محمد الشحات محمد
27-09-2010, 05:47 PM
موسيقى "جويدة" بين القصد والقصيدة
كل شيء له منظور معين، فالنهر قد يراه البعض مياهاً وأسماكاً ومراكب، ويرى أنه مكان لقاء العاشقين، ويمكن أن يُرى طريقاً للسفر، وقد يُرى في عبقرية إنشاء الكباري والجسور، وكذلك يُرى مكاناً للتسول وفرصة لبائعي الوهم والورد والحب المفتعل، كلها صورٌ قد تبعد أوتقترب لكن لا يُمكن أن تُجمع كلها في بوتقة واحدة لدى الإنسان العادي، لكن الشاعر _ والشاعر فقط _ هو الذي يرى كل هذه الصور، بل يرى أكثر منها في آنٍ واحد ..، ففي الموج رمال الصحراء، وعلى الشاطئ سحابةٌ مُمْطرة ..، وهو الذي يُحول أي خسارة إلى مكسب .
الشاعر هو صاحب القدرة على التنبؤ بالمستقبل من خلاصة خبرات وتجارب وتحليلها والسرعة في استخلاص النتائج ووضعها في حيز التنفيذ، وفي إطار من الضوابط، ولا تكون حرية التعبير كسر القواعد،
والشاعر الحقيقي إذا اكتملت عناصره الفنية يكتسب ريادته سواء كان يكتب الشعر العمودي، أوالحر لأنه يلتزم بوحدة القصيدة في التركيب والترتيب وتناسق المعاني وتوافقها، مع التصوير لجديد والابتكار في تغريب الموضوع، وكلما أعيدُ النظر في القصيدة نكتشف قوة أكثر في البناء وتناسقاً بين المعاني، مع موسقة اللغة في كيفية الاستفادة من الأسلوبين الدرامي والقصصي،
ولا يكون الشاعر شاعراً حقيقياً إلا بما يملك من القدرة على التأثير، فيجمع إلى صوره السمعية والبصرية أعمق الإحساس وأرفع الملكات والمعاني بلغة مُشعة بالجمال تنبض بالحياة لأن الإنسان واللغة وحدة بنائية واحدة لا تنفصل، والشاعر عموماً بما يحمل من الشعور المرهف واللفظ الرامز والأسلوب الموحي يثير فينا الانفعال والجمال، والجلال،
والأديب بصفة عامة، والشاعر بصفة خاصة هو المسئول الأول عن سلامة اللغة ونقائها، لأن الشعر له علاقة بالنظام الصوتي للغة، وكما يُعبر الإنسان بكلامه عن شعوره وعواطفه ليؤثر في غيره، فهو يُعبر عن آرائه أيضاً للارتباط الوثيق بين الأفكار والعنصر الانفعالي، ونظراً للتأثير والتأثر تُحتمل الإيحاءات المختلفة،
والأديب ليس مجرد شخص متذوق للموسيقى وإنما هو شخص يصنع الموسيقى ولا تتاح هذه الصفة فقط بحفظ مجموعة من كي يكتب بعدها موسيقى كلامية، بل هي المقدرة على استيعاب موسيقى الكلام ويتأثر بها تأثراً شديداً ثم تتبلور بالفعل نغماً في أذنيه حتى إذا بدأ الصياغة كانت له سمة نغمية خاصة تستسلم لأنامله على شكل لغة شاعرة .. والموسيقى في العمل الأدبي قد تأتي من سياق الكلمات وعمق المعنى والفردية الرائعة لتضيف على الصورة بريقاً جميلاً .. ذلك من خلال الاستخدام المتميز .. لأن الموسيقى الجيدة تزيد في الإحساس بالموضوع ذاته لا يزيد في الإحساس بالموسيقى إذا لم تكن جيدة في حد ذاتها، والموسيقى تختلف من ظاهر إلى خفي .. أما عن الموسيقى الظاهرة فهي التي تؤثر على السمع من خلال التشكيل والتماثل الصوتي من البحر والقافية ...، أما عن الموسيقى الخفية (الداخلية) هي التي تأتي من علاقات التوافق والتضاد بين المعاني ولا دخل للمباني فيها ولها دورها الذي يبدأ من الفكر والوجدان ثم ينعكس على الحواس والمزج بين الموسيقى الظاهرة والموسيقى الخفية من أهم دلالات التوفيق لدى الشاعر ..،
والحقيقة أن الالتزام بنغمة موسيقية واحدة ليست رتيبة تؤدي بها إلى خلق صور ناضجة وكلما كان الشاعر رائداً ليس متشاعراًً فهو يجدد في موسيقاه وينوعها كي لا يصب إنتاجه في قالب ثابت ربما كان شائعاً في زمن ما ولكن لا يناسب زمناً آخر..،وليروي دائماً أذنه وإحساسه مثل "بتهوفن" و" فاجنر" كانوا لا يقيدون السيمفونيات بأسماء معينة لولا خضوعهم للناشر،ثم بعد ذلك أساتذة الموسيقى في العصر الحديث لا يطلقون أسماء معينة على مقطوعاتهم إيماناً منهم بأن الفن أعمق وأطلق، فإذا حاصره أي شيء، وإن كان جميلاً في ملحمة ربما يحجز عنه عوالم أخرى لسوف تكون أجمل ..وأفضل ..،
والموسيقى من أهم العناصر الرئيسية في العمل الأدبي وخصوصاً إذا كان شعرياً، وهذه الموسيقى تتجاور من حيث الأهمية بجوار اللغة التي ينطلق من خلالها النص،
والشعراء الحقيقيون هم الذين تُسيطر عليهم القصيدة حتى في تصرفاتهم وأحلامهم ورؤاهم للمستقبل من خلال الحدث الجاري وربطه بالماضي من الأحداث التاريخية والمتشابهة، وإذا كانت تسيطر القصيدة بهذا الشكل، فمن أهم تداعيات هذه السيطرة تأتي الموسيقى كعامل رئيسي يُبين أسلوب الشاعر وروحه الممتدة في جسد قصائده حتى لولم يكتب اسمه عليها، ومن هؤلاء الشعراء الرموز كثير لما وضعوا بصمتهم على الساحة الأدبية الحديثة أمثال أحمد سويلم، وفاروق جويده، ومحمد علي عبد العال، وأعضاء مدرسة النسر الأدبية منهم أحمد عبد المنعم السرساوي ،
وإذا كنا بصدد هذه الناحية، فمن الأجدر أن يكون الإبحار من خلال جولة سريعة في بلاد أحد هؤلاء الشعراء والوقوف على بعض المحطات الرئيسية لهذا الشاعر الرمز، ولْنتخذ مثلاً فاروق جويدة في ضوء قراءة نقدية في أشعاره، ومن الطبيعي أن نتموج بين أجنحة موسيقاه الشاعرة ، ومن أهم مظاهر تلك الموسيقى التنوع مابين الموسيقى الداخلية والخارجية،لأنه _ ومن خلال النصوص_ يهتم بتجاور الحروف المتماثلة منها والمتنافرة تبعاً للمعنى المقصود في النص
يقول "فاروق جويده" في قصيدته بعنوان " هذي بلادٌ لمْ تعدْ كبلادي " :-
" في كلِّ ركْنٍ من ربوعِ الوادي
تبدوأمامي صورةُ الجلاَّدِ "
ومن الواضح سيطرة الموسيقى، فلقد اختار شاعرنا بحر الكامل، وتفعيلته هي (مُتفاعلنْ)، واختار أن يكون عنوان القصيدة شطراً منها، وهوهنا آخر شطرٍ في القصيدة، كما أنه اختار الشكل العمودي للقصيدة وليس الشكل الحر، ومن بين اختياراته كان الرويُّ حرف الدال مكسورة الحركة، واختار كذلك ضمن موسقته لفظة " صورة " للتعبير عن الجلاد مع أنه استخدم أداة التشبيه ( حرف الكاف ) في تصوير العنوان المُمَوْسق، وأكد رؤيته بأنها " في كل ركن من ربوع الوادي " ، ورغم أن القصيدة مُهداه إلى الذين ابتلعتهم أمواج الهجرة غير الشرعية بعدما ضاقت عليهم أرض بلدهم، تلك البلد الأم التي ترى مُجريات أمور أبنائها من خلال قميص الرؤية لدى يعقوب قبل أن يراه الأبناء ذاتهم،
وفي مثل هذه القصيدة يُعلن الشاعر الرمز أنه لا ينفصل عن قضايا عصره بنفس القدر الذي يستدعي فيه التراث، ويُبصر المستقبل، وتلعب الموسيقى دورها ليس فقط في أذن السامع أووجدانه، بل في الصورة أيضاً، فهولم يقل " هذي بلادٌ لم تعد بلادي "، وكما الشائع " أن هذا الشيء لم يعد هو"، وإنما " هذا الشيء لم يعد كهو"، وهنا موسيقى البحر جعلته يأتي بصورة أبلغ، وهذه الصورة تمنع حتى مُجرد التشبيه بما سبق وليس العودة لما سبق، ثم إن كسر الرويِّ يعبر عن الانكسار في هذا الحدث الجلل، والذي يستثمره شاعرنا - رغم الفجيعة والانكسار - للتذكير بالتراث العريق والتوعية بما يجب أن يكون والاستفادة من الدروس الناجمة عن التجارب والخبرات المُختزنة، ويُبرهن إيمانه بهذا التراث وعدم إهمال قواعدنا باستخدام الشكل الُمقفَّى والعمودي في ذات الوقت للقصيدة العربية رغم الدعاوى للشكل النثري،
ولأن " فاروق جويدة" خبير باللغة وأسرار الموسيقى يختار حرف الرويَّ والحركة المؤثرة لهذا الرويِّ تبعا للموضوع والقصد المطلوب في رسالة القصيد، ويعلن شاعرنا عشقه لهذه اللغة مُتَّخذاً صوفية النص مركبةً له بين العاشق والمعشوقة، فيقول :-
إني تعلَّمْتُ الهوى وعشقْتُهُ منذ الصغرْ
وجعلتهُ حلم العُمُرْ
وكتبتُ للأزهار .. للدنيا .. إلى كل البشرْ
وهنا يأتي حرف الراء بما يحمل من تطريب وامتيازات عربية خاصة ليعلن أنه رويٌّ ساكنٌ في عالمية الكتابة التي تمس كل المخلوقات، ولم يأْتِ التسكين لمجرد الوزن الشعري في تفعيلة (متفاعلن) أوكان عشوائياً " وكتبْتُ للأزهار .. للدنيا .. إلى كل البشر"، وهنا كذلك الفعل (كتب) يأخذ بعده حرف جر "اللام" للقريب و"إلى" للبعيد، وهكذا، فإن شاعرنا كتب للأزهار وللدنيا، ثم يأتي دور كل البشر مع مراعاة الترتيب والفترة الزمنية والمجهود الواجب أن يبذله الشاعر حتى تصل رسالته بهذه الصورة، وقد تجري بين أوصال هذه السطور قول الشاعر القديم حين كان يتكلم عن نفسه شاعراً ليُبينَ قيمته وقامته حتى وصل إلى قوله " وأسْمعت كلماتي مَنْ به صممُ"، ومع اختلاف البحر هنا إذْ بينما استخدم الشاعر القديم بحر البسيط، فلقد استخدم " جويده" تفعيلة الكامل
ولا ينفصل الإيقاع الشعري عند جويدة عن الإيقاعات الحياتية وهمومها وأفراحها، فيعزف بالحب، ولطالما عرفه في مواطن كثيرة ليقول لنا :-
الحب يا دنياي أن نجد الرغيف مع الصغارْ
أنْ نغرس الأحلام في أيدي النهارْ
ولعلَّهُ هنا قصد بكلمة " يا دنياي" كلمة أُخرى هي "ليلاي"، فإذا كانت "ليلى" صارتْ رمزاً عالمياً للحب – وترجع عالميتها إلى عالمية التراث العربي-، فإن الدنيا لا تكون محبوبة إلا إذا عرفنا الحب معرفةً حقيقية ومن أهل الحب أنفسهم (ليلى بأوجاعها وعشقها ومعاناتها حتى الموت) ..، وتلك المعرفة التي تعني سدَّ الجوع لدى الصغار وترسم لهم الأمل في الغد وتعتني برعايتهم حتى أننا " نغرس الأحلام في أيدي النهار"، ويا لها من صورة تربط بين الغرس واليد، وتربط بين الأحلام والوضوح، ويا له من بارع هذا المصور والاقتصادي والمربي السياسي والمُحنَّك من الشخصيات التي يتضمنها ضمير الشاعر الحقيقي ..،
وتلتقي هذه الأبيات مع سابقتها في التفعيلة والرويِّ على أن زادت هذه الأبيات بألف التأسيس، وما يحمله من المدِّ وإتاحة الفرصة للنفس الطويل، وكذلك كأن الشاعر أراد أن يُعبر بألف الإسناد هذه عن ضرورة جوهرية في الحب ..، وهي أن نستند على اللغة وهويتنا في صنع الرغيف وغرس الأحلام بأيدينا الصادقة صدق النهار الطاهر لأن هذه الأيدي لم ترتكب ما تضطر أن تخفيه
وبالانتقال السريع إلى ما يُعرف بهاء السكت في الشعر العربي، وما يتميز به العرب من شجاعة في الحق نجد شاعرنا يستدعي صهيل "الخيل" وجسارة " النسر " لمحوالأمية التاريخية التي تتسبب في الخلط بين البكاء والصهيل وكان هذا البكاء من نصيبنا وليس من نصيب الأعداء، مما يجعل "النسـر" يُحلق في سماء العلا ليضع التقويم والتقييم ويعمل كي يضع كل ما يدور مواضعه الحقيقية ..،
ولأن الشاعر ضمير الأمة وعين المستقبل، ولأن الشعراء قد يتسامحون لكنهم أبداً لا يفقدون الذاكرة
ولأن البعض قد حاول الفصل بين الشعر العمودي والشعر المُقفى، واشتعلتْ المهاترات لتفرض النثر على الشعر تحت أيِّ مُسمى – وإن كان للعرب تراثهم النثري العريق- فقد تنبه الشاعر من خلال الأحداث أوالبوح السري لبعض الأصدقاء إلى أن محاولات فرض النثر على الشعر ليس بغرض الحرية وإنما لإلغاء هوية الشعر العربي، وتدريجياً التخلص من الهوية العربية وما لها مِن تداعيات، فقرر شاعرنا "فاروق جويدة" إعلان رفضه لهذه المحاولات – أحسبه كذلك - ومن خلال بحر المتقارب وبالشكل العمودي في الشعر العربي - والذي يظل رابطاً بين الأمس والغد، وإن ظهر النباح في كل مكان لفترةٍ موقوتة – كتب شاعرنا قصيدة " الخيول لا تعرف النباح " وأهداها إلى عبد الوهاب البياتي عند رحيله –وكان "البياتي" شاعراً عمودياً ورائداً للشعر الحر في العراق، بينما كان رائده في مصر عبد المنعم عواد يوسف وسبقهما توفيق الحكيم قبل أن يتجه بكتاباته إلى المسرح، وقد تزامن رحيل " البياتي " مع قرار عدد من المبدعين الشبان بتأسيس جمعية أدبية تحمل اسم "النسر" أملاً في النهوض من هذه الكبوة وتفاؤلاً بنسر أكتوبر في انتصاراته العربية وتوافقاً مع شعار جمهورية مصر العربية .. يقول فاروق جويدة :-
هنا كان بالأمس صوتُ الخيولِ
على كل باغٍ له جلْجلةْ
فكم أسقط الحق عرش الطغاة
وكم واجه الزيف كم زلزلهْ
فكيف انتهى المجد للباكيات
ومَنْ أخرس الحقَّ .. مَنْ ضللهْ؟
ومن قال أن البكا كالصهيل
وعدو الفوارس كالهرولةْ؟!
سلامٌ على كل نسرٍ جسورٍ
يرى في سماء العلا منزلهْ .
وأحسبُ أن الرويِّ الساكن عند فاروق جويدة ظاهرة تُستخدم عند القضايا الهامة، فهناك قصيدته التي واجه بها الردة عند سلمان رشدي،وأما الحركات لها ما تعني كل حركة ولوعلى سبيل الاشتقاق من اسم الحركة، فالكسر يعني الفجيعة والانكسار، والرفع يعني الرفعة والمقام العالي، أما الفتح يعني الانطلاقة نحوعالم الفكر والخيال ، وتختلف التفعيلات والبحور بينما تتفق هذه المعاني في التشكيل اللغوي للرويِّ، فمثلاً يقول على البحر البسيط والرويِّ المشبع بالكسر في فجيعة رحيل نزار قباني تحت عنوان " وسافر فارس العشق ":-
تبكي القلوب التي أهديتها زمناً
من الجمال ببحر الشعر والأدبِ
تبكي الحروف التي سطرتها نغماً
كانتْ ترفُّ على عينيكَ كالهدبِ
ويستمرُّ القصيد مُتدفِّقاً حتى يصل جويدة إلى قوله :-
يا درة الشام .. يا أغلى قلائدها
أبياتُ شعركَ تيجانٌ من الذهبِ
ورغم أن قصيدة " الخيول لا تعرف النباح " أهداها إلى "البياتي" عند رحيله، وكذلك قصيدة " وسافر فارس العشق" أهداها إلى "نزار" عند رحيله أيضاً إلا أننا نلاحظ أن القصيدة المُهداة إلى نزار بها حرفية لتصف الوضع الشكلي فقط الناجم عن رحيل شاعر كبير في حجم "نزار قباني"، أما في القصيدة التي أهداها إلى " البياتي" كان الجوهر مفتاحاً للقضية العربية كلها، ولم يأخذ الوصف في شخص "البياتي" أوالنتيجة من رحيله حيزاً رئيسياً، ورغم توافق المناسبتين وتشابه كلاهما في الاغتراب عند موته، والتشابه أيضاً في القامة الشعرية العربية .. !
ومن ناحيةٍ أُخرى .. يأخذ الحكي في كتابات شاعرنا " فاروق جويدة" مساحةً كبيرة، فيكتب الشعر القصصي على هيئة حلمٍ عربيٍّ يتحركُ فيه الحوار واصفاً حالةٍ ما أو حدثٍ ما ومُمَوسقاً لولا التسكين في مواضع كثيرة من النص، والاحتفاء بالبديع وتحديد مجال التصوير لخدمة هدفٍ واحد هو ما تصبو إليه القصيدة، لولا هذا بالإضافة إلى غياب بعض عناصر السرد لاقتربتْ نصوص الشاعر الكبير مع " القصص الشاعرة" ذلك الجنس الأدبي الجديد، والذي يعني بالتفعيلة والدوران الشعري مع الرمزية التي تجعل محتوى النص يحمل أكثر من رؤية لاعتبار أن كل لفظ يستدعي ما وراءه من جمل وتواريخ إنسانية حياتية، ويستبدل هذا الجنس إيقاعات الرويِّ والجناس بالموسيقى الداخلية للحروف وتجاور الأحداث المتعاقبة في ألفاظ، ليكون الشكل العام قصة، والتفعيلة قصيدة، بينما الوضع الحقيقي له خصائصه التي تُميزه عن كلا الجنسين .
أقول هذا لما لأشعار فاروق جويدة من تماس حقيقي مع الدراما، وخصوصاً في المسرحيات الشعرية "العاشق " و"دماء على أستار الكعبة"، ولم تكن هذه الانطلاقة مفاجئة، وإنما ظهرت جذورها في الشعر القصصي عند شاعرنا، ونراه واصفاً بالسرد دعاوى احتلال العراق وعلى شكل الحكي للأطفال يقول :-
طفلٌ صغير .. ذاب عشقاً في العراقْ
كراسة بيضاء يحضنها، وبعض الفل .. بعض الشعر والأوراقْ
حصالة فيها قروشٌ .. من بقايا العيد، دمعٌ جامدٌ يُخفيه في الأحداقْ
عن صورة الأب الذي قد غاب يوماً، لم يعدْ، وانساب مثل الضوءِ في الأعماقْ
يتعانق الطفل الصغير مع الترابِ، يطولُ بينهما العناقْ
خيطٌ من الدم الغزير يسيل من فمهِ، يذوب الصوتُ في دمه المُراقْ
وهكذا يكون الشعر القصصي والذي يسير على إيقاع التفعيلة، وليس كما يدَّعي البعض أنه نثرٌ راقي،
التفعيلة هنا هي (متفاعلن) ويعرف ذلك الشعراء الحقيقيون،
وما بال الحوار والحجة في نص " رسالة إلى بوش من طفلة مسلمة"
وعلى لسان هذه الطفلة يقول :- " يا سيدي بوش العظيم / حاربْت يا مولاي يوماً في الكويتْ
وجنيتَ منها ما جنيتْ / هل شعب بوسنة لا يساوي في ضميركَ بئر زيتْ؟ " ( والتفعيلة أيضاً متفاعلن) ، ويتخذ الوصف للحالة فيما يُقرأُ خلف النص أيضاً موقعه من أشعار " فاروق جويده " ولاسيما عندما يستخدم أسرار اللغة العربية وموسيقى الكلم في القضايا الجوهرية،
يقول ُواصفاً في عنوان قصيدته المُتسائل والداعي متى
يفيقُ النائمون؟:
شهداؤنا فوق المنابر يخطبونْ
قاموا إلى لبنان صلُّوا في كنائسهم، وزاروا المسجد الأقصى، وطافوا في رحاب القدسِ واقتحموا السجونِ في كل شبرٍ من ثرى الوطن المُكبَّلِ ينبتونْ
ويتضح من عدد التفعيلات في كلا السطرين الشاعرين السابقين أن الشعر الحر لا يعني غير المُمَوسق، وإنما الحرية تكون في عدد التفعيلات تبعاً للدفقة الشعورية،
فالسطر الأول يتكون من ثلاث تفعيلات فقط تنتهي عند قوله يخطبونْ ( النون ساكنة)، أما السطر الثاني يبدأُ من كلمة "قاموا" وينتهي عند " ينبتونْ"، والنون سكنةٌ أيضاً كرويِّ مع التفعيلة المكررة (متفاعلن)
وإذا اتجهنا لتفعيلات أخرى نجد شاعرنا يُكثر من تفعيلة البحر المتدارك (فعلن)، أو يكون الإيقاع على الخبب، أوما يعتمد فقط على تكرار السبب فقط وكذلك تكرار الوتد مع الالتزام، فهويقول عن الشهيدة "سناء المحيدلي" في قصيدته (بعض العشق يكون الموت) :-
كانت تعلم أن الموت ضريبة عشق للأوطانْ / أن الحب سيصبح يوماً أجمل وشمٍ للأكفانْ /
أن الموت سيصبح عُرساً يُنسينا كل الأحزانْ / لكن سناء اختارت كيف تموتُ ..لتبكيها كل الأشجار .. اختارت أين تموتُ لتُصبح عطراً للأزهارْ / اختارتْ أن تبقى رسماً فوق الطرقات .. على الأنهارْ .
ونلاحظ هنا تفعيلة ( فعلن المتدارك)، والرويّ في السطر الثاني والثالث عبارة عن (النون الساكنة)، أما في الرابع والخامس (الراء الساكنة أيضاً)
إن موسيقى الشعر عند فاروق جويدة لا تعتمد فقط على اختيار التفعيلةِ أوالرويِّ ، وإنما على تتابع دفقات الإيقاع والفونيمات الصوتية وتجاور الكلمات ذات الحروف المتشابهة أوالمتنافرة تبعاً للإيقاع الناجم عن طبيعة الحالة الشعورية لخدمة المعنى المراد توصيله عبر الرسالة الأصلية للنص وتلك الدفقات المتتابعة لا إرادياً بناءً على حركة الرويّ أوالوقف ، ويكثر عند أشعار " فاروق جويدة" الجناس في مكونات البيت أوالسطر الشعري فضلاً عن الرويِّ الذي يتم اختياره أيضاً من خلال الوعي الشعري وما يترك أثراً مقصودا في الأذن والنفس ..، يقول شاعرنا:-
حملناكِ يا مصر بين الحنايا
وبين الضلوع وفوق الجبين
عشقناكِ صدراً دعانا بدفءٍ
وإن طال فينا زمان الحنين
سيبقى نشيدكِ .. ..
يضئ الطريق على الحائرين
سيبقى عبيركِ بيتَ الغريب
وسيف الضعيف وحلم الحزين
سيبقى شبابكِ رغم الليالي
ضياءً يشعُّ على العالمين
في الأبيات السابقة تعتمد الموسيقى على تفعيلة بحر المتقارب (فعولن) مع تسكين حرف الرويِّ ( النون )، والتسكين هنا له غرضه للتأثير على حاسة السمع بنفس القدر الذي يؤثر به اختيار حرف النون على النفس – نسبة كبيره من أشعار جويده تتخذ الـ ( نون ) روياً -، ومع ذلك نجد أن هناك الموسيقى الداخلية، وقد يمثلها الجناس في (حملناكِ / عشقناكِ ) وفي ( نشيدكِ / عبيركِ )، وكذا ما يُمثِّله كسر كاف التأنيث والتخصيص لمكانة مصر وخصوصيتها التي تشعُّ " على العالمين"..،
وإذْ تتجلى الموسيقى الداخلية في الضمير العائد على مصر (حملناكِ، عشقناكِ)، يتجاور ظرفا المكان (بين، فوق)، هذا، وتتكرر بعض الكلمات في أشعار "جويده" ليس فقط للتوكيد اللفظي، وإنما لانسيابية الجرس الموسيقي، ومثل ذلك في البيتين السابقين تكرار الظرف (بين)، وفي قصيدة أخرى نجد التضاد يلعب دوره، فمثلاً يقول
كل العصافير الجريحة في بلادي .. تلعن الزمن القبيح
ماتت على الأغصان .. كم كانت تغني كل صبح هل ترى
يبكيك عصفور جريح؟ ... ودمي يسيل على ثيابي هل ترى
يبكيك إنسان ذبيح؟
التضاد في ماتت، تغني
مع تكرار الاستفهام " هل ترى يبكيك ...؟"
كل شيء له منظور معين، فالنهر قد يراه البعض مياهاً وأسماكاً ومراكب، ويرى أنه مكان لقاء العاشقين، ويمكن أن يُرى طريقاً للسفر، وقد يُرى في عبقرية إنشاء الكباري والجسور، وكذلك يُرى مكاناً للتسول وفرصة لبائعي الوهم والورد والحب المفتعل، كلها صورٌ قد تبعد أوتقترب لكن لا يُمكن أن تُجمع كلها في بوتقة واحدة لدى الإنسان العادي، لكن الشاعر _ والشاعر فقط _ هو الذي يرى كل هذه الصور، بل يرى أكثر منها في آنٍ واحد ..، ففي الموج رمال الصحراء، وعلى الشاطئ سحابةٌ مُمْطرة ..، وهو الذي يُحول أي خسارة إلى مكسب .
الشاعر هو صاحب القدرة على التنبؤ بالمستقبل من خلاصة خبرات وتجارب وتحليلها والسرعة في استخلاص النتائج ووضعها في حيز التنفيذ، وفي إطار من الضوابط، ولا تكون حرية التعبير كسر القواعد،
والشاعر الحقيقي إذا اكتملت عناصره الفنية يكتسب ريادته سواء كان يكتب الشعر العمودي، أوالحر لأنه يلتزم بوحدة القصيدة في التركيب والترتيب وتناسق المعاني وتوافقها، مع التصوير لجديد والابتكار في تغريب الموضوع، وكلما أعيدُ النظر في القصيدة نكتشف قوة أكثر في البناء وتناسقاً بين المعاني، مع موسقة اللغة في كيفية الاستفادة من الأسلوبين الدرامي والقصصي،
ولا يكون الشاعر شاعراً حقيقياً إلا بما يملك من القدرة على التأثير، فيجمع إلى صوره السمعية والبصرية أعمق الإحساس وأرفع الملكات والمعاني بلغة مُشعة بالجمال تنبض بالحياة لأن الإنسان واللغة وحدة بنائية واحدة لا تنفصل، والشاعر عموماً بما يحمل من الشعور المرهف واللفظ الرامز والأسلوب الموحي يثير فينا الانفعال والجمال، والجلال،
والأديب بصفة عامة، والشاعر بصفة خاصة هو المسئول الأول عن سلامة اللغة ونقائها، لأن الشعر له علاقة بالنظام الصوتي للغة، وكما يُعبر الإنسان بكلامه عن شعوره وعواطفه ليؤثر في غيره، فهو يُعبر عن آرائه أيضاً للارتباط الوثيق بين الأفكار والعنصر الانفعالي، ونظراً للتأثير والتأثر تُحتمل الإيحاءات المختلفة،
والأديب ليس مجرد شخص متذوق للموسيقى وإنما هو شخص يصنع الموسيقى ولا تتاح هذه الصفة فقط بحفظ مجموعة من كي يكتب بعدها موسيقى كلامية، بل هي المقدرة على استيعاب موسيقى الكلام ويتأثر بها تأثراً شديداً ثم تتبلور بالفعل نغماً في أذنيه حتى إذا بدأ الصياغة كانت له سمة نغمية خاصة تستسلم لأنامله على شكل لغة شاعرة .. والموسيقى في العمل الأدبي قد تأتي من سياق الكلمات وعمق المعنى والفردية الرائعة لتضيف على الصورة بريقاً جميلاً .. ذلك من خلال الاستخدام المتميز .. لأن الموسيقى الجيدة تزيد في الإحساس بالموضوع ذاته لا يزيد في الإحساس بالموسيقى إذا لم تكن جيدة في حد ذاتها، والموسيقى تختلف من ظاهر إلى خفي .. أما عن الموسيقى الظاهرة فهي التي تؤثر على السمع من خلال التشكيل والتماثل الصوتي من البحر والقافية ...، أما عن الموسيقى الخفية (الداخلية) هي التي تأتي من علاقات التوافق والتضاد بين المعاني ولا دخل للمباني فيها ولها دورها الذي يبدأ من الفكر والوجدان ثم ينعكس على الحواس والمزج بين الموسيقى الظاهرة والموسيقى الخفية من أهم دلالات التوفيق لدى الشاعر ..،
والحقيقة أن الالتزام بنغمة موسيقية واحدة ليست رتيبة تؤدي بها إلى خلق صور ناضجة وكلما كان الشاعر رائداً ليس متشاعراًً فهو يجدد في موسيقاه وينوعها كي لا يصب إنتاجه في قالب ثابت ربما كان شائعاً في زمن ما ولكن لا يناسب زمناً آخر..،وليروي دائماً أذنه وإحساسه مثل "بتهوفن" و" فاجنر" كانوا لا يقيدون السيمفونيات بأسماء معينة لولا خضوعهم للناشر،ثم بعد ذلك أساتذة الموسيقى في العصر الحديث لا يطلقون أسماء معينة على مقطوعاتهم إيماناً منهم بأن الفن أعمق وأطلق، فإذا حاصره أي شيء، وإن كان جميلاً في ملحمة ربما يحجز عنه عوالم أخرى لسوف تكون أجمل ..وأفضل ..،
والموسيقى من أهم العناصر الرئيسية في العمل الأدبي وخصوصاً إذا كان شعرياً، وهذه الموسيقى تتجاور من حيث الأهمية بجوار اللغة التي ينطلق من خلالها النص،
والشعراء الحقيقيون هم الذين تُسيطر عليهم القصيدة حتى في تصرفاتهم وأحلامهم ورؤاهم للمستقبل من خلال الحدث الجاري وربطه بالماضي من الأحداث التاريخية والمتشابهة، وإذا كانت تسيطر القصيدة بهذا الشكل، فمن أهم تداعيات هذه السيطرة تأتي الموسيقى كعامل رئيسي يُبين أسلوب الشاعر وروحه الممتدة في جسد قصائده حتى لولم يكتب اسمه عليها، ومن هؤلاء الشعراء الرموز كثير لما وضعوا بصمتهم على الساحة الأدبية الحديثة أمثال أحمد سويلم، وفاروق جويده، ومحمد علي عبد العال، وأعضاء مدرسة النسر الأدبية منهم أحمد عبد المنعم السرساوي ،
وإذا كنا بصدد هذه الناحية، فمن الأجدر أن يكون الإبحار من خلال جولة سريعة في بلاد أحد هؤلاء الشعراء والوقوف على بعض المحطات الرئيسية لهذا الشاعر الرمز، ولْنتخذ مثلاً فاروق جويدة في ضوء قراءة نقدية في أشعاره، ومن الطبيعي أن نتموج بين أجنحة موسيقاه الشاعرة ، ومن أهم مظاهر تلك الموسيقى التنوع مابين الموسيقى الداخلية والخارجية،لأنه _ ومن خلال النصوص_ يهتم بتجاور الحروف المتماثلة منها والمتنافرة تبعاً للمعنى المقصود في النص
يقول "فاروق جويده" في قصيدته بعنوان " هذي بلادٌ لمْ تعدْ كبلادي " :-
" في كلِّ ركْنٍ من ربوعِ الوادي
تبدوأمامي صورةُ الجلاَّدِ "
ومن الواضح سيطرة الموسيقى، فلقد اختار شاعرنا بحر الكامل، وتفعيلته هي (مُتفاعلنْ)، واختار أن يكون عنوان القصيدة شطراً منها، وهوهنا آخر شطرٍ في القصيدة، كما أنه اختار الشكل العمودي للقصيدة وليس الشكل الحر، ومن بين اختياراته كان الرويُّ حرف الدال مكسورة الحركة، واختار كذلك ضمن موسقته لفظة " صورة " للتعبير عن الجلاد مع أنه استخدم أداة التشبيه ( حرف الكاف ) في تصوير العنوان المُمَوْسق، وأكد رؤيته بأنها " في كل ركن من ربوع الوادي " ، ورغم أن القصيدة مُهداه إلى الذين ابتلعتهم أمواج الهجرة غير الشرعية بعدما ضاقت عليهم أرض بلدهم، تلك البلد الأم التي ترى مُجريات أمور أبنائها من خلال قميص الرؤية لدى يعقوب قبل أن يراه الأبناء ذاتهم،
وفي مثل هذه القصيدة يُعلن الشاعر الرمز أنه لا ينفصل عن قضايا عصره بنفس القدر الذي يستدعي فيه التراث، ويُبصر المستقبل، وتلعب الموسيقى دورها ليس فقط في أذن السامع أووجدانه، بل في الصورة أيضاً، فهولم يقل " هذي بلادٌ لم تعد بلادي "، وكما الشائع " أن هذا الشيء لم يعد هو"، وإنما " هذا الشيء لم يعد كهو"، وهنا موسيقى البحر جعلته يأتي بصورة أبلغ، وهذه الصورة تمنع حتى مُجرد التشبيه بما سبق وليس العودة لما سبق، ثم إن كسر الرويِّ يعبر عن الانكسار في هذا الحدث الجلل، والذي يستثمره شاعرنا - رغم الفجيعة والانكسار - للتذكير بالتراث العريق والتوعية بما يجب أن يكون والاستفادة من الدروس الناجمة عن التجارب والخبرات المُختزنة، ويُبرهن إيمانه بهذا التراث وعدم إهمال قواعدنا باستخدام الشكل الُمقفَّى والعمودي في ذات الوقت للقصيدة العربية رغم الدعاوى للشكل النثري،
ولأن " فاروق جويدة" خبير باللغة وأسرار الموسيقى يختار حرف الرويَّ والحركة المؤثرة لهذا الرويِّ تبعا للموضوع والقصد المطلوب في رسالة القصيد، ويعلن شاعرنا عشقه لهذه اللغة مُتَّخذاً صوفية النص مركبةً له بين العاشق والمعشوقة، فيقول :-
إني تعلَّمْتُ الهوى وعشقْتُهُ منذ الصغرْ
وجعلتهُ حلم العُمُرْ
وكتبتُ للأزهار .. للدنيا .. إلى كل البشرْ
وهنا يأتي حرف الراء بما يحمل من تطريب وامتيازات عربية خاصة ليعلن أنه رويٌّ ساكنٌ في عالمية الكتابة التي تمس كل المخلوقات، ولم يأْتِ التسكين لمجرد الوزن الشعري في تفعيلة (متفاعلن) أوكان عشوائياً " وكتبْتُ للأزهار .. للدنيا .. إلى كل البشر"، وهنا كذلك الفعل (كتب) يأخذ بعده حرف جر "اللام" للقريب و"إلى" للبعيد، وهكذا، فإن شاعرنا كتب للأزهار وللدنيا، ثم يأتي دور كل البشر مع مراعاة الترتيب والفترة الزمنية والمجهود الواجب أن يبذله الشاعر حتى تصل رسالته بهذه الصورة، وقد تجري بين أوصال هذه السطور قول الشاعر القديم حين كان يتكلم عن نفسه شاعراً ليُبينَ قيمته وقامته حتى وصل إلى قوله " وأسْمعت كلماتي مَنْ به صممُ"، ومع اختلاف البحر هنا إذْ بينما استخدم الشاعر القديم بحر البسيط، فلقد استخدم " جويده" تفعيلة الكامل
ولا ينفصل الإيقاع الشعري عند جويدة عن الإيقاعات الحياتية وهمومها وأفراحها، فيعزف بالحب، ولطالما عرفه في مواطن كثيرة ليقول لنا :-
الحب يا دنياي أن نجد الرغيف مع الصغارْ
أنْ نغرس الأحلام في أيدي النهارْ
ولعلَّهُ هنا قصد بكلمة " يا دنياي" كلمة أُخرى هي "ليلاي"، فإذا كانت "ليلى" صارتْ رمزاً عالمياً للحب – وترجع عالميتها إلى عالمية التراث العربي-، فإن الدنيا لا تكون محبوبة إلا إذا عرفنا الحب معرفةً حقيقية ومن أهل الحب أنفسهم (ليلى بأوجاعها وعشقها ومعاناتها حتى الموت) ..، وتلك المعرفة التي تعني سدَّ الجوع لدى الصغار وترسم لهم الأمل في الغد وتعتني برعايتهم حتى أننا " نغرس الأحلام في أيدي النهار"، ويا لها من صورة تربط بين الغرس واليد، وتربط بين الأحلام والوضوح، ويا له من بارع هذا المصور والاقتصادي والمربي السياسي والمُحنَّك من الشخصيات التي يتضمنها ضمير الشاعر الحقيقي ..،
وتلتقي هذه الأبيات مع سابقتها في التفعيلة والرويِّ على أن زادت هذه الأبيات بألف التأسيس، وما يحمله من المدِّ وإتاحة الفرصة للنفس الطويل، وكذلك كأن الشاعر أراد أن يُعبر بألف الإسناد هذه عن ضرورة جوهرية في الحب ..، وهي أن نستند على اللغة وهويتنا في صنع الرغيف وغرس الأحلام بأيدينا الصادقة صدق النهار الطاهر لأن هذه الأيدي لم ترتكب ما تضطر أن تخفيه
وبالانتقال السريع إلى ما يُعرف بهاء السكت في الشعر العربي، وما يتميز به العرب من شجاعة في الحق نجد شاعرنا يستدعي صهيل "الخيل" وجسارة " النسر " لمحوالأمية التاريخية التي تتسبب في الخلط بين البكاء والصهيل وكان هذا البكاء من نصيبنا وليس من نصيب الأعداء، مما يجعل "النسـر" يُحلق في سماء العلا ليضع التقويم والتقييم ويعمل كي يضع كل ما يدور مواضعه الحقيقية ..،
ولأن الشاعر ضمير الأمة وعين المستقبل، ولأن الشعراء قد يتسامحون لكنهم أبداً لا يفقدون الذاكرة
ولأن البعض قد حاول الفصل بين الشعر العمودي والشعر المُقفى، واشتعلتْ المهاترات لتفرض النثر على الشعر تحت أيِّ مُسمى – وإن كان للعرب تراثهم النثري العريق- فقد تنبه الشاعر من خلال الأحداث أوالبوح السري لبعض الأصدقاء إلى أن محاولات فرض النثر على الشعر ليس بغرض الحرية وإنما لإلغاء هوية الشعر العربي، وتدريجياً التخلص من الهوية العربية وما لها مِن تداعيات، فقرر شاعرنا "فاروق جويدة" إعلان رفضه لهذه المحاولات – أحسبه كذلك - ومن خلال بحر المتقارب وبالشكل العمودي في الشعر العربي - والذي يظل رابطاً بين الأمس والغد، وإن ظهر النباح في كل مكان لفترةٍ موقوتة – كتب شاعرنا قصيدة " الخيول لا تعرف النباح " وأهداها إلى عبد الوهاب البياتي عند رحيله –وكان "البياتي" شاعراً عمودياً ورائداً للشعر الحر في العراق، بينما كان رائده في مصر عبد المنعم عواد يوسف وسبقهما توفيق الحكيم قبل أن يتجه بكتاباته إلى المسرح، وقد تزامن رحيل " البياتي " مع قرار عدد من المبدعين الشبان بتأسيس جمعية أدبية تحمل اسم "النسر" أملاً في النهوض من هذه الكبوة وتفاؤلاً بنسر أكتوبر في انتصاراته العربية وتوافقاً مع شعار جمهورية مصر العربية .. يقول فاروق جويدة :-
هنا كان بالأمس صوتُ الخيولِ
على كل باغٍ له جلْجلةْ
فكم أسقط الحق عرش الطغاة
وكم واجه الزيف كم زلزلهْ
فكيف انتهى المجد للباكيات
ومَنْ أخرس الحقَّ .. مَنْ ضللهْ؟
ومن قال أن البكا كالصهيل
وعدو الفوارس كالهرولةْ؟!
سلامٌ على كل نسرٍ جسورٍ
يرى في سماء العلا منزلهْ .
وأحسبُ أن الرويِّ الساكن عند فاروق جويدة ظاهرة تُستخدم عند القضايا الهامة، فهناك قصيدته التي واجه بها الردة عند سلمان رشدي،وأما الحركات لها ما تعني كل حركة ولوعلى سبيل الاشتقاق من اسم الحركة، فالكسر يعني الفجيعة والانكسار، والرفع يعني الرفعة والمقام العالي، أما الفتح يعني الانطلاقة نحوعالم الفكر والخيال ، وتختلف التفعيلات والبحور بينما تتفق هذه المعاني في التشكيل اللغوي للرويِّ، فمثلاً يقول على البحر البسيط والرويِّ المشبع بالكسر في فجيعة رحيل نزار قباني تحت عنوان " وسافر فارس العشق ":-
تبكي القلوب التي أهديتها زمناً
من الجمال ببحر الشعر والأدبِ
تبكي الحروف التي سطرتها نغماً
كانتْ ترفُّ على عينيكَ كالهدبِ
ويستمرُّ القصيد مُتدفِّقاً حتى يصل جويدة إلى قوله :-
يا درة الشام .. يا أغلى قلائدها
أبياتُ شعركَ تيجانٌ من الذهبِ
ورغم أن قصيدة " الخيول لا تعرف النباح " أهداها إلى "البياتي" عند رحيله، وكذلك قصيدة " وسافر فارس العشق" أهداها إلى "نزار" عند رحيله أيضاً إلا أننا نلاحظ أن القصيدة المُهداة إلى نزار بها حرفية لتصف الوضع الشكلي فقط الناجم عن رحيل شاعر كبير في حجم "نزار قباني"، أما في القصيدة التي أهداها إلى " البياتي" كان الجوهر مفتاحاً للقضية العربية كلها، ولم يأخذ الوصف في شخص "البياتي" أوالنتيجة من رحيله حيزاً رئيسياً، ورغم توافق المناسبتين وتشابه كلاهما في الاغتراب عند موته، والتشابه أيضاً في القامة الشعرية العربية .. !
ومن ناحيةٍ أُخرى .. يأخذ الحكي في كتابات شاعرنا " فاروق جويدة" مساحةً كبيرة، فيكتب الشعر القصصي على هيئة حلمٍ عربيٍّ يتحركُ فيه الحوار واصفاً حالةٍ ما أو حدثٍ ما ومُمَوسقاً لولا التسكين في مواضع كثيرة من النص، والاحتفاء بالبديع وتحديد مجال التصوير لخدمة هدفٍ واحد هو ما تصبو إليه القصيدة، لولا هذا بالإضافة إلى غياب بعض عناصر السرد لاقتربتْ نصوص الشاعر الكبير مع " القصص الشاعرة" ذلك الجنس الأدبي الجديد، والذي يعني بالتفعيلة والدوران الشعري مع الرمزية التي تجعل محتوى النص يحمل أكثر من رؤية لاعتبار أن كل لفظ يستدعي ما وراءه من جمل وتواريخ إنسانية حياتية، ويستبدل هذا الجنس إيقاعات الرويِّ والجناس بالموسيقى الداخلية للحروف وتجاور الأحداث المتعاقبة في ألفاظ، ليكون الشكل العام قصة، والتفعيلة قصيدة، بينما الوضع الحقيقي له خصائصه التي تُميزه عن كلا الجنسين .
أقول هذا لما لأشعار فاروق جويدة من تماس حقيقي مع الدراما، وخصوصاً في المسرحيات الشعرية "العاشق " و"دماء على أستار الكعبة"، ولم تكن هذه الانطلاقة مفاجئة، وإنما ظهرت جذورها في الشعر القصصي عند شاعرنا، ونراه واصفاً بالسرد دعاوى احتلال العراق وعلى شكل الحكي للأطفال يقول :-
طفلٌ صغير .. ذاب عشقاً في العراقْ
كراسة بيضاء يحضنها، وبعض الفل .. بعض الشعر والأوراقْ
حصالة فيها قروشٌ .. من بقايا العيد، دمعٌ جامدٌ يُخفيه في الأحداقْ
عن صورة الأب الذي قد غاب يوماً، لم يعدْ، وانساب مثل الضوءِ في الأعماقْ
يتعانق الطفل الصغير مع الترابِ، يطولُ بينهما العناقْ
خيطٌ من الدم الغزير يسيل من فمهِ، يذوب الصوتُ في دمه المُراقْ
وهكذا يكون الشعر القصصي والذي يسير على إيقاع التفعيلة، وليس كما يدَّعي البعض أنه نثرٌ راقي،
التفعيلة هنا هي (متفاعلن) ويعرف ذلك الشعراء الحقيقيون،
وما بال الحوار والحجة في نص " رسالة إلى بوش من طفلة مسلمة"
وعلى لسان هذه الطفلة يقول :- " يا سيدي بوش العظيم / حاربْت يا مولاي يوماً في الكويتْ
وجنيتَ منها ما جنيتْ / هل شعب بوسنة لا يساوي في ضميركَ بئر زيتْ؟ " ( والتفعيلة أيضاً متفاعلن) ، ويتخذ الوصف للحالة فيما يُقرأُ خلف النص أيضاً موقعه من أشعار " فاروق جويده " ولاسيما عندما يستخدم أسرار اللغة العربية وموسيقى الكلم في القضايا الجوهرية،
يقول ُواصفاً في عنوان قصيدته المُتسائل والداعي متى
يفيقُ النائمون؟:
شهداؤنا فوق المنابر يخطبونْ
قاموا إلى لبنان صلُّوا في كنائسهم، وزاروا المسجد الأقصى، وطافوا في رحاب القدسِ واقتحموا السجونِ في كل شبرٍ من ثرى الوطن المُكبَّلِ ينبتونْ
ويتضح من عدد التفعيلات في كلا السطرين الشاعرين السابقين أن الشعر الحر لا يعني غير المُمَوسق، وإنما الحرية تكون في عدد التفعيلات تبعاً للدفقة الشعورية،
فالسطر الأول يتكون من ثلاث تفعيلات فقط تنتهي عند قوله يخطبونْ ( النون ساكنة)، أما السطر الثاني يبدأُ من كلمة "قاموا" وينتهي عند " ينبتونْ"، والنون سكنةٌ أيضاً كرويِّ مع التفعيلة المكررة (متفاعلن)
وإذا اتجهنا لتفعيلات أخرى نجد شاعرنا يُكثر من تفعيلة البحر المتدارك (فعلن)، أو يكون الإيقاع على الخبب، أوما يعتمد فقط على تكرار السبب فقط وكذلك تكرار الوتد مع الالتزام، فهويقول عن الشهيدة "سناء المحيدلي" في قصيدته (بعض العشق يكون الموت) :-
كانت تعلم أن الموت ضريبة عشق للأوطانْ / أن الحب سيصبح يوماً أجمل وشمٍ للأكفانْ /
أن الموت سيصبح عُرساً يُنسينا كل الأحزانْ / لكن سناء اختارت كيف تموتُ ..لتبكيها كل الأشجار .. اختارت أين تموتُ لتُصبح عطراً للأزهارْ / اختارتْ أن تبقى رسماً فوق الطرقات .. على الأنهارْ .
ونلاحظ هنا تفعيلة ( فعلن المتدارك)، والرويّ في السطر الثاني والثالث عبارة عن (النون الساكنة)، أما في الرابع والخامس (الراء الساكنة أيضاً)
إن موسيقى الشعر عند فاروق جويدة لا تعتمد فقط على اختيار التفعيلةِ أوالرويِّ ، وإنما على تتابع دفقات الإيقاع والفونيمات الصوتية وتجاور الكلمات ذات الحروف المتشابهة أوالمتنافرة تبعاً للإيقاع الناجم عن طبيعة الحالة الشعورية لخدمة المعنى المراد توصيله عبر الرسالة الأصلية للنص وتلك الدفقات المتتابعة لا إرادياً بناءً على حركة الرويّ أوالوقف ، ويكثر عند أشعار " فاروق جويدة" الجناس في مكونات البيت أوالسطر الشعري فضلاً عن الرويِّ الذي يتم اختياره أيضاً من خلال الوعي الشعري وما يترك أثراً مقصودا في الأذن والنفس ..، يقول شاعرنا:-
حملناكِ يا مصر بين الحنايا
وبين الضلوع وفوق الجبين
عشقناكِ صدراً دعانا بدفءٍ
وإن طال فينا زمان الحنين
سيبقى نشيدكِ .. ..
يضئ الطريق على الحائرين
سيبقى عبيركِ بيتَ الغريب
وسيف الضعيف وحلم الحزين
سيبقى شبابكِ رغم الليالي
ضياءً يشعُّ على العالمين
في الأبيات السابقة تعتمد الموسيقى على تفعيلة بحر المتقارب (فعولن) مع تسكين حرف الرويِّ ( النون )، والتسكين هنا له غرضه للتأثير على حاسة السمع بنفس القدر الذي يؤثر به اختيار حرف النون على النفس – نسبة كبيره من أشعار جويده تتخذ الـ ( نون ) روياً -، ومع ذلك نجد أن هناك الموسيقى الداخلية، وقد يمثلها الجناس في (حملناكِ / عشقناكِ ) وفي ( نشيدكِ / عبيركِ )، وكذا ما يُمثِّله كسر كاف التأنيث والتخصيص لمكانة مصر وخصوصيتها التي تشعُّ " على العالمين"..،
وإذْ تتجلى الموسيقى الداخلية في الضمير العائد على مصر (حملناكِ، عشقناكِ)، يتجاور ظرفا المكان (بين، فوق)، هذا، وتتكرر بعض الكلمات في أشعار "جويده" ليس فقط للتوكيد اللفظي، وإنما لانسيابية الجرس الموسيقي، ومثل ذلك في البيتين السابقين تكرار الظرف (بين)، وفي قصيدة أخرى نجد التضاد يلعب دوره، فمثلاً يقول
كل العصافير الجريحة في بلادي .. تلعن الزمن القبيح
ماتت على الأغصان .. كم كانت تغني كل صبح هل ترى
يبكيك عصفور جريح؟ ... ودمي يسيل على ثيابي هل ترى
يبكيك إنسان ذبيح؟
التضاد في ماتت، تغني
مع تكرار الاستفهام " هل ترى يبكيك ...؟"