تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : غرفة



عبد الله راتب نفاخ
25-09-2010, 07:01 PM
غرفة :





صعقتني كهرباء المنظر ، و تكسرت بعثرات شعوري في قارة الصمت ، أترى .... كان لا بد لهم أن يصنعوا هذا الصنع الشنيع ، و يبددوا بجرافاتهم كل هذا العبق الأثيل ؟؟؟



كنت قد رأيتهاغير مرة حين نذهب لزيارتهم في بيتهم القديم الخشن ، عجيبة عليها وقار الزمن ، مركونة إلى جانب البيت وحدها ، قوامها اللِّبن و الخشب ، تتوسط حديقة صغيرة في خاصرة الفناء الريفي ، تميل عليها شجرة صفصاف كبيرة كطفلة تطلب من أمها حنواً ، و من حولها الحشائش و الأعشاب تتسلق جدرانها كأنما تنشد غوثاً من شر ما .



قالوا : عاشت بها العجوز أيامها الأخيرة متفرغة لأذكارها و صلواتها ، فأسبغ عليها هذا القول خشوع الروح ، و هيبة الموت ، و سكينة العبادة ، حتى خُيِّل إلي أن العجوز تطل علينا من بابها روحاً شفافة يكسوها بياض النقاء ، تنظر إلينا من وراء الطبيعة مبتسمة باطمئنان ، و هي ترفع يدها التي خلقت بها السنون رعشة الكبر لتلوح لنا مودعة .



كانت وحيدة في شاعرية الظلام ، مختلية بنفسها بعيداً عن أخواتها غرف البيت ، كالمتصوف السارح بحثاً عن الإلهامات و الواردات العلية ، و الشاعر الذي يدفعه تأمله الشفيف بالكون و أسراره إلى اعتزال الناس و مفارقتهم في مكان يشعر أنه يرى العالم منه بوضوح أكبر ، ويطلع على كنهه المخبأ تحت أردية الواقع المنظور .



و في ساعات الغروب حين تلف الدنيا عاصفة الشاعرية الملونة كانت تبدو كعاشق عذري رمته أمواج الحب عند صخرة بحرية ، فأخذ يحدق في المدى البعيد مستلهماً من توهج لحظات النهار الأخيرة ألف قصيدة حب فريدة المواجع .



كنت أراها وحدها تاريخاً يسرَد، كأن العجوز ما تزال فيها تردد بصوتها الشجي الذي تعلوه خنة الشيخوخة آيات القرآن من مصحف عتيق مهترئ الغلاف ،قاعدة على طرف سريرها الحديدي القديم ، و أشعة شمس الضحى تداعب غرفتها من النافذة الخشبية التي أكلت معالمها تصاريف الزمان ، كأنما تدخل خاشعة لسماع ترتيل الذكر الحكيم .



مضيت أقلب كفيَّ حين رأيت البناء الإسمنتي الذي حل محلها كأخطبوط مفترس أو غول من غيلان الأساطير ، و راحت الأسئلة تزدحم و تشتجر في دماغي حتى أنهكته : أيعقل أن أبناء العجوز لم يكن فيهم من يتحسر على غرفتها التي غادرت الدنيا بها ، ألم يسمعوا صرخاتها و شهقاتها تحت وطأة الجرافات و هي تهرسها ، ألم ير أحدهم طيف والدته يستغيث و يشهر يديه في وجوههم طالباً ترك مأوى روحها الأخير في هذه الدنيا لتبقى تطيف به كلما حنت إليه ، أيعقل أن تتبلد مشاعر الإنسان فلا يحس وقع جريمة فظيعة كتدمير هذا الكنز من الشاعرية و الذكريات .



لحظتها التفت ليطل علي سهل القرية الكبير الواسع و قد آلت أراضيه الخضراء المزدانة بأشجار الثمار على اختلافها أبنية إسمنتية مشوهة و شاهقات تشعر بالقرف والغثيان ، تراكبت فوق بعضها كجحفل من العناكب أو الجرذان ، كم غرفة كغرفة الذكريات ابتلعت ، و كم كتاب من كتب الزمن أحرقت و مزقت، و كم روح من الأرواح الطيبة صاحبة العبق أتعست و أشقت .



وجدتني أبتسم بسخرية مشبعة بالألم قائلاً لنفسي : أليس من فعل كل هذا الإجرام و التشويه بشراً كذلك ، أليسوا ذوي عقول وقلوب مثلنا ؟؟



فرد علي صوت غريب لست أحسبه من نفسي و إن سمعته آتياً من قبلها : بلى .... لهم قلوب و عقول ، لكنها ليست كقلوبنا و عقولنا .



ً

سامي عبد الكريم
25-09-2010, 10:16 PM
سؤال أحدث في نفسي صدمة مواجهة الواقع
نص مدهش
وفكر انساني عالٍ تحركه أحاسيس راقية

جزاك الله خيرا

محمود فرحان حمادي
26-09-2010, 12:18 AM
خلق الأدب الرفيع
وأدب الخلق
في نصوصك متعة لا أجدها في غيرها
لهذا سأظل كثير الزيارة لك
تقبل خالص ودي
تحياتي

عبدالصمد حسن زيبار
26-09-2010, 02:27 AM
سلام الله
الأستاذ عبدالله
للمكان تاريخ و قصص و ذاكرة،لهذا ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبل يحبنا ونحبه)
و غزو الكلس و الإسمنت يفقد المعنى و يعمل على محي الذاكرة.


بعض الملاحظات :


كنت قد رأيتها غير مرة حين نذهب لزيارتهم في بيتهم القديم الخشن ...
أظنها حين كنا نذهب لأنك استعملت الحاضر للدلالة على الماضي،ثم لفظة الخشن مع البيت لم أستسغها ...

عاشت بها العجوز ...
عاشت فيها العجوز...

و كم كتاب من كتب الزمن أحرقت و مزقت
و كم كتاب من كتب الزمن أحرق و مزق

و الله أعلم

تحياتي

عبدالله المحمدي
26-09-2010, 12:12 PM
وبوحك كما دائما....................عذب حنون

تحياتي لك اخي عبدالله

عبد الله راتب نفاخ
26-09-2010, 04:46 PM
سؤال أحدث في نفسي صدمة مواجهة الواقع
نص مدهش
وفكر انساني عالٍ تحركه أحاسيس راقية

جزاك الله خيرا

بارك الله بك أيها الكريم
كل الشكر لك لهذا المرور العبق
و هذا التعليق المفعم بالمحبة
حياك الله
و دمت بخير

ربيحة الرفاعي
26-09-2010, 08:45 PM
ماتت ضمائرهم وتهدمت قبل رحيل العجوز وهدم الغرفة بزمن
تهدمت منذ


قالوا : عاشت بها العجوز أيامها الأخيرة متفرغة لأذكارها و صلواتهاتلك المنافي التي يرسلون العجائز إليها مرغمين على اختيار لا بديل له غير ما لا يطيقون
الغرفة العتيقة في الحديقة ....
الحجرة الصغيرة في زاوية المنزل ....
غرفة السطح ...
وبدائل يخلقونها للخلاص من ثقل من حمل بحب ثقل طفولتهم وربما صباهم

نصك يشف عن رفيع خلقك بحسة
ويحكي تميز أدبك ولغتك بحرفه

دمت مبدعا

عبد الله راتب نفاخ
27-09-2010, 05:49 PM
خلق الأدب الرفيع
وأدب الخلق
في نصوصك متعة لا أجدها في غيرها
لهذا سأظل كثير الزيارة لك
تقبل خالص ودي
تحياتي


بارك الله بكم أستاذي الكريم ...
كلماتكم تخجلني فأنا لا أراني أهلاً لها
لك الاحترام أيها الكبير القدير
و الشكر و التبجيل

مصطفى السنجاري
27-09-2010, 11:19 PM
قلم متميز هذا الذي بين أصابعك يا رجل
لك مودتي وتقديري

محمد ذيب سليمان
29-09-2010, 07:42 AM
هذا ما يميز الأديب عن غيره
له عينين ولهم عيون , له قلب ولهم قلوب له ولهم
ولكن ..
هل يرون كما يرى ؟
هل يحسون الشياء كما يحسها ؟
لن أجيب فما أمامنا من نصوص لها المتألق
تجيب عن كل التساؤلات
دمت مبدعا

عبد الله راتب نفاخ
01-10-2010, 08:55 AM
سلام الله
الأستاذ عبدالله
للمكان تاريخ و قصص و ذاكرة،لهذا ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبل يحبنا ونحبه)
و غزو الكلس و الإسمنت يفقد المعنى و يعمل على محي الذاكرة.



بعض الملاحظات :


كنت قد رأيتها غير مرة حين نذهب لزيارتهم في بيتهم القديم الخشن ...
أظنها حين كنا نذهب لأنك استعملت الحاضر للدلالة على الماضي،ثم لفظة الخشن مع البيت لم أستسغها ...

عاشت بها العجوز ...
عاشت فيها العجوز...

و كم كتاب من كتب الزمن أحرقت و مزقت
و كم كتاب من كتب الزمن أحرق و مزق

و الله أعلم

تحياتي



الأخ الكريم عبد الصمد
يشرفني مرورك و تعليقك
أما ملاحظاتك الكريمة فالإجابة عنها بما يلي
استعمال نذهب هو الاستعمال الوحيد المناسب في مقامه ، لأنه يشير إلى تعدد الزيارات ، و لا يخفى عليك أنه سبق ب ( كنا ) التي أبقته في سياق الماضي
أما لفظ الخشن فأراه مناسباً ، و لك الحق في ألا تستسيغه وفق ذائقتك
أما ( بها ) فالباء تحمل معنى الظرفية كما تحمله ( في ) ، و إن كان استعمال الأخيرة أكثر
أما فاعل أحرقت و مزقت فهو الجمع ( أبنية ) و كما تعلم فكل جمع تكسير مؤنث
لك كل الشكر
و دمت بخير

فاطمه عبد القادر
01-10-2010, 10:22 PM
فرد علي صوت غريب لست أحسبه من نفسي و إن سمعته آتياً من قبلها : بلى .... لهم قلوب و عقول ، لكنها ليست كقلوبنا و عقولناالسلام عليكم ربما كان حكم الزمن القاسي والبارد أو حكم المادة التي تبحث دائما عن المزيد ولكن لماذا كانت هذة الغرفة بعيدة عن كل الغرف ؟؟هل هو عزل متاع غير مرغوب به ؟؟أم ماتت مشاعر الإنسانية لمن أعطى كل حياته لهم ؟؟وكيف سيشعر بالحجارة والإسمنت ؟من لم يشعر بالإنسان نفسه؟؟شكرا لك أخي على هذة اللفتة الكريمة ماسة