمه يا بتي الأستاذ قصي طلبك للزواج وأنا رفضت طلبه لكن قبل أن يغادر ومن أتي معه .. أردت شرح السبب الذي دفعني لذلك الرفض .. لكن قبل ذلك سأحكي لكم حكايه واقعية مائة بالمأئه حصلت قبل حوالي عشرين سنه تقريباً .. نعم .. كان هنالك شخص يعيش مع أفراد عائلته المكونة من زوجته وإبنه وابنته في وئام وسلام .. وفجأة مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء .عن شفائه منه بل وحتي سبر أغواره .وفي عصر أحد الأيام مات الرجل أو خُيل لأهله ذلك .. كفنوه وحنطوه وحملوه إلي المقابر ودفنوه ثم وقبل أن يعودوا إلي بيوتهم نزلت أمطار غزيرة لم تشهدها المنطقة من قبل .وسال الوادي القريب من المقابر وأخذ معه كل شيء أمامه ..وتناثرن جثث الأموات بعد أن شلح السيل نصفها ..رقدت جثة صاحبنا في الهواء الطلق تنتظر من يعيدها لقبرها ..لكنه فوجيء بالحياة تدب في جسده من جديد ويبدو أنه لم يمت أصلاً وقد راح فقط في غيبوبة عميقة ..كافح بشدة برغم التعب لإخراج جسده من كفنه وأخيراً غادره وهو مغطيً تماماً بالوحل والطين .. لكنه أدرك بحكته فيما لو أنه عاد لذويه باتلك الهيئة فإنهم لا شك سيظنونه قد بُعث من جديد في شكل ( بعاتي أو سحار ) وفق الثقافة السائدة بالمنطقة .. فلجأ إلي مغارة قريبة وبعد حلول الظلام تسلل عائداً إلي بيته وأيقظ زوجته التي شعرت بالخوف الشديد وطلبت منه أن يعود إلي قبره حتي لا يجلب لها ولأطفاله العار .. طلب منها أن تعطيه ملابس نظيفة وبعض النقود وأوراق تتعلق بتسجيل العقارات .. وعندما وصل السيد التهامي لهذه النقطة شهقت والدتي وأُغمي عليها وسقطت من الكرسي الذي كانت تجلس عليه بلا حراك .. أما أنا فقد استعدت شريط أحداث تلك الليلة الرهيبة التي ظلت عالقة بذاكرتي فهرعت نحوه أضمه إلي ّ وأقّبل يديه ووجهه وأنا أهتف .. ابي العمدة .. أبي الغالي .. أبي الحبيب ..ضمني بقوة إليه وقد طفرت الدموع من عينيه تخضب لحيته الكثة وهو يردد ( قصي يا إبني الحبيب ..سامحني يا بُني ..أرجوك سامحني ..) ..أُصيب الجميع بصدمة شديدة وظلت فاطمه وأم كلثوم ترددان .. أبوك أبوي يا قصي ؟! ..العمده ..؟!!! عمدة منو..؟!!! ..يا أخوانا جيبوا عطور أو اي حاجه نصّحي بيها أختي .. خالي وقد نفد صبره ومن شدة إشفاقه علي شقيقته ..ركضت أم كلثوم نحو غرفتها وعادت بزجاجة عطر وبعض الماء نضحها خالي علي وجهها فعادت شيئاً فشيئاً إلي وعيها وهي تهمهم ..أشهد أن لا إله إلا الله .. محمداً رسول الله ..وبصعوبة شديدة نهضت وتوجهت نحوه وجلست لدي قدميه تحاول تقبيلهما وهي تردد .. سامحني يا عمده ..أنا ظلمتك وظلمت أولادي معاي ..استغفر الله العظيم يا أم قصي .. قومي علي حيلك .. كان ذلك قدرنا وقد قدر الله وما شاء فعل ..الآن يا جماعه عرفتوا ليه أنا رافض زواج فاطمة الزهراء من قصي .. لأنها ببساطة شديدة أخته ولا تحل له كزوجه .. بابا .. إنت حاصل لمخك حاجه ..بابي إتكلن معاي .. فاطمةوهي تحاصره بالأسئلة في وقت لم أزل فيه متشبث برقبته .. نعم يا بنتي .. قصي يكون أخوك والقصه السمعتوها دي عني أنا بالتحديد .. كانت رقية طفلة صغيره في عامها الثاني وقصي في عامه الرابع عندما غادرت الحلة وظللت أتابع مسيرهما عن كثب وقصة الأخ هاشم مندوب المنظمة كانت عبارة عن تمويه لأوصل لكم عبره المصاريف التي تحتاجونها ولا توجد منظمة ولا يحزنون .. ويبدو أنه كان مستيقظاً وخائفاً لذلك تذكر ما حدث .. نعم أبي .زكنت متابعاً لما يدور حولي وأذكر أنك ضممت رقية ومررت يدك في ثنايا شعرك وأنت تقول لأمي ..ما أوصيك علي الأولاد أو شيء من هذا القبيل ..ساد المكان جو من الانفعالات والقُبلات والضحك والبكاء في وقت واحد فطلبت من فاطمة وأم كلثوم أن نخرج معاً إل الحديقة نستنشق بعض الهواء الطلق ولنحررأنفسنا من هذه المفاجأة الرهيبة .. قصي أخوي .. قصي أخوي ..يااااه ..أنا فرحانه .. فرحانه يا قصي وعايزه أطير من الفرح .. معني كدا حترحلوا إنت وأمك من بكره عشان تعيشوا معانا .. مش ؟ ..أم كلثوم تسأل في براءة تحسد عليها ..طبعاً يا كلثم .. طبعاً .. وأمك ؟ ..أين أمك يا فاطمة ؟ ..لحظة صمت .. ثم .. أمي .. أمي ..تعيش إنت .. ماتت قبل خمسة أعوام ..أنا آسف يا فاطمه لم أكن أعرف ..ربنا يرحمها ويغفر ليها .. تعرف يا قصي لو كانت عايشه ما كانت حتزعل من الحصل ده .. بل بالعكس كانت حتفرح فرح شديد لأنها كانت دائماً تقول لينا ..يا ريت لو ولدت ليكم أخو يا بنات ..وهسع إنت أخونا ومعانا ..لكن يا قصي لماذا لم تتعرف علي بابا لما اشتغلت في الشركه ؟! .. أولاً كنت صغير جداً عندما غادرنا وقد ضاعت ملامحه من ذاكرتي بالإضافه إلي أنه كان حليق الذقن ولم يكن بهذه اللحية الكثيفة التي تغطي وجهه الوسيم باستثناء الفم والأنف والعينين .. والآن اسمعن يا بنات من الآن ولاحقاً تسمعن كلام أخوكن الكبير .. واضح ؟ .. حاضر استاذ .

***

إنتهت بحمد لله

ربيحة الرفاعي
23-07-2010, 12:24 AM
أحب النهايات السعيدة تمسح عن الوجه دموعا سالت مع الأحداث طوال الرواية
وبرغم أن هذا اللون من النهايات يكون مقحما أحيانا، فقد نجحت أستاذنا بتجنب ذلك المطب، بإشارات حذقة وخافتة منذ لحظة ظهور السيد تهامي في حياة قصي، توحي بأن له مع تاريخ الفتى شأن، وظللنا لذلك ننتظر تكشّف الأحداث عن صلة بين هذا التهامي ووالد قصي، وإن لم يصل الأمر بنا تصور أن يكون هو هو.

قضيت هنا ساعات من متعة القراءة، وروعة التعرف على البنية الفكرية والقيمية لشعب شقيق لم أجده بعيدا عنا في شيء ...

دمت متألقا أستاذنا

ملاحظة على هامش الرواية ...
الطلاق بالثلاثة أو بالسبعة أو بأي عدد في المرة الواحدة يعد في الشرع طلقة واحدة لا تستوجب المحلّل لإرجاع الزوجة لعصمته ... وباعتبار طلقة رقية هنا كانت طلقة أولى ، فهي رجعية طوال شهور العدة الشرعية، وله الحق خلالها بارجاعها بدون -حتى- موافقتها ...

عبدالغني خلف الله
23-07-2010, 06:04 PM
أشكرك ابنتي الغالية ربيحةعلي هذا التصويب الذي صحح لدي مفهوماً خاطئاً عن الطلاق .. وكما قلت فإن منظومة القيم والأعراف والتقاليد لا تختلف كثيراً عن هذا البلد أو ذاك فنحن أمة متدينة مسلمون ومسيحيون ..كنت أود التوقف عن رفع بقية أعمالي ريثما ينقضي شهر رمضان المعظم ..وبما أن الوقت لا يزال مبكراً عن بداية الشهر الفضيل فيسعدني أن نسافر معاً علي حافلة ركاب من كسلا التي رأيتموها شعراً وصورة إليالخرطوم نتعرف علي الركاب والسائق وجغرافية المنطقة وهي أقصوصة حملت عنوان ( عشرون ووجهة واحده ) .. متابعة شيقة أتمناها لكم ودمتم في رعاية الله وحفظه .

سامي عبد الكريم
26-07-2010, 09:23 PM
أسعدتني قراءة هذه الرواية
أديب رائع أنت أيها الأب الجليل

بارك الله فيك

عبدالغني خلف الله
27-07-2010, 07:39 AM
أحييك ولقد سعدت بمتابعتك لهذا النص ..وأتمني أن أكون قد عبرت عن معاناة وأشواق الشباب هذه الأيام من خلال آخر صفحة في كتاب الألم وسلمت لنا من كل ألم .