مشاهدة النسخة كاملة : رحلة في قاع المدينة ..رواية .
عبدالغني خلف الله
24-08-2010, 07:43 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة فى قاع المدينة – رواية .
عبدالغني خلف الله
الحلقة الأولي
أحياناً تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحياناً تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد .. تتقاذفك الأنواء وتبحر بك نحو المجهول .
ولو أن الأمور تسير علي وتيرة واحدة لأمكن التعامل معها بنمط سلوكي ثابت .. لكنها تتقلب مثل طقس هذا البلد .. وهأنا بعد كل هذه السنين الطويلة التي شكلت حياتي بكل تقلباتها الموجعة والمفرحة أحاول أن أفهم نفسي ولماذا كان عليها أن تمضي بهذا الطريق دون غيره .. وهل كان من الممكن تفادي ما حدث هنا أو هناك أم أنها سخرية الأقدار طوفت بي من هذه الناحية إلي تلك وما بينهما أكثر من صدفة خرجت من جنون الوقت لتضحكني أو لتبكيني ..ولماذا كل هذا اللف والدوران يا هذا ؟.. إسمي حربي ..صالح عويضه عبد النور الملقب ب(حربي ) .. لماذا لا تدخل مباشرة إلي صلب الموضوع يا حربي فتريحنا وتريح نفسك .. حسناً .. سأفعل .. فقط دعني أعود بذاكرتي إلي الوراء ..لا ليس قليلاً ..بل كثيراً .. فالمسألة أكبر من مجرد حكاية نلهو بها قليلاً ثم ينتهي الموضوع ..أريد أن أحاكم كل الذين زوروا ظلماً وعدواناً تاريخي ..غيروا من طبيعتي .. ذبحوا في دواخلي البراءة .. وأسبغوا عليّ الألقاب والصفات .. فتارة أنا البطل والمنقذ وتارة الخائن وربما المحتال والمنافق .. لم أكن بحاجة إلي كل هذه التعقيدات .. فقد كنت أعيش حياتي البسيطة بمنزلنا الكائن بالحي الجنوبي من المدينة في قلب الأحياء العشوائية .. منزل بسيط من (الجالوص) وشيء من الكرتون والمواد المحلية .. ومعي والدتي الحاجه حواء زجاج .. هكذا ينادونها في الحي بإعتبار أنها أحسن صانعة للخبز البلدي اللامع مثل الزجاج .. ولم يكن لي أخ بل مجموعة من البنات ..وأنا كبير العائلة كما يقولون .. (ناديه) وتعمل ممرضة بالمستشفي العمومي .. و(سلمي ) وتساعد أمي في إعداد الخبز وأحياناً تصنع الفلافل وتسلق البيض وتبيعهما في المساء أمام دكان الحاج رضوان ..وكان في وجودها بهذه الزاوية السبب في دخولي حراسة الشرطة أكثر من مرة بدعوي الإزعاج العام وتسبيب الأذي البسيط ..وكانت الأمور تنتهي بجلدنا عشرين جلده أمام المحكمة الأهلية .. فقد لاحظ غيري ولاحظت أنا أيضاً أن (سلمي ) شقيقتى هي الأكثر جمالاً في الحي والأحياء المجاورة حتي منطقة (جبل الأولياء ) جنوب الخرطوم .. كانت تُعني بمظهرها رغم فقرنا.. ترتدي أحسن الثياب المعروضة بسوق ( الحرامية ) كل ثلاثاء .. وكان أكثر من صعلوك يستفزّها ويتحرش بها فتقتحم علينا البيت وهي تبكي .. فتثور الدماء في عروقي فأذهب وأبطش بهم ..فقد كنت كأي صبي ميكانيكي مفتول العضلات حتي وأنا في تلك السن المبكرة من عمري .. لذلك لقبوني ب ( حربي ) .. أما شقيقتي الثالثة نسمه .. فهي (تعبانه ..هلكانه ) .. عنوان لجميع أمراض المناطق الحارة وربما المستعصية أيضاً .. لا تكاد تتعافي من مرضها حتي تقع مجدداً .. مشكلة عانيت منها وعانت منهاشقيقتي ( نادية ) أكثر فأكثر .. تأخذها معها للمستشفي حيث تعمل وتحضر لها أطناناً من الأدوية .. والنتيجة .. لا شيء .
لكن الحياة تمضي بدون مشاكل ولا تخلو من المسرات ..فقد كان الجيران منفتحين علي الحياة بصورة غريبة .. يعبون منها عباً وكأنهم سيموتون غداً .. يعيشون ليومهم وغداً في علم الغيب .. فلن تكون الحال بأسوأ مما تركوها خلفهم في تلك البلاد البعيدة والتي هجروها بسبب الحروب والجفاف وتلك قصة أخري .. حياة تبحث عن الفرح .. تقتنصه كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. مثل ماذا يا حربي ..؟ كنا نخرج كل عطلة في رحلة إلي الحدائق العامة .. نجهز ما تيسر من الطعام ونستأجر سيارة عم (عبدو الفولاني ) .. وعبدو هذا بدأ بعربة نقل صغيرة تجرها الخيول تلتها أخري وثالثة حتي وصل إلي ما وصل إليه .. سيارة نصف عمر كثيرة الأعطال وكانت حين تتعطل يُنادي عليّ من فوق السور فألبي طلبه بسرعة البرق .. تعلمون لماذا ؟ ..لأن بالداخل صغري بناته ( أميره ) .. تحلف عندما تراها بأنها القمر ليلة إكتماله .. (شنكل) القادم الجديد للحي والذي اختارني من دون الصبية لأكون رفيقه وكاتم اسراره ..همس في أذني ذات يوم وقال لي ( البنت دي يا حربي خطيره ..والله المانقو ذاتو ) وأضاف في غيرة واضحة (ظاهر عليها الجو بتاعك ..) أجبته وأنا محرج ..أبداً والله دي بنت الجيران يا (شنكل )..بنت طيبة ومؤدبة .. كانت تحضر لي (الشربات) وأنا أعمل بهمة ونشاط مستخدماً كل مهاراتي الميكانيكية لصيانة سيارتهم .. وهي تخصني بنظرات يلفها الحياء والخفر.. وإذ ما أحاول أن أقول لها شيئاً أتذكر كم هو شاسع البون بيننا .. فهي طالبة وأنا صبي ميكانيكي .. ولكننا حين نصل إلي الحدائق تسمعني كلاماً يسري كالكهرباء في عروقي وتشتري لي ( آيس كريم ) .. مثل ماذا يا حربي ؟ أشياء لا أفهمها .. تقول ليك .. تقول ليك كلام ( الغنا ) وكنت اعتذر عن الإنضمام لكل رحلة لا تضم (أميرة ) .. وفي مرحلة من المراحل صرت أنتظر لحظة خروجها من منزلهم لتركب في الحافله التي تقلها للمدرسة لأقول لها صباح الخير.. شنكل قال لي تشجع وقل لها ما يجول في ضميرك ولا تخش الرفض .. ( صنف البنات المتعلمات ديل ما زي الجدات .. يعشقن الكلام النظيف ) .. وهي فيما يبدو مقتنعة بي وإلا لماذا تسمعني في كل مناسبة ذلك الكلام اللذيذ .. الحاج رضوان ( سيد الدكان ) .. قال في وجود أمي .. هذا الولد ممتاز يا حواء وينتظره مستقبل باهر ..وأخذت كلامه علي أنه مجرد مجاملة لأمي التي تحرص كل الحرص علي تسديد ديونها في أول كل شهر .. وهذا بالطبع ما يسعد عمنا ( رضوان)..
عبدالغني خلف الله
25-08-2010, 02:32 PM
الحلقة الثانية
( شنكل) ياسرني بشخصيته القويه ..عيناه الزرقاوان توحيان لي بأن هذا الشاب ينطوي علي أسرار كثيرة وبالرغم من أنه يعتبر أحد أبناء الحي فإن لون بشرته وعينيه تقولان الكثير .. وكثيراً ما تساءل الحاج رضوان في حيرة ونفاد صبر .. ( الولد المثل الخواجات ده جاء من وين ..؟) .. وهو نفسه قال لي أنه يعاني من تفاصيل وجهه معاناة شديدة ولو أنه يشعر في بعض الأحيان بأنها أفادته في مواقف كثيرة وقد أضحكته كذلك..
آه من تلك الأيام .. النوم في الحصير والسقف المثقوب الذي لا يحتمل الرذاذ ناهيك عن المطر ..هل تسمي عيشة كهذه (أيام) يا أستاذ .. ولو .. كان لها طعمها الخاص وكان الجميع بجواري .. فرحل من رحل ومات من مات وتزوجت من تزوجت .. والله أبيع بقية عمري لمن يعيدني ويعيد لي تلك الأيام .
أواظب علي العمل بالورشه ..ورشة ( الأوسطي سلمان الفاضي ).. هكذا ينادونه في المنطقه .. (سلمان الفاضي) وهو لكذلك .. فبالرغم من طيبته وضحكته المجلجلة إلا أنه فضولي .. يريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة عن السيارة والزبون .. لا سيما تلك التي تكون طرفاً في حوادث الحركة .. وكنت لا أحب سماع تلك التفاصيل .. ( تخيل ..اللحم لقطوه حته حته من جوه السيارة ..و ) ..وعندما يصل الراوي إلي هذه النقطة أغادر الورشة إلي بائعة الشاي ( نانا الحبشيه ) وأنا في غاية الإحباط .. أبحر في سمرتها وأرتاح .. تناولني الشاي بيدها والبهجة بعينيها وتدندن لي وحدي ( الماز بجي تاني ..الماز بجي تاني ).. وكنت أذوب من الطرب فأرقص بجنون ولا أتوقف إلا عندما تختتم الأغنية و تضحك من أعماقها ضحكتها التي تحاكي سقوط المطر فوق سطح من الصفيح بحي( الكرتون) .. لماذا أتذكر كل هذا الآن وأنا جاثم داخل هذه الزنزانه ..؟ لماذا ..؟ إنها أصول اللعبة السياسية يا معلم .. يوم لك ويوم عليك .. وهل سأنسي ؟ ليتني أستطيع ..أم أنني سأظل حبيس زنزانتي وذكرياتي إلي الأبد .. وقد نسيني كل من أحببتهم وأحبوني أو هكذا أتصور .. إلا ( شنكل ) .. رفيق الصبا والشباب .. الشخص الذي حولني إلي لص في بداية حياتي دون أن أدري .. فقد كان يصور لي السرقات الصغيرة علي أنها نوع من المغامرة المثيرة .. بدأنا بسرقة (طاسات ) الإطارات .. كل ما نحتاجه لإتمام السرقة (مفك ) صغير لا أكثر .. نتجول أيام الجمع بين أزقة وشوارع الإمتداد الجديد حيث تراصت عشرات العربات .. وكانت حصيلتنا في أول غارة لا تصدق .. ثلاث وعشرون قطعة حملناها داخل أكياس من جوالات السكر الفارغة .. وفي ثاني يوم حضر لي (شنكل) بالورشة وأعطاني نصيبي .. كان مبلغاً خرافياً لم أحلم به من قبل .. ذلك لأن المعلم سلمان الفاضي لا يكاد يمنحني أكثر من ثمن وجبة الإفطار وتذكرة الباص .. وعدت إلي منزلنا آخر اليوم كأي موظف أحمل بيميني (كيساً) من الفاكهة وبشمالي ( كيساً) من الخضروات وحفنة من الأرغفه .. توجست والدتي من الموضوع برمته وأخضعتني لإستجواب رهيب ..( القروش دي جبتهن من وين يا وليد ؟ .. من شغلي يما .. شغل بجيب قروش قدر ده ؟ .. هوي يا وليد أمسك الدرب عديل .. أبوك الرقيب عويضه عبد النور خدم في الجيش لغاية ما مات في الجنوب .. عمرو ما أكل حرام ..)
ولا أنكر أنني ندمت ندماً شديداً علي ما فعلته وخاصمت ( شنكل ) أسبوعآ كاملاً .. أتهرب من مواعيده بحجة مرض (نسمه ) التي تدهورت حالتها بشكل مريع و( نادية ) شقيقتي الممرضة قالت إن الطبيب قرر لها أدوية غالية الثمن لكنها ستساعد في شفائها إن شاء الله ..ذهبت إلي الورشة في ثاني يوم وفي ذهني طلب سلفية من المعلم سلمان .. بيد أنه ردني بجفاء .. فكانت السرقة الثانية مع شنكل .. وهذه المرة إطار ورافعه.. وتنازل لي شنكل عن نصيبه وحلت عقدة الروشته وصممت بعدها أن لا ألج هذا المجال أبداً وقد كان .
واجهت المعلم بشروطي في الإستمرار معه .. أولاً نصف العمولة لأي سيارة أقوم بصيانتها إضافة إلي وجبة إفطار أو أغادر الورشة .. وكانت أكبر مفاجآت حياتي عندما وافق وكلفني بمناقشة الزبائن علي الأجر وأخذ نصيبي مقدماً .. كانت فرحتي عظيمة ذلك الصباح ولم يمض بعض الوقت حتي توقفت عربة أنيقة وترجلت منها فتاة في ريعان الصبا والجمال وقد أحدثت زيارتها للمنطقة الصناعية فوضي لا مثيل لها .. أولاً لأن رؤية فتاة تقود سيارة ليس بالأمر المعتاد ولكونها جميلة وآسره ..طلب مني المعلم أن أعاين عربة الأستاذه .. سحر ..إسمي سحر وأعمل مضيفة جوية .. وأنت .. فاجأتني بتقديم نفسها وأنا أرفع غطاء الماكينة لدرجة أنني نسيت إسمي لبعض الوقت .. ها .. معاي أنا .. أيوه طبعاً .. لم أسمعك جيداً ؟ ..قلت لك إسمي سحر وأنا مضيفه .. السيارة هذه تخصني .. أريد منك معاينة الماكينه .. تشوف السخانه دي من أيه .. حاضر يا ست ..إنتي بس إتفضلي أجلسي جنب المعلم وأنا حأقوم بالواجب ..لم يصدق المعلم سلمان الفاضي أن كل تلك الوسامة تجلس بجانب مكتبه في مقعد هو بالأساس مقعد سيارة تحت الصيانة وأنها ستمكث بعض الوقت .. فنادي علي (نانا الحبشية ) وطلب منها قدحين من الشاي ومن ثمّ عاد ليمارس هوايته في الثرثرة وهو الذي أصّر علي بائعة الشاي أن تبيع من أمام ورشته حتي يتسني له محادثة كل من جاء يطلب كوباً من الشاي .. لم يكن بالعربة خلل كبير ..ذلك لأن ( طرمبة ) الماء لا تعمل وتحتاج إلي قطعة غيار جديده .. ناولتي حزمة من المال وطلبت مني أن أشتري قطعة الغيار وأعيد لها الباقي .. ولم تحدثني نفسي الأمارة بالسوء بأن أختلس بعض المال المتبقي وهو كثير فأعدته لها بالكامل .. ربما لأن الإحساس بالحيوية والإمتلاء الذي أحدثته زيارتها لنا كان أكبر من أن أدنسه بكسب مادي رخيص .. نظرت في عينيّ لحظة ودست في يدي بضعة جنيهات ك( بقشيش ) .. وعكفت علي العربة أعمل فيها بهمة ونشاط وأنا أختلس النظر إلي جمالها كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. وسارت الأمور بسلام وطلبت منها أن ننطلق لتجربة العربة التي صارت تعمل بصورة جيدة ..أعادتني للورشة بعد أن دفعت الحساب وشكرتني بحرارة ولم تنس أن تسألني للمرة الثانية عن إسمي .. صالح .. وملقب بحربي ..حربي ؟! ..أيوه حربي ..أنا حأناديك بس صالح .. ممكن ؟ .. ممكن طبعاً .. مع السلامه .. مع السلامه .
عبدالغني خلف الله
26-08-2010, 12:49 PM
الحلقة الثالثة
عدت إلي منزلنا مشغول البال مشوش الفكر .. وبرغم الجنيهات التي إستقرت في جيبي جراء صيانة عربة المضيفة (سحر) إلا أن صورتها تملأ كياني .. ناولت شقيقتي سلمي بعض الحاجيات وسلمت بقية المبلغ لوالدتي .. سألتني سلمي ..هل أعد لك شيئاً لتأكله .. قلت لها لا أريد .. أنا تعبان وأود أن أنام بعض الوقت .. لحقت بي سلمي وقد قرأت شيئاً ما في عينيّ .. حاولت أن تستدرجني في الكلام .. ما بك يا حربي .. سمعت بخطوبة جارتنا ولّه الحكايه أيه ؟ أميره إتخطبت .. صرخت وأنا أقف علي أرجلي وكأن بي مساً من الجنون .. غادرت المنزل علي الفورفتلقفني (شنكل ) لدي الباب واقترح عليّ أن نتمشي قليلاً ووجدته وقد أخذني تجاه منطقة المقابر .. حاول أن يطيب خاطري ببعض الكلمات دون جدوي .. كنت أعلم أن شيئاً كهذا سيحدث وبأنني لن أكون العريس بأية حال .. فوالدها الحاج ( عبدو الفولاني) رجل طماع وأناني وسيفكر في بيع أميره لا تزويجها .. ولكنني لم أتوقع أن تسير الأمور بهذه السرعة مطلقاً .. فأميرة لا تزال بالسنة الثانية بالثانوي العالي وهي ذكية وطموحة ..فلماذا لا يدعها تكمل تعليمها ؟ لماذا ؟ .. دع الأمور لله وهاك يا صاحبي هذه ..ما هذا يا شنكل ؟ .. سجاره حشيش ؟) ..لا لا يا (شنكل) أعفيني من هذه المصائب (..مصائب أيه ؟ لقد صرت رجلاً يا صديقي أم أنك لا تزال طفلاً صغيراً ؟ ..لا يا شنكل ما تفعله ليس صحيحاً والحشيش بدمر الشباب الكلام ده سمعتو في الراديو ..عليك الله ما تدخن حشيش .زوتعال أجلس بالناحية دي عشان الهواء يشيل السم الهاري ده بعيد مني ..مشكلة أيه البتخليك تضيع نفسك ..؟ أرسل شنكل آهة طويلة أردفها بزفرة حارة لفحت وجهي بلهيبها وهو يهمهم .. ما جربته يا حربي لا يمكن أن يخطر ببالك .. حياتي قبل أن أجيء إلي هنا كانت جحيماً لا يطاق .. فأنا نتاج زواج غير شرعي .. حملت بي أمي سفاحاً وقذفت بي إلي صندوق لحفظ النفايات .. أيوه ( ود حرام ) ..أليس هذا ما تود قوله يا حربي ..العفو يا (شنكل) ..(وإنت كان بإيدك أيه ؟ ) ..أشكرك يا صديقي .. لقد وضعت بالقرب مني نصف قطعة معدنية من فئة العشرة دنانير .. لعلها لا تزال تأمل في إستعادتك .. بعد سبعة عشرة عاماً يا حربي .. لا أريدها وإن ظهرت سيكون حسابها معي عسيراً .. كان يتوجب عليها إسقاطي أو تحمل مسئولية إنجابي سفاحاً .. إمرأه ضعيفه ..إمرأه دنيئه .. لعل الظروف التي كانت حولها أقوي منها .. لا تدافع عنها ..ظروف أقوي من الأمومه ..أية ظروف هذه ..ترميني هكذا دون رحمة ولا تخاف عليّ من البرد والجوع والكلاب الضالة .. كيف تفكر يا غبي ؟.. أنا آسف ..آسف جداً ..المهم وجدني إبن حلال بين الحياة والموت وسلمني للسلطة والتي بدورها سلمتني لمنزل اللقطاء .. وبقيت هناك خمس سنوات والأسئلة الحائرة تزلزل كياني الصغير والمسئولة تعطيني أجوبة ساذجه .. فتارة أنا إبن الرعد وأمي السحابة وأخري إبن الشمس وأمي القمر .. وكبرت وكبر معي آخرون ..احبهم وأقربهم إلي قلبي طفل يطلقون عليه إسم (كافوله ) في نفس سني تقريباً ..وذات مساء لفته الظلمة وهوج الرياح هربنا من النزل وذبنا في قاع المدينة .. كان (كافوله) يحرص علي قطعة من القماش توضع تحت ذقن الطفل وثلاث (بزازات ) وجدها المصلون داخل السلة التي كانت تحتويه ومعها رسالة من أم مجهولة توصيهم خيرأ برضيعها .. وقد ملئت الزجاجات الثلاث بالحليب .. وقد روي أول من غادر المسجد بعد أداء صلاة الفجر أن اللبن كان دافئاً لدرجة أنهم تشككوا في منازل الجيران .. لذلك حرص علي قطعة القماش تلك ومن إسمها أخذ إسمه .. تصور شخصاً كل نسبه قطعة من القماش وثلاث زجاجات حليب .
. وفي قاع المدينة تلقفتنا عصابة من الصبية يكبروننا سناً فعلت بنا العجائب .. لقد إستغلونا بشكل بشع .. توزعونا مثل قطيع من الخراف ولم يراعوا فينا إلاً ولا ذمة .. ناس ما بتخاف من الله .. وأسرف شنكل في وصف مأساته داخل المجاري بالسوق .. ينام بين شذاذ الآفاق ويرتدي أسوأ الثياب .. ولو علم أن والدته ( جوليا ) تسهر الليالي بالسنين الطوال في ( نيويورك ) البعيدة بإنتظار عودتها للخرطوم لتبحث عنه من جديد وتأخذه إلي حضنها وتضمه إلي شقيقته ( لوسيانا ) المولودة لها من أب أمريكي .. لو علم كم تتعذب بعيداً عنه ربما التمس لها العذر ولكن .. ماذا قلت يا (شنكل) .. تأكلون بقايا الموائد بالمطابخ وتلحسون أوراق المكسرات المنسية في القمامه بعد أن تهشوا عنها النمل .. معقول الكلام ده يا شنكل ؟! ..(وحياة خوتك الما منها أي فائده ) ..
لم أعد بقادر علي تتبع الحكاية فقد أحسست ثقلاً شديداً في أجفاني وأن رجليّ بالكاد تحملانني إذ أن بعضاً من غيوم لفافات الحشيش التي دخنها ( شنكل ) قد طالتني بطريقة أو بأخري .. فطلبت منه أن يكمل لي القصة في وقت آخر واستندت علي كتفه لأصل بصعوبة إلي باب منزلنا .
نأيت بنفسي عن الوقوف كل صباح لتحية أميرة وهي تخطو نحو باص المدرسه .. ويبدو أنها انزعجت من تهربي منها لما يقارب الأسبوع فاقتحمت منزلنا قبيل الغروب وقد تعللت بأنها تود الإطمئنان علي شقيقتي (نسمه) فكانت المواجهة بيننا .. إغتنمت فرصة مغادرة شقيقتي (سلمي) لتعد لها كوباً من الليمون لأقول لها في إنكسار شديد مبروك الخطوبه ..(خطوبة من ولمن ؟ ..) وقد ردت عليّ بغلظة واضحة ..خطوبتك طبعاً .. ضحكت ضحكة هي مزيج من الضحك والرفض والبكاء .. ورانت لحظة صمت قاتله .. ثم .. هل تسمي الحاج رضوان سيد الدكان خطيباً ..الحاج ..؟!! ..نعم قابل أبي وخطبني عروسة له تؤنسه ما تبقي من عمره لأقضي أنا ما تبقي من عمري بلا أنيس .. وسكب في وجه أبي الوعود البراقة .. سأشتري لها منزلاً وأسجله بإسمها وأسجل لها الطاحونة والطابونة ..وطبعاً لم يصدق والدي النعمة التي هبطت عليه من السماء فوافق علي الفور وناداني ليبارك لي في حضوره الخطوبة ..إنتفض كمن لسعه ثعبان وانهال علي بعبارات الإطراء .. فقد الرجل وقاره وانكسر أمامي مثل غّر مراهق ..قلت لهما في حزم شديد لا يقبل التأويل .. أنا أريد أن أكمل تعليمي حتي الجامعة ولا أريد الزواج .. لملم الرجل بقية كرامته المجروحة إن كان لديه أصلاً كرامه وخرج .. أنا أحبك أنت يا حربي .. أحبك حباً ملك علي حواسي ولا بد أن تكون شيئاً ليقبلك والدي .. إلي متي ستكون صبي ميكانيكي ؟!.. إن حبنا يكبر يا حربي فلماذا لا تكبر معه .. وصرت أردد أنا ؟! .. فتقاطعني بمزيد من التحريض .. سافر ياخي إغترب أعمل حاجه وإلا سوف أهرب معك إلي آخر الدنيا فنتزوج بالقانون .. قالت هذا والإنفعال الشديد أفقدها أعصابها فبكت .. بكت بكاءاً مراً .. دنوت منها أخفف نهنهاتها .. وصرت أمد يدي نحو شعرها متردداً خائفاً ولست واثقاً إن كنت في عالم الحقيقة أم في عالم الأحلام .. وتشجعت فوضعت يدي في كتفها وأنا أردد عبارات لا أفهمها فانفلتت نحو باب الغرفة لتصطدم بسلمي المتعجلة كعادتها .. فتطايرت الأواني يمنة ويسرة وهي تردد أنا آسفه يا جماعه أنا آسفه يا جماعه .
عبدالغني خلف الله
14-09-2010, 07:45 AM
الحلقة الرابعة
كانت( جوليا ) تعد الساعات والأيام والشهور بإنتظار لحظة عودتها للسودان لأكثر من سبب بعد غياب إمتد لأكثر من عشرة أعوام قضتها بمدينة نيويورك بأمريكا .. ولم تكن هجرتها إلي ذلك البلد عن رغبة حقيقية في الهجرة بعد الأحداث العاصفة التي زلزلت كيانها وقلبت أوضاعها رأساً علي عقب .. كانت تعيش كغيرها من الفتيات أحلام الدخول للجامعة والحصول علي وظيفة محترمة ومن ثمّ الزواج وتكوين أسرة تلفها السعادة والهناء .. ولكن أحلامها ذهبت أدراج الرياح .. فإن كان بالنسبة للجامعة فقد حققت هدفها وأكملت دراستها بنجاح .. وإن كان علي صعيد الوظيفة فقد إلتحقت بوظيفة محترمة بإحدي المنظمات الإغاثية .. وقد كان معها بالمنظمة ( وجدي ) إبن الجيران وفارس أحلامها منذ أن كانت صبية صغيرة بالمرحلة الثانوية .. بادلته حباً بحب وكانت تكثر من زيارة شقيقته (ماريا) بسبب أو بدون سبب لتكون قريبة منه .. وقد إستغل وجدي هذا الضعف الأنثوي الكامن في أعماقها أبشع إستغلال .. فكان يختلي بها بمكتبه بالإدارة (اللوجستية) ويمتهن جسدها دون شفقة ولا وازع من خلق أو ضمير ويحقق عبرها نزواته الفجة والآثمة وهي بالكاد تقاوم عربدته إلا عندما تشعر أن الأمور تسير بإتجاه يتناقض وطبيعتها وتربيتها فتوقفه عند حده . . كانت تعزي نفسها عقب كل محاولة بأن وجدي سيتزوجها دون أدني شك وقد أعلن ذلك صراحة لأسرتها وأسرته وصار يأخذها في مشاويرطويلة بإعتبارها خطيبته وزوجة المستقبل .. ولكن تلك الشخصية المعقدة كانت تخفي تحت إهابها ذئبآ بشرياً لا يرحم .. ومن ثمّ كان ما كان ووقعت الكارثة الكبري .. وعندما تبينت جوليا أن وجدي قد غدر بها وأنه يتهرب من لقائها أخبرت بذلك زميلتها ورفيقة صباها (هند) وساءت الأوضاع بشدة عندما اكتشفت أنها حامل بعيد سفره إلي روما منقولاً لفرع المنظمة هناك .. رجته أن لا يسافر وأن يكمل مراسم العرس حتي لا يعرضها وأسرتها للفضيحة وبكت أمامه بدموع كالمطر .. وبدا لبعض الوقت وكأنه يقوم بالتجهيز للزفاف فاطمأن قلبها بعض الشيء إلي أن فوجئت ذات صباح بأنه قد سافر بالفعل .. ركضت نحو منزلهم لتقرأ في عينيّ شقيقته مظاهر الرثاء والسخرية بل والتشفّي .. لماذا هذه المعاملة اللاإنسانية يا هذه ؟ أين حق الجيرة والزمالة بكل مراحل الدراسة منذ الإبتدائي ..؟ تستاهل جوليا كل ما جري لها .. هذه المتغطرسة المغروره .. لماذا هي دائماً ومنذ أن كنا مجرد تلميذات الأوفر حظاً في كل شيء .. إجتذبت إهتمام شباب الحي وترتدي أحدث الثياب والمصاغ الذهبية وهي الأكثر تألقاً وظهوراً في جميع المناسبات .. تركب عربة جديده تحمل شعار منظمة الأمم المتحده وعندما ندعوها لتناول كوب من الشاي تتعلل بالمشغولية (عندي ترجمه .. عندي مؤتمر هام .. إعداد الميزانية يأخذ كل وقتي) .. لا تبحث عن الحجج والذرائع لتفادينا .. هكذا إذن .. أنت تغارين منها ولا ريب .. أغار من محبطه إسمها جوليا ..لا يا سيدي .. أنت لا تعرفني دون شك ..وعادت جوليا أدراجها تجرجر أذيال الخيبة والندم ولم تتمالك أعصابها المرهقة المفاجأة فدخلت في حالة من الهستريا أقرب للجنون .. بذلت جوليا جهوداً مضنية حتي لا تظهر عليها آثار الحمل وقد عزت أعراضه للملاريا .. كان المستر رتشارد المدير الأقليمي للمنظمة يراقب جوليا عن كثب ويتابع تلك الخطوات العنكبوتية التي يقوم بها وجدي ودوافعه الدنيئة فعمل علي نقله إلي روما دون أن يشعره بذلك .. مرت الشهور سراعآ وساعة الصفر تقترب يوماً بعد يوم .. حثتها نفسها أكثر من مرة بالإنتحار ولكنها كانت تصرف تلك الرغبة عنها من أجل طفلها القادم .. وعندما شعر المستر رتشارد بأن موقفها قد بدأ يزداد سوءاً أرسلها في مامورية بإحدي الدول المجاورة حتي يتسني لها ترتيب أوضاعها ومن ثم مداراة الفضيحة التي توشك أن تحل بها .. وفعلاً سافرت إلي هناك ووضعت طفلها وتركته بإحدي دور الحضانة وعادت للخرطوم .. وكان ما كان من أمر تخلصها منه بتلك القسوة التي لم تتعود عليها بعد أن عادت به سراً للخرطوم .. بيد أن هذا الأمر عاد عليها فيما بعد بإحاسيس ثقيلة جثمت فوق صدرها ليل نهار إلي أن أقدم المستر ريتشارد في لحظة صفاء نادرة جمعته بها في حفل عشاء بمناسبة رأس السنة علي الإفصاح عمّا يعتمل في جوانحه ..وكيف أنه معجب بها منذ أول يوم إلتحقت فيه بالمنظمة وكيف أنه كان يراقب ما يحدث بينهما بحياد وإخلاص شديدين دون أن يعطي لنفسه الحق في التدخل بشئونها الخاصه .. you don’t know what you have done to me.. قال لها بالإنجليزية بعد أن عجز في الإفصاح عن مشاعره بالعربية المكسرة وزاد علي ذلك بأن إقترح عليها نقلها لرئاسة المنظمة بنيويورك ليلحق بها ويتزوجها مسدلاً بذلك الستار علي أقسي فترات عمرها .. ولكن صورة طفلها لم تبارح خيالها في يوم من الأيام بالرغم من وجود ( لوسيانا ) طفلتها الوحيدة في حياتها .. كان يضغط عليها بإطلالته الملائكية وضحكته الآسرة ووجهه الصبوح .. لذلك عمدت إلي أخذ مئات الصور الفوتغرافية له قبل التخلي عنه وعاينت جسده الصغيرالأنيق شبراً شبراً لتتأكد من أية علامة تقودها إليه فيما بعد ووجدت ضالتها في ذلك الوشم العريض أسفل كتفه الأيمن .. ثم بادرت بشق تلك القطعة المعدنية من فئة العشرة دنانير إلي نصفين ودست نصفاً بين ثنايا قميصه واحتفظت بالآخر داخل خزانة ملابسها . عدت من الورشة وأنا بمعنويات عالية وكأنني امتلكت الدنيا بما فيها ومن فيها فقد زارتنا بالورشة المضيفة سحر لإجراء بعض الصيانة بعربتها .. كنت وقتها مستلقياً تحت عربة حكومية أراجع بعض النتوءات التي حدثت هنا وهناك بعد تعرضها لحادث مروري في طريقها من وادمدني للخرطوم .. عندما غمرني صوت هامس .. أوسطي حربي ..أوسطي حربي .. لم أتبين صوتها للوهلة الأولي ولكن قدماها وحذاؤها اللامع ذكراني من تكون .. سحبت نفسي من تحت العربة بعد أن اصطدمت بألف شيء قبل أن أقف علي رجليّ .. أستاذه سحر ؟! .. مش معقول ؟! ..( شنو المش معقول يا غبي .. لعلك توهمت أنها بنت الجيران أو واحدة من الأهل ..) هكذا قال لي ضميري موبخآ .. تغيرت لهجتي وصورة الفرح الذي احتواني إلي لهجة هادئة .. مرحب يا أستاذه .. أيّ خدمه ..؟ .. يعني ما نسيت إسمي ؟ ..همست في وجهي وابتسامة ملائكية تتوزع علي شفتيها وعينيها وتضاريس قدّها الصبي ..لا ما نسيت معقول أنسي يا أستاذه سحر ( هو شنو الما معقول ومعقول دي يا شاب ؟! أظنك قايلها دفعتك في الجامعه ) .. هكذا عقب ضميري .. ولا أدري لماذا يضيق عليّ وهو جزء مني .. أليس بوسعنا أن نتآخي مع هولاء الناس الرائقين النظيفين ولو للحظات ؟ .. وهنا تذكرت طبقة التراب الكثيفة التي تربعت فوق ( الأبرول) وفي مؤخرة رأسي .. وعندما فتحت باب العربة لتريني الإشارة الضوئية بال( طبلون ) والتي تشير بوضوح إلي أن ( الماقنيتا ) لا تعمل .. ترددت برهة في الجلوس خلف المقود وبدأت في نفض التراب عن ظهري فإذا بها تساعدني في ذلك .. لامستني أصابعها الرقيقة التي طرقت ظهري وقلبي طرقات رقيقة وكادت أن ترسلني إلي غرفة الإنعاش .. شجعتني علي الدخول وهي تقول لي لا تهتم .. غدا موعد صيانتها الأسبوعية .. (علي فكرة )لماذا لا تحضر لنا بالبيت غدآ وهو يوم جمعه ولا أظن الورشة تعمل يوم الجمعة لمراجعة الماكينة وتبديل الزيت والغسيل هذا طبعآ إذا لم يكن لديك مانع .. أعرف إنك أوسطي كبير والغسيل لا يليق بك ولكنني سأدفع لشخص آخر في كل الأحوال فلماذا لا تستفيد أنت من المبلغ .. ها قلت شنو ..؟ أقول شنو يا .. يا أستاذه سحر .. (بلاش) من الألقاب يا حربي ..أنا مضيفه ولست معلمه .. ناديني باسمي فقط .. وهكذا صنت لها العطل وأخذت منها عنوانها وأخذت هي روحي وضميري ومصيري .. لقد أخذت كل شيء .. كل شيء وغادرت والفرح الطفولي الغامر يلون كل إيماءة .. كل حركة من حركاتها ..انطلقت بالعربة تاركة لنا الغبار والدهشة والأشواق .. نعم عدت وأنا أترنح كالسكاري من فرط سعادتي .. توجهت مباشرة نحو أمي أسألها .. من أنا ومن أكون وكيف كبرت وترعرعت ولماذا لم نكن هنالك بذلك الحي الراقي قرب سحر وأسرتها .. اسندت كتفي علي صدرها وبدأت أنشج بالبكاء كطفل صغير .. كنت متعباً وحائراً وقلقاً وخائفاً من الغد ومن سحر .. من روعتها ونعومتها وهيبتها .. فهل يجوز لي مجرد التفكير بها علاوة علي حبها وعشقها .. أرسلتت أمي تنهيدة عميقة خرجت من بين حنايا صدرها .. آه يا ولدي لو تعلم ما قاسيناه وكابدناه من أوجاع .. كنت أعمل في الوادي حين ولدتك .. أجلستك فوق الأعشاب وكأنني دجاجة تفقس بيضها في الهواء الطلق .. لملمت بقاياك وصراخك يزلزل كياني وكأنني سأفقدك في منعطفات تلك البرية .. صرخت باعلي صوتي علّ أحداً ما يسمع ندائي فيحملنا إلي بيتنا أعلي السفح ولكن لا أحد .. جاوب الصدي صراخي وهتافي ولكن لا أحد .. حملتك وأنا أستحم بالدم والألم أسقط ثم أنهض .. اسقط ثم أنهض .. حتي وصلت مشارف القرية حيث تلقفني خالك وصرخ باعلي صوته ( عووك ..هوي يا ناس ..حوه إخيتي ولدت ليها ولد ) ..وعاشت القرية أياما وليالي ترقص تحت ضوء القمر فرحاً بمقدمك .. فقد ولدتك بعد أن مضي علي زواجي من أبيك سبع سنين بالتمام والكمال .. وعندما سمع بالخبر وكان وقتها في الجنوب يعمل في الجيش ..أخذ إذناً وعاد للبلد وبالرغم من معارضة أهلي أصرّ أبوك علي أن نذهب معه حيث يعمل .. ومن ثمّ بدأت رحلتنا الغريبة والفريدة مع التجوال والحركة المستمرة من بلد إلي بلد ومن نقطة إلي نقطه .. وكنت عندما يشتد أوار القتال بين المتمردين وجيش الحكومة أحملك علي عجل وآخذك للمسجد ..وأغطيك بآيات الله أدعوه .. وأدعو الرسول ومن بعدهم أولياء الله الصالحين أقول ( يا الله تحفظ لي وليدي صالح .. يا الله إن أنا مت وليدي يعيش ويكبر ويبقالي ظابط متل الظباط رفقا أبوه ..) .. وظللنا علي هذا المنوال ..هي تحكي الحكايات المشوقة عن أناس وأماكن وحروب وقتلي .. وكانت تقلد صوت الأسلحة وكأنها خبير في المتفجرات ( الإنرجيا تعوي متل الجرو .. والمورتر يسوي يييي دو .. والبرين تتاتت تتا تت ..) ..حدثتني عن ظروف مرت بهم ومصاعب لا تخطر علي بال ..واختتمت مرافعتها بقولها ( الحرب قبيحه يا وليدي ..الله لا يضوقك ليها ) . الحلقة الرابعة
ربيحة الرفاعي
16-09-2010, 12:10 AM
تم التعديل الذي طلبته أيها الأب الكريم
****
متابعون طبعا لنصك الرائع وباهتمام
دمت مبدعا
عبدالغني خلف الله
18-09-2010, 01:03 PM
تم التعديل الذي طلبته أيها الأب الكريم
****
متابعون طبعا لنصك الرائع وباهتمام
دمت مبدعا
شكراً لك يا ابنتي وعبرك أهدي الحلقة الخامسة مع كل الود :الحلقة الخامسة زارني شنكل بالورشه ولم يكن بيدي شيء يذكر ..مجرد (بوليتين ) إنتهيت من إستبداله واستأذنت من المعلم (سلمان الفاضي) ومن ثمّ توجهنا نحو (نانا الحبشيه ) .. ولدي جلوسنا همس شنكل في أذني ( ديشك يا حربي ..دي ما منقة كسلا عديل .. إسمها نانا وهي صاحبتنا .. أها تشرب شنو ؟ قول لي تاكل شنو ؟ أخوك ما أكل من أمبارح .. طيب نمشي المطبخ .. ومالك( مدبرس ) كده ؟ .. والله يا حربي ما قادر أشتغل .. الطبليه ما جايبه حاجه بعد ما إكتشفت الشرطه بأني ببيع حشيش .. تبيع حشيش يا شنكل ؟ .. حرام عليك ياخي ما لقيت حاجه تاكل منها عيش غير المخدرات ؟ .. صدق أنا تاني يوم لجلوسنا معاً بالمقابر ما جيت الشغل .. وفضلت كذا يوم ما قادر أفك أو أربط حاجه .. لالا مش حشيش حشيش .. وزنات خفيفه يعني تمشي الحال .. بالمناسبه عندي صاحب عزيز عليّ نفسو يتعرف عليك .. يظهر أن ليلة القدر نزلت عليك .. حأسيبك أعمل كذا مشوار وأمر عليك بعد الشغل ).. لم أكن مرتاحآ لهذه الدعوة وقد صدق حدسي .. فقد أخذني شنكل إلي الطرف الغربي من المدينه فوصلناه بعد حلول الظلام .. طرق الباب طرقاً خفيفاً وتبادل مع شخص بالداخل عبارات تشبه( الشفره ) مثل (المنفله في العربيه ) .. وعبارات أخري لم أستوعبها .. فتحت لنا الباب صبية مليحة قدمها لي علي أنها الآنسة ( بطه ).. وفي غرفة معزولة بالمنزل دخلنا لنجد رجلآ في الخمسينيات من العمر .. المعلم ( الكيك ) .. الأوسطي حربي .. نهض الرجل في تثاقل واضح ويبدو أنه واقع تحت تأثير ما .. وسلم علينا بحرارة ..عادت ( بطه ) بزجاجة من الخمر وثلاثة أكواب وصبت منها لثلاثتنا وهمست في وجهي .. شرفتنا .. شرف الله قدرك .. جاوبتها هامساً وأنا لست متأكداً تمامآ بأنها فهمت ما أعني .. تجرعت الكأس الأولي لأجد شيئاً مر المذاق سري كالنار في حلقي .. ( عرقي بلح أصلي ) .. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أتذوق فيها الخمر .. هذا إذا كانت ( المريسة ) تقارن بهذه (الصودا الكاويه ) .. ودخل الرجل في الموضوع مباشرة .. بصراحه يا حربي .. هنالك إخوة لنا يحضرون لنا العربات المسروقة ونقوم بتفكيكها إلي إسبيرات وبيعها ولدينا ثلاثة شبان يعملون معنا ونحتاج إلي رابع .. وقد حدثني (شنكل) عنك حديثاً طيباً .. فكر في الموضوع جيداً فإما أن تقبل وإما أن تحفظ أسرارنا .. لأن الخيانة في مثل هذه المواضيع جزاؤها الذبح .. قال ذلك وقام بتمثيل الذبح وفمه يصدر صوتآ كصوت السكين .. ولا أطيل عليك ..ثم .. (بطه ..بت يا بطه .. خدي الأستاذ وكملوا سهرتكم براكم ..) . قادتني(بطه) إلي غرفة مجاوره وصبت لي المزيد من الخمر .. سألتها في سفور واضح .. لماذا أنت هنا ولديك كل هذا القدر من الجمال .. ترددت في الإجابة علي سؤالي ولكنها عادت لتقول لي .. أنا هنا غريبة الأهل واللسان .. كنا نعيش في أطراف الجنوب أنا ووالدي ووالدتي وثلاثة إخوه لم يتجاوز أكبرهم السادسة من العمر .. وفي ذلك الصباح المشئوم ذهبت إلي الحقل لإحضار بعض الحطب بصحبة والدتي وعندما عدت وجدت الثوار قد ذبحو أهلي .. ذبحوهم كلهم .. أوثقوهم بالحبال وذبحوهم .. سالت الدموع من عينيها الواسعتين وهي تواصل قصتها .. علمت منها ان الثوار لم يتركوا لها شيئاً .. نهبوا الأبقار وحتي العنزات الصغيرات .. وجوالات الذره التي حصدوها حديثاً وقامت بدفن أهلها دون مساعدة من أحد .. دفنتهم في (المطمورة) التي حفرها والدها بيديه ليحفظ فيها مئونة العام من الحبوب .. طيبت خاطرها ونقدتها بعض المال ووعدتها بأن ألتمس لها مهنة تحافظ بها علي شرفها.. وتعول بها نفسها . صحونا من النوم علي صوت ( مايكرفون ) محمولاً علي عربة حكومية وهو يردد ( أيها المواطن ..أيتها المواطنه ..سارع لإستلام وملء الإستمارة للحصول علي قطعة أرض بالمدينة الجديده ) ..قلت لشنكل ده معناه شنو ؟ ..معناه يا صاحبي ..الإزاله ..الإزاله ؟! ..الإزاله دي وين ؟ لا بل قل هي (شنو ..) . هُرع الناس إلي (الجزارة ) .. حيث تقف العربة وبداخلها أحد المسئولين وإثنان من رجال الشرطة .. وأدرك السكان بفطرتهم التي جبلوا عليها منذ أن وطئت أقدامهم العاصمة أن ورأء الأكمة ما وراءها .. فقد علمتهم التجارب المريرة التي عاشوها منذ العام 84 عام الجفاف الذي شردهم من قراهم وأتي بهم إلي هنا في أكبر عملية نزوح شهدتها البلاد .. تعلموا علي أنهم ما أن يوطدوا أنفسهم علي العيش في هذا المكان أو ذاك حتي يأتي من يحول بينهم وبين الإستقرار النفسي .. آه من هذا الزمن .. همس الحاج رضوان في صاحبه عبدو الفولاني .. لو أغمض عينيّ وأجد نفسي قد عدت إلي بلدي .. إلي الوادي الممتد إلي ما لا نهاية .. إلي السفوح الخضراء تلعب فوق رمالها الغزلان .. إلي (الفولة ) المترامية الأطراف نشرب منها وتشرب إبلنا فلا نشعر بالظمأ .. وإلي (البنيات والصفقه والجراري والحمبي ..) رقصاتنا الشعبية ..عبدو قال له من كان يصدق بأننا سنغادر أوطاننا وقد كنا فيها الكل في الكل لُينظر إلينا هنا علي أننا غرباء ويسموننا ( النازحين ) ..النازحين ..؟ .. وما معني هذه الكلمه بالعربي الفصيح يا عبدو .. ( حالتك دي نازح ليك سبعه سنين وما عارف كلمة نازح معناها شنو ؟ .. كدي وريني إنت معناها يا أبو العريف ..؟ .. تردد عبدو برهة ثم ضرب كفآ بكف وهمهم بكلام غير مفهوم .. البعض سأل الموظف عن رسوم الأورنيك فقال لهم عشرة آلاف جنية ..كم ؟!!.. عشرات الأصوات صرخت بصوت واحد .. الموظف شرح لهم ميزات القطع الجديدة ..خدمات مياه وكهرباء ومدارس وتخطيط سليم .. وليس مثل هذا التكدس الذي تعيشون فيه .. هذا الكلام سمعناه أكثر من مرة ومع كل منطقة جديده ننقل إليها .. (رجعونا بلدنا ..عندكم شنو غير إزعاج .. إزعاج ودخاخين عربات ومواتر وأكياس نايلون كتلت الأغنام .. رجعونا للهواء الطلق بتاعنا .. لريحة الدعاش والمطر .. ونبني كيف ومن وين بعد ما نرحل ؟!!.. الواحد فينا يا الله وآمين بني ليهو غرفة من المواد المحلية كلفتو الملايين .. يا حاج ده ما شغلي .. وكتين ما شغلك ..جايي تعمل شنو ؟ )..وما هي لحظات حتي علت الأصوات الغاضبة والمستنكرة وهاج الناس وماجوا وقذفوا العربة بالحجارة وفجأة وجدت نفسي أساعد الشرطة في تهدئة الموقف وصرخت في الناس .. يا اخوانا من فضلكم الهدوء .. الشغب ما بحل ليكم مشكله ..أجمعوا توقيعات ونمشي نقابل المسئولين .. ويبدو أن مداخلتي تلك أنتجت هدوءاً واستحساناً من الجميع.. واغتنمت هذه الفرصة فأحدثت ثقباً بالحائط البشري الذي تحلق حول العربة والمسئول فانطلق لا يلوي علي شيء .. ومنذ ذلك اليوم أضيف لي لقب جديد هو ( الزعيم حربي ) .. ولكن يا زعيم من أين لك فكرة التوقيعات هذه ؟! .. (كان مره سمعت المعلم سلمان الفاضي جاب الكلام ده لناس الورش عشان ما يقفلوا الورش الخاصهة بهم .) .******* أشتاق بطة ..أشتاق ضحكتها ..أشتاق لثغتها.. براءتها.. عنفوانها وصباها .. شنكل قال لي ساخراً .. هل تحب عاهره ؟ ..لا ليست عاهرة وإنما ضحيه يا شنكل .. ضحية المجاعة والسياسة والحروب .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لكانت (بطه) الآن عائدة من حقل أشجار الهشاب وقد حصدت كمية لا باس بها من الصمغ العربي وهي تهش أمامها أغنامها عزيزة مكرمة بين أهل القبيلة .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لما كان هنالك تصحر ونهب مسلح وتردٍ في الخدمات .. وهل تتزوجها ما دمت تحبها لهذه الدرجة ؟ .. نعم سأفعل وسأنفض عن كاهلها كل صنوف المهانة والمذلة والإستغلال من قبل صاحبكم ( الكيك ) وغيره ..ستعود نقية صافية وبريئة قبل أن تأتي إلي هنا .. كلامك هذا يا حربي يذكرني صديقي ( كافوله) ..هو أيضآ إلتقي صبية تعمل كبائعة متجولة .. ضمها إليه وتزوجها ..وعندما طلبت منه أن تساعده في المعيشة بأن تبيع الشاي صرخ في وجها .. شاي لا .. !! هنا تذكر أن شقيقة حربي هي أيضآ تبيع الشاي فأردف قائلاً كانت تريد أن تبيع الشاي في موقف العربات السفرية .. لو كان أمام بقاله كما هو الحال بالنسبة لسلمي أختك لكان ذلك مقبولاً أنت تعلم أكثر مني مستوي الفوضي هناك .. وقد زرتهم أكثر من مرة ولاحظت التغيير الرهيب الذي أحدثه الزواج في سلوكها بيد أنها ما لبثت أن ملّت العزلة داخل المنزل وهي التي تعودت علي الضحك وتجاذب أطراف الحديث مع كل من هب ودب .. فدبت بينهما الخلافات وانتهي الأمر بالطلاق .. أما أنا فلن أدع أي إمرأة تدخل رأسي أبداً حتي ولو كانت( برجيت باردون) .. إذا كانت أمي قد خانتني فماذا أتوقع من الأخريات ..؟! ودي قابلتها وين يا شنكل ؟ ..قابلتها ؟ ..أنا أقابل ( برجيت باردون ؟ ) .. دي ممثله في (سينما جنوب .) يا وهم .
آمال المصري
18-09-2010, 03:02 PM
مازلت متابعة سيدي الفاضل لحلقات الرواية
وماإن دخلت اليوم هنا حتى أبيت الخروج إلا بتمام القراءة
ممتعة حقا
تقديري الكبير
عبدالغني خلف الله
19-09-2010, 08:41 AM
مازلت متابعة سيدي الفاضل لحلقات الرواية
وماإن دخلت اليوم هنا حتى أبيت الخروج إلا بتمام القراءة
ممتعة حقا
تقديري الكبير
أشكرك يا ابنتي الغالية رنيم وأنا أرفع الحلقة السادسة عبر هذه المساحة أتطلع لقيامك والغبنة ربيحة بتنسيق الحلقات لتكون علي نسق واحد وأن اسمع رأيكم بصراحة شديدة لأنفادي فرض عمل غيرمرغوب فيه بواسطة هذا المنتدي العملاق وسلمتمن كل سوء: الحلقة السادسة انفلت صوت من ( المايكرفون ) داخل الطائرة معلنآ الوصول إلي مشارف الخرطوم طالبآ من الركاب الامتناع عن التدخين وربط الأحزمة .. ولكن (جوليا ) شردت بنظراتها تقرا البيوت والأشجار من ذلك العلو الشاهق تحاول فك طلاسم معالمها المتغيرة بعد كل هذه السنين .. نبهتها المضيفة لربط حزامها وحزام ابنتها ففعلت وهي لا تحول نظراتها عبر النافذة نحو الخرطوم الرائعة .. نحو ثري الوطن الجميل .. إييه .. لكمّ انتظرت هذه اللحظات .. أيام وأسابيع وشهور .. بل وسنوات وهي تعد الثواني والساعات بانتظار العودة إلي أحضان الخرطوم والناس والأشياء والأهل وقبل كل هؤلاء طفلها المفقود .. طفلها الذي يفترض إن كان علي قيد الحياة قد صار رجلآ .. إنها تتذكر قدميه الصغيرتين وابتسامته الملائكية وهي تدسه داخل ذلك الصندوق الصغير بعد أن قبلّته وضمته إلي صدرها مليون مرة دون أن ترتوي .. وهرولت بعيدآ تغادر المكان ولكنها ما أن تبتعد قليلآ حتي تعود أدراجها لتقبّله من جديد .. ولم تغادر إلا بعد أن ألحّت عليها صديقتها ( هند) وأكدت لها بأنها قد وضعت كل الإحتياطات الضرورية لضمان سلامته .. كانت لحظات قاسية ظلت تؤرقها وتوقظها من نومها مذعورة في جنح الليالي الباردة هنالك بنيويورك .. كوابيس لا تعلم متي وكيف تنتهي وزوجها الرائع رتشارد يهديء من روعها في كل مرة وينهض ليحضر لها بعض الماء لتشرب ومن ثمّ يأخذها إليه يمسّد شعرها حتي تنام .. انتهت إجراءات الجوازات والجمارك وخرجت لتجد كل أفراد أسرتها بانتظارها خارج المطار وداخل الصاله وهم يهتفون ( جوليا مرحبا ) ..وأخذوها بالأحضان .. أحضان الوالد والوالدة والشقيقات .. الخالات والعمات ..وحتي أسرة وجدي كانت هناك .. إنها حقوق الجيرة والعشيرة والرهط والأصدقاء .. سلمت عليهم تحت دهشة الصغيرة ( لوسيانا ) التي لم تتعود في أمريكا علي مثل هذا الطقس الدافيء وتلك العواطف المشبوبة .. كانت مرهقة ومتعبة من رحلة استمرت لأكثر من سبع وعشرين ساعة من الطيران المتواصل والانتظار الطويل بالمطارات .. (أمستردام والقاهرة ) وأخيرآ آن لها أن تلقي عصا الترحال وترتاح ولكن لحين .. ففي جعبتها الكثير من الهموم وما ينتظرها من مفاجآت تصيبها باليأس والإحباط ..وقد توشحها بالبهجة والأفراح وأخيرآ أسندت ( جوليا ) راسها إلي الوسادة بعد يوم حافل إستقبلت فيه العديد من أفراد أسرتها وأصدقائها .. كانت مثقلة بالانفعالات والشجن وبذلت كل ما بوسعها لكي تكون طبيعية وأن تتصرف كما يتصرف أي عائد بعد غربة للوطن .. ولكنها برغم ذلك فشلت في مداراة الأحاسيس التي تعتورها جراء تلهفها علي البحث عن وحيدها ومن ثمّ ضمه إليها وتعويضه سنوات الحرمان واليتم اللذين لا بد أن يكون قد عاني منهما .. حاولت أن تنام ولكن أسئلة الصغيرة ( لوسيانا) المبهورة بكل شيء حولها إنهمرت عليها كالمطر ..( مامي هل رأيت ذلك الحيوان الغريب الذي كان يركب عليه ذلك الرجل الذي سكب اللبن لجدتي .. وتقصد طبعآ الحمار ..هل سمعته كيف يبكي ؟ .. ومامي لماذا لا توجد لدي جدتي أكواب كافية لشرب الماء ؟ ولعلها قد لاحظت أن الجميع يشرب بكوب واحد وضعوه فوق ( سيرمس الماء البارد ) .. ومامي التواليت ليس نظيفآ بما يكفي .. أسئله عن كل شيء وطبعآ لا ردود جافة وإنما محاولة صبورة لتفسير ما يمكن تفسيره من أمور تبعث علي إندهاش الصغيرة ( لوسيانا ).. وهكذا ما أن أسفر الصبح حتي عهدت لجدتها وأبناء شقيقتها الإهتمام بابنتها وانطلقت بأسرع ما تستطيع للمنظمة حتي تلتقي صديقتها وزميلتها ( هند ) من جديد وكانت قد التقتها بالمطار علي عجالة .. بدا لبقية الموظفين وكأن السيدة جوليا أو مسز رتشارد كما ينادونها بالمنظمة .. بدا للوهلة الأولي وكأنها تتلقي تقارير رسمية عن سير الأداء بالمنظمة .. ولكن الأسئلة التي طرحتها علي ( هند ) تنصب كلها عن رحلة وحيدها مع الحياة منذ أن أودعته المجهول في ذاك الصباح الباكر . طمأنتها صديقتها بأنها قد تتبعت تحركاته عن كثب بالرغم من كل المخاطر المحيطة بموضوع كهذا .. إذ كيف تفسر اهتمامها به لو انكشف أمرها .. فالأرجح أن الجميع سيعتقد بأنها أمه الحقيقية وقد تجر إلي أقسام الشرطة بتهمة الإهمال في رعاية طفل رضيع وتدخل السجن .. لقد أخذوه في بادىء الأمر إلي المستشفي لبضعة أيام ثم وبعد أن اطمئنوا علي صحته .. سلموه إلي ملجأ اللقطاء .. وقد استطاعت هي ومن خلال ترأسها لإحدي الجمعيات الخيرية من توسيع دائرة أنشطة تلك الجمعية والتي تعني أصلآ بالمرضي من الأطفال الفقراء .. لتشمل الأطفال اللقطاء لا سيما في أيام الأعياد .. كن يحملن الحلوي والملابس والنقود ويمضين صباح العيد مع أولئك التعساء .. وكان طفل صديقتها مميزآ من دون بقية الأطفال .. كان طفلآ رائعآ وجميلآ وموفور الصحة وعلي قدر عال من الحيوية والجمال .. لذلك انهالت طلبات ضمه علي الملجأ من أسر كثيرة محرومة من الأطفال .. فكانت هند توعز لمديرة الملجأ بالتريث إذ ربما يظهر أحد ذويه . التقطت له الكثير من الصور لوحده ومع رفقائه الصغار ودأبت علي زيارة الملجأ مع عضوات الجمعية علي مدي أعوام إلي أن فوجئت في إحدي المرات بنبأ هروبه مع زميل له وبرغم الجهود المضنية التي بذلتها الشرطة في البحث عنه إلا أنها لم تعثر له علي أثر .. لكن ما أدهشهم فيما بعد مداومة رفيقه الذي هرب معه علي زيارة الملجأ فجأة وبعد عدد من السنوات مع إطلالة كل عيد وقد كانت ( هند ) وقتها قد تزوجت من زميل لها بالمنظمة ونقلا ليعملا في إحدي العواصم الإفريقية إلي أن عادا قبل أشهر .. شعرت (جوليا) وكأن الحظ يعاندها وبكت بحرقة داخل المكتب وهي تعض بنان الندم .. وعلي كل حال سيذهبان معآ للملجأ لتقصي آخر المعلومات المتوفرة لدي سلطاته. تعانقت ( هند ) ومديرة الملجأ التي ظلت تقوم بمهامها في رعاية هؤلاء الأطفال وغيرهم إلي أن وخط الشيب شعر رأسها .. سألتها مازحة ألا تتزوجين يا صديقتي ..؟ قالت لها إنما نتزوج لننجب وأنا أم لكل هؤلاء الحلوين .. ليتني أجد الصحة والوقت لأعتني بهم .. وبعد أن تبادلا عبارات المجاملة المعتادة عرّفتها علي زميلتها القادمة من نيويورك وأخبرتها أنها بصدد تقديم دعم سخي لجمعيتهم الخيرية وعندما علمت بأن مساعدة الملجأ تدخل ضمن أنشطة الجمعية أصّرت علي زيارته وأنها وبعد إطلاعها علي ألبوم الصور الذي يوثق لزيارات الجمعية كل عيد لفت انتباهها طفل وسيم دائم الإبتسام شديد الشبه بطفل لها توفي في حادث حركة بأمريكا .. فقررت ضمه إليها وأخذه معها لعلّه يعوضها عن طفلها المتوفي .. ومقابل ذلك تتعهد بتقديم دعم سنوي للملجأ يكفي مقابلة كل الإلتزامات الصحية والمعيشية .. طلبت منهم إعطاء بيانات عن ذلك الطفل فعرضتا عليها صورته .. فأخبرتهم المديرة بتفاصيل هربه وعبرت لهما عن أسفها لذلك .. وفي الوقت ذاته أعطتهما بصيصآ من الأمل في العثور عليه .. ذلك أن الطفل الذي هرب معه لا يزال يواظب علي زيارة الملجأ كل عيد وأنهم يجهلون عنوانه ولا يعلمون أين يقيم .. وهو بلا ريب سيدلهما علي مكان وجوده . عادت لمنزلهم لتجد الفوضي ضاربة بأطنابها فيه.. إذ علمت أمها من ابن شقيقتها أنهم ضيّعوا الصغيرة ( لوسيانا) في زحمة زوار الحديقة وأنهم يواصلون البحث عنها ..جن جنون ( جوليا ) وأظلمت الدنيا أمام عينيها فهرعت نحو عربتها تسابق الريح نحو حديقة (المقرن) وأمام المدخل لمحوا ( لوسيانا) وأبناء أختها وهم يهمّون بمغادرة الحديقة ..احتضنت صغيرتها وهي تبكي وتردد الحمد لله ..الحمد لله ..همست الصغيرة في وجه أمها ( مامي أنا آسفه ..أقسم لك بأنني أخبرتهم بأنني سأتمشى قليلآ علي أطراف النيل وأعود لأنضم إليهم .. وها قد عدت ..) ..والدتهم وبختهم علي الإزعاج الذي سببوه لجوليا ولم يمض علي وجودها بالخرطوم يوم واحد .. قالوا لها هي تتحدث بانجليزية غير مفهومة ولم نفهم تمامآ ما قالته لنا .. عاد الجميع للمنزل ونقلت جوليا لزوجها عبر الهاتف خلاصة ما توصلت إليه فيما يخص البحث عن ابنها وأن عليها الإنتظار بضعة أسابيع أخري حتي العيد القادم .. فاقترح عليها مواصلة رحلتها إلي ( روما ) والقيام بمراجعة ميزانية فرع المنظمة هنالك قبل أن تعود مجددآ للخرطوم .
نهرمحمدالعبدالمحسن
19-09-2010, 09:28 AM
انها لرواية عظيمة بعظمة راويها
نتمني لك كل التوفيق والسداد
ونترقب كل جديد
آمال المصري
19-09-2010, 03:20 PM
رائعة حقا رغم أنني لست من هواة النصوص الطويلة
إلا أن الأحداث والاسلوب والشخصيات أثارت فضولي للمتابعة بنهم شديد
مازلت متابعة بإعجاب
تقديري سيدي الفاضل
عبدالغني خلف الله
21-09-2010, 11:09 AM
رائعة حقا رغم أنني لست من هواة النصوص الطويلة
إلا أن الأحداث والاسلوب والشخصيات أثارت فضولي للمتابعة بنهم شديد
مازلت متابعة بإعجاب
تقديري سيدي الفاضل
بداية يا ابنتي الرائعة رنيم دعيني أتوجه بالشكر لإدارة هذاالمنتدي الفريد ومؤسسها الرائع المترف دكتورسمير وهي نفتح لي هذا الأفق الواسع لأصافح كل الذين قرأوني ويودون قراءتي من جديد وشكراً لمروركم المفرح أنت وكل الأعزاء بدون فرز وإلي مضابط الحلقة السابعة : أتاني صوت من اللاشيء يقول ( منو الفي الباب ؟ ) .. تلفت يمنة ويسرة لأعرف مصدر الصوت ولم أجده .. نظرت إلي أعلي السور وبين ثنايا البوابة الفخمة فلم أر شيئآ .. ومرة أخري قرعت جرس الباب ليأتيني نفس الصوت وهذه المرة بشيء من الغلظه ( منو.. منو الفي الباب ؟!!) فأدركت أن الصوت لا بد أن يكون قد خرج من ثقب في السور أشبه ب(مايكرفون ) ..قلت في تردد (أنا .. أنا حربي الميكانيكي ) .. ولكن صوتي ذهب أدراج الرياح .. إنتظرت خمسة دقائق أخري وقرعت الجرس مرة أخري لتفتح الباب خادمة صغيره ..( عاوز شنو ؟ .. من فضلك قولي للأستاذه سحر .. الميكانيكي وصل .. سحر نايمه .. تعال بعد ساعه ) .. كان استهلالآ سيئآ بعكس ما توقعت .. هذا لأنك لم تحسن التوقيت .. اليوم جمعه وهؤلاء الساده يروحون في نوم عميق حتي وقت متأخر من نهار اليوم .. ولكن الحياة تبدأ مبكرآ عندنا في الحي .. هذا عندكم في الحي العشوائي .. لأنكم إستيقظتم في هذه الحياة بعد فوات الأوان بعكس الناس هنا .. والعمل ؟ ..العمل أن تتسكع في دروب هذا الحي الراقي حتي تستيقظ سحر .. إتفضل .. قالت لي بأريحية مدهشه .. ( الخدامه قالت إنك جيت بدري .. أنا آسفه شالتني نومه ..إ تفضل أدخل .. ) .. ومنذ الخطوة الأولي شعرت بأنني ألج قصرآ من صنع الأساطير وليس منزلآ .. هذا المرمر والسيراميك الذي يغطي كل شيء .. أم الحديقة الغناء بأزهارها الملونة أم الفيلا الفخمة بطوابقها الأربعة ؟ .. وغير بعيد جثمت عربة سحر .. إستأذنتني لتغيّر ملابسها فقد هبطت بملابس النوم وآثار النعاس بادية عليها .. لم تكن منزعجة أو سعيدة بوجودي وقد إرتسمت علي وجهها هالة من الجمال المطمئن دون سفور .. جمال يريح النفس والخاطر ويبعث علي الحيوية والتجدد .. لم أضيع وقتآ فأمامي مهمة عسيرة .. غيرت ملابسي التي حضرت بها وارتديت (الأبرول ) وبسم الله إبتدينا .. أخذت مني الصيانة وغيار الزيت والتشحيم سحابة ذلك اليوم بعيد المغرب .. وكانت سحر تطوف وتطوّف بي في دنيا غريبة من الروعة والإمتاع .. تناولني الطعام وأقداح الشاي وتتجاذب معي أطراف الحديث .. ماذا كنت تقول لها وماذا كانت تقول يا حربي ..حدثتها عن ناس البيت ووالدي الجاويش عويضه الذي أستشهد في ( واسكيج ) وقد أسبغت عليه صفة البطولة والإقدام وحدثتها عن سلمي شقيقتي والمستقبل الذي ينتظرها في عالم الغناء وكيف أنها غنت في حفل نجاح بنت الجيران وكانت ولا البلابل .. وهنا قالت لي الخميس الجاي عرس (سلافة) إبنة خالي ليت سلمي تغني لنا في ذلك اليوم وطبعآ وافقت وقلت لها ( وكمان مجانآ عشان خاطر الأستاذه سحر .. تاني الأستاذه يا حربي ما قلنا بلاش ألقاب .. عشانك يا .. يا سحر .. أيوه كدا كويس .. قلت ليها كل الكلام ده وزياده وهي قالت ليك شنو ؟ .. هو أنا عارف كانت تبتسم ومرات تضحك .. المهم مضت الصيانة بسلام وعندما فرغت منها كنت قد تعرفت علي جميع أفراد العائلة .. والدها ووالدتها وشقيقها عصام ..وطبعآ الخادمة التي قامت بخدمتي .. سلمتها المفاتيح وأنا أقول لها ( غايتو مش علي الغرض ) .. بيد أن الجميع قد شهدوا بأن عربة سحر لم تلق صيانة كهذه منذ اقتنائها لها .. كانت بكامل أناقتها وهي تتهيأ للخروج في مشوار مسائي .. أصّرت علي توصيلي حتي منزلنا وحين ولجت الحي العشوائي بأزقته المتعرجة لوت أعناق ساكنيه رجالآ ونساءآ .. شيبآ وشبابآ وأطفالآ .. حتي شجيرات (النيم) المتباعدة تمايلت طربآ لمقدمها .. وانتظرت لتسلم علي سلمي وأمي وهي داخل عربتها وكأنها حورية صغيرة خرجت لتوها من أعماق البحر
عبدالغني خلف الله
21-09-2010, 09:02 PM
شكراً لكما الإبن العزيز العبد المحسن والإبنة رنيم وعبركم أرفع حيثيات الحلقة السادسة مع كل الود :أتاني صوت من اللاشيء يقول ( منو الفي الباب ؟ ) .. تلفت يمنة ويسرة لأعرف مصدر الصوت ولم أجده .. نظرت إلي أعلي السور وبين ثنايا البوابة الفخمة فلم أر شيئآ .. ومرة أخري قرعت جرس الباب ليأتيني نفس الصوت وهذه المرة بشيء من الغلظه ( منو.. منو الفي الباب ؟!!) فأدركت أن الصوت لا بد أن يكون قد خرج من ثقب في السور أشبه ب(مايكرفون ) ..قلت في تردد (أنا .. أنا حربي الميكانيكي ) .. ولكن صوتي ذهب أدراج الرياح .. إنتظرت خمسة دقائق أخري وقرعت الجرس مرة أخري لتفتح الباب خادمة صغيره ..( عاوز شنو ؟ .. من فضلك قولي للأستاذه سحر .. الميكانيكي وصل .. سحر نايمه .. تعال بعد ساعه ) .. كان استهلالآ سيئآ بعكس ما توقعت .. هذا لأنك لم تحسن التوقيت .. اليوم جمعه وهؤلاء الساده يروحون في نوم عميق حتي وقت متأخر من نهار اليوم .. ولكن الحياة تبدأ مبكرآ عندنا في الحي .. هذا عندكم في الحي العشوائي .. لأنكم إستيقظتم في هذه الحياة بعد فوات الأوان بعكس الناس هنا .. والعمل ؟ ..العمل أن تتسكع في دروب هذا الحي الراقي حتي تستيقظ سحر .. إتفضل .. قالت لي بأريحية مدهشه .. ( الخدامه قالت إنك جيت بدري .. أنا آسفه شالتني نومه ..إ تفضل أدخل .. ) .. ومنذ الخطوة الأولي شعرت بأنني ألج قصرآ من صنع الأساطير وليس منزلآ .. هذا المرمر والسيراميك الذي يغطي كل شيء .. أم الحديقة الغناء بأزهارها الملونة أم الفيلا الفخمة بطوابقها الأربعة ؟ .. وغير بعيد جثمت عربة سحر .. إستأذنتني لتغيّر ملابسها فقد هبطت بملابس النوم وآثار النعاس بادية عليها .. لم تكن منزعجة أو سعيدة بوجودي وقد إرتسمت علي وجهها هالة من الجمال المطمئن دون سفور .. جمال يريح النفس والخاطر ويبعث علي الحيوية والتجدد .. لم أضيع وقتآ فأمامي مهمة عسيرة .. غيرت ملابسي التي حضرت بها وارتديت (الأبرول ) وبسم الله إبتدينا .. أخذت مني الصيانة وغيار الزيت والتشحيم سحابة ذلك اليوم بعيد المغرب .. وكانت سحر تطوف وتطوّف بي في دنيا غريبة من الروعة والإمتاع .. تناولني الطعام وأقداح الشاي وتتجاذب معي أطراف الحديث .. ماذا كنت تقول لها وماذا كانت تقول يا حربي ..حدثتها عن ناس البيت ووالدي الجاويش عويضه الذي أستشهد في ( واسكيج ) وقد أسبغت عليه صفة البطولة والإقدام وحدثتها عن سلمي شقيقتي والمستقبل الذي ينتظرها في عالم الغناء وكيف أنها غنت في حفل نجاح بنت الجيران وكانت ولا البلابل .. وهنا قالت لي الخميس الجاي عرس (سلافة) إبنة خالي ليت سلمي تغني لنا في ذلك اليوم وطبعآ وافقت وقلت لها ( وكمان مجانآ عشان خاطر الأستاذه سحر .. تاني الأستاذه يا حربي ما قلنا بلاش ألقاب .. عشانك يا .. يا سحر .. أيوه كدا كويس .. قلت ليها كل الكلام ده وزياده وهي قالت ليك شنو ؟ .. هو أنا عارف كانت تبتسم ومرات تضحك .. المهم مضت الصيانة بسلام وعندما فرغت منها كنت قد تعرفت علي جميع أفراد العائلة .. والدها ووالدتها وشقيقها عصام ..وطبعآ الخادمة التي قامت بخدمتي .. سلمتها المفاتيح وأنا أقول لها ( غايتو مش علي الغرض ) .. بيد أن الجميع قد شهدوا بأن عربة سحر لم تلق صيانة كهذه منذ اقتنائها لها .. كانت بكامل أناقتها وهي تتهيأ للخروج في مشوار مسائي .. أصّرت علي توصيلي حتي منزلنا وحين ولجت الحي العشوائي بأزقته المتعرجة لوت أعناق ساكنيه رجالآ ونساءآ .. شيبآ وشبابآ وأطفالآ .. حتي شجيرات (النيم) المتباعدة تمايلت طربآ لمقدمها .. وانتظرت لتسلم علي سلمي وأمي وهي داخل عربتها وكأنها حورية صغيرة خرجت لتوها من أعماق البحر***روما إسم رائع لمدينة أروع ..ولجوليا أكثر من سبب لزيارة فرع المنظمة هنالك ولوحدها دون أن تصطحب ابنتها التي راقت لها الإقامة بالخرطوم بشمسهاالمشاكسة ومدي الإهتمام والدفء الذي تحظي به من الجميع .. فجوليا تريد إجراء مراجعة عامة لأعمال فرع المنظمة التي باتت تشغل فيها منصب المفتش العام .. وقد أفادت بعض التقارير التي تلقتها رئاسة المنظمة بنيويورك أن ما يصل من فرعها بروما من مساعدات لمنطقة (البلقان) لا يتطابق والبيانات المضمنة في التقارير الدورية .. ولسبب آخر يشدها بشكل غامض نحو ذلك البلد وتحاول جاهدة إستبعاده من ذاكرتها وهو يتعلق بحقيقة وجود ( وجدي ) خطيبها السابق .. الرجل الذي أهانها وتسبب في حملها سفاحاً دون مراعاة لسمعتها وسمعة أسرتها .. لقد كان قاسيآ معها ولم تجّد دموعها وتوسلاتها معه عندما قرر السفر إلي (روما) ليدعها تواجه المجهول هي وطفلها المرتقب وكم حاول إقناعها بإسقاطه بيد أنها تشبثت به وليكن ما يكن .. وقد كانت تجربة ألقت بظلالها الكثيفة علي مجري حياتها علي مدي السنوات الأخيرة وتلك الأحلام المزعجة والكوابيس التي توقظها من نومها مذعورة يتصبب منها العرق .. ظلال قاتمه لتجربة لا تنسي ولو لا نضج وثقافة وسعة صدر زوجها المخلص المستر رتشارد لكانت في موقف لا تحسد عليه .. وهي إن تنسي لن تنس تهكم وإذلال شقيقته ماريا عندما توسلت إليها أن تقنع شقيقها بالعدول عن السفر وإتمام مراسم الزواج .. فماذا وجدت منها غير الإزدراء والسفه .. آه من وجدي وشقيقته .. كانا عكس والدهما وأمهما الرائعين .. لقد غضبت والدته منه غضبآ شديدآ عندما نكص بوعده في الزواج منها .. لدرجة أنها قالت له صراحة ( أنا ما عافيه منك لو سافرت بدون ما تتجوز جوليا ) .. لكنه غدر بها .. طعنها من الخلف وسافر مشمولآ بغضب أمه وشعورها المرير تجاهه .. أيام .. أيام تفعل بنا ما تشاء وهاهي تأخذ دورتها وقد حانت لحظة رد الحقوق إلي أصحابها .. لا .. لن تنتقم منه .. فأخلاقها والقيم التي تؤمن بها تمنعانها من ذلك .. وستكلف شركة متخصصة بمراجعة الحسابات بفرع روما وبعد ذلك تبني إجراءاتها اللاحقة بطريقة نزيهة ومحايدة ومهنية .. لن تنتقم منه ولو أنه يستحق ذلك .. ستكون أكبر من ذلك بكثير سيما وأن القدر قد عوّضها المستر رتشارد بوقاره وتفهمه وصبره عليها وعوّضها بابنتها الرائعة ( لوسيانا) وقريبآ جدآ ستعثر إن شاء الله علي ابنها المفقود منذ سبعة عشر عامآ .قضت يومها الأول بالفندق لا تغادره وأجرت بعض الإتصالات بزوجها بنيويورك وأسرتها بالخرطوم توصيهم بمراعاة ومراقبة ابنتها وبالأشياء التي تحبها وتعودت عليها وتلك التي تنفر منها .. وكذلك بصديقتها ( هند ) لتكون علي إتصال دائم بالملجأ قبيل العيد ولحين عودتها من روما .. كما أجرت إتصالآ مع الشركة الإيطالية العالمية لأعمال المراجعة وتقويم الأداء الحسابي واتفقت معهم علي إرسال فريق من المراجعين القانونيين لفرع المنظمة .. أوقفها موظف الإستقبال لمعرفة سبب زيارتها قبل أن يسمح لها بالدخول وعندما قرأ بطاقتها الشخصية وقف محييآ لها ومن ثمّ قام بتوجيهها نحو مكتب المدير وهو يردد ( مرحبآ جناب المفتش العام .. مرحبآ مسز رتشارد ) .. وكأنه يود تنبيه الموظفين والموظفات علي موقع وأهمية الضيفة التي يزفها أمامه .. ولم يكن المدير مرتاحآ لوجودها بهذه الصورة المفاجئة .. إذ كان يجب إخطاره حتي يقوم بواجبه نحوها من استقبال في المطار وحجز بالفنادق والحاق عربة وسائق يكون تحت تصرفها كما تقضي الأصول المرعية بذلك .. ولعلّه يرتاب من هذه الزيارة غير المعلنة وما تنطوي عليها من مفاجآت .. أطلعته علي الغرض من زيارتها وأعلمته بحضور فريق من المراجعين المتخصصين بين لحظة وأخري وطلبت منه تقريرآ شفهيآ عن سير العمل وكانت تدون كل كبيرة وصغيرة ..ومن ثمّ قاما بجولة علي أقسام الفرع المختلفة .كان ( وجدي ) منكبّآ علي مراجعة بعض الأوراق عندما رفع رأسه ليجد المدير وبرفقته سيدة لم يتبين ملامحها للوهلة الأولي .. صباح الخير السيد المدير .. صباح الخير آنستي .. وهنا انعقد لسانه من الدهشة ( جول ..جول ..جوليا ؟!!!) .. دعني أقدم لك المسز رتشارد المفتش العام للمنظمة وقد قدمت من نيويورك لإجراء مراجعة روتينية لحساباتنا .. عليك بتجهيز كل الأوراق المطلوبة و .. عند هذا الحد دخلت عليه سكرتيرته لتهمس في أذنه بأن هنالك شخصين يقولان أنهما من الشركة الإيطالية العالمية للمراجعة وتقويم الأداء الحسابي ينتظرانه بالمكتب .. من ؟! .. الشركة العالميه .. هنا قاطعته جوليا بلطف .. عفوآ السيد المدير .. أنا من أمرت بإرسالهم لأنني أريد تقريرآ شاملآ ومفصلآ عن حسابات الفرع كطلب المستر رتشارد مدير عام المنظمه .. ومن ثمّ غادرا .. ( وجدي ) وقد ألجمته المفاجأة .. بدا لها وكأنه شيخ في السبعين من عمره .. مرهق وكئيب وقد علت أرنبة أنفه نظارتان سميكتان توحيان بضعف نظر شديد .. وتلك الهالة السوداء التي أخذت موقعها تحت أجفانه ويداه المرتجفتان وقد عجزتا عن الإمساك بلفافة تبغ كان يدخنها .. ولاحظ أنها حتي لم تسلم عليه ناهيك عن مصافحته وسؤاله عن أحواله .. جلس وهو يشعر بأنه يتهدم كحائط قديم تآكل بفعل الزمن والرياح والمطر .. حاول أن يستجمع قواه دون جدوي .. ولم تمض دقائق معدودة حتي دخل عليه فريق المراجعة وبدأ في مواجهة أصعب لحظات حياته .
عبدالغني خلف الله
22-09-2010, 10:17 AM
الحلقة السابعة أمضيت سحابة ذاك اليوم وأنا منهمك في صيانة عربة سحر كما هو الحال كل يوم جمعة .. بيد أنني كنت شارد البال ومحبطآ من لقائي الأخير ببطة .. وعلي غير عادة سحر لم تمر عليّ إلا لمامآ وقد لاحظت عليها التوتر الشديد .. ماذا هناك يا حربي ؟ ..ماذا هناك يا تري ؟ .. معقول أكون أنا السبب في كل هذا التجهم ؟ .. (بمناسبة شنو ) يا أخانا ؟ .. هل تتسبب أنت في تعاسة إنسان ملائكي مثل سحر .. ومن أنت لتفعل هذا ..؟ أنت تبالغ دون شك .. هل أسألها وأقول لها لماذا أنت تعيسة ومهمومة يا آنسة سحر ؟ .. لا .. لآ .. دونك العربة الصغيرة عربتها تنسم العطر المبعثر في زواياها .. تلمس موضع أكتافها ويديها علي المقود والثم حتي الزجاج الذي نظرت من خلاله إلي الشارع .. أما أن تربط نفسك بمجرد زفرة حرّي تغادر صدرها فهذا هو الجنون بعينه .. دعنا نذهب بك إلي أقرب عيادة نفسية يا زعيم لتعالج من حالة الفصام هذه التي تعتريك منذ الأمس .. كانت صامتة وهي تعيدني إلي الحي العشوائي .. شاردة وحزينة ولم يصدر عنها أي صدي سوي أصابعها تحركها فوق المقود بعصبية متفاقمه .. ثم .. اسمع يا حربي .. إنت بقيت واحد من ناس البيت ومن حقك تعرف ما يدور فيه .. والدي سيحاكم غدآ بتهمة الإختلاس .. فهو مدير مصلحة كبيره وقبل حوالي عامين أدخلوه السجن قيد التحري بتهمة باطله .. تهمة إختلاس ملايين الجنيهات .. كانت مؤامره يا حربي مؤامرة قذره .. واستمرت جلسات المحاكمة أكثر من عامين وغدآ النطق بالحكم .. ليتك تحضر لتقود عربة والدي حتي مباني المحكمة وكل ما يريده الله سبحانه وتعالي خير .. بالطبع سآتي يا أستاذه سحر ..( تاني ) أستاذه سحر .. أنا آسف يا آنسه سحر وأشكرك من كل قلبي لكونك إعتبرتني كواحد من أفراد العائلة هذا شرف لي وساكون فجر الغد عندكم إن شاء الله .دخل (وجدي) علي (جوليا) وهو يقدم رجلآ ويؤخر أخري ويحمل في يده ورقة تشبه التقرير أو الطلب .. كان خائفآ ومرعوبآ من النتائج التي ستسفر عنها المراجعة المفاجئة والتي خططت لها ونفذتها جوليا .. إنه يتذكر نظراتها له وما تنطوي عليه من مرارة وبغض لا تخطئه العين .. استأذنها الجلوس فقالت له بلهجة حازمة ( تفضل .. أي خدمه ؟ ) .. قال لها لم لا نتفاهم يا جوليا .. أعترف بأنني .. تعترف بماذا فأنت مطالب بقائمة من الاعترافات لا أول لها ولن يكون لها آخر .. إنني آسف يا .. ومرة أخري قاطعته بحدة ونفاد صبر ( تتأسف علي ماذا يا أستاذ وخلفك قائمة من الأسف لا أول لها ولن يكون لها آخر .. دعني أشرح لك قائمة الأسف التي تحاصرك من كل جانب .. وهل يجدي الأسف مع كل الذي اقترفته يداك يا سيد وجدي .. لقد خيرتني بين الفضيحة وبين إبني .. فتخليت عنه حفاظاً علي سمعتي وسمعة أهلي .. وكان بإمكانك أن تعطيني الفرصة لأحتفظ به .. لقد حولت حياتي إلي جحيم لا يطاق يا وجدي .. ولولا سعة صدر ونبل ( المستر رتشارد) لأقدمت علي الإنتحار .. ليس بسبب حبي لك .. إياك أن تتصور أن حبنا لا يزال ينبض بالحياة .. لأنني أكرهك .. أكرهك بكل ما تحمله هذه الكلمة البغيضة إلي نفسي من معاني ..أنا التي أحببتك في يوم من الأيام بكل جوارحي .. لقد وثقت بك وأسلمتك زمام نفسي .. فماذا كانت النتيجة .. إستغلال بشع لعقليتي الصغيرة وعدم فهمي للحياة وإيماني بحبنا والخوف عليه .. إياك أن تفكر أنني أحن إلي ذلك الماضي ولو للحظة واحده .. فأنت إنسان وضيع وتافه ولا تستحق حتي مجرد الإهانات التي تسمعها مني الآن .. لأنك لا شيء .. وسوف أتعقبك يا وجدي .. سأدمر حياتك .. وتأكد أنني لن أرحمك إذا ما ثبت أنك تختلس أموال المنظمة .. سأزج بك في السجن وهذا وعد مني .. وسأعود للسودان لأبحث عن إبني .. سأعوضه كل المعاناة والشقاء اللذين لا بد أن يكون قد قاسي منهما بسببك .. لقد هربت من أمامي مثل جرذ وضيع وإياك أن تفعل ذلك الآن لأنني سآتي بك وإن اختبأت في أعماق المحيط .. سأطلبك ب (الإنتربول) وبكل وكالات العالم .. لن تفلت مني هذه المرة ولن تثنيني الاستقالة التي تحملها في يدك من المضي قدمآ في المراجعة والمحاسبة .. والآن أخرج من هذا المكتب علي الفور.. أخرج .. تعال .. تعال واسمع هذا .. لو عثرت علي ابني واعترضت سبيلي أو سبيله بأي صورة من الصور .. تأكد بأنني سأقتلك يا وجدي .. عليك أن تحمل كلامي هذا محمل الجد .. سأفرغ مائة طلقة أو أكثر في هذه الرأس الحاقدة .. وبعد ذلك فليكن ما يكن .. مفهوم ؟! .. مفهوم مدام .. والآن هيا انصرف.
عبدالغني خلف الله
23-09-2010, 08:47 AM
جاءت آلة عملاقة وأعملت أسنانها المدببة في بعض المنازل العشوائية التي بناها أصحابها فوق قطع سكنية تم توزيعها لمواطنين آخرين عبر الخطة الإسكانية وكانوا ثلاثة تجمعات كبيره .. أولاهما حضرت قبل عامين من كردفان للقيط القطن وبعد إنتهاء موسم اللقيط فضلوا مواصلة الرحلة للخرطوم إذ أن الزحف الصحراوي قضي علي البقية الباقية من مراعيهم وطمرت الرمال (فرقانهم ) .. أما الثانية فقد حضرت من بحر الغزال بعد أن احتدمت المعارك بين الجيش والمتمردين .. والمجموعة الأخيرة هم من الغجر الجوالين الذين لا يعرف لهم وطن ولا عنوان .. تراصت صفوف المواطنين من نساء ورجال وأطفال وهم يتابعون العملية من قبيل الفرجة وحب الإستطلاع .. والبعض تطوع لمساعدتهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مقتنيات هي أصلآ شحيحة ولسان حالهم يقول تري كم تبقي لنا من وقت لنواجه نفس المصير ..؟! ولم يكن أمامهم بد من ضم هؤلاء المساكين إلي الحي ولا مكان يلجأون إليه .. وقد تبرع (عبدو الفولاني ) بالحوش الضخم الذي يضم في أحشائه الطاحونة والطابونة لإيواء مجموعة كردفان .. ومنحت ملاعب الصبية الواقعة أمام المقابر لمجموعة بحر الغزال .. أما الغجر فقد لملموا أشياءهم وشدوا الرحال وواصلوا الترحال في بلاد الله الواسعه وكأن لم يحدث شيء .صحونا علي صوت ميكرفونات وآليات وجنود من الشرطة ومسئولين كبار .. ويبدو أن السلطات المسئولة عن التنظيم مصممه علي إزالة بيوتنا وترحيلنا إلي منطقة جديده أطلقوا عليها إسمآ غريبآ أشبه بإسم عاصمة إفريقية .. إنه علي كل حال الهدم والإزالة وفراق الأحباب ..الحكومة تقول هذه الإزالة لمصلحتنا علي المدي البعيد والناس هنا لا يفكرون بالغد .. إن تفكيرهم منصب في ماذا يأكلون غداً وكيف سيدسون في جيوب فلذات أكبادهم ( حق الفطور وحق الكراريس ) .. لا شأن لهم بالغد البعيد أو القريب . بدأت الآليات عملية الهدم فتصدي لها الصبية بالحجارة والزجاجات الفارغة ودارت معركة رهيبة بين الشرطة والناس في ثنايا الحي وأصيب كثيرون جراء تلك المواجهات الدامية من الجانبين وسقط أحد أبناء الحي صريعاً وجرح آخرون وعندما شعر المسئولون أن الوضع يمضي نحو الأسوأ أمروا بوقف عملية الإزالة وأمهلونا ثلاثة أشهر أخري لترتيب أوضاعنا .. لملمنا جراحاتنا ودفنا الرجل بعد الإجراءت المعتادة إذ حملناه حتي مستشفي السلاح الطبي ولم نتمالك أنفسنا فأحدثنا بعض التخريب عند مدخل كوبري النيل الأزرق وحصبنا السيارات بالحجارة وتصدت لنا الشرطة مستخدمة الغاز المسيل للدموع وما أن هدأت الأحوال وعدنا إلي الحي حتي وجدت أمراً بإعتقالي ولكن هي بضع ساعات أفرجوا عني بعدها بكفالة وقد كان إستقبال الحي لي لدي إطلاق سراحي رائعاً كيف لا وأنا زعيمهم الجديد .. وكانت تلك الحادثة المروعة بمثابة بداية النهاية وشارة تفرق وتشتت لا مناص منه .. وبالفعل بدأت بعض الأسر في هدم بيوتها وجمع ما تيسر من الحطب والخشب والقش للإستفادة منه في الموقع الجديد في ظل تلك الظروف القاسية التي تأخذ بخناق الجميع ولم تجد الدموع والتنهدات في إيقاف عجلة الرحيل .. فتوحدت مشاعرنا واختلطت دموعنا وآهاتنا بوعد تقطعه الأسر الذاهبة للأحباء والجيران .. ( كان حيين بنتلاقي )*** لم أنم ليلتها تلك .. فغدآ سأقود عربة والد سحر (المرسيدس) وأحمله عليها إلي المحكمة .. صحيح أنني قدت كل أنواع العربات وأنا أعمل لها ( تستات) .. ولكن ما يقلقنى شخصية والد سحر بحد ذاتها .. رجل كالأسطورة .. طويل القامة حليق الذقن كثير الصمت .. مع شيء من الغلظة .. ضغطت علي أحد الأزرار بالباب فجاءني صوت من الداخل يقول ( منو الفي الباب وكان صوت سحر ) وها نحن قد تعلمنا التعامل مع التكنلوجيا الحديثة يا صاحبي ( مايكرفون في الحيطه ؟! ) ..أنا حربي .. صباح الخير .. صباح النور .. لحظه من فضلك .. كان صوتها هامسآ وتبدو عليه آثار النعاس .. صوت هامس مترف وكأنه مطلع لأغنيه .. فتحت لي الباب بنفسها .. كان واضحآ أنها غادرت سريرها للتو .. شعرها المبعثر فوق أكتافها وقميصها البنفسجي وفرعها المتناسق ونسمة فاترة من العطر الأنيق ينداح من حولها وكل شيء فيها يشيء بأسرار غامضة من السحر والدلال .. قلت لها سأجلس هنا في الحديقة .. فأصّرت عليّ أن أدخل الصالون .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي أغادر فيها دائرة اختصاصي هنالك في الزقاق خلف المبني حيث تحفظ العربات .. توغلت في البهو وكدت أتزحلق علي الرخام المصقول وغرقت في نهر من الموكيت الكثيف وهتفت في نفسي وأنا في غاية الإنبهار .. يااه هل أنا في قصر من قصور ألف ليلة وليله ؟ أم ماذا ؟ .. تأملت اللوحات والصور وكان كل شيء حولي ينضح بالأناقة والجمال ..عادت سحر بعد ربع ساعة وهي تحمل ( صينية الشاي .. وهمست في وجهي ..(أخد راحتك البيت بيتك ) ..بيتي أنا ؟!! .. كيف ؟! .. حاولت أن أتعامل مع الأشياء التي وضعتها أمامي دون جدوي ..فال( سيرمس ) لا تعمل .. حاولت ضغطها من جميع الزوايا والجهات وهي ترفض أن تمنحني ولو قطرة واحدة من الشاي .. وال(سكرية ) هي الأخري لا تجود بشيء .. عادت سحر بعد أن غيرّت ملابسها لتجد كل شيء في موضعه .. ( معقول لسه ما شربت الشاي ؟ ) .. يالك من إنسان خجول .. تعاملت هي مع الأواني وشربنا الشاي سويآ .. كانت بسيطة ولطيفة وهي توصيني علي والدها .. أبي لا يحب القيادة المتهورة ..لا يحب أن يقطع عليه السائق أفكاره ويشوش عليه بالثرثرة الفارغه .. وما إلي ذلك من النصائح التي …استوعبتها تمامآ .. وغادرتني علي أن تذهب للمصلحة تأخذ إذنآ وتلحق بنا في المحكمة . عملت بنصيحة سحر وقدت العربة باتزان شديد وفي صمت مطبق .. دلّني علي طريق المحكمة وهو يداعب حبات مسبحته إلي أن وصلنا .. إلتقاه شخص يبدو أنه محاميه وعدد من أقاربه .. وشعرت بغربة حقيقية وسط هؤلاء القوم .. وبالرغم من أنني بذلت جهدآ واضحآ من حيث المظهر لكي أشكل شيئآ ما .. إلا أن الجميع تجاهلني .. عادت سحر ومعها شقيقها ولوّحت لي من بعيد وهي تركض فوق درجات المدخل .. شقيقها عصام هذا لا يطيق رؤيتي وكان كثيرآ ما يتعمد إذلالي .. لدرجة أنه طلب مني في إحدي المرات أن أنظف له حذاءه .. مكثت أكثر من ساعتين داخل العربة ولا شيء يدل علي أن النطق بالحكم قد صدر وفجأة تناهي إلي أسماعي صوت صخب وضجيج .. ومن ثمّ خرج الجميع سحر ووالدها وأقاربه ولاحظت أن الجميع يسلم عليه مباركآ .. فماذا حدث يا تري .. ركضت سحر نحوي .. بارك لبابا يا صالح .. لقد برأته المحكمة وأمرت بإعادته لمنصبه ومنحه كل حقوقه .. مبروك يا أستاذ التهامي .. الله يبارك فيك يا ابني .. والله قدمك علينا قدم خير .. وهكذا عدنا في رتل من السيارات للمنزل ونحرت الذبائح ووزعت الحلوي .. وأمضيت ذاك اليوم وأنا أتحرك (كالبلدوزر ) .. أحضر الخراف وأذبحها وأنصب (الصيوان وأرص الكراسي ).. احضر الحاجيات من السوق وأناول هذا وأوصل تلك .. وفي المساء دس والد سحر مبلغآ كبيرآ من المال في يدي وكذلك فعلت سحر وعدت إلي الحي العشوائي
عبدالغني خلف الله
24-09-2010, 03:41 PM
يبدو أن هذا الأسبوع هو أسبوع المفاجآت السارة والمفرحة .. فقد ضاع مني صديقي العزيز( شنكل ) في زحمة المشغوليات التي تحاصرني ..مشغوليات مثل ماذا يا شاب ؟ ..وكأنك وزير الداخلية ..أنا أفهمك جديداً .. مشغولياتك هي سحر وبطه وأميره ..الأولي أعطيتها وعداً لم توف به والثانية تستغلك لنظافة وصيانة عربتها وأنت مثل كلب ضال ينبح تحت الشجرة الخطأ ظناً منه بأن الدجاجة التي يتعقبها تعيش بين ثناياها والثالثة دخلت كلية الطب ..طب يا حربي .. تعرف شنو يعني طب ..طيب ..طيب .. بعدين .. بعدين .. فقد توقفت عربة تابعة للسجون وترجل منها شخص لم أتبين ملامحه أول الأمر .. إنه ( شنكل ) وقد أطلق لحيته وسلم علينا بوقار شديد وهو يداعب حبات مسبحته .. ( شنكل ؟!!.. معقول ؟ ) .. سلمت عليه بأشواق حقيقية وكذلك فعل ( كافوله ) .. ولولا ملابس السجن التي يرتديها لتصورت أنه إمام مسجد .. ( يالله يا معلم حربي ورينا شطارتك في عربية جنابو دي ) مش أول حاجه تقول لينا ليه إنت بملابس السجن وكنت وين طول الشهور الفاتت ؟!! .. نعم.. نعم ..كل ما في الأمر أنني قمت بنهب دراجة أحد المواطنين ليلاً مع تسبيب الأذي الجسيم والحمد لله أنه تعافي ولم يمت لذلك أودعوني السجن .. ومن ثمّ قص علينا قصة التحول الكبير في حياته أثناء وجوده داخل السجن .. لقد عكفت علي تعلم القرآن الكريم وحفظه وكذلك أخذت نصيبي من العلوم الأخري التي وفرتها لنا إدارة السجن .. مثل ماذا يا ( شنكل ) ..؟ مثل اللغة الإنجليزية التي أتقنتها كتابة وقراءة وتحدثآ .. ( يعني بتعرف ترطن يا شنكل بالإنجليزي ؟) .. ( كافولة ) مندهشآ .. طبعآ يا( كافوله ) ..( كدي طيب وريني دونكي مي رايد يو معناها شنو ؟ ) .. ضحك ( شنكل) من أعماقه وطلب منا إنجاز صيانة العربة فقد لاحظ أن السائق بدأ ينظر إلي ساعته من حين لآخر .. وهكذا عكفنا علي صيانة الأعطال التي يبدو أنها من النوع المستعصي وقد تطلبت وقتاً طويلآ أتاح لنا التوحد من جديد .. وتحدث كل منا عن همومه وأحزانه وما يشغل باله .. وسألت شنكل مازحآ .. ( قول لي يا شنكل .. وأخبار ست الحديده شنو ؟ ) وكنت أقصد طبعآ أخبار أمه والقطعة المعدنية التي دست نصفها بين ثنايا جلابيبه عندما تخلت عنه .. لا جديد قال لي وكل شيء بأوانه .. إذا أراد لنا الله لقاءاً سوف يحصل وإن لم يشأ فالأمر له من قبل ومن بعد .. لكمّ تغيرت يا ( شنكل ) حتي طريقتك في الكلام تغيرت ناهيك عن المظهر الذي يمنحك عمرآ أضعاف ما تستحق .. و( دردشنا ) كثيرآ بقلب صاف وظل إحساسنا نحو بعضنا البعض كما هو لم تغيره الأيام وتعاهدنا علي ألاّ نفترق أبدآ وأن نظل أصدقاء نتقاسم الحلو والمرّ .. وودعته علي أمل زيارته في العيد بيد أنه قال لي لن تحتاج لزيارتي فأنا الآن ( مضمون ) له مطلق الحرية في التنقل وقد أوكلوا لي نظافة مسجد السجن والنادي الإجتماعي وسوف أعود لكم كلما سنحت لي فرصة الحضور إلي قلب المدينه . لا تزال بطة تحاصرني بروعتها الطاغية ..معها أجد نفسي وذاتي .. تتدفق عواطفي ثرة وندية بلا رتوش أو تكلف .. معها لا أحتاج كل ذاك العناء الذي أكابده في كل لحظة أقف فيها أمام سحر ..هذه تعطيني الإحساس بالتفوق وتلك تعطيني الإحساس بالتواضع .. هذه تمنحني الشعور بالراحة والإطمئنان .. فإن تكلمت فهي التلقائية والبساطة والعفوية ومع تلك أشعر بالخوف وإن تكلمت فهي التأتأة وإنحباس الأنفاس ومحاولة إنتقاء العبارات .. لذلك أشتاق بطة وسوف أزورهم اليوم وسأحمل لها بعض الهدايا والفاكهة والحلوي .. ماذا سأقول لها إن سألتني عن الخطوبة ..هل أعطيها وعداً وأحافظ عليه وكيف يتسني لي زيارتها بانتظام في منزل قريبتها الذي انتقلت إليه بعد أن أقنعتها بذلك وساعدتها في البحث عنه وكنت أنا من قام بتهريبها خلسة من وكر المعلم ( الكيك ) وقد لاحظت ولا ريب كيف تضايق زوجها من وجودي معهم ولا بد أنه أخضعها لسؤال ( نكير ) كما يقولون .. يجب أن يكون للموقف شكل آخر .. فهل أطلب من سلمي شقيقتي أن تذهب معي فنخطبها أم أن عليّ الإنتظار قليلآ فلا أتسرع .. هذه الأمور يا حربي لا ينفع معها الإستعجال .. لا بد أولآ أن تكّون نفسك وتعرف إلي أين سينتهي بك المقام بعد الإزالة وهل تملك دخلآ ثابتاً يمكّنك من تكوين أسرة حقيقية و.. و .. كفي أسئلة لقد دوختني بتساؤلاتك الممّلة يا هذا .. النصيحة غالية وصعبة .. فاسمع كلام من يبكيك يا صديقي ولا تسمع كلام من يضحكك . بكت وهي تردد أمامي أنا ( مشتاقه ليك يا حربي .. مشتاقه ليك بشكل ما تتصورو.. ) ..هدأت من روعها وهي تأخذ عني أكياس الفاكهة التي حملتها معي وجاءني صوت قريبتها من الداخل يرحب بي بحرارة لا تصدق .. شرفتنا يا حربي .. وين كل المده الفاتت دي .؟ أظنك نسيتنا ونسيت حاجه إسمها بطه ..أسأليه ..أسبوع تمام ما نشوفك ..؟ ..كيف أهون عليك ياحربي .. معقول إنت قاسي للدرجه دي..؟ ) .. ومرت ساعة تذوقت خلالها معني السعادة الحقيقية .. ولكن ..لكن ماذا ..هذا صوت عربة زوج بنت خالي ..لعله عاد من السفر ..السلام عليكم ..( إحم ..إحم ..أهلآ يا خينا .. ثم .. عن إذنكم أنا جاي تعبان من السفر .. خلي المساعد يدخّل الحاجات المهمه وينوم في العربيه ) .. ومن ثمّ أخذ زوجته معه إلي غرفة جانبية وسمعت أصواتهما تتعالي فيما يشبه الشجار ..( كيف يعني ما فيها حاجه .. ؟!! ) وقد كان هو من يتكلم ..علي العموم ( يا يجيب أمو وأبوهو ويخطبوها رسمي يا إمتآ لو شفت الزول ده تاني مره هنا ما يلوم إلا نفسو ..) ودار بينهما حديث مطوّل وقد حاولت بطة عبثاً منعي من سماعهم .. وعند ما تأكد لها أنني أتابع ما يدور بقلق وإهتمام .. إنخرطت في البكاء وهي تردد عبارة ( أنا آسفه يا حربي ..أنا آسفه يا حربي ) .. إستأذنتها في الإنصراف وهي تحاول أن تستبقيني بقوه .. ولدي الباب ضغطت علي يدها أشدها بكل ما أملك من عنفوان .. وأنا أردد ..( أشوف وشك بخير يا بطه ..أشوف وشك بخير..) .
عبدالغني خلف الله
25-09-2010, 07:36 AM
الحلقة الحادية عشرة : لكمّ تغيرت يا ( جوليا ) ..أين تلك الفتاة العاطفية التي تتدفق رقة وعذوبة ؟ .. اين (جوليا) التي جسدت دور ( جوليت) في مسرحية (شكسبير) .. الطالبة المثالية في كل شيء عازفة الكمنجة المدهشة وكاتبة القصة القصيرة .. هل تتحول تلك الإنسانة النبيلة فجأة إلي غول يدمر ويضطهد ويقطع الأرزاق .. لعلك تقصد موقفي من ( وجدي ) .. وهل من أحد غيره .. كيف والحنين أبداً للحبيب الأول .. هل تسمي هذا الوغد حبيبآ .. أي ضمير أنت ؟ .. والله لو كانت الضمائر تباع وتشتري لرميت بك إلي الجحيم .. ولكنك لن تستطيعي منعي من إسداء النصح لك .. فأنا ضميرك .. ضميرك الحي يا ( جوليا ) .. وعموماً المسامح كريم .. تذكري أنه من الوطن وابن الجيران وأمه الحاجة (نرجس) الطيبة المهذبة .. و.. وشقيقته ماريا التافهة الحاقدة المغرورة .. لماذا لا تكمل .. ولماذا صحوت هكذا دونما إنذار .. أين كنت عندما امتهن ( وجدي ) جسدي بالرغم من كوني خطيبته علي رؤوس الأشهاد ..؟ أين كنت عندما جثوت تحت قدميه أرجوه أن يكمل مراسم الزواج قبل أن يسافر وأن يدخل بي حتي استطيع المحافظة علي إبني ؟ .. أين كنت عندما خدعني وأشعرني أنه يعد العدة للزواج وأفاجأ برحيله إلي هنا ؟ .. وبعيداً عن العواطف يا ضميري الخائب .. أليس من حق الذين انتدبوني لمراجعة حسابات المنظمة أن يعرفوا حقيقة ما يجري هنا .. ثلثمائة ألف دولار اختلسها ( وجدي ) .. إنه يخون الأمانة وهذا سلوك متوقع من شخص خان من قبل ويبدو أنه قد أدمن الخيانة ولا منجاة له .. وهو يدخن الحشيش ويمضي جلّ وقته في أماكن اللهو .. إنه عربيد وضيع فماذا تريدني أن أفعل به سوي الزج به في السجون .. بإمكانك أن تقبلي استقالته وتخصمي استحقاقاته لصالح المبلغ المختلس .. هذا أفضل من وجهة نظري .. أفٍ .. أفٍ من غبائك وإنسانيتك وضعفك .. وبالرغم من ذلك سأوافق .. وهكذا وجد وجدي نفسه علي أول طائرة متجهة للخرطوم وحتي تعبّر (جوليا )عن أريحيتها تجاه أسرته .. اكتفت بنقله لفرع المنظمة بالخرطوم مع التوصية بعدم إسناد أية مسئوليات مالية له .كنت منهمكآ في صيانة عربة الآنسة ( سحر ) وكانت هي بالداخل عندما توقفت عربة الخطوط التي تعمل بها وبداخلها أحد الموظفين .. صاح في وجهي وهو لمّا يزال داخل العربة .. ( يا ولد .. يا ولد .. نادي سحر ..) .. هكذا بدون ( من فضلك أو لوسمحت ..) أو أي شيء من هذا القبيل .. ولماذا يفعل ؟! وأنا لست سوي صبي يغسل عربتها .. شعرت بغضب شديد لاضطهاده لي .. حدجته بنظرة شذرة .. واعتليت الدرج المؤدي إلي الطابق الأول في تثاقل واضح وأنا أرميه بين كل خطوة وأخري بنظراتي المسمومة .. ضغطت علي ( الزر ) أطلب سحر .. أخرجت رأسها وقد انعقدت فوقه غابة من الأشياء المدورة .. كانت يانعة وحلوة .. انعقد لساني لبرهة قصيرة وهي تلملم نفسها ولا تنفك تكرر سؤالها لي ( في حاجه ؟! .. في حاجه يا حربي ؟) .. لا أبداً .. الكلمات تصطك داخل فمي .. ( في .. في واحد .. في زول .. من ناس الشركه عاوزك بره ) .. غيرت ملابسها علي عجل وقد توقعت تغييراً ما في جدول السفريات وهي التي تعودت علي مثل هذه الزيارات .. ( معقول ؟!!..ياه أخيراً يا سحر ..) إذ كان من المفترض أن تسافر غداً إلي بورسودان .. رحلت العربة وهي تنهب الأرض نهباً بعد أن سلم ذلك الرجل الورقة لسحر وهو يصيح بأعلي صوته ( البشاره ) وعادت سحر لتمسك بي من أكتافي وتدور بي في فرح دافق لم أجد له تفسيرآ .. سأكون غداً ضمن الرحلة المتوجهة إلي القاهرة – لندن .. ثم أردفت في مرح غامر .. ( والله إنت كلك وش خير يا حربي ..) القاهرة – لندن ؟!.. لم تكن ردة فعلي بمستوي الحدث .. فقد أحزنني النبأ وشعرت أن هذه الرحلة الطويلة خطر عليها وبأنني ربما لن أراها لبضعة أسابيع وربما أشهر وفات عليّ أنها لن تستغرق سوي بضعة أيام .. كنت واجماً وذاهلاً بقربها وهي تعيدني لمنزلنا بالحي العشوائي أمام السعادة الحقيقية التي تلون قسماتها الطفولية ولعلها لاحظت ذلك فأوقفت العربة فجأة وسألتني ..( مالك يا حربي .. مالك ساكت كده وحزين من ما عرفت أني حأسافر لندن ؟ ) .. هل أخبرها وأقول لها أنني خائف عليها وأنني سأموت لو أصابها مكروه في هذه الرحلة وبأنني سأشتاق لها.. لروعتها وعفويتها وجمالها .. هل أقول أم احترم مشاعرها فلا أجرّحها بعواطف مشوشة لا تتساوي فيها الفرص ولا الإمكانات .. لا أقصد أنني أقل منها أو أنني لست متأكدآ من مشاعري نحوها .. فإن كان علي الحب فهو في ضميري كالموج المتلاطم .. كالإعصار .. لا بل كالحريق .. ولكنني خشيت بأنني ربما أكون قد فسرت اهتمام سحر بي علي نحو مخالف مما تعنيه .. أو تشعر به حقيقة .. لم تجب علي سؤالي يا حربي ؟ لن أتحرك حتي تجيب علي سؤالي .. بصراحه يا أستاذه سحر .. منو؟!!.. يا سحر .. كده كويس .. ها .. أنا خائف عليك من البلد البعيده ديك .. خائف شديد .. خائف عليك .. بخاف عليك من ركوب الطيارات .. وتاني يا حربي .. و.. وحأشتاق ليك .. حأشتاق ليك موت بعد سفرك .. ألقت برأسها إلي الوراء وهي ترسل همسة رقيقة باتجاهي .. إنت إذن قلق عليّ وتشتاق لرؤيتي وتريدني دائماً بقربك ؟ .. أيوه .. حاجه زي كده .. لم تعلق بكلمه .. لم تغضب ولم تفرح وكان شعورها محايداً ومن ثمّ واصلت السير وهي تمضغ فمها في تواتر رهيب وكأنها ستمزق شفاهها.. تري فيم تفكر ؟! أظنها تقلب ما قلته بينها وبين نفسها وربما ستقول لي أعرف حدودك يا حربي واتذكر إنت بتخاطب منو ؟ .. ترجلت وأنا لا أقدر علي النظر في عينيها ..( تصبحي علي خير ..) همهمت وأنا أتقافز مبتعداً ..(..وإنت من أهلو ) .
عبدالغني خلف الله
26-09-2010, 11:20 AM
سطع نجم شقيقتي سلمي في عالم الغناء ببيوت الأفراح وتحسنت تبعآ لذلك أحوالنا المالية بشكل مطرّد .. لذلك قمنا ببناء عريشة أنيقة من الحديد والخشب ونثرنا في جنباتها الورود والزهور بالرغم من اقتراب موعد مغادرتنا للحي العشوائي أو بالأحري بما تبقي من الحي حتي نتمكن من استقبال سيدات المجتمع اللواتي يأتين لتحديد موعد مع سلمي لإحياء حفل الزفاف هذا أو ذاك .. سيدات مثل الجياد المطهمة يخلبن الألباب .. وكانت معظم الحفلات نهارية .. وفاجأتنا الوالدة ذات يوم بأن أخرجت من بين ثنايا مقتنياتها أوراقآ قديمة تثبت ملكيتنا لقطعة أرض في أحد الأحياء المأهولة التي تتمتع بكافة الخدمات وقالت لنا وهي تبكي هذه القطعة منحتنا لها الحكومة إثر إستشهاد والدكم بالجنوب في ( واسكيج ) وكانت تلك القطعة بمثابة هبة من السماء وضعتنا أمام تحد حقيقي في أن نعمل بجد وإجتهاد حتي نتمكن من تشييد ولو غرفتين نأوي إليها عند تنفيذ السلطات وعيدها بالإزالة بعد أسابيع .. بيد أن سلمي وفرت علينا عناء التفكير عندما أعلنت لنا بأنها تملك المبلغ الذي يكفي لبناء المنزل المنشود وتأثيثه .. وهكذا تنفست الأسرة الصعداء .. ومن جانبي قلت لهم أنني أيضآ أملك مبلغاً لا بأس به وقصدت بذلك طبعآ الحافز الضخم الذي منحني إياه والد سحر .. ولكن .. لكن ماذا يا حربي ؟ سألتني والدتي وسلمي بصوت واحد .. في الحقيقة أفكر في الزواج .. الزواج ؟!!..هل أرسل زغرودة تجاوز السماء ( جيد لينا وجيد لينا ) .. سلمي وقد رحبت بالفكرة .. والله أغني لك يا حربي في يوم عرسك كما لم أغن منذ ولادتي .. ( عاد اليوم داك ما ببالغ عديل في الغنا .. تسلمي يا سلمي ) إذن من تكون العروس .. العروس موجوده ولو لم يكن لديك ارتباط اليوم يا سلمي نذهب أنا وأنت (وندفع قولة خير .. علي عيني ورأسي يا أحلي أخو في الوجود ) .. وهكذا أصبح الحلم حقيقة ما بين ليلة وضحاها وهاهي بطة قاب قوسين أو أدني من يدي .. طلبنا من سائق التاكسي الذي أقلّنا بأن يعود لنا بعد ساعة من الزمن .. تلقفتنا قريبة بطة عند الباب .. وكان ترحيبها بنا فاترآ .. جلسنا في بهو الحوش لنعطيها فرصة لتجهز حالها .. عادت لنا بعد قليل لتقول ( إتفضلوا جوه .. شرفتونا كتير ..) ومن ثمّ د ست ورقة من النقود في يد أحد الصبية وطلبت منه شراء شيء من ( الكولا ) ..أهلآ وسهلآ .. جاء صوتها بطعم الرماد وكأنه يخرج من أعماق سحيقة .. ولاحظت بشيء من القلق أن (بطة ) غير موجوده .. ( وين بطه ؟ .. ما شايفنها ) .. موجوده مشت علي الجيران .. هنا شعرت بإرتياح مشوب بالحذر .. وكأنما نحن بصدد كارثة ما .. لعلها خمنت ما نحن بصدده .. مظهرنا الأنيق والعلبة التي تحتوي علي ( دبلة الخطوبة ) وقد وضعتها علي المنضدة لتعلن هي القصد من زيارتنا لهم .. قلت لها وأنا اتجاوز حالة الصمت التي رانت علينا .. ( في الحقيقه أنا وأختي سلمي جينا نخطب بطه ويكون لينا عظيم الشرف في تقديم هديه بسيطه .. ) ثم تناولت العلبة وفتحتها مردفآ .. وأهو دي الدبلة .. في هذه اللحظة دخل علينا زوجها وما أن تعرف علينا حتي اكفهر وجهه وبانت عليه علامات الإنزعاج الشديد .. أهلآ وسهلآ .. ولم يكد يجلس حتي دخلت بطة بصورة عفوية وهي تدندن بأغنية .. وما أن أضحت داخل الغرفة حتي تسمرت في مكانها لا تقدم رجلآ أو تؤخرها .. نهضنا أنا وسلمي ( العروس .. دي العروس ) همست في أذنها منوهآ .. أهلآ بعروستنا الحلوه .. بطه .. إسمها بطه .. بطه .. سلمت علينا وجلست في ركن بعيد وقد أشاحت بوجهها عنا .. أعدت حديثي علي مسمع منها ومن زوج قريبتها .. قال لنا بعد تردد وحيره .. الحقيقه .. الحقيقه ما في نصيب .. (النخيل) أشرحي ليهم الحصل وغادرنا وهو يقول ( صلاة العشاء ..عن إذنكم أحصل الصلاه ) .. هنا انفلتت بطه نحو غرفة جانبية وهي تجهش بالبكاء .. ( يا جماعه العرس قسمه ونصيب .. وأخوك حربي نعم الولد .. بس بطه عقدنا ليها الجمعه الفاتت ) .. أظلمت الدنيا أمام ناظري ولم أنتظرها لتكمل بقية حديثها فنهضت مغادرآ المنزل وأنا أكاد أنفجر من الغيظ .. لملمت بقايا كرامتي المجروحة وأيقنت بأن هذه الأمور هي فعلآ مقسومة سلفآ ولا نملك أن نفعل إزاءها شيئاً سوي التسليم بالواقع المرّ . نسيت بطة في زحمة الحياة أوهكذا خيّل لي .. في باديء الأمر كنت أتذكرها حوالي عشر مرات في اليوم وبدأ هذا العدد يتناقص إلي أن جاء يوم لم أعد أذكرها فيه ولو لمرة واحده .. وفي ذات صباح ماطر صفع وجهي عنوان بارز بإحدي الصحف يتحدث عن فتاة شرعت في الإنتحار بتناول كمية من صبغة الشعر وقد تمكن الأطباء من إنقاذ حياتها بما يشبه المعجزة .. وتقول تفاصيل الخبر أن المواطنة ب . ن . ز . البالغة من العمر 24 عامآ قد فعلت كذا وكذا وقد أفادت مصادر الصحيفة أن سبب الحادث يعود إلي تزويج المذكورة من شخص لا ترغب فيه .. حاولت أن أقنع نفسي بوجود تشابه في الحروف الأولي وأن بطة إنسانة عاقلة ولا يمكن أن تقدم علي فعل شيء كهذا و..إقتنعت ..ولم أعد أفكر بالموضوع .
عبدالغني خلف الله
27-09-2010, 10:00 AM
شهر كامل مضي دون أن تصافح عيناي( سحر) وتكتحلا بروعتها الآسرة .. شهر كامل .. حوالي خمسة آلاف ساعة عشتها وأنا أعانق الفراغ واللاشيء والأشواق يا ( سحر) .. فكيف بالله عليك تتركينني للوحدة والشجن والفقد الأليم ؟ .. فهل تكون( لندن ) بعيدة لهذه الدرجة .. كنت أذهب كل جمعة لأفاجأ بها غائبة في أسفارها العجيبة .. أقرع الجرس في توجس وحذر وأنا أتهيأ لسماع صوتها الحبيب إلي نفسي .. وبدلاً عن ذلك تصفعني ردود شقيقها القاسية .. ( مين ..؟) .. تصك أذنيّ كصافرة إنذار .. وما أن أسأله إن كان باستطاعتي الدخول لصيانة عربتها يرد علي بجفاء ( المفتاح مع سحر ..) ومن ثمّ يغلق (المايكرفون) في وجهي .. فأعود أدراجي ألملم أوجاعي وأحزاني .. كنت أريد أن أراها .. أن أهرق أحزانيّ العائلية بين عينيها .. فقد ماتت شقيقتي (نسمه) في ليلة انتقالنا للمنزل الجديد .. كانت غير متحمسة للرحيل وتشبثت بالحي العشوائي حتي بعد أن نقلنا آخر قطعة أثاث .. وكانت صويحباتها أكثر تشبثاً بها .. نسمه شقيقتي الرائعة التي قاومت المرض باستماته .. كانت طفلة لاهية ومرحة حتي أقعدها المرض بعد إكمالها المرحلة الثانوية العامة .. وبرغم الألم الممضّ الذي كان يزلزل كيانها إلا أنها احتفظت بمرحها .. تسمع الراديو طول الوقت وتحفظ الأغاني الجديدة وتلتهم الروايات ودواوين الشعر وتتابع باهتمام ما يدور حولنا .. إن كان علي صعيد السياسة أو الإقتصاد وإن كان علي صعيد مشاكل البلد بشكل عام .. كانت واهنة بعد يوم حافل بالإنفعالات ودموع الفراق والوداع .. وعندما وصلنا المنزل الجديد في الساعات الأولي من الفجر لم يكن يبدو عليها أنها تعاني من شيء ذي بال .. نامت بعمق حتي السابعة صباحاً ولم توقظنا كعادتها بدقات ( بق بن ) تنساب من جهازها (الترانزسستور) معلنة الرابعة صباحآ بتوقيت( قرينتش ).. وعندما حاولت شقيقتي( سلمي) إيقاظها لشرب الشاي وجدتها جثة هامده .. وطاشت في المنزل صيحات وصراخ أمي وشقيقاتي وهن يولولون ويبكينها .. وتجمع الجيران يستفسرون عمّا يجري للساكنين الجدد .. ولما علموا بوفاة نسمه شقيقتي أطلقوا العنان لأفكارهم السمجة .. فمن قائل أننا قتلناها لمداراة العار وخوفاً من الفضيحة ومن قائل أنها انتحرت .. وأشياء أفظع من ذلك بكثير .. وكان لا بد من إخطار الجيران القدامي بالحي العشوائي فحضروا بالعشرات وهم يبكونها بحرقة وبصوت عال .. وفي الطريق إلي المقابر علم الجيران الجدد بحقيقة مرضها الذي امتد لسنوات .. فخجلوا من أنفسهم وسوء ظنونهم .ورجعت مرة أخري إلي عالم المعلم (سليمان الفاضي) حيث أنتمي وحيث ينبغي أن أكون مع زملائي في الورشة من (الميكانيكية والكهربجية والسمكرجية والبوهيجية) .. فمالي أنا ومال المضيفة ( سحر ) .. دعها تحلق في سماواتها البعيدة بين ( لندن والقاهرة ) .. تلك مرحلة في حياتي أفقدتني توازني ويجب أن يسدل عليها الستار .. فمالي أنا ومال هؤلاء الناس الذين لا نشبههم في أي شيء .. وإذا كانت سحر قد منحتك بعض الإهتمام يا ( وهم ) .. فلأنها مهتمة بعربتها قبل اهتمامها بك وقد علمت بمهارتك في صيانة أعطال العربات .. ويجب ألاّ تتوقع منها مغادرة عالمها من طيارين ومضيفات ومهندسين لتشاركك حياتك المتواضعة هذه .. أرايت يا حربي ؟ (رحنا وجينا لكلامي) .. ألم أقل لك أنك واهم ومخدوع وتلهث خلف السراب إن توهمت أنك ستنال ولو خفقة واحدة من خفقات قلبها الأخضر .. وهل أنت سعيد بهذه النتيجة ؟ .. لا لست سعيدآ ولكنني مرتاح لتفكيرك المنطقي هذا .. إذن عليّ أن أعود لعملي بنفس الحماس والإخلاص اللذين بدأت بهما .. وما هي لحظات حتي حضر لي ( كافولة ) وهو يهتف ( يا حربي .. معلم حربي .. ست التيكو .. ست التيكو ..) .. قفزت من مكاني وأنا في حالة أقرب للجنون .. ( آنسه سحر .. مرحبا .. مرحبا .. كيفك يا صالح .. يعني ما فقدتني المده الفاتت دي كلها ..؟! فقدتك والله فقدتك .. يالله أركب أنا قدامي كذا مشوار عشان ترجع بالعربيه للصيانه .. أصلها طولت من غيار الزيت ) .. وبقفزة واحدة انتقلت إلي المقعد الجانبي مفسحة المجال لي لقيادة العربة .. لم يكف قلبي عن الخفقان وأنا أحاول أن استجمع قواي .. أكاد لا أصدق أن من تجلس قربي ( سحر ) .. حبيبة أيامي ومنتهي أحلامي .. نعم وأكثر وهذه المرة لن أتخلي عن أحاسيسي نحوها وسأفصح عنها في أول فرصة مواتية حتي ولو كانت النتيجة صفعة علي الوجه .. لا يهم .. لا يهم أبداً .. سأقول لها أحبك ومستعد لأن أكون خادماً لك مدي الحياة إن كنت لا أناسبك كحبيب وزوج وشريك لحياتك المفرحه .. سأقول كل ما في قلبي مرة واحدة وليكن ما يكون ( سجن سجن .. غرامه غرامه ) .. ( شايف جبت ليك معاي شنو من لندن ؟ ) .. الله !!.. ( أبرول جينز وسويتر من البرد وساعة يد فاخره .. ده كلو عشاني أنا ؟! .. ده كلو عشاني أنا ؟!!.. معقول يا آنسه سحر ..أ ففف.. آسف .. يا سحر.. أيوه كده .. ولو أنها حاجات هايفه .. والله لو لقيت زمن كنت أشتري ليك بدلة صوف ..) أشكرك ..أشكرك .
كريمة سعيد
27-09-2010, 03:45 PM
الأديب المتمكن عبد الله خلف
نصوصك العبقة التي يمتزج فيها دفء الأصالة و غموض الحاضر تجبرني على المتابعة والعودة مرارا
أنعمت مساء أيها الكريم الراقي
عبدالغني خلف الله
28-09-2010, 09:34 AM
أشكرك يا ابنتي كريمه علي هذا المرورالمفرح والشكر موصول للإبنة رنيم وإلي حيثيات هذه الحلقة : لم نحتف برحيلنا للمنزل الجديد نسبة لاقتراب موعد عيد الأضحي المبارك .. وتحت إصراري وتشددي وافق ( كافولة ) علي أن يمضي معنا أيام العيد كواحد من أفراد الأسرة وقد وعدته بمرافقته للملجأ بعد أن نضحّي ونتناول طعام الإفطار .. كان عيداً حزيناً بدون شقيقتي ( نسمه ) وقد بكت أمي طوال الليل وفي الصباح ولم تخرجها من تلك الدوامة الحزينة سوي صلاة العيد .. تحلقنا حول المائدة العامرة وقد حرصنا علي إهداء جزء من الخروف للجيران الذين تغيرت معاملتهم لنا .. وقد بقي البعض علي تحفظه بعد أن علموا أن شقيقتي تغني في الأفراح .. ولم نكترث لهم .. ولكل شخص في هذه الحياة مطلق الحرية في التصرف براحته .. هذا ما أؤمن به وهذا ما تعودت عليه منذ الصغر .. احترام خيارات الآخرين ومراعاة مشاعرهم .. وقد ربحت الكثير في فترات لاحقة بسبب هذا المنهج .. ارتدينا أجمل ما لدينا من ملابس وتوجهنا نحو الملجأ .. وما أن وصلنا حتي شعرنا بأن حركة غير عادية انتابت المشرفين علي الملجأ ولفت انتباهنا سيدتان أنيقتان كانتا تجلسان بمكتب المشرفة وأمامهما تكدست أكوام من الهدايا من ملابس ولعب أطفال وحلوي وطابور طويل من الأطفال ينتظر دوره .. انفلت (كافولة) مني وانهمك في تبادل التحايا والتهاني مع المشرفات وكبار الأطفال وكان يناديهم بأسمائهم وكأنه واحد منهم .. واكتشفت كم يحب الأطفال خالهم ( كافولة ) .. تبادلت التحايا مع المشرفة ولاحظت أنها وشوشت ( كافولة ) ببعض الكلمات واقتادته إلي غرفة الإشراف .. تبعتهم نحو الغرفة دون أن آخذ إذناً من أحد ويبدو أن وجودي لم يضايق الموجودات بالداخل .. قالت له أعرّفك بالسيدة ( جوليا ) والسيدة ( هند ) وقد حضرتا من أجل صديقك .. صديقك .. ( شنكل ؟!) ..( كافولة ) وقد أسعفها بالإسم .. السيدة ( جوليا ) شاهدت صورة صديقك في ( ألبوم ) الملجأ وهو يذّكرها بابنها الذي توفي في حادث حركة مؤلم بنيويورك .. وتود مقابلته وربما ضمه إليها .. وقد أخبرتها بمتانة علاقتكما وحدثتها عن قصة هروبكما معآ من الملجأ والقصة طبعآ طويلة وما يهمنا في خلاصة الأمر أين وكيف نعثر عليه .. إضطرب جسمي اضطراباً عظيماً وصار قلبي يضرب بقوة وسال العرق مدراراً يبلل ثيابي بعد أن لاحظت الشبه الكبير بين هذه السيدة الأنيقة وصديقنا ( شنكل ) ولاحظت أيضاً أنها بدت متوترة وقلقة وكأنها تترقب أمراً جللاً .. هنا تدخلت في الحوار وقلت لهم ( شنكل ) صديقي أنا أيضاً وكان معي بالورشة قبل أيام .. في هذه اللحظة انتفضت (جوليا ) وفقدت وقارها .. وقفت علي أرجلها وتقدمت نحوي وهي تردد ( أين هو ؟ أين هو بالله عليك ) .. نريده الآن .. الآن .. هل هذا ممكن ؟! .. نعم ولكن .. لكن ماذا ؟ الله يرضي عليك وعلي والديك .. لكن ماذا ؟ ما المشكلة ؟ .. كنت علي وشك أن أقول لها لأنه بالسجن ولكنني وقد أيقنت بأن هذه السيدة هي أمه بلا شك تحاشيت أن أعطيها عنه انطباعاً سيئاً حتي لا تهرب وتضيع أحلام صديقي التي عاش من أجلها السنين الطوال .. هل معكم عربه ؟ .. سألتها وأنا أتهيأ للقيام .. نعم .. نعم .. معنا عربه .. معنا عربتان .. إذن هيا بنا .. وانطلقنا بعد أن ودعت ( جوليا ) المشرفة وطلبت من صديقتها قيادة العربه وحدثتها باللغة الإنجليزية كلاماً لم نفهمه أنا و( كافولة ) لكن يفهم من حركاتها أنها قالت لها لا أستطيع القيادة .. أعصابي متعبة أو شيء من هذا القبيل .. ركبت بالمقعد الأمامي قرب صديقتها لأدلّها علي الطريق دون أن تعلما أننا في طريقنا للسجن وبقيت هي بالمقعد الخلفي تحاصر ( كافولة ) بالأسئلة عن ( شنكل ) ما شكله وكيف يعيش وأين وممّ وكنت استرق السمع لهما خشية أن يتسرع ( كافولة ) ويخبرها بالحقيقة .. وعندما بتنا علي بعد أمتار من مدخل السجن .. تساءلت ( جوليا ) بحيرة .. أين نحن ولماذا جئنا لهذا السجن ..؟! لأن ( شنكل ) بداخله وهو يمضي عقوبة السجن بسبب مشكلة بسيطة وسوف يخرج قريباً جداً إن شاء الله .. السجن ..؟! .. كيف ولماذا ..؟ تعالوا معي لتعرفوا التفاصيل بأنفسكم .. كانت المفاجأة قاسية عليها وقد غادرت العربة بصعوبة وهي تترنح من هول المفاجآت التي أحاطت بها .. قابلنا مدير السجن بترحاب شديد ولعل هذا دأبه مع جميع الحاضرين من أقارب السجناء .. قدمتهما للضابط وقلت له هذه السيدة تود مقابلة السجين ( شنكل ) .. ( شنكل ؟! ) .. ضابط السجن يسأل باستغراب ؟ ليس لدينا مسجون بهذا الأسم .. ( في يا جنابك .. ..المضمون بتاع المسجد والنادي ..) .. مولانا ؟! نعم هو ويلقبونه ب ( شنكل ) .. ولكننا أفرجنا عنه بمناسبة العيد ولحسن السلوك .. أُسقطت عنه بقية العقوبة وقد غادر فيما أظن .. أبدآ يا جنابو لم يغادر بعد .. الجاويش وهو ينقذ الموقف للمرة الثانية .. وكانت ( جوليا ) تحاول جاهدة التماسك وهي تتأرجح بين سعادتها بالإفراج عنه وبجزعها من خبر مغادرته ثم تدخل الجاويش ليخبرنا أنه بمنزل المساعد ( بكري ) وقد دعاه لتناول وجبة الغداء .. ولد ممتاز وذكي وأخلاقه عاليه ولد مؤدب .. ولد مهذب .. الضابط وهو يسبغ الصفات علي ( شنكل ) و( جوليا ) تتابعه باهتمام شديد .. ومن ثمّ دعانا للمكتب ووجه الجاويش بأن يذهب ويحضره .. وهنالك أوضحت له ( جوليا ) الغرض من زيارتها له وأعادت علي مسامعه القصة إياها .. قصة وفاة ابنها بنيويورك وكنت علي يقين ثابت بأنها تكذب .رجع الجاويش وهو يعيد علي ( شنكل ) المذهول بما يسمع .. سبب إستدعائه .. ( قلت ليك واحده عايزاك بشده واحده محترمه والضابط قال تسيب كل شيء وتحضر فورآ ) .. تردد برهة في الدخول .. وعندما بات في منتصف الغرفة تجاوز ( جوليا ) التي كانت تجلس قريباً من الباب ووقف أمام الضابط وهو يقول ( نعم جنابك .. عرفت إنك عاوزني .. خير إن شاء الله ؟ ..لا خير .. اطمئن يا ابني .. هو إنت يجي منك غير الخير يا مولانا ) .. وقفت علي قدميها وهي شبه مذهولة وقد أسكرتها اللحظة التي انتظرتها السنين الطوال .. اللحظة التي عاشت بانتظارها الأيام والليالي مطوقة بالحزن والآلام .. وأدرك ( شنكل ) بأنها هي .. هي أمه ولا يحتاج الأمر إلي براهين .. هنا أخرج من جيبه القطعة المعدنية ومد يده نحوها وكأنه يصافحها ودسها بيدها فأخذته بالأحضان وقد إنفجرت بالبكاء .. ( إبني حبيبي .. إبني حبيبي ..) وتحت وطأة تلك الدقائق القاسية .. اقترح علينا الضابط مغادرة المكتب وغادر هو أيضاً معنا .. وتركناهما لوحدهما .. ولا بد أنه قد دار بينهما عتاب رقيق واعتذار موشح بالدموع والتنهدات .. ولدي خروجهما كانت ( جوليا ) لا تزال تكفكف دموعها .. أما (شنكل ) فقد كان يردد في سره عبارة ( الحمد لله رب العالمين والشكر لله العلي القدير ) ..
عبدالغني خلف الله
29-09-2010, 09:27 AM
شكرت الضابط علي أريحيته وأعلنت عن تبرع سخي للخدمات الإجتماعية بالسجن كما فعلت بالملجأ ومن هنالك توجهنا جميعنا نحو منزلنا وقد رجتني ( جوليا ) وهي تغادرنا أن أرعي ( شنكل) لمدة أسبوع واحد لا أكثر تكون خلاله قد استخرجت له بعض الأوراق الثبوتية لتأخذه معها إلي أمريكا وتود أن يظل هذا الأمر طيّ الكتمان لا يعلم به أحد حتي لا تتدخل أطراف أخري لتفسد عليها خططها ولعلها تقصد بذلك والده ( وجدي ) الذي سبقها إلي الخرطوم من روما .موقف وعادت الأيام الحلوة من جديد .. عاد الزمن الرائع وعادت معة الأمنيات الرائعات .. فقد منحتني ( سحر ) أوقاتاً لم أكن أحلم بها وزادت بأن أوعزت لوالدها العائد لمنصبه المرموق .. أوعزت له بتعييني سائقاً خاصاً له ( تعرف يا بابا ميزة صالح ده شنو ؟ .. أولاً ميكانيكي شاطر ومؤدب وممكن ينفعنا في مشاوير الماما وناس البيت ) .. لم تترك له فرصة للرفض أو الإعتذار وهكذا تم تعييني سائقآ للمدير دفعة واحدة .. هوّنت الأمر علي المعلم ( سليمان الفاضي ) ووعدته بأنني سأعمل معه ساعات إضافية وأيام العطلات وقلت له مداعبآ ( الحكومه إجازات في إجازات .. عامله زي النسوان في المطبخ .. تقطع الأسبوع زي قرن الباميه .. لو الأربعاء إجازه ده معناه إجازه تلاته أيام وإمكن الواحد ياكل السبت وينزل الأحد .. وهكذا أقنعته بأن يسدد لي استحقاقاتي المالية عن عملي خلال الشهور الأخيرة .. وقد أوفيت بوعدي له بعد تسلمي لمهامي .. إذ حولت تدريجيآ كل الصيانة الخارجية لعربات المصلحة لورشته .. كنت أستيقظ مع آذان الفجر .. وبعد أداء الصلاة أرتدي أجمل ما عندي من ملابس وما إلي ذلك من عطور وقص شعر بصفة شبه يومية .. كنت أحاول جهدي أن أبدو أنيقآ في عينيّ ( سحر ) وكانت والدتها أسعد الناس بهذا التعيين الذي أضاف بعداً إجتماعياً جديداً لشخصيتها التي كانت تعاني الأمّرين بسبب سجن زوجها وإيقافه عن العمل وبالتالي حرمانه من مخصصاته .. فأنا الآن سائقهم الخاص .. وكانت ( سحر ) تحرص علي إحضار الشاي المصحوب ب(البسكويت ) بنفسها وتصبه لي .. نتجاذب أطراف الحديث ونثرثر بلا موضوع .. كنت ألمح في عينيها حنانآ دافقآ ينساب في صمت دون أن تفصح عنه وكنت أتلقف حنانها بفرح غامر أحبسه بين ضلوعي .. ولعل كل واحد منا كان مقتنعآ بهذا القدر من الحب الصامت أو هكذا خيلّ لي .. وكنت لا أدّخر وسعآ في تلبية رغبات كل أفراد العائلة وأقاربهم في توصيل هذا الضيف أو هذه لا سيما مشاوير ( سحر ) المسائية لحضور حفلات زفاف قريباتها علي امتداد عائلتها المتشعبة .. وأحياناً أعود بالعربة إلي منزلنا في ساعة متأخرة من الليل لا سيما عندما أكون في صحبة العائلة وهي تسهر إلي وقت متأخر في المناسبات .. شخص واحد كان لا يطيقني ولا أطيقه .. ذلكم هوعصام شقيق ( سحر ) .لكم تغيرت يا صديقي حربي ..عربه ملاكي أو بالأحري عربة ( تاكسي ) أنيقة صفراء اللون .. ما هذه الأبهة وتلكم الأناقة يا رجل .. ؟ ربنا كريم .. أرسل لنا الرائعة ( جوليا ) .. فقد منحتني مبلغاً لا بأس به كهدية وكذلك فعلت مع كافولة الذي قرر فتح ورشة خاصة به والإنتقال من منزلنا ليسكن بنفس الورشة بعد أن لاحظ تبرم شقيقتي ( سلمي ) من وجوده بيننا .. وعلي النقيض من ذلك رحبت بوجود ( شنكل ) ولعلّه استهواها بوسامته ودماثة أخلاقه بعكس (كافولة الفوضجي) .. المهمل .. الذي لا ينظم حتي السرير الذي ينام عليه .. ولا يساعد في ترتيب أوضاع المنزل لا سيما وأن طالبي ( سلمي ) للغناء في الأعراس يتضاعف يومآ بعد يوم وقد أضافت لفرقتها عازف ( أورج ) شاب أضفي علي أدائها شيئآ من التجديد .. هكذا إذن .. وكيف يا صاحبي توفق بين مشاوير المدير بالمصلحة ومشاوير ( سحر ) وشقيقتك سلمي .. ؟ لا تخف عليّ ّ .. فأنا ( بلدوزر .. أنا صاعقة النهار .. أنا أبو سريع الأصلي ) .. وكيف لو تضاربت مواعيد هذا مع هذه أو تلك .. ؟! .. في ظروف كهذه تبقي مشاوير ( سحر ) أولوية قصوي
كريمة سعيد
29-09-2010, 03:10 PM
أستاذي القدير عبد الله خلف
حفظك الله وأدام ألق حضورك المورق
متابعة بشغف إلى النهاية
خالص تقديري ومودتي
عبدالغني خلف الله
29-09-2010, 04:05 PM
أستاذي القدير عبد الله خلف
حفظك الله وأدام ألق حضورك المورق
متابعة بشغف إلى النهاية
خالص تقديري ومودتي
أكرر شكري وتقديري لك يا ابنتنا المورقة دوماً بالخير والجمال علي هذا التشجيع وعفواً إن قمت بتصحيح اسمي لديك فأنا واستغفر الله من أنا هذه ( عبدالغني خلف الله الربيع ) ..مرة أخري لك كل الإعزاز والود .
عبدالغني خلف الله
30-09-2010, 07:40 AM
أنا الآن مسجل بالكامل للآنسة ( سحر ) .. تكفي الإشارة من يديها لأتحول إلي إعصار كاسح .. تكفي .. لا بل كفي فأنت عبد لعواطفك لآ أكثر .. إسترقّتك هذه الآنسة وحولتك إلي عبد من عبيد جمالها الآسر .. ويالها من عبودية لا أتمني الخلاص منها مدي العمر .. فأين الندية والحب المتبادل ؟! .. أين شخصية الزعيم ؟! لعلك نسيتها وراءك بالحي العشوائي ؟ .. أما هذه فهي مؤجلة لحين إشعار آخر .. فدعني أعش عبوديتي ل(سحر) بكل ما أملك من إرادة ولن أندم .. وإن كان علي الزعامة فأنا أمارسها فعلاً .. لقد توغلت في مجتمع المصلحة .. أبادر بفعل الخير .. أقف مع هذا في محنته .. أوظف عربة المدير وعربتي للمشاركات الإجتماعية والأخوية وأحمل المرضي للمستشفي .. أقوم بتسليف حتي كبار الموظفين مبالغ في حدود المعقول ولا أضايقهم في ردها .. اتولي كشوفات الأعراس والمرضي والمواليد الجدد وما إلي ذلك .. الجميع يثقون بي وبأمانتي .. إلي أن وقعت تلك الحادثة الرهيبة والتي خلقت مني بطلاً أسطورياً تناقلت أخباره وسائل الإعلام .. فقد كنت بصدد شراء وقود لعربتي (التاكسي) وسط صف طويل من العربات عندما توقفت عربة ( تانكر ) عملاقة لإفراغ حمولتها من الوقود بالقرب من المكان الذي نقف عليه ولاحظت أن السائق طلب من شخص جاء معه قياس الكمية المستلمة ريثما يشرب قدحاً من الشاي لدي امرأة جلست عند بناية بعيدة من محطة الوقود وقد تحلق حولها عدد من الزبائن .. وكنت وقتها منهمكاً مع تسجيل ل(سلمي) شقيقتي عبر مسجل العربة وفيه أغنيتي المفضلة ( قامت الطياره وأدوا الإشاره .. كاميليا حرقت يا شباب كفاره ) وكاميليا هذه ثبت أنها مضيفة مصرية قضت نحبها في حادث طائرة.. وكنت أتساءل متي ستعود من (سفريتها) الأخيرة إلي ( لندن ) .. وقد حزّ في نفسي أنها وفي كل مرة تتخلف ب(القاهرة ) .. لماذا تتخلف ب(القاهرة ) ومن أجل من ؟! .. و(مالك إنت ياخي .. تتخلف .. تسافر .. إنت منو وإنت شنو عشان تسأل هذا السؤال ..) .. هكذا أنتم تحّرمون علينا حتي الأحلام .. أحلام اليقظة .. ولكن ما هذا الدخان الذي يتصاعد من الأنبوب الذي يسحب الوقود من ( التانكر ) إلي جوف الأرض .. وهذا اللهب .. ( النار ..النار ..البنزين ..ألحقونا يا عالم .. وبسرعة الصاروخ تسلق اللهب الأنبوب حتي حافة ( التانكر ) وسيطرت حالة من الرعب الشديد علي الجميع .. ركض الناس متباعدين وحاول آخرون السير بعرباتهم إلي الخلف وسادت فوضي لا مثيل لها .. ووجدتني دون أدني تفكير في العواقب أصعد ( التانكر ) ولحسن الحظ كان المفتاح داخل خزانة التشغيل .. أدرت المحرك وتدحرجت بالعربة نحو ميدان قريب وكان ثمة صبية صغار يلعبون كرة القدم تراكضوا في جميع الإتجاهات عندما رأوني أتجه نحوهم .. وعندما صرت في منتصف الميدان تماماً .. قفزت من العربة وانبطحت أرضآ علي بعد أمتار قليلة ليعقب ذلك انفجار هائل حول العربة إلي كرة من اللهب .. وهل أصبت ؟ .. إصابات خفيفة وحروق سطحية .. ( سحر ) قالت لي هذه أوسمة علي صدرك يا بطل .. أنا بطل يا (سحر ؟) .. ( بس !!؟ ) .
عبدالغني خلف الله
01-10-2010, 03:48 PM
مضت إجراءات سفر( شنكل ) علي قدم وساق وقد أرسل له ( المستر رتشارد ) جواز سفر أمريكي يحمل إسمه الجديد .. المستر( رامي رتشارد روبرتسون ) .. وكنت ألمح سحابة من الحزن تخيم فوق وجهه لا تبددها سوي زيارات أمه ( جوليا ) وعودة شقيقتي ( سلمي ) من حفلاتها للبيت وقد صرح لي أكثر من مرة أنه بات مقتنعآ بأن علي (سلمي) ترك الغناء في الحفلات بل وحتي غير الحفلات .. وذات مرة تجرأ وواجهها صراحة بمآخذه علي الغناء وطلب منها الكف عنه .. ولشدة دهشتي لم تتفوه ( سلمي ) بكلمة سوي عبارة ( إن شاء الله .. الله يهون ) .. متي يا سلمي؟ أريد تحديداً قاطعاً .. أكمل العقود التي بيدي وأعتذر لكل من يطلبني للغناء .. هل ستتخلي ( سلمي ) العنيدة عن الفن الذي أحبته نزولاً علي رغبة ( شنكل ) ..؟! .. لا تستغرب يا زعيم .. أظنك وأنت غارق في دوامة( سحر ) لم تلاحظ مشاعر الحب والإعزاز التي ظلت تنمو وتكبر يوماً بعد يوم منذ أن انتقل صديقك العزيز ( شنكل ) إلي منزلكم من السجن وقد رأيت كيف أنها بنظراتها فقط أجبرت ( كافولة ) علي الرحيل والانتقال ليعيش ويعمل بورشته .. وما هي أيام حتي فاجأنا برغبته في الزواج منها .. وأردف قائلااً سأطلب من أمي إضافتها علي جواز سفري بعد عقد القرآن وقد أخبرتها بأنني لن أسافر إلا وسلمي معي .. قالت له لماذا لا تسافر أولاً وبعد أن تتعرف علي البلد ربما ترغب في الزواج بأمريكية أو فتاة من الأسر السودانية التي تعيش بصفة دائمة هناك ..؟ قال لها لا بل سلمي يا أمي .. وهكذا تم كل شيء في سهولة ويسر واقتصر عقد القران علي عدد قليل من المدعوين بعيداً عن الأضواء .. وبعد مغادرتهم التي شقّت علي والدتي .. تبارت الصحف في الإعلان عن زواج شقيقتي وسفرها مع عريسها لأمريكا واعتبر الكثيرون أن سفرها خسارة فادحة لمحبي الطرب الأصيل وأغاني التراث .. بيد أن آخرين اعتبروا صوتها ضعيفآ وأنها كانت تعول علي الموسيقي واللحن وأن في صوتها بحة لا تروق للكثيرين .. لكنها علي كل حال سافرت يحف بها زوجها والصغيرة المندهشة لما يحدث حولها (لوسي) .. وقبيل سفرها همست في أذني ( سلمي ) قائلة .. سأدرس الموسيقي وسأصبح فنانة عالمية فقط عليك متابعة وكالات الأنباء .وهكذا تمضي بنا هذه الحياة الغريبة تجرفنا معها مثل قطعة طافية فوق الزبد .. تضحكنا أحياناً وتبكينا في أحايين كثيرة .. فقد سافرت سلمي لأمريكا وقبل عام فقط كانت تبيع الشاي أمام دكان (الحاج رضوان ) بالحي العشوائي .. وهانحن نقتني منزلاً يخصنا وحدنا .. به خدمات كهرباء وماء ومواصلات وصارت لدينا عربة خاصة .. ولكننا فقدنا شقيقتنا .. ماتت وهي تحتضن صورة الضنك والمعاناة التي عشناها بالحي العشوائي .. توقفت مخيلتها عند هذه النقطة بينما الكل يتقدم نحو الأمام ..
آمال المصري
01-10-2010, 05:20 PM
متابعة بنهم لقلمك الساحر وتلك الأحداث الشيقة
أقرأ بصمت وأنصرف حتى لاأعكر ذاك الجمال
فلن يطابق حرفك قلم سواك
سيدي الفاضل ..
تحية تليق بنقاء روحك
وكل الود
عبدالغني خلف الله
02-10-2010, 09:14 AM
كنت منهمكآ في صيانة عربة السيد المدير عندما حضر لي موظف الاستقبال ليخطرني أن شخصاً ما يطلبني .. وقال لي وهو يرمقني بنظرة ذات معني .. سيدة أنيقة وجميله .. تري من تكون وكل أهلي لا يعرفون سبيلاً إلي دواوين الحكومة .. فلا المحليات ولا الشرطة ولا حتي مكاتب تسجيل المواليد .. كل هذه المسميات لا شأن لهم بها .. وقد يجوع الواحد منهم ويخبو لدرجة التلاشي ولا يكلف نفسه عناء البحث عن مكاتب المسئولين .. هل تكون ( أميرة ) .. لقد أضحت فتاة جامعية بإحدي كليات الطب .. لعلها تذكرتني سيما وأنها لم تزرنا ولا مرة واحدة بمنزلنا الجديد ولم تكلف نفسها عناء تعزيتنا في شقيقتنا .. لماذا يا أميرة كل هذا التنائي وكل تلكم القسوة ؟..ليتها تكون هي فقد اشتقت طلتها الآسرة ووجهها الطفل .. بطه ؟؟! ..إنها فعلاً بطة .. ولكن من أين لك يا عزيزتي هذا المظهر الأرستقراطي الخلاب .. أنظروا يا ( جماعه ) إلي تسريحة الشعر والطقم المتناسق في كل شيء بدءآ بال( بلوزة والإسكيرت ) وانتهاءآ بالحقيبة والساعة .. ياه .. !! لكّم تبدين أنيقة يا بطه .. جلست قربها أسلم عليها وأسألها عن أحوالها .. لقد حصلت علي الطلاق وعلي وظيفة في محل لبيع الملابس النسائية والعطور .. ( بوتيك يعني ) .. (بوتيك شنو) .. وكانت هذه المفردة غريبة عليّ .. المهم سألت عنك في الورشة وأعطاني ( المعلم سلمان الفاضي ) العنوان فجئت إلي هنا علي الفور .. كم أشتاقك يا بطه .. حتي غيوم عطرك أضحت أجنبية يا حبيبة خاطري .. هل ستأتي لنا في بيت بنت خالتي .. لعلك لم تنس الوصف يا حربي .. أنسي ؟! .. بإمكاني الوصول إليكم وأنا مغمض العينين .. تبادلنا حديثاً رائعاً فيما يشبه الهمس وحلقنا بعيداً بأجنحة الأحلام .. وفجأة تقتحم مكتب الاستقبال آنسة ( سحر ) .. أهلا .. أهلآ .. حمدآ لله علي السلامة .. متي عدت من السفر .. ثم ( أسمع يا صالح .. حأسلم علي بابا وعاوزاك في كذا مشوار) .. قدمت لها بطة علي أساس أنها ( بت أهلنا ) سلمت عليها من البعد إذ كانت تتأبط رزمة من الأشياء .. لم تجلس بطة بعد حضور ( سحر)..أقدمت علي الإنتحار بسببك وكنت سأفقد حياتي ولم تكلف نفسك عناء زيارتنا لتقول لي كفاره ..أوأأ أنت ..نعم أنا هي من كتبوها في الصحف ..لماذا فعلت ذلك يا بطه .. الإنتحار شيء بغيض ونهايته دخول النار مع الكفار والعياذ بالله ..إياك أن تقدمي علي فعل كهذا ..واضح ؟ .. واضح .. وعد ؟ .. وعد . ومن ثمّ ودعتني وقالت لي في رجاء مخذول ( أوعك تتأخر علي ّ يا حربي .. أوعك ).عادت ( سحر ) وتوجهنا سويآ نحو عربتها .. ( لا سوق إنت .. أنا تعبانه شويه ) .. أمرك .. همست في عينيها..وجهتني بالسير عبر شارع النيل .. وألقت برأسها وهي ترسل تنهيدة طويلة .. تري من تكون هذه البنت الصبوحة .. وما علاقتها بحربي .. لو كانت معي ( كاميرا) لأخذت لها صوره وأهديتها لمدير الشركة لتوضع في غلاف ( البونشور ) الخاص بالشركة بمناسبة العام الجديد .. هذا الجمال القروي ينم عن أصالة غريبة .. ( بت أهلنا ) معقول أصدق هذا الكلام .. ولكن لماذا أنا مهتمة بهذا الموضوع .. ؟ .. لا أنكر أن وجودها بالقرب من حربي .. وجهها في وجهه قد ضايقني .. ولكن لماذا ضايقني ..؟ يبدو أن التحليق لساعات طويلة قد أصابني بالدوار .
عبدالغني خلف الله
02-10-2010, 09:16 AM
متابعة بنهم لقلمك الساحر وتلك الأحداث الشيقة
أقرأ بصمت وأنصرف حتى لاأعكر ذاك الجمال
فلن يطابق حرفك قلم سواك
سيدي الفاضل ..
تحية تليق بنقاء روحك
وكل الود
أشكرك من كل قلبي يا ابنتي رنيم ..فأنت الآن المشرفة علي هذا العمل الروائي وسأكون حزيناً إذا كان سيأخذ من وقت الدراسة والمذاكرة .. مع كل الإعزاز والود .
عبدالغني خلف الله
03-10-2010, 08:36 AM
. ترجلنا عند مكتب لبيع وشراء العقارات .. واستقبلنا أحدهم بترحاب شديد وبدأ يحدث سحر بتفاصيل أجهلها تماماً .. وبين الفينة والفينة يؤشر لها علي تخطيطات هنا وهناك .. هذه الشقة مثلآ تطل علي حديقه وروضة أطفال .. بها ( إتنين غرفة نوم وإتنين تواليت وبلكونتين وإتنين غرف إستقبال .. وهذا الركن الصغير يصلح للسفره ) .. سألتني ( سحر ) عن رأيي .. فهمهمت بكلام مثل ( والله مش بطاله وكويسه ) دون الدخول في تفاصيل .. وفي طريق العودة سألتها لماذا إنفاق الأموال في شقة ولديك واحده .. قالت لي وقد أخذ منها التعب كل مأخذ .. هذه ستكون شقتي يا ( صالح ) .. تحميني من غدر الأيام .. شقتي الحاليه في بيت العائلة ليست ملكي بالضبط .. هنا يكمن الفرق .. توقفنا داخل منزلهم ولم يكن به أحد .. شعرت بأنها كادت أن تسقط وهي تحاول الصعود علي الدرج .. تلقفتها قبل أن تسقط وأخذتها بين ذراعيّ وأنا أصرخ كالمجنون .. ( سحر مالك .. مالك يا سحر ؟! .. أنزلتها مرة أخري وسمعتها تقول لي ( دوخه بسيطه يا صالح وبتروح ) .. ومرة أخري تهاوت نحو الأرض فتلقفتها ثانية وصعدت بها الدرج المؤدي إلي غرفتها وأنا أضمها إليّ بشدة وحمي رهيبة تجاوزتها لتحرق أضلعي .. ( إنت محمومه شديد يا سحر .. خليني أوديك المستشفي ) .. شبكت كلتا يديها بعنقي .. أجلستها علي كرسي بغرفتها وقدمت لها كوباً من الماء .. هل نذهب للمستشفي يا ( سحر ) .. لا أبداً ما في داعي .. (جيب قطعة قماش واعمل لي مكمدات بارده ..) وجلست بقربها علي السرير أنضح الماء البارد فوق قطعة القماش وأبلل بها جبهتها .. وأنا أحنو عليها حنواً لا أجد له تفسيراً .. وبعد تناولها قرص ( أسبيرين ) نامت نوماً عميقاً وأنا جاث قربها أراجع كل خلجة من خلجات وجهها وأتساءل بيني وبين نفسي لماذا أنا هنا تحديداً ..؟ وظللت علي هذه الحالة إلي أن عاد والدها . قالت لي أمي كيف تنسي أخوك ( كافوله ) وتهمله بهذه الطريقة وأنت تعلم بأنه قد غادر المنزل دون إرادته ولعلّه ضاق ذرعآ بمضايقات شقيقتك ( سلمي ) التي لم تكن تطيق رؤيته والآن وقد سافرت ( سلمي ) إذهب واسأل عنه( ينيبك أجر ) .. المسكين مقطوع من شجره ولا أهل له .. قلت لها سأذهب يا أمي وسأحاول إعادته للمنزل بكل السبل .. وذهبت لأفاجأ بأن الورشة مغلقة وقد وضعت عليها علامة بالشمع الأحمر .. يا ساتر ؟! ..شمع أحمر في الباب ..؟ وهل يوضع هذا الشيء علي الأبواب ولماذا ؟ .. لقد رأيت الشمع الأحمر لأول مرة بيد الكاتبة ( مها ) بمكتب( الباشكاتب) العم ( خاطر ) .. و(مها ) هذه حسناء المصلحة بدون منازع .. وكنت كثيراً ما أتسكع( بفرندة ) مكتبها اتأمل جمالها جلّ الخالق .. وأظنها شعرت بإعجابي بها فصارت تمطرني بسيل من المشاوير .. مشاوير لا تصحبني فيها للأسف الشديد .. هي تستغلني دون ريب بيد أنني كنت سعيدآ باستغلالها لي .. كان يكفي أن تكلمني عبر الشباك كلمتين وتتنهد في وجهي وهي تشكو من كثرة العمل .. تنهيدة تزلزل كياني .. ولكن مالنا نحن ومال ( مها ) يا ( حربي ) ؟! .. كنت ستحدثنا بما حصل لصديقك( كافوله ) .. نعم .. نعم .. لقد تذكرت وأنا آسف جداً .. أنت طبعآ تستغرب كلامي عن ( مها ) لأنك ببساطة شديدة لم ترها .. نعود لموضوع الورشة وما تحصلت عليه من معلومات .. فقد أخبرني صبي قالوا لي إنه يعمل مع الأوسطي ( كافو ) .. وهذا هو الإسم الجديد لصاحبنا ( كافوله ) .. أن الشرطة أخذته معها للتحقيق في قضية (إسبيرات ) مسروقة .. ومن ثمّ انطلقت إلي مركز الشرطة وطلبت مقابلته .. كان حزيناً ويائساً وهو يتقدم نحوي ولمّا تبين أنني من أسأل عنه انبسطت أساريره وعانقني بمحبة حقيقية .. قال لي أن المعلم ( الكيك ) قد أرسل له إثنين من ( الفتوات ) يهدده بالعمل معه في بيع الإسبيرات المسروقة أو تحمل النتيجة .. وهمس أحدهم في وجهي ( الضبح يا كافوله .. الضبح ) .. لم أشأ إغضابه فأرسل لي ماكينة عربه ( بوكس ) لأبيعها له ويبدو أن الشرطة قد علمت بالموضوع فقبضوا عليّ وحققوا معي .. قلت لهم أن هذه الماكينة لا تخصني وقد أحضرها لي شخصان أعرفهم بالإسم ولكنني لا أعرف عنوانهم .. واليوم فقط قبض عليهما وعليه قد صدقوا لي بضمانه والحمد لله ( إنك جيت في الوقت المناسب ) .. أخذته معي بعد تكملة إجراءات الضمانة واقترحت عليه أن يعمل معنا بورشة المصلحه .. لم يتقبل الفكرة للوهلة الأولي ولكننا وبعد وصولنا لمنزلنا ومقابلة والدتي أقنعته هي الأخري بمعقولية الفكرة .. منحته بعض الوقت ليغيّر ملابسه وعدت للمصلحة وهنالك توجهت مباشرة نحو مكتب ( الباشكاتب ) العم (خاطر) .. لم يتردد في الموافقة وقال لي (أي زول يجينا من ناحيتك يا حربي هو محل ثقتنا ) .. ياه .. كم أنا سعيد بالقبول الذي أحظي به بهذه المصلحة .. هذا لأنك سائق السيد المدير .. لا والله .. ربما يكون لهذا السبب تأثير ولكن .. لا تظلمني بهذه الطريقة المجحفة .. أين خدماتي لكل العاملين ؟ .. بل أين وقوفي مع المرضي والمحتاجين من العمال والموظفين .. هل تعلم بأن أكثر من شخص عرض علي أن أترشح لإنتخابات النقابة التي لم يتبق عليها سوي أسابيع وقد فكرت في الترشح .. ( جد ؟!) .. فلماذا تضحك يا هذا .. أضحك من غبائك وتطلعاتك غير المنطقية يا حضرة (السواق) الخاص للسيد المدير .. هل نسيت أنك أمي جاهل ؟! .. كنت يا سيد وقد التحقت بتعليم الكبار وحصلت علي تقدير ممتاز في القراءة والكتابه .. القضية ليست قراءة وكتابه .. شغل النقابات دا عاوز زول مصحصح .. زول مثقف) .. اسألني أنا فقد كنت يومآ نقابي كبير فماذا كانت النتيجة .. دخلت السجن وأمضيت فيه أنضر سنيّ عمري بدعاوي فارغة مثل النضال والطبقة العامله وما إلي ذلك من ترهات .. عمومآ ستري وسأثبت لك زيف أفكارك عني .. إذن ما هو المطلوب يا عم خاطر ..؟ صديقك هذا يكتب طلب ويرفق معة شهادة الجنسية ورخصة القياده .. وسوف أقوم بالتوصية عليه والباقي عند السيد المدير .. جميل جداً .
عبدالغني خلف الله
09-10-2010, 03:40 PM
عدت إلي ( كافو ) .. وهذا هو طبعاً إسمه الجديد وقد أعجبني أكثر من ( كافوله ) .. أشكرك يا معلم ( حربي ) علي مجهودك ووقوفك معي .. ولكنك نسيت شيئاً هاماً .. ماذا أقول لشرطة الجنسية .. من أنا ؟ من هو أبي ؟ أين يعيش أسلافي ؟! .. أنا ضائع متشرد ( ود حرام يا حربي ) .. وسالت دموعه غزيرة فوق وجهه لتبلل ذقنه وتنساب علي قميصه .. تركته ينفس عن أوجاعه وعندما هدأ قليلاً قلت له .. هذا ليس ذنبك وأنت تعرف ذلك جيداً .. قلت له كلاماً من هذا القبيل وأكثر وقد طاش في خاطري العم صباحي خفير المصلحه .. رجل في السبعين من عمره .. إنتهت به الحياة إلي غرفة صغيرة بذلك الركن القصي بالمصلحة يمضي فيها سحابة يومه يعزف علي ربابته ويغني بصوت واهن ( أتملي ..وو ..أتملي .. تملالي ما تملالي ) وعندما يأخذ منه التعب كل مأخذ يحضر للكافتيريا يروّح عن نفسه يرسل النكات والقفشات .. العم ( صباحي) انتهي كإنسان .. لا أهل ولا ولد .. لا شأن له بما يجري حوله من أمور ولا يشارك الموظفين والعمال أفراحهم وأتراحهم إلي أن التحقت بالمصلحه فصرت أصحبه معي لمنازل الزملاء وأسأل عن أحواله وصحته .. وقد حدثني ذات مرة عن مأساته التي يشيب لها الولدان .. قال لي أنه كان يعيش مع أسرته وعائلته المكونة من زوجتين وعدد من الصبيان والبنات .. يزرع في الوادي ويرعي أغنامه وأبقاره .. وكانت القرية تنعم بالهدوء والإستقرار .. وعندما عاد بعض أبناء القرية من (فرنسا) حيث يدرسون .. قالوا لنا .. سنثور علي الحكومة المركزية لإحساسنا بالظلم وحدثونا بأشياء لا نفهمها .. وهكذا انخرط صبية القرية ومن ضمنهم أولادي في تدريبات عسكرية وما هي شهور حتي أعلنوا عصيانهم وتحديهم للحكومة .. فماذا حدث بعد ذلك سألته ؟ .. أرسلت لنا الحكومة جيشاً جراراً فتح النار علينا ونحن نغط في نوم عميق ودارت معركة رهيبة بين أولادنا والجنود وفي الصباح وجدنا أن كل شيء قد انتهي .. قتل من قتل وهرب من هرب .. واقتادونا إلي نقطة علي الحدود مع السودان وقد هيأ لي ربنا إبن حلال إصطحبني معه لأقرب مدينة سودانية .. كنت أسير أياماً وليالي بحالها تدمي قدماي أعواد الذرة الجافة ومنها توجهت للخرطوم ومنذ ما يقرب العشرين عاماً لا يعلم أحد من أهلي أين أكون وأنا لا أعلم عنهم شيئاً لقد انقطعت أخبارهم عني تماماً ولم يتبق لي سوي ذكرياتهم .. جميع أولادي قتلوا في الحرب واقتاد الجيش زوجتي وبناتي لإعداد الطعام وغسل الملابس .. لقد كبرت يا ابني ( حربي ) ولا حيلة لي ولا قدرة علي السفر والبحث عنهم لذلك سلمت أمري لله ورضيت بنصيبي .. هونت عليه الأمر وأنا أقول له ( كلنا أولادك يا عم (صباحي ) وأنت في بلدك وبين أهلك .. لذلك لم يتردد عندما طلبت منه أن يعطي اسمه لصديقي ( كافو ) .. وافق دون تردد وبالمقابل أقسم له ( كافو ) بأنه سيكون له ابناً بحق وحقيقة وسيرعاه ما دام علي قيد الحياة ولكن .. لكن ماذا يا حربي ؟ .. الأمر ليس بهذه السهولة وعموماً سنذهب إلي محام شاب قريب للآنسة سحر وسنحكي له الحكاية بدون غش أو تزوير ونطلب منه إصدار إقرار موثق بهذا الصدد ولعل نبل المقصد قد ساعدنا في تجاوز غرابة الطلب .. وهكذا سارت الأمور كما خططنا لها وصار بيد صديقي العزيز كافو بطاقة هوية تقول ( الإسم .. كافو صباحي مامون الإمام ) .
عبدالغني خلف الله
10-10-2010, 12:30 PM
قلت لصديقي (كافو) أريدك في مشوار مهم سيصحح الكثير من الأوهام التي تحيط بحياتي …سنذهب لنزور (بطة) .. لقد وعدتها بزيارتهم وحتى لو لم أعدها فأنا اشتاقها بشدة .. اشتاق بحة صوتها .. وهل يعشق إنسان امرأة ما لبحة صوتها ..؟ لا ليس ذلك بالضبط ولكنني لا اشبع من حديثها لا اشبع من بحتها واشعر كأنني أحلق بعيداً في الفضاء بينما هي توشوشني بكلامها .. لدى إحساس بأنني خلقت من اجلها .. معها لا احتاج لاثبات شخصيتي ..معها اشعر بالثقة والاطمئنان لقدراتي… إذن ما المشكلة ؟ المشكلة تكمن في (سحر).. هي الأخرى تشغلني وأفكر بها ليل نهار ..وأنا سعيد يا صاحبي لأنك بدأت تعقل .. (بطة ) هي الزوجة المناسبة .. (بطة) فقط لا (سحر) ولا حتى (مها) فلماذا نخدع أنفسنا ونركض خلف السراب والحقيقة ماثلة أمام أعيننا .. توقفت لدى الباب ويبدو أن الجميع بالداخل يتوقعون زائرا ما .. فما إن صفق باب العربة وخرجنا منها باتجاه الباب حتى رأيت قريبة (بطة) تقف مخذولة وترد على تحيتنا بفتور شديد .. أهلا ممكن ندخل ..؟ لا والله متأسفين الحقيقة في مناسبة عائلية وفى (ستات) في الداخل .. طيب ممكن أشوف (بطة) ؟ بطة غير موجودة .. ( في الكوافير) ولم تكمل حديثها فإذا بعربة ملاكي تقف وتترجل منها (بطة) بصحبة أحدهم وهى بكامل أناقتها .. سلمت علينا وهى تردد في اضطراب شديد اتفضلو .. اتفضلو .. إقترح عليّ (كافو) بان نتريث ولا ندخل .. تابعتها وهى تتوغل داخل المنزل .. قلت لقريبتها ..(ممكن اعرف الحاصل شنو بالضبط ..) هنا كشرت عن أنيابها وقالت لي بحزم شديد .. الحاصل إنو بطة حيخطبوها بعد شويه ونحن منتظرين أهل العريس .. تاجر قدر الدنيا وعندو بوتيكات في كل الخرطوم .. قلت لها وما العيب في ذلك ؟.. نقول ألف مبروك وأنا سأكون أسعد الناس بزواج (بطة) وربنا يتمم بخير قلت ذلك وأنا أتراجع نحو العربة .. وفي الطريق نحو منزلنا قال لي (كافو) وهو يحاول تهدئة خواطري انسي بطة يا حربي لقد كنت دائماً أميناً معها فلماذا تغضب ..؟ نعم يا (كافو) .. سأنساها حتماً ولن أفكر بها مطلقاً .. إنها ليست المرة الأولى التي تخذلني فيها ولن تكون الأخيرة فلماذا الندم على امرأة لا يعرف الإخلاص سبيلاً إلى قلبها .. يجب ان تعذرها يا (كابو) .. بطة إنسانة غلبانة وتسعي جاهدة لتأمين مستقبلها مع زوج تطمئن معه خاصة بعد التجربة المريرة التي عاشتها مع زوجها الأول .. وكنت أنا وفي كل مرة الكتف الحنون الذي تطرح عليه بطة عذاباتها وما أن تستعيد ثقتها بنفسها وتجد من يلوّح لها بالزواج حتى تضحي بي .. المرأة بطبعها أنانية وإذا كان حبيبتك من تخون فماذا أقول أنا وقد خانتني أمي .. (يا الله كل شيء قسمة ونصيب والمقدر لابد ان يكون) ..لماذا تردد نفس كلام شنكل .. وفي مكان آخر كان شنكل يوشوش أمه بحلو الكلام .. أنا اقدر موقفك يا أمي .. أنت أروع إنسان في الوجود ومن حسن حظي انك أمي فعلاً لا قولاً .. ولو انك لم تضعي النصف الثاني من القطعة المعدنية على الطاولة لصدقت روايتك الأولى بأنني أشبه طفلك الذي مات في حادث حركة .. لقد سامحتك والحمد لله انك عوضتني حرمان سنين وسنين … واشعر كأن المستر ريتشارد أبى الحقيقي .. هو أيضا يكن لك نفس الشعور وقد قال لي أنه يشعر الآن بسعادة لا يمكن وصفها ذلك انه بات رب أسرة حقيقية تملأ عليه حياته .. فها أنت وزوجتك الرائعة سلمى تبعثران الفرح في باحة حياتنا .. انظر كم هي متواضعة ومتفانية في خدمتنا… تستيقظ من النوم مبكراً لتعد لإفطارنا .. وتذهب للتسوق وحدها وعندما تعود أنت من عملك وأنا وزوجي من المنظمة وابنتى من المدرسة نجدها وقد رتبت البيت واعدت الغداء والقهوة وقامت بتجهيز ملابسنا بما في ذلك الغسيل والمكواة .. هذه انسانة لا مثيل لها .. وانظر كيف ضحت بموهبتها في الغناء لأجلك .. وهى تعلم إن أبواب الشهرة والمجد مشرعة في أمريكا لكل صاحب موهبة ..لا يا أمي الحبيبة (جوليا) .. أنا اقدر أن لكل إنسان ماضيه الذي يخصه وحده .. وأسراره التي لا يود لأحد الاطلاع عليها .. ولكن الأمر يتعلق بأبي الحقيقي .. أنا لا أريد معرفته لأنني اشتاق إليه أو احبه .. كلا .. لقد قلت لي انه كان خطيبك و انه غرر بك وسافر .. هذا المجرم الحقير الذي هو في الأساس أبى وقد خرجت من صلبه .. أريد أن أعرف من هو ؟ وأن ابحث عنه لأحاكمه نيابة عنك .. لأكشف له ضعته وأنه في نظري ونظرك لا شئ ولأقول لذلك التعيس .. أنه قد ضيّع على نفسه فرصة الارتباط بأنبل إنسان في هذا الوجود .. كانت مثل هذه الحوارات تتفجر بينهما عندما يكونان لوحدهما .. وكانت (جوليا) تحرص ألاّ تتبرم من أسئلته وقد سرها انه ليس غاضب عليها وأنه قد سامحها .. ويسعدها اكثر تحديقه المسهب بعينيها وهو يردد (امى الرائعة جوليا) يظل يكرر هذه الجملة وهو يأخذ يديها الى فمه يقبّلها وأحيانا يضمها إليه فىحنان وحب .. فتنساب دموع الفرح على خديها فيكفكف دموعها وهو يتمتم (لا بأس يا أمى لا بأس )..
عبدالغني خلف الله
11-10-2010, 09:02 AM
أخطر الطبيب آنسة سحر بأنها علي ما يرام وأن الأعراض التي تشعر بها تعود بشكل أساسي للإرهاق والتوتر وعليها أن تخلد للراحة لمدة أسبوعين علي الأقل .. تقبلت ذلك علي مضض وهي التي تعودت علي التنقل والتسفار من بلد إلي آخر وزاد علي ذلك بان قال لها .. عليك بالكف عن الطيران لمدة لا تقل عن شهر .. كنت سعيداً بهذه النصيحة فقد أراحني أنها لن تكون مضطرةً للسفر بكل ما ينطوي عليه من مخاطر .. كنت أعبر عن شعوري بتلقائيةٍ وبسفورٍ شديد .. حدقت في وجهي ملياً وقالت ( إنت إنسان غريب جداً يا حربي .. تخاف عليّ أكثر من والدي وشقيقي ..) .. وكيف لا أخاف عليك وأنا أراك تتنقلين من مطار إلي مطار ..؟ همست في عينيها .. وعندما تعودين أشعر بسعادة عظيمة سرعان ما تنقضي عندما تعاودين الترحال من جديد .. أنا .. أنا .. وكنت علي وشك أن أقول .. أنا أحبك يا سحر .. بيد أن الحروف تعثرت فوق شفاهي وآثرت ألآ تخرج .. أنت ماذا يا حربي ؟ أرجوك أكمل .. أنا لا أعرف كيف أفسر لك حقيقة مشاعري نحوك .. أنت عزيزة علي نفسي يا سحر .. لو تعلمين مقدار معزتك عندي منذ أول يوم جئت فيه لورشة المعلم ( سلمان الفاضي ) لما سألتني هذا السؤال وبكل ظلال الشك والريبة التي تطل من عينيك .. أنا لا أشك بك يا حربي ولكنني عشت تجارب مريرة مع البشر .. قسم منهم من أهلي وآخرون جمعتني بهم ظروف العمل وقليل منهم التقيته صدفةً .. ولا أريدك أن تكون كهؤلاء .. أريدك كما أنت وبطبيعتك الطيبة والعفوية هذه .. ولا أريدك أن تخلط الأمور مع بعضها البعض .. لقد أصبحت كواحد من أفراد العائلة .. تأكل معنا في طبق واحد وتجلس معنا نتفرج علي التلفزيون .. عاوزاك تكون زي ما إنت .. وإذا عصام أخوي ضايقك بحاجه كده ولّه كده .. سيبك منو .. وعاين لي أنا ولأبوي وأمي .. لأننا كلنا بنعزّك وبنحبك زي ما إنت بتعزّنا .. أفهم الكلام ده كويس يا صالح لأني ما حأقولو ليك تاني .. واضح ؟ ..واضح , والآن بعد هذه المحاضرة القيمة يا فتي .. ماذا فهمت من كلام الآنسة سحر ؟ لماذا بنعزك وبنحبك وليس بعزك وبحبك ؟ الآن بدأت تفهم .. إن ما تشعر به سحر نحوك لا يعدو عن كونه عطف وتقدير وليس حباً كما تتوهم .. نعم نعم لقد فهمت .. ولكن ما حدث في الأيام التي تلت ذلك الحوار قلب أوضاعي رأساً علي عقب .. فقد طلبت من والدها أن أتفرغ لهم بالمنزل طيلة فترة راحتها المرضية لأتحرك بعربتها إذا ما احتاجوا لمشاوير هنا أو هناك .. فوافق علي الفور .. كنت أحضر باكراً وأبقي في الإنتظار لحين مغادرة والدها وشقيقها فتدخلني والدتها إلي الصالة الرئيسية بالمنزل حيث تقدم لي كوباً من الشاي ومن ثمّ أذهب للسوق وبيدي قائمة من الطلبات لا سيما وأن الطبيب قد قرر لها نظاماً غذائياً صارماً .. وكانت ضمن القائمة بالطبع الصحف والمجلات النسائية ولدي ساعة الإفطار تهبط سحر من غرفتها وقريباً من خزانة الأسطوانات والأشرطة تتناول قارورة عطر مهملة تنضح منها شيئاً تحت أذنيها وذقنها وهي تردد نفس الجملة ( ريحة عصام دي بتكمل متين ؟ ) .. وكنت أجدها رائعةً وجميلةً بالرغم من آثار النعاس التي تبدو عليها .. وكانت تنتابني في بعض الأوقات أحاسيس فوارة كالبراكين خاصة عندما نجلس ثلاثتنا أنا وهي ووالدتها نتفرج علي أفلام ( الفيديو ) .. وما أن يبدأ الفلم حتي تتثاءب والدتها وتستأذن منا في أخذ قسط من الراحة فنواصل أنا وهي متابعة الفلم وعندما يدور حديث عن الإخلاص والوفاء بالوعد والغدر والخيانة تحاصرني بالأسئلة الصعبة حول المضامين التي حاول الفلم تقديمها ....
عبدالغني خلف الله
12-10-2010, 08:42 AM
أخطر الطبيب آنسة سحر بأنها علي ما يرام وأن الأعراض التي تشعر بها تعود بشكل أساسي للإرهاق والتوتر وعليها أن تخلد للراحة لمدة أسبوعين علي الأقل .. تقبلت ذلك علي مضض وهي التي تعودت علي التنقل والتسفار من بلد إلي آخر وزاد علي ذلك بان قال لها .. عليك بالكف عن الطيران لمدة لا تقل عن شهر .. كنت سعيداً بهذه النصيحة فقد أراحني أنها لن تكون مضطرةً للسفر بكل ما ينطوي عليه من مخاطر .. كنت أعبر عن شعوري بتلقائيةٍ وبسفورٍ شديد .. حدقت في وجهي ملياً وقالت ( إنت إنسان غريب جداً يا حربي .. تخاف عليّ أكثر من والدي وشقيقي ..) .. وكيف لا أخاف عليك وأنا أراك تتنقلين من مطار إلي مطار ..؟ همست في عينيها .. وعندما تعودين أشعر بسعادة عظيمة سرعان ما تنقضي عندما تعاودين الترحال من جديد .. أنا .. أنا .. وكنت علي وشك أن أقول .. أنا أحبك يا سحر .. بيد أن الحروف تعثرت فوق شفاهي وآثرت ألآ تخرج .. أنت ماذا يا حربي ؟ أرجوك أكمل .. أنا لا أعرف كيف أفسر لك حقيقة مشاعري نحوك .. أنت عزيزة علي نفسي يا سحر .. لو تعلمين مقدار معزتك عندي منذ أول يوم جئت فيه لورشة المعلم ( سلمان الفاضي ) لما سألتني هذا السؤال وبكل ظلال الشك والريبة التي تطل من عينيك .. أنا لا أشك بك يا حربي ولكنني عشت تجارب مريرة مع البشر .. قسم منهم من أهلي وآخرون جمعتني بهم ظروف العمل وقليل منهم التقيته صدفةً .. ولا أريدك أن تكون كهؤلاء .. أريدك كما أنت وبطبيعتك الطيبة والعفوية هذه .. ولا أريدك أن تخلط الأمور مع بعضها البعض .. لقد أصبحت كواحد من أفراد العائلة .. تأكل معنا في طبق واحد وتجلس معنا نتفرج علي التلفزيون .. عاوزاك تكون زي ما إنت .. وإذا عصام أخوي ضايقك بحاجه كده ولّه كده .. سيبك منو .. وعاين لي أنا ولأبوي وأمي .. لأننا كلنا بنعزّك وبنحبك زي ما إنت بتعزّنا .. أفهم الكلام ده كويس يا صالح لأني ما حأقولو ليك تاني .. واضح ؟ ..واضح , والآن بعد هذه المحاضرة القيمة يا فتي .. ماذا فهمت من كلام الآنسة سحر ؟ لماذا بنعزك وبنحبك وليس بعزك وبحبك ؟ الآن بدأت تفهم .. إن ما تشعر به سحر نحوك لا يعدو عن كونه عطف وتقدير وليس حباً كما تتوهم .. نعم نعم لقد فهمت .. ولكن ما حدث في الأيام التي تلت ذلك الحوار قلب أوضاعي رأساً علي عقب .. فقد طلبت من والدها أن أتفرغ لهم بالمنزل طيلة فترة راحتها المرضية لأتحرك بعربتها إذا ما احتاجوا لمشاوير هنا أو هناك .. فوافق علي الفور .. كنت أحضر باكراً وأبقي في الإنتظار لحين مغادرة والدها وشقيقها فتدخلني والدتها إلي الصالة الرئيسية بالمنزل حيث تقدم لي كوباً من الشاي ومن ثمّ أذهب للسوق وبيدي قائمة من الطلبات لا سيما وأن الطبيب قد قرر لها نظاماً غذائياً صارماً .. وكانت ضمن القائمة بالطبع الصحف والمجلات النسائية ولدي ساعة الإفطار تهبط سحر من غرفتها وقريباً من خزانة الأسطوانات والأشرطة تتناول قارورة عطر مهملة تنضح منها شيئاً تحت أذنيها وذقنها وهي تردد نفس الجملة ( ريحة عصام دي بتكمل متين ؟ ) .. وكنت أجدها رائعةً وجميلةً بالرغم من آثار النعاس التي تبدو عليها .. وكانت تنتابني في بعض الأوقات أحاسيس فوارة كالبراكين خاصة عندما نجلس ثلاثتنا أنا وهي ووالدتها نتفرج علي أفلام ( الفيديو ) .. وما أن يبدأ الفلم حتي تتثاءب والدتها وتستأذن منا في أخذ قسط من الراحة فنواصل أنا وهي متابعة الفلم وعندما يدور حديث عن الإخلاص والوفاء بالوعد والغدر والخيانة تحاصرني بالأسئلة الصعبة حول المضامين التي حاول الفلم تقديمها ....
عبدالغني خلف الله
12-10-2010, 08:46 AM
ويبدوان هذا العالم الصغير يسمح أحياناً للمواقيت الغائبة بان تصبح حقيقة .. فقد قرع أحدهم جرس الباب وكان بالمنزل المستر رتشارد وابنته و(شنكل) أو بالأحرى (رامى) وزوجته (سلمى) .. ركضت الصغيرة( لوسي ) نحو الباب وهى تصيح (أنا سأفتح الباب..) ووالدها يقول لها (كونى حذرة) وانظرى أولاً عبر العين السرية ولا تفتحى لشخص لا نعرفه .. عادت الصغيرة لوسيانا) أدراجها دون ان تفتح الباب وقالت لوالدها أن شخصاً ما ذو ملامح شرقية هو من قرع الجرس .. نهض المستر رتشارد وفتح الباب .. وسمع الجميع صوت رجل .. المستر رتشارد .. كيف حالكم أنا (وجدى ) .. لا اعتقد بانك نسيتنى .. لاطبعا .. تفضل بالجلوس .. دخل وجدى وسلم على (شنكل ) بمشاعر مضطربة وهو يكاد أن يسقط ..إنه ابنه .. لقد راقب جوليا عندما كانت بالسودان وهى تبحث عنه وكان يختبيء فى مكان ما بالمطار يراقبهم وهم يغادرون .. وقد حدثته نفسه بالأقتراب منهم .. ليقول لإبنه .. أنا أبوك .. ولكن .. لم يكن الوقت مناسباً .. لذلك جاء إلى نيويورك بعد أن استقال من المنظمة التى يراسها المستر رتشارد وتعمل بها بالطبع السيدة (جوليا) والتحق بمنظمة أغاثية أخرى أمرت بنقله للعمل بأمريكا ..وظل لأكثر من ثلاثة أشهر يقدم رجلاً ويؤخر اخرى قبل أن يقرر الحضور إلى هنا إذ لم يجد صعوبة فى الحصول على العنوان .. فهو أيضاً ضائع ومأزوم وقد أربكه عثور جوليا على إبنهما .. إسمى وجدى وأنا من الخرطوم وكنت أعمل زميلاً للسيدة والدتكم .. هرع المستر رتشارد للهاتف وأخبر (جوليا) بما يجرى فى المنزل وطلب منها أن تحضر فوراً .. طلبت (جوليا) من سلمى أن تأخذ ابنتها للحديقة الخلفية وتتركهم لوحدهم ..وبقي وجدى والمستر رتشارد وشنكل وقد إنضمت لهم بعد فترة وجيزة جوليا وأحس شنكل أن هذا الرجل يمثل بالنسبة له شيئا يجهل كنهه.. وشعر فى دخيلة نفسه بالرفض التام لمجرد النظر فى عينيه .. نعم ..زيارة لا نرحب بها .. أما إنك وقد فرضت نفسك علينا فما هو شكل الخدمة التى يفترض ان نقدمها لك .. قال لها وهو فى حالة يرثى لها من الضعف والهزال .. جئت لارى ابنى .. فاذا كنت أنت أمه فأنا أبوه ومن حقي ومن حقه أن يعلم من هو أبوه .. وإذا كنت قد قصرت عندما تخليت عنك في الماضي وعنه فانا هنا لاعتذر عن تقصيرى ولكم أن تقرروا أى شىء بخصوصى.. هنا تدخل المستر رتشاردقائلاً ماذا تعنى بكلمة (ابوه) ؟ ..هل تملك سنداً قانونياً يثبت أبوتك له .. لا .. لا أملك ولكن جوليا تعلم .. مستر رتشارد .. أرجوك .. جوليا تقاطعه بفظاظة ..عفواً مستر رتشارد .. هو إبنى ولا أملك سندا وأنت ياسيد رتشارد أيضاً لا تملك سنداً قانونياً يثبت أبوتك له وبامكانى أن أطعن أمام المحاكم الأمريكية فى صحة نسبه هذا .. أنا عايش وموجود ومستعد لأكفر عن أخطائى فاين المشكلة إذن ؟ هل تعترف بأنك قد إرتكبت جريمة زنا مع امرأة قاصر وبدون زواج وتطالب بثمرة علاقة محرمة لتدخل السجن وتقضى فيه خمسة أعوام..؟! لا طبعاً الأمر ليس بهذه الصورة .. هنا وقف شنكل على رجليه وقد إستبد به الغضب وصرخ فى وجهه .. كفى ياسيد ومن ثم تقدم نحوه ليقف وجدى .. وقف الأثنان وجها لوجه .. أنت لست ابى ولن تكون .. وأنا لا أتشرف بالإنتساب لشخص وضيع مخادع مثلك .. أنت تافه وحقير .. وقد إقتحمت علينا منزلنا دون إذن من أحد .. هيا أخرج من هنا ولو رأيت وجهك مرة أخرى أمامى ساهشمه بيدىّ هاتين .. لم يجد وجدى بداً من الإنسحاب وقد تحول (شنكل) إلي بركان يريد أن يدمر كل شىء أمامه .. لقد طاشت في ذهنه وهو يوجه السباب له صورة الاذلال والمهانة التى لقيها إبان حياة (المجارى) والتشرد .. وصور الإستغلال البشع التى تعرض لها .. قلت لك وأكرر أخرج من هنا حالاً قبل أن تندم على مجيئك إلى هنا.
عبدالغني خلف الله
13-10-2010, 08:21 PM
لم أشأ أن أذهب لسحر وأنا خالي الوفاض لذلك طلبت من الست الوالدة ان تعد لها حساءاً من الخضر وشيئآ من ( النشاء) المصنوعة من مسحوق الذرة مع (العرديب) .. وتفننت الوالدة المتخصصة في صنع الأكل الطيب في إخراجها بشكل رائع .. حملت أشيائي وتوجهت إلى الفردوس الممنوع وأميرة تشوقاتي ( سحر ) .. قرعت الباب فإذا بي وجهاً لوجه مع شقيقها عصام .. صباح الخير أستاذ عصام .. الوالدة طبخت بعض الطعام للأستاذة سحر ورجتني أن أحمله لها .. سحر ؟!! .. سحر تأكل مثل هذه الخزعبلات يا حربي .. إنها أختي وأنا أعرفها جيداً .. إذا كانت سحر تعاف حتى ماء ( الحنفية ) فكيف تستسيغ أي أكل لا تعرف نوع اللحم الذي صنع منه .. أنها لحمة ضاني .. والله العظيم .. ويجوز يكون لحم قطط أو فئران أو شيء من هذا القبيل .. وبينما نحن نتجادل أطلت ( سحر ) من نافذتها وهي تقول له ( ده منو يا عصام .. أهلاً حربي .. اتفضل أدخل ..) هنا أفسح لي شقيقها الطريق وتوجه نحو عربته وهو يردد كلام مثل ( البت دي جنت ؟! أكيد جنت .. انا ماعارف كيف بتستحمل الاشكال دي ..) ابتلعت اهانته وركضت صوب الصالة وكانت هي قد نزلت من غرفتها .. ياه .. ده كلو لي انا ؟! .. انت تستاهلي كل خير يا استا .. يا سحر .. يالله من أين نبدأ ؟!.. بهذه السرعة ؟!.. في الحقيقة انا مضطر اسيبك عشان ألحق انتخابات النقابة وحتفوز يا صالح ؟!.. ان شاء الله .. دعواتك .. ان شاء الله يارب .
وصلت متأخرآ لاجتماع الجمعية العمومية وكان هنالك حشد هائل من الناس وقد برز اسمي ضمن قائمة المرشحين .. صالح عويضة الملقب بحربي .. وكان ترتيبي العاشر ويتعين على كل مرشح القاء خطبة قصيرة يوضح فيها برنامجه الانتخابي .. لم أكن خطيباً مفوهاً ولا مثقفاً ضليعاً في فنون الخطابة .. وقفت امام ذلك الحشد الذي آزرني بالتصفيق الشديد .. قلت لهم .. لا استطيع ان اعدكم بحلول سحرية لمشاكل العمال والموظفين .. لكنني اعدكم بأنني مستعد لأن اموت في سبيل تحقيق مطالبكم وطموحاتكم في العيش الكريم .. وقاطعتني الجموع الحاضرة بتصفيق حاد .. وزدت بأن قلت .. صدقوني يا اخواني ويا اخواتي .. لن اساوم على حقوقكم حتى لو اعطوني كل كنوز الدنيا .. والسلام عليكم .. ثلاث جمل لا أكثر ولكن ردة الفعل كانت توحي بأنني سأكون ضمن الخمسة الفائزين بمقاعد النقابة وقد جاء ترشيحي تحت مسمى ( مستقلين) .. مع وجود مرشحين لاحزاب عقائدية واخرى طائفية .. ومن ثمّ جرت الانتخابات .. ولم تعلن النتيجة إلا قبيل صلاة المغرب .. حيث نلت أكبر نسبة من الاصوات .. (750) صوت من اصل ثلاثة آلاف صوت . وعلى الفور دخلنا في اجتماع مغلق لاختيار الرئيس والسكرتير وأمين الخزينة .. وكان التباين واضحاً لدى المنتخبين حول من سيكون رئيس النقابة ويكتسب هذا المنصب اهميته من ان الشخص الذي سيفوز به سيصعد تلقائياً للنقابة المركزية للوزارة لذلك إستعّر الخلاف بين الاربعة الموجودين بالاجتماع وعندما فشلوا في الاتفاق على ملء المنصب اقترح احدهم اسناده لي .. الاخ حربي يا اخوانا شخص مستقل ومقبول لدى القاعدة ونال أكثر الاصوات .. وهكذا تم انتخابي كرئيس للنقابة وهو اختيار ستترتب عليه اشياء بعضها مفرح والآخر محزن .. أولاً .. ما يسعدني هو انني ساحظى بمكتب مثل بقية الموظفين وميزانية وسأكون حاضراً في اجتماعات رؤوساء الادارات والاقسام وسوف ادعى لاجتماع النقابة العامة برئاسة الوزارة لدى التئام النقابة العامة وبمجرد اكتمال انتخاب النقابات الفرعية .. وتلك قصة أخرى .. ثانياً وما يحزنني ويحّز في نفسي هو انني لن اكون بعد اليوم السائق الخاص للسيد المدير وسأحرم تقريباً من رؤية سحر كل يوم .. لذلك خرجت من الاجتماع وانا مهموم البال لا انا قادر على الفرح ولا انا قادر على الإنغماس في الحزن .. وفي ثاني يوم قلت لـ(سحر ) وانا ازف لها نبأ فوزي في الانتخابات وتعييني رئيساً للنقابة .. انا حزين وتعيس لانني لن اكون معكم طول الوقت كما كنت في السابق .. ولكنني مستعد لأي مشاوير في الامسيات .. وحتى اثناء ساعات العمل واعطيتها رقم هاتف البقالة القريبة من منزلنا .. كانت سعيدة ومتوثبة بعكس ما توقعت .. مبروك يا صالح ومزيد من التقدم .. قالت لي ذلك وعيناها تشرقان بالدموع .. بيد ان الدموع طفرت من عينيها الرائعتين لتستقر عند زوايا فمها .. هل تبكين يا سحر ؟! دموع الفرح يا صالح .. يالله شد حيلك وورينا صالح الحقيقي .. صالح الزعيم .. مش بقولوا عليك كده في الورشة .. نعم .. نعم يا سحر .. يا مليكة اشواقي وأميرة احلامي .
****
محمد ذيب سليمان
13-10-2010, 11:11 PM
غبت كثيرا لأسباب
سأعود بتعليق يليق
ولكن بعد الإستمتاع بكامل ما مضى من النص
لك الحب
عبدالغني خلف الله
14-10-2010, 07:13 AM
وأنا أكثر سعادة أستاذي بعودتكم وتهمني ملاحظاتكم للاستفادة منها في أعمال قادمة بإذن الله هذا مع تحياتي لك وللاسرة الغالية .
عبدالغني خلف الله
14-10-2010, 07:14 AM
لم يستغرب السيد المدير دخولي عليه .. فهتف ليبارك لي انتخابي رئيساً للنقابة .. كل ناس البيت سعيدين بهذا الاختيار .. طبعاً يا عمي .. أنت المدير وأنا رئيس النقابة .. بإمكاننا أن نتآمر على حقوق الخلق إن شئنا .. ولكن كونك والد الآنسة (سحر) حبيبة عمري ومنتهى أحلامي لن يعفيك من شراستي .. صحيح أنت من أتى بي إلى هنا .. وأنت في (الحسبة) تبقى والد أجمل زهرات حياتي .. القاتلة (سحر) .. نعم لقد قتلتني و(غلاوتك عندي) وأظنها ستمارس معي وظيفة السفاح مدى حياتي .. أليست الأشواق نوعاً من الذبح .. هي كذلك لو كنتم تعشقون .. أسألوني أنا .. أسألوا العبد لله صالح عويضة الملقب بـ(حربي ) أسألوه عن حدود الألم والسهر والمواجد .. أنا من سار حتى آخر نقطة في خارطة الصبابة .. ولم يتبق إلا أن اهوي إلى أعماق سحيقة ليس لها آخر .. إن شاء الله أكون عند حسن ظنك سيادة المدير .. بس لدي طلب بسيط أرجو أن توافق عليه .. المكتب يحتاج إلى كاتب يساعدنا في المكاتبات مع النقابة الأم ومع إدارات المصلحة المختلفة .. ويا ريت تنتدب لينا الآنسة (مها) من مكتب الباشكاتب مؤقتاً وتصدق لينا بآلة كاتبة وشوية أداوات مكتبية .. على عيني ورأسي يا صالح .)
قالت مها وهي تتبوأ مقعدها ( أوعك تفتكر يا حربي أني سكرتيرتك ..) قلت لها .. أنا لا أحلم ولن أحلم بأن تكون لي سكرتيره في يوم من الأيام .. وقد كنت صادقآ فيما أقول .. فانا حقيقة لا أسعي للشهرة والمجد .. ولا أروم سوي حياة بسيطة أجد فيها الوقت لنفسي ولوالدتي وشقيقاتي وأصدقائي .. وأحلم طبعاً بزوجة حلوه .. زوجه أنيقه .. وعند هذه النقطة تأملت مها بعمق .. كان لوجهها جمال غامض .. يختبيء خلف تقاطيع عادية ولكنها مريحة للنظر .. وهل ستبدأ في عشق مها أيضاً يا هذا ؟ ..( مها ) ..؟ لا والله لم أفكر بذلك قط ..لأن سحر تربعت علي عرش قلبي لا تترك بوصة واحدة لأخري .. ولكنك ستجد لها دون شك حيزاً في وجدانك .. فأنا أفهمك جيداً .. لا لن أجد .. بل ستجد .. يجب أن أعترف بأنها حلوة علي كل حال .. وإعجابي بها بلا عنوان .. بلا هوية لحين إشعار آخر .. ربما يتطور هذا الإعجاب إلي حب .. ربما ..( تاني تلقي الملح وين ؟ ) .. مها وهي تشير بالطبع إلي عربة السيد المدير التي كنت أعمل بها كسائق قبل انتخابي رئيسآ للنقابه .. لا إطمئني يا قمري فأنا والحمد لله أملك عربة ملاكي وقد حضرت بها للعمل هذا الصباح وقد حرصت علي تسليم العربة الحكومية بالتفصيل .. الإطار الإحتياطي والرافعة وحزمة المفاتيح وأشرطة تسجيل مختلفة هذا بالإضافة لبعض المساند والعطر المثبت فوق ( الطبلون ) وما إلي ذلك .. ولم أنس طبعآ توديع الحاجة زوجة السيد المدير وشقيقها الذي أعطاني درسآ في الوطنية ( نقابة شنو وعمال شنو ؟ .. هو انتو شغالين لامن تعملوا ليكم نقابه ؟ .. تبيعوا في بنزين الحكومه وتشاركوا في المسيرات .. سامحك الله يا ( عصام ) .. فأنا مستعد لتحمل إهاناتك من أجل الرائعة سحر .. كانت حزينة وساهمة وهي تضع يدها فوق يدي دون أن تنبث ببنت شفه .. وكنا وحدنا تحت مظلة العربة قريبآ من البوابة الرئيسية .. حدقت في وجهي مليآ وكأنها تود الإفصاح باشياء لا تملك الجرأة علي البوح بها .. سوف تزورنا يا صالح .. أليس كذلك ؟ نعم وهل أستطيع غير ذلك .. وأنا مستعد لكل مشاويرك المسائية وتلفون الجيران وتلفون الكنتين معاك .. مش ؟ .. أيوه معاي .. طيب مع السلامه .. مع السلامه .
حملت قرارات الإجتماع الأول للنقابة للسيد المدير وكانت (مها) هى من طبعتها على الآلة الكاتبة .. وأضافت كلمة (حربى) للتوقيع .. قلت لها .. لا يا آنستى الجميلة .. (حربى) هذا لقب وإسمى الحقيقى هو صالح عويضة عبد السيد ..أهدتنى إبتسامة رقيقة وهى تسبل أجفانها فى حنان دافق.. تناولت منها المظروف وقد اعترانى اضطراب عظيم وتساءلت بينى وبين نفسى .. لماذا أنا ضعيف لهذا الحد أمام الجمال .. إسمى حربى وأنا فى أغلب الأحوال شجاع ومتهور أقود شاحنة وقود مشتعلة وأضعف كاى طفل أمام الجمال
عبدالغني خلف الله
15-10-2010, 08:38 PM
أهلاً وسهلاً بالنقابى الكبير صالح .. كان ذاك هو السيد المدير وقد التقانى بفرح غامر ظنا منه بأننى ساكون ذراعه الأيمن فى الحفاظ على هد وء العاملين .. بالمصلحة بالنظر لعلاقتى السابقة به كسائق متفرغ .. حدثنى حديث العارف بالمصلحة وتاريخها وعرج على أول مدير لها .. المستر قريفس هو أول خواجة تقلد منصب مدير لهذه المصلحة .. كنت وقتها مساعد كاتب عندما أتى إلى هنا في بداية الخمسينات .. وقفنا في شكل طابور وهو يسلم علينا فردا فردا .. يتفحص وجوهنا كقائد فى الميدان .. مااسمك من فضلك ؟ الخواجة وقد وقف قبالتى .. عز الدين .. اسمى عزالدين ياسيدى هل تقبل بان تكون أحد العاملين بمكتبى .. الاحظ أن انجليزيتك لا بأس بها .. على الرحب والسعة سيدى .. وقص على نصف دستة من مواقفه مع المستر قريفس والانجليز عامة .. ومن ثمّ عرج على الكورسات التى تلقاها فى كل من نيويورك وبوسطن ودلهى .. نحن جيل محظوظ .. قال لى وهو يواصل حكاياته فى زمننا التدريب خارج البلاد متاح للجميع والحكومة تنفق بسخاء على البعثات ولعل هذا ما يفسر المقولة المشهورة ان الانجليز لم يتركوا لنا شيئا يذكر باستثناء مشرو ع الجزيرة بيد انهم تركوا لنا خدمة مدنية ممتازة .. كان يتكلم وأنا أستمع وتركته ينزف كل ما بدواخله وأخيراً فطن إلى أننى هنا كرئيس للنقابة وليس كصديق قديم .. والآن كيف أساعدكم .. قلت له أنا سعيد بالعمل فى النقابة تحت إمرة مدير فى قامة سيادتكم ولكننا فى أول اجتماع للنقابة .. تداولنا فى نقطتين رئيسيتين .. أولاهما متاخرات بدل المامورية وتعويضات أسر العمال الذين إنقلبت بهم الشاحنة وهم فى طريقهم لاداء واجباتهم وكما يعلم سيادتكم فقد توفى منهم خمسة وجرح الخمسة الباقون وحتى اليوم لا نلمس دعما ملحوظا من قبل الدولة لأسرالجرحى والمتوفين ..لا يا صالح .. قال ذلك وقد بدأ عليه التوتر.. أرسلنا جوال سكر وصفيحة زيت وثلاثة كراتين من الصابون لكل بيت عزاء وسلمنا أسر الجرحى مبلغا لابأس به من المال .. لقد زرتهم بنفسى فى المستشفى وقمت بواجب العزاء حتى لاولئك الذين خارج الخرطوم .. نعم سيادتكم هذا عمل جيد ولكنه ليس بكاف .. وقد طلب منى الأخوة فى النقابة بتسليمكم هذه المذكرة التى تطالب بدفع متأخرات بدل المامورية وتسليم كل أسرة المبالغ الموضحة أمام كل جريح ومتوفّ فى خلال أسبوع والا فإنهم سيدخلون فى اضراب مفتوح عن العمل .. سلمته المذكرة وغادرته بسرعة وهو يردد كلمة .. لكن .. لكن ..
صار الآن عندى مكتب .. ولدى تسلمى العهدة من أمين المخزن طلب منى التوقيع على المستندات .. وكانت هذه أول عقبة أتوقف عندها كرئيس للنقابة .. فانا لاأعرف كيف أوقع .. لذلك كتبت اسمى بخط ( تعبان ) بيد أن أمين الخزينة أعاد لى الاوراق مرة أخرى طالبا منى التوقيع وليس مجرد كتابة الإسم فقلت له بصراحة ليس لدى توقيع ولم أوقع على أى أوراق من أى نوع .. وعندما اشتريت عربتى بصمت على التوثيق .. قال لى مارأيك بهذا التوقيع ومن ثمّ رسم لى أشكالآ فوق اسمى .. قلت له .. والله مش بطال .. إذن ساترك لك الأوراق وحاول أن تقلده عشرات المرات إلى أن تتعود عليه .. وكعادتى أخذت الموضوع مأخذ الجد الى أن تطابق توقيعى مع الأصل مائة بالمائة .. وجاء الساعى الذى يعمل بمكتب النقابة لتنظيفه وساعدته فى ذلك .. ولكنه كان مستغربا من تصرفى هذا .. (هدومك نظيفة ياجنابو.. بتتوسخ ) ..جنابو ؟!.. هل صرت أخيرا ضابطا فى الجيش .. كان حلم والدى أن أدخل العسكرية مثله وقد أخبرتنى والدتى بذلك .. بيد أنه استشهد فى نقطة نائية إسمها (واسكيبح) بجنوب البلاد ولم يعد يتذكره أحد .. لم تعزف له الأناشيد ولم تبن لأجله المظلات فى مواقف المواصلات .. ولم تكرمه قبيلته .. كان يعلم بأن العسكرية إما قاتل او مقتول لذلك لم ينتبه لموته أحد .. ولكن رقم999 الفرقة الخامسة مشاه الرقيب أول عويضة لايزال موجودآ فى ذاكرة الحكومة .. فأنا أقوم بصرف معاشه كل شهر .
صحيح أنه لا يساوى شيئا أمام متطلبات المعيشة ولكننا منحنا قطعة ارض ووالدى سيدخل الجنة إن شاء الله .. إذن مافيش مشكلة .. لكننى كنت أتمنى لوكنت موجودا عندما دفنوه فى واسكيبح بجنوب السودان لأشاهد بنفسى مراسم الدفن وموسيقى الجيش تعزف له و زملاؤه يؤدون أمامه التحية العسكرية من أصغر عسكري حتى أكبر ضابط.
سأخرج من المكتب لأدعك تعمل براحتك .. قلت لي إسمك منو ؟! .. عطية .. يا جنابو .. عطية .. ستكون معي دائماً يا عطية .. سأعجبك كثيراً يا جنابو .. فأنا أعرف أحسن( زول بعمل فول في البلد .. فول أصلي .. فول السليم ما سمعت بيه ..؟ نعم .. نعم .. وكمان بعرف اظبطوا بالسلطات والملطات .. ) فول ؟! .. هل تمحورت مشاكل العمال في ( صحن فول ) .. أين الرواتب والسكن وأين العلاج بل أين فوائد ما بعد الخدمة ؟!.
عبدالغني خلف الله
24-10-2010, 11:59 AM
وعدت للمكتب لاجد بطة ومها وجها لوجه .. ويبدو أن بطة هذه لا تريد ان تتركنى وشأنى .. لقد سئمت خياناتك ونقضك للعهود .. ولكن .. من أين لك هذا الاشراق والجمال يا بطة .. لكأنك إنسان آخر التقيه لأول مرة .. سلمت عليها وأنا أقدمها لمها على أساس أنها (بت اهلنا) قارنت بين كلتيهما ووجدت الفارق الكبير فى المظهر والجوهر .. الأسورة الذهبية الرهيبة مقابل اليد الفارغة إلا من سوار مصنوع من ذنب الحصان .. وحقيبة اليد الفاخرة والساعة المذهبة والثوب السويسرى مقابل حقيبة مها المثقوبة وساعتها (الكوارتز) وهندامها المتواضع .. ونظرت إلى الحذا ء اللامع الذى استقر على قدميها المصقولتين مقابل الحذاء القديم والغبار يلون قدميها الصغيرتين..(عن اذنكم) مها وهى تغادر المكتب .. أهلاً بطة كيف حالك .. حالى لا تسر (وتحنن الكافر) خير ان شاء الله .. أنا تعيسة فى زواجى وتمنيت لو لم أقبل به .. وبالرغم من تضحيتى بالزواج منه إلا أن إبنته الكبرى بلقيس أحالت حياتى إلى جحيم .. إبنته الكبرى ؟ قاطعتها بإستغراب .. نعم وقد لا تصدق إذا قلت لك إنه شيخ فى السبعين من العمر.. وهو غنى ومهذب .. وهل تزوجته من دون حب يا بطة ؟ وكيف احبه وانا أحبك أنت يا حربى .. انت تعلم دون غيرك انك حبى الأول والأخير .. فكيف أحب مرتين .. قالت ذلك وقد بدأ الإنفعال يسيطر عليها .. وتدحرجت دموعها ببطء فوق وجنتيها الرائعتين..ولكنك ذبحت الحب الذى تتحدثين عنه أكثر من مرة ..خذلتنى مرتين يا بطة .. وفى كل مرة احمل أحلامى واشواقى وأنا أكاد اطير من اللهفة لأخطبك شريكة لحياتى أفاجأ بك وأنت تتزوجين من شخص غيرى .. أنا أحبك أنت ولا أحد غيرك .. أقسم بالله العظيم لم أفكر يوماً بأحد سواك وقد حاولت الإنتحار بسببك .. ولكننى أعيش هاجس الحياة المذّلة التى عشتها قبل أن القاك .. وقد كنت دائما بالنسبة لى غير مضمون .. أعترف بأننى لم أثق بك يوماً وفى كل مرة تاتى وتكذب شكوكى وتبرهن على نبلك وأخلاقك أما أنا .. فقد كنت أعض بنان الندم فى كل مرة وأجلد نفسى بقسوة لتسرعى .. لقد عشت فى أحضان الفقر أنا ودستة من شقيقاتى وأشقائى .. لذلك تجدنى أتشبث بكل يد تمتد نحوى .. والآن ماهو الطلوب منى يابطة ؟.. لقد وعدتنى ( بلقيس ) .. بمبلغ كبير من المال إذا أنا أجبرت والدها على تطليقى .. إنه يحبنى وهو مستعد لفعل أى شئ أطلبه منه .. ولكن هذه العقرب تسمم حياتى .. فماذا أفعل يا حربى ؟ أفعلى ما يمليه عليك الشرع والضمير .. لقد إنتهى الأمر.. ولو أنت بعت زوجك الثاني من أجل المال فلن يكون لك مكان فى قلبى .. لا أستطيع يا بطة ..لا أستطيع أن أحبك مرة أخرى بهذه البساطة وأنت تتلاعبين بمشاعر الناس بهذه الطريقة .. يعنى ما فى أمل ؟ خلينا نكون أصدقاء وأهل .. و اجتهدى يا بطة فى خدمة زوجك ..فربما تنجبين له ولد يؤمن مستقبلك ويمنحه السعادة .
أجد متعة في توصيل مها إلى منزلهم .. كنت اراقب نظرات المارة وهم يبحلقون فيها .. انا نفسي كنت افعل نفس الشيء مع آخرين .. تستهويني لمحة عابرة اقطفها من وسامة تلكم الجميلات وهن يجلسن بقرب اناس اعتبرهم محظوظين .. اشعر باحساس غريب عندما اقرأ علامات الرضا وربما الضحكات تلون تلك الوجوه الناعمة .. واحياناً اكون قريباً جداً من أولئك .. لا سيما لدى تقاطعات الطرق .. اذ يكون المرء قريباً جداً من هؤلاء القوم .. وتدور عجلة الايام فاذا بي اغادر موقعي في الحافلات لتكون لي عربة خاصة وتجلس بقربي فتاة جميلة .. يا لأناقتها المفرطة وابتساماتها الطفولية ومحياْها الجميل .. لم أكن اسمح لنفسي بالخوض في تفاصيل اعجابي بها .. ولكنها لابد ان تكون قد فهمت بانني مولع بها .. ولدي توقفي امام منزلهم لأول مرة .. وجدنا والدها وهو يهم بالدخول فعاد الرجل ليدعوني لتناول الغداء معهم .. حاولت الاعتذار وهمهمت بعبارات الشكر دون جدوى ..( علي الطلاق تدخل .. معقول تجينا وقت الغداء وما تتغدى) والدها وهو يبرهن على جدية كرمه ومعدنه الاصيل .. دلفنا إلى الداخل .. كان منزلاً متواضعاً يشبه منزلنا إلى حد بعيد .. غرفة تفتح على فرندة واخرى بالاتجاه المعاكس ..وغرفة جثمت غير بعيدة فى زاية الدار(كمضّيفة ) .. ولم امكث سوى لحظات حتى اطلت علينا والدتها بسمتها الريفى الاصيل ..( إزيك ياوليدي ..كيف هالك .. شرفتنا )
وجلست إلى والد مها وهو يعرفنى بنفسه الاستاذ عمر.. معلم لغة إنجليزية بالثانوي وقد تقاعدت عن الوظيفة قبل حوالى ستة اشهر ولا أزال اركض بين مكاتب الدولة لاستلام استحقاقاتي من فوائد مابعد الخدمة وهل انت بالمعاش يا عم عمر ؟ ( انت هسع مااقوى مننا ..) نعم يا ابنى .. بمجرد ما صار عمرى خمس وخمسين سنة وخمس ساعات وصلنى خطاب الإحالة وكأنهم يعدون الساعات والدقائق إنتظارا لتلك اللحظة .
وعلمت منه أنه عمل بمدارس عديدة وتنقل فى جميع محافظات السودان .. ولكن ما ادهشنى فعلا توقفه .. لدى (اكسفورد) اكسفورد دى ياابنى مدينة جميلة .. هى بمثابة (البندقية) بالنسبة لانجلترا ترقد فى أحضان الطبيعة بالريف الانجليزى الخلاب .. وبما أننا من الشمالية وكنت من صغرى اجيد فن العوم .. فقد وجدت الفرصة سانحة للاشتراك فى فريق السباحة بالكلية التى ادرس فيها .. وكان يوما حافلا إستعد له جميع طلاب الجامعة .. وقد اصطفوا على طول ضفّتى النهر يتابعون سباحة المسافات الطويلة الذى يقام كل عام .. ومضى ليقول أنه كان الأول على المتسابقين .. كنت اضرب الموجة بقوة .. وأستخدم أساليب فى العوم لم يسمع بها المتسابقون ..) ولدى تسلمى الجائزة فؤجئت بمقدمها يقول (الفائز بجائزة (دنقلا) هذا العام هو الطالب عمر ابراهيم من السودان دنقلا ؟.. ياربى دي دنقلا الليلتنا وله دنقلة تانية **************** **********؟؟..إنها هى يا إستاذ وترمز الجائزة الى تكريم تلك البعثة النيلية التى أبحرت باتجاه الخرطوم لإنقاذ (غردون باشا) بيد أنها عادت أدراجها لما علمت بأن غردون قد قتل .
وهكذا أمضيت وقتا جميلا مع والد مها وهو ينقلنى من مدينة الى مدينة ومن بلد الى بلد .. وقد انضم الينا لاحقا إبنه الاكبرالذى يدرس الهندسة بجامعة الخرطوم وآخر يد رس الصيدلة بنفس الجامعة .. والبنت الكبيرة متزوجة وتعيش مع زوجها بالخليج .. بنتان وولدان .. هذا نتيجة لتأثرنا بالخواجات .. قالو لنا إن الانجاب الكثير يضر بصحة الأم وليتنى لم استمع لنصيحتهم .
ولكن من أي بلد أنت يا ( مها ) .. نحن من الشماليه .. لكن أسرتنا مقيمه في أم درمان من كذا سنه .. هذه الهجرات إلي متي ؟ .. هل رأيت وجوه الناس الذين يتجولون في شوارع الخرطوم .. كيف تقرأ ملامحها وتعابيرها ؟ أقرأ في كل وجه حنينآ طاغيآ إلي جذوره .. أقرأ رفضآ يائسآ لواقع معيشتهم هنا .. وألاحظ الإحساس المفرط بالوحدة والاغتراب بل والإنفصال عن محيطهم .. هذه السيدة ذات الملامح الكردفانية .. ماذا تفعل في شوارع الخرطوم ؟ من المؤكد أنها تشعر بالضياع والغربة في هذا البلد حتي وإن التحقت بأبنائها هنا .. إن مكانها هنالك في سفوح كردفان وتلك في حقول الجزيرة وهذه في شواطيء الشمالية أما هذه فمكانها غابات الجنوب بين شجيرات الباباي وهاتان السيدتان لابد أنهما من الشرق الرائع من جبال التاكا .. لا شيء يعوضهما لذاذات ماضيهما هناك .. لا شيء يعوض طفولة رائعة وأزمانآ حلوه قلّ أن يجود الزمان بمثلها .. السباحة في النهر والركض بين المروج الخضراء والغناء الجميل ونسيمات المساء المسافرة مع الغيوم .. إذن أنتم من الشمالية ؟ هل هي حلوه ؟ من ؟ .. الشماليه .. لا أدري فأنا ولدت هنا ولم أذهب قط إلي البلد .. كل حدود أسفاري لا تتعدي سوبا شمالآ والجيلي جنوبآ .. ولكن سوبا باتجاه الجزيرة وليس الشماليه .. ما كلو واحد .. هو أنا عارفه حاجه .. تجهلين حتي بوصلة جذورك يا مها .. حيث شهقة الميلاد ومثوي الآباء والجدود وتتسربلين بسيماء الخرطوم وكأنك عاصمية بحق وحقيقه .
عبدالغني خلف الله
25-10-2010, 04:35 PM
الحلقة الثامنة والثلاثون
اعتقدت للوهلة الاولى ان الموضوع تمثيل في تمثيل كما يقولون .. ولكن صديقي (كافو) أدمن زيارة العم صباحي .. لم يصدق ان شخصاً ما ينظر إليه بوصفه ابنه .. ويبدو ان العامل النفسي يطغي على المسألة برمتها .. كان يحمل السندوتشات ويستأذن مني لأخذها لوالده بالمصلحة (والده) .. يقولها من اعماق ذاته .. وكان العم صباحي سعيد بهذا الاهتمام المفاجئ .. لقد وجد اخيراً من يعطف عليه ويؤانسه في وحدته .. كانا يمضيان اوقاتاً رائعة مع بعضهما البعض وكنت اشاركهما جلساتهما تلك كلما سنحت لي الفرصة .. فالعم صباحي يعزف (الربابة) بشكل مؤثر .. يحتلب الانغمام المفعمة بالشجن ويغني بصوته الضخم ( انتلي أوو اتنلي .. تملالي ..ما تملالي .. لعلها (رطانة) الهوسة أو شئ من هذا القبيل .. وكانت دندناته تطير بعيداً توشح النجيمات الساطعات في كبد السماء .. ومعها تطير اشواقه إلى ذاك السفح البعيد .. إلى الزوجة والبنيات والصبيان الذين قتلوا على ايدي الجنود .. أشواق إلى عوالم لن تعود .. وعندما يتعب من الغناء يرتاح قليلاً وتبدأ الحكايات .. حكايات توقفت في حدود الذاكرة المجهدة عند ثلاثة أو اربعة مواقف يعيدها على مسامعنا في كل مرة .. كنت أهوى في شبابي صيد الفيلة .. وكنا نذهب ونحن نحمل اسلحتنا لصيدها والرعب يملأ قلوبنا .. ومن ثم ننصب شراكنا ونقوم بالحفر عميقاً في باطن الارض ثم نضع فوقها كومة من القش لنضلل الفيلة .. وكنا نكسب مالاً وفيراً من الاتجار بسن الفيل إلى ان جاء ذلك اليوم .. ابتعدت قليلاً عن رفاقي .. و اذا بي وجهاً لوجه أمام أسد غاضب .. وقفت وأنا ارتجف من الخوف .. وتخيلت في تلك اللحظة بقايا لحمي وعظامي وهي تتساقط من بين فكيه .. لكن الأسد كان يفتح فمه ويزأر دون أن يتحرك ولو خطوة واحده باتجاهي .. واتتني حفنة من الشجاعة فحاولت أن استنتج الحكمة من تردد ذاك الأسد في مهاجمتي وهو يعلم أنني لا احمل سوى عصاي لا أكثر .. قلت لنفسي .. لماذا لا تتقدم نحوه أنت يا صباحي لترى ردة فعله .. وهذا ما فعلته .. الأسد يفتح فمه ويزأر بشيء من الغضب وربما الألم .. الألم ؟!.. نعم الألم .. ترى ما به .. هيا خطوة أخرى يا صباحي .. وصدق حدسي فقد لمحت لدى اقترابي أكثر وأكثر منه عظمة كبيرة نصفها في فمه والنصف الآخر داخل حلقه .. إذن هيا يا صباحي .. ومسحت على رأسه قبل أن ادخل يدي داخل فمه وأقتلع العظمة بعد عدة محاولات .. رميت بها بعيداً وأنا لا زلت متخوفآ من خطوته القادمة ولشدة دهشتي إقترب الأسد مني يتمسح بجسمي ويرقّص ذنبه .. والتفت لأجد اللبوة وعدة اشبال صغار وقد قدموا على إثر صياح والدهم .. تراجعت قليلاً نحو الوراء وانا أعلم كم خطيرة هي اللبوة في الغابة.. ولكن الاسد قفز باتجاههم محذراً وزأر فيهم لينصرفوا .. وكان أن تبعني حتى حدود الغابة وقفل عائداً وهو يلتفت نحوي بين الفينة والفينة ويرقّص ذيله علامة الشكر والعرفان .
انفتح الجيران علينا بعد مضي وقت قصير سادته الشكوك والاوهام حول هوية القادمين الجدد للحي .. واصبح كل فرد منا محل ترحيب وتقدير .. شقيقتي نادية الممرضة القديرة والتي هي الآن رئيسة عنبر وخضعت لدورة متقدمة من التوليد تنتقل كالفراشة من دار إلى دار .. تطعن حقن الانسولين لمرضى السكر وتقيس ضغط الدم وتقدم الاسعافات الاولية لضحايا الحوادث المنزلية الصغيرة واحياناً تتوسط لدى الطبيب المختص لايجاد سرير بالعنابر المكتظة بالمرضى .. الجميع يبادلها الحب والاعزاز .. أما الست الوالدة .. فقد باشرت من جديد العمل في صناعة الخبز البلدي .. بالرغم من تحسن احوالنا المادية فأنت تشاهد عند الظهيرة طابوراً من الصبية والصبيان يدخلون ويغادرون المنزل وهم يحملون احتياجاتهم من الخبز الطيب الذي تصنعه إمرأة هي الطيبة بعينها .. أما كافولة فقد باع دكان الاسبيرات بعد أن وضعت الشرطة عينها عليه وسرعان ما تراصت امام منزلنا ارتال من العربات ( التعبانة ) .. عربات أهل الحي بعد أن اكتسب شهرة كبيرة لبراعته في صيانة العربات .. وكان عندما تستعصى عليه بعض المشكلات الميكانيكية يلجأ إليّ طالباً النصح والمشورة .. فأخرج بملابسي العادية واشير عليه بما يجب فعله لاسيما بالنسبة للموديلات الجديدة .. وكانت الحيرة ترتسم علي وجوه اصحاب العربات وهم يتابعون نصائحي وفعاليتها ويستغربون لكوني سائق تاكسي ليس إلا وهم طبعاً لا يعلمون شيئاً عن وضعي الجديد كرئيس نقابة بالمصلحة وعضو النقابة الأم بالوزارة ..
عبدالغني خلف الله
26-10-2010, 06:31 AM
الحلقة التاسعة والعشرون
... وها هي الحياة تسير في مسارها المعتاد الذيرسمه لها الخالق جلّ شأنه ... مناسبات حلوة وأخرى حزينة .. ولكن الناس باتوا أكثر ترابطاً بعد ان طحنتهم الظروف المعيشية .ومن تلك الاحداث السعيدة زيارة العم صباحي .. غفير المصلحة الذي منح اسمه لصديقي (كافولة) .. فقد زارنا ولأول مرة ومعه اثنان من عمال المصلحة وبعد أن طوف بنا في مغامراته الكثيرة وكان آخرها تلك المعركة الهائلة التي دارت بينه وبين تمساح عشاري عند ما كان يهم بالعوم حتى جزيرة صغيرة لجلب بعض الحشائش كعلف لبقراته التسع .. وقص علينا تفاصيل العراك الرهيب في عرض النهر وكيف انه اغتنم فرصة عراكه مع التمساح ليفقأ عينه اليمنى .. فأطلق التمساح خواراً مرعباً وهو يضرب بذيله الماء من شدة الغضب ويتباعد شيئاً فشيئاً عن ساحة المعركة .. أما أنا فقد عضني بأنيابه الحادة فوق كتفي الايمن .. قال لنا ذلك وهو يزحزح سكينته من على ذراعه ويدفع جلبابه إلى أعلى ليرينا مكان الجرح ... وبعد تناول الشربات والشاي افصح عن الغرض من زيارته لنا .. الحقيقة أنا طالب يد شقيقتك نادية لإبني مامون صباحي ويقصد بذلك ( كافو ) .. زواج ؟*! نادية من كافو ؟! وكيف لايخبرني أنا صديقه وأقرب الناس إليه .. انها الاصول يا حربي وطالما انني عثرت أخيراً على ( أبوي صباحي ) .. أردت أن ادخل البيوت من ابوابها .. قلت له .. اديني فرصة يا عم صباحي اشاور العروس .. وكان السكوت علامة الرضا .. وارسلت والدتي زغرودة مزقت السكون الكثيف الذي ران على الحي في تلك الساعة المتأخرة نوعاً ما من المساء
وكان أول شيء قمت به ثاني يوم الاتصال بسلمى وشنكل بأمريكا لانقل لهما الانباء السعيدة .. بكت شقيقتي سلمى في التلفون .. ولم تستطع إكمال المحادثة وحدثني شنكل انها تشعر بحنين شديد إلى الوطن ولكن الظروف لا تسمح بالمغادرة خاصة لا سيما بعد أن وافق علي عودتها للغناء وانهما مرتبطان بوعود لا تحصى بكل المدن الامريكية .. فقد وجدت الجالية السودانية والعربية هناك ضالتها في شقيقتي سلمى ... التي صارت المغنى رقم واحد في جميع مناسبات السودانيين والأشقاء العرب من اعراس وختان واعياد .. كانت تتجول بعربة زوجها شنكل الفورد ستيشن ومعهما عازفة اورقن امريكية بين شتى بقاع امريكا .. وجدوا في صوت سلمى الرخيم وادائها المهذب متكأ انيقاً يتوسدونه عندما تستبد بهم الاشواق إلى ثرى الوطن .. ومضت أيام انهمكنا خلالها في التحضير للزواج ولم تمض بضعة أيام حتى فؤجئنا بشريط كاسيت في البريد وصلني على عنواني بالمصلحة ولدى سماعنا له .. ارسلت سلمى تحاياها واهدت الاغنيات التي تضمنتها إلى العروس الغالية ( نادية ) .. ولم يصدق الحاضرون الموسيقى الراقية والتقنية العالية المستخدمة في التسجيل كبديل للطبل التقليدي .. طبعت منه عدة نسخ .. اهديت احداها للرائعة مها .. وحملت النسخة الثانية إلى منزل السيد المدير لأسلمه بنفسي إلى سحر .. كانت معنوياتي عالية وانا اقرع الجرس .. ردت عليّ امها واخبرتني ان ( سحر ) في سفرية إلى لندن وستعود غداً ... طلبت منها تسليمها الكاسيت ورجعت اجرجر اذيال الخيبة والأسف .
غادرت مكتب السيد المدير لأجد ( أفندياً ) يجلس في مكان ( مها ) .. سألته عن سبب وجوده هنا فقال لي ان الآنسة ( مها ) .. قدمت طلباً للباشكاتب تطلب منحها اجازتها السنوية .. هكذا فجأة .. ولماذا ؟ !! توجهت نحو مكتب الباشكاتب فوجدتها بين ثلة من زميلاتها وقد بدأ عليها الوجوم والتوتر .. وكانت احداهن توشوشها بكلام خاص .. سلمت عليهم واخذت منهن الاذن بالحديث إلى ( مها ) والغرض الظاهر هو سؤالها عن مصير بعض المكاتبات .. عدت بها إلى المكتب وقد لاذت بالصمت .. ولم ترد على اسئلتي حول مغزى طلبها الاجازة بدون مقدمات وعندما بتنا لوحدنا في المكتب انفجرت في وجهي ثائرة ناقمة بصورة افزعتني وافقدتني صوابي .. ومرت لحظات لم اصدق خلالها بأن من تتحدث إلي هي ( مها ) الخجولة الرقيقة التي تبكي عندما يفوتني السلام عليها عند دخولي المكتب صباح كل يوم .. الحمد لله اكتشفت أي نوع من الرجال انت .. ( ما الجواب يكفيك عنوانو .. ) والواحد بعرفوه من اصحابو .. قلت لها اهدئي وقولي كل ما يشغلك بوضوح شديد يا ( مها ) وانت تعرفين مقدار معزتك عندي .. ومن ثمّ علمت منها أنها تعرضت لأسوأ موقف تمر به منذ التحاقها بالعمل بدواوين الحكومة .. وكيف أن ( بطة ) دخلت عليها وبدون حتى ان تقول السلام عليكم و سألتها في استعلاء غريب ( ممكن تنادي لي الاستاذ حربي يا إنت ..) .. قالت لها بأني غير موجود ولا تعلم أين أكون .. وقصت علي كيف أنها جلست في غرور وصلف تبادلها النظرات الغريبة .. وتمصمص شفاهها بطريقة سوقية أقرب للمجون .. وبين كل لحظة و أخرى تكشف عن المصاغ الذهبية التي غطت ذراعيها وتمضغ ( اللبان ) وتفرقعه في وجهها .. لقد كرهت نفسي يا حربي .. وكدت أن اطردها من المكتب لولا انني خفت أن تكون احدى قريباتك لا سمح الله وها أنت تؤكد لي ذلك ..هل نسيت أنك قدمتها لي على اساس انها ( بت اهلكم .. يا خي مبروك عليك بت اهلك ..) * اعتذرت لها بشدة ورجوتها أن تسحب طلب الاجازة لأننا مقبلون على مرحلة حرجة ومواجهة محتومة مع الادارة بخصوص مشاكل ومستحقات العمال .. وهكذا اقتنعت بالعدول عن الاجازة وشيئاً فشيئاً عادت إلى طبيعتها .
عبدالغني خلف الله
27-10-2010, 06:59 AM
الحلقة الثلاثون
بلغني أن اهل الحي العشوائي قد استقر بهم المقام في المنطقة الجديدة التي انتقل إليها معظمهم .. وقد قال من نقل لي هذا الخبر .. الكل عاتب عليكم يا زعيم .. انهم يقولون كيف هانت عليكم العشرة الطويلة والجيرة والمحبة التي ربطت بينكم وبينهم .. ولم يجدوا تفسيراً واحداً سوى انكم صرتم اغنياء .. وان الثراء نزل عليكم فجأة وقد غير طباعكم وانساكم احبابكم .. هم قالوا مثل هذا الكلام ..؟ بل وأكثر من ذلك .
عدت للمنزل وانا حزين ومحبط لقسوة ظنونهم بنا وطلبت من والدتي وشقيقتي أن يجهزوا حالهم لأننا سنخرج في مشوار مهم .. ربنا يتم على خير وأعيش واشوف اولاد اولادك .. منو العروس يا صالح ..؟ شقيقتي وقد اعتقدت هي الأخرى اننا سنخرج في مشوار لتعارف يقود إلى خطوبة وربما (قولة خير) .. لقد ذهبتم أبعد مما قصدت .. لأننا سنقوم بزيارة لجيراننا بالحي القديم بعد أن استقروا في قطعة الارض الجديدة التي منحتها لهم الحكومة ..
كان مشواراً صعباً .. وقد وصلنا بعد اجتياز عقبات وعقبات .. صحيح ان المكان معزول وبعيد جداً عن المدينة لكنني لمحت عربات نقل ركاب تغادر الحي وأخرى تدخل إليه .. إذن هنالك مواصلات وتلك بادرة مشجعة ولا ريب.
لم أكن أعرف من أين أبدأ .. لكننا وبمجرد أن توغلنا قليلاً حتى صرخ أكثر من واحد .. الزعيم حربي .. (حوة قزاز) فكان لابد من ان نتوقف .. وتبادلنا السلام بالاحضان .. وطفرت دمعة هنا ودمعة هناك لاسيما من الوالدة المفعمة بالحنان .. هؤلاء هم صحبتها وأهلها وقد عاشت معهم الحلو والمر .. عاشت بينهم على سجيتها .. تخرج من هذا المنزل إلى ذاك .. لا استئذان ولا اجراس بالابواب ولا كلاب حراسة .. بيوت مشرعة على بعضها لا يفصل بينها شئ .. صدور مفتوحة تنضح حباً وجمالاً وقلوب صافية كالحليب .. وكان أن اخذونا إلى المنزل الوحيد الذي اكتمل تقريباً بصورة لائقة وهو منزل العم رضوان سيد الدكان .. ومن الغريب ان عم عبدو الفولاني فتح دكانه ايضاً هنا .. وكان عتاباً رقيقاً .. ملؤه الشوق والحنان .. ( والله ما غادرت المنزل .. لا كدي ولا كدي ) الوالدة وهي تعبر عن شعورها بالعزلة في الحي الجديد .. ( اصبري أتم ليك كلامي .. عاد ما طلقوا فينا جنس اشاعات .. جيران ؟! اجارك الله .. لكن برضوا فيهم الناس الكويسين .. لكن كل واحد أغلق منزله عليه ..) . الوالدة وهي تفصح عن معاناتها .. ( نعم .. نبني لينا منزل جواركم .. هو نحن لاقنكم ) .. واثناء وجودنا لمحت رتلاً من عربات الكارو تنقل المياه من على البعد حيث تنتهي حدود المدينة .. (لا موية ولا كهرباء ولا طبيب كل الكلام القالوه لينا طلع فشوش ..) مهلاً احبائي .. انا من صنع معاناتكم هذه .. لقد كنت اتفاوض باسمكم واقنعتكم بقبول الإزالة .. بيد انني كنت ضحية مثلكم .. كنت إنسانآ ساذجاً عندما صدقت بأن السلطات المحلية ستفجر الماء خلال أيام وستمد الاسلاك الكهربائية كما وعدت .. صبراً احبائي فأنا الآن في موقف يسمح لي بمراجعة أهل الشأن .. ألست رئيساً لنقابة عمالية .. فما فائدة النقابات إذن إن لم تدافع عن حقوق الناس .
فؤجئ الرجل عندما لمحني اقتحم مكتبه والشرر يتطاير من عينّي .. وعد الحر دين عليه يا جناب الضابط .. لقد اقسمت لنا عندما قابلناك آخر مرة موفدين من اهالي الحي العشوائي بأن الخدمات ستتم بأسرع فرصة ولا زلت عند وعدي يا حربي .. لقد سلمنا كل أسرة قطعة أرض وتنازلت الحكومة عن الرسوم ما عدا الرسوم المتعلقة بالخدمات الصحية والمياه والكهرباء .. هذه الملفات فيها كل المعلومات .. واستطيع أن اقول انه وبمجرد إجازة الميزانية سيكون كل شئ على مايرام .
عبدالغني خلف الله
28-10-2010, 08:40 AM
الحلقة الواحدة والثلاثون
عكفنا أنا و (مها) في استخراج بطاقات عضوية بالنقابة لجميع العمال والموظفين .. وقد أظهرت براعة في الرصد واستخراج المعلومات لا عهد لي بها طبعاً .. وقبل الانتهاء من العملية لمست يدي يدها صدفة فرمقني بنظرة هي مزيج من التوبيخ والعتاب.. لذلك قررت ان أحلق في أفق عينيها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً .. فعندما أسألها أتباطأ في السؤال وعندما تجيبني أتظاهر بعدم الفهم .. فيصيبها نوع من التململ اللطيف .. واحياناً توجه لي بعض العبارات التي لا يتم تبادلها إلا بين الاصدقاء …( يا خي حاول أفهم .. أنا ما عارفة الرماني في البلاوي دي شنو ؟!) وعندما ابدو وكأنني غضبت فعلاً من ملاحظاتها تغادر المكتب إلى البوفيه وتعود وبيدها كوب عصير تقدمه لي وهي توشوشني بهمس رقيق فيه شئ من الاعتذار .. وكنت استمتع بمشاكساتها تلك وأشعر انها تقربناً من بعضنا البعض أكثر فأكثر .. وقبل أن ننجز مهمتنا قالت لي ( شريط سلمي أختك رهيب .. عجبك ؟؟ طبعاً وكل صديقاتي نسخوا منه واليوم سمعته في مسجل الحافلة التي وصلت عليها للشغل .. معقول ؟! ).. سلمى الرائعة تستاهل كل خير .. وقد كانت خير معين لزوجها شنكل بعد ان عاد من المستشفى .. قالت لي عبر الهاتف .. لقد كان في حالة يرثى لها .. حاولت اقناعه بأن ليس كل من وضع بذرة في رحم إمرأة هو بالضرورة أب .. وإنما الاب هو الذي يربي ويسهر الليالي لمجرد اصابة طفله بنوبة برد خفيفة .. أما (جوليا) فقد اغلقت على نفسها الغرفة يوماً كاملاً .. لعلها كانت تراجع مشوارها مع ذاك الرجل الذي اصبح الآن بين يدي الله .. فهل ستحقد عليه وهو تحت التراب .. أما المستر رتشارد الذي وجد نفسه أباً لأكثر من فرد .. ابنته الرائعة (لوسيانا ) وشنكل ابنه بالتبني الذي يكن حباً عميقاً لاخته .. وكذلك سلمى التي كانت تناديه دائماً بكلمة (father) ولا تناديه باسمه وتجهد في ترتيب احتياجاته واحتياجات زوجته وابنته .. اها .. سرحت وين ؟ مها وقد اخرجتني من تأملاتي .. تعيسة وسيئة الحظ تلك التي استحوذت على تفكيرك .. قالت مها ذلك مازحة .. أبداً ؟؟ كنت أفكر في كلام سلمى .. اتصلت من نيويورك ؟! أيوه .. امبارح الساعة عشرة بالليل .. طيب خلينا في المفيد .. هنالك يا سيدي مائة وثلاثة وثلاثون عامل وموظف خارج السجل الوظيفي .. وكيف ذلك .. لأنهم ببساطة عمال وموظفون مؤقتون .. اتخيل ثلاثة سنين وهم بهذه الحالة .. اخذت الكشف وتوجهت إلى مكتب السيد المدير الذي قابلني ببرود شديد بعد الإنذار الذي أصدرته النقابة بالدخول في إضراب بنهاية الاسبوع .. قلت له .. لقد نجحت في إقناع الزملاء بمنحك فرصة شهر على شرط ان تقوم بتثبيت هذه القائمة في الوظائف .. ولكن هذا يتطلب وقتاً كبيراً شهر فقط يا سيادة المدير .. شهر فقط .
عادت بطة إلى احضان المعلم الكيك بعد ان فشلت في زواجها من ذلك الثري العجوز .. وقد قالت لي في آخر لقاء معها بأن كبرى بنات زوجها المطلقة والتي تقيم وابنتها ذات الثلاثة اعوام معهم في المنزل قد أحالت حياتها إلى جحيم لا يطاق وكيف انها تغتنم فرصة مغادرة والدها لمتجره فتذيقها صنوف العذاب .. كانت مثلاً ترمي فوق رأسها إمعاء الفراخ عندما تلمحها تمر تحت البلكونة اذ تقيم في الطابق الاول وتقيم بطة مع زوجها في الطابق الارضي .. تقوم برمي بقايا امعاء الفراخ فوق رأسها .. وكيف أنها في إحدى المرات دلقت الطعام فوق رأسها .. وكانت تتعمد قطع الكهرباء عنها عبر مفاتيح الكهرباء الموجودة في أعلى المنزل وعندما تحتج على تصرفاتها تلك تخبرها بأن الكهرباء مقطوعة أو انها لم ترها وهي تمر تحت البلكونة واحياناً تثور في وجهها وتصفها بالمخادعة والافعى و العقرب التي ضحكت على والدها وتزوجته من أجل ثروته ..
عبدالغني خلف الله
28-10-2010, 06:19 PM
الحلقة الثانية والثلاثون
نعم سيدي أنا ريمون رتشارد روبرتسون .. هل من خدمة اسديها لك ؟.. لدينا مريض في حالة صحية حرجة وقد اعطانا رقم هاتفك وهو يود رؤيتكم وآمل ألا أكون قد ازعجتكم بهذه المحادثة .. لا يا سيدي هل تعطيني عنوان المستشفى ورقم غرفة المريض .. بكل تأكيد .. هكذا انتهت تلكم المحادثة الغريبة .. وكانت سلمى تتابع كل ما يحدث وقد إتسعت عيناها استغراباً .. من كان معك على الخط ؟ .. إنه طبيب يقول أن شخصاً ما يود مقابلتي وهو مريض جداً .. سآتي معك .. لا داعي يا سلمى فأنت مجهدة من رحلة البارحة إلى سان فرانسيسكو وسأتدبر الأمر .
انطلق شنكل نحو المستشفى وقد تشكلت في ذهنه صورة لما هو حادث بالضبط .. لا بد أن المريض الذي حدثوه عنه هو ( وجدي ) .. والده الحقيقي الذي ادار ظهره له وهو لا يزال بذرة في علم الغيب .. الرجل الذي كاد أن يلطخ سمعة أمه الحبيبة ( جوليا ) بالوحل .. انطلق وفي ذهنه أجيال من المعاناة والتعب عاشها في مجاري الخرطوم وتحت اشجار البلوط على شاطي النيل متشرداً .. جائعاً مذعوراً كعصفور رمت به الاقدار بين مخالب الصقور والثعابين .. الآن يا والدي الحقيقي .. الآن تذكرت أن لك ابناً في هذا الوجود .. الآن فقط يا وجدي .. حسنآ لنر كيف ستسير الامور بيننا أيها الوغد ..
أخذته ممرضة إلى الغرفة التي يرقد بها وجدي كما توقع .. ودلف إلى الداخل ليفاجأ به غارقاً وسط غابة من المحاليل الوريدية وكمامة الاوكسجين تغطي معظم أجزاء وجهه .. وجهاز ما يقبع خلفه يرصد نبضات قلبه .. هل أنت المستر ريمون ؟ ! .. نعم أنا هو .. وما هي العلاقة التي تربطك بالمريض ؟ !.. ألاحظ شبهاً شديداً بينكما .. لا علاقة تذكر .. فهو من السودان وأنا كذلك .. حول الطبيب بصره عنه وهو غير مقتنع برده بالنظر إلى تماثلهما تقريباً في كل شيء .. حتى نبرة الصوت .. وتقاطيع الوجه .. شبه في كل شيء .. إنه في غيبوبة الآن وحالته مستقرة وقد كان يهذي بأسمك واسم سيدة اسمها ( جوليا ) .. هل تعرف تلك السيدة .. نعم أعرفها .. نعم .. وفي هذه الاثناء أفاق وجدي من غيبوبته ليجد شنكل وقد جلس بقربه وهو ممسك بيده .. سلامتك يا … يا .. أبوي .. قالها وكأنه ينتزع مسماراً غاص بعيداً في اعماق كتلة من الخشب .. أنا سعيد يا ابني لأنك جيت بالرغم من كل شيء .. لا تشغل بالك يا أبي .. المهم كيف أنت الآن ؟.. لا اخفي عليك يا ابني فالأطباء اخبروني أن حالتي ميئوس منها ولكن الاعمار بيد الله .. أنا مسلم أمري لله واتمنى أن اقوم بالسلامة حتى أقوم بواجبي نحوك كما فعلت جوليا وكما فعل المستر ريتشارد الذي منحك اسمه واسم عائلته وهي بالمناسبة عائلة كبيرة ومهمة .. هل غفرت لي ما فعلته بك وبأمك ؟ .. قلت لك لا تشغل بالك يا ابي وان شاء الله تقوم بالسلامة .. قال ذلك وهو ينحني فوقه يقبل جبينه بصعوبة شديدة جراء تلك الاجهزة الطبية التي تزدحم فوقه .. خذ ذلك الظرف من فوق المنضدة يا بني ونفذ الكلام الذي بداخله إذا ما حدث لي مكروه .. بعد الشر عليك يا ابي .. ستكون بخير ان شاء الله .. ولكن وجدي بدأ ينطفيء رويداً .. رويداً .. إلى ان اسلم الروح إلى بارئها ..جاء الطبيب وتأكد من الوفاة واتصل بعنوان المنظمة التي يعمل بها لاستلام الجثمان .. وانسل شنكل والدموع تبلل وجهه .. وسار وئيداً في ( الكوريدور ) الطويل بامتداد المستشفى .. ووقع خطاه الحزينة تشكل عالماً من الحرن واليقين والرضاء بقضاء الله .. إنه ( وجدي ) .. وقد كانت من تتكلم جوليا وقد بدأ عليها آثار الانزعاج الشديد عندما اخبرتها سلمى بأنه قد ذهب لمعاودة مريض في حالة حرجة .. لقد مات .. مات ؟ !! .. وقد ندت عن ( جوليا ) وسلمى تنهيدة ملؤها الدهشة والحزن .. غادرت جوليا الصالة راكضة نحو غرفتها وهي تردد اتركوني وحدي .. اريد أن اكون بمفردي .. أما شنكل فقد فض رسالة والده الحقيقي بأصابع مرتعشة وفهم منها أنه جد نادم على جميع المتاعب التي سببها له ولوالدته .. وإنه نادم بالاخص لأنه ضيع فرصة لا تعوض بأن يكون أباً لشخص رائع مثله وقد ارفق مع الرسالة شيكاً به مبلغاً كبيراً من المال راجياً منه أن يرسل نصفه إلى والدته بالخرطوم .
م
عبدالغني خلف الله
29-10-2010, 04:37 PM
الحلقة الثالثة والثلاثون
انتهى الانذار الذي اصدرته النقابة للادارة دون الحصول على مطالب العمال ومن ثمّ شرعنا في تنفيذ للاضراب المعلن من قبل .. استشاط المدير غضباً وأرسل في طلب النقابة لاجتماع عاجل بمكتبه الواقع فوق الطابق العلوي لمبني المصلحة .. استمر الاجتماع لوقت طويل شرح لنا خلاله الصعوبات التي يواجهها في تحقيق مطالبنا إن كان على صعيد تثبيت العمال المؤقتين أو بالنسبة لبدلات السفرية وبقية العلاوات .. وتململ العمال بالخارج من طول الاجتماع وبداءوا يهتفون ضد السيد المدير .. وكانت ثلة من الموظفين و العمال قد فقدوا نفوذهم بعد رحيل المدير المؤقت الذي تولى أمر المصلحة إبان فترة إيقاف ومحاكمة المدير الحالي .. لذلك اخذ الهتاف طابعآ شخصيآ مثل (نحن نطالب بالتطهير .. يا حرامي يا مدير ..) ومثل ( اللص اللص .. نادوا البوليس ) .. لم يحتمل السيد المدير هذه الاهانات فبرز لجمهور العمال من فوق سياج الطابق الاول .. وهرعنا جميعاً لنقف إلى جانبه نحاول تهدئة العمال .. ولكن الموقف خرج عن نطاق السيطرة إذ رشق بعض العمال المدير بالحجارة والزجاجات الفارغة فنحيته جانباً من أمامهم ووقفت قبالتهم أصرخ في وجوههم لالتزام الهدوء ولكن دون جدوى .. ومرت لحظات كنت اتلقى خلالها الضربات نيابة عنه .. فاصابني حجر بجرح بالغ شج جبيني مما أدى إلى نزيف كثيف سالت على اثره الدماء مدرارة فوق وجهي .. تراجع المدير وزملائي إلى داخل المكتب وأخذوني على عجل إلى المستشفى في وقت بدأت فيه عربات الشرطة تقتحم المكان .. ولم أكد أصل المستشفى حتى غبت عن الوعي تماماً .. ومن ثمّ أجريت لي عملية جراحية عاجلة .. كانت اثناءها والدتي وشقيقتي وبعض زملائي يتخبطون بحثاً عن المستشفى الذي نقلت إليه وكان مستشفى خاصاً .. وعندما أفقت وجدت من فوقي غابة من الوجوه الصبية وطبيب بدأ لي وكأنه اخصائي الجراحة الذي قام بالعملية يشرح لهم تفاصيل معقدة بعضها باللغة الانجليزية ونصفها باللغة العربية .. لم أتبين الوجوه تلك تماماً وقد غطت الضمادات وجهي .. وكنت أرى الأشياء أربعة أربعه .. وثلاثاً واثنين وعندما عدت إلى وعيي تماماً عاينت الحضور وفهمت على الفور انهم طلبة وطالبات إحدى كليات الطب .. توزع بصري عليهم ليقف عند احداهن وكان وجهاً مألوفاً لديّ .. من تكون هذه البنت ؟ .. من تكون ..؟؟ افكاري مشوشة والآلام تزحف فوق جسدي كالشلال .. فكيف لي أن اعرف من تكون .. ولكن .. أليست هي أميرة بنت عم عبده الفولاني .. انها هي وقد دخلت العام قبل الماضي كلية الطب .. انتهى الشرح وبدأ الجميع في مغادرة العنبر .. فهتفت في اثرها بصوت خافت ( أميرة .. أميرة الفولاني ) .. إلتفتت وقد بدأ على وجهها أثر الانزعاج الشديد .. (منو ؟ .. حربي ..؟!).. وعادت ادراجها بسرعة لتمسك بيدي وهي تردد سلامتك يا حربي .. سلامتك . . سألتني عما حدث بالضبط فشرحت لها ملابسات الحادث وسألتها عن إصابتي فقالت لي ( انت كويس يا حربي .. الدكتور قال انو حالتك مستقرة وتجاوزت مرحلة الخطورة ..) سأذهب إلى منزلكم لاخطار الجماعة .. ومرة ثانية طلبت مني مزيداً من التوضيحات حول موقع منزلنا والمباني والبقالات المتميزة قريباً منه .. وانطلقت خارجة بعد أن نبهتني بعدم شرب الماء أو رفع رأسي من الوسادة .
لم يمض وقت طويل حتى عادت الدكتوره أميرة ومعها والدتي وشقيقتي وكافو وعم صباحي وبعض الجيران .. وكانت والدتي تبكي بكاءاً مراً وأميرة تحاول تهدئتها .. وقبيل الغروب استأذنتنا أميرة في الذهاب وقد اصرت والدتي أن تبقى إلى جانبي وكذلك نادية وكافولة وفي ثاني يوم فوجئت بعدد كبير من سكان الحي العشوائي .. جيراننا القدامى .. وقد أقلتهم حافلة كبيرة .. وقد حضروا يحملون شتى انواع الطعام والفواكه .. وكذلك حضر بعض الزملاء والسيد المدير .. الذي شكرني على موقفي الذي وقفته دفاعاً عنه ودس تحت وسادتي مظروفاً به بعض المال .. وكدت أسأله عن سحر .. أين هي ؟! وهل علمت بإصابتي ولكنني ابتلعت سؤالي وكتمته في دواخلي وأنا أتمزق من الألم ..
مضي يوم ثالث ورابع وتماثلت للشفاء بسرعة وقرر الطبيب خروجي من المستشفى ولكن إلى السجن بدلاً من منزلنا إذ أصرت النيابة على ضمي لقائمة المقبوض عليهم بتهمة الشغب والاخلال بالأمن بوصفي محرضاً .
عبدالغني خلف الله
30-10-2010, 07:47 AM
الحلقة الرابعة والثلاثون
سألت الرقيب المناط به ضبط تحركاتنا داخل السجن عن كنه الضجيج والزعيق القادم من مكتب المأمور .. فأخبرني بأن ثمة سيدة محترمة تدخل السجن بتهمة الاختطاف والقتل على ذمة التحقيق .. اختطاف وقتل ؟! .. يا ساتر يا رب .. والغريب يا سيد حربي أنها سيدة شابة وتبدو عليها آثار النعمة .. الأيدي تنوء بالذهب والثوب آخر موضة سويسرية .. وهل تفهم في مثل هذه الأمور يا رقيب حمودة .. اقصد هل تشتري الذهب والثياب السويسرية لأم الاولاد .. ذهب وثياب فاخرة من المرتب .. ؟! هل تسخر مني يا افندي .. نحمد الله على ( النفس الطالع ونازل ) وشوية الملاليم التي اسموها ظلماً وعدواناً ( المرتب ) .. نسكت ونقول ربنا يصلح الحال .. آمين ..) ومضت ساعات الصباح واعتقدت للحظة انني نسيت قصة السيدة القاتلة .. وما أن حل المساء وآوى كل فرد إلى فراشه وساد السجن هدوء رهيب تتخلله عبارة ( قف عندك انت مين ؟ .. ثم أمين .. أمين مين ..؟ المساعد فلان أو الضابط فلان .. تقدم .. هذا الحوار نسمعه أكثر من مرة مع حلول الظلام واطفاء انوار العنابر والزنازين .. وفجأة يمزق سكون الليل صراخ أتى من ناحية سجن النساء الملحق بالسجن العمومي .. ( يا نااااااس .. مظلومة يا ناااس .. والله ما كتلت .. والله ما خنقت زول .. ووب عليّ .. ووب عليّ .. يا يما الرضية .. ووب علي وسجمك والرماد كالك يا بطة .. يا ناس الحكومة .. مظلومة والله العظيم مظلومة . ) قفزت من سريري لدى سماعي اسم ( بطة ) وأنا ارتعد من الخوف .. هل سمعت اسم بطة يا استاذ عامر .. وكان وقتها يؤانسني بذكرياته في احدى البلدان الاروبية .. خرجت إلى فناء السجن لعل الصوت يتردد من جديد .. لكنني لم اسمع شيئاً .. احضرت كرسي من الداخل وجلست أمام العنبر في قلب الظلمة .. فلم يأتني سوى صوت هسيس الاغصان تحركها تلكم النسمات الليلية الباردة .. هل قالت بطة ؟! .. اللهم اجعله خير .. الله يكضب الشينه .. هل فعلتها بطة وقتلت طفلة إبنة زوجها انتقاماً من سوء معاملتها لها ..؟ يا إلهي .. هذا فظيع .. وبقيت على تلك الحالة تتجاذبني الهواجس والظنون حتى آذان الفجر .. وانتظرت مقدم السيد المأمور بفارغ الصبر لاستوضحه حقيقة الموقف بالنسبة لتلك السيدة التي اتمنى من اعماق قلبي ألاّ تكون بطة .. وأن أكون قد أخطأت في سماع الاسم بصورته الصحيحة .نعم يا حربي . اسمها بطة .. والتهمة الموجهة إليها هي خطف الطفلة (أريج ) وقتلها .. ولا تزال الشرطة تبحث عن جثة الطفلة القتيلة .. أما تلك السيدة فهي تنكر التهمة الموجهة لها جملة وتفصيلاً وقد حكت للشرطة قصتها مع ابنة زوجها المتقدم في السن والذي تزوجته دون رضاء بقية افراد عائلته لا سيما كبرى بناته التي تعيش معه في نفس الفيلا .. ولكن يا جناب المأمور .. ربما تكون هذه السيدة فعلاً مظلومة وان ابنة الرجل لم تجد وسيلة لابعادها عن المنزل سوى اختراع هذه التهمة .. وقد تكون اخفت طفلتها مع شخص آخر يشاطرها افكارها السلبية حول زوجة والدها .. هذا ما قالته المتهمة بالحرف الواحد .. وزادت بأنها تتعرض للمضايقات بشكل شبه يومي من ابنة زوجها وانها تضطر لقضاء ساعات النهار خارج الدار ولا تعود إليه إلا قبيل عودة زوجها من عمله تفادياً للمشاكل مع تلك الابنة ..مرحبا استاذ اسحق..أشكرك علي حضورك إلي هنا .. قضيتي سهلة والبركة في الآنسة سحر .. أرجو ان تنقل لها عميق شكري وامتناني لإهتمامها بمشكلتي .. الآنسة سحر تفعل ما تراه واجباً .. وانت فعلاً تستحق كل مساعدة لوقفتك الشجاعة إلى جانب زوج شقيقتي .. لقد أصبت ودخلت السجن وأنت تدافع عنه أمام غضبة العمال بالمصلحه اشكرك يا استاذ اسحق .. ولكن ثمة سيدة مظلومة احضروها يوم أمس للسجن بتهمة الاختطاف والقتل وليتك تستمع لروايتها والدفاع عنها .. بكل سرور يا استاذ صالح .. وهكذا وجدت بطة نفسها وجهاً لوجه مع شخص تعرفه وتطمئن له ..( حربي !! ألحقني يا حربي .. قالوا حيشنقوني .. وأنا والله ما عملت حاجة .. معقول أنا أقتل يا حربي .. قول ليهم .. عليك الله قول ليهم يا حربي .. طلعني من هنا يا حربي .. أموت ليك طلعني من هنا ).. قلت لها اهدئي يا بطة .. وأنا زيك مسجون .. الاستاذ اسحق المحامي أخ وصديق وحيدافع عنك بس تقولي الحقيقة دون لف أو دوران .. وهكذا انتهت تلك المقابلة الغريبة مع ( بطة ) .. من يواسي من يا بطة ؟!.. ومن يساعد من ؟! .. هل كان من الضروري أن تحزمي امتعتك وتغادري ذلك السفح البعيد .. حيث الخضرة والماء والغناء يا بطة .. وهل كان من الممكن عودة كل منا إلى سابق أيامه .. (عليك الله ما تسيبني يا حربي .. أموت ليك ما تتخلى عني ..) ما حأتخلى عنك وان شاء الله الاستاذ يثبت براءتك وتعودي لزوجك وبيتك .. ربنا يسمع منك .. أشوفك كل يوم .. كويس ؟!.. كويس .. والآن يا استاذ اسحق كيف ترى الأمر .. لا ادلة قوية ضدها إلا بعد العثور على جثة الطفلة لا سمح الله .. قضايا القتل التي تحكم في غياب جثث الضحايا واحد على المليون وفي ظروف بالغة التعقيد .. وهي حتىهذه اللحظة خارج دائرة الادانة .
عبدالغني خلف الله
31-10-2010, 08:40 AM
الحلقة الخامسة والثلاثون
وداخل السجن ذي الجدران الكئيبة والفراغ العريض اتيحت لي فرصة قراءة تفاصيل حياتي وكل الوجوه التي احببتها من اعماقي .. استعدت ليلتي الأولي مع ( بطة ) بمنزل المعلم الكيك وبدلاً من اشباع غريزتي شعرت بأن بطة هذه أجمل من أن تصبح مجرد بغي ... تبيع الهوى لطلاب اللذة .. كل تلك البراءة والطفولة والعفوية حرام ان تتجسد في عاهرة .. لذلك تحولت يومها من مجرد شاب عابث إلي مصلح اجتماعي .. نصحتها بالهروب وباقصى ما تستطيع من ذلك العالم الشائه عالم المعلم الكيك .. وكانت سعادتي عظيمة عندما اقتنعت بوجهة نظري وانتقلت لتعيش مع قريبتها .. ولكنها خذلتني أكثر من مرة .. وكلما أحاول الاقتراب من مراسيها التي تعصف بها الانواء .. اجدها وقد غابت في خضم الضباب .. تذكرت أدق ملامحها .. الأنف الاقني المخروط والثقب الذي به انتظاراً للحلي الذهبية .. والأذن التي تدلى منهما قرطان اتعبهما التحديق إلي اسفل .. وعينيها الأنيقتين وابتسامتها المفرحة .. ثم ضحكتها المختزلة بفضل الحياء الفطري الذي يمنعها من التفجر .. إنها قروية بريئة وجدت نفسها بعيداً من المصب فضاعت في المحيط اللانهائي لحياة المدينة .. ثم تذكرت ( مها ) ولم لا اتذكرها .. والساعات تمضي بطيئة والاوقات متشابهة .. والزمن تجمد عند نقطة ما .. لقد تذكرتك يا ( مها ) .. يا اروع الناس .. يا حبيبتي الأنيقة .. تذكرت كل المساحات المضاءة في قوامها السمهري وتلك النعومة المفرطة في الايلام .. آه يا ( مها ) .. كيف الحال بعدنا ؟!.. بالله عليك كيف الحال بعدنا ؟!.. وكيف حال الاستاذ وحكاياه المروعة .. يا مها .. يا انت .. وكان لابد من التمرد على الانكفاء وحيداً .. وجهي على جدار ( العنبر الواسع ) .. رافضاً التأقلم والتعايش مع الآخرين .. فآثرت الخروج من عزلتي تلك .. بدأت بالانخراط في صلاة الجماعة مع سجناء الضمير وذوي الياقات البيضاء كما يسمونهم وقد علمت بذلك مؤخراً .. فأنا اذن سجين ضمير كالآخرين .. كل جريمتي انني ادافع عن حقوق المستضعفين من الناس المسحوقين .. عن حقوق العمال والموظفين وكلاهما سيان .. كل واحد منهما أتعس من الآخر .. وكان إمام السجن يأخذنا في محاضرات مطولة بعد الظهر وبعد المغرب .. وكنت استمع بعمق لما يقول .. بل واحفظ عن ظهر قلب بعض الاحاديث وقصص السيرة المحمدية الشريفة .. وبدأت اتحول شيئاً فشيئاً إلى متصوف حقيقي .. أصلي كل الاوقات بمسجد السجن .. وتلفت حولي يمنة ويسرة فاذا انا اقترب أكثر فأكثرمن الاستاذ عامر .. سياسي قديم ومثقف حقيقي .. من جيل المحاربين القدامى وقد احضروه إلى عنبر السجناء السياسيين تقديراً لماضيه النضالي ابان الحقبة الاستعمارية وهي تلفظ انفاسها الاخيرة وقد حكموا عليه بالسجن لثلاث سنوات لعجزه تسديد ( شيك مصرفي ) حرره لأحد السماسرة مقابل صفقة وهمية .. وذاب ذاك المرابي في العالم كقطعة ملح ولا أثر .. أحياناً يقولون أنه هرب إلى ليبيا وفي احايين كثيرة يقولون أنه سافر إلى القاهرة وربما روما .. المهم لم يتمكن المسكين من تسديد قيمة الشيك بعد أن باع منزله لذاك المخادع وحرر شيكاً لصاحب المنزل الجديد على ضوء المبلغ المتوقع استلامه فضاع كل شيء .. ولم يشفع له تاريخه الناصع ولا مركزه المرموق على الخارطة السياسية والاجتماعية .. فأسلم أمره إلى الله ودخل السجن .. ومنذ تعرفي عليه توطدت علاقتي به وشعرت بأنني اتحمل مسئولية هذا الرجل بفرح غامر أغسل له ملابسه ..انظف له سريره .. احضر له الصحف والطعام من مكتبه وبوفيه السجن .. واتجاذب معه اطراف الحديث .. وبدأ الأمر باجترار ذكريات حياته الغنية بالاحداث ثم تحولت العلاقة إلى ساعات من العلم والتعلم ... هو يحاضرني عن النظم السياسية والمذاهب الاجتماعية وانا انصت بكل جوارحي لما يقول .. حدثني عن الماركسية والرأسمالية والانظمة الشمولية .. وحدثني عن النظام الرئاسي والنظام الجمهوري .. وكل أنواع الانتخابات في كل البلدان وعرج على تاريخ السودان وتقسيماته الجغرافية والاثنية وحكى لي قصصاً غريبة عن نضالات زعماء من أمريكا اللاتينية وآخرين من آسيا.. البعض سمعت به والآخر لم اسمع به من قبل .. ومضى أكثر من شهرين وأنا اتوزع بين أمام المسجد وهذا المناضل الرائع وبالكاد زيارات الوالدة وشقيقاتي كل جمعة .. إلى ان جاء يوم شكل نقطة تحول في تاريخ حياتي .. فقد ابلغوني بأن لدي زائراً في مكتب مدير السجن ... اصلحت من هندامي بما تيسر لي ومضيت وأنا اجهل تماماً حقيقة ذلك الزائر المجهول ... دخلت إلى مكتب المامور لأفاجأ بأن الزائر ليس سوى ( سحر ) .. كاد أن يغمى عليّ وأنا اتدفق صوب وقفتها الاسطورية وقد مدت يدها تصافحني بحرارة كأميرة من اميرات ألف ليلة وليلة .. ( سحر ؟! ) ياه .. طبعاً عاتب عليّ لأنك لا تعلم ما جرى لي يا صالح .. دائماً صالح .. لا حربي ولا الزعيم .. الشخص الوحيد في هذا الكون الذي يناديني باسمي الحقيقي .. صالح .. خرجت من فمها مثل كمنجة حزينة .. لكمّ تأسفت على سجنك بالرغم من انك لم ترتكب أي جريمه وذلك الموقف الشهم الذي وقفته إلى جانب أبي وكيف أنك تلقيت الضربة تلو الضربة فداءاً له .. أنت إنسان نبيل يا صالح .. وهنا غادر المامور المكتب عندما شعر بأن ( سحر ) على وشك أن تبكي من شدة التأثر وقد أغرورغت عيناها بالدموع .. لقد عاودتني تلك الاغماءه يا صالح ومكثت بإحدى مستشفيات لندن شهراً كاملاً والحمدلله أخذت العلاج المناسب بعد أن تم تشخيص حالتي بواسطة اخصائيين كبار .. اخصائيين ؟*.. سلامتك يا سحر .. سلامتك .. ألف ألف سلامتك .. يعني كنت مريضة يا سحر ؟* .. نعم يا صالح .. وهل تفتكر لو أني كنت في الخرطوم سأسمح بأن تسجن … ياااه يا سحر .. لكّم ظلمتك يا سحر .. والله ظلمتك يا سحر .. قلت في نفسي يا ولد استحي على عرضك .. انت وين وسحر وين .. لذلك بطلت أفكر فيك زي زمان .. يخسي عليك يا صالح .. يعني اصلك ما حسيت بشعوري نحوك .. معقولة بس ؟****! .. يعني كان لازم اقول ليك اني بحبك عشان تفهم يا صالح .. لا .. لا والله العظيم .. خلاص .. خلاص وتهاويت نحو أقرب كرسي وانا أوشك ان أموت من وقع المفاجأة … سحر تحبني أنا ؟! .. صالح وليد حوه قزاز .. والشاويش عويضة .. لعلك في حلم يا حربي .. لعلك في حلم .. أيوه بحبك يا صالح ومن زمان ولن تستطيع قوة في الارض أن تفرق بيننا وسأتولى موضوعك منذ الآن حتى تخرج من السجن سليماً معافى .. وحتى .. حتي ماذا يا مأساتي ؟ ولم انم ليلتها وقد تركتني سحر نهباً للهواجس والآلام .. لقد اعترفت لي تقريباً بأنها تحبني ومنذ زمن ليس بالقصير .. ولكنني برغم ذلك أشعر بالقلق الشديد وأخاف ان تندم سحر على كل حرف قالته لي .. وربما تكون قد اوحت لي بذلك نتيجة لاحساس متهور أملته ظروف سجني واصابتي وأنا ادافع عن والدها .. إنه الحب يا هذا .. ليته كذلك ولكن هل يّولد الحب هذا القلق والخوف .. نعم .. نعم … يا أخانا .. انه أكبر مفجر للقلق والهواجس في عالم الاحاسيس والمشاعر.. سحر تحبني ؟!.. لماذا أسأل نفسي للمرة الألف هذا السؤال .. هل أنا ضعيف الثقة بنفسي إلى هذا الحد .. وكيف سأقود جحافل العمال والموظفين نحو غد افضل وانا بهذا الضعف والخور .. كل الاقوياء في التاريخ كانوا ضعافاً أمام الجمال .. ألا تذكر حديث الاستاذ عامر عن تلك العروش التي قامت وتهدمت لأسباب أهمها سطوة إمرأة ما .. انظروا إلى نابليون والا سكندر المقدوني وهارون الرشيد وهتلر المانيا .. لقد كانوا مثل خاتم من الذهب في اصابع من احبوا من النساء يفعلن بهم ما شئن ويتدخلن حتى في امور الحرب والسلام .. ولكن كيف لم ألاحظ ما دعته سحر بحبها لي .. أظنك غير مصدق حتى الآن .. أقول لك بصراحة انني بدأت انسج الاحلام والاخيلة عن شكل حياتنا معاً كزوج وزوجة .. زوج و زوجة دفعة واحدة ..؟ ألم تلاحظ بأنك قد رفعت سقف توقعاتك إلى أعلى حد ممكن منذ زيارتها لك .. هو ذاك .. فإما ان انجح أو اهوي نحو القاع فيدق عنقي ومن ثمّ أموت .. معقولة بس ؟!.. ما لاحظت شعوري نحوك يا صالح .. معقولة بس ؟!.. أي ورب الجمال ومن ابدع هذا الكون لم ألاحظ .. صحيح انها نامت بين ذراعي ساعة تلك الاغماءة اللعينة يومها ... نامت بين ذراعي كطفلة توسدت صدر ابيها وقد تعود حملها من سريرها وهي نائمة كل مساء ... يحملها وهو يتمتم .. بسم الله الرحمن الرحيم الله .. بسم الله الرحمن الرحيم .. ليدخلها إلى غرفتها وقد لاحت في الافق نذر العاصفة .. لقد حملتها وكان احساس طاغ بالابوة يكتنفني نحوها في تلك اللحظة النادرة التي لا اخالها ستكرر .. لقد كان احساسي نحوها يغلب عليه طابع الخوف الشديد وكاد قلبي ان يحطم ضلوعي ويقفز راكضاً في الفضاء الفسيح من شدة خوفي عليها ... وحتى وهي تستيقظ شيئاً فشيئاً وتعود إلى دائرة الوعي .. لم تسحب يدها من يدي .. بل ضغطت عليها بوهن ومحبة .. وكم كانت سحر وفية وهي تعود تاني يوم إلى السجن ومعها خالها المحامي اسحق .. سلم عليّ بوجه صبغته المودة والاحترام .. سنقدم استرحام للمحكمة لاسقاط بقية المدة وقد وافق السيد المدير على ان يشهد لصالحك .. وبأنك كنت تحاول السيطرة على العمال والموظفين لا تحريضهم .. ولم يفتها ان تحمل معها بعض المأكولات ودست في يدي وهي تغادر علبة فخمة وهي تهمس في وجهي .. ساعة حلوة اشتريتها لك من لندن .. ساعة لي انا ؟!.. طبعاً يا صالح .. لكن ده كتير يا آنسة سحر .. قمنا من تاني للآنسة والسيدة يا صالح .. سريع كده نسيت .. بس ده كتير يا سحر لا كتير ولا حاجة.
عبدالغني خلف الله
01-11-2010, 07:22 AM
الحلقة السادسة والثلاثون
تذكرت شقيقتي سلمى وزوجها العزيز شنكل .. وكيف يستقبلون نبأ سجني .. ولعل أجمل أوقات السجن .. تلك التي يسافر عبرها المسجون إلى أماكن وأناس يحبهم .. الاوقات الممتدة إلى ما لا نهاية تتيح للناس هنا تخيل كل شيء وتذكر أي انسان فأنت تراهم وقد اغمضوا عيونهم وتتصور انهم ينامون .. لا يا عزيزي .. انهم يحلمون .. ينتظرون ويتذكرون .. وهأنا استعيد ذكرياتي مع شنكل و رحلته للبحث عن أمه .. كان من الممكن أن يظل هكذا وإلى الابد بدون هوية وبدون أسرة .. ولكنه الآن مع زوجته وأمه وزوجها المستر رتشارد و الصغيرة لوسيانا .. وفى تلك الاثناء كأني بالجميع وقد انهوا عشاءهم وجلسوا فى فناء الحديقة فى تلك الامسية الصيفية المشبعة بالأنسام الفارهة .. منزل انيق ملؤه المحبة والتفاهم .. لا..لا ليس هكذا تصعدين الدرج ياسلمى .. تذكرى انك حامل.. المستر رتشارد وهو ينبه شقيقتى التى ارادت ان تحضر بعض الحلوى من المطبخ .. لاتركضى هكذا .. فهذا ليس في مصلحة الطفل.. واشفقت جوليا ايضا عليها وكذلك فعلت الصغيرة (لوسي ) *..اما شنكل فقد تظاهر بالتماسك ولو انه كاد ان ينهض ليتلقف سلمى وقد اوشكت على السقوط .. تأمل المستر رتشارد الجميع بحنو وحب وقال لشنكل .. لقد كان يوما طيباً في البورصة وقد ربحت اسهمنا ارباحا لم تكن في الحسبان.. شنكل قال له.. انت تعلم انني لا افهم كثيرا في مسائل البورصة هذه وانت اقتصادي ضليع وكلي ثقة في انك ستولي الامر العناية التي يستحقها.. لا يا ريمون وعلينا أن نتذكر بأن هذا هو الإسم الجديد لشنكل .. انت مخطئ في هذا.. عليك ان تتعلم وستكون بجانبي عندما يبدا التداول بعد العطلة الاسبوعية .. انني اعول عليك كثيرا يا بنيّ .. فانت الان رجل هذه الاسرة .. وبعد قليل سنتقاعد انا وجوليا لنتفرغ لكم تماما.. سنكون سعداء برعاية طفلكما القادم وسنسافر الى هذا البلد او ذاك ولن ننسى بالطبع الخرطوم .. السمع والطاعة .. وهل سيسمح لي بحمل الطفل الجديد ماما ؟! الصغيرة ( لوسي ) وقد اثارتها فكرة ولادة طفل جديد .. لقد سئمت هذه العرائس .. اريد عروسة حقيقية تتبادل معي الاسرار.. ضحك والدها وهو يرد عليها.. وهل لديك اسرار ياصغيرتي العزيزة .. يا الهي .. الناس في عائلتي هذه تكبر بسرعة .. لم لا يا ابي.. فانا الان في العاشرة من العمر.. لعلك نسيت أن عيد ميلادي في الأول من اغسطس القادم .. لا لم انس وسافاجئك بهدية ماكنت تحلمين بها.. ما هي بابا؟ ماهي؟! ارجوك.. وكيف ستكون مفاجاة اذا ما افصحت عنها .. عليك الانتظار.. ها.. عليك الانتظار.. بابا!!! لقد عاش فى اماكن عديدة في اوروبا وفي امريكا ورأى بنفسة مقدار التعاسة والوحدة التى عاشها ويعيشها الكثيرون .. نعم الوحدة من كبرى المشاكل هنا .. وعلي النقيض من ذلك ما يحدث في الشرق عموماً .. لقد تعرف الي العديد من الاسر وشاهد تلك الحميمية المرهفة تشكل علاقات الناس ببعضها البعض ..إنه لن ينسى ذلك الرجل الذى كان يسكن في الشقة المقابلة له تماما في تلك العمارة السكنية بامستردام .. لقد مات الرجل ولم ينتبة له احد من الجيران الذين لايفصلهم عنه سوى (كوريودور) صغير الى ان فاحت رائحة جثته .. وعندما هشموا الباب وجدوا بيده كوباً فارغاً وقد سقط قريبا من الثلاجة .. وإن ينس لن ينسي الممرضة (ايفلين) التي كانت تسكن بجوارهم في احدى ضواحي نيويورك .. صحيح انها كانت انطوائية ولاتحب الاختلاط مع الناس ولكن كيف يمكن ان تموت وتمر ثلاثة اعوام على موتها دون ان يسال عنها احد .. الجيران تذرعوا بحجة انها انطوائية .. وزملاؤها بالمستشفى قالوا انها مزاجية وربما تكون غادرت نيويورك فجاة لتعمل في مستشفى آخر وشقيقها قال انهما متخاصمان منذ مايقارب الخمسة اعوام .. لقد اكتشفت سلطات الكهرباء الامر ودخلت لتجد مستعمرة للجرذان بداخله .. كم أنا محظوظ .. المستر رتشارد يحدث نفسه وقد عادت سلمى لتاخذ موقعها بين الجميع .. كان دائما يبحث عن السعادة والاستقرار مع اسرة متفاهمه .. لقد هربت والدته وهو طفل من والده المخمور مع احد الاجانب وهو لايعلم عنها شيئا حتى الان .. وتركه والده ليتجول مع احدى الغجريات من مدينه الى مدينه ومن ساحه الى ساحه .. وهاهو يعوض كل ذلك بهذه الاسرة القادمة من رحم الغيب .. سوف يقاتل من أجل هؤلاء الرائعين .. وسيبذل قصارى جهده في اسعادهم .. من يكون المتكلم " على الهاتف .. ساتولى الرد .. الصغيرة ( لوسي ) وقد ركضت نحو الداخل .. ولكنها عادت بسرعة لتقول لسلمى .. والدتك على الخط .. على مهلك يا سلمي .. اهلا( يما ) .. كيف ناس البيت ؟! مسجون؟! .. ووب على .. ووب على .. هنا تدخلت جوليا واخذت منها السماعة .. نعم.. معاك .. نعم.. شغب داخل المصلحة .. يعنى الموضوع بسيط .. ان شاء الله سيخرج من السجن .. نعم يا حاجه .. هيا سلمى كفى عن البكاء وتكلمي مع والدتك بهدوء .. انها بحاجة لشئ من التشجيع .. خلاص (يما).. الفلوس حتصلكم يوم الاثنين..ان شاءالله.
كريمة سعيد
01-11-2010, 02:46 PM
لقد فوّت حلقات كثيرة من هذه الرائعة أتمنى استدراكها بسرعة لأواكب الأحداث
أستاذي العزيز
أهنئك على براعتك في الغوص في أعماق النفس البشرية من خلال شخوصك
تحية ومدة وكبير تقدير
عبدالغني خلف الله
02-11-2010, 07:28 AM
أشكرك يا ابنتي د. كريمة ..أشعر وكأنني أقحمتكم في هذه الرواية المطولة في زمن يغلب عليه طابع المشاهدة واللاقراءة ..وخذي وقتك فالرحلة لا تزال بعيدة عن غاياتها .. عمّت صباحاً
عبدالغني خلف الله
02-11-2010, 07:29 AM
الحلقة السابعة والثلاثون
أحاول ملء الفراغ وساعات اليوم الطويلة بالسجن بأكثر من وسيلة .. وقد تبدو تلك الساعات اقصر عندما يزورك شخص ما .. لم يزرني ( كافولة ) زوج شقيقتي نادية لأنه يخاف الحكومة وكل ما هو حكومي كذلك لم يزرني أهل الحي العشوائي .. لعلهم لم يسمعوا بأنني سجنت أصلاً .. هؤلاء القوم بعيدون كل البعد عن تقاطعات الحياة العامة بالخرطوم بكل ما فيها من تداعيات مبكية ومضحكة .. وحسب علمي فإن حدود همومهم الشخصية ينتهي عند خبز عيالهم وجلب الدواء لمرضاهم .. لم يسمعوا بسجني الذي يدخل ضمن اطار الصراع اليومي بين الناس والسلطة . وهم بالقطع لم يسمعوا بطبقة ( الاوزون ) ولا بالمذابح التي ترتكبها اسرائيل في فلسطين ..لم يسمعوا بشارون .. وغير معنيين باتفاقيات التجارة الحرة والعولمة .. لهذا لا يشيخون مبكراً مثلنا .. وأقول مثلنا لأنني ومنذ التحاقي بالوظيفة العامة كسائق للسيد المدير تصك اذني حواراته المتعمقة مع مساعديه وأنا انقلهم من اجتماع إلى اجتماع ومن مؤتمر إلى مؤتمر وبعد دخولي السجن وتعرفي على الاستاذ عامر صرت مهموماً مثلهم بالشأن العام ، وبدأت أفلسف مثلهم مشاكل البلد التي لا تخفى علي أحد .. الحرب في الجنوب والجفاف والتصحر والبطالة .. بل وحتى ادبيات السياسة الخارجية .. فما لي أنا ومال كل هذه الترهات .. لو أنني بقيت في عملي بورشة المعلم سلمان القاضي .. لما اقحمت نفسي في مشاكل لا قبل لي بها .. الزيارة وحدها هي التي تكسر الروتين الرهيب داخل السجن .. وبما أن السيدة ( بطة ) لا تبعد عنى سوى أمتار بسجن النساء فلماذا لا ( نتزاور ) .. على الاقل سيهرق كل واحد منا آلامه أمام الآخر .. ومن منا لا يحتاج إلى كتف صديق يبكي عليه وإلى صدر حنون يطرح فوقه عذاباته .. لذلك تعودت أن اجلس إليها عبر ثقب كبير في السور الذي يفصل بين سجن الرجال وسجن النساء .. كانت شاردة وحزينة وكثيرة البكاء .. ولا أدري لماذا تبكي بهذه الحرقة وتلك الاستمرارية .. ولاحظت انني عندما أنظر عميقاً في عينها .. تهرب من نظراتي وتشيح بوجهها عني .. وتحول مجرى الكلام إلى موضوع آخر .. هذه التصرفات ازعجتني بشكل مخيف .. وبت استيقظ من النوم تحت وطأة كوابيس واحلام مزعجة واتساءل بيني وبين نفسي .. معقولة بس ؟! .. بطة قاتلة ؟! .. كل هذه الوسامة وتلك البراءة وفطرتها القروية تقتل ؟!.. وهل يداها ملطختان بدماء تلك الطفلة الصغيرة ؟! .. وتوقفت عن زيارتها لبعض الوقت فجن جنونها .. وصارت ترسل لي الوصية تلو الوصية مع حراس السجن .. وعندما ذهبت إليها مرة أخرى بكت بشدة وقالت لي بين نهنهاتها وتنهداتها ها انت تتخلى عني .. حتى قبل أن تبدأ المحاكمة .. ولم تعد تسأل صديقتك سحر عن المحامي الذي وعدتموني به .. خففت غلواء عذابها بكلمات حانية .. وأعطيتها بعض الأمل في الخلاص وبأنني سوف احادث سحر بمجرد أن تزورني حول تولي خال سحر الدفاع عنها .
عبدالغني خلف الله
03-11-2010, 07:26 AM
الحلقة الثامنة والثلاثون
قلت لسحر ونحن لوحدنا بعربتها بعد خروجي من السجن .. لا أدري كيف اشكرك يا سحر .. لن أنسى أبداً وقفتك معي هذه ولكن .. لكن ماذا يا صالح ؟ .. لا داعي لتحمل مبلغ الغرامة .. لقد ارسلت لنا شقيقتي مبلغاً كبيراً من المال .. سأعيد لك المبلغ الذي دفعته للمحكمة ويكفيك اتعاب المحامي .. إسحاق أبن خالي ولم ادفع له اتعاب .. هنا توقفت عن الكلام وسحابة عارضة من الحزن تسافر عبر تضاريس وجهها الجميل .. لا ادري ماذا أقول لك يا صالح .. أنا لست مرتاحة لبنت أهلكم هذه كما تسميها .. وكنا قد توقفنا لديها بمكتب استقبال سجن النساء قبل مغادرتنا وقد تركت معها كل ما كان بحوزتي من مال لعلّه يخفف عليها سنوات الانتظار القاسية انتظاراً لبراءة تدعيها .. لقد تخلى عنها زوج قريبتها وكذلك فعل زوجها المفجوع في حفيدته الرائعة برغم جحيم الاشواق واللهفة الذي خلفه غيابها عن مخدعه .. انها وردة ندية ألقت بها الاقدار في مشوار حياته المفعم بالحرمان .. زوجة صبية كم ارضعته الافراح واعادت له شبابه الذاهب .. بيد أنها اختطفت حفيدته وقتلتها أو هكذا قالوا له .. وهو لا يدري هل يصدقهم أم يصدق زوجته بصباها الغض وفرعها المموسق .. كم يشعر أن كبرى بناته قد تآمرت عليه وحرمته من تلك النعومة وذاك الاشراق المتوزع على قسماتها الحلوة .. وربما كان هذا هو السبب في اعتكافه بالمنزل لا يذهب لمتجره ولا يزور أحداً من اقاربه ويدعي النوم وقد أحكم قفل غرفته لا يفتحها إلا للخادمة عندما تدخل عليه بالطعام .. وكلما دخلت عليه ابنته ( بلقيس ) يشيح عنها بوجهه ويواجهها بنظرات بها الكثير من الشك والريبة فتجثو أمامه باكية مولولة تقسم له باغلظ الايمان بأن بطة قد قتلت ابنتها الوحيدة وأن الأيام ستثبت له ذلك ..
لن أقبل هذا المبلغ وقد دفعته عن طيب خاطر وانتهى الأمر .. لكم أنا سعيدة بخروجك من السجن يا صالح .. سألقاك كل يوم وسنمضي معاً في مشروعنا .. نكمل دفع اقساط الشقة ونتزوج .. هل قلت نتزوج يا سحر ؟! .. نتزوج ؟ ! .. أنا وانت .. نتزوج ؟! .. نعم نتزوج .. ألا ترغب بالزواج بي يا صالح ؟ .. ومن انا لأرفض ؟ .. أنت انسانة طيبة ونبيلة ومتواضعة يا سحر .. مثلك قد يستكثر عليّ تحية الصباح .. أوأنت جادة يا سحر ؟! .. هل تقبلين بي زوجاً .. ياه .. وي وي وي .. ارجوك كف عن هذا الهذيان فأنت تصيبني بالتوتر ولن اتمكن من توصيلك بسلام إلى والدتك وشقيقاتك .. فهم ينتظرونك بفارغ الصبر .. ولكن ماذا لو رفض أهلك .. وبالذات شقيقك .. لن يعترض سبيلي أحد .. أما شقيقي ( عصام ) فدعه لي فأنا أعرف كيف اوقفه عند حده .. المهم موافقة أبي .. أما والدتي فهي تفعل ما تراه في مصلحتي .. ومصلحتي في زواجنا يا صالح .. هل تذكر عندما حملتني بين ذراعيك وصعدت بي الدرج حتى غرفتي بالطابق الأول .. لقد كنت متعبة بالفعل وفي شبه اغماء .. لكنني كنت اشعر بما يدور حولي .. وكنت أعلم انك تحملني بين ذراعيك وتجلسني على سريري ولقد صممت ساعتها بأن ذلك الموقف سيتكرر عندما نتزوج .. وسأقاتل الدنيا بأسرها من أجل تحقيق ذلك الحلم .
وعدت لمواصلة عملي بالمصلحة كرئيس لنقابة العاملين .. وكانت ( مها ) سعيدة بعودتي .. احضرت الحلوى والشربات وقدمته لكل فرد بالمصلحة أتى ليهنئني بسلامة العودة .. وبدأ وكأن الجميع ينظر نحوي بفخر واعزاز .. فقد تحققت بعض المطالب التي ناضلنا من اجلها .. دفعت كل المستحقات المالية المؤجلة ومنحت التعويضات المجزية لضحايا حادث الحركة من عمال وفنيين .. وما زال في جعبتي الكثير من المشاريع .. وقد عكفت ومها علي صياغة تقرير لسلطات الاراضي لتخصيص قطع اراض سكنية للمعاشيين والارامل كخطوة أولى ستتبعها مطالبتي باراض سكنية لجميع العاملين .. كنت أقوم باملاء عبارات غير متسقة وبها الكثير من الاخطاء اللغوية والنحوية وكانت تصححني وهي تردد عبارة ( ما بكتبوها هكذا يا جاهل . ) تقولها وهي تضحك وترمقني بنظرات هي مزيج من المودة الطاغية والتدلل وشيء من السخرية اللذيذة .. طيب .. طيب .. هذا واحد من أكبر عيوب حواء .. عيوب يا حربي ؟! .. أنا كلي عيوب ؟! .. ومن ثمّ ترسم فوق محياها مظهراً جاداً وغاضباً سرعان ما ينتهي بضحكة مموسقة تزلزل كياني .. نعم يا ( مها ) .. انت صحيح بنت متعلمة و .. وإيه كمان ؟ .. وحلوة .. أيوا .. اعترف يا مغرور .. ويا مخدوع .. أنا مخدوع .. الله يسامحك يا ( مها ) .. مش بقولوا مد رجليك قدر لحافك .. وكانت تلمح لعلاقتي مع سحر .. خلينا في المهم .. أريد هذه المذكرة بنهاية اليوم .. وغادرتها وأنا انتزع أرجلي عن المكان .. كم انت جميلة يا ( مها ) .. وكم أنت رائعة .. ماذا لو لم ألتق سحر أصلاً .. من المؤكد انك ستكونين حبي الأوحد .. ولكنني الآن بلا إرادة .. بلا حرية .. لقد رهنت عمري وحياتي لسحر ولن أكون لغيرها .. هذا إن هي أوفت بعهدها لي ولم تغيّر رأيها .. وهل ستغير رأيها يا ترى ؟! علمي علمك .. ربما تقابل طياراً أو طبيباً أو مهندساً في أسفارها العديدة تلك في نطاق الأسرة أو الشركة وربما في مطار بعيد من مطارات العالم وتعجب به وتتزوجه .. لا حول ولا قوة إلا بالله !! والله انت حاقد وحاسد لا أكثر .. المفروض أن تبعث في نفسي الطمأنينة والثقة بالنفس .. ألست ضميري يا حاقد يا جبان .. تريدني أن أظل مدى الحياة صبي ميكانيكي تعبان وهلكان .. أنا فقط أحذرك ولا تتوقع مني أن أخدعك في يوم من الايام .. وإلا تحولت إلى ضمير ميت .. كل المعطيات تقول أنك لا تستاهلها ولا يجب أن تفكر حتى بمجرد الارتباط بها .. هي في الثريا وانت في الثرى وما ابعد المسافة بينكما .. لقد اقسمت لي بأنها تحبني وبأنها ستقاتل الدنيا كلها من أجل احلامنا .. أهو كلام .. والموية تكذب الغطاس .. والكذاب نوصلو لغاية الباب .. كم واحد قال لك إنك ُمحبط وممّل وحاسد .. والله هذا رأيي بكل صراحة .. إن شئت عملت به .. وإن شئت عملت بغيره .. اسمع يا هذا .. انت في اجازة مفتوحة منذ هذه اللحظة ..( يال لا) اغرب عن وجهي ..قال ضمير قال....!
عبدالغني خلف الله
04-11-2010, 06:51 AM
الحلقة التاسعة والثلاثون
هأنا اتراكض بين المستشفى الحكومي حيث يرقد العم صباحي طريح الفراش وقد جلس إلى جانبه صديقي ( كافو) يرعاه كإبن حقيقي وقد منح اجازة محلية لممارضته وبين سحر التي ترقد في إحدى المستوصفات بعد أن أتاكد بأن افراد اسرتها قد غادروا المستوصف لا سيما شقيقها الذي رمقني بنظرة شزرة لدى أول يوم لدخولها المستوصف وكنت قد هرعت إلى هناك عندما علمت من سائق المدير الجديد بأنها قد نقلت إلى هناك في ساعة متأخرة من الليل وهي تشكو من اعياء شديد وضيق في التنفس .. اقتحمت غرفتها حتى بدون إذن (السستر) المسؤولة عن الغرفة وهناك وجدت أمها ووالدها السيد المدير وشقيقها ورهط من سيدات وبنات الأسرة .. شعرت بأنني غريب وسط ذلك النسيج الأنيق من البشر .. توجهت نحوها وأنا احتضن كفها واتمتم في رعب حقيقي .. سلامتك آنسة سحر .. توهج خداها بلون غامض وانفرجت أسارير وجهها وحاولت أن تنهض من السرير بيد أن أمها سارعت لتحول دون ذلك .. لم اجد مكاناً أجلس عليه وعوضاً عن دعوتي للجلوس همس شقيقها في وجهي .. ( كتر خيرك مواعيد الزيارة انتهت .. والزيارة من هنا لقدام ممنوعة .. ) قلت له .. جداً .. مرة ثانية كفارة .. ان شاء الله ربنا يواليها بالعافية .. فتح باب الغرفة واشار عليّ لاغادر وصفق الباب من خلفي بحدة وعصبية شديدة .. اصطحبت معي خوفي ولهفتي واشواقي لسحر وأنا انزل الدرج درجة .. درجة في بطء وكآبة لا مثيل لها .. ومنذ تلك اللحظة وأنا لا أزورها إلا في المساء .. وقد أمرت سحر (السستر) المشرفة بمنحي بطاقة زيارة في أي وقت ليل نهار ففعلت .. كنت أمضي معها معظم ساعات المساء أناولها اشياءها الصغيرة كالمجلات ( والمناشف ) وقد احضرت لها جهاز راديو صغير يؤانسها في غيابي بالرغم من وجود جهاز تلفزيون .. واحياناً اساعدها في النهوض لتمشي في ردهات المستوصف وتستند على كتفي وهي تذهب للتواليت وهي تعود إلى سريرها .. وعندما تعود أظل ممسكاً بكفها أطالع عينيها حتى تخلد للنوم فأنسل عائداً إلى منزلنا .. وبقيت على تلك الحالة إلى أن استردت عافيتها وعادت للعمل لنبدأ مشاويرنا التي لا تنقضي .. أحيانآ ندلف إلي هذه الكافتريا أو تلك قد نمتهن التجوال بشوارع الخرطوم بدون هدف ومن ثمّ نعرج علي المقاول الذي يشرف على تشطيب الشقة الخاصة بسحر والتي لا يعلم أحد من افراد اسرتها حتى تلكم اللحظة بانها قد اشترتها وقد نبهتني بألاّ أخبر أي أحد منهم بذلك .. هذه أسرار يا صالح .. وإذا ما واجهتنا مشكلة في العيش مع والدي ووالدتي بعد الزواج تكون لدينا شقتنا الخاصة بنا أنا وانت .. مثل هذه الملاحظات اكسبتني العافية والثقة بالنفس فمضيت من انجاز إلى انجاز بالنقابة .. إلى أن تعثرت المفاوضات بيننا وبين وزير العمل حول زيادة الاجور وزاد الموقف سوءاً قرار الحكومة زيادة سعر السكر .. تلك الزيادة التي حولت الشارع إلى بركان يغلي .. فكانت دعوتنا للعاملين بالخروج في مظاهرات عارمة بلغت اوجها عندما قدت أنا وبعض الزملاء مسيرة هادرة انتهت بنا إلى مجلس الوزراء ولم تفلح الحراسات المشددة هناك في أن تحول بيننا وبين اقتحام مباني المجلس لدرجة اننا صعدنا الادراج المؤدية إلى مكتب رئيس الوزراء .. هنا تدخلت الشرطة بقوة ضاربة .. فكت الحصار عن المكتب وألقت القبض علينا لأعود مرة أخرى إلى السجن ..
رحبت بي بطة ترحيباً حاراً بعد أن عدت للسجن ولسان حالها يقول لي .. لم تزرني ولو مرة واحدة يا حربي وهأنت تعود لي من جديد .. لم يطرأ جديد على موقفها ولا تزال الشرطة تواصل تحرياتها .. قلت لها .. لو تعلمين كم أنا مشغول لكنت التمست لي العذر في عدم زيارتك .. ولكنني أتابع القضية مع المحامي إسحق .. يا سلام على الاستاذ إسحق .. انسان محترم ومهذب بمعنى الكلمة .. تصور رفض مجرد مناقشتي له حول أجر الدفاع عني .. أخبرته بأن لدي مصاغ ذهبية وضعتها كأمانة لدى أحد التجار زملاء زوجي تحسباً ليوم كهذا وطلبت منه أن يأخذ لي اذن مؤقت بالخروج تحت حراسة الشرطة ابيع خلاله جزءاً من تلك المصاغ لأدفع له اتعابه ولكنه رفض رفضاً قاطعاً .. إنه يعزّك يا حربي .. وحدثني عنك حديثاً طيباً وعن الموقف الذي وقفته دفاعاً عن زوج شقيقته وقال لي أيضاً أن ابنة اخته متعلقة بك جداً وأنكما ربما تتزوجان .. هل قال لك الاستاذ إسحق كل هذا الكلام ..لقد كنت صريحة معه ( وكمان كلمتو انك كنت عاوز تخطبني وانك جبت اهلك ولكن القسمة ما ساقت .. )..الاستاذ إسحاق ده .. وتركتها تبوح بحقيقة مشاعرها نحوه وأكاد أجزم بأنها قد احبته .. إن الحب لدى بطة لا يخضع للمنطق والمقاييس الاجتماعية وغير الاجتماعية .. الحب عندها لحظة عشق لا يهم مع من ولماذا أو كيف .. هي هكذا .. احبتني ثم وعندما أظهر لها ذلك السائق شيئاً من العاطفة تزوجته ثم عادت لتكرهه وتحيل حياته إلى جحيم حتى طلاقها منه .. والتقت هذا الرجل المتقدم في السن .. لعله اعجبها بمظهره الارستقراطي وربما كرمه وحسن هندامه فأحبته .. نعم أحبته وأنا متأكد من ذلك وهي لم تنسج خيوطها حوله لتوقعه في شباكها .. اعجبها فأحبته ثم تزوجته .. وعندما أدخلها إلى بيته لم تكن مهيأة لتلك النقلة المفاجئة من الأحياء الفقيرة إلى الأحياء الغنية ولا بد أنها تركت انطباعاً سيئاً لدى ابنته العائدة مطلقة من الخليج لتفاجأ بهذه القروية البسيطة تحتل مكان والدتها الراحلة .. والدتها المثقفة ذات المكانة المرموقة في الدولة .. والتي لم يمهلها المرض كثيراً فماتت .. ثم هذا الفارق الواضح في السن .. وتلك السمة البوهيمية المتعطشة إلى حياة الدعة والرفاة فأبغضتها وآلت على نفسها اقتلاعها من جسد العائلة الثرية لتقذف بها من جديد إلى دنياوات العوز والفاقة .. ولكنها متزوجة منه شرعاً وقانوناً ومن حقها أن تعيش في منزله .. بل ربما تكون أحق بالعيش في تلك الدار الفخمة من ابنته التي غادرته زوجة لأحد اقاربها .. ولكن طباعها القاسية دفعت به نحو تطليقها وإعادتها للسودان وربما تكون هي من طلبت الطلاق .. هذه المطلقة الموتورة والحاقدة على المجتمع وجدت ضالتها في هذه البنت الساذجة فمارست معها ساديتها وغطرستها فهل تكون قد اوصلتها إلى درجة اختطاف طفلتها وقتلها انتقاماً لكرامتها المجروحة .. لا .. لا .. لايمكن أن يصل بها الأمر إلى هذا الحد .. بيد أن قصتها غادرت اضابير الشرطة لتنشر بالصحف .. وقد فوجئت بصورتها منشورة بإحدى اليوميات المتخصصة في الحوادث وقد وضعوا عصابة فوق عينيها دون ذكر اسمها .. وتناولت الصحيفة تفاصيل الحدث على لسان والدة الطفلة المكلومة ومع صورة بطة ظهرت صورة الطفلة وبجانبها تعليق يقول ( ابحثوا مع الشرطة عن الطفلة البريئة أريج ذات الاربعة أعوام والتي اختفت منذ ما يقارب الثلاثة أشهر ) .
عبدالغني خلف الله
05-11-2010, 06:47 AM
الحلقة الأربعون
باتت قضية الطفلة ( أريج ) قضية عامة ووجدت تجاوباً من الجمهور لا مثيل له .. وتطوع أكثر من ألف شاب وشابة للبحث عنها .. وكلفت لجنة من اتحادات الطلاب بالجامعات بتنسيق تلك الجهود .. وبدات الحملة بالمدارس يضعون صورها في بوابات الفصول وانتقلت إلى أئمة المساجد وبثت نداءات عبر المآذن لجميع انحاء العاصمة تحث الناس على البحث عن ( أريج ) وابلاغ الشرطة اذا ما عثروا عليها ميتة أو حية .. وقام عدد كبير منهم باستئجار بعض المراكب الشراعية وقاموا بتفتيش شواطئ النيل الازرق والابيض على الجانبين إلى أن حدثت المفاجأة التي اعطت القضية بعداً جديداً .. فقد عثرت مجموعة من الشبان على فردة حذاء لطفلة صغيرة ملقاة على الشاطئ وقد جرفتها الامواج إلى عيدان القصب الكابي فوق الماء ..أخذوا الحذاء على عجل وتوجهوا إلى مكتب المتحري في القضية وسلموها للضابط المسئول .. لم تتأخر الشرطة في استدعاء والدة الطفلة وجدها للتعرف على الحذاء إن كان فعلاً يخصها أم انه يخص طفلة أخرى فقدته وهي تلهو على الشاطئ الرملي العريض .. تهاوت ( بلقيس ) والدة الطفلة على اقرب مقعد والعرق يتصبب منها وهي تضرب خديها وقد انعقد لسانها من هول المفاجأة وأنين خافت ينبعث من بين شفاها .. تحاول أن تقول انه لها .. وأنها ماتت .. لقد غرقت إذن .. يا للفاجعة وتناولت الصحف في ثاني يوم القضية بإسهاب وصورة الأم المكلومة بفقد صغيرتها تحتل مكاناً بارزاً بصدر كل صحيفة .. وكان على الشرطة أن تحول مسار القضية من مجرد البحث عن طفلة مفقودة إلى قضية قتل مع سبق الاصرار والترصد وتبقت تبعات العثور على جثة الطفلة .. انضم كل قادر على السباحة إلى عناصر الدفاع المدنى والغطاسين يفتشون النهر قبالة المكان الذى عثر فيه على فردة الحذاء شبرا شبرا ولكن دون فائدة .. وانطلقت مجموعات اخرى تسال الأهالي المقيمين على القرى المحاذية للنهر شمال الخرطوم وكذلك المزارعين وصائدى الاسماك وكل من يصادفهم من المارة .. وفى ركن ما بقرية صغيرة جلس رجل عجوز يرتق فتوق شباكه استعدادا لرميها فى الماء .. توقفوا عنده .. وسالوه ان كان قد لمح جثة طافية لطفلة غريقة .. كان الرجل لا يسمع جيدا .. وأكثر من عبارة ( قلتو شنو .. ماسامعكم .. ) فاستعان احدهم بلغة الصم واشاراتهم وكان متخصصا فى هذا الضرب من التفاهم.. فقال لهم الرجل بلى .. لقد وجدت جثة لطفلة صغيرة منذ مايقرب الخمسة اشهر ودفنتها تحت تلك الشجرة اعلى الجرف .. تدفنها بدون ان تبلغ الشرطة ؟!.. وأين أجد الشرطة ورجلاى بالكاد تحملاننى حتى ذلك الكوخ حيث اعيش بمفردى على صيد الأسماك .. وانطلق الجميع عائدين الى الخرطوم لابلاغ الشرطة بنبا العثور على الجثة .. فكان لابد من اخذ اذن القاضى المختص بنبش الجثة وإرسال طبيب شرعى لإجراء التشريح ومعرفة أسباب الوفاة .. هذا إن كانت هى الطفلة المعنية بالأمر علي كل حال .. ولم تسمح الشرطة لأمها بالذهاب معهم واصطحبوا عوضآ عنها جدها وأحد أقاربه .. وبمجرد أن ظهر رأس الطفلة من بين حبات الرمل حتى أجهش الرجل بالبكاء فقد كانت من ترقد فى تلك النقطة المنسية من الكون ليست سوي حفيدته أريج ولم تتغير ملامحها كثيرا بفعل الرطوبة ولطبيعة الارض الرملية المطمورة في ثناياها .. وجاء قرار الطبيب الذى قام بالتشريح بأن سبب الوفاة يعود الى (اسفكسيا الخنق) وليس الغرق .. وأن الجانى قد قام بخنق الضحية وبعد أن تأكد من وفاتها قام بإلقائها فى النهر .. إذ لااثر لقطرات الماء داخل الرئتين.
عبدالغني خلف الله
06-11-2010, 08:23 AM
الحلقة الواحدة والأربعون
تم الافراج عنا بكفالة مالية دفعتها النقابة العامة ونقلنا بحافلة إلى دار نقابة المحامين لنجد مؤتمراً صحفياً كبيرأ بانتظارنا .. صحفيون من خارج البلاد وممثلون لمنظمات أجنبية تعنى بحقوق الانسان وصحافة محلية .. وقد كنت أنا من أجيب على اسئلة الصحفيين بالإنابة عن زملائي الآخرين .. حدثتهم عن ظروف اعتقالنا والأوضاع داخل السجن وقلت لهم بأن الهدف من وراء المظاهرات التي قمنا بتنظيمها هو الدفاع عن حقوق المواطنين بصفة عامة وحقوق الطبقة العاملة بصفة خاصة وبأن الضائقة المعيشية التي تعصف بالجميع في ظل تدني الأجور لا تتحمل أية زيادة في الأسعار لاسيما اذا كانت تلك السلعة تتعلق بغذاء الاطفال والامهات الحوامل مثل سلعة السكر .. وعرجت على قانونية الاجراءات التي قمنا بها وبأنه كان لدينا إذن من السلطات ولم نقم بأي نوع من انواع الشغب .. صحيح أننا اقتحمنا مكتب رئيس الوزراء لنسمعه صوتنا بأنفسنا بعد أن عجزت كل الاقلام المدافعة عن حقوق العمال في اسماع صرختنا لسيادة السيد رئيس الوزراء .. وشهد المؤتمر صحافيون يساندون الائتلاف الحاكم وحاولوا الإيحاء بأن بعض الدوائر الاجنبية هي التي تحركت لإحداث بلبلة في البلاد وعدم استقرار يفضيان بالضرورة إلى تدخل أجنبي .. دافعنا بالطبع عن موقفنا ومن ثمّ أختتم المؤتمر الصحفي ببعض المداخلات من ممثلي منظمات حقوق الانسان وقالوا أنهم يراقبون عن كثب التجربة الديمقراطية الوليدة بالسودان وانهم مشفقون من وأدها عبر أنشطة عمالية مطلبية لا تستصحب معها المشاكل التي يعيشها السودان والظروف الاقليمية المعقدة التي تحيط به .. وقد انتظرت وأنا شبه مذهول ترجمة سؤال وجهته لي مندوبة إحدي الوكالات الأجنبية .. وكانت شقراء فارعة الطول .. سبحت في جغرافيا جسدها المتناسق ولم أدر بم أجيب فطلبت منها إعادة السؤال وكانت تعيده لي في كل مرة بطريقة مختلفة وتمالكت أعصابي وأفقت من تأثيرها الرهيب عليّ وعلى كل الحاضرين داخل القاعة الانيقة واجبتها بكلام هلامي لا يفهم منه أي شيء .. مثل مقتضيات القيادة والتضحيات التي يجب تحملها في سبيل تحقيق الاهداف السامية لجماهير الطبقة العاملة وانني ارفض الاجابة عن بقية السؤال لدواعي المصلحة العامة ..
لم ترق له الطريقة التي تقابل بها شقيقته سحر صديقة وشريكة في وكالة بيع وشراء العقارات مبارك .. فقد كانت تعامله بحزم وبشكل لا يعطي الانطباع بأنها تعرفه منذ سنين .. وكان مبارك قد ضم إليه ابن الجيران ( عصام ) شقيق سحر واغدق عليه الاموال طمعاً في التقرب من سحر وأسرتها تمهيداً لخطبتها .. ولعل سحر التي تجرعت مرارة الغدر والإذلال من زوجها الأول القادم من احدى زوايا الاسرة بكل ما فيها من ثراء فاحش وكان قد فرض عليها رغم تحفظها على سلوكياته .. فهو سكير عربيد وزير نساء تعرفه كل اوساط الحي .. وكان قد اقسم لعمته والدة سحر بانه قد اقلع عن التدخين وشرب الخمر ولعب القمار وأنه سيضع سحر بين حدقات العيون وسيرعاها كزوج وكفرد من العائلة .. وهكذا جمّلوا لها صورته وبأنه قد تغير كثيراً منذ تعلقه بها .. فوافقت على مضض علّ وعسى .. ولكن ما أن انتهت أيام شهر العسل حتى عاد لسلوكياته القديمة .. يجتمع هو وبطانته كل مساء في حديقة منزلهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر وعندما ينفض سامرهم ينهال عليها ضرباً وإهانة .. وبقيت على هذا المنوال ردحاً من الزمن وهي تنتقل من منزل الزوجية غاضبة متمر دة إلى منزل أسرتها فيتدخل الأجاويد من رموز العائلة العريقة فيعيدونها إليه بعد أن يتوسل إليها لترضي وبأنه لن يعود إلى سابق عهده .. ولكن سرعان ما تتملكه نزعة الفوضى والشللية من جديد .. فيعود إلى البيت أواخر المساء وهو مخمور فيسبها ويضربها بسبب أو بدون سبب إلى أن حصلت على الطلاق .. هاهو مبارك الاكثر دهاء وذكاءاَ والذي يكبرها قليلاً يعاود الكّرة معها فما كان منها إلا أن أوقفته عند حده لدى أول محاولة .. استشاط الرجل غضباً فصار يراقب تحركاتها من على البعد ليكتشف انها تغادر منزلها لتعرج على صالح وتاخذه معها يمضيان معاً أجمل الاوقات لتعيده إلى منزله وتؤوب قافلة وشعور رائع بالامتلاء والسعادة يملأ قلبها .. فما كان منه إلا أن اخبر شقيقها بحقيقة ما يحدث بل واصطحبه معه في عربته ليرى بأم عينه شقيقته المترفة سحر وهي تتهافت نحو سائق والدها السابق .. فتربص بها في احدى الامسيات وكان يجلس مع والده ووالدته يتفرجون على التلفاز .. سلمت عليهم وهمت بصعود الدرج نحو غرفتها فاستوقفها بغلظة وهو يسألها أين كنت ومع من ؟ ! .. ارتبكت سحر وقد فاجأها شقيقها بالسؤال في حضرة والديها .. قالت له أنها كانت في زيارة لإحدى زميلاتها بمناسبة خطوبتها .. قال لها انت تكذبين وقد كنت مع حربي .. وتخرجين معه كل يوم .. طلبت منه أن يلحق بها في غرفته إذا كان يريد أن يعرف أين كانت .. حال بينها وبين الدرج وجذبها من شعرها وهو يوجه لها اقذع السباب ويضربها على مسمع ومرأى من والديها .. جن جنون والدتها وهي ترى ابنها وابنتها يصلان إلى هذه المرحلة الخطيرة من التجاذب والملاسنة فولولت وصاحت تطلب النجدة من الجيران .. اما الوالد فقد ألجمته المفاجأة فتسمر في مكانه غير قادر على الحركة .. ركضت سحر نحو غرفتها وارتمت على سريرها تبكي بحرقة وأسى .. لم تنجح نداءات والدتها ووالدها في حثها على فتح باب غرفتها فقد خشى الاثنان على وحيدتهما .. إذ لربما تقدم على إيذاء نفسها .. وعندما يئسا من اقناعها .. تذكرت والدتها شقيقها المحامي إسحق وهي تعلم عمق العلاقة التي تجمع بينهما .. فاتصلت به هاتفياً في تلك الساعة المتأخرة من الليل .. فجاء على عجل ومعه زوجته وعندما تعرفت سحر على صوته فتحت له الباب .. فتحلق الجميع حولها يخففون عليها ما تعرضت له من إهانة وضرب .. واعاد والدها على مسامعها رفضه لأي تقارب مع سائقه السابق حربي .. لأنه غير كفء وغير جدير بها وعليها أن لا تنزلق إلى علاقة كهذه .. قالوا لها أشياء كثيرة ونصائح أكثر .. فاكتفت بالدموع وبالصمت الرهيب تجاوبهم به .
عبدالغني خلف الله
07-11-2010, 07:50 AM
الحلقة الثالثة والأربعون
لم أكن راضياً عن أدائى فى المؤتمر الصحفى .. وشعرت أننى بحاجة الى مزيد من التعلم .. وكان الاستاذ عامر قد حاضرني اثناء وجودى معه بالسجن فى المرة الثانية عن فن الخطابة وفن الالقاء واساليب التفاوض وحدثنى عن ادبيات القانون الدولى والاتفاقيات الدولية التى وقعها السودان مع الدول المجاورة ومع بقية دول العالم .. كذلك شرح لى تكوينات منظمة الامم المتحدة بما فى ذلك مجلس الامن ومحكمة العدل الدولية والوكالات المتخصصة .. وحتى أكون فى مستوى القيادة التى منحتنى لها القاعدة كان لابد من الاستزادة .. فرحت اجوب المكتبات بالخرطوم طولا وعرضا أقتنى الكتب والمراجع فى شتى ضروب الثقافة وكنت أجد فى كل مكتبة فتاة او أكثر تستقبلنى بكل لطف وأريحية .. فتيات مثقفات .. تلخص لك هذا الكتاب او ذاك وهى تقودك من قسم الى آخر .. هنا قسم التراجم الاجنبية .. لدينا كل كتابات كولن ولسون وماركيز وهنا روايات جديدة لغادة السمان .. وهذا هو قسم المؤلفات السودانية من رواية وشعر وفكر .. هذه مثلا المجموعة الكاملة للطيب صالح .. وهذا آخر ديوان لمصطفى سند وعندنا مؤلفات دكتور عون الشريف .. وكنت استمتع بتلك الحوارات مع تلكم الفتيات الأنيقات وكثيرآ ما سالت نفسى عن العلاقة بين المكتبات والجمال .. ولماذا كل المكتبات بهذا الثراء وهذا التنوع وحتى ارففها تبدو أنيقة ومصقولة .. ووصلت الى قناعة بأن المكتبات وهى تحتضن بين دفتيها خلاصة الفكر الانسانى .. ذلك الفكر الذى سطره أناس رائعون موصوفون بالشفافية والإنسانية لابد ان تكون الفتيات العاملات بها بذات القدر من الرقة والوداعة والجمال .. وكنت أشعر بان أجمل الأوقات التى أمضيها هى هناك لاسيما اذا كانت سحر بجانبي .. نراجع معاً السير الذاتية للكتاب من عرب وعجم واحياناً نقرأ بعض المقاطع الشعرية ونتبادل النظرات .. لقد كانت سحر لوحدها عالماً من الجمال والرقة والحنين .. سحر الرائعة .. أيتها الساحرة الانيقة .. يا من جلست على فناء قلبي تعمقين فيه أخاديد الفرح وتزرعين على حوافه الروعة والسحر .. إذن أنا أقرأ كتاباً جديداً كل يوم .. وكأنني أحاول تعويض ما فاتني في قاعات الدراسة ولم أعد أمياً جاهلاً كما كنت .. وجاءت لحظة الاختبار الحقيقي عندما أعلن عن بدء الحملة الانتخابية لمجلس الشعب .. وكان على نقابات المحامين والمهندسين والاطباء والعاملين بالدولة من عمال وموظفين .. التنافس على خمسة مقاعد .. وتقدم العشرات لترشيح أنفسهم على أسس حزبية .. اما أنا فقد اقنعتني سحر بترشيح نفسي كمستقل استناداً على رصيدي النضالي من أجل الطبقة العاملة لا سيما وأنني قد دخلت السجن لأكثر من مرة دفاعاً عنهم .
في البداية اعتقدت أن الأمر لا يعدو عن كونه فورة من الحماس ستنحسر مع مرور الوقت .. ولكن سحر أخذت الأمر محمل الجد .. وانفقت كل ما لديها من أموال في طباعة الملصقات وإيجار (المكرفونات ) للندوات والمنتديات التي نظمناها بالمصالح الحكومية وبالجامعات .. ولقد راق للكثيرين تقديم نفسي على أنني مستقل وأنني لا أعمل لحساب حزب أو جهة وبأن منطلقاتي هي رفع المعاناة عن كاهل الطبقة المسحوقة في المجتمع وتوفير لقمة العيش الكريم والدواء والسكن والتعليم .. وسرعان ما التفت من حولي نخبة من المثقفين وعلى رأسهم الاستاذ إسحق المحامي وآخرون سئموا اطروحات الاحزاب ووعودها التي لا تتنزل علي أرض الواقع .. وكنت أمثل لهم بكل ذاك العنفوان والحماسة التي اخاطبهم بها .. الأمل القادم على اجنحة الثورة السياسية الطالعة .. وضوءاً في آخر النفق السياسي الذي ظل السودان يتخبط في دهاليزه منذ الاستقلال .. ونسيت في خضم هذا الزخم الانتخابي صديقي (شنكل ) وشقيقتي سلمى .. وكنت نادراً ما ألتقيهم .. وقد أعود أواخر المساء وأجدهم يغطون في نوم عميق .. أما الرائعة سحر .. فقد رجوتها بأن لا تصحبني في الليالي السياسية خوفاً من تكرار ما حدث لها عشية عودتها للمنزل متأخرة بعض الشيء وموقف شقيقها ( عصام ) الذي وضعهما على حافة الخصومة الأبدية لولا رقة ونبل سحر .. التي كانت تحرص على تحيته في اقتضاب كلما صادفته وهي داخله للدار أو هي مغادرة .. أما هو فقد كان يتجاهل تحيتها ولا يرد عليها .
عبدالغني خلف الله
08-11-2010, 06:05 AM
الحلقة الرابعة والأربعون
أحدث اكتشاف جثة الصغيرة أريج ما يشبه الصدمة لكل الناس الذين تابعوا مأساتها وخيم الحزن على نفوس كل المجموعات التي تطوعت للبحث عنها وإعادتها إلى أحضان أمها .. وخصصت بعض الصحف صفحات بأكملها لإستقبال ونشر خطابات المواساة والتعازي لأسرتها .. وتحولت أريج إلى رمز للأحلام الموئودة وخيبات الأمل التي تعصف بالكثيرين وكان مجرد الأمل في أنها لا تزال على قيد الحياة وبأن مسألة العثور عليها لا تعدو أن تكون مسألة وقت سراباً يخدر به الجميع مخاوفهم من أن تكون قد قتلت بالفعل .. وليس بعيداً عن هذه الاجواء الكئيبة .. توقفت عربة أنيقة أمام بوابة السجن ترجل منها رجل في مقتبل العمر تلوح عليه سيماء الجاه والثراء وكانت مفاجأة غير متوقعة لضباط السجن عندما قدم له نفسه بأنه يمت بصلة القرابة إلى المتهمة ( بطة ) .. وطلب في لطف وتواضع مقابلتها وتسليمها رسالة من شقيقتها بأرض المهجر .. رحب به الضابط ترحيباً حاراً وقد كان يتعاطف مع ( بطة ) تعاطفاً شديداً خاصة بعد أن انقطع الجميع عنها وأحجم عن زيارتها وهو يؤمن بأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته ولو أن ذلك التعاطف قد خبأ قليلاً بعد العثور على جثة ( أريج ) .. جاءت بطة من حبسها الانفرادي بعد أن تحولت التهمة ضدها من مجرد خطف واختطاف إلى جريمة القتل العمد .. وكانت تنوء تحت حمل السلاسل التي قيدوها بها كما تقضي بذلك لوائح السجن .. وبدت متعبة وشاحبة وتلوح عليها علامات البؤس والكآبة .. وعندما أخبروها بأن أحد اقاربها يود مقابلتها وبأنه يحمل لها رسالة من قريب لها خارج السودان .. أصابها نوع من الحيرة والتردد .. ترى من هو هذا الزائر المجهول .. ومن تراه يكون ..؟ ولكنها على كل حال لن تخسر شيئاً بمغادرتها هذه الزنزانة الكئيبة ولو للحظات .. دخلت عليه وهي تقدم رجلاً وتؤخر أخرى وصليل السلاسل يتناهى إلى الأسماع وكأنه لحن جنائزي .. سلمت عليه من على البعد فوقف يرد تحيتها واستأذن ضابط السجن في أن يتركهما لوحدهما لبعض الوقت بيد أن الضابط رفض ذلك الطلب وأصر على أن تتم المقابلة في حضوره .. وطلب من ( بطة ) أن تجلس على كرسي قبالته .. قال لها كلاماً طيباً وهو يواسيها في مصابها ويوصيها بالصبر وأخبرها بموضوع الرسالة التي يحملها لها مع شيء من المال وأدخل يده في جيب سترته ليخرج الرسالة المزعومة ولكنه بدلاً عن ذلك أخرج مسدساً وبدأ يطلق النار تجاهها وهو يردد يا قاتلة يا ملعونة .. إنطلقت الرصاصات الخمسة ولحسن الحظ لم تصبها سوى طلقة واحدة في كتفها الأيمن .. إقتحمت مجموعة من الحراس المكتب عندما سمعت صوت الرصاص وسيطر الضابط والحراس على الرجل وأرسلوا ( بطة ) على عجل للمستشفى لاسعافها من الجرح الذي سببه لها ذلك الطلق الناري وقد تلطخت ثيابها بدماء غزيرة .. كانت واجمة ولم تبد أي نوع من المقاومة .. ولعلها تمنت في تلك اللحظات الغريبة لو أنه اصابها في رأسها لتموت .. تم تسليم الرجل المجهول للشرطة للتحقيق معه بتهمة الشروع في القتل لتكتشف الشرطة أنه والد (أريج) المنفصل منذ سنوات عن والدتها ..سمع بقصتها عبر وسائل الاعلام فاستقل أول طائرة تغادر الخليج ولم يمض على تواجده بالخرطوم سوى يوم واحد فقط تمكن فيه من شراء مسدس غير مرخص وعدد من الطلقات النارية .
كان خائفاً مذعوراً وكأن الموت يتربص به من كل جانب .. لماذا أنت خائف ومضطرب هكذا يا أخانا .. هل نسيت حتى اسمك بالكامل .. ( في الحقيقة يا جنابو ... دي أول مرة أدخل فيها مركز شرطة أو محكمة .. وعمري لم أشهد في قضية ) .. نحن بشر مثلك لدينا إحساس ونقدر ما تقوم به نحو بسط العدل والأمن في ربوع المجتمع .. أنت حينما تخاف هكذا من وجودك أمام ضابط شرطة نكون نحن قد فشلنا في إرساء علاقات سليمة مع الجمهور ..( ياخي عليك أمان الله .. انت قول بس الحاجة الأنت فعلاً شفتها بدون زيادة أو نقصان .. والقال ليك لو شهدت ناس البوليس بختوك في الحراسة انسان غلطان .. إهدأ وخت الرحمن في بالك .. وخلينا نبدأ من الأول .. قلت لي اسمك بالكامل منو ؟..) ومضى الرجل بعد تجرع كوباً من الماء في الإدلاء بشهادته .. كنت في بقالتي ضحى ذلك اليوم أمارس عملي بالتجارة كالمعتاد .. وفجأة توقفت عربة أجرة أمام البقالة وترجلت منها امرأة في حوالي الثلاثين من العمر … ترتدي ثوباً أخضر وتلبس في يديها مصاغ ذهبية توحي بأنها امرأة ثرية وميسورة الحال واشترت كمية من الشوكولاتة والمثلجات وقد لاحظت أن بداخل العربة طفلة صغيرة في حوالي الثالثة من العمر ترتدي فستاناً أحمر بقيت مع السائق .. أخذت تلك السيدة الحلوى والمثلجات وعادت للعربة لتنطلق مغادرة المكان .. وهل بامكانك التعرف على تلك السيدة إذا عرضت عليك ؟ .. بالطبع يا سيدي فقد كانت قسمات وجهها على قدر من الوسامة والثراء ولاحظت أيضاً أن طريقتها في الكلام لا توحي بأنها قد تلقت شيئاً من التعليم بل أن بعض ألفاظها لا تخلو من الوقاحة والجلافة وتصرفاتها سوقية ومتخلفة وكانت تمضغ ( اللبان ) بطريقة مستفزة ولو أنها وبرغم كل ذلك تلفت الانظار بأناقتها المفرطة وجسدها المتناغم .. وكيف وصلت إلى استنتاجك حول جلافتها وتخلفها ؟ .. نعم يا سيدي .. فقد كانت تنطق اسماء الشوكولاتة بطريقة تختلف عن اسمائها الحقيقية .. كأن تقول مثلاً ( آيس كرين ) بالنون وهي تقصد بالطبع ( آيس كريم ) بالميم وأشياء من هذا القبيل .. مثل ماذا ؟ .. مثلاً سألتني إ ن كانت السينما الواقعة قبالة البقالة تعمل اثناء ساعات النهار وقد نطقتها هكذا ( السيلما ) أخذت وأعطيت معها بالكلام .. هذا ما حدث فعلاً .. نحن نشكرك على هذه الإفادة … سنرتب لطابور تعرف على الاشخاص وسوف تكون المتهمة ضمن مجموعة من السيدات وعليك التعرف عليها ثلاث مرات .. هذا باختصار مضمون طابور التعرف على الاشخاص .. أنا جاهز جنابك واتمنى أن أوفق .. وإحساسي بحجم الجريمة المرتكبة سيجعلني أركز أكثر فأكثر .. لقد كانت طفلة رائعة الجمال وقد لاحظت شقاوتها وحيويتها لدرجة أنها أخرجت ثلاثة أرباع جسدها خارج العربة عبر نافذة الباب الخلفي .. فانتهرتها تلك السيدة وامرتها بأن تبقي هادئة ومؤدبة حتى لا تسقط .. هكذا إذن يا بطة .. قد نحتاج لبعض الوقت حتى يتم شفاؤك من الجرح الذي أصابك به ذلك الأب المفجوع .. لقد كاد أن يطمس كل معالم القضية فيما لو تسبب في قتلك .. ولكن من هو ذلك السائق وما دوره في الجريمة المرتكبة .. لابد من العثور عليه .. لو أن ذلك الشاهد حفظ رقم السيارة لوفر علينا الكثير من الوقت ولكن لا بأس سنبحث عنه وسنجده ان شاء الله .
عبدالغني خلف الله
09-11-2010, 07:33 AM
الحلقة الخامسة والأربعون
وهل اعجبتك الحياة بامريكا يا شنكل ؟! .. طبعاً أعجبتني يا حربي .. لا سيما وأن وجود سلمى ووالدتي جوليا قد وفرا لي الكثير من الراحة والطمأنينة .. وكم كان المستر رتشارد كريماً وعطوفاً معي .. لقد أدركت أخيراً أهمية أن تكون لديك أسرة .. لابد أنك عانيت في البداية من ملاحقة الامريكيات لك .. ولماذا يلاحقنني .. لا أحد يلاحق أحد .. والعلاقات الانسانية في المجتمع الأوروبي لا تقوم بالشكل الذي كنا نتخيله .. ( حكاية الخواجيات يطاردوك في الشارع وأشياء كهذه .. ) لا وجود لها .. هذا فهم متخلف كان سائداً في اذهان الكثيرين ولكن التواصل الذي نشأ بين الأمم ووسائل الاعلام من وصحف إاذاعات بدد هذا الفهم الخاطئ .. وأقول لك بصراحة شديدة ربما يظل المواطن الافريقي أو العربي في حالة ملاحقة لاعوام بحالها ليظفر بواحدة .. هذه الاشياء تقوم على المعرفة اللصيقة .. وعلى الإقناع والاقتناع .. صحيح هنالك دور متخصصة لممارسة البغاء تحت الإشراف الصحي والإداري للدولة كواحدة من البثور القميئة في وجه المجتمعات الحديثة .. وبعض الولايات تمنع مجرد نشر صور بائعات الهوى .. هنالك حتى اليوم أسر عريقة لا تفرط في أبنائها وبناتها وفي أعرافها وتقاليدها وقد تأثرت المجتمعات الحضرية بإيقاع الحياة السريع وبالعلاقات العابرة كنتيجة حتمية للتحول الصناعي الذي يسيطر على جميع الانحاء .. وأنت كيف تسير الامور بالنسبة لك .. أموري أنا ؟! .. أرسلت زفرة حارة خرجت من اعماق نفسي وقلت له … والله لا ادري بم أجيبك يا شنكل أشعر وكانني لست أنا .. صالح حربي البسيط الضاحك الذي ينشر الفرح على كل من حوله .. أشعر وكانني حزمة من العقد النفسية والآمال الضائعة والتوهان بين نمط حياتي الذي تعودت عليه بالحي العشوائي وفي المنطقة الصناعية وبين نمط حياتي هذا في منزلنا الجديد وفي المصلحة والنقابة .. ونحن على وشك الدخول في معركة إنتخابية حاسمة وهنالك أشياء أخرى تسهدني وتؤرقني .. مثل ماذا يا حربي ؟!.. هات كل ما عندك فنحن أصدقاء ويا طالما وقفت إلى جانبي تشد من ازري وتزرع الأمل في صدري حتى عثرت على أمي وعرفت من أنا ومن أكون .. من هو أبي ومن هي والدتي .. هل تذكر يا حربي تلك الأيام الموحشة .. أيام اللا إنتماء لأي إنسان أو جهة أو فئة .. كنت وقتها أطالع النجوم وأنا أنام على رصيف الشارع .. النجوم أنيستي وصديقتي الوحيدة أقرأها نجمة .. نجمة .. وأحكي لها مخاوفي وأحزاني .. كنت خائفاً ومذعوراً .. يا الهي كم كنت خائفاً يا حربي .. حتى دبيب الحشرات بين الأوراق الجافة والأوراق المهملة يشعرني بالرعب وكأن إنسانا ما من أولئك الصعاليك يتربص بي .. فترتعد فرائصي من الخوف .. لأنني أعلم مدى قسوتهم وحقدهم وأنا بعد لم أزل في هشاشة عظامي وضعف قواي .. ولكن .. الحمد لله .. كل تلك الهواجس مضت إلى غير رجعة .. الانتخابات ؟! وهل ستترشح للانتخابات ؟!.. لقد ترشحت وانتهى الأمر والاقتراع بعد أسبوع .. وبطة ؟! .. كيف تسير الأمور معها ؟! .. ألا تزال تحبها وتنوي أن تتزوجها ؟؟! بطة ؟!.. وأين هي بطة ؟! .. إنها في السجن بتهمة استدراج وخطف وقتل طفلة مسكينة اسمها ( أريج ) .. لقد خذلتني هذه المرأة على أكثر من صعيد .. ولكن الله عوضني بسحر .. تلك المضيفة التي كنت تقوم بصيانة عربتها ؟!.. إنها هي .. ولكن الاحوال تبدلت .. انها الآن أمل حياتي وأحلام عمري ومشتهى النفس والخاطر .. هل تحبها يا حربي ؟! ... بل أموت من أجل إبحار ولو لدقائق في بحار عينيها الواسعتين .. ولكن مشواري مع سحر يا شنكل مشوار طويل وملئ بالمفاجآت والأخطار .. مشواري مع سحر .. مشوار حياة أو موت .. لقد أقسمت بانها ستكون لي بإذنه تعالي وأقسم بأنني سأتزوجها أو أهلك دونها .. لهذه الدرجة يا صالح ... بل أكثر .. أكثر بكثير يا صديقي .
لم يجد شنكل صعوبة تذكر في الوصول إلى منزل جده وجدته .. فقد كان وجدي معروفاً بالحي .. لذلك ما أن سأل أول سيدة بالقرب من المنزل حتى قادته إليه وهي تردد ( سبحان الله .. سبحان الله .. ) هل يكون إبنه؟ تساءلت تلك السيدة بينها وبين نفسها .. ولكن وجدي غير متزوج .. وهذا الفتى كأنه هو .. استقبلته عمته ماريا لدى باب الدار ورجته بالدخول وشكرت قريبتها تلك على توصيله لهم وهمست في أذنها وهي تغادر ( ما لاحظت حاجة ؟ ! .. حاجة زي شنو يعني ؟! ) بيد أن المرأة تلك ذهبت لحال سبيلها .. إتفضل .. والدي لم يعد بعد ولا يوجد أحد سواي ووالدتي .. البقية في حياتكم .. قال لها .. حياتك الباقية .. قالت له ذلك وهي تترنح من حجم المفاجأة .. إنه الغالي وجدي .. كأنه هو ..هل بإمكاني مقابلة والدتك فعندي بعض الوصايا رجاني المرحوم وجدي تسليمها لها .. طبعاً .. لحظة من فضلك .. كانت نائمة لحظة وصول شنكل أو أنها تتظاهر بالنوم … فمنذ أن بلغها نبأ وفاة إبنها بأمريكا وهي تتفادى الناس والأشياء .. وحتى أقرب الأقربين لها .. وكأن الهروب وسيلة تداري به أحزانها .. لطالما تمنت لو أنه تزوج جوليا بنت الجيران الفتاة الطيبة الجميلة والموظفة المرموقة بالمنظمة التي يعمل بها .. وهي تعرف أسرتها فرداً فرداً .. كيف لا … وقد قاسمتهم الحلو والمر… وكانت كل أسرة تفتح قلبها وبيوتها لدى أي طارئ سعيداً كان أم حزيناً للأخري .. يااه عشرة عمر .. وحاولت أن تتظاهر بالنوم كعادتها .. ولكن ابنتها قالت لها في حزم .. هناك ضيف قادم من امريكا وعنده وصايا من المرحوم .. هنا قفزت من سريرها واعتدلت في جلستها وهي تفرك عينيها .. خليه اتفضل .. لقد فرحت عمته بوصول هذا الضيف المحيّر فهو لابد سيحمل معه بعض المال الذي هم في أمس الحاجة إليه فقد ساءت أحوالهم المالية بشكل مرعب .. ولم يعد الوالد قادراً على العمل في دكانته بسوق الخرطوم لاسيما والكساد الاقتصادي قد ألقى بظلاله على الجميع ... وراحت تتخيل حجم المبلغ … عشرة ألف دولار ؟*.. لا هذا كثير .. خمسة ألف دولار تكفي لمقابلة الديون المستحقة لصاحب السوبر ماركت ولتسديد فواتير الماء والكهرباء ولصيانة العربة المتوقفة منذ شهور .. السلام عليكم يا جدة … البركة فيكم .. البركة فيك يا ولدي .. قالت ذلك وهي تسبل غطاءها على وجهها كعادة السيدات الكبار .. عادة قديمة تتمسك بها هؤلاء السيدات المسنات برغم الحداثة والتكنلوجيا وكل مظاهر الحياة العصرية التي يعيشها الاولاد والبنات ولكن في صوت هذا القادم من عند ولدها شيئاً من صوت وجدي .. يا إلهي .. كأنني اسمع صوت وجدي وقد بعث من جديد .. السيدة العجوز وهي تحدث نفسها .. سوف أتفرس في وجه هذا الشاب .. يا الهي كم يشبه صوته صوت الغالي وجدي .. وما أن رفعت رأسها تتأمله حتى شهقت وراحت في شبه غيبوبة .. وجدي ولدي .. ولدي وجدي ..( ما قالوا مت يا ود حشاي … قالوا مت .. الكضابين .. المابخافوا من ربنا ..) انا لست وجدي ياخالة .. والله أنا لست وجدي .. هنا تدخلت عمته المذهولة هي الأخري بالشبه الشديد بينهما والله يا ماما ده ما وجدي .. أنت شبهتيهو وبس.. تعال لي يا ولدي .. تعال جنبي هنا في السرير .. تقدم شنكل وجلس إلى جانبها ورفع يدها يقبلها وهو يتمتم .. يا حبيبتي يا يما … وانهمرت الدموع مدرارة من عينيه .. فأخذته إليها تضمه وتقبلّه وتشمه وهي تردد أنت منو يا ولدي ؟* .. أنت منو يا ود مصاريني .. انا ريمون ووجدي أبوي .. إنت ولد وجدي ..؟ .. إزداد العناق والبكاء حرارة .. وانضمت لهما ماريا لتنتزعه من بين أحضان أمها وتضمه إليها وهي في شبه هستريا .. أحياناً تضحك وأحياناً تبكي ورويداً رويداً هدأت الخواطر وعاد الشيخ المتعب لينضم إلى الجميع وهو غير مصدق .. ولولا الشبه الشديد بينهما لتصور أنه في حلم جميل سرعان ما تبدده اليقظة .. وقال لهم .. تزوج أبي المرحوم وجدي من والدتي الايطالية في بداية عمله بروما ولكنهما افترقا بعد أن انجباني وعشت كل هذه السنين مع والدتي .. وقبل عامين لحقت بوالدي بنيويورك .. ولكنك تتكلم اللغة العربية بطلاقة وبلهجة سودانية .. لقد حرصت والدتي أستاذة اللغات على تعليمي لها وقد كنت أؤثر الاختلاط بأبناء الجالية السودانية في روما بعد أن فهمت من والدتي أن والدي من أصل سوداني .. لم تتابع الجدة المنتشية باكتشاف حفيدها بقية الحكاية وظلت تردد في تتابع يثير الاعصاب ( الله يسامحك يا وجدي .. عندك ولد عايش على وش الدنيا وما تقوليش .. )
عبدالغني خلف الله
10-11-2010, 09:00 AM
الحلقة السادسة والأربعون
وقبيل مغادرته لهم أخرج من حقيبته مبلغ خمسون ألف دولار ومعها الاوراق التي تثبت دخولها للبلاد بصفة رسمية .. ودسهما في يد جده الذي أذهلته المفاجاة .. خمسون ألف دولار ؟* .. نعم وهذه عشرة ألف دولار هدية مني لكما .. والآن علىّ أن اذهب .. تذهب إلى أين ؟* .. والله لن تغادر هذا البيت شبراً واحداً .. ستبقى معنا وستمضي الليل هنا .. هذا بيتك يا ولدي وأنا أمك وهذا أبوك .. هل ستحرمنا منك كما حرمنا من ولدنا الغالي وجدي .. لا بل سأبقى يا جدة وسأقضي الليل معكم .. ومن ثمّ جلس إلى جانبها يؤانسها ويدعك يديها وأرجلها حتى نامت وهي قريرة العين .. مرتاحة الخاطر .. واستأذن من جده الانصراف على أمل أن يعود لهما قبل أن يقفل عائداً إلى نيويورك .
إفتقدت ( مها ) في زحمة المعركة الانتخابية وقصتي مع سحر وكذلك تراجيدياً بطة .. التي كم اتمنى من كل قلبي أن تكون بريئة من تلكم التهم الفظيعة التي لا تشبهها من قريب أو بعيد .. وأخبرتني احدى صديقاتها بالمصلحة بأن ( مها ) في الحبس منذ ثلاثة أيام .. الحبس ؟! .. مها في الحبس هي الأخرى .. لا يا سيادة النقابي الكبير والنائب المرتقب .. لا تدع افكارك تأخذك بعيداً عن الموضوع نعم ( مها ) في الحبس .. ولكنه حبس لذيذ تتمناه كل فتاة .. هل فهمت يا زعيم .. ( مها ) ستتزوج ؟!.. كيف ومتى .. هل أزعجك الخبر ؟ .. لا ولكنك تعلمين كم هي عزيزة عندي وكان عليها إخباري .. كان يجب أن أكون أول من يعلم بهذا الأمر .. فهي معي بالمكتب .. وهي .. وهي ماذا يا زعيم ؟ لقد أحبتك مها وأخلصت لك إخلاصاً لا مثيل له .. كانت تتعذب وهي تتابع لهثك وركضك المحموم نحو تلك المضيفة ( بت المدير ) وكانت تلملم جراحاتها كل يوم على أمل أن تحس بها وتراها على حقيقتها .. ولكن تلك الغشاوة التي رانت على عينيك الذاهلتين عنها بسيماء الأبهة والعظمة التي تشكل سحر .. قد حجبت عنك رؤية ( مها ) .. البنت المهذبة .. الجميلة .. الانيقة .. بنت الناس الطيبين .. بنت الاستاذ ( عمر إبراهيم ) مربي الأجيال .. الشاعر المعروف .. هكذا أنتم معشر الرجال .. تتطلعون نحو الأعلى وتهملون الدرر الغالية وهي تتسرب كالماء من بين أصابعكم وعندما تضيقون من أحلامكم الخائبة يكون الوقت متأخراً جداً .. أولاً يا عزيزتي .. مها في مقام أختي وأهلها هم أهلي .. لذلك كان عليها إخطاري بأنها ستتزوج على الأقل أحصل لها على سلفية زواج وإجازة وأقف إلى جانبها وجانب أهلها .. قلت لها كلاماً مثل هذا وأكثر وفي واقع الأمر كنت أعاني من تأثير تلك الصدمة الرهيبة التي شعرت بها .. تماسكت أمامها وأنا اتمزق من الداخل .. كيف فات علي الاهتمام بك وانت تأتين في المرتبة الثانية مباشرة بعد سحر على سلم اهتماماتي .. لن أجد شخصاً أحلى منك يا مها يضمد جراحاتي واسفح عند قدميه أحزاني .. لكن كان لابد من أن يحصل ما قد حصل .. إن ( مها ) ومثيلاتها من الأنيقات المترفات لايمكن أن ينتظرن هكذا وإلى الأبد دون زواج .. ليمنحنك السلوي والدفء وأنت تتطلع إليهن في حنان ومودة .. مثل ( مها ) لا يمكن أن تكون متاحة لك إلى آخر العمر .. تقرأ عينيها كل صباح .. وتبحر في سمرة خديها وأنت تعيش ذاك الشعور المفعم بالسعادة والإمتلاء .. وكان لابد أن أتصرف .. لذلك عدت مسرعاً إلى البيت وأخذت الوالدة وشقيقتي سلمى وزوجها شنكل وطفلهما وشقيقتي نادية وزوجها ( كافو ..) والعم صباحي .. بالرغم من أن نادية قد دخلت في الشهر الثامن من الحمل .. وأخذنا معنا الحلوى والسكر والفواكه .. كانت أسرتها سعيدة بحضورنا على هذا النحو العائلي الفريد .. أما مها .. فقد خرجت علينا ووجهها كأضواء النيون زاده القاً وجمالاً ابتسامتها الرقيقة .. وزغردت والدتي وكذلك سلمى التي أرسلت زغرودة موسقتها بصوتها الرخيم .. وجلسنا في بهو المنزل نتبادل القفشات والتعليقات .. وهنا تدخل شنكل وقال لنا .. ما رأيكم أن تغني لنا سلمى ابتهاجاً بهذه المناسبة .. فاعترضت ( مها ) .. وطلبت منحها ساعة واحدة من الزمن تخطر خلالها صديقاتها وجاراتها .. ولم يمض كثير من الوقت حتى تحلقت الصبايا والنسوة حول ( سلمى ) وهي تغني بدون مايكرفون وبدون اوركسترا .. وأمضينا معهم المساء بطوله .. وشيئاً فشيئاً إتسعت حلقة الغناء .. وكانت كل واحدة من البنات تسارع في ابلاغ صديقاتها بأن الفنانة سلمى صاحبة كاسيت( نادية ) قد عادت من أمريكا وهي الآن معهم تعطر اجوائهم بالبهجة والحبور .
عبدالغني خلف الله
11-11-2010, 06:31 AM
الحلقة السابعة والأربعون
تواترت الاتصالات بين الخرطوم ونيويورك تطلب سرعة عودة شقيقتي سلمى وزوجها ريمون أو شنكل بالمفهوم القديم .. ولكن لماذا هذا الإلحاح من جانب المستر ريتشارد ؟! .. الإجابة بسيطة يا حربي .. قال لي شنكل ونحن في طريقنا للمطار .. لقد تعود علينا وتعودنا عليه ولابد أن طفلتنا الصغيرة ( هديل ) قد أوحشته .. تعرف يا حربي .. المستر ريتشارد ده ممكن يدخل الإسلام بقليل من الجهد معه .. سلوكياته وتصرفاته والقيم التي يؤمن بها تجعله أقرب للإسلام .. وكم أتمنى أن يتم ذلك على يدي .. سلمى ذرفت دموع المطر وهي تودع أمي وشقيقتي .. لم تكن مرتاحة لفراقنا .. لقد قالت لي عيناها ذلك .. سلمى لم تخلق للغربة والعيش بعيداً عن أحضان أمي .. إنها رقيقة كالانسام .. وتبكي حين أنسى تحيتها وأنا أغادر البيت .. تشيعني نظراتها الحنونة .. وهي أول من يهرع لفتح الباب لي عندما أطرقه بايقاعات أحب الاغاني عندها .. لا تزال تكفكف دموعها وقد جلست بالمقعد الخلفي بعربتي التاكسي التي لا تعمل في نقل الركاب .. مع قلة الذين يؤشرون لي طالبين أخذهم في مشوار .. لقد ضاقت الأوضاع وأصبح التواصل عبر التاكسي ترفآ لا يجوز .. يكفي أن تندس وسط الاجساد المحشوة داخل الباصات وأنت تتنفس الغبار والدخان لتصل إلى المكان الذي تقصده .. سوف نفتقدكم بشدة يا شنكل ويا سلمى .. وكم أود ان تحضروا معنا نتيجة الانتخابات .. لقد سمعت أنها ستذاع تباعاً ابتداءاً من نشرة الساعة الثالثة ظهر اليوم .. سلمى تصحح هذه المعلومة .. من قال لك ذلك .. ؟! ولماذا لم تخبرينني . ؟. لقد فهمت أن المؤتمر الصحفي لوزير الداخلية سيبدأ السابعة مساءً .. لا يا عزيزي الفاضل .. تم تقديم موعد بث النتائج .. يا الله !! .. اشعر بتوتر شديد وهل النتيجة تهمك لهذه الدرجة يا زعيم ؟!.. لا والله يا شنكل .. أخشى من حالة الاحباط التي ستصيب القاعدة العريضة التي رشحتني والتي بنت آمالاً عراضاً على فوزي وتبني قضاياهم الأكثر إلحاحاً داخل قبة البرلمان إن لم أوفق وأخشي أيضآ أن أخذل سحر .. ستفوز بإذن الله .. ها قد وصلنا المطار وأمامنا ثلاثة ساعات قبل الإقلاع .. أقترح أن ندلف إلى كافتيريا المطار ونتابع جانباً من المؤتمر الصحفي من على الشاشة الفضية بدلاً من الراديو .. هذا إقتراح وجيه وأود شراء عصير ( جوافة ) لي ولإبنتي قبل مغادرة السودان .. سلمى تدعم اقتراح زوجها .. تعرف يا حربي .. عصير الجوافة ده ما موجود في أي مكان بخلاف السودان .. حاجة كده زي النيل والجروف والغنا الحلو .. حاجة زي الحبوبات الحنينات وضجة السيرة والدلوكة ولمة الأهل في الاعراس ( والطهور ) .. الله يا سلمى !! ماقلت ليك أنت أنسانة رقيقة وحساسة ما عاوزة تصدقيني .. شنكل وهو يداعب زوجته .. والآن .. أظنني بحاجة إلى فنجان قهوة .. أعصابك يا زعيم .. ومن ثم بدأ المؤتمر الصحفي .. واسهب الوزير في تفاصيل لا تعنينا في شيء .. الدائرة رقم ( 32 ) مهنيين الفائز صالح عويضة و .. ( يوي يوي يوي .. ) زغرودة أطلقتها بعفوية شقيقتي سلمى أطارت النعاس من عيون الحاضرين الذين أتعبتهم المواقيت المؤجلة لوصول الطائرات .. مبروك يا زعيم .. ألف مبروك .. شنكل وقد أخذني بالاحضان .. سحر أين أجد سحر ..؟ هي تعلم أنني سأذهب للمطار لتوصيل سلمى وزوجها .. أين وكيف القاك يا رائعتي العزيزة .. يا أميرة إحساسي واشواقي .. يا كل آمالي وأحلامي .. أين أنت يا سحر ؟! .. كنا قد اتفقنا على حضور المؤتمر الصحفي معاً عند السابعة ولكن هذا هذا التقديم المفاجئ أربك برامجنا جميعاً .. ستأتي .. انا واثق من أنها لن تصبر على هكذا انجاز .. انها من دبرته وخططت له وانفقت الوقت والجهد والمال في سبيل تحقيقه .. هاهي .. هاهي قادمة ألم أقل لكم .. لقد توجهت إلى المطار بمجرد ان علمت بأن موعد اذاعة النتائج قد تقدم .. مبروك يا صالح .. مبروك .. مبروك .. قالت ذلك وهي تمسك كلتا يدي بيديها وتحرك رأسها يمنة ويسرة وخصلات شعرها تدوران معها من النشوة والسعادة ومسحة من الارتياح العميق تلون قسماتها الحلوة .. وأكثر من دمعة تغادر عينيها لتستقر في زوايا فمها النديان ..
وكيف الوصول إليك يا سحر وانت مثل عنقود من التمر في قمة نخله .. والمشوار إليك محفوف بالاشواك والعقبات .. اتريد أن تحقق كل أحلامك في اسبوع واحد يا صالح ؟ .. فها انت وقد اديت القسم كنائب مستقل تتطلع نحو كرسي الوزارة بعد ان دخلت كل الاحزاب في كتل برلمانية متصارعة .. سرعان ما نسي الجميع ناخبيهم وتركزت انظارهم نحو المناصب .. وانت معهم يا صالح .. لا يا عزيزتي .. انا فقط احتاج كرسي الوزارة لسبب بسيط هو اثبات الذات .. لن يقتنع والد سحر بكوني نائبآ برلمانيآ وفي الأسرة أكثر من وزير وسفير ونائب أنا محتاج لأن أكون وزيراً حتى أدعم موقف سحر امام شقيقها ووالدها .. ومن ثمّ تحقيق طموحات من منحوني ثقتهم واوصلوني هذا الموقع الذي لم أكن احلم به في يوم من الأيام .. اذن سنذهب أنا وخال سحر المحامي إسحق.. لابد من المواجهة واليوم .. مبروك الفوز في الانتخابات يا صالح .. قالها والدها بصدر رحب وكذلك فعلت والدتها .. اما شقيقها (عصام ) فقد ظل ساكناً واجماً وهو يتشاغل بصحيفة ما بيده .. أما الاستاذ إسحق فقد قال لهم بعد مقدمة طويلة والاخ صالح معكم هذه الامسية ليخطب يد ابنتكم الاستاذة سحر .. هنا وقف شقيقها وهو يغلي كالمرجل وكانه قرأ في عيوننا الغرض من هذه الزيارة التي لم نقم بها إليهم منذ تقاعد والدها ومغادرته لموقعه بالمصلحة .. سيتزوج سحر اختي ؟ ! .. عاوزنا نزوج سحر ل .. سواق ابوها .. كمل يا ابن اختي العزيز .. لكن السيد صالح لم يعد سواقاً .. هو الآن نائب برلماني ومرشح للوزارة .. كان سواق عند ابوك وهذا ليس عيباً في حد ذاته لكن الأخ الاستاذ صالح اجتهد واقنع الناس بروحه الوثابة ونبل اخلاقه بترشيحه للبرلمان والوقوف إلى جانبه حتى الفوز بالانتخابات .. على العموم سحر مخطوبة لإبن عمي السفير عمر .. وانت يا خال بتعرف ده كويس .. القنصل العام عمر في كندا منذ اربع سنوات .. واذا كان والده يطمح في تزويج ابنه من سحر .. فإن سعادة السفير لم يقل ذلك صراحة .. وهكذا دار حوار متوتر بينهما وقد لزمت الصمت وكذلك فعل والده وامه .. وفي تلك اللحظات الرهيبة شعرت وكانما سحر توشك ان تضيع مني ربما وإلى الأبد .. لكنها هبطت علينا فجاة بكامل أناقتها وكأنها على موعد ما .. أهلاُ سيد صالح .. أهلاً خالي .. خير أن شاء الله .. مالكم واقفين .. في حاجة ؟! .. نعم يا سحر والدتها وقد تحدثت أخيراً والحمد لله جيتي في الوقت المناسب .. الاستاذ صالح طالب ايدك على سنة الله ورسوله .. ويطلب ايدها كيف وهي مخطوبة للسفير عمر .. ما تتكلمي يا سحر .. هنا انسحبت سحر عائدة إلى غرفتها وهي تنادي على خالها وشقيقها .. وتناهى إلى اسماعنا صوتها وهي توجه كلامها إلى شقيقها .. اسمع يا ( عصام ) انا صابرة عليك وبحترمك لأنك أخوي الكبير والوحيد .. قبل كده تزوجت المهندس طلال .. صديقك الحميم .. لأني كنت صغيرة في السن ولا أفهم أي شيء عن الناس والحياة .. قبلت به زوجاً عشان خاطرك فماذا كانت النتيجة .. طلقني بالثلاثة ولم يمض على زواجنا عام واحد نزولاً على رغبة والدته وشقيقاته ولأنه كان انساناً صعيفاً ومخموراً وغائباً عن الوعي طول الليل والنهار لم يدافع عن بيته .. وانا لن اسمح لك بتكرار ما حدث مرة أخرى .. والسفير عمر لعلمك تزوج من كندية وعنده منها طفلان .. انا سأتزوج من السيد صالح إذا رضيت أم أبيت .. لن تتزوجينه ولن يدخل هذا البيت حياً طالما كنت انا على قيد الحياة .. ولن اسمح لك بتلطيخ سمعة العائلة بزواجك من انسان جاهل لا أصل له ولا فصل وكان شغال عندنا سواق .. لا فائدة من الحديث معك .. ارجوك يا خال قل لوالدي ووالدتي بأنني اوافق على الزواج من صالح .. وهبط علينا الاثنان وبقيت سحر بغرفتها وهي في حالة توتر شديد ولعلها رات في تصرف شقيقها بوادر عاصفة لا تبشر بالخير .
عبدالغني خلف الله
12-11-2010, 06:41 AM
الحلقة الثامنة والأربعون
كثفت الشرطة من عملياتها بحثاً عن السائق الذي من المفترض أن يكون قد أخذ بطة والطفلة أريج إلى شاطئ النهر .. ولعلها تريد أن تحشد اكبر قدر من البينات ضدها قبل المواجهة الحاسمة معها .. وقاد أحد المصادر الشرطة إلى وكر المعلم الكيك .. حيث ذكر لهم أن بطة هذه كانت تحضر ضحى كل يوم مع سائق تاكسي يدعى جابر .. وقادهم إلى حيث يوجد الكيك ومجموعته .. كانوا يدخنون الحشيش ويلعبون القمار ومعهم بعض الفتيات القاصرات .. وجاءتهم من بعيد أصوات الغناء والضحكات وهم يقتحمون المكان .. ( ارفع ايديك .. ثابت.. ما تتحرك .. المعلم الكيك .. إنت المعلم الكيك ..؟ .. معي أمر تفتيش للمنزل اتفضل إقرأ .. ) وسارت عملية التفتيش بهدوء لتعثر الشرطة على كميات كبيرة من الحشيش مخبأة في جوالات تحت أسّرة إحدى الغرف .. وكان هنالك ثمة مخزن داخلى .. إدّعى المعلم الكيك بان المفاتيح ليست لديه ولكن الشرطة هشمت الأقفال لتفاجأ بكميات ضخمة من اسبيرات العربات ..تم اقتياد الجميع إلى مركز الشرطة وكذلك المعروضات .. ولم يدر بخلد المعلم الكيك أن هذه الهجمة الشرسة لها ما بعدها وأن وراء الاكمة ما وراءها.. بطة ؟!.. أيوة بطة .. عاوز تقول إنك ما سمعت بالأسم ده قبل كده ؟! .. لا يا جنابو .. سمعت بيهو .. الحقيقة بطة إنسانه كويسة .. صاحبتنا وأختنا .. جيد يا معلم .. من هو السائق الذي كان يحضرها لكم كل يوم تقريباً ؟! .. الأوسطى جابر .. جابر عبد القادر .. وجابر عبد القادر ده ساكن وين وسايق ياتو نوع من العربات وبتواجد أكثر حاجة وين ؟ !! .. فوجئ الرجل بالشرطة تطلب منه اصطحابها إلى المركز .. وكانت لهجتهم حازمة ونهائيه .. طلب منهم أن يذهب بعربته حتى لا تتعرض للسرقة .. وافقوا على طلبه وألحقوا معه أحد عناصر الشرطة المسلحين .. وتحرك الجميع صوب المركز .. بيد أن السائق وما أن غادر الشرطي عربته حتى انطلق بها لا يلوي على شيء .. هرع جنود الشرطة إلى عرباتهم واطلقوا صفاراتهم وهم يتعقبون خطاه .. إصطدم الرجل بأكثر من شيء .. صدم سيدة عجوزاً كانت تحاول العبور عند أحد المنعطفات وصدم عربة (كارو) وأحدث بها تلفاً بليغاً وهو يسير بسرعة جنونية بين العربات محدثاً حالة من الذعر والهلع لم تشهدها شوارع ام درمان من قبل .. ولكن الشرطة طوقت كل المداخل والمخارج ليفاجأ الرجل بشاحنة ضخمة تسد أمامه الطريق فما كان منه إلا أن استسلم للشرطة ليواجه عدداً من التهم أبسطها الاخلال بالأمن والطمأنينة العامة .
اقتيدت بطة وهي مكبلة بالسلاسل الى ساحة السجن لعرضها على الكلب الشرطى ومعها عدد من النسوة السجينات لاغراض الطابور .. اذ ينبغى ان تجلس بطة القرفصاء كمتهمة رئيسية بين أخريات للتمويه على الكلب الشرطى واذا ما تعرف عليها بعد ان تكون الشرطة قد مكنته من شميم فردة حذاء الراحلة أريج والتى عثر عليها عند الشاطىء تكون الشرطة قد ربطت بين وجود الحذاء فى ذلك المكان وبين بطة على افتراض انها هى من هيأت الصغيرة أريج للخروج وهى تأخذها لتلاقى حتفها .. بيد ان الاستاذ إسحق المحامى طمأنها على انه فى حالة اذا ماتعرف عليها الكلب بهذه الوسيلة تستطيع ان تدافع عن نفسها باعتبار ان وجود رائحتها بحذاء القتيلة شىء طبيعى لوجودهما معا فى بيت واحد .. احتشد الناس .. عساكر ومسجونون وسجينات وهم يتابعون عربة الشرطة وقد ترجل منها ثلاثة من الجنود وعمدوا الى فك وثاق كلب شرطى ضخم اثار الرعب فى نفوس السجينات .. وجلست النسوة وبينهن بطة رابطة الجأش بينما الاخريات يولولن من هول الموقف .. وهرولت اكثر من واحدة مغادرة الطابور اثر رؤيتهن للكلب الشرطى وقد اقنعتهم سلطات السجن بضرورة المشاركة تحقيقا للعدالة وان الكلب لن يفعل اكثرمن المرور بقربهن وشمّهن ولم يزد هذا التوضيح الموقف الا تعقيدا .. واخيرا انتظم الطابور تحت وهج الشمس .. ودار الكلب دورة واحدة قبل ان يعقب ويضع ارجله الاماميات فوق كتفها ثم بدأ فى تمزيق عروة فستانها .. هنا ضج الحاضرون بالصياح والتصفيق اما (بطة) فقد اسود وجهها وحاولت ان تكظم خوفها وغيظها مما يجرى ومن ثمّ قامت الشرطة بتغيير موقعها اكثر من مرة والكلب مصر على موقفه.. (بطة وليس سواها ) وبدون اى تردد .. شكرت الشرطة ادارة السجن على تعاونها وهي تغادر المكان ولكن ردات افعال السجناء والسجينات كانت مفاجئة للجميع فقد شرع السجناء فى قذف (بطة) بكل ما وصل الى ايديهم من حجارة وزجاجات فارغة .. وهجمت عليها السجينات وهن ينشبن اظافرهن فى وجهها وكل اجزاء جسدها .. وبذل الحراس جهدا كبيرا لاحتواء الموقف .. وان كانت قد نجحت فى حمايتها منهن فقد فشلت فى ايقاف سيل من الشتائم والهتاف (يامجرمة ..ياسافلة .. يا..) .. ولم تكد تمضى سحابة ذلك اليوم حتى تسلمت ادارة السجن عريضة من السجينات وهن يعلن الاضراب عن الطعام لحين مغادرة بطة لسجن النساء .. ولكن لماذا كل هذه الثورة الظالمة والمجرم برىء حتى تثبت ادانته (صحيح نحن حرامية .. ونشالين ..ونصنع الخمور البلدية ولكن ما ممكن نصدق انو واحدة تقتل طفلة بريئة عشان تفشش غبنها فى امها .. ياحضرة الضابط .. المجرمة دى ماليها قعاد وسطنا .. نحن ناس شريفين .. صحيح بنسوى المريسة عشان نربى عيالنا .. لكن ماممكن توصل بينا الخساسة لدرجة نكتل طفلة صغيرة عشان ننتقم من امها .. بطة بتاعتكم دى ماليها قعاد معانا.. ) وعلى ضوء هذا الموقف المتوتر قامت الشرطة بنقل (بطة) الى سجن اخر واصداء الهتاف ضدها تزلزل كيانها (ماليها قعاد معانا .. ماليها قعاد معانا ..) ووصلت انباء الاضراب عن الطعام بالسجن الى كبار المسئولين بالدولة والصحف .. وطلب احد النواب بالبرلمان الجديد اثارة قضية (أريج) في اقرب جلسة كقضية طارئة مطالبا وزارة الداخلية بتقديم بيان للبرلمان حول ملابسات القضية وسير التحرى فيها .. وهكذا انتقلت قضية (بطة ) الى البرلمان بمجرد اداء القسم وحتى قبل تشكيل الحكومة الجديدة .. وهرع وزير الداخلية المكلف الى جلسة خاصة لمناقشة الموضوع وتقدم ببيان مقتضب شرح فيه ابعاد القضية باختصار وكيف ان المتهم الرئيسى فى قبضة الشرطة وان التحريات تسير وفق ماهومخطط لها .. وأمطره النواب الجدد المزهوون بسيماء النيابة .. أمطروه بوابل من الاسئلة .. وجلست انا وقد غبت تماما عن حيثيات المناقشة لأعود بذهنى القهقرى الى تلك اللحظة التى نضت (بطة ) ثيابها عنها قطعة قطعة أمامى بمنزل المعلم الكيك .. وشعرت من تصرفاتها ليلتها بانها عاهرة غير محترفة وأنها لابد ان تكون ضحية لظروف اجتماعية قاهرة اجبرتها على ارتياد هذا الطريق الوعر ...فطلبت منها ارتداء ملابسها وأقنعتها بهجر تلك المهنة البائسة لاعيدها الى منزل قريبتها وما تبع ذلك من زيارات انتهت جميعها بالإحباط .
عبدالغني خلف الله
13-11-2010, 06:24 AM
الحلقة التاسعة والأربعون
بذل الأستاذ إسحق جهودآ مضنية في إقناع المحكمة بأن بطة مختله عقليآ واستمعت إلي أقوال عدد من الشهود ومن بينهم ذلك الشيخ الوقور الذي أخذوها له في ذلك البلد النائي .. وقص علي المحكمة كيف أنها كادت أن تقتله عندما أحضروها له في المرة الأخيره .. فقد أمضي سحابة ذلك اليوم وهو يقرأ التعاويذ ويتفل عليها ثم وعندما أخذ ( السوط ) لإخراج الجن من جسدها هجمت عليه وأنشبت أظافرها في عنقه وضغطت عليه بكل ما أوتيت من قوة وقد تطلب إنقاذه من بين براثنها تدخل عشرة من ( الحيران) الأشداء .. وعلي ضوء تلك الشهادة قررت المحكة إحالتها إلي ( كونسلتو ) من الطب النفسي لتقرر ما إذا كانت قادرة علي الدفاع عن نفسها .. وتوصل أولئك الأطباء إلي أن بطة تعاني من حالة ( فصام في الشخصية ) وأنها منذ مدة طويلة تعيش بشخصيتين .. بطه مجنونه ؟!! هكذا صرخت دون أن أشعر في وجه الأستاذ إسحق وهو ينقل لي تفاصيل الجلسة المثيره .. يعني أنا كنت بحب مختله عقلياً ؟! .. لا مش بالضبط يعني .. إنه مرض نفسي خطير ولعل هذا ما يفسر إقدام بطة علي هذه الفعلة الشنيعه .. ومن ثمّ أمرت المحكمة بإيداعها المصحة العقلية بالسجن العمومي لتمضي بها بقية حياتها وقد أحدث أقرباء الطفلة أريج صخبآ وضجيجآ داخل المحكة وخارجها واعتدوا بالضرب علي الأستاذ إسحق وكانت فوضي لا مثيل لها .. وحتي تبدو المحكمة متوازنة في أحكامها فقد قضت بسجن والد الطفلة الضحية ( أريج ) بالسجن لمدة خمسة أعوام مع إيقاف التنفيذ .
هل صرنا أغنياء ؟! لا ليس بعد .. ولكنها ( مستورة ) والحمد لله .. إذن ما بال ذلك التاجر المرموق .. الذي كنت أصلح له عربته بين الفينة والفينة يطرق بابي ذاك المساء ليستلف مني مبلغ مائة ألف جنيه لمقابلة نفقات علاج زوجته التي تركها بعيادة الطبيب قبل مجيئه لي ..( ما تتصور يا حضرة النايب تعبت كيف عشان أوصل ليك ) .. ثم بدأ يسرد لي حكاية سقوطه المريع ومعه آخرون بالسوق .. ولكنني ركضت إلي داخل المنزل لأستلف أنا بدوري المبلغ من ( كافو ) .. دخل غرفته وعاد بالمبلغ ولم يصدق الرجل سرعة استجابتي له .. قلت له لأسري عنه همومه ( والله أنا ذاتي مفلس زيك وقد استلفته من زوج شقيقتي .. سأعيده لك بمجرد أن .. لا داعي لإعادته .. علي الطلاق ما يرجع .. يا راجل إنت كمان بتأخروا عليك .. ياما ساعدتنا ويا ما فتحت بيتك للغاشي والماشي يأكل ويشرب ..) .. جزاكم الله خيرآ يا حربي .. مائة ألف دفعة واحده ؟! لقد أصبحت والله رجلآ يا كافو .. إنه يكبر ويتعلم الأصول .. لقد مات العم صباحي وأصرّ قبيل وفاته علي إحضار محامي لتسجيل ورثته لكافو .. وهل تملك من حطام الدنيا شيئآ يا عم صباحي ؟! .. أيوه يا ولدي .. هاك دفتر التوفير ده أصرفوا منو علي ( الفراش ) .. وعندي ثلاث عربات كارو بسوق أم درمان .. ومن ثمّ أعطاني أسماء وعناوين سائقيها ..عربيه ليك وإتنين لولدي كافو .. ولكن لم لم تخبرنا بها من قبل ؟! .. (خفت تاخدوني بيناتكم علي طمع ..لكن والله ما خيبتوا ظني فيكم ..كنتو لي نعم الولد ونعم الأهل ..) وبصعوبة شديدة قص علينا حكاية المصاغ الذهبية التي ورثها من والدته وكيف أنه باعها لدي وصوله الخرطوم واشتري بثمنها عربات الكارو تلك .. لقد كانت لحظات رحيله مؤلمة ومؤثرة .. وبكاه كافو بدموع المطر وكأنه أباه الحقيقي ,,ما هذه الحظوظ المتواترة عليك يا كافو .. حوافز جوليا وورثة العم صباحي ؟ .. ليك حق تستقيل.. بيد أن الثروة التي تهبط علي الإنسان فجأة تحوله إلي عاطل .. فقد صار كافو لا يعمل .. وهاهو يعيش علي بقية المبلغ المهول الذي أوصي به له العم صباحي بدفتر التوفير وريع عربات الكارو .. هجر الميكانيكا وباع الورشة وتفرغ لحياته المنزلية يرعي أطفاله وما تبقي من وقت يمضيه في لعب الورق مع عم عبدالوهاب و(شلته ) عند ناصية الشارع .. وكانت اسعد اوقاتي التي امضيها بالحي عندما اجلس امام بقالة عبيد الربراب .. وهو شاب خفيف الظل .. يحفظ أهل الحي واحداً واحداً .. وما يعيبه سوى النميمة و( القطيعة ) في خلق الله من سكان الحي .. ( ما تغرك القيافات دي يا حربي .. عليّ الطلاق الناس ديل اتعصروا لامن جابو الزيت .. تلقى الواحد طالع من بيتو .. الريحة تقول يا غربتي والسجارة البنسون وهو لا يملك حق المواصلات .. ) قلت له ( يا عبيد .. يا عبيد .. مية مرة قلت ليك ما تخوض في اعراض الناس .. البيوت لها اسرار .. واذا ما خليت العادة دي والله ما اجي اتونس معاك تاني ..) بيد أنه غالبآ ما يعود لعادته القديمة عندما يتعلق الأمر بخبر يعجز عن كتمانه ( هاك الخبر ده .. خبر واحد .. عليك الله اسمع ) ..
وعدت لممارسة هوايتي المفضلة في الفرجة وقراءة قسمات الآخرين ..كافو قال لي غاضبآ ( عليك الله عاجبك شنو في ( ا الربراب .. الشين ..الكج ..بتاع الشمارات البجيب الجلا ..) ..وفي الحقيقة ليس صاحبنا هذا بالشخصية السوية وهأنا أحاول تغيير طباعه وأحوله من هماز مشاء بنميم إلي مواطن صالح واستمتع بمعرفته بسكان الحي .. لقد كنت دائمآ تواقآ لمعرفة ما يدور بالأحياء العادية عندما كنت بالحي العشوائي .. كنت أتصور أن أي اسرة تعيش بمنزل يخصها سعيدة ومحظوظة بعكس الواقع المرير الذي عشته في الحي العشوائي .. وإذا بي أكتشف أن الناس هنا أو هناك من طينة واحدة .. أناس عاديون طيبون وأولاد حلال ( ياها الكسره والملاح ) لا فرق يذكر ..وصاحبي ( عبيد ) هذا نموذج للشخصية الفضولية المسكونة بمعرفة تفاصيل التفاصيل عن كل رجل وامرأة وفتاة وحتي الأطفال من سكان الحي وهو متخصص في إخبار الآنسات الصغيرات بأنه يريد هذه عروساً له وتلك خطيبه لجذبهن للشراء من دكانه .. فلا غرو أن واظبت كل الصبايا علي الشراء منه دون سواه وما يدهشني حقآ وجود كل فتيات الحي بالجامعات تقريباً .. فما أن تلفت انتباهي إحداهن حتي يبادر بالقول ( دي بتقرأ في جامعة الخرطوم .. دي دخلت جامعة القاهرة الفرع .. دي في رابعه هندسة ) ..إنه يضع العقبات بيني وبين كل فتاة بالحي فكرت في خلق نوع من العلاقات الرومانسية معها .. ( وإنت يا شقي مالك ومال بنات الجامعة وعندك سحر ؟! .. سحر ؟ وأين هي الآن سحر .. أنت السماء بدت لنا واسنعصمت بالبعد عنا ..وشنو كدا ما عارف .. ولعل أكثر ما يدخل البهجة في قلبي من خلال جلوسي أمام الدكان التعرف بل والتودد إلي أطفال الحي .. لقد صادقتهم كلهم باستثناء القلة المتحفظة بطبيعتها .. أحادثهم وألاطفهم واشتري لهم الحلوي .. وبات من الضروري تجهيز مبلغ صغير لشراء الحلوي قبل أن أحمل ( كرسي البلاستيك ) وأتوجه للدكان .. ساعتها يكون صديقنا (سعيد ) قد قام بنظافة ورش الفناء الواقع أمام الدكان وقد أحضر مبكرآ للفرجة علي الصبية وهم يلعبون كرة القدم .. طفولة تبدو حلوة لشخص مثلي بلا طفوله .
عبدالغني خلف الله
14-11-2010, 06:49 AM
الحلقة الخمسون
عاد ( عصام ) مهموماً إلى مكتبه بالشركة التي يعمل بها والتي يملكها صديقه (فؤاد) العاشق المتيم بسحر .. والذي ينتظر بفارغ الصبر موافقتها على الزواج منه .. قال له .. سحر شقيقتك هذه يا (عصام .. ) إنسانة غير عادية .. انها ملاك أكثر منها انسان .. ومكانها ليس العمل كموظفة .. مكانها هنالك في ( هوليود ).. تذكر لما حكيت لي مرة انو أكثر من عشرين خطبوها اثناء السفريات .. عشرين واحد .. رجال اعمال .. ومسؤولين وحتى الضيوف الاجانب .. لهم حق .. والله لهم حق .. تعرف يا صاحبي لو اختك سحر دي وافقت على زواجنا .. أول حاجة أعملها أبدل ليها عربتها ال ( تيكو ) التعبانة دي بعربة ( شبح ) .. واسجل ليها قطعة الارض بتاعة ( قاردن سيتي ) وابني ليها فيلا انيقة .. بل قصر ولا قصور هارون الرشيد .. وسأسجل لها نصف اسهم الشركة .. اما انت يا صديق العمر ورفيق الصبا فسوف اسلمك مفاتيح عربة ( B M W ) جديدة وارفع ليك نسبة (الكومشن ) بتاعتك من 15% إلى 25% .. وانت عارف قدامنا شنو .. صفقة العربات الصالون على وشك الانتهاء وربما نوقع على العقد خلال هذا الاسبوع .. أربعة ملايين دولار المقدم المدفوع وصفقة المصانع الجديدة تبقي عليها التوقيع .. المصانع ستشحن من ( تايوان) .. ( والهانقرز ) من ألمانيا لزوم التمويه .. وبعدين نغير ال(LABLES ) دي مشكلة ..؟ وصفقة … ثم ماذا ايها التمساح الكبير .. عربات ارتفاعها من الارض لا يزيد عن بوصتين تستجلب لتعمل في بلد كالسودان شمسه مثل الافران وطرقاته عفى عليها الزمان .. وبعد عام او نصف العام تتحول إلى خردة وتقبض انت وامثالك آلاف الدولارات .. والمصانع لماذا من تايوان والاتفاق يقضي بان يكون المنشأ أوروبا .. هذا شيء مقصود .. قال لضميره .. انت لا تفهم في ( البزنس ) .. المصانع المستهلكة لها أكثر من فائدة .. فبعد قليل ستحتاج إلى تاهيل ثم اعادة تاهيل .. واعادة اعادة تاهيل .. اما المصانع الألمانية تعمر مئات السنين وهذا يجعلها غير مواكبة للتكنلوجيا الحديثة .. التكنولوجيا تتغير كل خمسة دقائق .. اما العربات الصغيرة فهي أيضاً مقصودة في حد ذاتها .. لان البلد تعاني من أزمة مواقف .. تقوم تجيب لينا ضفادع من الصفيح وتسميها عربات .. وانا مالي يا خي .. اذا كان مدير المشتروات عاوز كده .. والراجل معه حق تخفيض التكلفة النهائية .. كل بلد على قدر حالها .. ونحن نعاني من حرب اهلية مفروضة علينا كيف يعني نجيب مرسيدس لشوية موظفين يضيعون وقتهم ووقت الدولة في قراءة الصحف ؟* .. ألا يعملون أليسو مدربين ومؤهلين للقيام بواجباتهم ..؟ أين التخطيط السليم والمتابعة .. ؟ هذه ادبيات موجودة في كتب الاقتصاد فقط .. اما على أرض الواقع فإن ادارات التخطيط والمتابعة موجودة في الهيكل فقط لاضافة وظائف جديدة .. ينقل إليها المدراء المغضوب عليهم .. ويوضعون في صناديق جانبية خلف المصلحة بعيداً عن مكتب المدير .. اطلقوا عليها جوراً وعدواناً ..إسم مكاتب .. الناس فيها لا يخططون لتجويد الاداء .. انما يخططون لانفسهم .. كيف سيقابلون التزاماتهم المعيشية المتزايدة .. اقساط الجامعات .. مصاريف المواصلات والفطور وشراء المراجع واللحمة والخضار .. أما العلاج فنسأل الله العفو والعافية .. فتلك ثالثة الاثافي لذلك لا يلومهم أحد .. لن يتسني لعقول تكبلها الالتزامات المستحيلة إبداع أي شيء ..هل إقتنعت ..؟
شكلك كده يقول إنك محبط .. الحاصل شنو يا ( عصام ) اتكلمت مع سحر في موضوع زواجنا .. أيوه اتكلمت .. ووافقت ؟*.. المسألة ليس بهذه البساطة يا (فؤاد) سحر عاشت تجربة مريرة مع صاحبنا (طلال) وهي تقريباً معقدة من الزواج كفكرة .. والولد الجربوع الميكانيكي سواق الوالد .. لسه بحوم حواليها ؟* .. لا أبداً .. ومافي حاجة تلمنا بيهو خاصة بعد إحالة الوالد للتقاعد .. آآخ لو تعلم سحر كم أعاني بسببها لو تعلم كيف أسهر الليالي أناجيها وأستبقي خيالها بجانبي .. من قال أني ملك الصفقات ( المدنكلة ) وأكبر صفقة في حياتي خارج دفاتري .. لم يبدأ حتى النقاش في تفاصيلها واستلام كراسة المواصفات .. ناهيك عن التوقيع واستلام الـ ( DOWNPAYMENT ) .
عبدالغني خلف الله
21-11-2010, 09:06 AM
الحلقة الواحة والخمسون
قالت لي سحر وهي تبكي في التلفون .. الكل ضدنا يا صالح .. والدي تم استقطابه تماماً بواسطة شقيقي ووالدتي تتأرجح بين الوقوف إلي جانبي ومؤازرة ابنها .. نقاشات صاخبه يا صالح لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد .. وكنت أقف له بالمرصاد .. فما أن يردد عبارة ( الميكانيكي ده ) أرد عليه بحدة ( ومالو الميكانيكي ؟ ماعيب الميكانيكي ؟ علي الأقل يكسب عيشه بالحلال وليس عبر صفقات وهميه ما أنزل الله بها من سلطان .. وحتي وإن كان ميكانيكي فأنا حرة في إختيار شريك حياتي .. لن أتخلي عن صالح ولو إنطبقت السماوات السبعه .. النائب البرلماني المهذب .. هل قلت لهم كل هذا الكلام يا سحر .. قلت لها مقاطعاً ..؟ لا دخل للنيابة البرلمانية وغير البرلمانيه في موضوعنا وأنت تعلم ذلك .. لقد أحببتك يا صالح منذ أنت كنت صبي ميكانيكي بورشة سلمان الفاضي .. كنت توترني يا ولد وتعصف بمشاعري .. أنا يا سحر ..؟ إختياري لك لا دخل له بالمراكز الإجتماعية ولو أن دخولك البرلمان دعم موقفي أمام أهلي .. وربما تسمعين ما يدعم موقفك أكثر لو إستمعت لنشرة التاسعه .. فقد دارت مفاوضات مضنية وراء الكواليس بالبرلمان وشكلنا نحن المستقلون قوة ضغط رهيبة بالرغم من ضآلة عددنا علي بقية الأحزاب .. وفي ظل تقارب عدد المقاعد التي فاز بها كل حزب أستطيع أن أقول بأننا من سيقرر الحزب الحاكم هذه المرة وقد وعدنا كل تكتل بحقيبة وزارية هي وزارة الإسكان إن نحن صوتنا إلي جانبه .. ولماذا الإسكان بالذات يا صالح ؟ .. هذا إختياري أنا لأشياء في نفسي ستعرفينها في حينها إذا وفقت في دخول الوزارة لا سيما وزملائي الباقون بكتلة المستقلين لا تسمح لهم ارتباطاتهم العلمية والمهنية بالتفرغ للوزارة .. لذلك لمع إسمي كمرشح وحيد .. وزير بجد يا صالح ؟!! .. قالت والفرح يلون انبهارها الطفولي عبر الهاتف .. صدقيني أنا لا ألهث خلف المناصب يا حياتي ولو أنها قد تساعدنا في معركتنا المصيرية مع أهلك .. وعندما علمت أن الوزارة ستكون الإسكان تذكرت معاناة العشيرة والجيران بالحي العشوائي وتذكرت مطالبنا كنقابة بمساكن شعبيه وآليت علي نفسي تحقيق ذلكم الحلم فيما لو تم اختياري ..عظيم ..عظيم يا صالح .. إذن موعدنا نشرة التاسعه .. كلمة أخيره يا سحر .. قول سامعاك كويس ..أنا مستعد لقتال الخرطوم والشرق الأوسط والقارات السبعه في سبيل الفوز بك أو أموت دونك .. تموت ..لا لا ما تموت ؟!! ..(بعد الشر عليك ).
عبدالغني خلف الله
22-11-2010, 05:36 AM
الحلقة الثانية والخمسون
( أيوه قتلتها يا أستاذ .. أنا جبانه وحقيره وأستحق المشنقه ) .. بطه وقد سئمت كثرة التحقيق والإنتقال من سجن إلي سجن .. هذا الكلام خطير يا بطه وسيؤخذ ضدك في المحكمه .. الأستاذ إسحق وقد صدمه اعترافها .. أنت لست مضطرة للإعتراف بذنب لم ترتكبيه .. إعقلي يا بطه ولو سمعتك الشرطة ستسارع لتسجيل هذا الإعتراف وانتهي الأمر .. خاصة مع بقية الأدلة ضدك وكذلك أقوال الشهود .. لكن أنا فعلآ قتلتها يا أستاذ .. خنقتها بإيدي دي .. خنقتها وماتت وهي بتفرفر زي الطيره بين إيدي .. قالت لي وهي بتموت .. ليه بس كده يا خالتي بطه ؟!! .. رقبتي بتوجعني .. كان المفروض أقتل أمها الحاقده المتعجرفه .. لا ما بقتل أمها .. خليها تعيش في النكد والندم عشان تاني ما تحتقر زول .. كرهتها يا أستاذ .. الكراهيه أعمتني .. قمت قتلت ( أريج ) المسكينه .. ( أريج ) البحبها من أعماقي .. ليه كده يا بطه ؟؟ .. ومن ثم ّ انخرطت في البكاء بصوت عال .. وأضافت أنا مجرمه أنا جبانه فتسرب الخبر عبر الحراس إلي المتحري الذي جاء علي عجل .. بيد أن الأستاذ إسحق رجاه مغادرة المكتب ريثما يستجلي الأمر وسوف يحضرها بنفسه للشرطة لتدوين اعترافها وعوضآ عن ذلك تقدم بطلب لإرسالها للطبيب النفسي قبل تدوين الإعتراف .
-هل حصل ودوك لطبيب نفساني ؟ دكتور يعني ؟
-ما حصل .. لكن ودوني لفكي .. قالوا أني بمشي أثناء النوم وبتكلم بحاجات ما مفهومه أثناء بالليل .
-كم مره ودوك للفكي ؟
- تلاته مرات تقريبآ .. وفي كل مره بقعد حوالي تلاته شهور .
- وكان بحصل شنو أثناء وجودك بالخلوه .
- بشرب المحاية ..تعرف المحايه ماء يقرو فيه القرآن وبجلدوني بالسوط .. وفي المره الأخيره .. في المره الأخيره .. ( حيره وتردد )
- أيوه كملي .. حصل شنو .
- جابو راجل .. أهلو قالوا مجنون ..
- أها حصل شنو ؟
- الراجل ده .. الراجل ده .. يا دكتور خليني أنا شاعره بصداع رهيب .. صداع رهيب .. واي .. واااي ..
ودخلت بطه فيما يشبة الصرع .. تشنج وهستيريا رهيبه .. الشيء الذي تطلب حجزها بالمستشفي وإعطاءها بعض الحقن المهدئه .
وجاء اعتراف بطه بمثابة زلزال إعلامي وأحدث ضجة لم يسبق لها مثيل .. ومثلما كانت جريمة قتل( أريج ) حدثاً إستثنائياً أصاب المجتمع بالصدمة جاء خبر إعتراف بطة كأهم خبر تناقلته وسائل الإعلام وتفننت في التفاصيل .. وعندما تماثلت بطه للشفاء ثبتت علي موقفها وقامت بأخذ الشرطة إلي مسرح الجريمة وأعادت تمثيلها وهكذا تنفس المحققون الصعداء .. بيد أن المعركة الحاسمة في أروقة القضاء لم تبدأ بعد وقد حدد المحامي إسحق استراتيجية الدفاع التي ربما ترسل بطه إلي السجن المؤبد بدلآ عن حبل المشنقه .
عبدالغني خلف الله
23-11-2010, 08:26 AM
الحلقة الثالثة والخمسون
وبدأت أيام الإحتفالات بتعييني وزيراً بكل ما فيها من بهجة وحبور.. بداية سيرت النقابة العامة موكبآ من السيارات حتي منزلنا وأقام أهل الحي حفلآ كبيرآ غلب عليه الطابع الديني تخللته المدائح النبوية .. وأحدث أهل الحي العشوائي فوضي إحتفالية مسائية تفاعل معها سكان الحي فقد كانت هنالك الرقصات الشعبية وكرنفالات الأزياء والمصارعة وموسيقي (الكيتا) وتحول ميدان الحي إلي ما يشبه ساحة المولد إذ اختلط الحابل بالنابل .. وكانت سحر في قمة معنوياتها وهي تشاهد الناس من حولها وهم يسبغون علي شخصنا الضعيف كل ألوان المحبة والتقدير .. إرتسمت ابتسامة رائعة فوق فمها الرقيق وربما بقايا أحلام لم تتحق خبأتها شفاهها العنبية وكأنها تحدث نفسها .. لم لا يكون شقيقي ووالدتي هنا ليروا بأنفسهم كيف أنني كنت موفقة في اختيار شريك حياتي .. نعم .. لقد مضت أيام الإحتفالات ولم تفوت الصحف تلك المناسبة الفريدة .. وجاءت العناوين البارزة وهي تقدمني للشعب علي نحو مثير .. فأنا لم أدرس في جامعات امريكا وفرنسا ولم أسمع من قبل بعبارة ( C.V. ) ..فأكتفت الصحف بمناداتي بالوزير العصامي والمناضل البطل وقد يشيرون إلي أنني أصغر الوزراء سنآ علي الإطلاق .. وتساءل أكثر من كاتب عمود .. ماذا نتوقع من وزير خرج من بين ثنايا الطبقات المسحوقة التي لا مأوي لها سوي الإنجازات العظيمة والحلول الناجعة لمشاكل السكن .
وبعيدآ عن الأضواء سارت إجراءات زواجي من سحر أمام المحكمة الشرعية في هدوء شديد .. وأنابت سحر خالها الأستاذ إسحق المحامي بتحريك الدعوي وكلفته أنا أيضآ بالتوقيع علي أية أوراق أو تعهدات إنابة عني .. وأعلنت المحكمة والدها للمثول أمامها ليوضح الأسباب التي حدت به لرفض زواج ابنته مني بيد أنه لم يحضر في المرة الأولي والمرات التالية مما حدا بالقاضي لإرسال طلب حضور يتم لصقه علي الباب الخارجي للمنزل وعندما لم يأت أيضآ أصدرت حكمآ غيابيآ يخولنا الزواج ويمهله أسبوعين للإستئناف وكنت وأنا أواصل برنامج زياراتي لإدارات الوزارة المختلفة والأقسام التابعة لها بالعاصمة والأقاليم أحسب الأيام والساعات بل الدقائق والثواني أملآ في إنقضاء مهلة الإستئناف دون أن يتقدم والدها بشيء من هذا القبيل .. وكانت سحر تتابع من علي البعد ردات أفعال رموز الأسرة لا سيما شقيقها ووالدتها ووالدها وعلمت أن شقيقها فعل الكثير لإقناع والده بالإستئناف دون جدوي وقد إستعصم بالصمت الرهيب والإعتكاف بغرفته لا يلتقي بأحد .. وحانت اللحظة المناسبة لآخذ سحر في أحضاني وكنا لوحدنا وأنا أتمتم ( سحر يا مني عمري .. يا زوجتي الحبيبة أمام الله والناس ) وسال الدمع مدراراً علي وجنتيها الساحرتين وأنا أضمها إليّ بشدة أكاد أهشم أضلعها .. وتمت مراسم الزواج في صمت ودون أية مظاهر لافتة للنظر إحترامآ لمشاعر أسرتها بالرغم من عدم اقتناع ( الست ) الوالده .. لقد كانت تحلم بزواج خرافي لإبنها الوحيد ولكنني أقنعتها بأننا سنحتفل ولكن ليس الآن وبينما نحن ننتقل إلي شقتها في أول ليلة لنا معآ تذكرت لحظتها تلك الزيارة التي اصطحبتني فيها سحر وسؤالها لي عن تلك التفاصيل الدقيقة حول خارطة الشقة وكأني بها قد حددت أهدافها مذ ذاك الحين .
لا لم نسافر لأي جهة لقضاء شهر العسل .. وفيما أنا أخطو أولي خطواتي بالوزاره كلفت إحدي الهيئات الإستشارية بإعداد الدراسات لبناء تسع مدن عمالية تغطي جميع عواصم الأقاليم .. تخصص معظم مبانيها للعاملين بالدولة من عمال وموظفين مزودة بكافة الخدمات الضرورية تملك لهم عن طريق البيع بالتقسيط وفي ذهني اصطحاب سحر معي في أول رحلة خارج البلاد لتعويضها عن شهر العسل المرتجي .
عبدالغني خلف الله
24-11-2010, 10:38 AM
الحلقة الرابعة والخمسون
عكفت تلك الهيئة علي وضع أدق تفاصيل المشروع وكلفتها الإجمالية فأجريت سلسلة من المقابلات مع سفراء عدد من الدول وبالصناديق الإنمائية بالأمم المتحدة والدول العربية والأوروبية وكانت النتائج مذهلة وعلي الفور تلقيت عروضآ من إحدي الهيئات بجمهورية ألمانيا وبدعوتها لي بزيارة ذلك البلد الذي لا أعرف عنه شيئآ باستثناء مباريات كأس العالم .. فرحت سحر فرحآ شديدآ عندما علمت بأننا سنسافر بعد أيام قلائل وقلت لها مداعبآ ( اسمعي يا وليه .. سفرك معي بصفة مترجم قبل أن تكوني زوجه .. مفهوم ) وكنت أعلم أن سحر تتقن اللغة الألمانية ..( أيوه مفهوم .. لكن شنو حكاية وليه دي يا أستاذ ؟!) .. قالت في تململ ضاحك .. قلت لها أنا آسف يا سحر .. هكذا سمعت آبائي وأجدادي ينادون أمهاتنا وحبوباتنا ..( يا وليه الفطور إتأخر ليه ؟ يا وليه المفتاح ده طار وين ؟ ) .. ضحكنا معآ وقالت لي بين ضحكاتها الآسرة يا معالي الوزير .. الكلام ده كان زمان .. لما كانو الحبوبات مغمضات ما جايبات خبر .. دلوقت المرأة قاضي وسفير وضابط شرطه . .و. . وطبيبه ومهندسه .. أعلم ذلك يا عمري .. ولكنني أمزح معك لا أكثر.
كانت شقيقتي سلمي وزوجها شنكل والمستر رتشارد وزوجته جوليا يتابعون مجريات الأحداث بصورة شبه يومية وكانت سعادتهم عظيمة بفوزي في الإنتخابات وبالحقيبة الوزارية .. وقال لي شنكل أن المستر رتشارد أعطي الأمر أهمية لا تصدق وظل يردد لساعات وهو غير مصدق ( هل صار وزيرآ إتحاديآ ؟ .. أوو .. هذا رائع .. هذا عظيم . .قلت لي أن شقيقك الآن هو وزير الإسكان .. لا بد أنه عبقري .. وسياسي بارع ) ..عبقري ؟ .. أنا سياسي بارع وعبقري ..؟ لا بد أن والدي الله يرحمه كان مخطئآ وهو يكرر علي أسماعي عبارة ( إنت ولد ما نافع .. إنت ولد مغفل ..) .
والدتي تزورنا كل يوم تقريبآ وفي كل مرة تتطلع في سماوات سحر بحب وحنان وكأنها تريد أن تعوضها مقاطعة والدتها لها .. كانت تأخذها بالأحضان ويروحان في وشوشات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد .. أنا شخصيآ لا أذكر أنني أعطيت والدتي أكثر من خمس دقائق أتجاذب معها أطراف الحديث وفي الأوقات العصيبة فقط .. فمن أين لسحر هذا الصبر علي محادثة أمي والجلوس إليها طويلآ وما هي الموضوعات التي يمكن أن تجتمعان عندها .. سحر قالت لي ( بختي يا صالح حتكون عندي أطيب (حماة ) في التاريخ .. التاريخ عديل يا سحر .. نان عاد ما جننت المبالغه .. ما تقولي في السودان في أفريقيا مثلآ .. والله أمك دي يا صالح كتله متحركه من الأحاسيس والمشاعر .. لو قلت ليها .. ها .. دموعها تجري ..) .. سحر يا ضوء عيوني وحشاشة فؤادي ربنا( يخليكي لينا) .. آمين يا رب .. بوسعك أن تصادري كل أحزاني وهزائمي بمجرد ابتسامة من وجهك الصبوح فكيف يكون الأمر وقد صرت خيمتي ومدفأتي وقناديلي .. كيف يكون الحال وأنت هنا بين ضلوعي أذوب في خلاياك وأبحر في أنفاسك .. فهل للسعادة حدود لم نصلها بعد .. أشك في ذلك كثيرآ أشك في ذلك .. وما فرحة العرس وضجة الأهل والأصدقاء والصديقات من حولنا يا سحر .. أنت هنا في عيوني في خاطري وذاك هو المهرجان الكبير .. فلا داعي لأن تتضايقي من غياب القشور ولدينا العمر بحاله .. أم ماذا؟ تأكدي أننا سنتصالح مع والدك ووالدتك بل وحتي شقيقك .. ولو كنت شيئآ أستطيع التخلي عنه لأجلهم لفعلت .. ولكنك حياتي فكيف أتخلي عنك .. صدقيني يا سحر لو لم نتزوج لمت همآ ونكدآ فما طعم الحياة بدونك ؟ .. ومن قال لك أنني سأسمح بشيء كهذا يا صالح ..أنت الآن أبي ووالدتي وشقيقي وصديقي ..و..وبس ؟!وحبيبي ..(خلاص ارتحت ؟!) .. همست بين عينيها .. وأكثر .. والطائرة تقترب من مطار ( ميونخ ).. تأمل يا صالح هذه الخضرة والجمال .. إنها أجمل من ( هثرو ) .. وأين هثرو هذه يا سحر تساءلت في سري وأنا في واقع الأمر أركب الطائرة لأول مرة في حياتي .. ولولا وجود سحر بجانبي لمت من الخوف .. وفي إحدي ضواحي ( ميونخ ) المزدانة بالروعة والهدوء أمضينا أسبوعآ كاملآ تخللته بعض الزيارات هنا وقد حرصت السفارة وعمدة المدينة علي تقليص فقرات برنامج الزيارة بعد أن علموا بأننا متزوجان قبل فترة وجيزة .. ومضت الأيام كلمح البصر وسحر هي كل ما أشتهي في هذا الكون .. واكتشفت بعد أيام وليال من الحب الحقيقي أنني لم أقدر سحر حق قدرها وبأنني لم أفهمها بشكل دقيق .. لا يمكن أن تكون من بني البشر بأي حال .. إنها ملاك ضل طريقه عبر سراديب السماء إلي كهوف هذه الأرض الظالم أهلها .. يا للرقة والوداعة والوسامة والتواضع .. لقد عشنا بعمق تلك الأيام وكأننا قد عدنا أطفالآ من جديد .. ضحكنا من أعماقنا وتواعدنا وتواثقنا علي الحب والإخلاص ..وتجولنا في تلك المدينة الرائعة مشيآ علي الأقدام ..زرنا ( البيناكوتيك ) والحديقة الإنجليزية ومعارض الفنون التشكيلية وال( شفاينق شتات ) وال( هوف بروي هاوس) الحانة التي شرب فيها هتلر نخب معركته الخاسره .. بيد أن حادثة صغيرة أصابتني بالرعب والخوف علي سحر .. فبينما كنا نتفرج علي معروضات إحدي المتاحف أحست سحر بما يشبه الإغماءة القديمة التي كثيرآ ما داهمتها من قبل .. حملتنا عربة الإسعاف وانطلقت بنا إلي إحدي المستشفيات وفي غرفة الإنعاش همس الطبيب في أذني أن زوجتك تعاني من ضعف في القلب يا سيدي وعليها الإنتباه لصحتها فلا مجهود عضلي أكثر مما ينبغي ولا سهر أو إنفعالات وهي في هذه المرحلة لا تحتاج لجراحة ومن ثمّ استبقانا لعدة ساعات عدنا بعدها للفندق وهنالك قالت لي سحر .. لقد لاحظت مدي خوفك ولهفتك عليّ يا صالح .. هل تحبني لهذه الدرجة .. وبلا حدود .. إذآ لقد قررت أن أهبك بإذن الله طفلة جميلة تعوضك عني إذا حدث لي مكروه تنظر في عينيها فتراني .. مكروه؟! لا سمح الله يا سحر .. لقد أفزعتني .. لا عليك يا سعادة الوزير أنا بخير وأشعر بأني قوية كمهرة جامحة .. لا لآ صرخت في رعب حقيقي .. لا أود سماع هذه المخاوف مرة أخري .. قلت لها ذلك وأنا أطمئن نفسي .. لقد قال لي الطبيب أن أي حمل سيكون خطرآ علي حياتها وهذا ما لم أشأ أن أوضحه لها .
عبدالغني خلف الله
25-11-2010, 07:41 AM
الحلقة الخامسة والأربعون
تكللت رحلتي بالنجاح علي جميع الصعد .. فمن ناحية المدن الإسكانية التسع وجدت أكثر من شركة بناء تستطيع وحدها إعادة بناء الخرطوم وليس مجمعات سكانية .. وسنحت لي فرصة التجوال في أعرق المدن الألمانية ورأيت كيف أنهم يحافظون علي مدن مضي عليها أمد بعيد بالرغم من مظاهر الحياة العصرية التي يعيشها مواطنوها إلا أن المباني ظلت كما هي تحتفظ بحجارتها الآجورية التي تعود إلي ما قبل التاريخ .. وتذكرت كيف أننا مسحنا من علي الخارطة مواقع أثرية وأخري عامة لنشيد علي أنقاضها البنايات الأسمنتية الباهتة التي لا طعم لها ولا رائحة .. لقد حاول الحلفاء محو ذاكرة ذاك البلد من خلال إستهدافهم للمتاحف والمكتبات .. بيد أن شعبآ أنتج لنا (قوته ورنتقون وفاغنر) سرعان ما أعاد ترميم تلك المواقع وتذكرت في ذلك الأثناء صديقي الأستاذ عامرالذي أودع السجن لمجرد عجزه تسديد شيك مصرفي .. فهل يتحمل كائن رقيق مثله جدران السجن وهو الذي تعود علي السمو فوق المكان والزمان .. لذلك وجهت مدير مكتبي باختيار قطعة أرض استثمارية مميزة وقمت بمنحها له وكلفت الأستاذ إسحق المحامي ببيعها وتسديد كلفة الشيك من ريعها .. لم تصدق أسرته خروج والدهم من السجن بل وحصوله علي وظيفة مستشار وزير الإسكان للإعلام ومنسق لحملة انتخابي لرئيس الجمهورية في أقرب انتخابات عامه .. ( الرئيس دفعه واحده يا حربي .. نان عاد ما بالغت عديل .)
هذه البذلة لا تناسب هذا الصيف القاتل يا صالح .. أرجوك خذ هذه .. سحر وهي تراجعني قبل توجهي للعمل كل يوم .. لقد نسيت أن تشذب ذقنك .. أرجوك استبدل ربطة العنق هذه بأخري .. وقبل أن أخطو خارج الباب تأخذني بالأحضان وهي تردد في حب حقيقي .. ( ما تتأخر عليّ وحاول نظم وقتك .. ليس بإمكانك إكمال كل مهامك في يوم واحد .. الإرهاق عدو الإنسان الأول يا صالح .. أنت ُتسأل فقط في نطاق مسئولياتك لا أكثر .. لا تنس أنك صرت أبي وأمي وزوجي وحبيبي ..أرجوك حافظ علي نفسك يا صالح ولو ما عشاني أنا .. عشان ولدك .. ( بالجد ؟!! .. أيوه يا أستاذ تستطيع أن تقول من اليوم أنك أب لطفلتين .. سحر وسحر .. يعني أنا وبتي .. مش إنت أبونا الاتنين ؟!! ).. نعم ..نعم .. يا سحر .. يا ألف ألف خاطر يزدهي بالأناقة والألق في سماوات عمري .. هل أقول أحبك .. نعم أحبك .. أحبك .. أحبك .. كفي يا صالح أرجوك .. هل هذه مفردات وزير ؟!
ومع مرور الوقت أراها تزداد نحولآ والطبيب يعطيني بعض الأمل .. إنها مجرد أعراض مبكرة للحمل وستزول بعد أن تتقدم في الحمل .. هذا كثير عليّ يا حياتي .. ليتك لم تحبلي أصلآ يا سحر ..( يخسي عليك يا صالح معقول تقول كلام زي ده ؟ وما فائدة الحياة بدون أطفال ؟.. ومع تفاقم حالتها يومآ بعد يوم بدأت أخاف بأنها ربما تكون مرشحة لما هو أسوأ .. فقد مات والدها ولم يكلف شقيقها نفسه إبلاغنا الخبر لتعلم سحر بالأمر من إحدي جاراتها .. وكانت الصدمة فوق احتمالها .. لم نتردد في الذهاب لمنزلهم وهنالك بكت سحر طويلآ في أحضان أمها الشيء الذي فجر عاصفة من الدموع لدي الحاضرين .. وسامحتها أمها علي خروجها عليهم في موضوع زواجنا وحدثتها كيف أن والدها عفا عنها ودعا لها بالخير والبركة من كل قلبه لدي تسلمه هديتها بُعيد عودتنا من شهر العسل وكيف أنه قال أمامها بالحرف الواحد ( أنا عافي من سحر دنيا وآخره ) .
عبدالغني خلف الله
26-11-2010, 02:34 PM
الحلقة قبل الأخييييييييييييييييييييي يييرة
كنا جلوسآ نتابع الأخبار في التلفاز حيث سأظهر عبر نشرة المساء وأنا أقوم بافتتاح عدد من المنشآت الجديدة إنابة عن السيد رئيس الوزراء .. كان يومآ عاصفآ وحافلآ بالمفاجآت السارة والمفرحه .. فبينما وأنا أقص الشريط التقليدي لافتتاح إحدي المراكز الصحية الجديدة بالعاصمة إذا بي أفاجأ بالدكتوره أميرة ضمن الفريق العامل بالمركز .. سلمت عليها بحرارة ووقفت أمامها أكثر من ثلاثة دقائق وأنا أمطرها بسيل من الأسئلة عن أفراد أسرتها فرداً فرداً وبدا وكأن كل واحد منا يعاتب الآخر علي عدم إهتمامه به والسؤال عن أحواله .. واستغربت سحر من الإبتسامة العريضة التي ارتسمت علي وجهها وهي تصافحني وتهمهم بكلام خارج إطار التغطية أعقبته بضحكة مجلجلة وهي تلتفت نحو إحدي زميلاتها .. هذه بنت الجيران بالحي العشوائي .. أميره عبدو الفولاني .. آها .. حلوه وأنيقه .. كانوا جيران طيبين وقد غادروا الحي في وقت مبكر .. وقد حاولت جهدي أن أبدو غير مهتم بما سجلته الكاميرا الغبية .. هل كان من الضروري التركيز علي ملامح وجهها النظيف لتراه سحر .. وتململت في جلستها وسألتني هل أحضر لك كوبآ من اللبن ؟.. أيوه لو سمحت .. وكان مخرجاً ملائماً لكلينا ولكنها ما أن خطت نحو المطبح حتي رن جرس الباب .. قلت لها لا عليك سأفتح أنا الباب .. لم أصدق عينيّ وأنا أري والدة سحر ومن خلفها شقيقها (عصام ) ..فهتفت بل صرخت .. أهلااااان .. ثم سحر .. سحر .. أمك يا سحر .. أمي ؟!!! وكمان أخوك .. أمي وأخوي .. ما بصدق ..!!!..أهلاً .. إتفضلوا .. بسم الله ما شاء الله تمتمت والدتها وهي تدخل الشقه .. مساء الخير سعادة الوزير .. شقيقها والكلمات تخرج من فمه بصعوبة شديده وكانت ليلة ستظل في ذاكرتي مدي الدهر .
ألم أقل لكم أن العمر ليس سوي حزمة من المفاجآت وإلا كيف يتحول صديقي وزوج شقيقتي شنكل إلي رجل أعمال مرموق يزور السودان ضمن وفد من رجال الأعمال الأمريكين .. لقد طالعت القائمة القادمة علي ال ( K.L.M. ) فردآ فردآ فأنا الوزير المكلف رسميآ من قبل مجلس الوزراء بمرافقتهم أثناء الزيارة ولا أدري كيف فات عليّ ملاحظة إسم ( المستر ريمون رتشارد من نيويورك ستي ) .. قال لي وهو يضحك ضحكته الصافية ونحن بمنزلنا .. هي الأقدار تفعل بنا ما تشاء وهي التي حولتك من مجرد صبي ميكانيكي إلي وزير متزوج من سيدة رائعة حقا إسمها سحر .. قل له يا ريمون .. لعله نسي هذا في خضم مسئولياته .. سحر وقد أطربتها الفقرة الأخيرة من عبارته .. وهي نفس الأقدار التي حولتك من مجرد تاجر للحشيش إلي ملياردير أمريكي متزوج من أجمل شقيقاتي .. الأستاذة سلمي ..(إحم ..إحم ..شكراً ..شعبي ) سلمي وقد إزداد طولها عشرة بوصات .. وضحكنا مرة أخري وسحر تحلق فوقنا بأناقتها المعتادة تقدم لنا ( الفطائر ) والقهوة وتشاركنا ذكرياتنا ومرحنا .. كثيراً ما حذرته منك يا سيده سحر .. قلت له عليك ب ( بطه .. فهي شبهك ) .. فلن ترضي بك سحر غفيراً لديها ناهيك عن زوج أو حبيب .. أنت مخطيء في هذا يا سيد ريمون .. فلو رجعت عقارب الزمن إلي الي النقطة التي رأيت فيها صالح لأول مرة لآختاره قلبي من جديد ودون تردد .. أنت إنسانه عظيمه يا سحر ولولاك لما كنت أي شيء في هذه الحياة .. طلبت منها أن تخلد للراحة وتتركنا نواصل السهر لوحدنا فقد بت أخاف عليها من التعب والإرهاق .. فجلسنا الساعات الطوال ونحن نجّتر ذكرياتنا معاً .. وسألني عن الجميع ..عن (كافولة ) وعن أفراد الحي العشوائي فرداً فرداً ولم يفتني إخباره طبعآ بمقابلتي للدكتورة أميره .. واقترح علّي تمويل مشروع خدمي يموله للموقع الذي رحلوا إليه فاقترحت عليه حفر بئر وبناء مركز صحي وزاد علي ذلك ببناء مسجد .. وكانت فرحة سكان الحي عظيمة وأنا أضع برفقته حجر الأساس لتلك المنشآت باسم مؤسسة (شنكل )الخيرية .. شنكل وليس ريمون .. وكأني به يريد أن يقول لهم .. أنظروا يا أحبابي إلي أولادكم وهم يتقدمون نحو الأمام في هذه الحياة برغم كل الصعوبات التي واجهتكم .. ولن يتنكروا لكم مهما بلغوا من ثروة وجاه .
كلفت (عصام ) شقيق سحر بإدارة شئون المؤسسة بعد أن قام الأستاذ إسحق بإجراءات التسجيل المعتادة وأوكلت له وظيفة المدير العام كبادرة مجاملة لزوجتي بالرغم من عدم ثقتي فيه ..وقلت لنفسي الأموال أموالنا وتخص زوج شقيقتي وكم كنت مخطئاً وأنا أتوصل لتلك القناعة ..وهاهي المؤسسة تتوسع وتضخ في أوصالها ملايين الدولارات وقد تحولت من مجرد منظمة خيرية إلي شركة عملاقة تضاهي أكبر شركات البناء بالبلد .. وكان تأثير ذلك عظيمآ علي سحر ووالدتها ولعل الأم تمنت لو أن زوجها كان علي قيد الحياة ليري صهره المسكين وهو يفتح الآفاق المغلقة أمام ابنه الوحيد ويضعه علي سلم الثروة والمجد .
وحانت لحظة المخاض الرهيبة .. سحر حبيبتي .. زوجتي الرائعة تصرخ وتولول وأنا أحاول أن أتماسك أمام أفراد عائلتها الذين تجمعوا من كل حدب وصوب بعد أن عادت الأمور إلي مجاريها بيني وبينهم .. والمستوصف الأنيق بردهاته البلورية الأنيقة يحتضن تأوهاتها وصراخها .. لم أفزع في حياتي كما فزعت يومها بيد أنني تمسكت بالدعاء والإبتهال ليحفظ الله رائعتي الجميلة سحر .. زوجتي وحبيبة عمري ..
عبدالغني خلف الله
27-11-2010, 06:47 AM
الحلقة الأخيرة
وبذل الأطباء جهودآ مضنية لإنقاذ الأم ومن ثمّ طفلتها ولعلهم نجحوا في ذلك أو هكذا بدا لي .. لقد خرجت علينا ( السستر ) وهي تحمل طفلة حلوة الملامح وهي تردد ( مبروك عليكم بتكم .. والله عسل بس ).. وسحر كيف حال سحر ؟!!.. أدعوا لها يا سعادة الوزير .. كلكم أدعوا لها .. لقد كانت ولادة طبيعية ولكن ليتها كانت قيصريه .. لقد تعبت المسكينه .. والله عمري ما شفت أم بتولد بالصعوبه دي .. لكن ربنا موجود .. ونعم بالله .. إذن هذا ما يفسر تأخر الطاقم الطبي الذي يقوده إخصائي كبير معروف بقدراته الطبية الفائقة وبعلمه الغزير .. وعندما أتذكر تلك اللحظات القاسية وما سبقها من تجهيزات المولود المرتقب .. أموت ألف مرة من الحسرة والحزن .. كانت تريدها بنتآ وكنت لا أبالي بنتآ أو ولدآ المهم أن تضع سحر بخير .. لقد حذرني الطبيب الألماني من الحمل وخطورته بالنسبة لحياتها .. وكنت كثيرآ ما ألمّح لها بذلك .. ولكنها سعت للحمل وتحمل تبعاته من أجل سعادتنا معآ .. ( عاوزنا نكبر ونعجز ولا أي حاجه قدامنا .. معليش يا صالح مره واحده بس أحاول والبريدو الله كلو خير ..) أيتها الشجاعة الودودة البشوشة يا سحر .. وخرج إلينا الطبيب المشرف علي العملية وهو يفرد كلتا يديه .. ( البقيه في حياتم ..الفاتحه ..الفاتحه ..الفاااااااتحه ..إنا لله وإنا إليه راجعون .)
إنتهت أيام المأتم وأنا أكاد لا أصدق ما يحدث أمامي .. لقد رحلت سحر كنسمة صيف مسافرة عبرت سماء حياتي علي غير انتظار .. وكم هو جميل أن تترك لي قطعة منها ومني هي الصغيرة سحر .. ( مش إنت أبونا الإتنين ؟! ) .. طبعآ يا غاليتي الغائبة الحاضره .. وتشاء الأقدار أن تضع نادية شقيقتي قبل سحر بحوالي أسبوع فأرضعت طفلتنا مع رضيعها وهذا ما أقنع والدة سحر بأن تكون حفيدتها تحت رعاية والدتي وشقيقتي ولكنها أصرت علي أن تنتقل للعيش في شقة ابنتها .. وأضافت بأنها لن تغادر الشقة إلا للقبر لتتنسم رائحة وأنفاس المرحومه .. وكان لها ما أرادت فلم تكد تمضي بضعة أسابيع حتي صحونا ذات صباح علي صراخ شقيقتي نادية وهي تطلب منا طلب الإسعاف لنقل جدة سحر للمستشفي بيد أنها رحلت حتي قبل الوصول للمستشفي وكان موسمآ بحق لرحيل أعز الناس لديّ فقد رحلت والدتي أيضاً بعد ذلك بشهر تقريباً .. ومضيت في أداء واجباتي وأنا أعض جراحاتي ورويداً رويداً عوضتني الصغيرة سحر عن الذين رحلوا وباتت كل شيء في حياتي .. ويبدو أن أكثر من صديق يتعاطف معي .. فهاهي مها زميلتي السابقة بالمصلحة تأتي لتعزي في فقدي الجلل مع زوجها وهي تحمل طفلآ صغيرآ علي كتفها وهي تردد ( والله يا سيد حربي رسلنا العفش مع أخوي بتكس وطوالي من المطار لبيتكم .. لقد قرأنا الخبر بالصحف وأول ما خطر علي بالي ونحن نتأهب للإجازة أن أضم طفلتك إلي طفلي وأرضعهما معآ .. كتر خيرك يا مها .. هكذا أنت ووالدك الأستاذ وكل ناس بيتكم .. كرم وأصاله .. مافي عوجه والحمد لله علي كل حال .. ناديه أختي قايمه بالواجب وأكثر .. وأنا سعيد بعودتك مع زوجك وأتمني لكم إقامه طيبه مع الأهل .. ولا بد أنكم مشتاقين للبلد وناسو .)
أرسلت في طلب الأستاذ اسحاق لتسوية تركة زوجتي الراحلة سحر والمتمثلة في الشقة والعربة ومستحقاتها بشركة الطيران .. ونقل لي خبرآ ضاعف من معاناتي .. فقد سجلت سحر قبل وفاتها الشقة باسمي علي أن تؤول العربة لشقيقها والمكافأة لوالدتها .. سجلتها بإسمي .. كيف ومتي حدث ذلك ..؟ إنها حتي لم تلّمح لي ولو تلميحآ بشيء كهذا .. وجمعت رموز أسرتها ونقلت لهم إستعدادي للتنازل علي الفور عن الشقة إذا كانت هذه هي رغبتهم ولكن شقيقها ( عصام ) أصرّ إصرارآ شديدآ علي أن تلك هي رغبة المرحومة ويجب أن تحترم وبدوري طلبت من الأستاذ نادر إعادة تسجيلها باسم طفلتنا سحر وسأكون بالطبع الوصي عليها حتي تشب عن الطوق .
صحوت ذاك الصباح الباكر علي صوت مدير حسابات ( مؤسسة شنكل الخيرية) والتي تحولت لتصبح إحدي كبريات شركات البناء والتشييد ليقول لي في اضطراب واضح أنه ذهب لمنزل صهري السيد المدير العام عصام وعلم من الخادمة أنه لم يعد للمنزل منذ يوم أمس وأنها حين دخلت إلي غرفة نومه لاحظت أن حقيبتين من حقائبه ليستا فوق سطح خزانة الملابس وقد تركتهما هناك قبل يوم واحد .. وأضافت أنه غادر دون أن يشعر به أحد وقد تناول غداءه علي عجل وكان يبدو مضطربآ .. سألت عليه عند أقاربه الذين أعرفهم وكان الرد في كل مرة أنهم لا يعلمون عنه شيئآ .. توجهت إلي مكاتب المؤسسة ودعوت لاجتماع عاجل لمدراء الإدارة لا سيما الإدارة المالية وعلمت منهم أن (عصام ) قد وجه بتحويل مبلغ ضخم لأحد فروع ذلك البنك الأوروبي المشهور بسويسرا لشراء كميات ضخمة من الأسمنت والحديد لصالح المشاريع المعلنة بواسطة المؤسسة في الأحياء الجديدة لسكان الحي العشوائي وتقول كل المؤشرات بأن مبالغ كبيرة جداً قد جري اختلاسها بواسطته .. لقد اغتنم فرصة انشغالي بوفاة سحر وما تبع ذلك من تداعيات وقام بتهريب كل ما استطاع الوصول إليه من موارد المؤسسة .. فوجهت علي الفور بفتح بلاغ في مواجهته بالإحتيال وخيانة الأمانة وكلفت خاله الأستاذ إسحق المحامي بمتابعة استرداد الأموال المختلسة وتقصي مكان تواجده وطلبه عبر البوليس الجنائي الدولي ( الإنتربول ) .
تلقفت الصحف النبأ العجيب وهاج الناس وماجوا بالأحياء الموعودة بالماء والكهرباء والمسجد وهم يرون آمالهم في جني ثمار تلك المشروعات تذهب أدراج الرياح وسيروا موكبآ ضخمآ مطالبين محاسبة المسئولين عن سرقة تلك الأموال وبدت بعض الأقلام تستغل مساحات ما يعرف صحفيآ ب ( أسرار ما وراء الأخبار ) .. و( أحاديث في المدينة ) .. في التعريض بسمعتي همزاً وغمزاً .. وفي خضم تلك الأجواء المحبطة أطلت في سماء حياتي الدكتوره أميره .. كنت قد أخذت طفلتي لإحدي المستشفيات الحكومية لأخذ الجرعة الأولي من الأمصال الواقية من أمراض الطفولة لأقف وجهآ لوجه أمام قامتها الباسقة .. سألتني وأين السيدة حرمكم ولماذا لم تحضر مع طفلتها ولكنها قرأت الإجابة في نظرات عينيّ ولعلّها خمنت بأننا قد انفصلنا بالطلاق .. وعندما أخبرتها بحقيقة ما جري .. تأسفت لما حدث واعتذرت بأنها كانت مشغولة بالتحضير لدرجة الماجستير في الطب وزادت بأن والدها ووالدتها لا علم لهما بوفاة زوجتي .. إنتهينا من أخذ الجرعة ودعتني علي فنجان قهوة بمكتبها وهنالك قام أكثر من سؤال بيننا .. ثم ماذا بعد يا دكتوره أميره ؟!.. كان حواراً صامتاً لا أملك له جواباً وكنت محتاجآ لأية إشارة أو إيماءة بما يمكن أن تتطور إليه الأمور بيننا .. وعاودتني في دقائق معدودة أشجان الماضي وأحلام الأمس الضائع .. ومضت أكثر من ساعة ونحن نلف وندور حول جوهر الموضوع دون أن يجرؤ أحدنا علي الدخول فيه مباشرة وعندما سألتها بأن تنصحني من ناحية طبية وتربوية حول التصرف الملائم إزاء طفولة سحر .. أجابتني بأن الأمر يحتاج إلي وقفة ما.. ثم وفي خفر شديد .. وربما أم جديدة لطفلتك الرائعة إذ لا جدوي من المربيات في مثل هذه السن وتزداد المشكلة تعقيداً في ظل وفاة الجدات والأجداد من كلا الطرفين مع فقدان الأم الحقيقية .. لذلك تحتاج الصغيرة سحر لمن يعوضها عن حنان أمها .. قلت لها أليس في ذهنك شخص ما يقبل بأن يضحي من أجلي ومن أجل طفلتي ؟! ويقبل بي زوجاً ؟! .. التزمت الصمت الرهيب ولم تجبني وظل بصرها مشدوداً إلي الأرض حتي وهي تزفني نحو الباب . كان لا بد من تغيير حقيقي في محيط حياتي التي تتأرجح صعودآ وهبوطآ تكاد أن تتحطم وقد وجدت ذلك المخرج في الدكتوره أميره .. ورحب والدها بفكرة زواجنا ترحيبآ حاراً وأنا أزورهم مع شقيقتي ناديه واتفقنا علي أن تتم مراسم العرس في أضيق نطاق ممكن .. وبينما الطائرة تحلق في أجواء الخرطوم باتجاه القاهرة كنت أحتضن كفها ونحن في مقاعد ركاب الدرجة الأولي وكأنني غريق يلتمس النجاة فوق قطعة طافية فوق الزبد .
كنت مستعداً ونحن نعود من شهر العسل لكل الإحتمالات .. وقد تناهت إلي أسماعي تلك الضجة غير المسبوقة التي أثارتها الصحف صراحة في غيابي .. ومن ثمّ انتقلت الأسئلة إلي داخل مجلس الوزراء وفي أروقة البرلمان .. ناقشت الأمر مع أميره فشجعتني علي الإستقالة وأكّدت لي أنها عندما قبلتني زوجآ لم تكن تولي منصبي أية أهمية ومن الأفضل لي مواجهة القضية بوضوح وسفور بل وبشجاعة خارج العباءة الرسمية .. إذ أنها تؤمن ببراءتي .. ويبقي الأمل معلقاً بالعثور مجدداً علي المتهم الحقيقي .. وأن الله سبحانه وتعالي سيظهر الحقيقة في النهاية .
وبالفعل تقدمت بالإستقالة من جميع مناصبي كوزير وكنائب في البرلمان وكعضو في النقابة العامة للعاملين بالدولة وكتلة النواب المستقلين ولم يكد المحققون يستيقنون من اسقاط الحصانة عني حتي حرروا أمراً بالقبض علي وإيداعي السجن .. ومرة أخري يتصدي المحامي إسحق للدفاع عني وثمّنت بعض الأقلام الشريفة بالصحف غاليآ استقالتي وطالبت بمحاكمتي محاكمة عادلة ومنصفه تتناسب والموقف النبيل الذي اتخذته .. ودار جدل قانوني كثيف عندما وصل (شنكل ) من نيويورك وشهد بأن الأموال المختلسة تخصه وأنه هو من تبرع بها وهاهو ذا يتنازل عنها ويطالب بإطلاق سراحي واسقاط جميع التهم عني .. ولم تكن تلك الشهادة كافية لإخراجي من السجن فقد تطوع أكثر من ( منظّر) ليقول أن المال قد أضحي مالاً عاماً بمجرد دخوله إلي بنك السودان وتخصيصه لمشاريع خدمية معينه وأنه قد ذاب في أموال أخري محلية وأجنبية وصارت جزءاً من الأصول الثابتة والمنقولة للمؤسسة .. ولكن أعود لأقول .. بأنني لست نادمآ علي كل الظروف التي مرت بي فقد عشقت سحر حتي البكاء وظفرت بها زوجآ حنونآ وأمآ لطفلتي وظفرت بالدكتورة أميرة رفيقة الصبا والطفولة والجارة العزيزة بالحي العشوائي وحاولت أن أخدم وطني بإخلاص ونزاهة .. فماذا تبقي إذن لكي أندم عليه ؟!!.
إنتهت والحمد لله
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir