تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ريبورتاج ..رواية ..



عبدالغني خلف الله
02-08-2010, 05:12 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الغني خلف الله في:
ريبور تاج – رواية ..
الحلقة الأولي

الطبيب البارع همام خرج من رحم المعاناة وقرر ألاّ يعود اليها ابدا..خاض في طفولته معركة رهيبة ومثيرة..اسمها البقاء علي قيد الحياة وكانت له أساليبه وألاعيبه الخاصة به..قاوم الملاريا والبلهارسيا واليرقان ..وعندما قبلوه بالمدرسة الوسطي وأودعته الحكومة إحدى داخلياتها ..شعر أنه قد وصل إلى بر الأمان .. ونشأته تلك جعلته يكره الفقر والحرمان .. لذلك لم يشعر في يوم من الأيام أن المرتب الذي يتقاضاه من وزارة الصحة والدخل الذي تدره عليه عيادته الخاصة يلبيان ذلك الافتقار التاريخي للأشياء لديه.. والطبيب همام لم يكن مقتنعاً بعمله كطبيب فهو لا يأبه كثيراً للوجاهة الاجتماعية وليس معنياً بعذابات الناس الغلابة الذين خرج من أصلابهم .. ولعل أكثر صفقة خرج بها من عمله كطبيب هى زوجته المذهلة نهلة وطفلتها ريم التي تخطو أولى خطواتها فى الثانوية العامة ..
وفي أمسية رائعة ناعسة فجر الدكتور همام رغبته بعدم التوجه للعيادة وأعقب ذلك بأن أعلن لنهلة وريم تخلية نهائياً عن مهنة الطب . نهلة أسقطت كتاباً كانت تقرأ فيه على الأرض وشهقت من هول المفاجأة . كيف يجرؤ الدكتور همام علي مصادرة أحب الألقاب الي قلبها وهي تقدم نفسها لصديقاتها الجدد.. نهلة التقطت جريده من الطاولة التى أمامها وحاولت أن توحي لهم بأنها تتشاغل بالقراءة وهي فى الواقع كانت تداري دموعها التى سالت على خدها دون هوادة..وفات على همام أنها تبكي قال همام وهو يوجه حديثه إليها .. ما تضعي الصحيفة هذه جانباً يا حبيبتي وتشاركينا فى النقاش ..الصحيفة .. الصحيفة ؟؟ طيب ليه ما نصدر صحيفه ؟ ثم ..إسمعوا أيها السادة والسيدات ..لقد قررت أن أصدر صحيفه ..صحيفه ؟ نهلة وهي تهتف بحراره.. وحتنشر صورتي إذا ما فزت ببطولة الجمهوريه للتنس ؟ .. وعلى صفحة كاملة يانهله.. صحيفه ؟ ودى بتجيب حاجه ؟ ريم تساءلت فى براءة ..هذا يعتمد على مستوى الموضوعات التى تنشر بها ومدى التأثير الذى تحدثه فى نفوس القراء ..والله يابابا أنا ما مقتنعه.. لكن لو ماما وافقت أنا موافقه .
الصحافة مهنة محترمة يا ريم ..نهلة وقد تبنت الفكرة ..لكن أيه نسميها ؟ بسيطة يا نهله.. نسميها أخبار الساعة ..لا لا .. ساعة أيه ؟ نسميها مرآة الأحداث . . ريم الواعدة تشارك فى عملية البحث عن اسم ..لا ياريم ده إ سم برنامج فى التلفزيون .. أصلك انت داخله طوالى على كل القنوات الفى الدنيا أنا أقترح نسميها المجهر ..تانى رجعنا للطب ؟ أبدا يا ريمونا .. المجهر معناه أنك تضع كل الاحداث تحت دائرة الضوء .. معناه التحليل العلمى للأشياء . ومعناه الموضوعية ..معناه ..خلاص .. خلاص ياهمام نسميها المجهر .

وهكذا أصبح الحلم حقيقة إذ رأت المجهر النور وتلقفها الجمهور بشغف شديد وخرجت فى ثوب قشيب أدهشت السودان ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها . ذلك لأنها توظّف التكنولوجيا بشمولية مطلقة . فالجريدة تدخل الإنترنت وتطبع فى لندن وتوزع عبر القمر الصناعي (موزه) ..إذ يقذف الموزع الإلكتروني الجريدة فى شكل موزه ..تماماً كما يفعل رماة الكرة البرازيلية . فهى تطير من وسط لندن مروراً بالمتوسط وجبل طارق لتحط الرحال فى الخرطوم .وجريدة المجهر تنمو وتزّدهر باستمرار وتسجل مبيعاتها أرقاماً أصابت الكمبيوتر بأزمة قلبيه.
حقيقة يحق للمرء أن يفخر بوجود صحيفة فى الساحة بمثل هذه المصداقية والأنتشار.. ولكن ماهو السر وراء هذه النجاحات ياترى ؟! هل هي التكنلوجيا التي تستخدمها الصحيفة ام كادرها الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة . فمعروف أن الدكتور همام رئيس مجلس الأدارة ورئيس التحرير وسكرتير التحرير والأستاذ ناجي الذى هو فى الاصل فنان تشكيلي يرسم الكاريكاتير ويحرر الصفحات الرياضية والفنية وعمود المجهر وراء شكواك ويشرف على الشئون السياسية والعسكرية و أخبار الجريمة .. ثم الأستاذ عليان وهو فى الأصل مبرمج كمبيوتر غير أنه أضحي الآن مستشار الشئون العامة للصحيفه وتبقت لنا الرائعة كوثر سكرتيرة الدكتور همام والمحررة الذائعة الصيت ولا ننسي الحاجة صفية والأستاذ عليان .. وتحت الضغط العالمي والأقليمي طلباً للصحيفة أعلنت المجهر فى صدر صفحتها الأولي عن حاجتها لمحررين من حملة (الليسانس فى الاعلام الا أن الاستاذ ناجي أضاف مؤهل الأحياء فى الأعلان لتقليل عدد المتقدمين للانضمام للجريدة ونسي أن فى هذا السودان البلد الواحد ليس بوسعك وضع الناس امام معضلة .فكل مشكلة ولها حل.وكل تخصص يقبل التخصص الآخر. فمثلاً كل السياسين كانوا مهندسين وحقوقيين وعساكر فى أن واحد . كيف ؟ لا أدرى .. وتجد الموسيقار من هؤلاء يحمل دبلوم معهد الموسيقي والمسرح بجانب ليسانس كيمسترى . لذلك لم يكن مستغرباً أن يتقدم سبعة أشخاص من حملة الليسانس فى الأحياء والأعلام لملء الوظائف المعلن عنها.. الدكتور همام أسقط فى يده فدعا لأجتماع عاجل لمجلس الأدارة وهيئة التحرير للتفاكر حول الطريقة المثلي التى يتم بها استيعاب العدد المطلوب من بين هؤلاء السادة.. وخرج الاجتماع بضرورة أخضاع المتقدمين لامتحان تحريرى وتم تكليف الأستاذ ناجى والأستاذ عليان بوضع أسئلة الامتحان وذكرهم الدكتور همام بأن يكون الامتحان قلوبال ومتعمق فتقاسما الأسئلة بحيث يضع الأستاذ ناجى اسئلة التاريخ والجغرافية والعلوم والأستاذ عليان أسئلة الأعلام والشئون السياسية والاقتصاد.

آمال المصري
02-08-2010, 07:14 PM
قرأت واستمتعت وتابعت بشغف
ومازلت في انتظار باقي الريبورتاچ
مبدع أنت سيدي الفاضل
تقديري الكبير


همسة
مراعاة الهمزة ليكتمل الإبداع

سامي عبد الكريم
03-08-2010, 03:04 AM
انطلاقة جميلة
سأتابع هذا الابداع

بارك الله فيك

محمد ذيب سليمان
03-08-2010, 05:59 AM
لك سيدي طريقة ممبزه في سرد الأحداث أراها محببة الى قلبي
ومواضيع في ظاهرها لا تخدم سوى الكتابة ولكنني أرى بين السطور الكثير
استمتعت معك
شكرا لك

عبدالغني خلف الله
03-08-2010, 07:46 AM
اشكركم يا أحبتي رنيم وسامي ومحمد ويا ابنتي رنيم عساك والإبنة ربيحة تصححان مثل هذه الهنات ولكم أعبركم أهدي الحلقة الثانية .

عبدالغني خلف الله
03-08-2010, 07:48 AM
الحلقة الثانية
جلس الأستاذ ناجى وامامه ثلاث علب من السجائر (وسيرموس شاى) وبدأ يفكر فى مادة الأسئلة وكتب مادة التاريخ:
1- أذكر عدد ضحايا الحرب الكونية الأولى وحرب داحس والغبراء.؟
2- متى وأين ولد تشرشل و المهاتا غاندى.؟
3- متى وأين توفي هؤلاء الأسكندر الثاني والفهرر هتلر؟
ثم أسئلة الأحياء .
1- تكلم عن الأستنساخ بين النظرية والتطبيق.
2- )عبارة (سى سى) اختصار لوحدة معروفة .. ماهى؟
3- من هو مكتشف أنثى الأنافوليس؟
4- من هو صاحب نظرية العلاج عن طريق الموجات الجيوفزيائية ؟
5- كم تبلغ درجة الحرارة على عمق ثلاثة أمتار بساحل البحر الأحمر صيفاً ؟
ثم الجغرافيا:
1- وضح خطوط الطول والعرض لمدينة القاهرة.؟
2- كم تبلغ المسافة بين الأرض والقمر وبين القمر وكوكب المريخ ؟
3- علل الأتي :
أ*) الكسوف.
ب*) الخسوف.
ج) المد والجزر.
د) طبقة الأوزون.
حمل الاستاذ ناجي ورقته سعيدا بأسئلته التي كلفته حوالي 20 سيجارة وخمسة اقداح من القهوة وقبل تقديمها للدكتور همام عرج علي مكتب الاستاذ عليان للاطمئنان علي انه يقوم بواجبه علي الوجه الاكمل ..الاستاذ عليان استغرب من سهولة الاسئلة التي اقترحها الاستاذ ناجي وخمن ان يكون هناك عدد من معارفه او الذين يهمهم امرهم بين الذين سيجلسون للامتحان ومن ثم اطلعه علي بعض الافكار التي ستشكل الاسئلة الخاصة به .. سالهم في مجال الاعلام عن اول صحيفة صدرت في العالم ومن هو رئيس وطلب منهم توضيح الفرق بين اللقاء الصحفي والمقابلة الصحفية علي خليفة البعد المكاني والزماني وسالهم عن اول شهيد لمراسلي وكالات الانباء في الحرب الكورية وأشياء من هذا القبيل اما في مجال الاقتصاد فقد سألهم عن مؤشر داو جونز ومؤشر نيكاى وعن قيمة بعض العملات مثل القلدر الهولندى والراند الجنوب افريقي واليورو مقابل الدولار وسالهم عن الشركات المائة الكبرى وبماذا اقفلت بورصة لندن من حيث الاسهم والمستندات .. د/ همام لاحظ انهما اهملا الاسئلة السياسية .. تناول قلم وكتب .. ما هي المادة في الدستور التي تخول رئيس الجمهورية صلاحيات اعلان الحرب ؟.. عرف الآتي : الديماجوجي .. البراغماتي .. الميكيافليه .. ثم اراح ظهره علي الكرسي وهو يردد .. أوكي .. أوكي .


بذلت الانسة كوثر جهودا مقدرة في اضفاء اجواء الامتحانات علي قاعة اجتماعات مجلس الادارة بالجريدة.. باعدت بين الكراسي ولم تنس ان تضع باقة ورد علي طاولة المراقب . وطلبت من كل ممتحن أن يكتب اسمه رباعي .. وعنوانه بالعاصمة ورقم هاتف المنزل أن وجد . وجلس الاولاد علي جانب وكانو اربعة هم :
1- مهند الامين .. وقد قدم من الريف ..
2- امير سليمان .. حي اركويت المعروف بثرائه .
3- مازن عبد الله .. وقد قدم أيضاً من الريف و
4- جبارة الحاج مرحوم .. الخرطوم شرق
اما الآنسات فكان عددهن ثلاثه :
1- ناهد عثمان .. الامتداد الجديد وهو حي أرستقراطي من الدرجة الأولي
2- سلمي عمر
3- أم بشار عيسي .. وقد قدمتا من ضواحي الخرطوم.
إنكب الجميع في الاجابة علي الأسئلة عدا الممتحن جبارة مرحوم من حلفاية الملوك الذى قام بتسليم ورقة الاجابة فارغة للعم صديق المشرف علي الامتحانات وقد كتب عليها اسمه والعبارة التالية : البراغماتي هو الجن الاحمر الذى سيواصل الاجابة بدلاً عني .. وفي هذه الاثناء دخل الدكتور همام غرفة الامتحانات وسحابة من الدخان من فوقه ومن امامه ومن خلفه .. أخرج غليونه من فمه وخاطب الممتحنين قائلاً هاو دو يد دو ماى فريندز ؟ ثم .. الله وين زميلكم جباره؟
- الزول ده غادر القاعة وانظر ماذا كتب.. دكتور همام أمسك بالورقة يقرأها وقد قلب شفته السفلي وهو يهمهم ..
- هذا طبيعي ياعم سيد ويحدث دائماً في مثل هذه الظروف... الطب يسمي مثل هذا التصرف بالهستريا الصامتة أو الهستيريا المتعقلة... ودكتور ج-ل قولدن يسميها المرح الاكتئابي.

عم صديق حدث نفسه قائلاً:
- طيب انت وكتين شاطر كده في الطب ماتمشي تفتح ليك عيادة ؟
دكتور همام أكمل في سره هذا المرض سيصيب ثلاثة ارباع أفريقيا "
دكتور همام طلب الاستاذ ناجي "بالانتركم" وسأله عن شكوى مواطنى الابيض وبورتسودان حول مشكلة مياه الشرب . وكانتا قد وردتا فى باب "المجهر وراء شكواك" أستاذ ناجي أجابة قائلاً :
- والله سعادتك عقدنا سمنار بمركز تدريب الصحيفة بالرياض" وقد خرج السمنار بتوصيات محددة سنرفعها لجهات الاختصاص.
- جميل .. خلي السكرتيرة توصلنى بالسيد وزير الري .. آلو سعادة الوزير أنا دكتور همام رئيس تحرير جريدة المجهر..
- نعم؟
- ولو يا سعادة الوزير... بالنسبة لمشكلة مياه الابيض ..نحن عقدنا سمنار فى الجريدة وقد أوصي المؤتمرون بمد خط أنابيب ونحن باسم الجريدة نتبرع بخمسمائة ماسورة 10 بوصة دعما لهذا المشروع..
- ولا حاجة سعادتك .. تعلم أخي الوزير أن الكلام سهل جداً لأى صحيفة .. لكن أن تقترح الحل وتشارك فيه فهنا مربط الفرس .. وهذا منهج جريدة المجهر .. مع السلامة ياسعادة الوزير.

الآنسة كوثر دعت لاجتماع هيئة التحرير الذي درجت الجريدة علي عقده الساعة السادسة والنصف صباح كل ثلاثاء.. د/ همام يعتقد ان هذا هو انسب وقت لعقد الاجتماعات وقال في هذا الصدد:
- واحدين تلقاهم يدعوك لاجتماع الساعة الواحدة ظهرا يعني ماذا تتوقع من ناس زي ديل الواحد فيهم يركض طول النهار ..
وعلي غير عادته خاطب د/همام الاجتماع لمدة ساعة كاملة .. وكان في الاجتماعات السابقة يفضل الاستماع اكثر من التحدث .."الاجتماعات في حد ذاتها مدارس كما تعلم أخي العزيز أختي العزيزة " وكان يقصد الآنسة كوثر . .الصحافة هي علم قراءة المستقبل وفن صياغة التوقعات واستباق الأحداث -د/همام يواصل حديثه - وقد قرأ في وجوه الحاضرين انبهارهم بهذا التنظير...ان تصف الحدث هذا سهل وميسور وتقوم به الكاميرا ان تتوقع حدوثه هنا تكمن العبقرية. علي الصحفي ان يكون قريبا من الجماهير يسعد لسعادتهم ويحزن لحزنهم ..الصحفي هو سماعة الطبيب التي يقيس بها أهل الحكم أوجاع المجتمع .
- عدنا للطب تاني يا دكتور .. استاذ عليان يحدث نفسه .. الغريبة الزول ده ما درس صحافة لكن ينّظر ليك في الصحافة بمنطق الطب .. مثلا يقول ليك .. حمي الاسعار والسودان استرد عافيته وعبارات زي شريان الحياة وفي قلب المعركة ..
- الصحفي الذي يكتب من داخل غرفة اوعلي منضدة صحفي ديواني .. د/همام وقد تجرع نصف كوب من الماء لتجميع افكاره " .. إن جلوسك علي قمة النجاح يتطلب ضعف المجهود الذي اوصلك اليه .. وهذا هو ديدن جريدة المجهر .. تصفيق من الحضور نصفه بالايدي ونصفه بالوريقات التي يكتبون عليها الملاحظات " الصحفي يعطيك الصورة يا ابيض يا اسود .. اللون الرمادي لا وجود له في عالم الصحافة " الآنسة كوثر بدأت تتململ وقد نفذ صبرها إذ أنها تتوقع تلفون من خطيبها الذي يعمل فيدولة قطر ".. والصحفي النابه هو الذي يشكّل المجتمع لا أن يتبوتق معه في بوتقة واحدة..
- عم صديق يشارك بمداخلة قصيرة - وقال للاجتماع ان برنامجي وبرنامج هذه الجريدة يلتقيان في رضاء الله ورضاء المواطن ويجب ان يبقي هذا البرنامج مستمرا و أردف مستخدما لغة الكمبيوتر ..يا اخوانا لا تعوقوا أي برنامج ما دام ذلك البرنامج يعمل بكفاءةdon’t disturb aworking program
انتهي الاجتماع قبيل التاسعة بقليل والآنسة كوثر فاتها تلفون خطيبها ولكنها استمعت الي رسالته التي سجلها لها علي جهاز الآنسر ماشين فشعرت بسعادة عظيمة جراء الكلمات العذبة التي التي صاغها لها خطيبها المتّيم وتذكرت حديث الدكتور همام حول الخروج للشارع واستلهام آراء الناس من أفواههم وعلي الطبيعة .. وقررت أن تتبع القول بالعمل .. ووصلت منطقة السوق ووجدت مجموعة من النسوة في انتظار الحافلة وكان النهار حارًا جداً والغبار يلف المكان .. لفتت انتباه إحداهن قائلة: يا خالة أنا من جريدة المجهر وعندي ليك سؤال حول التقاليد البالية مثل الزار وكدة.. تقولي شنو للقاريء الكريم؟
- يا بنت انتي مجنونه لا قدر الله .. نحن الآن بانتظار حافلة توصلنا بيوتنا وما عندنا وقت ولا رغبه في أسئلة ..
ما هو يا خالة الموضوع وما فيهو..
يا بنتي أمرك غريب وعجيب أغربي عن وجهي فوراً وإلا ..
الآنسة كوثر أصابها إحباط من نوع غريب حتى أنها بكت .. وأخرجت منديلها لتجفف دموعها وفي هذه الأثناء جاءت حافلة فهُرع الجميع نحوها وتركوا كوثر وحدها ..
كوثر هذه جميلة وكأن أباها القمر .. عصبية وكأنها البهار لذلك صممت أن تأخذ الحافلة التالية لتحلق بهده المرأة وتذهب وراءها لأي مكان ولو أدى ذلك للمجازفة بحياتها.. يجب أن تأخذ بيد هذه السيدة الغارقة فى دياجير الجهل والتخلف .. غير أنها تأخرت قليلاً وهي تصلح هندامها .. فأنطلق سائق الحافلة الحاقد بالرغم من أنه رآها وهي تحاول اللحاق به .. عادت تجرجر أذيال الخيبة الى مبنى الجريدة وفى ذهنها ضحكة ذلك المساعد الذي أرسل لهل عدة إشارات تنم عن الصعلكة .. دخلت على الدكتور همام وبقايا من دموع علقت برموشها الطويلة .. دكتور همام قام من مقعده وبحنان أبوى خالص أخذها من يدها وهو يتمتم ..
- ما بك آنسة كوثر .. شكلك ما عاجبني أبدا الظاهر أنك أتخانقت فى التلفون مع خطيبك .. ردت عليه بأدب شديد وحياءاً ً أشد .. ولا حاجة يا دكتور بس صداع بسيط .
انحنى فوقها يطبطب على كتفها فغمره عطرها المتميز الذى أرسله لها خطيبها من قطر طلبت منه أن يرسل لها نوعاً معيناً من العطر فأرسل لها طرداً بالبريد الجوي به أكثر من ثلاثين قارورة على عنوان الجريدة.. وكان الدكتور همام يود سؤالها عن اسم ذلك العطر ليشترى منه زجاجة لنهلة .. انسابت الدموع على خدها الناصع فأرتبك الدكتور همام .. ناولها منديل ورق كبادرة محبة ظلت سجينة صدره وأعصابه لا يستطيع الإفصاح عنها وتمنى لو أنها بكت على كتفه ولو أنها تسأله عن أخباره على حد تعبير نجاة الصغيرة التى أصبحت كبيرة وبالرغم من ذلك يكاد صوتها يشق ثمرة الفؤاد الى نصفين

عبدالغني خلف الله
04-08-2010, 07:18 AM
الحلقة الثالثة
الآنسة كوثر استعادت حيويتها وغادرت الدكتور همام ووجهها الطفل يدوزن المكان .. عادت إلى مكتبها وجلست أمام الكمبيوتر ودخلت مباشرة على(الويندو) ومن ثم أدخلت نتيجة الجماعة إياهم وطلبت منه تحليل النتيجة .. أعطى الكمبيوتر نسبة نجاح بلغت 60% لكل ممتحن فالإجابات متشابهة وكأنهم اشتغلوا بالكربون دكتور همام قال لأستاذ ناجى أدعوهم لى على الغداء اتصلوا بـ(هلتون) لإحضار مأدبة كاملة ..أستاذ ناجي رفع حاجبيه استغرابا من هذه الفكرة .. دكتور همام قرر بينه وبين نفسه تصنيف المتقدمين عبر الطريقة التي يأكلون بها .. مثلاً الذي يأكل كل شئ أمامه وبشراهة فهذا يصنف وكأنه طماع وأناني والذي يأكل بيديه يصنف بأنه متخلف ولا يصلح للعمل في جريدة عالمية كالمجهر والذي يأكل بأسلوب الخطوة خطوة وبرزانة ويشارك في النقاش أثناء الأكل ويجيد استعمال الشوكة والسكين ويطبّق الفوطة بعد أن يمسح بها فمه ويضعها علي يمينه ويطلب معلقة سكر واحدة ( بليز) للقهوة وليس للشاي والذي يتجشأ بالمنديل ويقول عفواً ويقشر البرتقالة ويسلخ التفاحة كسلخ الشاه كل هذه مؤشرات ستساعد في تصنيف هؤلاء السادة .
( الجماعة ) عندما علموا أن المدير يدعوهم علي غداء من الهلتون جن جنونهم وانتابتهم حالة من الغرور .. باستثناء أمير من أركويت وناهد من الامتداد و لأنهم جاءوا من قلب الخرطوم وما أدراك ما الخرطوم فقد اوجس الاثنان خيفة من هذه الدعوة الغريبة ..
ناهد قالت لامير : الموضوع ده فيهو( ترِك ) حكاية غداء من الهلتون دى ما داخله لي في رأسي .. أمير أجابتها بتخوف اكثر : لكن الهدف شنو يا ناهد . وهكذا قرر الاثنان التعامل بحذر مع هذه الدعوة..غداء من الهلتون يعني شنو ؟ ناهد تحدث نفسها الواحد كل يوم والتاني هناك..أعياد ميلاد وحفلات وداع لأفراد(الشله..).هلتون؟ !!و الأكل يصل بارد ؟ المدير ده عاوز يجننا ؟ أمير وقد استرسل في التفكير..أما أم بشار وسلمي ومهيد ومازن فقد ابتهجوا أيما ابتهاج..فهم بالكاد يشاهدون الهلتون من الخارج عبر نوافذ (الحافلات) فما بالك بغداء معتبر من هناك.
كوثر وقد سيطرت عليها أفكار دكتور همام حول الاحتكاك بالجماهير أخذت عربة أجرة وطلبت من السائق التوجه نحو السوق الشعبي لأستكمال موضوع ( هاجس الوداع ) ليلحق بصفحتها الأسبوعي .. سائق التاكسي ذُهل من حجم الأناقة التي ارتمت بالمقعد الخلفي وكان في بالة موضوع (فك التسجيلات) والمنافسة التي احتدمت بين الهلال و المريخ حول أحد اللاعبين القادمين من زائير وكان قد سمع أن سعره تجاوز المليار جنية .. شوية والله ..قالها بصوت عال..آنسة كوثر قالت له نعم ؟! السائق استدرك وحول رقبتة باتجاهها وهو يتمتم: لا مافي حاجة يا أستاذة ولم ينس طبعا ان يملا عينية من جمالها الاخاذ وتنسم عطرها المتميز القادم من قطر..بس في الحقيقة اتذكرت لي موضوع ما بخص البنات..كوثر الشغوفة بالتوغل في دواخل الآخرين شجعته بالاستمرار في الحديث..
- موضوع أيه بالضبط ؟ آسفة اذا سألت يعني ..
- بصراحة كده أنا هلالابي وماعاوز الهلال يفرط في اللاعب الزائيرى وسمعت انو المريخ سيوسط رئيس زائير .
- لوران كابيلا ؟
السائق أدرك انه أمام مثقفة حقيقية فأجابها بثقافة اشد : في الحقيقة أنا مع الرأي الذي يقول ان الرئيس موبوتو سي سيكو سيربح الحرب بعد التدخل السافر من فرنسا وأنو الفرانكفونية نهج متجذر في أفريقيا .. كوثر لاذت بالصمت ورأت ان هذا السائق لابد أن يكون أستاذ جامعي .. فقد حدثتها احدي صديقاتها بان كل سائق تاكسي تسأله عن نفسه يجيبها بأنه أستاذ جامعي .
أخيراً قد وصلت إلى السوق الشعبي .. ترجلت ونقدته بعض المال .. قبضة وقال لها : مرسي بكو ,, اورفوا..
- يا ساتر.. معقولة دى ؟
توغلت في السوق الشعبي وفي ذهنها سؤال حول ما يمثله الوداع بالنسبة للمسافرين وبينما هي تتجه نحو الجزء المخصص للبصات المسافرة للأقاليم وجدت ان اصدق وصف يمكن ان يطلق علي السوق الشعبي هو .. السوق الشعبي
لذلك أخذت عربة أجرة ثانية وطلبت من السائق التوجه نحو المطار وهناك استوقفها أحدهم وسألها عن التذكرة فأجابته بهدوء شديد:
-أنا في الواقع صحفية.. أود إجراء استطلاع مع المسافرين إلى الخليج ..
-ممكن اشوف البطاقه بتاعتك ؟
-طبعا بكل سرور...اتفضل.
-البطاقه دي غير مجدده..
-لا ابدا...الحقيقه انشغلت شويه الايام الفاتت وان شاء الله تتجدد..
-طيب عندك اذن من مدير المطار ؟
-لا ما عندي.ثم وفي ارتباك واضح .. ما الموضوع وما فيه..الحكايه وكده كلها دردشه خفيفه وما بتحتاج لإذن وكده..
-دردشة .. مثل ماذا ؟
-والله يا أخ سؤالي بدور حول هاجس الوداع بالنسبه للمسافر.
-الوداع؟!!..وداع منو ؟..ممكن تنتظري دقيقة..
إختفي ذلك الشخص وأحضر معه موظف يرتدي زياً رسمياً..حياها ذلك الموظف بحرارة وعندما تفرس في ملامحها ازدادت حرارة الاستقبال:
-مرحبا بناس السلطة الرابعة..اتفضلي.. المطار مطارك..
انسه كوثر الانتقائية تفحصت وجوه الركاب وحاولت من خلالها قراءة مستوياتهم الفكرية والذوقية..هكذا كوثر..فهي عندما قبلت عصام كخطيب كان ترتيبه نمره عشرين من جملة الذين تقدموا لها..إذ كانت تخضع كل متقدم لها لمقاييس علمية ومنهجية دقيقه..بادئة بالصفات الفسيولوجية والمورفولوجية ثم الجينات الوراثية للتأكد من أنه لا أحد من الأبوين لديه أمراض وراثية ثم بعد ذلك تنتقل للمقدرات الخاصة والعامة كقوة الشخصية وقوة التأثير والحضور وفن التفاوض وفن إدارة الحوار ومن ثم مستويات الإنفاق العام والخاص والمظهر العام وأشياء من هذا القبيل ..وكان عصام محظوظا فقد حصل علي ستة من عشرة بتقدير فوق الوسط بينما رسب الباقون رسوبًا مشرفاً.
اقتربت كوثر من أحد المغادرين وكان محاصراً بزوجته وعدد من الأطفال في سن السادسة وما دون ذلك والذين حولوا الصالة إلى مضمار سباق سيارات )الفورميولا واحد ( وقالت له في أريحية مطلقة:
-نود أخي الكريم أن نسألكم عن هاجس الوداع وأنتم تغادرون الوطن إلى مرافئ الغربة..ماذا تود ان تقول لقراء صحيفتنا..صحيفة المجهر ؟
ذُهل الرجل من شدة المفاجأة.. أولاً لكون كوثر متألقة لدرجة المبالغة وساحرة وهيفاء وممشوقة القوام ولكونها اقتربت منه اكثر مما يجب..التفت نحو زوجته ثم عاد ليتصفح كوثر من جديد وهمهم في ارتباك واضح وهو يوزع نظراته بينها وبين زوجته التي أنزلت رضيعها من حجرها وناولته لابنتها الكبري وبينما كانت تقف لتعيد لف ثوبها عليها تبعثرت أوراقها واندلقت محتويات حقيبة يدها فانكب أطفالها يجمعونها وهمم يهزجون في فرح طفولي غامر..
-الحكاية شنو يا أبو السارة ؟!!
-لا مافي حاجه..الاخت صحفية..قلت لي الموضوع شنو؟
-هاجس الوداع وانتم ذاهبون الي الغربة..
-الغربة ياتا ؟ يابت الناس..؟!! الزوجه وقد انفجرت صائحة وكأنها تريد ان تفرغ كل عوامل الإحباط التي عاشتها أثناء الإجازة..شئ جمارك و مساهمات وضرائب وشئ مجاملات..رجعنا يابنت أمي لا بيت لا قطعة ارض وبعد ده كلو جاية تغني لينا موال الغربة والاغتراب..
-انتظري ثانية يا علوية الحكاية مش كده..الزوج وهو يحاول دون جدوى إسكات زوجته..انسه كوثر لم تحتمل أعصابها المرهفة ذلك الموقف ..فاعتذرت بشفافية وغادرت الصالة مسرعة ومن المطار إلى مكاتب الصحيفة حيث الدكتور همام الذي مسح دموعها وأحاطها بحنان أبوي خالص..ولم يفته تنسم ذلك العطر المنداح..عطر (قطر).

اماني محمد ذيب
04-08-2010, 03:40 PM
سيدي المبدع
دائما اتابع بشغف رواياتك
حتى وان قصرت في الفترة الاخيرة
لانشغالي بالامتحانات
الا انني احب ما تكتب
واحب انتماءك للسودان
وتعلق كل ما تكتب بها
اتابع كتاباتك الرائعة
دمت متميزا

عبدالغني خلف الله
05-08-2010, 06:45 AM
شكراً لك ياأبنتي وأسأل الله العظيم سبحانه وتعالي أن يوفقك في نتيجة الإمتحانات توفيقاً باهراً عاجلاً غير آجل وأن يحفظك من كل سوء.

عبدالغني خلف الله
05-08-2010, 06:46 AM
الحلقة الرابعة
تحلق الجميع حول المائدة الفخمة حيث الأصناف المدهشة من الطعام، دكتور همام عرج علي حوض البانيو المزروع أمام القاعة وتناول قطعة صابون ضخمة وبدأت في تحريكها بخفة ورشاقة وكأنه فتي من فتيان الاكروبات.. آنسة كوثر كانت تراقب هذا باستغراب وتساءلت في سرها لماذا كل الأطباء بارعون في هذه الظاهرة وتذكرت ان الطبيب عادة ما يكون عنده هاجس (الجرثمة..)
دكتور همام أعطى شارة البداية بان اخذ الفوطة التي علي الطبق المخصص له وفضها بعناية ثم وضعها علي صدره..أمير وناهد غمز كل منهما للآخر..أم بشار اعتقدت ان هذا الشئ (المقصطر) والقابع أمامها لابد ان يكون قطعة عملاقة من الشواء اللذيذ ..إذن فلتأخذ هذا الشيء المقصطر لتري ما بداخلة..وبدا لها عند ملامسته حاراً وجافاً وعندما فضته فوجئت بحبة بطاطس مسلوقة وغير مقشره وتوالت عليها المفاجآت وهي لم تستوعب بعد ما يدور حولها..أما صديقنا مازن فقد ظل يطارد حبة سوداء بالشوكة والسكين وضعوها له ضمن أشياء أخري يراها لأول مره بيد انه لم يظفر بها وأخيرا توكل علي الله وضغطها بمقدمة الشوكة ضغطة شديدة فإذا بها تطير وتستقر في طبق الدكتور همام الذي التفت نحوه وقال له(ثانك يو انديد)..أما مهيد فقد وضع أمير تحت الرقابة المشددة وصار يقلده في كل شئ كذلك فعلت سلمي بالرغم من ان الموقف كان يعتقد من حين لآخر..خاصة عندما جاء دور الأطباق التي تتطلب مهارة خاصة في التعامل .
دكتور همام غادر قاعة الطعام متوجها لحضور مؤتمر صحفي طارئ دعا له السيد وزير الزراعة حول نفير الحصاد..ولج إلى قاعة المؤتمر وهو يوزع الابتسامات يمنةً ويسرةً وقد أسعده كثيرا حرص محرري الصحف علي الاحتفاء به حتى ان مندوب إحدى الوكالات الأجنبية إعتقد انه الوزير فأسرع يطلب منه موعدًا خاصًا بوكالته وعندما وصل الوزير تحول الاهتمام نحوه فذهل(الخواجة) مما يحدث أمامه خاصة وانه يزور السودان لأول مره .
الوزير طالب أجهزة الإعلام بتعبئة الرأي العام للمشاركة في حملة الحصاد..دكتور همام أعطى الفرصة الأولى لتوجيه الأسئلة..فقال بعد ان توقف هنيهة ريثما ينتبه الحاضرون: لماذا يا سيادة الوزير تكون الوفرة كما الندرة مشكله في السودان ؟**************** ******! شكرا سيدي الوزير ..قال هذا وجلس..سؤال مختصر ومحدد وليس كما يفعل بعض الصحفيين..تجد الواحد من هؤلاء يصوب لك أربعه أسئله دفعة واحدة أما أصحاب سؤال أخير فهؤلاء يصيبونك باليأس قبل أن يسلموا (المايك ) لزميل آخر ونوع آخر يحاضر المسئول نصف ساعة كاملة قبل ان يقذف بالسؤال ..الوزير أرتبك قليلا وهو يستمع لسؤال الدكتور همام غير انه استعاد رباطة جاشه بسرعة وأرجع الأسباب إلى أشياء مثل البنيات التحتية ومثل التقلبات المناخية وتذبذب الأسعار والي النهج الاستهلاكي للفرد وغياب المعلومات وعندما ترجمت الإجابة صفق مندوب الوكالة الأجنبية بحرارة..الشيء الذي أسعد الحضور .
انتهي المؤتمر وعاد د/ همام إلى منزله ليجد اكثر من مفاجأة بانتظاره..حقيبتان في بهو الصالون الأنيق وقد جلست نهلة وريم الواعدة في كامل أناقتهما..
-السلام عليكم إن شاء الله خير ؟ انتوا مسافرين إن شاء الله ؟!
-و(التيك اوف ) بعد ساعتين..
-مسافرين وين؟ وليه ما اخطرتموني؟
-مسافرين ( كان ) لحضور المهرجان الدولي للسينما وقلنا تكون مفاجأه سارة بالنسبة ليك.
دكتور همام رجع بذاكرته الي ايام صباه وكان وقتها طالبا بالمدرسة الوسطي..كان كل طموحه ان يزور الخرطوم ولو لمرة واحدة ..نهله قالت له وهي تفتعل الأهمية.. حارسل ليك تقارير وصور طازجه لفعاليات المهرجان..ريم الواعده احتجت علي كلمة ( فعاليات) وهي تضرب (الموكيت )بأرجلها : يا عالم المفرده دي كرهتوها العيشه..فعاليات فعاليات؟!
يبدو أن المجهر لا تريد ان تترك الناس في حالهم .. فبعد الهجوم الخطير علي أندية المقدمة والكرة السودانية طلع علينا الأستاذ ناجي بمقال ضاف حول التواصل الفكري والثقافي بين الأجيال ولسوء حظه طال بعض الأسماء اللامعة في دنيا الأدب والثقافة أضاف أن هؤلاء السادة لا يعطون الفرصة للأجيال الطالعة لتدخل إلى دائرة الضوء ..وربط بين ما يحدث وبين الملك والعرش ..وتساءل .. إذا كان شقيقك الذي يكبرك بعامين تم تنصيبه ملكا فكم يتعين عليك الانتظار لتصبح ملكا؟ وبعد نشر المقال انهالت التلفونات والفاكسات وعبر الإنترنت في حملة هجومية ضارية لم تشهدها الساحة الصحفية من قبل.. أحد الغاضبين تساءل في مرارة هل من حق خريج جديد منحته الصحيفة عمودًا التعرض لأشخاص في قامة الذين ذُكرت أسماءهم في المقال ؟ ثم أردف قائلا (والله ان هذا التصرف لا يعدو عن كونه وقاحة وقلة أدب).. قاريء آخر تساءل في مقاله ( من يكون هذا الصرصور الذي اسمه ناجي ؟؟ ومن هو الحيوان الذي سمح له بنشر هذا المقال؟؟) قارئ ثالث هدد الأستاذ ناجي بالاغتيال.. أما الأستاذ همام فقد اقنع ناجي وهو يحاول تخفيف محنته عليه ..ان علي أي صحفي يود الخوض في قضايا جادة ان يضع أعصابه في ثلاجة وإلا فالاستقالة أوجب.

وصلت أولى رسائل (نهله) من المهرجان الدولي للسينما وقد إستهلت رسالتها هذه العبارة :من مدينة( كان ) التي تضج بالجميلات وكأنهن أشجار البان .. ما هذا الهراء يا نهله..؟ همام وهو يتوقف عن القراءة ويطوي الرسالة..ما هكذا الكتابة الصحفية..ويعود لمواصلة القراءة..من مدينة الموضة والأناقة والشهرة اكتب لكم أعزائي القراء عن درة أفلام هذا المهرجان الذي حصد جميع جوائز المهرجان..فيلم المتشابهات (سيميلاريتز) وتتحدث قصة الفيلم عن أسرة صغيرة تتكون من أب وإبن وأم وابنة..الإبن مولع بأبيه يقلده في كل شئ ..اللبس وطريقة الكلام والمشي والضحك .. حتى انفعالاتهم تبدو متشابهة وكذلك الحال بالنسبة للام والابنة .وتورط الأب في عمليات غش وتزوير وتطارده إحدى عصابات المافيا التي تلقي القبض علي الإبن اعتقاداً منها بأنه الأب وتخضعه لعمليات تعذيب لا تخطر علي بال..أما الإبنة التي لا تعلم شيئا عن غراميات أمها فيلتقطها ملياردير علي أساس أنها الأم ولكنه يفاجأ بالإبنة المتفجرة جمالاً وحيويةً فيداوم الاتصال بها..وتكتشف الأم أن ابنتها تخونها مع عشيقها ويكتشف الإبن أن والده قد تخلي عنه للمافيا وتمضي رسالة نهلة محللة وناقدة للدرك السحيق الذي آلت إليه سلوكيات الغرب ومتعرضة للنهاية المأساوية للفلم ولم يفت عليها إرسال صورة بحجم (البوستال) جمعت بينها وأبنتها ريم مع الممثلة المعروفة(تينا كرستوفر) التي قامت بأداء دور الإبنة..
تأمل الدكتور همام الصورة جيدا فلاحظ أن زوجته تبدو متألقة كأنها (غادة السمان) أما الممثلة فوجهها عبارة عن أمم متحدة فالأنف رومانى والعيون نورماندية والعنق طشقندى والفم باريسى أما الشعر فهو هندى باكستاني على أفغانى وبحث د/ همام عن شئ أفتقده في وجه ريم وبدأ له أن وجهها لا يحمل أي تعبير ونوهت الأستاذة نهلة في ختام رسالتها إلي أن القارئ على موعد مع اللقاء الصحفي الساخن الذي أجرته مع بطلة الفلم والتي سبق لها زيارة السودان ... (رائع . رائع) هكذا علق د/همام وهو يطوي الرسالة.

عبدالغني خلف الله
06-08-2010, 07:27 AM
الحلقة الخامسة
وصلت للجريدة الرسالة الثانية من الأستاذة ( نهله ) من مدينة ( كان ) احتوت علي المقابلة الشيقة مع الممثلة ( تينا كرستوفر ) الحائزة علي جائزة الأوسكار لأحسن ممثله .. وسألتها إن كانت قد زارت السودان من قبل ؟ فأجابتها بأنها جاءت للسودان مع والدتها التي كانت تعمل باليونسيف في إطار برنامج نحن العالم نحن الأطفال:
(We are the world we are
the children) وأمضت بالسودان حوالي خمسة أيام وأضافت أنها لا تتذكر الأشياء بوضوح إذ أنها كانت في الخامسة من عمرها لكن بعض الكلمات رسخت في ذهنها مثل .. جميلة جداً وأوضحت أنها كانت تسمعها من أفواه الكثيرين وسألت بدورها الأستاذة نهله عن معني هذه الكلمات .غير أن ريم تدخلت وغيرت موضوع الحوار وسألتها عن الأكلات السودانية وهذا هو ديدن ريم الأكل ثم الأكل وبعد ذلك النوم ثم النوم ومن ثمّ اللبس ثم اللبس ..تينا كرستوفر أجابتها بأنها أحبت عصير الجوافة ونطقتها هكذا ( قوافه ) ..نهله سألتها عن مشاريعها الفنية للفترة القادمة وماذا تقول لقراء (المجهر ؟(..أوضحت بإنها ستقوم بجولة في أفريقيا إستعداداً للفلم العالمي ) اللعبه ( والذي تدور وقائعه حول الاستعمار الجديد وتقاسم مناطق النفوذ بأفريقيا لذلك ستكون ممتنة لو أن نهله إستضافتها بدارها في الخرطوم فهي تريد التوغل في المجتمعات الأفريقية وتقول لقراء المجهر سلامو عليكم وشكراً .. كلو ده يطلع منك ؟ ريم تحدث نفسها وقد التقطت حوالي أربعمائة صوره أثناء الحوار .

آنسه كوثر قررت الذهاب إلي قسم المرور لتجديد رخصة القيادة إثر استلامها للعربة الجديدة التي أهداها لها خطيبها فهي منضبطة جداً في مثل هذه الأشياء لذلك نجدها تدون في أجندتها تفاصيل أوراقها الثبوتية من حيث انتهاء مدة الصلاحية ومن ثمّ وقعت على إشعار باستلام تحويل به حفنة لا بأس بها من الدولارات أرسله لها عصام وقبل أن تعيد الورقة لموظف البريد لاحظت أن توقيعها مش ولا بد ... لقد جلست الساعات الطوال تبحث عن توقيع مناسب يليق ورصيدها المتنامي من العملات الحرة وها هو توقيعها يشبه كلمة مبكر وربما مغفل لا تدري .
توقفت قرب دائرة المرور عند رجل يجلس ذاهلاً عمّا حوله وبالرغم من ملابسه الرثة فهو أبعد ما يكون عن المتسولين .. وبفضول الصحفي وتعطشه للاكتشاف قررت كوثر أن تتعرف علي هذا المذهول .. فهي تعتقد أن كل دابة علي وجه هذه الأرض تحمل في دواخلها دراما حقيقية .. جلست بقربه وحيته بلطف شديد :
_ صباح الخير يا أستاذ..
_ من !!؟ سوزان ؟ ماي لف .. ماي دارلنق ومن ثّم طفق ينشد أغنية إنجليزية تقول كلماتها .. سوزان وما سوزان .. تأخذك إلي كوخها الخشبي قرب النهر وهنالك.. تجترح أعماقك الشاسعة ببشرتها الناصعة ومعا تستوضحان كينونة الألم ..سوزان ..
_ يا أستاذ أنا متأكده بأنك ما مجنون وأنك في كامل وعيك وفي الحقيقه...
_ الحقيقة... آه...أين هي الحقيقة ؟ نصفها عند الأرواح الهائمة في الديجور والنصف الآخر في براثن العدم .. أيها الأبد ..أيها الأبد ..
_ ما بلاش الحركات دي يا أستاذ...أرجوك أعتبرني زي أختك الصغيره وقول لي أيه قصتك ؟
_ أميرة !! أميرة !! قالها وهو يبكي بحرقة وأسي وبين الدموع والتنهدات تتكشف الحقيقة عن روح معذبة وضائعة .. كوثر الموسومة بالحنان غزيرة الدموع سريعة التأثر بكت وأخرجت منديلها تجفف دموعها وهي تردد : حأرجع ليك مره تانيه .. أكيد حأرجع ليك مره تانيه ..ثم أومأت علي عربة تاكسي أخذتها إلى مباني الجريدة حيث الدكتور همام الذي تلقفها بحنان أبوي خالص ولن يغيب عنه طبعا تنسم ذلك العطر العجيب المرسل من ) قطر .(
أخذ مهيد أوراقه وأقلامه وحمل معه خطابا من سكرتير التحرير لكل من مدير التلفزيون ومدير الإذاعة لتسهيل مهمة الصحفي المبتدئ مهيد هكذا عرفه الأستاذ ناجي ..موظف الاستقبال بالتلفزيون أخجل تواضعه بكرم الضيافة وسمح له بالتوغل في دهاليز المبني ولدي دخوله كانت هنالك عربة بها عدد من المذيعين والمذيعات وكاميرات تصوير تتأهب للإنطلاق فقد كان طاقم برنامج) من الخرطوم سلام وأم درمان تحيه ( علي وشك الخروج لتسجيل بعض المشاهد الخارجية .. مهيد لمح إحدي المذيعات اللائي يحتفظ لهن بمكانة خاصة في وجدانه وعندما رآها أمامه وجها لوجه كاد أن يغمي عليه ..إضطرب إضطراباً شديداً وسقطت منه نظارته الطبية علي الأرض وعندما استعادها وجد أن عدسة العين اليسرى قد انفلقت إلي نصفين ، تحركت العربة فهرول خلفها وهو يمارس إبداعاته في اصطياد الحافلات وجلس قريبا من المصور علي حافة العربة وسأله :
إنتو ماشين وين ؟
تصوير خارجي ..
في الخارجية ؟
لا في الداخلية ..إنت جاي من وين ؟
أنا صحفي مبتدئ من صحيفة المجهر ..
وعاوز أيه ؟
مش إنتو الفريق العامل في برنامج الخرطوم سلام وأم درمان تحيه ؟ في الحقيقه أنا عاوز آخدكم زي عينه لريبورتاج ، مش دي العروض الختاميه للبرنامج ؟
نعم إتشرفنا ..
العروض الختامية معناها عمل مكثف .. يقول ليك مسرحية كذا وكذا في عروضها الختامية لذلك تجد الناس بالصفوف ونكتشف بعد أسابيع أن المسرحية لا تزال تواصل عروضها ألا توافقني فيما ذهبت إليه؟
يا حبيبي العربة توقفت وأهو داك مخرج البرنامج ألا ذهبت إليه ؟
مهيد قرر أن يراقب ويتأمل ويدون كل كبيره وصغيره في هذه السانحة التي هبطت عليه من السماء وألا يوجه أية أسئلة .
ترجل الجميع وُطلب من الفنان المخضرم أن يسير علي مهل علي الجانب الأيمن من كوبري النيل الأزرق باتجاه أمدرمان وأن يرسل نظراته نحو المياه المنسابة ثم يحرّك شفتيه في تأثر بالغ وهو يهمس بكلمات تلك الأغنية المعروفة التي تقطع نياط القلب وتحتلب الدموع وتستنفر الأشجان التي هي أصلا مستنفرة ومن ثّم خطا الفنان أولي خطواته وبدأ يدندن بكلمات الأغنية و الفريق العامل والكاميرا خلفه.. وفي تلك الأثناء مرت بالقرب منهم عربة بوكس محملة بالفواكه وقد أدرك السائق بأن هؤلاء السادة لا بد أن يكونوا ناس الخرتوم سلام وأمدرمان هديه ..أوقف عربته وأمر مساعده بإنزال أكبر كميه من ) القريب فروت ( والبرتقال وهو يردد ): أهلاً بناس الخرتوم سلام ) وبعد أن سلم كل واحد منهم كميه لا بأس بها أهدي الفنان المبدع )سبيطة موز(ومن ثّم واصل مشواره .. المخرج أصابه إحباط شديد ذلك لأنه كان قد أوشك علي إنهاء تصوير المشهد فجاء ذلك المواطن ليخرب كل شئ ومرة أخري طلب من الفنان إعادة اللقطات .. في البداية سار بتمهل وهو يدندن بكلمات الأغنية غير أن خطواته بدأت تتسارع والفريق العامل يركض خلفه محاولا اللحاق به دون جدوي وبدا وكأن الجميع يهرولون حتى نهاية الكوبري .. جلس الجميع لالتقاط أنفاسهم بما فيهم مهيد الذّي لم يتأثر بالمشوار لكثرة تعوده علي قطع المسافات الطويلة مشيا علي الأقدام ..ومن هناك أمر المخرج السائق التوجه نحو بوابة عبد القيومالتاريخية في وسط أم درمان وما أن أخذ كل واحد موقعه حتى خرج عليهم مذيع شاب وهو يردد كلاما مثل : الأطار الزماني بواكير هذا القرن ..المدي والرؤيا يستبقان نحو المجد الأثيل والتراجيديا تعانق تداعيات الماضي بينما رويدا رويدا يسدل الستار و..هنا تدخل المخرج طالبا منه إعادة هذا المقطع وهو يقول :يا أستاذ ..يا أستاذ عاوزين أحاسيس ..لا بد من إعطاء النص شوية (spirit )
إتفضل ... استمرت الجولة ومهيد لا يكاد يفهم شيئا وكانت نظراته علي تلك المذيعة التي ستكلفه نظاره جديده لا تفارقها لحظه .

عبدالغني خلف الله
07-08-2010, 07:30 AM
الحلقة السادسة
أما الآنسة ناهد فقد وضعت لنفسها خطة عمل بعكس إبننا مهيد وقررت أن تنتقل من بيئتها العائلية في ذلك الحي الراقي وأن تذهب لتعيش مع عمها الذّي يسكن أحد الأحياء الشعبية هنالك وسط عامة المواطنين المسحوقين حيث لا وفرة تغيظ ولا فلوس ..جُن جنون والدتها وكاد أن يغمي عليها لدي سماعها الخبر ودخلت في نقاش عميق مع إبنتها حول جدوي الموضوع من أساسه..يا ماما صحفية أيه وصحف أيه ؟ دي أشياء عفا عليها الزمن ..دلوقت الناس في عصر الأنترنت ..مافي إنسان فاضي عشان يقرأ ليه جريدة بحجم السجادة العجمية ..المعلومة الآن يا ناهد بقت في (بانفلتس وفي ال سي ديز والمايكروفلمز) ..غير أن ناهد كانت قد حددت أهدافها ووسائلها الخاصة بتحقيق تلك الأهداف فتصدت لوالدتها تقارعها الحجة بالحجة ..ماما يا حبيبتي..كل إنسان وقناعاتو في هذه الحياة ..الصحافة بالنسبة لي مسألة أكون أو لا أكون ..بعدين أنا ماشه وين يعني ..ما بيت ناس عمي لا أكثر ..وأنا يا ناهد ما بهمك إحساسي شنو نحو الرحيل المفاجيء ده ؟ ولي وين ؟ بؤره بتاعة أمراض وسوء تغذيه و.. في دي إنت غلطانه يا ماما بالعكس هناك حألقي جدتي آمنه وتماضر بنت عمي وعمي صالح ..لكن يا ناهد أنا خايفه عليك ..العقارب والباعوض والغبار ..لا لا يا ماما إنت مكبّره الحكايه ساكت وحأثبت ليك إنك غلطانه ..وهكذا نجحت ناهد في تخطي أكبر عقبة كان من الممكن أن تهدم كل خططها .. طلبت من السائق توصيلها وتدحرجت العربة بين ثنايا الأزقة والحواري ولدي توقفها أمام منزل عمها ثارت فوضي لا مثيل لها وحاصر الصبية العربة وناهد (عليك الله خدينامعاك في نزهه ..عليك الله لغاية اللفه وبس ).
غلاء المعيشة ..غلاء المعيشة ..؟ رأيك شنو يا تماضر في الموضوع ده ؟ بصراحة يا ناهد الوالد خير من يفتيك في هذا الأمر .. ما تعقدي المواضيع .. بقولو أن قفة الخضار واللحم هما المقياس الحقيقي لغلاء المعيشه ..مش ؟ أكان كده الحكايه بسيطه ،نمشي سوق الخضار وزنك اللحمه ونشوف الحاصل ..وهو كذلك ..وأنا اليوم متكفله بكل شيء ..
وانطلقتا معاً لا تلويان علي شيء ..ناهد تحاول أن تتخيل شكل السوق وتماضر وقد أدركت أنهم سيظفرون بخضار الأسبوع ..وكان أول ما لفت انتباه ناهد الزحام الشديد والصبية الذين يحملون أكياساً سوداء يعرضونها بإلحاح شديد ..هنا تذكرت تماضر النشالين واستغربت ناهد وجود مثل تلك الأكياس التي يوضع فيها (القاربتش) ..تصوري نحن بنشيل فيها الحاجات ..قالت ذلك وهي لم تستوعب معني تلك العبارة الإنجليزية بالرغم من أنها في ثالثه عالي ..معليش يا ناهد إنقليزيتي تعبانه ..هو أنا إتكلمت إنقليزي ؟..دي يا تماضر مش الليدز فنقرز ؟ وكانتا تقفان أمام بائع الخضار ..قصدك الباميه ؟ ..أيوه ..ودي الدسته منها بكم ؟ ..ُهس يا ناهد بضحكو عليك ..ليه هو أنا قلت حاجه غلط ؟ يا بت دي ببيعوها بالكوم أو الكيلو .. معليش يا تماضر ..أصلي أنا عمري ما إشتريت خضار ..الخضرجي توقف عند الجينز والشعر المعقوص في شكل ذنب الحصان ..والبشرة الناعمة التي غرقت في شعاع الشمس ..هتف دون أن يدري : أهلآ بالرايقين ..شرفتوا والله يا بناتي .. القدامك دي شنو يا عمو ؟..
دي فلفليه خضراء ..ما في منها ألوان تاني ؟ ..كمان سويتن ليها ألوان ؟ ما بغلبكن .
آنسه ناهد وتماضر غادرتا زنك الخضار وتوجهتا للجزارة لرصد أسعار اللحوم..استغربت ناهد تدافع النسوة في الجزارة ولاحظت ازدياد الطلب علي إمعاء الخروف وأحياناً كميات قليلة من اللحوم تتراوح بين نصف وربع الكيلو..وتذكرت عشرات الأكياس المعبأة باللحوم والفراخ والسجق القابعة في ( الديب فريزر ) بمنزلهم وشعرت كما لو أنها مدانة لهؤلاء الناس باعتذار شديد عن التخمة التي تعاني منها أسرتها وقررت أن تكتب في الريبورتاج الخاص بها حول غلاء المعيشة بأنه لا يوجد شيء أسمه غلاء المعيشة إذ لا توجد معيشة أصلاً .. تماضر قالت لها نحن نحمد الله علي ربع الكيلو ..لأن بعض الأسر عايشه علي الطماطم فقط .
ربما تكون الأخت سلمي عمر الأمين أكثر حظاً من ناهد ومهيد لوضوح الموضوع المناط بها ألا وهو موضوع الجريمة فقد اصطحبت معها صديقتها وجارتها ناريمان التي تدرس علم البحار في قبرص وقد حضرت في زياره قصيرة للأهل .. طلبا من سائق التاكسي أن يأخذهما إلي المباحث الجنائية .. ترجلتا من التاكسي لتواجهان مبني المباحث الضخم الذي يبعث علي الخوف والرهبة ولم تضيعا وقتاً إذ توجهتا نحو الضابط المسئول عن السجلات الجنائية ..وبعد أن إطّلع علي خطاب رئيس تحرير جريدة المجهر أخرج كتيباً من درج مكتبه يشتمل علي التقرير الجنائي السنوي وقرأ عليهم أرقاماً عن الأموال المسروقة والمستردة بالدينار والجنيه والمليم ..سلمي أطرقت هنيهة وتذكرت بلاغ الحاجة صفيه عندما زارهم اللص ليلاً وأخذ حفنة من الملاءات وبعض الأشياء التافهه لكنها قالت للشرطه لحظة تدوين البلاغ إنها فقدت عدد ستين ملاءة وكذلك مصاغ ذهبية بملايين الجنيهات وجهاز فديو ومليون جنيه نقديه في حين أن الحاجه صفيه كانت تغادر منزلها عبر باب الجيران تفادياً لصاحب البقاله آخر الشارع وأستنجدت الحاجه صفيه بأبن أخيها الضابط بقسم الحركة ولأثبات هيبته أمام العشيره... هُرع إلي قسم الكلاب البوليسية وأحضر الكلب البوليسي( مرعب ) الذي هو فعلاً مرعب ..وتجمعت النسوة وأطفال الحي وحتى الكبار يتأملون ذلك الكلب العجيب وكان يوماً سيظل عالقاً بذاكرة الجميع ..لذلك لم تقتنع سلمي بتلك الإحصائيات وعبّرت عن شعورها هذا صراحة للسيد العقيد الذي أوضح لها بدوره أنهم يعطون هامشاً معيناً لمثل هذه التجاوزات المتوقعة ومن ثمّ يقوم الكمبيوتر بضبط الإحصائية وبمنطق الشخص المدافع عن قضيته سألها :الكمبيوتر كمان بغلط ؟ سلمي قالت له : إنتو تقولو الكمبيوتر ما بغلط وناس الكهرباء يقولو نفس الكلام ..دي شنو المصيبة الطلعت علينا ؟ ..عموماً سلمي وجهت له بعض الأسئلة التي رد عليها بأستفاضة وأحالها إلي نقيب يدعي عصام ليجيب علي بقية الأسئله ..جناب النقيب رحب بسلمي ترحيباً حاراً وأصابته سلمي برصانتها ووسامتها في مقتل فأرسل في طلب شيء من العصير والحلوي لها ولصديقتها ناريمان وبدأت الأسئلة و الأجوبة ..وشعر النقيب عصام أن سلمي هذه قفزت فوق جميع حوائطه الدفاعية ولمست في دواخله (حدائق ) الكلام علي حد تعبير الأغاني هذه الأيام ..ناريمان أعجبها الحوار لدرجة أنها إقترحت علي سلمي همساً بأن تقابل وزير الداخلية .. الوزير حته واحده ؟ سلمي مستغربه ..يعني شنو ..تلقيهو هسه إنسان عادي جداً ..ما تغرك المناصب والأشياء دي ..ثقتك بنفسك توصلك رئيس الجمهوريه ..الرئيس حته واحده ..يعني شنو تلقيهو هسه إنسان عادي جدآ ..سلمي نظرت إلي ناريمان بسمنتها الزائده عن الحد وأيقنت أن العنصر البشري يجب ألا يقاس بالشكل الخارجي ..فكم من إمرأة جميله تحمل في دواخلها كل القبح الموجود في العالم وكم من إمرأة عادية الشكل تحمل في دواخلها الرقه والذوق ورهافة الحس وكذلك الشفافيه ..والكلمه الأخيره هذه ظلت تسمعها وتقرأها طوال الأسبوع الفائت..ومن ثمّ عادت سلمي إلي النقيب عصام الذي تأملها ولأسباب يجهلها ربط بينها وبين الأغنية التي تقول (حاجه فيك تقطع نفس خيل القصائد ) ولا أعتقد أن الشاعر يعني الخيول التي عندنا في السواري ..هكذا حدث عصام نفسه ..وكفايه أنو كلابنا البوليسية مقياس للتطور ..كما خيول الديربي اللندنية التي ربما عناها الشاعر ..وكأن سلمي قد قرأت أفكار عصام فسألته عن أنواع الكلاب البوليسية المستخدمة في المباحث ..عصام رد عليها بأن لديهم نوع إسمه (الجيرمان شيبرد) ومعناها الراعي الألماني وهي سمينه ..مبغبغه) ..ناريمان رجعت بأكتافها إلي الوراء وقد لحقها رأس )الصوط( كما يقولون ..وعندنا نوع تاني إسمو )الدوبرمان ( وهي( خطيره جد وبنحبها) ..تفاجيء الإنسان بجمالها وجبروتها لدرجة الإجهاز عليه وتحطيم معنوياته إذا لم يعرف كيف يتصرف معها ويفهمها وتفهمه ..ناريمان الفنانة العائدة من قبرص للتو قرأت ما بين السطور وقد إنهمكت سلمي الغبية في كتابة كل كلمه بإخلاص شديد ..ولدينا أيضاً (البلدّي هوند والتراكر دوقز ) وهذه يمكن إستخدامها في تفريق المظاهرات ..سلمي المشهوره بتصديها لقضايا الجماهير عبر الأتحاد بالجامعة إرتعشت من الخوف ..إ ستمر الحوار هادئاً لا تنغصه منغصات..وقد خطر لسلمي أن تجري عدد من المقابلات مع بعض معتادي الأجرام بالحراسه ..عصام أخذها إلي قسم التحقيق ولدي إقترابهم من المكان سمعت أحدهم يقول آخ ..آخ .. سلمي توقفت وسألت عصام عن مصدر ذلك الصوت ..عصام قال لها هذا أحد معتادي الأجرام المعروفين بالتمثيل ..الواحد من زي ديل تلقيهو بحجم تراكتور وإذا أديتو صفعة صغيرة يقعد يدلع .
أول مجرم أحضروه لسلمي يدعي ( دي جانجو )..معتاد سطو علي الأمكنة ليلآ سلمي لاحظت أن عناوين الجرائم تشبه إلي حد كبير لغة الأغاني المتداولة هذه الأيام ..سلمي سألته عن أكبر عملية سطو شارك فيها ..المعتاد لم يصدق أن كل هذه الأناقة توجه له الأسئلة وتنصت له ..فحكي لها عن أشياء قام بها فعلآ وأخري من نسج الخيال ليقضي أطول وقت ممكن في المكتب ذي ( الأيركونديشن )قبل إعادته للزنزانه ....سلمي قالت له لماذا يا عم لا تقلع عن ارتكاب الجرائم وتتوب ؟ المجرم قال لها بسيعطوني رخصة تجارية ..بالله عليك كلمي لي المحافظ يديني موقع في السوق وشوفي لو أرتكب جريمه تاني.
- أكيد ده حيكون الموقع الخامس .. وبدلآ من تقعد فيها بعتها للتجار بأرخص تمن ..النقيب وقد بدأ يتململ من المجرم ..
ناريمان وقد انبهرت بمجريات هذا اليوم سألت عصام عمّا يعرف ب(المودس أوبراندي(وهي عبارة لاتينية لتدلل علي معرفتها باللغة اللاتينية التي درستها في قبرص ..عصام شرح لها معني هذا المصطلح ومعناه الأسلوب الإجرامي ..وقال لها وهو يوجه حديثه نحو سلمي ..وده معناه أن لكل مجرم تخصص ..وفي كل تخصص هنالك عدة أساليب ..فالنشال مثلآ..والكلام لا يزال يوجه لسلمي ..ليس بإمكانه السطو ليلآ ..ومعتاد السرقات الليلية لا يفقه شيء في النشل وقس علي ذلك ناس السرقات النهارية ..أهو ديل عندهم عمي ليلي الواحد تلقيهو من المغرب يلزم محلو ..
في ختام المقابلة سلمي طلبت مقابلة مدير المباحث ..عصام دخل بها في متاهات وسراديب) ..حاجات مضاءة وحاجات مظلمه (وضغط علي ذر في الحائط فإذا هما أمام باب صغير يؤدي إلي نفق وبعد النفق دخلا في مصعد كهربائي أوصلهما للطابق الخامس وعلى السطوح جثمت طائره عموديه ..ومن ثمّ هبط بهما )الأسانسير (إلي ما لا نهاية ..وأخيرا وصلا مكتب السكرتيرة التي أخذت لهما الأذن علي أن لا تزيد مدة المقابلة عن دقيقه ..وداخل مكتب قليل الأضاءه أصلا تداخلت الأنوار الزرقاء والحمراء وفوق البنفسجية فوق رأس مدير المباحث فلا تبين صورته ..ولعل مثل هذا التمويه لأسباب أمنيه والله أعلم ..سلمي شعرت بقشعريرة من جسامة المشهد وسلمت عليه من علي البعد وكان قد دفن رأسه في أضابير التقارير الخطيرة ..ولم يشفع لها سوي أنها قدمت من قبل المجهر والعلاقة الشخصية التي تربطه بالدكتور همام ..سلمي اكتفت بالتحية وانصرفت دون توجيه أسئلة ..وبينما عصام يزفهما حتى الباب الخارجي توقفت عربه تحمل كمية من الجوالات المعبأة بالحشيش ..وأخرج أحد الضباط رأسه ونادي علي عصام للذهاب معهم لإبادة تلك الكميه ..عصام سأله عن عدد القناديل المستهدفة فأخبره بأنها خمسة ألف قندول ..عصام اقترح علي الفتاتين حضور هذه العملية وبالطبع وافقتا ..الشي الذي سيضيف للروبرتاج الخاص بها نوعا من المصداقية والإحاطة والشمول والفعالية والديناميكية .ولدي وصول العربة الخلاء توقفوا تحت شجيرة يتيمة إنتصبت في قلب تلك الصحراء ..نشط العساكر في إخراج محتويات الجولات وكان هنالك قاض يراقب العملية بينما إستظلت سلمي وصديقتها بتلك الشجيرة المستوحشة ..وبدأ الحريق الكبير .. وكانت الرياح جنوبية غربيه متوسطة السرعة والإتجاه .. فتيمم الدخان صوبهما ..طلب القاضي منهما الوقوف عكس الهواء غير أن ناريمان المتعودة علي غيوم ( لارنكا ) أصرت علي البقاء حيث هن ..إنتهت العملية وأوصلهما عصام إلي منزلهما وكانت سلمي تشعر بخدر ونعاس شديدين وأحست بأجفانها ثقيلة ولسانها ثقيل لا يقوي علي النطق وبصعوبة شديدة ودعت صديقتها ومن ثمّ استسلمت للنوم طوال ذلك الأسبوع

عبدالغني خلف الله
08-08-2010, 06:52 AM
الحلقة السابعة
لم تكد تمضي بضعة أيام حتى عادت كوثر لصاحبنا المذهول إياه ..اقتربت منه وحيته بابتسامة عريضة ومدت يدها نحوه تصافحه ..أمسك يدها وأنحني فوقها يقبّل ظاهر كفها وهو يهمهم بلغة أجنبية غير الإنجليزية ..ناولته كوثر رزمة من الأوراق وطقم ألوان وفرشاه وطلبت منه أن يرسم لها بعض اللوحات ثم ابتعدت عنه دون أن تنتظر منه جواباً .. غير أنها رجعت إليه بعد بضعة ساعات لتفاجأ باستجابته لها إذ ناولها عدداً من اللوحات في غاية الغرابة ..شكرته بحرارة وهي تداري شعورها بالفرح أمامه ولاحظت أن الدماء قد عاودت التدفق بين ضفتي عينيه ومنحها ابتسامة هي مزيج من الإحساس بالامتنان والفرح وشيعها بنظراته حتى عربتها وكأنه يرجوها أن تأخذه معها ثم أطرق نحو الأرض .
أخذت كوثر اللوحات للأستاذ ناجي ليفسر لها كنه تلكم الرسومات .. ناجي أستنتج أن هذا الإنسان يعيش مأساة حقيقية وأن القاسم المشترك بين اللوحات يتمثل في إمرأة وطفل وطائره وهنالك سحب ودخان وعواصف وأمطار تلون قسماً كبيراً من كل لوحه ..كوثر المنفعلة بما أنجزت قررت أخذ الرسومات معها إلي المنزل ومحاولة فهمها في جو يسوده الهدوء .. والدتها استغربت عودتها في ذلك الوقت المبكر .. سلّمت عليها وأغلقت باب غرفتها .. احتضنت جهاز الراديو ذي الإثني عشرة موجه الذّي أرسله لها خطيبهامن قطر وشعرت بأنها بحاجة لسماع شيء من الموسيقي لعلها تخرج من كل هذا التوتر والارتباك الذّي سيطر عليها منذ تعرفها علي ذلك المذهول ..أدارت مؤشر الراديو فجاءها صوت يقول .. وأحييكم من وسط لندن في مستهل هذه الجولة التي ستنقلنا إلي الجزائر ومصرع عشرين قروياً علي أيدي جماعة مسلحة وإلي بوسنيا وواحدة من أبشع المذابح التي أرتكبها الصرب لكننا نبدأ من واشنطن .. أعرف هذا الصوت جيداً ..كوثر تحدث نفسها .. ليس في هذا الظرف يا جورج مصري ..غادرت محطة لندن بحثاً عن الموسيقي أي موسيقي ..ها هو تصفيق وزعيق لا بد أنه تسجيل لحفل ساهر.. ولكن وبدلاً عن الغناء جاءها صوت يقول ( أيها الشعب ..أيها الشعب المناضل (..وخمنت كوثر أنه لا بد أن يكون أحد الحكام العرب الذين يستثيرون حماسة الجماهير ..بلا طائل ..غادرت هذه المحطة بسرعة وها هي الموسيقي والصوت المعتق يردد ( أنساك ده كلام أنساك يا سلام أهو ده المش يمكن يحصل ولا أفكر فيه ) هذا ما كانت تبحث عنه كوثر والجمهور يصرخ ويصفق وأم كلثوم تعيد المقطع من جديد ..تري لو أنها لا تزال علي قيد الحياة هل ستجد جمهوراً يستمع إليها حتى الفجر ..أنا شخصياً أشك في ذلك لسببين ..أولاهما أن إنسان اليوم يعود لمنزله وقد استنزفته الحياة مثل حصان يجر عربته طوال اليوم ..فهو حتماً سيأوي إلي فراشه لدي أول فرصة تسنح له إستعداداً للمشاوير الماراثونية التي بانتظاره صباح اليوم التالي ..والسبب الثاني يتلخص ببساطه في الافتقار إلي المزاج الذّي يحرّض علي الاستماع ..كوثر لاذت بسريرها ووسادتها الأثيرة لديها والتي كثيراً ما تشاجرت مع شقيقتها بسببها ..كل شيء ولا هذه الوسادة إنها لا ترتاح إلا بها وعليها..تضع خدها عليها وتبكي عندما يصرعها الإحساس بالضياع ..تقذف بها شقيقتها وهما يلعبان ..إن من يراقب كوثر يشك في أنها امتلأت من طفولتها وإلا فيم كل هذه اللعب والمقتنيات اللافتة للانتباه .. لعلها تحاول أن تعود طفلة كما كانت ..لا ..لا إنها لا ترغب في ذلك .. يكفيها هذا الشعور العميق بالشجن .. صوبت عينيها نحو سقف الحجرة وحاولت فك طلاسم التبقعات التي تناثرت بين ثنايا الأخشاب ..ولاحظت أن ثمة عنكبوت تنشط وهي تذرذر المكان بذلك النسيج الشفاف في همة لا تفتر ..لماذا في جميع الرسومات طفلة وطائرة وحريق ؟ هذا الأمر محير فعلاً .. كوثر استنجدت بثقافتها في علم النفس وربطت بين الأنا العليا والأنا السفلي ..لا بد أن هذا الرجل قد فقد طفلته في حادث تحطم طائره ولكن ما حكاية ذلك الوجه الأوروبي المشدود من قدميه بذيل الطائرة ؟ هل هو لزوجته ؟ ثم ورويداً رويداً أحست كوثر بالنعاس ..ونعست كذلك العنكبوت وصمت الغناء ولف الغرفة سكون مريب سرعان ما أدخلها في دوائر زرقاء وأخري بنفسجية وطاشت في مخيلتها أشياء وأشياء أدخلتها في حلم غريب وعجيب وعندما استيقظت أقسمت ألا تخبر به أحد ولا حتى نفسها .
عاد أنور صالح شقيق تماضر وإبن عم ناهد الطالب بالجامعة والذي يحضّر للماجستير في التاريخ ..عاد إلي منزلهم وقد وجد حالة طوارئ غير معلنة تسيطر علي المنزل ..لفت انتباهه لدي دخوله منظر المدخل وقد تمت نظافته وتعمد إحدي الفتيات الصغيرات من الجيران علي رشه بالماء وعندما توغل قليلا فاجأته إصص الأزهار التي بثت هنا وهناك ولفحته رأئحة بخور التيمان و( المستكا )..فأدرك أن ضيفا استثنائيا موجوداً بالداخل ولم يخف سعادته عندما إكتشف أن المحتفي به ليس سوي إبنة عمه ناهد وفرح فرحا شديدا عندما علم أنها ستمضي معهم بضعة أيام بعد أن كانت زياراتها لهم لا تتعدى بضعة دقائق وفي صحبة والدتها وأيام الأعياد لا أكثر ..شق طريقه نحوها وسط حشد من فتيات الفريق..اللاتي أتين للترحيب بها بعد أن جاست تماضر عبر جميع الأبواب التي توصلهم بالجيران تخطرهم بوجود الغالية ناهد بمنزلهم ..وكان الجميع قد إنتهي لتوه من تناول طعام الغداء وقرأ ذلك العدد الكبير من الأواني المنزلية ليكتشف أن كل فتاة منهن قد جاءت بما هو متاح من ألوان الطعام إحتفاءآ بمقدم ناهد ..سلم عليها وهو يكرر عبارة (شرفتينآ) معني لا قولآ خمس مرات وناهد تعيد علي مسامعه عبارة شرف الله قدرك ..فتغامزت الفتيات يعلقن علي الارتباك الذي تغّشاه ..جلس ليس ببعيد عنها وهي ممسكة بكوب من الشاي والفرح يلون قسماتها الجميلة وكان صوت المغني المنبعث من آلة التسجيل يردد ( ولما سارت في المدينه لاقت الحمامات الحزينة .. ) نظر نحوها بعمق يقارن بينها وبينهن وأدرك أنه لا حمامات حزينه سواهن.

ربيحة الرفاعي
09-08-2010, 01:30 AM
نتابع أيها الكريم
تقصير في الحضير ولكن ...
حرص أكيد على المتابعة

دمت متالقا

عبدالغني خلف الله
09-08-2010, 07:05 AM
صحبتك لا تمل يا ابنتي العزيزة ولي رجاء خاص بأن تشطبي الحلقة الخامسة باللون الأخضر لسبب التكرار ولك وعبرك لكل الرائعين بهذه الواحة أهدي الحلقة التالية .

عبدالغني خلف الله
09-08-2010, 07:07 AM
الحلقة السابعة
الهدوء يلف مكاتب الجريدة وثمة بعض أشخاص تبدو عليهم سيماء الأهميه بانتظار الدخول للدكتور همام ..حاول أحدهم أن يجد مدخلا للتحدث للآنسة كوثر دون جدوي ..فقد كانت مستغرقة فيما يشبه الأحلام مع صاحبنا المذهول وتفكر في شكل الخطوة القادمة معه ..رن جرس الهاتف لتجد الدكتورهمام علي الجانب الآخر ..أخبرها بأن الأستاذ عليان إتصل قبل لحظات وأشار إلي وجود حالة شروع في الإنتحار بكوبري أم درمان وطلب منها أن تأخذ المصور وتذهب فوراً لموقع الحدث لإستجلاء الأمر ..وصلت إلي هناك لتجد الزحام علي أشده وعلمت من الحضور أن شخصاً ما تسلق الكوبري وهدد بالانتحار إن لم يحضروا له وزير الخارجية فورًا وعلمت كوثر أنه يشهر مسدساً ويهدد بضرب كل من تسول له نفسه الاقتراب منه ..وقد حاولت شرطة المرور عبثا تنظيم الحركة داخل الكوبري وكان هنالك عدد ضخم من السيارات يسد الأفق .. اقتربت أكثر فأكثر وسألت أحد رجال المطافئ عن الحاصل وكانت مجموعه كبيره من زملائه قد أحاطوا بالرجل وبدأوا يبثون له النداءات من (مايكرفون ) صغير كالذّي ينادي به الباعة في الأسواق وثارت تكهنات كثيرة ..هذا الشخص يناصر القضية الفلسطينية وإلا لماذا يطلب وزير الخارجية بالتحديد ..لا يا أخونا الزول ده طالب لجوء سياسي ..وهكذا تحولت الساحه إلي نقاشات سياسية واجتماعيه ..البعض ليس وراءه شيء يعمله ..وآخرون غادروا منازلهم بمنطق (السايقه واصله ) ..قليلون هم من حدد وجهته قبل مغادرته منزله ..وأهو (زي ما تجي ..تجي ).
كوثر طلبت من المصور أن يستأجر قاربًا ويأخذ موقعه قريبا من الرجل وأن يصور لحظة قفزه في الهواء ولحظة أرتضامه بالماء علي أن تكون الصور من جميع الزوايا ..ومن ثمّ شقت طريقها بصعوبة شديدة لتكون أكثر قرباً ..غير أن رجال المطافئ كادوا أن يفسدوا لها خططها ..وأخيراً وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الضحية ..وكانت أكثر من مفاجأة بانتظارها ..في تلك الأثناء تبقت دقيقتان فقط من آخر تمديد للإنذار الذي قطعه ذلك المجهول ..ولكن إنه هو ..صاحبها المذهول ..صرخت لأأأأأأأأأأأأأأ..ودوت صرختها حتى الشاطئ الآخر يبعثرها الموج و الصدي في جميع الاتجاهات ..تمالكت نفسها وطلبت من الضابط المشرف علي الحدث أن يعطيها المايكرفون ..غير أنه رد عليها بغلظه شديدة .. يا بتنا نحن شغالين زي ما شايفه ..ده ما مجال بتاع كلام فارغ ..توسلت إليه والدموع تنهمر منها بغزاره ..الضابط أحس بأنه أخطأ في حقها ..ناولها المايكرفون وهو يعتذر لها بشده وأمر جنوده بأن يفسحوا لها الطريق ..عندها لفتت إنتباهه وهي تردد ( أنا سوزان ..سوزان ..عاوزه أتكلم معاك ) ..إنتفض الرجل وكأن به جُنه ..وصرخ في إنفعال شديد (سوزااااان) وفي تلك الأثناء زلت قدمه وهوي نحو النهر وصدي صرخته لا يزال يتردد في المكان ..حبس الجميع أنفاسهم ..وتهاوت كوثر نحو الأرض ..وهتف الناس بصوت واحد( أستر يا رب ..أستر يا رب ).

أما أخونا أمير فقد إعتكف عدة أيام بالمكتب الخاص بوالده داخل المنزل لوضع تصور للروبرتاج الخاص به حول الفساد المالي والإداري ..مكتب داخل المنزل وخادمه تذهب بقهوة الصباح لتضعها للسيد الوالد .. ربما يكون هذا الرجل أول من يطبق حكاية المكتب داخل البيت وأظنه سيطبق أيضآ حكاية ( الكنبة) التي سينام عليها بعد أن) يتشاجر (مع زوجته والسبب أين سنقضي الإجازة الصيفية هذا العام . هو يقول لها أديس أبابا وهي تقول له )جده (.
جلس أمير يعيد ترتيب أفكاره ووالدته تسأله ..أحضّر ليك العشاء ؟ وهو يرد عليها ما ليش نفس .. ومن ثمّ أمرت كل واحد من أولادها بالذهاب إلي النوم ..يالاّ يا أولاد كل واحد علي أوضتو ..وطبعا كل أوضه يتصل بها حمام بانيو ..والأيركوندشن يفح فحيحاً كأن به إحتقان في الأنف ..أمير ومن خلال تواجده بشركة والده العاملة في مجال الأستيراد والتصدير يعرف الكثير عن السوق والأساليب الملتوية وغير الملتوية والمسألة بالنسبة له مسألة وقائع ومستندات والأخيرة هذه ضع تحتها مليون خط ..التهريب سهل وميسور إذا وجدت مستندات والتهرب من الضرائب أسهل في ظل المستندات وحبذا لو كانت هنالك إعفاءات..وهو يفهم كثيرا في الشيكات يقول ليك شيك مكرس وشيك درافت وكاونتر شيك وشيك آر دي ..وهو قد عام عوما في بحار السوق الأسود والعملات وكذلك الصفقات ..متكافئة وأخري عبر البروتوكولات ..ويعرف كيف يقايض العربات هذا الولد )جن مصّرم (..يعرف من أين تؤكل الكتف ..ولم يقل لنا المثل أي كتف هذا ..وكثير من الأدبيات دخلت إلي ذاكرة السوق ولم تغادر ..كأن يقولون لك فلان ده بحسبا صاح أو من النوع الذي يفيد ويستفيد وإلا (مستفيدي ) وعبارات زي (كون نفسو ) ..ومرتاح ومرطب ..عمومًا هذا الشاب لا بأس به ..وهاهو سيبدأ الروبرتاج الخاص به حول الفساد الإداري بسوء إستخدام العربات الحكومية ..هل يعقل هذا يا أمير أفندي ؟ ألم تجد أمامك سوي الموظفين المسحوقين لتبدأ بهم ؟..أرجو أن لا تفهمني خطأ يا أستاذ ..هذه واحدة من التجاوزات الخطيرة التي يركز عليها البنك الدولي وصندوق النقد لارتباطها الوثيق بتخفيض الأنفاق الحكومي ..
أمير قرأ مظهره من خلال مرآه ثلاثية الأبعاد تغطي نصف غرفته ..وميزة تلك المرآه أنها تعطيك البعد الثالث ..وتجسم ( البروفايل ) وبعد التأكد من أن كل شيء علي ما يرام ..إمتطي عربته وأدار شريط كاسيت ل (مادونا) ..وتوجه نحو سوق الخضار بأم درمان والذي يشار إليه إختصارآ ب(الملجه ) فقد نما إلي علمه أن الموظفين يستغلون العربات الحكومية في شراء الخضراوات من هناك كل جمعه ..وها هي عربه بلوحه صفراء تحمل علامة الهيئة العامة للكهرباء ..توجه نحو السائق وقدم له نفسه في أدب جم ..في الحقيقة يا باشمهندس أنا صحفي من جريدة المجهر وقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول سوء إستخدام العربات الحكومية ..فالعربة الحكومية تأخذ الأولاد إلي المدارس والنساء للعزاء وتأتي باللحمة والخضار وفي هذا إهدار للمال العام ..فما هو تعليقكم ؟..السائق نظر إليه شذراً وبغضب شديد ناوله إذن بالعمل لمدة 24 ساعة ..أمير أُخذ علي حين غره ..أستلمه في حياء وأمعن فيه النظر :
-لكن ده عشان الأعطال ؟
-ومالو يا إبني ..تعال معاي شوف نحن بنعمل في أيه ؟
-بتعملوا في شنو ؟
-نحن يا سيدي بنركب في كيبل جديد ..
-يعني إنتو ما جايين تشتروا لحمه وخضار ..
-يا أستاذ الليله يوم كم ؟
-اليوم 25 في الشهر ..
-وحأشتري من وين ؟ والله إلا أكون لص ..
أمير إعتذر له بشده وصار يكرر عبارة أنا آسف ..حقيقه أنا آسف ..ومن ثم ّتوقفت عربه حكومية أخري وترجل منها رجل تبدو عليه سيماء المسئولية ..بينما بقي ثلاثة من الصبية في كامل أناقتهم داخل العربة.. توغل الرجل داخل السوق وقام السائق بشراء حفنة من الموز وأعطي كل واحد من الصبية قطعه ..ويبدو أن هنالك علاقة ود ومحبه بينه و الصبية..وما يُحار منه عم عبدو السواق ..أن أولاد المسئولين عموما يتمتعون بالذكاء و اللطافة غير أنهم وبدون استثناء في غاية النحافة ..وليسوا مثل أطفال الحي الذي يسكن فيه.. تجد الواحد من هؤلاء كبير الرأس منتفخ البطن..عم عبده يعتقد أن الصحة للأطفال هكذا يا بلاش.. سليمان الممرض صحح له هذا الفهم ..إذ أن ما ذكره كعلامات للصحة هي علي العكس تمامًا علامات للأنيميا وشرح له ذلك (..يعني يا عم عبدو فقر دم عديل ..مما تشوف الرأس الكبيرة للطفل والبطن المنتفخة أمشي به فوراً للمستشفي بدون تأخير ).
أمير تردد كثيرًا في سؤال تلك الشخصية ( الجهبوذه ) شكلا ومضمونا وسأله بعد المقدمات الضرورية ..إن كان هذا لا يضايقكم ..وعفوا للإزعاج وكده ..إبنكم صحفي من جريدة المجهر ولا يخفي علي سيادتكم التسيب وسوء إستخدام العربات من قبل موظفي الدولة ..نود أن نسأل لماذا أنتم هنا بالعربة الحكومية واليوم بالطبع يوم جمعه ..الرجل أرسل ضحكة مدوية وهو يقول لأمير ..تعرف يا إبني أنا هنا لأراقب العربات الحكومية ..وكل ما لدي من إمكانات لا تتجاوز الثلاثة عربات وموتر ..يعني أراقب منو وأخلي منو ؟ أمير أصيب بإحباط شديد ..ودعه بحرارة وتمني له التوفيق وأستأذن الانصراف .
يبدو أن مهيد قد أدمن العمل بالتلفزيون ..فقد أخبر أبناء القريه الذين يستضيفونه بأنه وجد نفسه في هذا الجهاز العظيم ولكن ها هي المصاري تتناقص ..فأرسل إلي والدته طالبآ العون ..فبعثت له مع سائق الباص الذي يعمل بين قريتهم والخرطوم بعض الملاليم وعدد لا بأس به من الفراخ رصت حول عصا طويلة بعد أوثقت من أرجلها وتدلت طوال المشوار .. علي جانب العربة ..السائق تعرف علي موقع التلفزيون بعد جهد جهيد وكعادته إذ يقترب من كل قريه علي الطريق عزف بالبوري أغنية إنت كلك زينه وعائمه كالوزينه ) فأمتدت ألف يد ويد لتسكت صوت الموسيقي ..أوقف السائق العزف وطلب من مساعده إنزال الجمل بما حمل كما يقولون فكان أن حمل العصا بما فيها من دجاج ممسكا بطرف والمساعد علي الجانب الآخر ودخلا بها إستقبال التلفزيون ووضعاها بين أرجل الضيوف ..فجاء أحد العاملين وعلي وجهه علامات الأنزعاج الشديد وأمر أحد العمال بإخراج الفراخ علي الفور ..بيد أن العامل سحب العصا وترك الدجاجات حرة طليقة ..لم تصدق الدجاجات العشرون أنها تخلصت من الأسر فأنطلقت داخل إستديوهاتالتلفزيون لا تلوي علي شيء ..إنهمك المذيعون والمذيعات في مطاردة الدجاج دون طائل وكانت فوضي لم يشهدها التلفزيون من قبل ..مسئول الأستقبال حرر تقريرًا عاجلا بما حدث للسيد المدير ولم يتواني في إصطحاب مهيد بإعتباره المتهم الأول ..مدير التلفزيون قرأ التقرير وتصفح مهيد جيدا ..وقرر بينه وبين نفسه أن امرأة تربي الدواجن لتعلم أبناءها لا بد أن تكون إمرأة عظيمة وأن ابنًا رضع من ثدي أم كهذه لا بد أن يكون شهما ونبيلا ..هؤلاء المساكين هم ملح هذه الأرض الطيبة ..إنهم الأمناء علي مستقبل هذه الأمة والزائدين عن حماها في ساحات الوغي ..وطفق المدير يخطب ويخطب في سره وأمير حائر أمام تلك النظرة المتفحصة والصمت الذي خيم علي المكتب ..أما الموظف فقد توقع قرارا حاسما بطرد هذا( المتدرب )والحمد لله أنه لم يكن ) متدربه (.. مثل( لوينسكي )الخوف سيطر علي مهيد وأصطكت ركبتاه من شدة الفزع ..عاد المدير من جديد إلي دائرة الوعي بعد أن شفي غليله من الكلام وهو الذي يشرع أبواب الفضلئيات أمام هواة الصخب ..: والثرثة
- أ سمع يا إبني ..إنت إ سمك منو قلت لي ؟
- مهيد .. سيادتك ..مهيد
- قول للسيده الوالده تاني مره ما ترسل حاجه ..لأني قررت صرف مرتب شهري يكفيك ومعاك الست الوالده ..واضح ؟
- واضح سيادتك ..كتر خيرك ..
يالاّ شوف شغلك

ربيحة الرفاعي
09-08-2010, 07:59 AM
صحبتك لا تمل يا ابنتي العزيزة ولي رجاء خاص بأن تشطبي الحلقة الخامسة باللون الأخضر لسبب التكرار ولك وعبرك لكل الرائعين بهذه الواحة أهدي الحلقة التالية .

تم أيهاالكريم
دمت بألق

عبدالغني خلف الله
10-08-2010, 06:55 AM
الحلقة الثامنة
كوثر العائدة من فترة النقاهة إثر الموقف المأساوي الذي عاشته لحظة بلحظة ..قد وظلت صورة الرجل وهو يهوي نحو الماء تسيطر علي حواسها ..لم تكن لتحتاج لكثير عناء لتعرف ما حدث بعد ذلك ..فقد نجا من الموت بعد أن أصيب برضوض قاسية وكدمات في الوجه وبعد أن أسعف للمستشفي نقل إلي مصحة السجن انتظارًا لمحاكمته بتهمة الشروع في الإنتحار ..كوثر قررت أن تخلع عنها هذه المرة ثوب الصحفية وأن تذهب لزيارته كإنسانة تربطها به تلك الوشائج الأنسانية بمعناها الواسع..دخلت عليه وهي تحمل بعض الفواكه والحلوي ..الحارس المتعب إستغرب وجودها إلي جانبه وكان قد أعتقد أنه لا أحد يأبه لهذا الشقي ..وبالفعل لم يحضر أي إنسان سواها للسؤال عنه ..تري من يكون ؟ ومن أين أتي ؟ وإلي أي مكان ينتمي ؟ إنها الوحدة القاسية والغربة الأليمة والضياع الأبدي ..
نظر نحوها عبر عينيه الغائرتين المعصوبتين إلا من مساحة صغيرة تكاد لا تبين ..وحاول تحاشي نظراتها بادئ الأمر ولكنه عاد ليتأملها في صمت مطبق وترك الدموع تنساب تحت الأربطة بلا توقف ..إبتسمت في وجهه وقالت له : حمدًا لله علي السلامة ..إن شاء الله حتطلع من المستشفي وحتأخد غرامه بسيطه وحسن سير وسلوك وأنا حأدفع الغرامه وحأضمنك ..بس إنت حافظ علي نفسك وفكر في بكره وخلي ثقتك في الله عظيمه ..أنسي الماضي أياً كان ولازم تكون رجل بمعني الكلمه وما تضعف ..يا أخي مافي مكان في هذه الدنيا للضعفاء ..ووجدت نفسها تتحدث وتكرر الحديث والرجل ينظر نحوها بعينين مقروحتين لا تكفان عن البكاء ..ولم تتمالك كوثر نفسها هي الأخري فبكت بحرارة وخطفت حقيبتها وهرولت نحو الباب وهي تقول له حأرجع ليك مره تانيه ..أكيد حأرجع ليك ..ومن هناك عادت لمباني الجريدة حيث الدكتور همام الذي تلقفها بحنان أبوي خالص ولم يفته بالطبع تنسم عطرها المسفوح القادم من قطر..ويبدو أن الدكتور همام كان ينتظرها فعلا ..ولأول مرة منذ إلتحاقها بالجريدة يفوتها تذكيره بدعوة مجلس الصحافة والمطبوعات ..وهي تدرك جيدآ أن أفكارها مشتته هذه الأيام وباتت متوتره أكثر من اللازم ..لدرجة أنها صرخت في وجه الأستاذ ناجي عندما طلب منها توصيله بلندن وكان دكتور همام قد كلفه بمراجعة المطبعة هناك فيما يتعلق بالشكل الجديد للجريدة ..كوثر لم تضيع وقتًا ..حملت أوراقها وأقلامها لتدوين وقائع الاجتماع الذي سيشرفه السيد وزير الأعلام ..بدا لها المكان أسريًا مريحًا ..وليس كمباني المجهر في قلب الخرطوم وهي بصفة عامه تعتقد أن مدينة بحري أكثر رومانسية من الخرطوم ..فيها الطابع الريفي مع شيء من قشور المدينة وأهلها رائقون ناعسون حالمون متواضعون .
السيد الوزير إفتتح الاجتماع مع مدراء تحرير الصحف بكلمة ضافية حدثهم فيها عن الخط العام للدولة ..وأوضح لهم أن الحكومة مع حرية الصحافة إلا أنه نبه إلي بعض الخطوط الحمراء التي لا يسمح بتخطيها لا سيما المتعلقة بالأمن القومي والمصالح العليا للوطن ..وقال لهم إن هنالك خيط رفيع يفصل ما بين الحرية و الفوضي ..وحدج دكتور همام بنظرة شذره ..إذ أنه وفي معرض حديثه حول الحرب والسلام بمناسبة عودة الحكومة وحركة التمرد لطاولة المفاوضات كتب قائلا أن أي طرف يرفض وقف إطلاق النار ..طرف متخلف ويفكر بعقلية التتار في القرون الوسطي وتساءل لماذا هي النزاعات المسلحة أصلا ما دام الله سبحانه وتعالي قد وهبنا عقولا لنتحاور بها ..وقد حمل المقال علي دول صديقه وشقيقه وصفها الدكتور همام بالجالسين حول حلبات المصارعة الأممية ..الشيء الذي كاد أن يحدث أزمة دبلوماسية ..لو لا أن الجريدة اعتذرت ثاني يوم وفي نفس المكان بأن كلمة الدكتور همام قد أُسيئ فهمهما ..حقيقة ما كان علي الدكتور إيراد مثل تلك التشبيهات ومشكلته أن قلمه حار تماما كطريقته في طعن الكلوريكوين ..فقد أعطي قبل حوالي أسبوع عم صديق حقنة وكان يشكو من أعراض الملاريا ولا يزال موضع الحقنه متكورا كقطعة من الليمون ..أما أهل الدار فهؤلاء أمرهم عجب ..فكل من يعقب إما دكتور أو بروفسور ..وقد أحرج ذلك الدكتور همام الذي يتصرف عادة بمنطق )يا دنيا ما فيكي إلا أنا(..فآثر الصمت ولم يعقب بشيء ..إنتهي الاجتماع وتحول الجميع نحو البرنامج المصاحب ..نسمع كثيرًا هذه الأيام بهذه العبارة وعن الجلسة الإفتتاحية التي سيشرفها السيد رئيس الجمهورية ..وتعلم كوثر كصحفيه أنه في الصين في زيارة رسميه تستغرق عشرة أيام ويطلب منك في (كرت) الدعوة في حالة الاعتذار الاتصال برقم كذا وكذا وأراهن أنه لا أحد يعتذر .وبعد البرنامج المصاحب الذي كان رائعا بحق وتناول المشروبات الساخنة والباردة غادر الدكتور همام ( قافلا ) ولحسن الحظ لم يكن هنالك معرض ولم يطلب من الضيف قص الشريط التقليدي وكوثر تريد أن تسأل تقليد لمن ؟ وهي تعتقد أن علي منظمي تلك المعارض البحث عن شيء أكثر أناقة لعرضه بدلا من إضاعة أوقات النسوة في حياكة حفنة من الملبوسات لا يحتاجها أحد وتكفي معروضات ( سعد قشره ) ومعروضات سوق ليبيا تكفي إفريقيا والشرق الأوسط لسنين ..وهي تقترح مراجعة المقصات جيداً قبل إعطائها للضيف لأنها في الغالب لا تعمل بكفاءة .. أما طوق الزهور من شجيرة ( الجهنميه ) فهذا لا بأس به .وفات علي كوثر إغتنام هذه الفرصة لزيارة مكاتب المصنفات الفنية الأدبية من هناك .
مهيد قرر زيارة الإذاعة ليجيء الريبورتاج الخاص به متكاملا وكانت أول صلة له مع الإذاعة قد قامت عندما كان طالبا بالثانوي العام عبر برنامج ما يطلبه المستمعون ..فقد طلب أغنية تذكار عزيز لإبراهيم عوض وأهداها لخاله في الغربه ..وقد تعود أن يكتب له بانتظام ينقل إليه أخبار القرية من وفيات وأعراس وفلانه رزقت بنتا وفلان لزم سرير المستشفي ..وكان عندما ينادي الأستاذ علي إسمه في الطابور الصباحي ليسلمه رسائل خاله يشعر بسعادة لا توصف ..فهو اليوم سيلج ذلك العالم الساحر ..شعر بالرهبة والخوف وهو يخطو بأرتباك شديد داخل الحوش (الوسيع) وشعر كما لو أن الجميع يراقبونه بيد أنه تمالك نفسه وواصل التجوال ..وكانت هنالك حركه دؤوبة وأناس كثر يتحركون في جميع الاتجاهات ..البعض يحمل (هاندباقات ) والآخرون يحملون أوراقاً وأقلاماً ..يتبادلون التحايا من علي البعد ..وقد تعرف علي أكثر من مذيع ومذيعه من خلال صورهم المنشورة بالصحف وكان يود التعرف عن كثب علي كل أتيام البرامج التي يحبها مثل برنام (ربوع السودان ) وما يطلبه المستمعون وناس البث المباشر وأستوديو الثقافة وصالة فنون.. إنه متعطش لرؤية كل هؤلاء ويريد أن يعرج علي الأركان ..ركن الأطفال والمزارع ...ألخ ..وكذلك دنيا المال والاقتصاد ..لاحظ كل شريحة إكتفت بركن أو صاله أما إخوتنا ناس المال فهم بحاجة إلي دنيا بحالها.. وهو يود زيارة معد برنامج الرياضة ليذيع له نبأ فوز فريق قريتهم ( الصاعقة ) علي فريق )البرق( من القرية المجاورة لهم والتي إنتهت بفوز مستحق هدفان للا شيء أحرزهما خالد النور وعثمان المأمون وقد أدار المباراة الأستاذ سالم المعلم بمدرسة البنات يعاونه بكري الغشيم والفاضل التمتام ..وبما أنه في مهمة رسمية ومعه خطاب من الجريدة فقد توقع أن يسمح له بتقديم أي شيء عبر المايكرفون وسأل الله في سره أن لا يطلب منه إذاعة الموجات العاملة .وما كاد يدخل مكتب سكرتيرة المدير حتى فوجئ بوجه مألوف لديه ..فتاه صبيحة الوجه ..شعرها لفت إنتباه كل من دخل أو خرج من المدير ..صففت شعرها علي طريقة الجدات وكأنها فتاة عبرت كبسولة الزمن الماضي لتعيش في الحاضر ولكنها حلوه ..حلوه كما يقول مذيع برنامج من داخل الإستاد إذ تعلو الكرة فوق العارضة ببوصات ..ولكن أين رأيت هذه الفتاه يا مهيد ..فلننتظر حتى تقدم نفسها للسكرتيرة ..أرخي سمعه جيدًا حتي لا يفوته الأسم ..:لو سمحت أنا كوثر محرره بصحيفة المجهر وأطلب موعدا مع السيد مدير الإذاعة لإجراء حوار معه حول الدورة الإذاعية الجديدة ..السكرتيرة إستلمت منها الخطاب ولسان حالها يقول ..الناس دي دايره تصل لأيه ؟ ..مهيد نهض وصافحها بحراره بعد أن عرّفها بنفسه ..كوثر العائدة من الانهيار العصبي بعد حادثة الشروع في الانتحار للمذهول إياه ..قررت أن تفرد مساحة بالجريدة تحررها بنفسها تحت مسمي ( لمسة حنان ) ..ونسبة لأن الحنان يتصل بطريقة أو بأخري بالأصاله والتراث والموروث الثقافي أسلمت رأسها لعمتها القادمة من الأقاليم تمشطه لها بكل الطقوس المعتادة ..الجلوس علي الأرض ووضع الساقين في زاويه قائمه وتحمل آلام الوخز بأدوات ( المشاط كالمخرز) وغيره ومن ثمّ لفت نفسها بملاءه قديمه سكبت فيها سطلا من زيت السمسم وشيء من ( الكركار ) ونامت في تلك الليله نوما عميقا ذلك لأنها طرحت من حياتها أشياء مثل ( الأستشوار والبدكير )وتوجهت ثاني يوم للعمل وكأنها ملاك ضل طريقه من منعرجات اللامنتهي إلي سراديب هذه الأرض الظالم أهلها ..مهيد أتفق معها علي متابعة المقابلة المطلوبة وذكّرته بأنه من المفروض تقديم ( جابتر ون ) أي الجزء الأول من التقرير بأسرع فرصه لاسيما وأن ناهد قد سبقته في ذلك ولاحظ مهيد كما لو أن كوثر لا ترتاح لناهد وهذا طبعا شيء طبيعي فالمساء لا يحتمل وجود قمرين في وقت واحد ..إذ أن ناهد القادمة من بيئة برجوازية تحمل في دواخلها نزعه إشتراكيه بينما نجد أن كوثر القادمة من الطبقة المتوسطة لديها نزوع مستمر نحو (البرجزه ) وهذا واضح من مفرداتها في الكلام ..فهي تحشر بعض الجمل الإنجليزية حشراً أثناء الكلام .. تكثر من ترديد عبارة ( آي سي )وهي مرادفة ل ( أيوااا) عند ناهد ومهيد خمن أن المعركة ستنشب بينهما إن عاجلا أو آجلا ..وهو علي كل حال لن يكون طرفا فيها ولا يقدر علي( الهبباي) في عز الصيف كما يقولون ..مهيد أمضي أياما بالإذاعة ستظل منقوشة في الذاكرة وتظل اللحظة حبلي بآمال اللقاء ودوران الأشياء ..أرتجل مثل هذا الكلام الذي سمعه كثيراً في برامج المنوعات وأستلم هديته من الإذاعة وهي عبارة عن( مايك )صغير من الذهب الخالص ..هدية رمزية ولكنها مفيده ..ليس كالذين يهدون لك أعلاما تذكاريه كتب عليها عبارة ( وفاء وعرفان ) أو كالذي يهديك وشاحا لا يعرف المسئول الذي يوشحك به أوله من آخره وقد يسقط منه الدبوس الصغير ولا نجد له أثر . غير أن مهيد سيعود للإذاعة مرة أخري ..فقد وجد في إحدى المذيعات فتاة أحلامه التي ما فتيء يبحث عنها وهي بلا أدني شك الفتاه التي تناسبه ولكن الشيء الذي يقلق مهيد أنه لم يستطع بعد قياس ( ترمومتر ) مشاعرها نحوه.. فهو يرتفع أحيانا لدرجة مخيفة ثم يعود لينحسر وكأنه نهر (القاش ) أواخر إكتوبر .. مهيد سأل أحد أبناء القريه ممن يسكنون معه في (الميز ..)عن مستقبل علاقته تلك لا سيما وأنه قد خبر المدينة ومشاكلها قريبه أحبطه وهشم مجاديفه ..قال له بلهجة الحكيم : الثابت يا مهيد أنها تناسبك ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو .. هل أنت من يناسبها ؟ مهيد اعتبر أن هذه مجرد حساده من قريبه الذي يعمل في السوق وغاية ما يطمح فيه أن تذيع مذيعة مااسمه في أي برنامج .. مهيد يطمح في الزواج من مذيعه ..مهيد ؟ ( الشين) ..ود حوه أم العول ..يتزوج مذيعه ؟ والله هانت ..ونحن في البلد دي لينا تسعه سنين ولا واحده تهتم فينا ؟

لا يدري دكتور همام كنه غرابة هذا الشعور الذي يعتريه ..فقد وصله ) فاكس ( يقول أن نهله وريم سيصلان بالفرنسية بعد غد ..وبالرغم من أنه يشتاق لرؤيتهما إلا أنه كان يريد أن يحسم بعض الأمور قبل وصولهما ..وبما أن القرارات الكبيرة في حياة الإنسان تحتاج إلي أجواء هادئة .. فقد كان بحاجة لوقت إضافي يسبر فيه أغوار نفسه وهو يفكر في مفاتحة كوثر برغبته في التقدم لأسرتها بطلب يدها مع علمه بأنها مخطوبة ..لقد وصفت له الطريقة التي وافقت عبرها به كخطيب وزوج للمستقبل وهو لديه إحساس طاغ بأنها تكن له شعورا لا يحيط بأبعاده ولكنه كان يقرأ كل صباح عينيها وهو يتظاهر بأنه يراجع مقالاتها ويلمح أشياء وأشياء وقد أرّقه كثيرا فارق السن غير أن عشرة أعوام لا تساوي شيئا في كسب الأيام ..لا بد أن يحسم هذا الأمر قبل مجيء نهله القادمة من ( كان ) وهو يعلم كم هي مثقفه وشفافة وهي بدون شك ستقدر مشاعره والفوبيا التي هو فيه .
أما كوثر المتألقة في صورتها الجديدة فقد إجتذبت من خلالها الأضواء .. من خلال عمودها ( لمسة ) حنان ..ترد عبره علي أسئلة الحيارى والمعذبين من الجنسين ..وكان انفعال القراء بالدعوة التي أطلقتها مذهلا لدرجة أن ساعي البريد عجز عن تحميل الخطابات لوحده ..وبدلا من أن يخفف ( المشاط ) من غلواء روعتها زادتها اشتعالا علي اشتعال وبدا وكأن نصف الشعب السوداني بحاجة إلي حنان ..وأصبحت الآنسة كوثر بين ليلة وضحاها الصدر الحنون الذيّ ترتاح عليه عذابات الآخرين وبالرغم من ردودها القصيرة والمقتضبة إلا أنها أنها استطاعت من أن تجترح الكثير من الحلول لمن يطلب رأيها .. وشيئا فشيئا وجدت كوثر نفسها تتحمل المسئولية نيابة عن المعذبين في السودان قاطبة وبعض دول الجوار الأفريقي وأضحت تحركاتها محدودة ..إذ سرعان ما تتشابي نحوها العيون وتشرأب الأعناق كلما ذهبت إلي مكان عام وأستغل هذا الانتشار معدّي صفحات الكلمات المتقاطعة وصاروا يزينون بها خربشاتهم وأحبها جمهور القراء وأسبغوا عليها الكثير من الألقاب حتى لكأن كوثر تنوء تحت ثقل الحب والمعاني التي تحملها في حناياها ..ولكن لكوثر هذه شطحات سببت لها الكثير من المشاكل ..فقد سألتها إحدي القارئات بعد أن قصت لها مشكلتها والتي تتلخص في أنها وزوجها بدءا حياتهما من الصفر وبعد سنين النضال المريرة وإنجاب خمسة أطفال أصغرهم في عامه الثاني .. صارحها زوجها برغبته في الزواج عليها فأدركت بعد فوات الأوان أن زوجها هذا رجل قح ولا يستحق سنوات الحرمان التي أمضتها معه وتحس بأنها مكبله بأطفالها ولولاهم لهجرته وطلبت الطلاق اختتمت رسالتها قائلة : والله يا كوثر أظلمت الدنيا أمام عينيّ وأحس أنني أغرق وأنك طوق النجاة الوحيد بالنسبة لي في هذه الحياة وشجرة صحرائي التي أستظل بها ..المهم الرسالة طويلة ومؤثرة ..كوثر جاوبتها بإيجاز شديد : أقول لك يا عزيزتي س .ن ..أهجريه ودعي له أطفاله ومن ثمّ أطلبي الطلاق ..وفي ثاني يوم قامت الدنيا ولم تقعد حتى اليوم وأنبري لها رجال الدين وعلماء النفس والاجتماع يفندون نصيحتها من زوايا عده ..وأضافت لها هذه الحمله هالة من الأهمية و الشهرة وأضحت كوثر من خلال صورتها الفوتغرافية أعلي الصفحة مع الإيماءة المنكسرة ويدها التي تضعها علي خدها وهي تبتسم كما لو أنها موناليزا هذا الزمان .. والكوثر العذب الذي يرتوي منه الملايين .

* نعود فنلتقيكم إن شاء الله بعد إنقضاء شهر رمضان المعظم ..تصوما وتفطروا بألف خير.

صديق رحمة النور
18-08-2010, 01:33 PM
* نعود فنلتقيكم إن شاء الله بعد إنقضاء شهر رمضان المعظم ..تصوما وتفطروا بألف خير.

الأستاذ عبدالغني
تحية طيبة
نناشدكـ بالإسراع بإدراج ماتبقى من حلقات في هذا الشهر الكريم لان الإنتظار لما بعد رمضان يفقد الرواية تسلسلها وبقائها في ذهن المتلقي ، ويقضى على الشغف والتلهف الركنان الأساسيان في متابعة المتلقي للرواية ...
أتمنى مواصلة الحلقات ولكـ شكري وتقديري

عبدالغني خلف الله
18-08-2010, 01:45 PM
عزيزي صديق ..رمضان كريم وكل عام وأنت بخير..في الواقع أخشي أن أصادر كل دقيقة من القراء يمكن أن تضاف لحسناتهم في هذا الشهر الفضيل وسأعمل بنصحكم وأنت الخبير بهذه الأشياءطالما أن الأمر يرتبط بنواحب فنية بحته أما نحن معشر الكتاب نكتب ولا نفقه كثيراً تلك العناصر النقدية ..لك وعبرك لكل الذين يودون متابعتي أرفع بقية الحلقات وأتمني للجميع صوماً مباركاً مقبولاً بإذنه تعالي .. هذا مع تحياتي .

عبدالغني خلف الله
18-08-2010, 01:58 PM
حلقة جديدة وكل عام والجميع بخير..

طلبت تماضر من شقيقها أنور أن يأخذهما إلي مكان عام للإحتفاء بإبنة عمهم ناهد ..وكان في بالها الفلم الهندي الرهيب قاهر الأقوياء ..الذي تعرضه قاعة الأخوة هذه الايام ..فلم الإثارة و المتعة ..أقوي أفلام الآكشن علي الإطلاق ..وقاعة الأخوه مكنددشه وهااادئه ..أنور طالب التاريخ الذي يحضر للماجستير حول الحضارة النوبية رد عليها قائلا : بل سنذهب للمتحف القومي السوداني ..تماضر إعترضت بشده : إنت قايلنا تلميذات في الأبتدائي ؟ ..ما هو ده الفهم الخاطيء المعشعش في أذهان الناس ..الدنيا كلها تقوم وما تقعد عندما يتم إكتشاف مقبره في مكان ما من الصحراء وفتيات في سنكم شغالات في الحفريات الأثريه في عز الصيف وإنتو أسياد الحضاره دي .. ما بتكلفوا نفسكم تمشوا المتحف عشان تشوفوا عظمة الأجداد .. العظمه المكتشفه بواسطة بنات أجنبيات ..الواحده تلقيها جايه من برلين أو كوبنهاقن ..تركن المدينه الجد والسينمات الجد ..وجايه هسه تقولي لي بكل بجاحه : ودينا القاعه ..تماضر صفقت له في إستهزاء وهي تقول له :اهو ده الأنت فالح فيه ..تاريخ مين وامجاد مين يا عمي .. ما خلاص كل واحد راح لحالو .. نحن ما عندنا وقت نضيعو في موميات وحاجات زي آمون وخفرع ..وريني كدارس للتاريخ كان إنت أو ناس البلد عموما.. ما هو نصيبكم من التاريخ لما بعد مئات السنين حتكونوا أصبحتو جزء من التاريخ ..ماذا بنيتم ؟ ماذا اكتشفتم ؟ ضيعتوا الزمن في ساس يسوس بدون أي فائده ..ناهد الرائعه التي كانت تتابع النقاش وهي ترسم فوق شفتيها نصف ابتسامه تدخلت في النقاش وهي تقول لهما بمرح ..يا أخوانا إنتو الأتنين غلطانين ..يا تماضر التاريخ هو كتاب الأيام الخوالي ..عيب تتكلمي عنو بالشكل ده وكمان يا أنور ..المتاحف دي بقت موضه قديمه وحاجه متخلفه ..أنا شخصيا بشوف المتحف من عربيتي وأنا ماشه أم درمان ..يعني ما تزعل مني إذا قلت ليك مافي زول الأيام دي يترك شغلو عشان يتفرج علي العصر الخزفي ومش عارفه أيه ..أنور رد عليها بإستياء واضح ..معقول يا ناهد إنتي الأعلاميه المثقفه تقولي كلام زي ده ؟.. الأجانب بقطعوا تذاكر طيارات من آخر الدنيا عشان لحظة تأمل في بهو الحضارات القديمه من خلال المتاحف ..وتحت ضغطه وإصراره وافقتا علي الذهاب للمتحف وقد شعرت تماضر بأنها أهينت ..لذلك لم تشارك بكلمة واحده طوال المشوار ..غير أن الوضع إختلف تماما بعد طوافهن علي أقسام المتحف وقد تخيلت ناهد نفسها كأميره من أميرات مملكة نبتة وفي الواقع كانت كل لفته من لفتاتها تقول إنها لكذلك .

أدارت كوثر محرك العربه بإتجاه مستشفي السجن لمعاودة صاحبنا المذهول وشعرت كما لو أنها تريد تأخير لحظة لقاءها به فدارت دورة طويلة من شارع النيل وحتى أمدرمان ومن ثم بحري حتى كوبر ..ياه !!! لماذا هي خائفة ومشوشة الفكر وكأنها ذاهبة لموعد طال إنتظارها له ..كان قلبها يضرب بشدة وكأنه طبول إستوائيه ..وكانت موزعه بين الشوق واللهفة للقاء ذلك الإنسان الذي لا تعرف عنه أي شيء ولا حتي إسمه .. هل أحبته ؟! معقول يحصل ده وأنا ما داريه ..أيوه يا كوثر قال لها ضميرها ..لقد أحببته ولا داعي للهروب من الواقع ..وعصام خطيبي ودكتور همام ؟؟ ما هو إحساسي نحوهم ..المهم لقد وقعت في حب هذا الرجل .. ولكنه معتوه ..مذهول ..متشرد .. ولو يا كوثر هذه هي الحقيقة للأسف الشديد .. والعمل ؟ ليس أمامك سوي التسليم بقدرك ..أحبه أنا هذا المجنون ..لا ليس بمجنون وأنت تدركين ذلك جيدا ..وتتمنين لو أنك تفوزين به .. لا لا أنت تبالغ ولا شك ..ربما يكون إشفاق أو شعور بالمسئولية تجاه إنسان ضائع مريض ..سترين .. سترين يا كوثر ..وعندما وصلت إلي بهو المستشفي تمنت لو أنها تطير بأجنحة الخيال وتختصر تلك الأمتار القليلة حتى غرفته ..كان الباب مواربا والسكون يلف المكان وقد غادر الحارس موقعه ..أعادت خصلات شعرها للوراء ورفعت رأسها إلي أعلي وطرقت الباب طرقا خفيفا ثم نظرت نحو السرير الخالي ..لا أحد ..لا أحد ..حدثت نفسها ..ربما يكون مع الطبيب ..ركضت نحو غرفة الطبيب وكادت أن تصطدم بالحارس الذي تعودت علي رؤيته قابعا أمام غرفته ..لو سمحت يا شاويش ..أين أين هو ؟ الرجل المصاب ..قصدك الذيّ شرع في الانتحار ..نعم نعم ..لقد حوكم بحسن سير وسلوك لمدة عام وغادر المستشفي ..ولكن إلي أين ..إلي ..يا إلهي ..تحاملت نحو أقرب مقعد وجلست غير قادرة علي الكلام ..غير قادرة علي البكاء ..وبعد وقت ليس بالقصير لملمت بقاياها انصرفت

عبدالغني خلف الله
19-08-2010, 01:08 PM
الحلقة الحادية عشرة
توقفت العربة الأنيقة أمام الفيلا الفخمة وترجلت منها نهله وريم .وعكف العمال علي إنزال الحقائب وعند مدخل الحديقة إنسربت قطة سيامية صغيرة وقفزت نحو أحضان ريم (يا حبيبتي يا ماندي ) واحشاني موت والله واحشاني ..وتقدم نحوهما الدكتور همام وهو يردد (حمدآ لله علي السلامه ) أخذهما بالأحضان ودفعهما أمامه حتى الباب ..جلسوا جميعا في الصالون وعبرت نهله عن رغبتها في النوم طوال ذلك اليوم ..تعبانه يا همام تعبانه لدرجة المبالغة ..سته ساعات طيران ( ون قو ) تصور يا همام بدون أي توقف ..ومن ثم طلبت من الخادمة إخراج الموبايل الخاص بها ووضعه في غرفة النوم ..لا لا ما عايزه أكل بس حمام سريع وأنوم ..ريم وضعت يديها حول رقبة والدها وهي تقول له واحشني يا أحلي أب في الدنيا ..ثم أضافت والله يا بابي لو كنت معانا في ( كان ) كنت خطفت الأضواء من نجوم هوليود ..دكتور همام قال لها :بدون لف أو دوران عاوزه أيه ؟ ..بصراحة بصراحة يا بابي ..أنا شحنت عربيه جديده وحتصل بورسودان خلال إسبوع ..أنا إتصرفت فيما يتعلق بالثمن وباقي الجمارك والبركة فيك طبعا ..عربيه ( أم .دبليو .أم ) ..فاهمك كويس يا ريمونا ..أنا خمنت حاجه زي كده ..أنا أخطف الأضواء من نجوم هوليود يا عفريته .

ناهد ..ناهد سواقكم في الباب ..ناهد التي لم ترتو تماما من الحنان والتي وجدت في إبن عمها أنور السعادة التي كانت تبحث عنها شعرت وكأن شيئا ثقيلا جثم فوق صدرها ..لقد اتفقت مع والدتها علي أن تبقي في منزل عمها عشرة أيام كاملة ..ولم تمض بعد سوي خمسة أيام ..لذلك لم تتحمس لمقابلته وبدلا من ذلك طلبت من تماضر بأن تخبره أنها نائمة ..غير أن السائق أخبرها أن الأمر خطير ولا يقبل التأجيل .. تركت ما بيدها وهُرعت نحوه في عجلة من أمرها ..خير إن شاء الله ؟ ..الحقيقة يا آنسه والدك مريض شديد وطالب حضورك ومعاك عم صالح وأنور وتماضر فوراً ..يا حبيبي يا بابا ..أخذت تماضر العربه لإحضار والدها من دكانته وكان أنور حاضرا .
كانت لحظات لا تنسي ..والدها بين الحياة والموت ووالدتها بالقرب منه وهي تبكي ..لم تتحمل ناهد الموقف فدخلت في غيبوبة صغيرة وحين أفاقت وجدت عدداً من الأطباء قد خرجوا منه وكان أحدهم يقول لوالدتها بالإنجليزيه (إتس تو ليت يا مدام ) لا لندن ولا باريس حتقدر تعمل حاجه لكن الأمل يظل حاضراً ورحمته سبحانه وتعالي وسعت كل شيء ..تحاملت ناهد ودخلت غرفة والدها مرة أخري وارتمت فوقه تقّبل وجهه وهي تتمتم ..يا حبيبي يا بابا ..والدها استعاد وعيه وخاطب شقيقه قائلا : أسمعني كويس يا صالح يا أخوي هل ..تذكر قطعة الأرض البحرية التي تركنا لها الوالد الله يرحمه ..قال ذلك وصمت لبعض الوقت وكان الجميع حاضرون ا ..زوجته وناهد وتماضر وأنور ..أنا كذبت عليك يا صالح .. المبلغ ثمن الأرض لم يسرق زي ما فهمتك .. أنا جيت بيهو الخرطوم وشغلتهو في التجارة ..وهسه أنا ممكن أموت في أي لحظه ..عاوزك تسامحني ..واعلم أنك شريك في كل ما أملك ..العمارة والعربات والمخازن النص بالنص يا صالح ..والدة ريم قاطعته وهي تقول يا جماعه الحمي إشتدت علي أبو ريم وأكيد الكلام البقول فيهو ده نوع من الهذيان ..لا مش هذيان دي الحقيقة يا صالح ..وجم الجميع ولم تكن لتسمع سوي تنهدات ريم ..قروش شنو يا خوي قروش شنو ؟ عم صالح يجيبه بإنفعال شديد ..إذا كنت إنت سرقت مني نصيبي في الأرض أنا إستحيل أسرق شقا عمرك وتعبك وإجتهادك ..كفايه عليّ تقوم بالسلامه ..طول عمرك ما مقصر معاي ..ملابس الأولاد وأقساط المدارس .. والجامعات ..لا والله ما آخد منك ولا مليم واحده ..بس عندي عندك طلب واحد ,انا عافي منك دنيا وآخره ..قول يا صالح ..أنا بطلب منك إيد ناهد لولدي أنور ..ناهد ؟! ..معقول تشاورني في ناهد يا صالح ما هي بنتك زي ما بنتي ..لكن علي شرط يكونوا الأتنين موافقين ..والدة ناهد حاولت أن تتدخل وهمهمت ..ياحاج صالح نحن في أيه وأنتو في أيه .. المسائل دي نخليها لبعدين ..لا يا بنت الناس ..الآن نقرأ الفاتحه ..اللهم إلا إذا كان في واحد منهم معترض .. وهكذا إختلطت مشاعر الفرح والحزن في دواخل ناهد وأحست أن الأقدار كريمة معها.. فقط لو يشفي والدها مما هو فيه

عبدالغني خلف الله
21-08-2010, 10:23 AM
الحلقة الثانية عشرة
لا يدري دكتور همام كنه غرابة هذا الشعور الذي يعتريه ..فقد وصلت نهله وريم بالفرنسية أول أمس ..وبالرغم من أنه يشتاق لرؤيتهما إلا أنه كان يريد أن يحسم بعض الأمور قبل وصولهما ..وبما أن القرارات الكبيرة في حياة الإنسان تحتاج إلي أجواء هادئة .. فقد كان بحاجة لوقت إضافي يسبر فيه أغوار نفسه وهو يفكر في مفاتحة كوثر برغبته في التقدم لأسرتها بطلب يدها مع علمه بأنها مخطوبة ..لقد وصفت له الطريقة التي وافقت عبرها به كخطيب وزوج للمستقبل وهو لديه إحساس طاغ بأنها تكن له شعورا لا يحيط بأبعاده ولكنه كان يقرأ كل صباح عينيها وهو يتظاهر بأنه يراجع مقالاتها ويلمح أشياء اً وأشياء اً وقد أرقه كثيرا فارق السن غير أن عشرة أعوام لا تساوي شيئا في كسب الأيام ..لا بد أن يحسم هذا الأمر وهو يعلم كم هي مثقفه وشفافة وهي بدون شك ستقدر مشاعره والفوبيا التي هو فيها ..حسنا ..فليترك كل شيء للأيام و الإنسان ينفذ ما سطره له القدر ..الدكتور همام وهو يطمئن نفسه ..يعني يا دكتور تقذف بنفسك أمام عربة تنطلق بسرعة مائة كيلو متر في الساعة وتقول هذا المصير حتمي ومقرر سلفاً ( طيب لما نشوف ) .

أمير الانتهازي نسج شباكه العنكبوتية حول سلمي وقرر امتلاك سلمي الوردة اليانعة ..والانسحاب من التزامه نحو خطيبته المليونيرة الصغيرة التي قبل بها في إطار التقاطعات الاقتصادية والاجتماعية مثلها مثل كل الصفقات الرابحة التي ينفذها والده ..إنه يحبها حباً حقيقياً ملك عليه أقطار نفسه ..وشعرت سلمي أن أمير يسيطر علي مشاعرها وأنه قد قلب كيانها ولم يكن لبقاً أو مهذباً في تعاملها معه وبرغم ذلك تطيعه وتنفذ أوامره وكأنها منومة مغنطيسيا ..ولا تدري سلمي كيف تتصرف مع هذه الإمبريالية الوجدانية والهيمنة الشعورية التي يمارسها معها أمير دون هواده ..فمن الطبيعي أن تتجه الشراسة نحو الوداعة والتجربة نحو البراءة ..وها هو يساعدها في طباعة الريبورتاج الخاص بها وخرج أنيقا موشي بالرسومات البيانية وبعض الصور المأخوذة من مجلة الحوادث .. أما مهيد فقد أهرق كل دواخله بين يدي تلك المذيعة الأنيقة ..قال لها ببساطة أهل الريف أنا بحبك من جوه الجواي ..وأطلبك أم لأولادي في المستقبل ..وبرغم أنها وجدت فيه ذلك النقاء الذي يشع في قسمات وجهه وتلك العفوية والبساطة التي كثيرا ما افتقدتها بين (ناس) المدينة إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة ..فهي تقريبا مخطوبة ولو أن الإنسان الذي ترتبط به لم يقل لها ذلك صراحة رغم ارتباطهما مع بعضهما البعض منذ ما يقارب الثلاثة أعوام .. ليجيء هذا القروي ويقول لها ما كانت تود أن تسمعه منذ سنين عديدة في أقل من أسبوع ..

انطفأ ذلك البريق إلذى كان يلون وجه كوثر الرزينة وحل مكانه نوع من الوجوم والصمت والشرود ..تري أين أنت الآن يا مني عمري ويا سيد أحلامي ..أين أنت الآن يا ..من ؟ أنت لا تعرفين إسم ذلك المجهول حتى اليوم وبرغم ذلك أقسمت أنه سيكون لك وأنك ستغيرين مجري حياتهو تعوضينه عن كل المعاناة والعذاب ..نعم نعم إنه ملكي أنا ..وأنا من اكتشفته بيد أنه ضاع وربما للأبد ..كم هو جميل ووديع وضائع وحنون وكم أحبه ..يا إلهي كم أحبه وسأبحث عنه دون كلل أو ملل وسأجده حتما سأجده .. إن شاء الله .. ساعدني يا رب ..وبينما هي في تلك الحالة من الإطراق والوجوم والدموع تنثال ببطء علي وجنتيها الساحرتين اقتحم عليها خلوتها الدكتور همام وطلب منها أن تلحق به في العربة لأداء بعض المهام ..مسحت دموعها علي عجل ولحقت به ..جلست قربه وكأنها حجر لا تقوي علي الكلام إعتقدت أنه ذاهب إلي عمل رسمي في إحدي دواوين الحكومة ولكنه بدلا من ذلك أنطلق بها في الطريق الخلوي المؤدي ..قال لها بدون مقدمات ..أنا ..أنا أحبك يا كوثر وأنت دون شك لاحظت ذلك ..وأعلم أنك مخطوبة و..لكن يا دكتور ..أرجوك لا تقاطعينني ..دعيني أكمل حديثي لأريح نفسي ..أنا متعب يا كوثر وأنت السبب منذ أول يوم التحقت فيه بالعمل في صحيفة المجهر وأنا أعاني لدرجة التلاشي ..أريدك زوجة لي علي سنة الله ورسوله ..لكن يا دكتور ..أعلم أنك مخطوبة ..لكنني أحتاجك أكثر من خطيبك ..ومضي يبثها لواعج الحب والحنين وهي تبكي في صمت ..هذا كثير علي ..ذلك المجهول وعصام وأنت يا دكتور أنت ؟ لماذا أنت بالذات ؟ لقد كنت أضعك في مكانة المرحوم أبي وفي مكانة شقيقي وأعز أصدقائي ..أما أن تكون زوجي وحبيبي هذا ما لم أفكر به ..ولن أفكر به ..وهكذا تركته يقول كل ما لديه وفي طريق عودتهما طلبت منه أن يعرج بها علي منزلهم لأنها متعبة ..نعم متعبة لحد الإعياء وقبل أن تصفق باب العربة خلفها نظرت إليه نظرة أودعتها ذلك الخليط الغريب من الشجن والحب والخوف .

عبدالغني خلف الله
23-08-2010, 12:13 PM
الحلقة الأخيرة
أنهي كل من ناهد وأمير وكذلك سلمي ومهيد )الروبرتاج (الخاص به ..واحد فقط من هؤلاء كتب الموضوع الخاص به بخط يده ..ذلكم هو مهيد ..خط ما شاء الله كأنه السلاسل أما الباقون فقد طبعوا مواضيعهم علي جهاز الكمبيوتر وهؤلاء يطلقون أسماء غريبة وعجيبة علي أجهزتهم ..يقولون لك هذا الجهاز ( أبل ماكنتوش ) وعند ترجمة الكلمة تطلع : تفاحه بحلاوة ماكنتوش ..( بذمتكم ده كلام ده ؟) وآخرون يقولون لك هذا الجهاز ( آى بي أم ) ولمزيد من الإرباك يضيف لك عبارة ( كومباتبل ) ..يقولها بصورة تلقائية وكأنه حضر مع الجهاز في صندوق واحد ..أما التغليف فحدث ولا حرج ..أشياء خضراء لامعة وأسلاك ..الوحيد الذي تخلف عنهم هو مهيد ..إذ لا توجد في القرية أجهزة كمبيوتر ..
وإن بالنسبة لسلمي )الغبية( فقد تولي أمير كل هذه الأشياء نيابة عنها ..آنسه كوثر تعتقد أن أمير هذا عنده حضور مسرحي ..وأضافت بينما كانت تعلق عليه مع الأستاذ عليان :وخفيف زي الريشه عكس مهيد دايماً مهود ..قالت له ذلك عندما حضر لتهنئتها بالترقية ثلاثة درجات دفعة واحدة وقد أنعم عليها دكتور همام أيضاً بلقب الأستاذة كوثر ..الشيء الذي أثار نهلة وهددت الدكتور بأنه إذا لم يعد النظر في هذه الترقية المريبة فإنها ستستقيل ليس من الجريدة فحسب وإنما من حياته نهائيا ومن ذلك اليوم وضعت الأستاذة كوثر وزوجها تحت المراقبة المشددة وزادت منوتيرة زياراتها المفاجئة للجريدة ..كوثر تساءلت عن مغزي لقب (أستاذه) هذا وما يمثله من ثقل وأهمية ولم تعثر علي إجابة مقنعة .
وأخيرا ظهرت النتائج وتم إعتماد الأربعة كصحفيين عاملين بجريدة المجهر ..كل واحد منهم إحتفل بطريقته الخاصة ..ناهد أقامت حفل (بارتي ) لأصدقائها وصديقاتها وأمير قام بتنظيم رحلة نيلية بمصاحبة فنان شاب وعازف (أورقان ) أما سلمي فقد ذبح أبوها خروفا وحمله إلي المسجد بالقرية بعد صلاة العشاء وأرسلت والدة مهيد سطلا ضخما مملوءاً تمراً أخذه الأولاد أيضاً للمسجد ووزعوه علي المصلين بعد صلاة المغرب ..وأنهمك الجميع في العمل الصحفي الشاق واللهث وراء الأخبار مشياً علي الأقدام وإجراء المقابلات والتحقيقات الصحفية ..سلمي تعاني من ظاهرة ضياع قلم الحبر السائل الذي تصر علي الكتابة به ..وذات مره أرسلتها الجريدة إلي مكتب السيد وزير التربية والتعليم مع ( باقة) من الأسئلة وعندما تهيأ الوزير للإجابة فوجئت سلمي بضياع قلمها رغم تأكدها بأنها قد وضعته داخل حقيبة يدها.. فما كان منها إلا أن أفرغت كل محتويات حقيبتها فوق منضدة السيد الوزير بحثا عن القلم الضائع فانهمرت أشياء غريبة وعجيبة ..منها علي سبيل المثال لا الحصر مناديل ورق وقطع حلوي وتذاكر مركبات عامة وقنينة عطر زيتي ومرآه صغيره ..الوزير ذُهل من الأشياء التي تبعثرت في ثنايا الأضابير ..وأخيراً عثرت سلمي علي القلم ومن ثمّ استأنفت الحوار ..أما ناهد فتعاني من ثقل دم من تحاور من الضيوف ..فتجيء تحقيقاتها ميكانيكية خالية من الحيوية ..وأمير يعاني هو الآخر من الإحساس بانعدام الوزن لدي توجيه الأسئلة لكبار المسئولين ومتخصص في صغار المسئولين ..يريهم النجوم عند الظهر كما يقولون ..أما سلمي الحمامة فلو أنها تتخلص من مشكلة ضياع الأقلام فستكون صحفيه ملء السمع والبصر شغلها نظيف ووجها نظيف وكل شيء فيها أنيق وأنثوي مع معدل أعلي من البراءة وربما قليل من الغباء المحبب في بعض الأحيان ..أمير قال لها ذات مره : فيك شيء يا سلمي من (دوريس داي) ..ودي تطلع منو يا أمير ؟ ..أبداً .. ممثله أمريكية بريئة كما الأطفال ..سلمي أغضبها هذا الوصف وقالت له معترضة ..يعني أنا بريئه يا أمير ..أوعك تحكم عليّ من الشكل الخارجي.. إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم ..
وهكذا إنتظم الجميع في العمل.. انتقلت ريم مع والدتها إلي مكتب الجريدة في لندن الشيء الذي ساهم في تعقيد أوضاع دكتور همام وكوثر ولا يدري أحد كيف ستسير الأمور بجريدة المجهر ..فقط إبقوا معنا .
إنتهت بحمد الله