تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تمزق...رواية جديدة .



عبدالغني خلف الله
27-11-2010, 04:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم



تمزق .... رواية جديدة


عبدالغني خلف الله


الحلقة الأولي

إسمى عبد الوهاب ... واختصاراً ( وهبة ) موظف عام , وأهوى كتابة الشعر والخواطر وأعجب بلفظة ( تمزق ) لذلك كثيراً ماتجدنى أرددها بمناسبة وبدون مناسبة , لكن هذه الموظفة المشاغبة ( غادة ) تريد أن تلصق بى هذا الأسم .. إذ دخلت مكتبنا ذات مرة وأنا منهمك فى ترتيب ( الكابينت ) ويبدو أنها لم ترنى , فسألت ( فوزية ) زميلتى فى المكتب بسخرية واضحة : أين الأستاذ تمزق ؟ توجهت إليها بوجه جهم وقلت لها : نعم .. أى خدمة ؟ يبدو أنها فوجئت بوجودى .. لذلك تراجعت إلى الوراء وفى ارتباك شديد حاولت أن تدارى أحساسها بالحرج , همست فى رقة متناهية : ولا حاجة , فقط كنا نريد أن ندعوك لرحلة الزملاء بمناسبة زواج ( آمال ) حتى تتحفنا بروائعك الشعرية .
تأملتها بعمق وكأننى أراجع أجندتى ليوم الجمعة .. وفى الواقع كنت أشرب من ذلك الألق المنداح من وجهها الطفل .. الحيرة والأرتباك يتناوبان على محياها الجميل , وأنا أعب حتى الثمالة من جمالها الأخاذ وسيطر جو من التوتر على المكتب وهمهمت ( فوزية ) بكلمات غير مفهومة عندما لاحظت أننى أحدق بلا هواده .. , آها .. قلت شنو ؟ .. تعثرت الحروف فوق شفاهها موافق .. موافق .. طيب غداً نعطيك التفاصيل من أين ومتى يكون التحرك .. ( فوزية ) امتعضت من هذا الموقف , ولاحظت أنها لم تدع للرحلة , منعها أدبها الجم وطبعها المهذب ابداء أى نوع من الأعتراض , دائماً



منكبة على ملفاتها تعمل فى صمت , وعندما تدعونى تقول لى هذا الملف يخصك يا أستاذ ( عبد الوهاب ) .. استاذ ؟ ولا حتى يا أستاذ وهبة يا فوزية ونحن زملاء فى هذا المكتب لما يقارب العام .. ساكنة انت سكون البحر العميق وعميقة عمق القصائد المسكونة بالشجن , وفى دواخلك أسرار كثيرة لابد لى من استجلاء مكنوناتها . من منا لا يتألم يافوزية ..؟ تجيش النفس بالآمال ولكن هنالك بصفة مستمرة الرقم المفقود فى معادلة الحياة .. وبرغم كل التحوطات يغيب ذلك الشئ فتنهار العملية الحسابية برمتها . ( كمال ) يقتحم المكتب وضحكته المدوية تسبقه إلينا .. هكذا ( كمال ) يضحك بصوت عال , ويتحدث بصوت عالٍ , وأذا ما سمعته يتجادل مع زميل أو زميلة تحسب أنهما يتشاجران ..
- هل سمعتما بالنبأ الخطير ؟
هتفنا بصوت واحد : حصل شنو ؟
- سعادة المدير العام ..
- مالو ؟
- أُحيل للصالح العام
- المدير ؟
- نعم السيد مصطفى أحيل للتقاعد وتم تعيين السيد عثمان خلفاً له .. ( ترى كيف سيكون حالك ياغادة ) وبدون أن أشعر سألته فى بلاهه
- وغادة ؟!!
- مالها غادة يا وهبة إنها مجرد سكرتيرة , يذهب مدير , يحضر مدير آخر ..
غادة مجرد سكرتيرة وبس ..
لكن السيد مصطفى مدير وأى مدير , من النوع الذى نقول عنه ( إنسان دوغرى زى الخيط( , لا يعرف اللف والدوران وعلى أكتافه قامت هذه المصلحة , طبعها بطابعه الخاص , إنسان عجيب دقة فى المواعيد رهيبة , يعنى تستطيع أن تقول أنه من النوع ( السيستماتك ) .. وغادة هى الموظفة المفضلة عنده .. يعاملها معاملة خاصة ولا يبتسم إلا فى وجهها , ويغمرها بالهدايا كلما عاد من رحلاته خارج القطر , ُهرعنا إلى مكتب المدير ووجدنا أن الفوضى قد عمت أرجاء المصلحة ولغظ كثير يدور هنا وهناك , ووجدنا ( غادة ) وهى منكفئة على درج مكتبها تبكى , أخذتها الحاجة ( بتول ) كبيرة ( المراسلات ) بحنو وادخلتها إلى الجزء الداخلى من المكتب , وحرمتنا من تلك اللحظات النادرة , الألم يلون ذاك الوجه الرائع وبقايا الدموع تكاد تطفر من رموشها الطويلة , أجل كل شئ فيك يتمزق ياغادة وكأن رحيل السيد مصطفى يعنى بالنسبة لك نهاية الكون ..
أنحشرنا وكنا ثلة من الموظفين والموظفات والعمال فى باص المصلحة بإتجاه منزل السيد مصطفى لنقول له .. نقول له ماذا ؟ نقول أو لا نقول الأمر لا يخصك فأنت لست أقدم موظف .
أصابتنى الحيرة والأندهاش وأنا أدلف إلى قاعة الجلوس الأنيقة , حيث أخذت المقاعد الفخمة موقعها المتميز , وهنااك سريران من النيكل وملاءات نظيفة ,و توجد أسرّة أخرى فى البهو الداخلى لا حصر لها , وأنت طول عمرك تحلم بسرير واحد نظيف يخصك وحدك , وكلما تحدد موقفك من سرير واحد وتتعود عليه يأتى الأهل من البلد فاذا أنت نائماً على الأرض تلتحف الوسائد , هل تنكر أنك عشت طفولتك وأنت تنام على أى شئ , فقط تبدل الحال عندما تم ختانك حينها تعطفت عليك أمك ( ببرش ) أنيق إلا أنها عادت وطوته بعد أيام , عندما أنتهى أمد الختان الرائع , هل تذكر سرقة مفاتيح البيوت والأحذية وقد نام أهل القرية بعمق وهم يتدثرون بالنسيم العليل فى الصيف الحار وقد أخذ التعب منهم كل مأخذ , وذلك بدعوى ( العادة ) فلا يلبثوا أن يستعيدوا أشياءهم بعد دفع ملاليم قلائل .. نعم نسرق وفى الساعات الأولى من الصباح ولا أحد يتضجر أو يقذفنا بحجر .. وفى الحقيقة لم تكن سرقة من أجل السرقة إذ لا يوجد لصوص أصلاً ..
تلقانا السيد مصطفى بوجه طلق المحيا وهو يردد إتفضلوا يا أبنائى إتفضلوا .. وأخذ كبير الكتبة زمام الموقف وتحدث إنابة عنا ... وكان التأثر واضحاً على السيد ( مصطفى ) ..
- حقيقة يا أبنائى أنا شاكر ومقدر لكم هذه الزيارة بالرغم أنها جاءت أثناء ساعات العمل الرسمية ( تانى ساعات العمل الرسمية ) ولكن نقول أن هذا ظرفاً استثنائياً والواحد بعد ثلاثين سنة خدمة دفع خلالها ضريبة الوطن لم يكن هنالك داع للأستمرار وأهو البركة فيكم أنتو.. وهنا أكتسب وجهه نوع من التجهم , لعله كان يتطلع إلى الوزارة , من يدرى ؟ , وشعرت بالخوف منه كعادتى .. كل شئ ولا يطلبنى المدير .. هل تذكر ياوهبه عندما عاد من إحدى المؤتمرات وطلب منك ترتيب أوراق المؤتمر , هل تذكر تلك المفاجأة غير المتوقعة , صورة بحجم ( البوستال ) لشابة مغربية فى غاية الجمال وقد كتبت على ظهر الصورة بخط اليد ( من علياء للسيد مصطفى لعله يتذكر الايام الحلوة التى امضاها معنا بكازبلانكا) أيام حلوة ؟ .. كيف وأين ؟ تلك الجميلة ذات العينيين الواسعتين والشعر المسدل على كتفيها وتلك الأبتسامة الرقيقة التى أخذت موقعها فى ثقة على خارطة الفم الرقيق .. ما الشئ الذى جمع بينهما ومتى ... التجهم صنواً للروعة .. ترى أين ذهب بها فى ( كازبلانكا ) هذه .. لابد أنه أخذها إلى مطعم خلوى وحدثها عن .. عن ماذا يمكن أن يحدثها ؟.. أظنه حدثها عن النيل وعن التماسيح التى تتهادى فى شوارع الخرطوم .. لابد أن هؤلاء القوم يعيشون بشخصيتين , تجد الواحد منهم كالليث الهصور وهو داخل السودان الإ أنه عندما ينفلت خارج الحدود يتغير ويصبح شخصية أخرى .. المهم أكلنا الحلوى الفاخرة وشربنا العصير وودعنا السيد مصطفى حتى الباب وهو يوصينا على المبادئ والرسميات ومستقبل المصلحة ..


* * * *

عبدالغني خلف الله
28-11-2010, 07:40 AM
الحلقة الثانية
طلب منى الحاج عطية إعطاء أبنته دروس فى اللغة الأنجليزية , وكانت فرحتى عظيمة بهذا التكليف , الحاج عطية من الشخصيات المحترمة فى الحى وهو تاجر فى السوق العربى , ولديه نصف دستة من البنات , سميرة وهى أوسطهن وطالبة بالثانوى , كانت دائماً تعجبنى بأخلاقها الرفيعة ورزانتها الفائقة وهى تقف فى أول الشارع بأنتظار باص المدرسة . كنت سعيداً بأن أجد الفرصة لأدخل هذا البيت . إذ أن ( سيد ) الأبن الأكبر للحاج عطية شخصية شريرة وقد حول منزل الأسرة إلى سجن صغير , فهو يمنع شقيقاته من الأختلاط ببنات الحى , وعندما جلسنا أنا وسميرة على منضدة السفرة لأعطائها الدروس , كانت فرحة ومتوثبة كلما ألقيت عليها جملة وطالبتها بترديدها , وكانت بها لثغة لطيفة سيما فى حرف الراء , وقد عانت الأمرين فى ترديد أسم ( روبن هود ) , وكنت كلما أصححها تحرك وجهها الجميل يمنةً ويسرةً فترتبك ضفيرتاها وترفض أن تستقر على أى من الكتفين الرائعين , : هل تنوى الزواج منها ياوهبة ؟ سألنى كمال ..ومن أنا لأرفض إذا اتيحت لى الفرصة .؟


* * * *
أكاد لا أصدق .. إن كنت أنا فعلاً المدير التنفيذى لمكتب المديرالجديد , قرأت الأمر المكتبى أكثر من مرة , لابد أن السيد عثمان يقصد شخصاً آخر .. والإ فأين أولئك الفطاحلة من الموظفين أمثال هاشم والسر , ولكننى على كل حال تبوأت الكرسى الأنيق الدوار , ورمقت غادة بنظرة فاحصة ذات مغذى , وبعد هنيهة وصل السيد المدير ودخل إلى مكتبه والسائق خلفه يتأبط حقيبته الجلدية , وسحابة من الدخان الممزوج بالعطر سبقته إلينا فهو فيما علمت يغمس ( السيجارة ) فى العطر قبل أن يدخنها , ولكن قبل أن يتوغل إنتبه إلى وجودنا فعاد وسلم علينا , : صباح الخير يا عبد الوهاب .. صباح الخير يا غادة , ( أيوه كده لابد من الأقدمية حتى فى السلام ) , ثم ( عليك الله يا غادة ) أطلبى قهوة .. يا عبد الوهاب
( أنا عايزك ) ..
- شوف يا أستاذ من الأجدر أن تتعلم الطريقة التى تدير بها المكتب منذ الآن , الألتفات لواجبك لا غير , ولا أريد أى تسيب أو إجتذاب للموظفين وكل من هب ودب علي حساب الزمن الرسمى للمصلحة , لا أريد أى تمارض ولا تدخل فيما لا يعنيك , مع المحافظة على أسرار المكتب .. مفهوم ؟
- مفهوم سيادتك .. مفهوم
أنصرفت وأنا أتصبب عرقاً من المحاضرة التى أظنها أستمرت لعشرة دقائق .. وبحثت عن مقبض الباب المحشور فى الذخارف الخشبية ووجدته بعد لأى وجهد .. عندها وجدت الحاجة بتول وهى ُتدخل القهوة , أفسحت لها الباب وعبارات من الأطناب وصالح الدعاء تسد الأفق .. مبروك عليك ياولدى إن شاء الله تتهنى بالوظيفة , وربنا يديك الفى مرادك يا ود ( حشاى ) .
سألتنى غادة : اتأخرت كدة ليه ؟ بعدين شكلك ما طبيعى : لا ولا حاجة .. ولا حاجة .. همهمت بكلام غير مرتب .. آنسة غاده .. جاءنا الصوت من الداخل والحاجة بتول تخرج وأطراف من الجنيهات إنشلحت من بين أصابعها
- آنسة غادة .. ياحاجة بتول خلى الآنسة غادة تجى من فضلك .
- سمح ياعشاى ..
كل الطيبة الموجودة على ظهر هذه الأرض تجمعت فى زوايا فمك الأزرق يا عمتنا بتول .. وخرجت غادة وشعور بالأرتياح البالغ يلون وجهها الطفل .. أيتها الحمامة البيضاء .. ياخلاصة الألق المنسدل من أطراف القمر .. يافوح الصباحات الندية .. عيناك كوتان في جدار ألمى .. جرتان من عسل المنعرجات الجبلية واحتان من نغم .. يا .. ماذا ؟ يا وجع أيامى ويا رجع أوتارى الممزقة ..

عبدالغني خلف الله
29-11-2010, 07:06 AM
الحلقة الثالثة
وأنتهى اليوم الأول بالنسبة لكلينا وهو ممزوج بالتوتر والحركة الدؤوبة , حلويات وشخصيات لها وزنها وتلفونات من خارج المصلحة ولكن كيف ستعرف إن كانت لهذه الشخصية أو خلافها وزن ؟ سؤال طرحته علىَ غادة , وهمست فى عيونها : إنها الحاسة السادسة يا أستاذة ..
وقبل أن أدير لها ظهرى لفت نظرى الشبه الكبير بين غادة وسميرة , الآن فهمت لماذا أنا مشدود لكليهما , لقد مهدت ملامح كل واحدة منهن للأخرى ولكن أنىَ لبراءة الطفولة أن تتطابق مع عمق التجربة وقوة الشخصية ..
رجتنى غادة أن أحمل عنها بعض المكاتيب والدوريات والخطابات التى حفل بها بريد السيد مصطفى ونحن نستأذن للدخول إليه بمنزله حتى تُصلح من ثوبها , ولدى ولوجنا شعرت أن كل شئ رائع بحق , المزهريات الأنيقة و.., وأهل علينا السيد مصطفى بقامته المديدة : أهلاً .. تفضلوا بالجلوس ورن جرس الهاتف , فأخذ السيد مصطفى السماعة
- آلو مصطفى ..
- ..........
الحمد لله كل شئ على ما يرام , الواحد فينا أكتشف أخيراً أنه كان يضحى بأشياء رأئعة فى سبيل الواجب ..
- ..........
- والله على الأقل أنا لست مدان لأحد بوقتى وتفكيرى ..
- ..........
- كثير من الأساليب التى تدار بها المشاريع تكاد تقتل الانسان ..
- ..........
- الذكريات والصداقات والأولاد .. الواحد يتفرغ ليها بشغف
- ..........
- ما بحتاج يا حاج عمر الله يسلمك ..
الحاج عمر تمساح كبير هل تذكر ياسيد مصطفى يوم أن أقتحم عليك المكتب وهو يرغى كالثور الهائج وقد رسى العطاء على شخص آخر , وكيف أنه حاول أن يرشوك لتعيد النظر بالموضوع ولكنك لقنته درساً لن ينساه أبد الدهر , ماذا كان يظن ذلك المعتوه ؟ , هل يشتري ذمة رجل مثلك بالمال , وكيف أنك لم تشعر بوجودى بينكما ولا هو , وظللت تردد أنا أستلم رشوة .. الحقير السافل ..
وعادت غادة من تأملاتها التى فجرها تلفون ذلك المقاول ..
- أهلاً وسهلاً ..
- ياسيد مصطفى .. دى خطابات ودوريات وصلت في غيابك ومذكرات أستلمتها بالتيلفون
- أنا أشكرك يا غادة يا بنتى ..
- وأزيك هسع يا سيد مصطفى
- الحمد لله يا بنتى ..
- والله المصلحة بدونك لا شئ .. لا شئ أبداً ..
- يا بنتى دى سنة الحياة .. لو دامت لغيرك لما آلت إليك ..
- ولكن يا سيد مصطفى .. لكن ..
الدموع تنثال على وجه غادة وهى تهتز من شدة البكاء
- ما فى داعى للبكاء وتأكدى أنك عندى بمثابة ماريا وفاطمة ..
لكم يحب هذه البنت ولكن بطريقته الأبوية الخالصة , لعلها تشبه فى بعض ملامحها انساناً التقاه يوماً ما , وأنت يا وهبه الأ تذكرك غادة بآسيا بورتسودان .. كنت تنوى التقدم لخطبتها وأنت طالب بالثانوى وبعد عودتك من الإجازة الصيفية وجدتها قد تزوجت , ثلاثة أشهر فقط كانت هى الفاصل بين السعادة الأبدية والضياع الأبدى , هل تذكر عندما التقيتها وقد حضرت للخرطوم لتقيد أسمها فى مستشفى القابلات , قالت لك إن الزواج قسمة ونصيب , ثم أنفجرت باكية إلا أنك لم ترحم عذابها , حملت عليها حملةً شديدةً وقلت لها هى غلطتك وأنت ستتحملين مسئولية عذابنا مدى الحياة , ولن تتاح لى بعد اليوم مقابلتك فأنت فى عصمة رجل آخر وبيننا الملح والملاح .كل منا شرد قليلاً فى متاهاته الشخصية , وافقنا ثلاثتنا , سيد مصطفى وغادة وأنا على أصوات إنوثية تتفجر حيوية وحبوراً .. إنهما ماريا وفاطمة وقد غرقا تماماً تحت أطنان من الصحف والمجلات والحاجيات , طلب منهما السيد مصطفى أن يسلما علينا , ماريا سألت والدها ببراءة شديدة : انا سمعت فى المدرسة قالو طهروك شنو يعنى التطهير ؟ تجاهل مصطفى حديث ابنته واخذها الى جواره وسألها هل عاد ابو بكر من الجامعة ؟! واجاب ابو بكر بنفسه وهو يمد يده الينا مصافحاً ثم استطرد الاجواء متوترة جداً يا بابا فى الجامعة , بعد ان افلح البوليس فى منع اقامة ندوة الجنوب ... واتحاد الطلاب مصمم على اقامة الندوة مهما كانت النتائج , لكن هنالك اتجاه ينادى بالخروج فى مظاهرات .. وآخر مع ندوة ..
- ندوة إيه ومظاهرات إيه يا ابو بكر , هكذا قاطعه ابوه بحده .. صدقنى يا ابنى لن تجدوا حكماً افضل من حكم الجنرال عبود .. الراجل ده وطنى غيور وهمه الاول البلد ولكن يبدو ان السيد الابن لا ينصت لمثل هذه الترهات ولا انا يضاً .. مظاهرات ؟! تمام التمام ...


* * * *

مازن لبابيدي
29-11-2010, 02:02 PM
أستاذنا القاص المبدع عبدالغني خلف الله
أتابع معكم بشوق ومتعة كبيرين حلقات هذه الرواية ، وأعتذر عن المقاطعة .
لكم التحية الطيبة .

عبدالغني خلف الله
30-11-2010, 07:06 AM
السلام عليكم ورحمةا لله وأسعد الله صباحاتكم بكل الخير .. لا .. ليست مقاطعة ولكنها وقود لتمضي القاطرة إلي الأمام ..كل الود والتقدير .

عبدالغني خلف الله
30-11-2010, 07:07 AM
الحلقة الرابعة
اشتكت لى سميرة من العم عبد القادر صاحب اكبر بقالة فى الحى .. شيخ يناهز السبعين من العمر ولكن كل حركة من حركاته تقول انه فى شرخ الشباب .. الأجفان المكحلة ورائحة العطر النفاذة , ولكن ماذا قال لك يا سميرة ؟! قالت : كنت فى طريقى الى موقف البص اخر الشارع , ومن دون الايام مررت امام بقالته , خرج مسرعاً من خلف ( التخت ) وبدأ يطلق عبارات الاطناب والغزل وعندما نظرت اليه حرك حاجبيه فى صعلكه واضحة , لقد خجلت خجلاً شديداً يا استاذ .. وعجبت لهذا الشيخ الهرم اذ يسمح لنفسه بمثل هذه التصرفات ..
قلت لها : (( سيبك منو .. )) ولكن الم تسمع برنامج ما يطلبه المستمعون يا استاذ ؟..
- لا .. لم اسمع .. ماذا هناك ؟
لقد اهديت لبنات فصلى ولك أغنية يا استاذ ..
اغنيه .. لى انا ؟ قلت ضاحكاً .. واى اغنية يا سميرة ؟
(( الزول الوسيم فى طبعو دائما هادىْ )) .. اغنية النعام أدم .. صدق .. سيد أخوي خنقنى وكاد يقتلنى لولا تدخل والدى .. وحرم على سماع الراديو نهائياً ..
ايتها الملاك الصغير ما اروعك ..
عم عبد القادر والله زمان يا حاج , اما يكفيك عشرة زوجات على امتداد السودان من حلفا الى نمولى ,الحاج عبد القادر كان بائعاً متجولاً وكان يتزوج فى كل قرية يحل بها , وبرغم كل تلك الزيجات إلا أن الله لم يفتح عليه بالذرية الصالحة , ويتمتع الحاج عبد القادر بمحبة الجميع لخفة دمه ولطفه , وكانت كل صبايا الحى الصغيرات يفضلن الشراء من بقالته , لانه يوهم كل واحدة منهن بانها خطيبته ويصفها باجمل الاوصاف شعراً ونثراً , وقد تعود رجال الحى اداء صلاة المغرب امام دكانه وكان يأخذهم بين المغرب والعشاء فى قصص لا تنتهى , احياناً عن زيجاته العشرة , وكيف تزوج كل واحدة منهن , واحياناً عن مشاهداته , وكانت لديه فى كل مرة تفاصيل جديدة وحكاوى جديدة , وهو دائم السخرية من كل رجل أكتفى بزوجة واحدة .. سمعته مرة يقول للحاج عطية : معقول يا حاج عطية دكان جُملة وخمسة لوارى وثلاثة مخازن وزوجة واحدة ؟ .. بالله عليك ماذا يعجبك فى الحاجة ( عشة ) فلا تتزوج عليها ؟ ..
لقد أنجبت لى أولادى وكفى . . أجابه الحاج عطية فى حزم واضح .


* * * *
والآن يا وهبة وقد بكرت فى الحضور للمكتب .. لا بأس من كتابة بعض الخواطر فى المذكرة . (عسى ولعل تقع فى يد غادة ), إذن أكتب كلاماً حلواً يعطى بعض المؤشرات عما يختلج فى دواخلك نحو غادة , أمسكت بالقلم ( التروبن ) الذى أحتفظ به منذ المرحلة الأولية وجاءت البداية متعثرة نوعاً ما ... عيناك بحار من أحزان وأنا الملاح التائه فى بحر عينيك بلا مجداف , عيناك ماستان منسيتان فى مغارة ما , بجبل ما , يحرسها ثعبان ضخم .. ما هذا يا وهبه ؟ أيه دخل الثعابين والجن والمغارات فى الحب ؟ أحذف كل هذا يارجل فأنت لست ( هتشكوك ) .. ودلفت غادة إلى المكتب وأجيال من العطر والجمال تتشابك حول خصرها المفقود , الذى منطقته بحزام جلدى وهاج , وخصلات الشعر المسافرة مع الريح تحولت إلى ما يشبه أعشاش العصافير , إنها قصة الشعر هذه الأيام , ُعش الطيور والشريط الأحمر يلملم الخصل التائهة .. ليتنى كنت عصفوراًصغيراً لأندس بين ثنايا خصل شعرك الطويل ياغادة ..
- سيد عثمان وصل ؟

- لم يحضر بعد , ولكن ! مافى حتى رسالة واحدة ؟ ..
- كيف يعنى ؟..
- ما فى صباح الخير ؟
- أنا آسفة .. صباح الخير ..
- . . . . . . .
- ما بترد التحية ليه يا وهبه ؟ ..
- والله أنا لا أرد على التحايا التى أستجديها ..
- عليك الله خلينا فى المهم .. لدى سؤال خاص ومباشر ؟
- نعم .. نعم .. أظننى سيغمى علّى لا محالة .. أى سؤال ؟
- ما رأيك فى المدير ؟ ..
- أرتخت عضلات وجهى وشعرت بالأسى فى دواخلى .. كنت قد خلتها ستسألنى عن أحساسى نحوها وها هى تسألنى عن المدير ..
- شوفى يا غادة .. المدير دا شخصية غريبة جداً.. أى حاجة فيهو صاح , طريقتو فى الكلام صاح , طريقتو فى الشغل صاح , صاح او ما صاح ؟
همست وهى تغالب ضحكتها : عشره من عشره ..


* * * *

عبدالغني خلف الله
01-12-2010, 06:42 AM
الحلقة الخامسة
لم تكن لدى رغبة فى الأنضمام لرحلة الزملاء بمناسبة زواج ( آمال ) , ذلك لأن الحاجة والدتى كانت تشكو من آلام مبرحة وصداع , وقد عبرت عن تلك الأعراض بطبيعتها العفوية .. ( سهراجة وخمة نفس وأم شقيقة ) .. وعندما طلبت منها أن أصطحبها للطبيب رفضت بعناد , وعوضاً عن ذلك نضحت بعض زيت السمسم على جسدها ونثرت عليه مسحوقاً من ( القرض ) وهمهمت فى يقين ( الشافى هو الله ) .. هكذا نحن نتعامل مع المرض بلا مبالاه قد تصل إلى حد تعريض حياتنا للخطر .. الصبر وقوة التحمل سمة من سمات إنسان هذا البلد , لذلك لم يكن مستغرباً أن تسمع أن فلاناً قد مات وهو يصلى , أو وهو على ظهر دابته , طبعت على جبينها قبلة حارة حرارة جسدها النحيل وتمتمت بإخلاص ( الله يخليك لينا يا حاجة آمنه ) أسرعت لأركب البص مع الآخرين , ولما رأونى حيونى بدفء وتندر , حتى أن سائق البص خاطبنى من خلال آلة التنبيه بالأغنية المعروفة ( الليلة لاقيتو .. ) والتقط الجميع ذلك اللحن , وكأنهم ينتظرون هذه السانحة بفارغ الصبر , .. استعدت معنوياتى عندما لمحت غادة فى المقاعد الخلفية , وتدحرجنا عبر طريق جانبى إلى إحدى الحدائق المطلة على النهر , وقد وجدت سبيلى إلى الترجل من البص بصعوبة شديدة , وكان عليّ عبور أكواماً من الأوانى المنزلية والأكواب هنا وهناك .. , و ثمة آخرون قد سبقونا , وانهمك فريق منهم فى تجهيز الطعام وهم يتمايلون على أنغام الموسيقى , التى كانت تنساب من مسجل بحجم إطار عربة ..
تحلق الجميع حول العروسين , وقد نصبوا منصة ووضعوا عليها ( مايكرفون صغير ) , وتوالت الفقرات من هذا وذاك , وجاء دورى لألقى بعض الأشعار , وأستقبلتنى عاصفة من التصفيق والصيحات , مسحت المكان بسرعة لأحدد موقع غادة .. صافحت عينيها وبدأت إنشادى (( يا حلوة يا نبع العفاف ... شايقانا عينيك الُلطاف .. ذاكرنا فى كتاب الغرام من الغلاف حتى الغلاف ,,, ما فهمنا أى حاجة وانتهى بينا المطاف )) ضج الجميع بالضحك والأبتهاج , وصاحت إحداهن ( غادة .. حقك راح ) ..
إنتهت تلك السويعات , ونحن لا نشعر بها , وعندما أوصلونى حتى باب المنزل تذكرت الوالدة آمنة .... وخفق قلبى بعنف من شدة الخوف عليها , وعدوت نحو غرفتها كالمجنون ( وين أمى .. وين ).. أمى بخير لكن أتضايقت شوية ونقلوها للمستشفى صاحت فى وجهى أحدى شقيقاتى ... متى وكيف ؟ ... نضب ريقى وخارت قواى , ثم وفى ثوان معدودات أستعدت رباطة جأشى وأخذت عربة أجرة حتى مستشفى الخرطوم ...
وهبه أين أنت يا وهبه ؟ جاءنى صوتها من تحت الملاءة أخذت وجهها وقبلًته ... وجففتها من العرق الغزير الذى كان ينساب منه , وهتفت بحب : أنا هنا يا ( يما ) ... سلامة يا حاجة , ألف .. ألف سلامة ,,
- شغلتنى عليك يا ولدى ..
أنا شغلتك ؟ تخافين علىً يا أمى حتى وأنت تكابدين العذاب ؟! أى إنسانة أنت يا حاجة آمنة ؟ .


* * * *
تنادى الأهل من البلد والجيران , بمجرد سماعهم نبأ مرض الوالدة وهى الجديرة بالحب والإحترام , إذ أنها لا تقصر فى أى مناسبة تخصهم , ودائما تجدها إما أنها تجهز نفسها للسفر أو عائدة منه , أو متجولة من منزل إلى منزل داخل الحى تواسى هذا , وتسأل عن ذاك , وتبارك لهذه وتلك , وُرصت ( السجاجيد والمفارش ) تحت ظلال أشجار المستشفى , وجاء رهط من الأهل من البلد للأطمئنان على الوالدة , وكان عددهم كبير جداً حتى أن الطعام على كثرته لم يكف الإ النساء فقط , .. أسمع يا وهبه .. نمشى داخليات ( البركس ) بالجامعة لا سيما وأن اليوم عطلة ومعظم الطلاب سيكونون مع ذويهم , همس (جيلى) إبن الجيران وكان يدرس بجامعة الخرطوم وهو يرى الحيرة والأرتباك على وجهى إنطلقنا بعربة حتى هناك , وكم كانت دهشتنا ونحن نلج غرفة الطعام عندما وجدنا عدداً من الطلاب لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة , وقد غصت المائدة بطعام يكفى مئات الأشخاص ,, حملنا الطعام إلى العربة حتى ضاقت به على سعتها , وعدنا بسرعة للمستشفى ومرت الأزمة بسلام ..
أمضينا زهاء الأسبوع بالمستشفى وكان الزملاء من المصلحة يتوافدون علينا صباح مساء , حتى أن فوزية التى لم تعرف بأنها تختلط بأحد زارتنا وفى معيتها أصنافاً مدهشة من الطعام , لكأننى أراها لأول مرة , الإ أننى وبإعتراف خاص لنفسى لاحظت أن غادة لم تزرنا كأستثناء هو نقيض ما هو متوقع وما هو منتظر .. وأصابنى هذا التصرف بأحباط لا أملك له رداً وكعادتى دائماً التمست لها الأعذار , وشق علىّ السؤال عنها , وحاولت أن أحافظ بقدر المستطاع على حيويتى وبهجتى لدى إستقبال الزملاء والزميلات , حقا ما أقسى وقع تقصير من نحب على أنفسنا , عندما لا يكون هناك بد من التوضيح والإعتذار , ناهيك عن مجرد السؤال , وعادت الحاجة إلى المنزل تسبقها الذبائح والهدايا , وكانت لحظات لا تنسى ..


* * * *

آمال المصري
01-12-2010, 07:51 AM
أستاذنا الكبير وأديبنا الرائع
تابعت الأحداث الشيقة حتى الآن
وسأعود لأستمتع بباقي الأجزاء فاعذر تطفلي هنا
طاب اليراع المبدع ... وطابت الروح
تقديري الكبير ...
وكل عام وأنت بألف خير

عبدالغني خلف الله
01-12-2010, 05:44 PM
الإبنة الرائعة رنيم الشاعرة والقاص المتميزة ..إن مرورك وكل أبنائي وبناتي وأصدقائي بهذه الواحة الوريفة يمنحني مزيداً من الصبر علي مواصلة الكتابة بكل ضغوطاتها المفزعة والموجعة .. لذلك أهلاً بك ودمت في رعاية الله وحفظه .

محمد ذيب سليمان
01-12-2010, 08:39 PM
الأستاذ الملهم عبد الغني
ما شاء الله اتمنى لو أستطيع الإحاطة بالرواية
متابع هذه من أولها وبطريقة مختلفة
كل من قرأ قصتي الطويلة نسبيا " دموع لا تنتهي "
التي تصور الوضع قبيل عام 48 يلومني على أنها ليست رواية لعلني أتعلم
شكرا لك هذا الثراء

عبدالغني خلف الله
02-12-2010, 07:05 AM
الأستاذ الملهم عبد الغني
ما شاء الله اتمنى لو أستطيع الإحاطة بالرواية
متابع هذه من أولها وبطريقة مختلفة
كل من قرأ قصتي الطويلة نسبيا " دموع لا تنتهي "
التي تصور الوضع قبيل عام 48 يلومني على أنها ليست رواية لعلني أتعلم
شكرا لك هذا الثراء
أخي الحبيب محمد ..السلام عليكم ولكم مني ثابت الود والولاء والتقدير ..هذه الرواية أيضاً تشكل السودان بداية الستينات وجميل أن نلتقي أنت وأنا في العمل علي توثيق ما شاهدناه بكل ما فيه من سيء وجيد ..سعيد والله بإطلالتك ودمت والأسرة الغالية بألف خير .

عبدالغني خلف الله
02-12-2010, 07:06 AM
الحلقة الخامسة
التقتنى غادة بإنزعاج واضح , وحاولت أن تدارى إرتباكها وشعورها بالذنب , وتعللت بكثرة العمل أثناء غيابى , الإ اننى وبأحساس العاشق المتيم , شعرت أن هنالك شيئاً ما قد حدث , وأن الأمر أبعد من أن يكون فى حدود المسئولية .. طالعت سطور عينيها وهى تتظاهر بقراءة ملف أمامها , وأيقنت بأنها تكذب علىً , ولكن مهما يكن من أمر , فإننى فيما يبدو موعود بأشياء غريبة , لقد كنت أشد وثوقاً من أى وقت مضى من إخلاص غادة لى , وكنت أرسم بتمهل ملامح مستقبلنا معاً , وإن كنت قد توقعت الكثير من العراقيل أمام سعادتنا , الإ أننى لست مهيئاً بعد لفقدان غادة , قلبى يحدثنى بأنها لى , وأن هذه قاعدة قد تتباعد أو تقترب من حولها التكهنات أما أن تتركنى فهذا شئ غير وارد إطلاقاً , تهجرنى غادة أو تستبدلنى بشخص آخر . لا .. لا .. مش ممكن أبداً , فلنقل إنها أوهام قد أعترتنى بسبب الأرهاق والخوف على الوالده , ...
- غادة .. نعم وهبة , أتسعت عيناها وهى تنتبه لما أقول , ماذا سأقول ؟ , لحظة صمت جثمت فوقنا .. ورموش عينيها الطويلة تنام وتصحو فى تتابع وثبات , لا شئ .. لا شئ .. طيب , قالت وأردفَتها بتنهيدة عميقة , لو انها تتلهف لسماع شئ أي شيء منى , لألحت علىً فى البوح بما أود الإفصاح عنه , أما أن تسلم بـِ ( لا شئ هذه ) , فتلك إشارة رهيبة جعلتنى غير قادر على الإستمرار , فآثرت أن أخرج إلى فناء المصلحة وهناك تلقفنى كمال ..
- وهبه .. حمداً لله على السلامة , طبعاً أنا ما زرتكم فى المستشفى لأننى لا أحب مثل هذه الأماكن , بعدين مالك محبط كدة ؟ شرحت له الشكوك التي تعتورني إزاء علاقتي بغاده ..
-أنا حزين جداً لأجلك يا وهبه , وحتى تنتقل من دائرة الهموم والمستشفيات دعنى أدعوك إلى دائرة المرح و( السينمات ) ..
- مرح .. سينما ؟ هو أنا فاضى ..
- علىً الطلاق بالثلاثة يا صديقى العزيز عبد الوهاب أنت ضيفى لهذا المساء .. أولاً يا سيدى ( سينما غرب ) تعرض فيلم (The appointment ) والـ ( B.N) تعرض فيلم Splendor on the grass
- موافق يا كمال .. بس بشرط أنا عايز فيلم حزين , حزين للآخر ..
- لا .. لا أنت غير طبيعى منذ عودتك من الأجازة المرضية , إذن أضف إلى السينما الذهاب إلى الوكر المهجور , والإستمتاع بلحظات لا تنسى مع ( أرقنيش ) .. حقيقة شكلك يا وهبه لا تكفيه ( أرقنيش ) وحدها , أنت محتاج للفرقة الأثيوبية بأكملها , أرقنيش يا صديقي ..
- وطى صوتك .. وطى صوتك يا كمال , إنت عايز تفضحنا ..
- أرقنيش يا وهبه حقل من الكاكاو يتثنى أمام الريح .. زهرة برية متوحشة .. أرقنيش ..
- مهلك يا كمال .. بعدين
- أحضرها أحد المسئولين من القضارف , وقام بإيجار منزل خاص لها , ويزورها فقط كل خميس وبقية الأسبوع للضائعين الأغنياء فقط , وكأستثناء وحيد لى أنا حبيبها وسيد مشاعرها , والله يا وهبه حاجة كدة زى المنقة ... زى
- وما دخلى أنا فى الموضوع ...
اذهب أنا بعد الفيلم إليها وتذهب أنت إلى أى واحدة تانية , ليلة واحدة فقط , وتطرح كل الأحباطات من أرجاء الذاكره (*)...
خرجنا من الـ ( B.N) ورتل من السادة والسيدات يتزاحم نحو العربات , ناس مرتاحون تبدو عليهم سمات الدعة والجاه , أما أنا فقد كنت أشعر بآلام فى قدمى لضيق الحذاء عليها , وبالآم أخرى فى دواخلى , وإحساس طاغ من الغربة , شعرت وكأننى غريب عن هذا العالم , الكل يتبادل الضحكات والوشوشات , وأنا ليس أى شئ بعد , أما كمال فقد قتلنى بترديده لعبارة ( اللحم الأبيض يا وهبه ... اللحم الأبيض ) ..
دلفنا إلى الزقاق , وبدأ كمال يدق باب أرقنيش , ويردد أسمها من خلال ثقب فى الباب واقترح علىً منزلاً مجاوراً وأوصانى أن أسأل عن واحدة بالأسم , كان الزقاق ضيقاً ومظلماً وروائح مميتة تنبعث من كل شئ حولى , فتح الباب رجل مربوع القامة مفتول الساعدين , سألته عن تلك الفتاه إن كانت موجودة , أجابنى بصوت أنثوي لا يتناسب وقامته القوية بأنها موجودة , وفيما يشبه الإعتذار طلب منى أن أمر عليها بعد دقائق , وهمس فى أذنى ورائحة الخمر تنبعث من كل شئ فيه : مافى دخول إذا كنت لن تطلب أربعة زجاجات من البيرة ..
حاضر .. حاضر , همهمت وأنا أتراجع للخلف ,واعتراني مايشبه الدوار وشعرت بالرغبة بالتقيؤ , وأخذتنى قدماى بعيداًعن المكان , ثم عدوت وعدوت بشدة وكأن كل عفاريت الكون تطاردنى.
(*) ننوه إلي أن حيثيات هذه الرواية تشكل المجتمع السوداني في بداية الستينات من القرن الماضي ولا وجود اليوم لمثل تلك الظواهر السلوكية السالبة لذا لزم التنويه مع الشكر .


* * * *

عبدالغني خلف الله
03-12-2010, 04:55 PM
الحلقة السادسة..متابعة شيقة أتمناها لكم .

كل هذه الأناقة كيف ؟ وكل هذا السحر لماذا ؟ لكأنك يا غادة عروس سُتزف لعريسها بعد ساعة , الوجه الناعم صار مصقولاً كأنه البلور , وحفنة من الأساور والأشياء الحلوة إنسفحت على أصابع يديك العشرة , وطوق ذهبى أنيق يرتاح حول العنق الجبار , كان عطرك المفضل ( الصاروخ ) يعلن عن وصولك , وكأنه يقرع الأجراس معلناً لحظة قدومك , والآن عطر جديد أخاذ يزركش أنحاء المكتب , غاده التى كانت تستدين منى (( حق المواصلات )) تشترى كل هذه الأشياء , والأدهى من ذلك الثياب والفساتين وحقيبة اليد , تتجدد يومياً , من أين لك هذا يا غاده وفوق كاهلك أم مريضة ونصف دستة أشقاء وشقيقات جميعهم بالمدارس , إن تغييراً رهيباً قد حدث أثناء غيابك يا وهبه ثم هذه العصبية التى تتفاقم عندما يرن جرس الهاتف , ألم أقل لكم بأننى موعود بأشياء غريبة , وحاول كلانا نسيان الآخر , وأظنها قد نجحت بدرجة كبيرة أما أنا فلا .. إنه الضياع والتمزق والتشرد الليلى على فرندات الأسواق ثم السهر على أشتات وذكريات الماضى , أنت لا تنام يا وهبه فلو أن إحسان عبد القدوس فطن لمأساتك لما كتب (( لا أنام )) ولكن أين أنت وأين هو ..?.
إنصرف كل منا إلى واجبه , وعادت أشياء مثل آنسة غاده وأستاذ عبد الوهاب تفرض نفسها على تعاملنا , ودار همس خفيض فى أرجاء المصلحة بين الزملاء والزميلات , سرعان ما ينقطع إذا ما دخلت عليهم وهاهى الأسرار تفصح عن نفسها ذات يوم , إذ دخل علينا شاب فى مثل سنى فى كامل أناقته وبهائه , بيده اليمنى مفتاح عربة وباليسرى علبة سجائر فخمة وولاعة وكأنه قد دلق سطل من الكلونيا على نفسه , إنفرجت أسارير غاده , وارتبكت إرتباكاً شديداً وحاولت إصطناع شيئاً من الوقار , وهى تقدمه لى :
- السيد خالد عمر , إبن المقاول المعروف عمر على .. الأستاذ عبد الوهاب مدير المكتب .. سلم على ببرود شديد وبعنجهية وكأنه الأمبراطور ( هيلاسلاسى ) , وتجاذب معنا أطراف الحديث وهو يمنحنا قهقهات مدوية بمناسبة وبدون مناسبة , وسأل عن أوراق تخص الشركة فأخبرته غاده بأن السيد المدير قد أحال الأوراق إلى المراجعة الداخلية وعرض على غاده توصيلها إذ أنه فى طريقه إلى أمدرمان لقضاء بعض الأشياء .. استأذنتنى غاده فى الأنصراف فأذنت لها .. وخرجا سوياً وكانت غاده كأنها فراشة تسبح فى الفضاء , رشيقة وغضة وقاسية , أما هو فقد أصطدم بأى شئ أمامه بدءاً بسلة المهملات , وإنتهاء بالحاجة ( بتول ) التى كانت قد أعدت له كوباً من (( الكركدى )) , لم يكن مستعداً حتى لمجرد تذوقه , إنتابتنى حالة من الذهول وأنعدام الوزن , وأيقنت أن غاده قد ضاعت إلى الأبد ومن أجل من ؟ من أجل ثور هائج ومغرور إسمه خالد عمر , ويبدو أن ذلك اليوم لا يحمل المفاجآت غير السارة فحسب , ولكنه عمل على تدميرى تماماً , فقد فتحت الملف القابع أمامى فإذا هو طلب نقل من المكتب إلى أى قسم آخر , موقع عليه بواسطة غاده , سميرة .. غاده .. سميرة .. سيبك !!.

عبدالغني خلف الله
04-12-2010, 06:57 AM
الحلقة السابعة
خرجنا من المصلحة ولاحظنا أن البوليس فى كل مكان , دوريات وعربات وأدوات مكافحة الشغب , وتذكرت حديث أبوبكر إبن السيد مصطفى عن أحداث الجامعة وأخذنى كماال عنوة وحشرنى فى عربة أجرة وأمر السائق بالتوجه نحو
الجامعة وكانت محاطة تماماً بالبوليس وبرغم ذلك وجدنا فرصة فى التسلل إلى (( البركس )) حيث نزل الطلبة ..قابلنا جيلى وسألناه عما يحدث هنا ووجدنا أن هنالك أجواءاً تنبئ بمواجه وشيكة بين الطلاب والبوليس , وماهى إلا ساعات حتى تدخل البوليس وأمطر مكان الندوة , ومن ثم الجامعة بوابل من الغازات المسيلة للدموع , إنفلتنا مع مجموعة من الطلاب عبر البوابة الغربية , وسمعنا زخات من الرصاص داخل النزل , وإزدادت الأوضاع سواء فلحق بنا طلاب آخرون وبدأنا نهتف بهتافات داوية وفجأة وجدتنى أقود الهتاف ( down. Down
U.S.A. ) وعبارات مثل ( لن يحكمنا البنك الدولي ) ما هذا يا وهبه إنتابنى ذعر حقيقى فأنا موظف ولست طالباً .. فلو قُبض علي فسأفقد وظيفتي دونما أدني شك .. توقفت عن الهتاف والتقطه طالب آخر وفجأة أتانا من ناحية الغرب رتل من عربات البوليس وفى لمحة صغيرة وجدت نفسى أقفز سور الميدان الشرقى للجامعة ثم كررنا على البوليس كرة أخرى وأمطرناهم بوابل من الحجارة وكنت متأكد تماماً من أننى أصبت أحدهم فى رأسه فوقع داخل الكومر وانكب زملاؤه فوقه .. شعرت بالندم الشديد لفعلتى تلك , ماذا لو مات , ما ذنبه .. يا لبؤسي وشقائى فأنا لم أحضر إلى هنا لإيذاء أحد , فأكثر شئ أكرهه فى الدنيا هو السياسة , إنها ثرثرة ولف ودوران وبطولات جوفاء .. وبرغم ذلك فهى تأخذ موقعها ضمن نسيج هذه الحياه .. لابد للبلد من قادة يا وهبه . وإلا تحولت الحياه إلى غابة .. لكنهم أنانيون جشعون , لماذا آذيت ذلك البوليس ولأجل من ؟ لأجل بلدى ...؟! إذا كان الأمر كذلك هل ذلك البوليس من إسرائيل ؟ لا أنا لم أعد قادر على الفهم , فقد توقف عقلى تماماً عن التفكير , أستعدت كمال فى زحمة الضوضاء والصخب وكل شبر فى قميصه ممزق , وضحكت عليه وضحك هو الآخرعليّ إذ كنت حين قفزت فوق السور وقعت داخل الجدول المملوء بالماء فأتسخت ملابسى قلت له هيا يا كمال نغادر , إلى أين ؟ إلى بيوتنا , بل إلى المستشفى فقد قتل البوليس عدداً من الطلاب .. قتلوهم ؟ نعم وأمام المشرحة , سألتنى أحدى الطالبات وكانت تبكى .. كم عدد القتلى ؟ أجبتها : لا أحد .. بالله عليك لا تهتم إلى كونى فتاة وأخبرنى بالحقيقة والله أظنهم أثنين .. ياللخونة الجبناء .. من هم ؟ سألتها فى بلاهه , أظنك أتيت إلى هنا عن طريق الخطأ .. لذلك لن أضيع وقتى مع أمثالك , قالتها وهى تهرول بعيداً عنى , أمثالى ؟ وأنا مالى ومال الطلبة والجامعة يا كمال .. يا كارثة ..
تعقدت المسألة تماماً ولم نعد ننتظم فى العمل وكان سيد عثمان لا يلبث أن يغادر المصلحة بعد بقائه فيها سويعات قلائل فننتهز الفرصة ونخرج للمظاهرات ..
( حكاية لذيذة شديد .. كرهنا البوليس الحياه ) .. كلما يأتينا من هذا الشارع نجرى بإتجاه الشارع لآخر .. وفى المساء نقيم المتاريس ضد هجوم مزعوم وننتظر فلا نلمح دبابة أو حتى نملة وفى هذا الزخم الرهيب تزوجت غاده من خالد فى هدوء ودون أن يلحظهما أحد وعندما علمت بالخبر كانا قد رحلا فى طريقهما إلى ( روما ) لقضاء شهر العسل .. لم يتبق لى من حيز للحزن فقد أمتلأت بهما كل جوانحى منذ أن أنتقلت غاده إلى قسم الأرشيف لذلك تزوجت ... تزوجت ... هى حرة تفعل ما تشاء .


* * * *

عبدالغني خلف الله
05-12-2010, 07:17 AM
الحلقة الثامنة
حدث التغيير الحكومى المرتقب وكان السيد عثمان أول ضحاياه , فقد أحالوه للمعاش وجاء نا بدلاً عنه السيد عبد الكريم , كل التجيدد الذى قام به هو أنه حول مكتبنا إلى غرفة إنتظار طبيب نساء وولاده .. وذهب عثمان .. الم يذهب بناء على رغبتك يا وهبه ؟ ألم تكن تهتف .. (( التطهير واجب وطنى )) هذا هو التطهير يا عمى ... قذفوا بعثمان إلى قارعة الطريق وأتوا لنا ب( دون جوان ) , أعترف بأننى فقدت الحماس للعمل بل وفقدت الحماس للحياه نفسها .. كل شئ يتمزق حتى أوتار الليل التى تعبث بها جنيات المساء , ضياع يغلفه ضياع آخر وشعور بالتمرد على أى شئ , ما أقسى أن تذهب آمالك أدراج الرياح , بل ما أقسى إن عشت وتجد نفسك مضطراً إلى معايشة واقع لا ترتضيه لنفسك فلا تملك إلا التمزق والبلاهه لتدارى بها فشلك فى الحياه , ولماذا التمرد وعلى من ؟ ألهذا تمردت على رغبة الحاجة آمنة فى زيارة الأهل بالجزيرة في عطلة نهاية الأسبوع ؟***! وبالرغم من الحاحها التمست شتى السبل لإقناعها بأن ظروف الحكومة الجديدة لا تسمح لك بمغادرة الخرطوم وكأنك وزير الخارجية , سكتت على مضض وتحصنت بصبرها المعتاد , من أين لأمى كل هذه القوة والنفاذ أمام الأحداث ؟! إنها لم تذرف دمعة واحدة عندما غرق أصغر أخوانى فى النهر , كل ما فعلته أنها أمسكت بمسبحتها ذات الحبات الأرجوانية وذكرت الله فى سرها , إذن .. هنا تكمن عزيمتها وقوتها وشدة مضائها .. رفعت رأسى لأجد (( فاتن حمامة )) أمامى بالرغم من أننى لم ألتق فاتن حمامة في حياتي .. ولكن هذه التى أمامى لابد أن تكون هى , وقدمت نفسها لى بلباقة وثقة , منى على أحمد .. أوعك تكونى من ضحايا السيد عبد الكريم يا .. همست فى نفسى .. حقيقة أنا من ديوان النائب العام , وألحقت بمصلحتكم كمستشارة قانونية , ولم تترك لى فرصة لإلتقاط أنفاسى, بل ناولتنى مظروفاً أنيقاً يحتوى على أمر الإلحاق , إتفضلى يا آنسة منى أو يا سيدة لا أدرى ولكن فلنقل يا مولانا .. إبتسمت فى هدوء وأمنّت على كلمة مولانا تلك .. مولانا ؟ كيف ؟!!
لم يتحمس سيد عبد الكريم لوصول مستشار قانونى للمؤسسة .. وتساءل فى عصبية زائدة .. من قال إننا بحاجة إلى مستشار قانوني ؟!! , ولكن عندما قلت له إن الأستاذة منى على أحمد التى تنتظر بمكتبى إذناً بالدخول عليه هى المستشار , إنفرجت أساريره ورحب بالفكرة .. خليها تدخل .. قالها وهو يعالج ربطة عنقه التى تدحرجت حتى ( كرشه ) , ويصلح من هندامه .. ثم تنحنح كمن يهم بإلقاء خطبه ..


* * * *

عبدالغني خلف الله
06-12-2010, 07:00 AM
الحلقة التاسعة
توجهت إلى السيد نديم الباشكاتب لإبلاغه طلب المدير الخاص بإنتداب موظف للمكتب السرى .. وهبه .. موظف فاهم .. هميم ومهذب أمين ونزيه .. دوغرى .. منضبط .. مقدر حساسية هذا المكتب ياوهبه .. فكرت فى الذهاب إلى السوق .. السوق ؟ سألنى شيطانى القابع فى مؤخرة رأسى عن هذا الخاطر الغريب , ماذا تفعل فى السوق ؟ وما دخل السوق بالموظف المطلوب ؟! , قلت له ياعبيط امشى السوق لعلنى اجد نبى الله الخضر عليه السلام صدفة وارجوه واتعطفه ليقبل العمل معنا فى المصلحه .. موظف هميم ونشيط وأمينونزيه و..و.. هل تجتمع هذه الصفات الا فى نبى ؟! واندهش سيد نديم هو الاخر واجابنى باندهاشته المعهوده ... ايه ؟ هكذا سيد نديم لو قلت له إتفضل شاى يا عم نديم , يسقط نظارته فوق أرنبة أنفه ويقول لك إيه ؟ .. لو قلت له القيامه قامت يا عم نديم لقال لك أيه ؟ .. أطرق ملياً وهو يستعرض موظفى المصلحة , ما رأيك يا وهبه فى السر .. والله مش بطال .. بس عيبو أنو بدخن كتير ويشرب البيرة وبتاع كوره .. طيب .. طيب .. ما رأيك فى جاد كريم .. جادو .. والله مش بطال لكنه دائماً شارد البال , سرحان بغنم إبليس , مذهول وكسول و ... طيب .. طيب أخرج منديله من جيبه ومسح وجهه ... لا خلاص .. إيه يا عم نديم ؟ لا خلاص وجدتها .. وجدتها ..؟! فوزيه .. فوزيه ؟! نعم إنسانه وقورة وبتفهم فى الشغل .. نعم .. نعم معك حق يا عم نديم .


* * * *
المستشارة القانونية الجديدة الأستاذه منى .. فوزيه .. كلاهما عالم بذاته من الطهر والجمال والأناقة , بارك الله فيهما .. فقد تناوبتا فى محو الآلام التى خلفهما فى ضميرى رحيل غاده , فأنا إما موجود فى مكتب الإدارة القانونية أو المكتب السرى أو بمكتبي , تعلمت من الأستاذه منى أشياء جدُ رائعة , ثقافتها العالية أخجلتنى , شخصيتها القوية تبهرنى بدون رحمة .. دائماً أشعر بالسفه والضآلة أمام قامتها الباسقة , الحت علىّ فى أن ألتحق بالجامعة , دراسة مسائية (( أهو الصباح تشوف شغلك وفى المساء تذهب إلى جامعة القاهرة الفرع , بدلاًمن الحوامة فى السوق )) , وأقترحت علىّ أن أدرس القانون أما فوزية .. آه يا فوزيه .. فهى تستقبلنى بفرح طفولى عارم لكنها ترفض باستمرار إى حديث عن أوضاعها الأسرية واين تقيم ... فلا أحد يعلم أى شئ عن خصوصياتها خارج المصلحة .. وفى ذات يوم داهمنى كمال بنبأ عودة غاده من الإجازة , وقال لى بطريقته الساخرة وجدتها وامامها كوم من الليمون , وحالتها يرثى لها , شحوب وإرهاق أصلها يا صاحبى بتتوحم ,, معقول ؟! خرجت من فمى كالعويل .. أيوة .. تلقاها كترت من أكل البيتزا الإيطالية والشعيرية (( الملولوه ديك )) سباجتى ؟ أيوه بالضبط .. وغير كده .. لاحظ لأى من بنات الزمن دا , أحسب من تاريخ إستلامك لكرت الدعوة تسعة أشهر وعشرين يوماً , فستجد أنك مدعواً لطعام الغداء بمناسبة المولود الأول .


* * * *

فائز حسن العوض
06-12-2010, 04:36 PM
أستاذنا الرائع
الأديب الشامل
إن ما لايعرفه الكثيرون عنك أنك تكتب الشعر فإذا هو محلق كسرب الفراش ، وتكتب الرواية فإذا بها تلامس حدود العصي المستحيل ، فتسيطر علي قارئها ولا يستطيع منها فكاكاً ، فكيف له وأنت تمسك بخلجاته وفكره ولا يستطيع إلا الإستسلام لما تمليه عليه من أقوال وأحداث ببراعة ٍ يحسدك عليها الكثيرون .
أستاذنا ، قرأت لك معظم أعمالك المنشورة وأقرؤها كل مرة ٍ بلذة وإستمتاع كأني أقرؤها للمرة الأولي .
أهنئك علي الإمتاع الباذخ .
فأنت تضع القارئ في قلب الأحداث منذ أول ثلاثة كلمات في الرواية وهي عبقرية تتفرد بها أما العبقريات الأخري فهي إن الفعل والحدث عندك هو سيد الحكي والسرد ، وليس الوصف والشخصيات عندك تتطور بتصرفاتها وأفعالها وحواراتها وليس بوصفك لها وتلك نقطة قوة ٍ أخري في رواياتك أما رأيي المتواضع والبسيط إن أذنت لي أستاذي فهو ملاحظة ٌ بسيطة عن الزمن عندك فهو يسير إلي الأمام فقط ونادراً ما يتجه للخلف _ الماضي _ ونادراً جداً ما يسير متزامناً _ الإنتقال في عدة أماكن في نفس اللحظة _ ولا يقفز للإمام والخلف عدة مرات ولعل ذلك ما إمتازت به هذه الرواية دون غيرها .
أنت تملك عدة مواهب لا تجتمع في مبدع ٍ واحد حبذا لو أطلقت للزمن العنان فهو عندك كالفرس الجامح النبيل ، أطلق سراحه في البراري فسيطربك ويطربنا وقع حوافره .
مودتي وإحترامي أستاذي الرائع الأديب اللواء شرطة (م) عبد الغني خلف الله الربيع
دم بخير !!!!

عبدالغني خلف الله
07-12-2010, 07:38 AM
أشكرك عزيزي فائز وحتي لا أتهم بأنني أرد التحية بأكثر منها أعترف بأنني لا اعرف الكثير في تقاطعات الأطر المنهجية في الكتابة المعاصرة وأكتب هكذا عفو الخاطر وعندما يطرب أستاذ جامعي مثلكم متخصص في الدراسات النقدية فهذا يشعرني بأنني أتقدم إلي الأمام ..أشكرك مرة أخري من كل قلبي وكل عام وأنت والخضراء بكل خير .

عبدالغني خلف الله
07-12-2010, 07:40 AM
الحلقة العاشرة
(( سميرة عقدوا عليها والزواج بعد أسبوع .. )) قذفت شقيقتى الخبر الذى كاد أن يقضى عليَ وهى ولا عليها كما يقولون , ماذا ؟ من قال ذلك يا ( مغفلة ) .. ثرت فى وجهها بدون أن أشعر .. لقد حضر أحد أقاربها من الشمالية وطلبها من أهلها , ووافق والدها , ونسبة لأنه مرتبط بالسفر إلى مصر حيث يعمل تقرر أن يكون الزواج بالخميس , هكذا وخلال أسبوع واحد تغادر سميرة الحى ربما إلى الأبد .. وإمتحانات الدخول للجامعة بعد شهر .. أبوها قال البنت للزواج .. شقيقتى قالت لى أن سميرة كانت مرشحة لتكون الأولى على السودان , وأن أستاذ العلوم فى المدرسة قرر الاستقالة من مهنة التعليم , فقد كان يبنى آمالاً عراضاً على سميرة لتحرز نتيجة مشرفة للمدرسة , وتحايلت حتى دخلت إلى المنزل الذى ( حبست فيه ) لتجهز للزواج , وعندما رأتنى ارتاعت وبكت بفزع وهى تردد عبارة ( ألحقنى يا أستاذ ) .. قلت لها : أصبرى يا سميرة ما هكذا تقابل البنت المتربية إختيار شاب لها بنكران الجميل , وأستدرت خارجاً لا ألوي علي شيء وأنا أكاد أموت من الغيظ ., .توجهت مباشرة إلى مكتب تسجيل الطلاب بجامعة القاهرة الفرع ,وفي الطريق إلي هنالك بأن عشق الفتيات عملية معقدة يلغب فيها الحظ الدور الأبرز وهذاهو حظي يعادني فما عساي أن أفعل .. أغلقت قصتي القصيرة مع سميرة كأي ملف مع عبارة الأرشيف للحفظ .. ولكن الموظف المسئول عن التسجيل وهو مصرى الجنسية , أضاع وقتنا بالسخرية اللاذعة حيناً وبالتأخير المقصود وغير المقصود أحياناً أخرى .. وكاد أن يصيبنى اليأس ..وعلمت فيما بعد أنه يتعمد تلك المشاكسات مع الطلاب الجدد لقياس مدي صبرهم وانضباطهم .. إلا أننى وبعد عدة مشاوير تمكنت من الحصول على بطاقة الإنتساب للجامعة ، وكنت أحسب الأيام والساعات والثوانى إنتظاراً لتلك اللحظة التى سآخذ فيها مكانى داخل المدرج كطالب جامعى ، وأخذت مذكرة لأدون كل شاردة وواردة منذ أن تتطأ قدماى حرم الجامعة ، كعادتى دائماً فى تسجيل الأحداث الكبيرة التى تمر علىٌ ، فقد دونت كل التفاصيل المتعلقة بلحظة هبوطى الى هذه الحياة بإستجوابى لجدتى وخالاتى وعماتى ، سألتهم عن تفاصيل لا تخطر على بال ... وفى إعتقادى ألاّ أحد يعلم بما حدث حوله فى تلك اللحظ النادرة التى هبط فيها بلا مظله إلى هذه الدنيا الفانية أما أنا فأعلم كل شئ وكأننى (( القابلة)) التى قامت بالعملية .. وقياساً على ذلك (( الختان )) ولحظة دخولى الأولية , وهكذا (( دواليب )) أو دواليك كما يقول الصفوة من المثقفين .. الواحد فيهم ولا ثبات ثقافته يعرف نفسه بأنه شيوعى ملتزم , فيما لو سألته عن التفكير الماركسى , أصله وفصله .. تجده لايعرف (( كوعه من بوعه )) .. هل تعرف (( كوعك من بوعك )) يا كمال ؟ فاجأته يوماً بهذا السؤال عندما بدأ يحدثنى عن الخلاف بين موسكو وبكين ياأخى حل عنى بالله عليك , بذمتك أنت شيوعى وجوزيف بروز تيتو شيوعى ؟! يابوى سيبنا بلا شيوعيه بلا فلقة دماغ ..
* * * *

عبدالغني خلف الله
08-12-2010, 07:38 AM
الحلقة الحادية عشرة
ناولتنى العمه ( بتول ) وريقة صغيرة وهى تبتسم إبتسامه ذات مغذى , قرأت الوريقة وكانت تقول (( العزيز وهبه .. معقول أهون عليك للدرجة دى فلا تأتى لتقول لى حمداً لله على سلامة الوصول !! )) والتوقيع غاده .. أصابنى دوار حقيقى وارتجفت فى دواخلى كل نوازع الألم والحزن التى طمرتها الأيام .. قرأت الوريقة مرات ومرات بأنحناءاتها وجزئياتها , تنسمت العطر المبعثر فى زواياها , ضممتها إلى صدرى وجبينى وكل قطعة من فؤادى , وعلمت فى تلك اللحظة أننى أبعد من نسيان غاده بقرون .. لكننى ذبحت تلك العاطفة بقسوة , ولمت نفسى ووبختها لمجرد التسليم بأن غاده موجودة فى حياتى , أو أنها يجب أن تكون , ولكن نظن أشياءاً ونفعل أشياءاً أخرى , إذ وجدتنى وأنا أنقاد إنقياداً أعمى نحو مكتب الأرشيف حيث غاده , أرغب ولا أرغب وقدماى تقوداننى كطفل إليها .. هل نسيت كرامتك هل تبيع مبادئك ؟ وأى كرامة , بل وأى مبادئ عندما تصحو العواطف فينا بدون سابق إنذار !! ومضيت نحوها وأنا لا ألوى على شئ وكنت كمن يعدو فى ميدان بحجم مضمار العاب السباق .. إزدادت خفقات قلبى وجف ريقى وأنا أمضى فى ثبات غريب كالفراشه ترتمى فى وهج النار لتحترق .. وكان موقفاً لاتقدر على وصفه كل مفردات اللغات الحية والمندثره ..
رن جرس الهاتف فى مكتبى ورفعت السماعة لاجد السيد مصطفى على الجانب الآخر وقفت على قدمى وانا اردد اهلاً يا سيادتك .. نعم سيادتك .. علمت منه ان ماريا كبرى بناته قد قُبلت باحدى الجامعات الالمانية وانه قد اعطاها عنوان المصلحة لتراسله عليها , واوصانى بان ألقى بالاً للبوستة وارسل له اى رسالة تصل منها اليه ... واظنها قد غادرت الى هناك .. تلك الجنية الساحرة .. ماذا بها ؟ الاجدر بك التوقف عند هذا الحد .. وان تعرف حدود طموحاتك وامكاناتك .. ماريا لم تخلق للكادحين امثالك .. لكن هل انكر اننى اعجبت بها عندما ذهبنا بالبوستة للسيد مصطفى ... تُعجب او لا تُعجب , اعلم انها الان فى المانيا بعيداً فى السحاب... وانك لا شئ ...
يا وهبة .. يا وهبة صاح فى وجهى كمال .. كررها اربع مرات وبنغمات مختلفة , نعم .. قلتها فى حزم مصطنع لأصل الى ما ورائه.. ( اسمع كلامك اصدقك .. اشوف عمايلك اكذبك )) .. كيف يعنى ؟ رصدت عيون الكاميرا ذهابك الى مكتب الارشيف صاح ؟! نعم لكن ما تعرف فى الاول لماذا انا هناك .. يا وهبة .. الارشيف معناه الماضى .. توضع فيه السجلات القديمة والحكايات القديمة .. ملفات باردة , وعلى النقيض منه المكتب السرى .. مكاتباته ساخنه تنبض بالحياه .. ترقيه .. علاوات ... حوافز ... تطهير .. انه الحياه فلماذا انت مشدود الى الماضى الى الموت .. حقيقة اعجبت بافكار كمال التى تبدو احياناً منطقية وحيه , لكن ما انا بصدده هو ( الإضراب ) هل أنت مع الإضراب ام ضده يا كمال ؟ انتو بقيتو نقابة متين وطوالى خاشين على الإضراب ؟ يا عالم عاوزين انتاج .. نريد الاستقرار فى العمل .. إضراب.. إضراب وفى هذه اللحظة دخلت علينا المستشارة بسمتها المهيب وطلتها الحلوة تلعثم كمال وهو يوجه اليها السؤال وهو يحاول ما بامكانه فى ان يكون خفيف الظل .. هل الاستاذه مضربة معانا؟ لا .. نحن لا نضرب .. اجابته بثبات لا يخلو من المرح .. عندما تنشأ مشكلة بين النقابات وأصحاب العمل نكّون نحن لجان تحكيم .. اظن دا سبب وجيه , طبعاً .. طبعاً يا استاذه .. همهم كمال وهو ينسحب .. سألتنى وهى تقذف بثقلها على كرسى الجلوس .. وقد بدأ عليها التعب والارهاق .. خلاص قبلوك فى الجامعة ؟ نعم يا استاذه .. والبركه فيك عسى ولعل تقيفى معاى شوية وتساعدينى اذا استعصى على المقرر .. بكل تأكيد .. قالتها وهى ترسل تنهيدة طويلة استقبلتها الجدران والاشياء وكل ما فى المكتب من اثاث بحنو وحب .. ترى ماذا يشغل هذه الرأس الصغيرة ؟!!
* * * *

ربيحة الرفاعي
08-12-2010, 09:01 AM
أكره أن أقاطع انسياب الحلقات بدخولي غير الضروري هنا
ولكني أحببت أن أقول ..
نتابعك بشغف أستاذنا

دمت متألقا

عبدالغني خلف الله
08-12-2010, 12:56 PM
السلام عليكم ورحمة الله الإبنةالغالية ربيحة ..هذه ليست مقاطعة ولكنها فرصة لي لألتقاط الأنفاس ومن ثمّ مواصلة المسير ..هذا مع تحياتي ووفائي .

عبدالغني خلف الله
09-12-2010, 08:29 AM
الحلقة الثانية عشرة
اخذنا تاكسى انا والحاجة الى موقف البص السريع بسوق نمرة 3 تلبية لرغبة الوالده فى زيارة الأهل بالجزيرة ولما كان اليوم هو الخميس , فقد كان الموقف مكتظاً بمئات الاشخاص كلُ يحاول ان يحجز موقعه قبل وقت كاف .. انا نفسى اشتقت للأهل هناك .. قطعت تذكرتين على ارقام مختلفة .. لأرى بجوار من ستلقى بى الاحداث وكانت مفاجاه حقيقية .. فتاة رائعة الجمال اختبأت وراء نظارة سوداء انيقة .. وكان احدهم يوصيها بوصايا الى الاهل بمدينة (ود مدنى) من خارج البص عبر نافذته .. انتابتنى لحظات التمزق القديمة من جديد .. وحكايات الحب المدهشة التى عشتها فى القطارات وفى الباصات والتى غالباً ما تنتهى كأى مقدمة موسيقية لأغنية حزينه .. ولكنها كانت مفعمه بحرارة الود وحميمية اللقاءات غير المرتبة .. وضعت (( الهاندباق )) على الرف وانا اتمثل (( الروقه )) والتهذيب الإ ان الحاجه الوالده سامحها الله وكزتنى وكزة شديدة وهى تطلب منى مبادلة رجل آخر بمقعدى حتى نتبادل الحديث فى الطريق إلى الحلة , وافق ذلك الأخ بسرعة مدهشة وكاد ان( ينبرش) على ارضية البص قبل الجلوس الى جوار تلك الرائعة , وشق البص طريقه بصعوبة فى الطريق الترابى المثقل الغبار , وعند وصولنا كان التعب قد اخذ منا كل مأخذ , ولكن مع مقابلتنا لأول شخص من اهل القرية انزاح التعب والإجهاد ليحل محله احساس متجدد بالحيوية .. اهلاً حاجة آمنه كيف حالك , الله يسلمك , من فى الحله لا يعرف الوالده ؟! اما انا فقد أخذتنى الخالات والعمات فى الأحضان , وكانت الواحدة منهن تضمك إليها فى محبة وإلفة لا يجود الزمان بمثلها , بل وتقبلك على الوجه .. تشمك وتأخذك إليها وهى تتمتم إزيك يا ود آمنة كيف حالك ( يا ود مصارينى ) وربما تسقط أكثر من دمعة على الخد .. حب حقيقى نفتقده فى هذا الزمن الردئ ونحن نعيش فى المدينة .. الإنسان فى القرية فهم وعلم وذوق .. الكل ينام بعد أن تصمت كل إذاعات العالم فتجده وقد إستوعب كل شئ حوله من أزمة خليج الخنازير وحتى بيافرا .. لهم قيم و سلوكيات لا يحيدون عنها قيد انمله .. من قال ان ما يبطل الوضوء فى الريف لا يجرَح الصيام فى المدينة ؟!! لكم هو منصف ذلك الرجل ..
وأعطيت الوالده قائمه بالوفيات .. الحاجة رابحه .. يا الله من تلك الرائعه عمتى رابحه .. كيف لا اذكرها .. إذ كنا ونحن صبية نتدافع نحو منزلها بعد التمارين اليومية لكرة القدم .. هذا يشكو من ( فصل ) بيده .. وآخر من ( فكك) فى معصمه .. وهى تعالج هذا وذاك وما بينهما طفل وقع من على حماره أو من سطح منزلهم .. (( ولدى مفهوق ياخالتى رابحه )) تهمس الأم وهى منزعجة لما ألّم بصغيرها وببراعه النطاس المتخصص تخرج كل أم وهى راضية تماماً عن الحاجة رابحه وبعد ان تدفع ( البياض )حسب الاستطاعة طبعاً .. اما الصبية فبعد الصراخ الذى تجفل منه الطيور فى وكناتها يتحول البكاء الى انين ثم الى نهنهة متقطعة إذن ماتت الحاجة رابحه ( بصيرة) الحلة .. اما الثانى فهو عم جبريل زعيم نادى العواجيز .. جماعه من المتقدمين فى السن يستقلون علي ظهورهم فى رمال الخور للسمر فى كل امسية .. وقد ارتدوا ملابس قليلة بعد ان فارق كل منهم خليلته .. وتمتد بهم تلك الأوقات الى منتصف الليل او بعده .. كل يحكى ذكرياته وبطولاته ومواقف شهدها المرحوم فلان والمرحوم فلان حتى لا يكون هنالك مجال للتمحيص ويتبادلون اخبار اهل القرية .. المواليد الجدد .. العرسان الجدد وكل صغيرة وكبيرة تحدث فى القرية .. قوم هم الصفاء والطهر .. الوضاءة والأصالة وقبيل الفجر يتوادعون بكل الحب فقد يموت أحدهم فى أى لحظة ..

عبدالغني خلف الله
10-12-2010, 07:40 AM
الحلقة الرابعة عشرة
وبالطبع حرصت الوالده على الذهاب فوراً للعزاء حتى قبل ان تشرب الشربات وتسلم على أهل البيت وفق العاده المتبعه .. فانت تذهب من الباص مباشرة الى بيت ( العزاء ) والا فإن الحساب سيكون عسيراً ..وأحسن تكون فى الرجل من ان تكون فى الوجه كما نقول .. اما السيدات فتجد الواحده منهن تبكى وتولول ولكن العين تلقط يمنه ويسرة .. لاتفوتها أى شاردة أو وارده , والمتغيبات معروفات .. إما إن الواحده قد وضعت مولوداً جديداً وهذه تمنح مهلة يوم واحد بعد الاربعين يوماً وما إنها خارج الحله تزور ابنا لها او بنتاً فى بلاد الله الواسعة .. وهذه تمنح بضع ساعات بعد عودتها , وأما انها مريضة وتلك توضع تحت الرقابة المشددة لا سيما ان شوهدت فى مأتم جديد .
حرصت ان أبدأ برنامجى ليوم الجمعه منذ الصباح الباكر.. فتوجهت صوب النهر للسباحه وتلك هواية حبيبة الى نفسى لا أجد لها الوقت ولا المكان المناسب بالعاصمه .. إننى أحفظ هذا النهر عن ظهر قلب .. كل مكامن الخطورة فيه والاماكن الضحلة أو فلنقل غير العميقة .. فانا لا احب ان توصف المياه بالضحالة والتى هى التسطيح , وكم كنت اطلق ذلك البيت من الشعر على الاشخاص الذين لا أحبهم والذى يقول فى جزء منه ( مسطح كحدوة الحصان ) .. هذا الشعر لنزار قبانى .. كمال يتدخل فى الحوار .. يا ود يا مثقف .. ووجدت أن أكثر شخص ينطبق عليه هذا الوصف هو زوج غاده .. سطحية وغباء وسخف .. ولكن لماذا تذكرته فجأه فى هذا الصباح المشرق , لعلّها الغيرّه يا وهبه .. غيره ؟ هه ... والله عندنا فى القرية الف غاده وغاده ولكننا لا نتوقف عندهن ..(( قال بنات العاصمة قال )) وايه يعنى بنات العاصمه ؟ يا بوى سيبك ...
المهم مارست فن العوم وتلوت سورة الفاتحه رافعاً كلتا يدى وأنا أطفو على وجه الماء التى أحببتها واحبتنى , وتسابقنا ومن معى حتى الشاطئ الآخر وقطعنا عدداً لا بأس به من بطيخ الجروف العجيب ( بطيخه ( حلاوة وحمار ) وتبادلنا (( الصبلوج )) من جميع الزوايا , يغطس الواحد منا الى أعماق سحيقه من النهر حتى نخشى عليه من الغرق ولكنه (( يقلعً )) من مكانٍ لا يمكنك توقعه ..ومن ثمّ يضرب الماء برجله بقوة وكأن لديه ثأر قديم معها .
وفى صلاة الجمعه استمتعت بخطبة ذلك الشيخ الورع الوقور .. استلم عصاه وحدثنا حديثاً رائعاً بدون ورقه وبدون مايكرفون عن الكثير من القيم والسلوكيات التى تضمنها القران الكريم بين دفتيه وخرجنا من الصلاه والكل يتبادل التحايا .. الارتياح يبدو على الوجوه الصميمة .. تلك الوجوه الوضيئة وجوه أهل القرية وتأخرت بعض الوقت مع بعض اصدقائى قبل أن ألحق بأعمامى وأخوالى فى منزل العم هاشم .. وما أن وطئت قدماى باب الحوش المفتوح على مصراعيه حتى تناهت الى مسامعى ضحكاتهم الصافية تخرج من القلب كما تتفتح أكمام الورده .. ولكن يبدو أن الموضوع فيه طرافة حقيقية .. فكل واحد يضحك ويجفف دموعه بكم جلبابه ثم يعود للضحك , وعمنا الطيب يردد عباره وبعدين , وبعدين .. ليستعيد انتباه الحضور لمجريات القصة مع وقفه قصيرة ليرد السلام على كل قادم يحمل غدائه ويدخل به اليهم .. الحكاية شنو يا حاج الطيب ؟ تساءل خالى (عباس ) .. وران صمت مؤقت سرعان ما تتخلله الضحكات الحبيسة .. الحكاية شنو يا الطيب ؟! .. لا ابداً يا عباس , عمك عبد الله حصل ليهو مقلب شديد خلاص ع .. كيف يعنى ؟ اصلو يا سيدى مشى ليجني شيئاً من ثمار شجرة الحراز العملاقة جنوب الغابة .. واثناء اللقيط انكسر الفرع الذى كان يقف عليه فهوى نحو الارض .. وكان من الممكن أن يدق عنقه لولا لطف الله به .. أمسك بفرع آخر ولكن ذاك الفرع كان بعيداً جداً عن الارض ..صاح بأعلي صوته .. يا ناس الغابة يا ناس الغابة الحقونى , يا ابو مروة .. حضر بعض الإخوان ليحولوا دون وقوعه على الارض .. لكنهم لم يهتدو الى اى شيئ يساعدونه به .. واخيراً فكر أحدهم فى إحضار أي شيء من القرية ليقفز عليه عمك عبد الله .. وارسلوا أحد الصبية الى منزل زوجته الحاجة (العازه ) وأخبروه بل وأعادوا عليه ما يجب فعله .. ( اسمع يا شافع تقول للعازه عمك مطوطح بين السما والواطه فى الغابه تديك أي شيء تجينا به بسرعة ) ..
وعمك عبد الله يصيح .. يا اخوانا ما تشوفوا لى طريقة إدياتى انكسرن .. اصبر يا حاج عبد الله (( هسع )) الولد (( بيجى )) .. وبعد حوالى نصف ساعه ظهر خيال الولد من بعيد .. فحمد القوم الله على السلامة ولكنه عاد بخفى حنين .. واخبرهم انه بحث عن العازه فى كل مكان ولم يجدها .. طيب ما تتصرف ما كان تجيب أى حاجه معاك .. وعمك عبد الله يكورك يا ناس خلونى أقع أقص رقبتى وأموت .. والله أحسن لى .. اصبر اصبر يا حاج عبد الله .. اسمع يا ولد .. اجرى لعمك الطاهر الترزى قول ليهو عمك عبد الله معلق فى الحرازاية الفى الغابة وقالو ليك اقطع عشرة ذراع قماش وخيطه واطبق الخياطه .. عشان عمك يقفز فوقها .. وعاد الولد أدراجه وهو يسابق الريح .. وبعد ساعه من الزمن رجع بالثوب وامسك كل واحد من الحاضرين بطرف و .. وآها .. إقفز يا عم عبد الله ...
* * * *

عبدالغني خلف الله
11-12-2010, 03:50 PM
الحلقة الخامسة عشرة
دخلت مكتبى واذا بمولانا منى وقد امسكت سماعة التلفون وانهمكت فى حديث جاد مع انسان على الجانب الآخر .. خرجت الى (الفرنده ) وكلى آذان صاغيه لما تقول وتعثرت الكلمات على شفاهها تحكى عن التعاسة والندم .. يا دكتور صلاح المسألة مسألة مبدأ والتزام كل افراد الاسرة بدأوا يتململون ثلاث سنوات ونحن فى الانتظار لنتيح لك الفرصة لتدبر أمرك وهاهو العام الرابع يوشك على الانتهاء .. نعم ... نعم .. انا من جانبى بعفيك من اى ارتباط اذا كانت هذه رغبتك اما الانتظار اكثر من ذلك فهذا امر لا احدده أنا وقد خرج من يدى تماماً ..
وتطاول الحديث واستطال .. عدت ادراجى للمكتب فاذا برموش عينيها قد غرقت فى بحر من الدموع وهى تغالب بجلد وفجأة وضعت السماعة فى مكانها وانكفأت على الدرج وبعد بضع دقائق انتبهت لوجودى داخل المكتب .. رفعت رأسها ونظرت نحوى بخجل وهى تمسح دموعها بمنديل اخرجته على عجل من حقيبتها .. قلت لها آسف جدا يا مولانا .. لو كنت اعلم انك فى موقف كهذا لما دخلت المكتب .. اجابتنى فى تسامح وحياء .. ابداً يا وهبه انت فى مكتبك لكن الظروف التى امر بها اقوى من احتملها لوحدى والحمد لله انك سمعت جزءاً من المحادثة ولابد انك استنتجت الموضوع .. لعلى اشعر ببعض الراحة اذا بثثتك آلامى .. وانا لا أخفى عليك احساسى نحوك يا وهبه .. انت انسان بمثابة شقيقى .. تملكنى احساس طاغ بالحزن والرفض لما يحدث .. من يكون الدكتور صلاح هذا ؟ وماذا يساوى حتى يعطى لنفسه الحق فى التهرب من انسانة كالاستاذة منى .. ماذا يطمع المرء فى هذه الحياه اكثر من ( منى ) .. إن بعض هؤلاء الاكاديمين ينبهرون بشهاداتهم واطروحاتهم العلمية وعندما يكون الواحد منهم محظوظاً وينال اعجاب ملاك رائع كالاستاذة منى .. تجده لا يقدر الكنز الذى بين يديه .. معقول اماطل فى الزواج بمنى ولو لثلاثة ساعات ناهيك عن ثلاثة سنوات .

* * * *
باعتنى غاده للشيطان .. للمجهول , وبالرغم من ذلك تظل عشقى الاوحد , باءت كل محاولاتى فى نسيانها بالفشل , المنطق يقول انها ليست لى , الواقع يعضد ذلك , الحقيقة الماثلة امامى كل يوم وهذا المغرور يقوم بتوصيلها بعربته ( الهنتر ) الفاخرة تشير الى اننى واهم واننى متبلد الذهن , ولكن تبقى غاده ياعالم هى عذابى وهى حبى الكبير , انا كده .. يمكنكم ان تقولوا عنى اى شيئ .. يمكنكم ان تقولوا عنى باننى معتوه , واننى ... واننى , فقط ما يحيرنى هذا التقارب المفاجئ بينها وبين فوزية , إذ كلما ذهبت للمكتب السرى وجدتهما يتناولان طعام الافطار معاً ثم ينهمكان فى وشوشات لا تنتهى واغتنمت احدى السوانح النادرة التى وجدت فيها فوزية وحدها , قذفت فى وجهها بعضاً من التعليقات الرقيقة حول أناقتها الزائدة عن الحد هذه الايام , وانها استعادت نضرتها , قلت لها مداعباً الاطباء لا ينصحون بكثرة استعمال (( امبى اكسترا لنضارة البشرة )) ضحكت من اعماقها واقسمت لى انها لا تستعمل أية مساحيق وأردفت قائلة .. إنه السلام مع الذات يا وهبة .. لقد تصالحت مع نفسى , وبدأت اعمل جاهدة لاسعادها بعد خمس سنوات من العذاب والذكريات المره توقفت خلالها عند محطه اسمها الحزن .. وكان لابد لى من مغادرتها ... وفجأة اكتسى وجهها بغلالة رقيقة من الاسى , وتمتمت فى ألم :

عبدالغني خلف الله
12-12-2010, 02:29 PM
الحلقة السادسة عشرة
وفجأة اكتسى وجهها بغلالة رقيقة من الاسى , وتمتمت فى ألم : تزوجت من خالد .. بعد قصة حب نبيلة , شهد لها كل من عرفونى بانها كانت اروع رباط استمر حتى بعد زواجى من خالد .. كنت لا احتمل ان يفارقنى لحظة واحدة وتوجنا حبنا بابنتنا عفراء التى احببناها بجنون .. وفى ذات مساء اقتحم دارنا ( مبارك ) زميل زوجى فى العمل وهو يجهش بالبكاء وظل يردد خالد يا فوزية .. اظلمت الدنيا امام ناظرى ونقلونى للمستشفى وانا فاقدة الوعى وفى حالة انهيار عصبى مريع , وعندما أفقت كانت كل العيون التى من حولى تقول أن خالد قد مات , ولكن كيف ولماذا ومتى ؟ أستغفرى الله يا بنتى فالموت حق وهو سبيل الأولين والآخرين , قالتها أمى , أستغفر الله العظيم , قولى إنا لله وإنا إليه راجعون , قال لى وهو يودعنى قرب باب ( الحوش ) إحساسى يا فوزية يحدثنى بأن شئ ما سيحدث وأننى يجب أن آخذ هذا اليوم راحة , قلت له : لا تكن متشائماً ثم خرج وعاد مرة أخرى وهو ينظر إلى نظرات غريبة وأستمر هذا الموقف حتى وصول عربة المصلحة , ومن داخل العربة , إستدار نحوى وهو يلوح لى بكلتا يديه , حتى غابت العربة عن الأنظار ..
كانت تحكى لى قصتها وحبات من اللؤلؤ تتناثر على خديها وتركتها تبكى وتبكى دون أن أبدى نحوها أى إحساس بالأشفاق حتى لا أضيف لها آلاماً أخرى فوق طاقتها , وعلمت منها أنه راح ضحية حادث حركة مروع هو وآخرون , وحدثتنى كيف أنها تحدت التقاليد وذهبت للمقابر قبل فترة (( الحبس )) , وهناك جلست طويلاً أمام قبره وهى ذاهلة عن كل ما حولها , وقبل أن تغادر المكان . أخرجت من حقيبتها مقصاً وقصت خصلة من شعرها بإسم عفراء , وأخرى بأسمها ودفنتهما عند رأسه , وكانت لحظات قاسية بالنسبة لى وأنا أتابع فوزيه وهى تفتح قلبها لى لأول مرة , ألا أننى تماسكت وتمالكت مشاعرى .. وعندما تأكد لى أنها إستعادت رباطة جأشها وسيطرت على مشاعرها , قلت لها : هل أطمع يا فوزيه بأن أكون بالنسبة لك فى مكانة خالد ؟ أعلم أننى لّن أملأ الفراغ الذى خلفه فى حياتك ولكننى أعدك بأن أبذل قصارى جهدى نحو إسعادك وستكون عفراء فى حدقات عيونى , أضاء وجهها بنور ساطع وهمست فى تواضع جم : لا تنفعل أكثر من اللازم بما سمعت , فقد كنت أحدثك لأنك زميلى وأخى ولأننى أحترمك ولم أكن أرمى إلى هذا أبداً , أرجو أن لا تسئ فهمى يا وهبه , قلت لها كنت أنتظر اللحظة المناسبة التى أعبر لك فيها عن إحساسى نحوك , وأعلم أيضاً أنك رفضت الذين تقدموا إليك من أجل عفراء ولكن من أجلى ومن أجلك ومن أجل عفراء فكرى جيداً بالموضوع , ولا تقولى الآن أى شئ فأمامك مساحة من الوقت تحددينها بنفسك .

ربيحة الرفاعي
12-12-2010, 10:08 PM
شخصية الرجل في رواياتك تحمل ملامح أظنها الأصدق رغم إصرار البعض على إنكارها
وهي توحي لي بنص ما ...
سأسعد أن تنسكب حروفي من وحي إبداعك

دمت متألقا

عبدالغني خلف الله
13-12-2010, 08:28 AM
إنه لشرف لي أن أكون في يوم من الأيام قد شكلت شيئاًما في رواياتي عزيزتي الفاضلة ..لينطلق منه جيل الشباب من الكتاب وبذلك يتحقق حلم التواصل بين الأجيال .. سأنتظر بشغف ما يجود به يراعك المميز وأتمني لك التوفيق .

عبدالغني خلف الله
13-12-2010, 08:30 AM
الحلقة السابعة عشرة
كل حركة من حركات فوزيه , وكل سكنة من سكناتها ترحب بى كلما عرجت على مكتبها , وبالمقابل لم تتوقف زيارات غاده لها بل تضاعفت , ولكن حين ألقاهما معاً أنظر إلى هذه فأجد أوجاعى وإلى تلك فأجد شفائى , وأخرج منها بلا إحساس , وكأننى حجر , وفى ذات مرة قالت لى فوزيه أن أكثر ما تكره فى هذه الحياه إفشاء أسرار الآخرين , ولكن يا وهبه بما أن الآخرين هم غادة صديقتى .. و.. قاطعتها قبل أن تكمل هذه الجمله .. أدخلى فى الموضوع يا فوزيه وأعدك بأننى سأكون أكثر حرصاً منك على أسرار غاده .. إن غاده تتعذب يا وهبه .. إنها تذبل وتتلاشى كل يوم , فالزوج مغرور ومستهتر ويأتى لها فى الساعات الأولى من كل صباح وهو مخمور , وأمه متعجرفة و حاقدة .. أحالت حياتها إلى جحيم , وهى الآن حبلى بطفلها الثانى , وعاجزة تماماً عن إتخاذ أى موقف , فالفقر والعوز والفاقة بإنتظارها إن هى طلبت الطلاق أو ذهبت إلى منزل ذويها , والألم والمأساة هما عنوان أيامها الكئيبة , قلت لها فى حزم : هل يمكن أن نترك الحديث عن هذا الموضوع تماماً .. على الأقل أنا أتحدث عن نفسى ..
* * * *
قالت لى الحاجة بتول وهى تناولنى مظروفاً كبيراً معنون بالأنجليزية للسيد مصطفى المدير الأسبق للمصلحة , وإستنتجت من العطر الأنثوى الذى يفوح منه بأنه من ماريا التى تدرس بالمانيا , أمرت الحاجة بتول بالأنصراف وأمسكت بالمظروف الأنيق الذى توجد فى أطرافه أزرار وأسلاك وطوابع كثيرة , والحقيقة كان مظروفاً لا يشبه المظاريف التى تكتظ بها مكتباتنا وتخلو حتى من الصمغ .. الصمغ الذى ننتجه نحن .. ولكنها السمة المميزة لحوائجنا المعيشية بالرغم من أننا لا نشكو من قلة المال .. تناول أى شئ وحاول فتحه .. أى شئ .. قطعة صابون فرشاّه أسنان .. علبة صلصة فأنت لن تقوى على فتحها إلا بأستعمال أسنانك بينما فى السلع الأخرى .. المستوردة بصفة خاصة يشيرون لك بالسهم إلى أين يمكنك أن تفتح بسهوله .. كمال يقول أننا نتنازل عن حقوقنا طواعية فى الجودة والنوعية .. الرغيف مثلاً .. أى رغيف يؤدى الغرض لا يهم الشكل أو الوزن أو الطعم نتناول ( الساندوتش ) من أى كافتيريا ونقضمه دون حتى أن نتأكد مما يتكون .. لحمة مفرومة أو مبرومة لا يهم .. الأستاذة منى شاركت فى النقاش وقالت هذا هو ال (Sense of Quality) الحكاية شنو ؟ قبل يومين قال المدير عن سائقه أنه ليس لديه أى ( Sense of Traffic) وأضاف بأنجليزيته العجيبة :
( lack of every thing) والآن الأستاذة منى تردد نفس الكلمة .

عبدالغني خلف الله
14-12-2010, 08:26 AM
الحلقة الثامنة عشرة

ومضت سنين الجامعة رائعة و حلوة وكنت أحس بالزهو والفخر عندما أخبر أى شخص يتعرف على بأننى طالب فى السنة الثانية حقوق , حتى أننى من فرط إعجابى بهذه الحقيقة أخرج بطاقتى وأنا بداخل الباص وأتفرج عليها وأتعمد أن يقرأها من هو بجوارى ليعرف من أكون , وكثيرون يلتقطون الأمر ويسألوننى فى إعجاب .. الإبن فى الجامعة .. نعم يا عم ثانية حقوق .. ناوى إنشاء الله تطلع لينا زى مبارك زروق و محمد أحمد محجوب وزراء كبار.. لا والله يا عم أنا رغبتى أكون قاضى زى (أبو رنات ) ..
وفى الجامعة تعرفت على التوأمين سهى ونهى .. سامية ونجم الدين وأمير , وكنا شلة متماسكة لا نفترق إلا بانتهاء الأمسية الدراسية , وأطلق الزملاء علينا لقب ( المتمزقون ) , إذ كنا نتفرد بالعزلة والتمزق وكنت أوجه إنتباهى لسهى دون نهى بالرغم من الشبه الشديد بينهما ولا أدرى لذلك سبباً .. المهم وجدت نفسى أنقاد إليها بمجرد دخولى حرم الجامعة ... أما نهى فبالرغم من جمالها الأخاذ إلا أن (( قلبها ميت )) كما يقول أمير , الذى يهتم بها ويوليها عنايته الخاصة , ويهاجمها بضراوة بمناسبة وبدن مناسبة وهى لا تنفك تضحك وتضحك .. وتعجبنى سامية بتواضعها بالرغم من أنها تأتى الجامعة ب( مارسيدس جيش ) فهى إبنة أحد كبار القادة بالجيش وينصب إهتمامها على نجم الدين صديقى اللدود , نجم الدين عثمان ..نجم هذا كارثة حقيقية .. فهو يدعى الثقافة وحفظ الأقوال المأثورة , فإذا ما أطلنا الجلوس فى الكافتيريا يقول لنا بطريقته الأكاديمية (( هيا نقوم أيها الأصدقاء فقد طال جلوسنا على التوافه )) ويقول مثل روسى , أو يقول لك (( إن طمأنينة النفس تنبثق من التسليم باسوأ الفروض )) مثل صينى , وكان ذلك عندما كنا نترقب نتيجة إمتحان النقل للعام الثانى , وأحياناً يتحفنا بأقوال لبابلو نيرودا وإليوت وغسان كنفانى , شعرت بأن نجم الدين هذا يجب أن يوقف عند حده , وأن خير وسيلة لذلك هو تلفيق أقوال مأثورة ما أنزل الله بها من سلطان , واهو , كيف يتثنى له معرفة الخطأ من الصواب وفى إحدى الأمسيات قلت لهم , قال سقراط (( يشرب الافق تعاسة الظهيرة وتشرب العذراء نخب الأحلام )) سامية صدقت أن هذا الكلام جاد وأصرت علىّ أن أملى عليها هذه الحكمة وبصعوبة بالغة إستعدت الكلمات وقبل أن أغادر قلت لهم ماذا أقول فى الوداع يا صحبتى أنا الذى أخاف حين يُقبل المساء من لفظة تصبحون على خير .. ورويدا رويداً سحبت البساط الثقافى من تحت أقدام نجم الدين ولكننى أدخلت نفسى فى مأزق حقيقى , إذ كان يتعين علىَ التفكير فى كلام معقول من هذا القبيل , وبسبب التسرع قلت لهم ذات مرة , قال لقمان الحكيم ((الألم بترول والجحيم هو الناس )) فانبرى لى نجم الدين لى بشراسة مصححاً هذه المقولة .. أولاً الجحيم هو الناس هذا كلام سارتر والألم بترول .. بترول يا وهبة ؟! طبعاً لا يمكن أن يكون لقمان الحكيم قال هذا الكلام يا وهبه لأن البترول لم يكتشف فى ذلك الوقت .. دافعت عن نفسى بأن الترجمة لكلمة شحنة أو طاقة هى الجديدة وأن لقمان لم يتكلم اللغة العربية ولابد أن الترجمة حصلت فى هذا العصر .. إلا أنه لا أحد فيما يبدو قد إستجاب لمنطقى حتى أن سامية أعادت قفل القلم وكانت تتأهب لتدوين تلك الحكمة , أما أمير فهو إمبراطور السياسة دون منازع , والمرشح لتولى منصب متقدم بالإتحاد , وهو شديد العداء للإستعمار , وفى مرة إقترح على أفريقيا أن تعود كما كانت لممارسة العرى التام حتى تقاطع الأقمشة الأوربية وأن تلغى بيوت الطوب والأسمنت وتعود لتبنى بالحطب والحشائش حتى لا تستورد الأسمنت وكان ينسب آراه تلك لنكروما ونيلسون مانديلا , لكن نهى شنت عليه حملة شعواء على أفكاره هذه وعنفته على فكرة إلغاء الملابس قائلة : يعنى كيف يا أمير ما نشترى أقمشة ؟ ... عاوزنا نمشى عرايا ؟! وحاول المسكين شرح الجانب الأقتصادى من الفكرة وبأن الأقتصاد هو أنسب سلاح لمحاربة الأستعمار ألا أنه لم يفلح فى إقناعها وخاصمته جراء هذه الهلوسة (( تيرماً )) كاملاً .

كريمة سعيد
14-12-2010, 12:18 PM
الوالد العزيز
لم أواكب الرواية من البداية ولكنني تداركت ما فاتني وأدركت الصفحات الأخيرة
ومن خلال ما قرأت لك هنا وفي أماكن أخرى لا أملك سوى الوقوف احتراما وتقديرا لقلمك الجميل الثري الغزير
والتنويه بهذه القدرة الفائقة على تصوير الشخوص ونفسياتهم والانتقال
من شخصية إلى أخرى بطريقة مترابطة جميلة تشد القارئ إلى الاستمتاع بالحكي ومعرفة مآل الأمور
وسأتابع هذا الاندلاق بإعجاب وتقدير

عبدالغني خلف الله
15-12-2010, 02:59 PM
أشكرك من كل قلبي يا ابنتي أيتها الكاتبة صاحبة القلم النازف ألقاً علي الدوام .. سلمت لنا من كل سوء وأسعد الله مساءاتك بكل الخير والجمال .

عبدالغني خلف الله
15-12-2010, 03:00 PM
الحلقة التاسعة عشرة
كان لابد من موقف أثبت فيه أحقيتى بالزعامة الثقافية للمجموعة , فكتبت خاطرة لأحدى الصحف تتحدث عن الأنسان والفراغ واللأشيئية وتتحدث عن الإنسان وعلاقته بالأفق وخطوط الطولوالعرض ..وحاولت أن أفلسف مغزى الخلود , والتجذر وما بين الثبات والحركة فى الحياه من تناغم واختلاف وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الكون هو إطار عام للأنسان وعليه أن يبحث فى أسراره ليدعَم وثوقه بأن الله موجود , وحتى لا أقع فى مصيدة النقد وقعت بأسم مستعار هو (( حوام )) .. وكانت سامية هى الوحيدة التى تعلم شيئاً عن هذا الموضوع , وكانت دهشتى كبيرةً عندما نشرت الصحيفة تلك الخاطرة , وانتظرتنى سامية مساء ذلك اليوم أمام بوابة الجامعة وهى تحمل نسخة من الجريدة , وكان يبدو عليها فرحاً طفولياً غامراً , وعندما اكتمل العقد الفريد طلبنا رأيهم فيما كتبه هذا (الحوام ) , فاعترف نجم الدين بأن مثل هذه المقالات تثبت أن الأديب السودانى قد بدأ يتعافى من عقدة السرد المّمل وهو يعطى للمعرفة بعدها الفلسفى وتساءل بإهتمام شديد ولكن من يكون (( حوام )) هذا ؟.. وهنا أخرجت سامية مسودة المقال وأشارت نحوى بإعتزار .. أقدم لكم الأستاذ حوام .. (( هو دا إنت ؟!!)) تعجب أمير , لكن يا صديقى هذا لا يعدو عن كونه ترف ذهنى , شنو الفراغ والأفق بالله عليك دا موضوع دا والبلد فى حالة طوارئ واليهود إحتلو سيناء وزاحفين على السويس , هذه إنصرافيه واضحة عن القضية الأساسية , يجب أن تكرس كل الصحف صفحاتها لتجاوز النكسة وإعادة شمل العرب من جديد تحت زعامة عبد الناصر , وكنت كلما أحاول الدفاع عن موقفى يثور فى وجهى ثورة لا قبل لى بها , وعندما انتهى حديثه قلت له وبهدوء شديد : إن الفكر وقصائد الحب والرسم كلها إبداع يزدهر فى ظل الحروب والأزمات , وأن الأنسان يمّل الحديث عن السياسة مالم يجد فى الصحيفة وقفات هنا أو هناك تمهد لأنسياب المعلومة السياسية , إلا أنه لم يقتنع وغادر وهو يسب ويسخط وجاءت الفرصة الكبرى عندما أعلنت الأذاعة البريطانية عن مسابقة للقصة القصيرة , تكون ذات مضامين إنسانية وجلست الساعات الطوال , أنتقى كلماتى وأرتب أفكارى لأنقل تفاصيل حدث قيل أنه وقع أيام مجاعة سنة ستة , والقصة تقول أن فتاة كانت تعيش مع أسرتها المكونة من أبوين تقدمت بهما السن , وباتا لا يقويان على الحركة , وكانا يقيمان فى سفح بعيد جداً عن أقرب مدينة , وعندما حدثت المجاعة بدأ أهل القرية يرحلون زرافات ووحداناً , وتخلف شاب كان يحب تلك الفتاه وينوى الزواج منها , وذلك لمساعدتها فى نقل الأبوين إلى المدينة , إلا أنهما أصرا على عدم مغادرة القرية , وحاولا إقناع إبنتهما بأن ترحل وتتركهما يواجهان مصيرهما المحتوم لا سيما وأنهما لا ينتظران أن يعيشا أكثر مما عاشا .. وكان الطعام يتناقص كل يوم والأبوان فى عنادهما , وفى تلك اللحظات الحرجة غادر الشاب القرية مؤثراً النجاة وبقيت تلك الفتاه إلى جوار أبويها , ويبدو أنهما قد أقنعاها بالرحيل وتركهما مع بعض الزاد والماء , وكانت ليلة الوداع مشحونة بالبكاء والدموع وفى فجر اليوم التالى ركبت الفتاه حمارها بعد أن ودعت أبويها واتجهت نحو أسفل التل ومن ثمّ التفتت إلتفاتة أخيرة لتودع أبويها قبل أن تغيب عن الأنظار , ولكنها رأت أبويها وهما يزحفان على الرمل للتزود من إبنتهما بأقصى ما يستطيعان , ضعفت الأبنة وعادت أدراجها وحملتهما إلى داخل الكوخ ومن ثم دار جدل بين ثلاثتهما وأقتنعت مرة أخرى بالرحيل , وفى هذه المرة طلبا منها أن تغلق عليهما باب الكوخ حتى لا يتمكنا من الزحف خارجه لتشييعها وهى تغادر .. وتتحدث القصة أن الفتاه قاومت كل رغباتها فى التزود بنظرة أخيرة على المكان وعلى الأبوين المنتحبيين , وتوجهت نحو المدينة بأسرع ما تستطيع , وفى المخيم الذى أعد للوافدين من الريف بسبب المجاعة صامت عن الطعام والكلام من شدة حزنها على مصير أبويها ولاحظ الموظف المسئول عن المخيم التجهم والذهول الذى أحاط بتلك الفتاة الشديدة الجمال , وعندما عرف بقصتها أخذها على صهوة جواده وإقتاد معه جواد آخر , وانطلقا حتى مكان الأبوين , وأحضراهما إلى المخيم .. ومضت أسابيع بل وشهور وأسقطت من ذاكرتى تلك المحاولة القصصية الفاشلة , وكم كانت دهشتى عظيمة عندما فازت القصة بالجائزة الثانية , وقرأت القصة عبر الأثير , وعلم عدد كبير من الطلاب والطالبات بهذا السبق وإنهالت علىّ التهانى والأشادات من أساتذة الجامعة ومن زملائى وزميلاتى بالمصلحة , ومنذ ذلك اليوم إستسلم نجم الدين وكف عن ترديد أقواله المأثورة وغير المأثورة ..
* * * *

مازن لبابيدي
15-12-2010, 03:31 PM
أتابع معك أستاذ عبد الغني روايتك الرائعة .
وصلت للحلقة الثامنة ويبدو أن سرعة النشر تفوقت على قدراتي ووقتي المتاح .

أحببت أن ألقي التحية
السلام عليكم

عبدالغني خلف الله
15-12-2010, 07:55 PM
أهلاً بك دكتور وأتمني أن تستمتع ببقية الحلقات ..لك مني عاطر التحايا .

عبدالغني خلف الله
16-12-2010, 02:00 PM
الحلقة العشرون
(( هذا خروج عن الذوق العام )) هذه قلة أدب فارغة .. تعرفت على صاحب الصوت , وكان الباشكاتب نديم وكمال يحاول تهدئته , وبدون أن يلقى علىَ التحية كما تعود دائماً , صرخ بعصبية واضحة (( وين المدير ؟ )) أجلسته على الكرسى وهدأت من روعه وعلمت منه أنه مستاء من الملابس التى تأتى بها غادة إلى العمل , وأنه قد نبهها أكثر من مرة دون جدوى .. سألته عن الشئ الذى يضايقه فى طريقة لبسها (( يا إبنى زميلتكم هذه ترتدي ثوب شيفون شفاف لا يستر فيها أى شئ .. والكعب عالى كعمود الكهرباء.. إننى اعطيكم فرصة اخيرة لتنصحوا زميلتكم هذه والا ساوقفها عن العمل .. ماذكره عم نديم هو عين الحقيقة يا كمال .. الا تلاحظ أن بنات هذه المصلحة يبالغن بعض الشيئ لاسيما فى الثياب وحقائب اليد والاحذية وهن متهمات اصلاً بان معظمهن من بنات الذوات .. الان فهمت لماذا قال الشاعر .. (( العابر هذا الشارع عند الثانية والنصف لا يملك الا ان يصمد أو يبكى حتى الهذيان )) ..
ارسلت فى طلب فوزية ورجوتها ان تتحدث الى غاده للاحتشام فى اللبس لا سيما وان مظهرها صار حديث كل العاملين بالمصلحة .. ولم اتوانى بالطبع فى توظيف هذه المقابلة فى مناقشة مسار علاقتى بها وطلبت منها تحديداً ان نحضر أنا والوالده لزيارتهم بمنزل ذويها , رحبت بالفكر ترحيباً حاراً وكان وصف منزلهم سهلاً , اذ كانت شوارع الامتداد الجديد هى اصلاً مرقمة .. وحذرتنى من الدخول فى اى تفاصيل فى زيارتنا الاولى واعتبرت انها للتعارف فقط , فرحت الوالده فرحاً شديداً عندما نقلت لها الخبر , ولعلها قرأت فى وجهى كل صنوف الرضا السعاده , ولكنها عكننت مزاجى عندما ذكرتنى بأنه ما زال امامى حوالى ستة اشهر قبل التخرج من الجامعة .. طمأنتها بأن الزيارة لا تعدو ان تكون للتعارف لا اكثر وحذرتها من الخوض فى اى تلميحات من أى نوع .. اذ اننى علمت من فوزيه أن اعمام عفراء سيفجرون مشكلة كبرى إن علموا بنيتها فى الزواج من شخص خارج إطار العائلة وهى التى رفضتهم بعد وفاة المرحوم زوجها وتوقعت ان يضعوا العراقيل امامنا وسيضغطون بإتجاه حضانة عفراء وهو ما لن تسمح به أبداً مهما كانت الظروف .

عبدالغني خلف الله
17-12-2010, 07:32 AM
الحلقة الواحدة والعشرون
قالت لى المرآه اننى فى كامل أناقتى ونحن نتهيأ لزيارة أسرة فوزية , وارتدت الحاجة الثياب التى سافرت بهاء لاداء فريضة الحج تيمناً وبركة واستعجلت شقيقتى لتلبس ولكنها ضيعت الوقت بحثاً عن (( توكاتها )) وباقى أدوات زينتها وسببت لى صداعاً بالاستفسار بين كل دقيقة ودقيقة عن الفستان دا كيف يا وهبة .. كويس ... طيب الفستان دا كيف ؟ .. برضو كويس .. ام ان هذا الفستان أجمل ؟ ما قلنا كويس ...
وفى داخل عربة التاكسى بكت والدتى بكاءاً مراً .. وكانت تتمنى لو كان المرحوم والدى على قيد الحياة اذن لقام هو بهذه المهمة ولانتظرته لتعرف النتيجة فتطلق زغرودة فرح واحده على الاقل بعد كل هذه السنين من الحداد .. ومالنا نحن هكذا حداد بالسنين .. ان وفاة اى فرد من اى اسرة كفيلة بان تصادر منها الفرح لسنوات وقد تجد فتاة وهى فى حالة حداد مستمرة , يتوفى العم ثم يتبعه الخال والخالة حتى إن شاعرنا قد استسلم لهذه الديمومة فعبرعن ذلك بقوله : (( شفتو .. شفتو كان فى ثوب حدادو. وكل عواطفى عليه نادوا )) يعنى لو كان لابس ثوب ( النجده ) كان عقلو يطير ام ماذا ؟ .. ترجلنا أمام المنزل الفخم واستقبلنا أمام الباب خال فوزية مرحباً وأدخلنا الى الصالون الانيق .. , وواصلت والدتى وشقيقتى الذوبان فى ردهات المنزل , وجلست أنا كتلميذ فى الكرسى الفخم ذى القطيفة الحمراء ولكن يا وهبة ماذا يذكرك لون القطيفة هذه ؟ نعم نعم ((فاطمة بنت المطرة )) ذلك الشيئ الرائع الذى ينزل علينا فجأة أثناء هطول الامطار , مخلوقه صغيرة ناعمة الملمس جميلة الشكل لا احد يدرى هل تخرج من باطن الأرض ام تهبط من السماء ... علمت من خال فوزية انه وكيل وزارة سابق , وانه كان على الدوام ضد فكرة الزواج بعد تجربة مريرة مع احدى الاجنبيات وهو لذلك فضل العيش مع شقيقته فى الخرطوم , لا سيما بعد وفاة زوجها .. اذن نحن يتيمان غريبان هاهنا وكل غريب للغريب حبيب أو شئ من هذا القبيل ...
قدمت لنا الليموناده واكلنا الحلوى الفاخرة كبادرة ترحيب وموافقة ولدى عودتنا وجدنا كل الحى Stand by اذ ان الحاجة برغم تحذيرى لها اخبرت كل كائن حى فى الحي بخطوبة وهبه بما فى ذلك القطط والارانب .. كانت فرحتها لا توصف , وطلبت من سائق التاكسى ان يعطى تنبيهات متقطعة من آله التنبيه ونحن ندخل الحى , وعندما توقفنا ارسلت زغرودة من داخل التاكسى سرعان ما تلقفتها النسوة المجتمعات فى بهو المنزل فجاوبنها بأحلى وارق واعلى ما فى وسعهن وكانت شقيقات سميرة الاكثر اسماعاً واظهاراً لزغاريدهن ...
* * * *

عبدالغني خلف الله
18-12-2010, 08:13 AM
الحلقة الثانية والعشرون
سألت كمال عن حالته التى تدعوا للرثاء .. وقد وجدته يعتلى درج مكتبه.. ما بك يا كمال ؟
- والله يا وهبة اشعر اننى ( very exhausted )
- من عمايلك يا كمال .. جعلت ليلك هو معاشك ونهارك هو لباسك .. فماذا كنت تتوقع غير المرض .
- بالله عليك يا وهبة , انا هنا لاستلف جنيه واحد فقط لا لسماع محاضرات ..
- جنيه كامل يا مفترى .. وماذا تريد ان تشترى بهذا الجنيه ؟
- اشترى نفسى .. اشترى سعادتى .. انها ( لوليتا ) حبيبتى الجديدة ..
تدرس فى الـ (Unity ) وتسهر فى النادى الاغريقى .. تقضى اجازة نصف السنة فى القاهرة والاجازة الصيفية فى اثينا أو لندن .. سناء ذات السبعة عشره ربيعاً يا وهبة .. جبينها قمر , وخطوها توجع الوتر ..
- الله عليك يا كمال .
- عيونها ضياء .. ثغرها توهجاً وكبرياً وشعرها متاهة المساء .. سناء ..؟! وهى عفوكم .. لو لمحة نادرة تخطر قربكم حتماً ستسحركم تبهركم .. تسلمكم للخوف والظنون .. تشعركم بالضآلة والسفه وانها أكبر أحلامكم ..
- دقيقة .. دقيقة يا كمال الشعر دا حق منو ؟
- هذا نسيجى أنا , نتاج معاناتى وسهرى واشواقى .
- ولكن منذ متى وانت تكتب الشعر .. انت تكتب روايات بوليسية ممكن يا مجرم .. لكن شعر رقيق كهذا , هذه سرقة وتهجم على الادب يا قليل الادب ...
بس يا كمال إنت وهذه ( الشافعة ) ستقعان فى مشكلة فارق السن ..
(( وفارق الدين )) همس فى اذنى كمان؟
- قبطيه يعنى .. ومتى وكيف تم هذا وانا خارج الصورة .
- وجدتها فى ال British council وجلست قبالتى على الطاولة تقرأ رواية دكتور لورنس (( عشيق الليدى تشيرلى )) داعبتها في لطف ودون تردد قائلاً لكن يا آنسة هذه الرواية لاتناسبك على الاقل كفتاة بجانب اللغة .. لغة صعبة .. رمقتنى باهتمام وبعد تردد جاوبتنى.. كل عمل ادبى هو تجربة انسانية نتوقف عندها وقد نستمتع بها ولكن ليس بالضرورة اننا نقْر بكل ما بها .. اما اللغة فأنا قد درست على نظام الـUnity .. المهم ثرثرنا فى الفاضى والمليان وكنت لا اشبع من التطلع الى عينيها وسمرتها و...
- مفهوم ... مفهوم (( قاطعته )) ..
- واليوم دعتنى لالتقيها امام النادى الاغريقى وعزمتنى على سهرة فى (( سنت جيمس ))
- طيب وما المشكلة ..
- اه .. المشكلة اننى لا املك .. حق المواصلات .. ولم يسبق لى اقتناء ( Full suit ) .. من قبل بل ولا اعرف كيف تربط الكرافيته .. هل تعرف يا وهبة ؟
- طبعاً .. طبعاً .. وكنت اكذب اذ اننى قد فشلت فى عدة محاولات فى ربطة العنق .. هذه .. حاجة سهلة وصعبة فى آن واحد
- يا كمال دا جنيه .. ولدى لبسة افريقية خطيرة وما عليك الا ان تذهب معى الى المنزل فى آخر اليوم , وتتغدى معى , ولكن حاسب .. حاسب يا وغد .
* * * *

عبدالغني خلف الله
19-12-2010, 08:33 AM
الحلقة الثالثة والعشرون
قررت توصيل رسالة ماريا للسيد مصطفى بنفسى , وخطر لى خاطر خبيث , لماذا لا تفتح الرسالة وتقرأها يا وهبه ؟ .. معقول ؟ هذه خيانة للأمانة .. لا خيانة ولا حاجة .. حاولت أن أقنع نفسى بأن فتح الرسالة والإطلاع على محتوياتها .. عمل لا أخلاقى ولكن حب الإستطلاع الشديد أغرانى بفتحها , بذلت أقصى ما أستطيع من جهد حتى لا أمزق أطراف المظروف وأخرجتها بيدين مرتجفتين , وفضضتها برفق , وبدأت أقرأ .. كتبت له تقول :
( والدى العزيز .. يا أحب شئ إلى نفسى فى هذه الحياه , اليوم يحق لك أن تفخر يا أبى بإبنتك فقد أنهيت كورس اللغة الألمانية بتفوق كان مثار تعليق كل أساتذة معهد جوته فى مدينة ( ارولزن ) الساحره .. وحدثته فى رسالتها عن جغرافية المنطقة وأنها تقع فى ( الأشفارزفالد ) الذى يقول عنه الألمان أنه ينام فى أحضان الطبيعة كذلك شرحت له نظرة الألمان لأفريقيا وكيف أن الأسرة التى تسكن معها حاولت أن تعلمها كيف تستعمل خزانة الملابس وشرحوا لها كيف تفتح حنفية الماء وتغلقها وكذلك كيف تضغط على ذر الكهرباء وتطفئ النور وشرحوا لها كيفية إستعمال المكواه الكهربائية , وعندما أخبرتهم بأن فى منزلهم أشياء أحدث وأرقى مما عندهم تعجبوا كثيراً وقالوا لها : كنا نظنك قد جئت مباشرة من الغابة وأن الأفيال والتماسيح تتجول فى حديقة منزلكم . وحدثته فى جانب آخر عن الغربة والشوق للخرطوم والسودان وطوفت بهم فى أنحاء ألمانيا , وكيف أن لكل مدينة عنواناً خاصاً بها , مثلاً مدينة دسلدورف هى عروس الراين وباريس الصغيرة , ومدينة هايدليبيرج هى المدينة التى يفقد الانسان فيها قلبه .. أغلقت المظروف بإحكام وحمدت الله أنه لم تكن ثمة أسرار بداخله .
***
كان أول من علم بالخبر من ناس المصلحة هو بالطبع كمال ولقد اخذنى بالاحضان وامطرنى بوابل من الامانى العذاب .. مبروك يا وهبة تغلبك بالمال تغلبها بالعيال .. بيت مال وعيال ,, يعنى النقد عامل مشترك فى كل امنية .. قلت له عقبال عندك يا كمال .. وسألته كيف تسير الامور مع سناء .. اجابنى بأسىً بالغ .. سناء سافرت يا وهبة بعد ان اخذت علقه من والدها اذ علم بمشاويرها معى وتهربها من المدرسة فبعث بها الى مصر , حاولت ان اواسيه الا اننى شعرت انه يتهدم وانه فى درجة من الاعياء لا تكاد تخطئها العين فقلت له لازم تمشى الدكتور يا كمال ... انت محتاج لكشف طبى والآن فوراً .

عبدالغني خلف الله
20-12-2010, 07:32 AM
الحلقة الرابعة والعشرون
كان التوتر هو سيد الموقف فى مكتب المدير , وقد جلست الأستاذه منى الى جواره وهى تناقش بإهتمام بالغ أمراً لابد انه بالغ الخطورة .. المدير يتململ ويصلح من جلسته وعند دخولى عليهما لعرض البريد جحظ فى وجهى وضحك ضحكة خافته ابتلع نصفها ثم اردف قائلاً صحيح السمعناه دا يا وهبه ؟ يعنى نقول مبروك ؟! قلت له تقريباً .. ولم ترفع منى رأسها عن التقرير الذى امامها وغادرت المكتب باقصى ما تستطيع وعلى غير عادته زف مولانا منى حتى باب المكتب ولكنها عادت ادراجها بسرعة الى حيث اقف وقالت لى بفرح طاغ : مبروك يا وهبه والله ما ممكن تتخيل مدى سعادتى بهذا الخبر ثم غادرت ولكنها استدارت وواجهتنى مرة اخرى : لكن تذكر يا وهبة امتحانات التخرج عاوزين نجاح فى كل المواد .. جداً ... جداً ., توعدنى ؟ .. اوعدك وبس أيتها الملاك الذى ضل طريقه عبر مسارات اللامنتهى ليعيش معنا , يا أروع شيئ يمشى يتكلم أو يتألم يا آآآآآآآآآآآآه ..
* * * *
لم تكن الفحوصات الاولية مشجعة بالنسبة لكمال لذلك كان لزاماً عليه الخلود للراحة الاجبارية بالمنزل ثم معاودة الطبيب لمزيد من الفحوصات وقد افتقدته بشدة وأنا فى طريقى الى منزل السيد مصطفى مديرنا السابق للشركة فى الفرح المقام بمناسبة زواج ابنته فاطمه وابنه ابو بكر , احد الزملاء علق ونحن نتناول الـ ( كوكتيل ) تحت الثريات التى تلون المكان ..
- لا بد ان سيد مصطفى كان لاعب كرة حريف ..
- كيف ؟! سألناه ..
- زواج ( دبل كيك ) فى الهواء الطلق لا يمكن ان يفكر فيه الا لاعب محترف والآن امامنا حالة هجمة مرتدة وانفراد كامل بحارس المرمى , لعلنا نشاهد هدف .. قالها وعينيه علىّ وفهمت بأن المقصود شخصى وفوزية ولم اعلق بشئ .
اضطراب وفوضى يسودان المكان فقد حضر فريق من المراجعين وبعد ان اجتمعوا الى السيد المدير بحضور الاستاذة منى توجهوا الى مكتب الحسابات وعطلوا العمل فى المخازن بل واغلقوها بالشمع الأحمر .. الآن تذكرت ذلك التقرير الذى كان بيد الاستاذة منى ولا بد انها هى التى اشارت بضرورة المراجعة وكثر اللغط والهمهمة فى اوساط الموظفين والموظفات واصابع الاتهام اشارت فى البداية الى أمين المخازن والمراقب المالى والمهندس ولكنها سرعان ما استصحبت غاده وعلمت ان زوج غاده كان يفوز بجميع المناقصات فى المصلحة وان أمين المخزن تحت اعجابه الشديد بغاده لدرجة العشق .. كان يفصح لها بعطاءات المقاولين المشاركين فى المناقصات و...و.... وكلام كثير المهم انتهت المراجعه وقدم الفريق تقريره للمدير العام رويداً رويداً مات الموضوع أو هكذا كنا نظن ...
* * * *
انهمكت فى الاستعداد للامتحانات وكنت اقابل فوزية لماماً وانقطعت عن المصلحة ايام الامتحانات ولدى عودتى للمصلحة علمت بان حاله كمال الصحية قد تدهورت بشكل حاد .. هرعت اليه فى المستشفى ولما رآنى تهللت اسارير وجهه واسترد بعض عافيته لم لا ونحن اصدقاء وزملاء لسنين طويلة قلت له مداعباً :
(( امانة ما وقع راجل .. هل تخاف من الموت يا كمال ؟! أنا اخوك يا السره أخاف انا يا وهبه .. هل من مات لم يترك له رسماً على الجدران وخطاً فوق ديباجه وذكرى فى حنايا قلب .. همس بتلك الابيات لصلاح عبد الصبور ... اكملت له المقطع : وما الانسان إن عاش وإن مات وما الانسان ..؟!
- بعد الشر عليك يا كمال كلها يوم وتعود لتملأ علينا دنيانا بهجة والفة كما هو دابك دائماً .
* * * *

محمد ذيب سليمان
20-12-2010, 11:36 AM
الحبيب .. الأديبي الروائي
عبد الغني
كالن لزاما علي المتابعة
أولا لمعرفة النهاية
ثانيا للتعلُّم
لكن سرعة نزول الحلقات جعلتني أواصل حت الحلقة الخامسة عشرة
سأواصل وأختزن ما أستطيع من معرفة
شكرا لك سيدي الكريم

عبدالغني خلف الله
21-12-2010, 08:23 AM
الأخ الرائع الجميل محمد ..كم أتمني أن أعرف وسيلة ما تصلك عبرها جميع أعمالي المنشورة ..وأود أن أهدي منها نسخة بصفة خاصة للإبنة أماني كهدية تخرجها من الجامعة بنقدير ممتاز ..هذا مع تحياتي .

عبدالغني خلف الله
21-12-2010, 08:25 AM
الحلقة الخامسة والعشرون
ظهرت النتيجة وتخرج المتمزقون سهى .. نهى .. سامية ونجم الدين باستثناء امير فقد رسب رسوباً مشرفاً ولعله قرر الاحتفاظ برئاسة الاتحاد مدى الحياة وكانت اكثر الناس سعاده بنجاحى الحاجة وبالطبع فوزية , ودبت فى الحى حركة دؤوبة لجمع الاشتركات اثر سماعهم نبأ نجاحى ... هكذا هم أبناء هذا الحى يفتشون عن الاسباب لتنظيم الرحلات والحفلات حتى ان احدهم اقام حفلاً بمناسبة اعاده بناء سور منزلهم الذى تهدم بفعل الامطار فما بالك بتخرج احد أبناء الحى من الجامعه .
جاءتنى فوزية وهى فى حالة من الارتباك الشديد وهى تحمل لى مسودة قرار من المدير العام بإيقاف امين المخزن ورئيس الحسابات وغاده عن العمل واحالتهم للتحقيق بتهمة خيانة الامانة والتزوير إضافة الى خالد عمر زوج غاده .. وكانت منهارة تماماً (( هونت عليها الامر وحاولت ان اشرح ملابسات الموضوع وان التحرى بواسطة البوليس لا يعنى الادانه , اما غاده فلم تكن موجودة بالمصلحة فى ذلك اليوم , ولعلها أحست بحرج الموقف وأخذت إجازة محلية فيما علمت من فوزيه وأصيب كل من فى المصلحة بصدمة شديدة لهذه التطورات المؤسفة وكانوا مشفقين بصفة خاصة على أمين المخزن , لعلمهم بظروفه العائلية ومسؤلياته تجاه أطفاله خاصة بعد وفاة والدتهم ..
* * * *
وفى أمسية ممطرة مرعده تناوشتها الريح أسلم كمال الروح إلى بارئها , وكان الموت أسرع من محاولات الزملاء بالمصلحة اللاهثه لجمع المال وتحضير وثائق السفر لترسله للعلاج بالخارج , ولكن إرادة الله فوق كل إرادة , ولدى ذهابنا لأستلام الجثمان من المستشفى سلمتنى إحدى الممرضات مظروفاً به رسالة من كمال ولعلها لاحظت ترددى عليه فى الأيام الأخيرة , وعرفتنى بالأسم , ضممت الرسالة إلى صدرى وأنا آهتف بإسمه وأبكى بصمت مسموع , بينما كل الزملاء والزميلات يواسوننى بعبارات لا تنقطع , أغلقت على نفسى باب الغرفة فى دارنا وفضضت الرسالة فى رفق وتؤده وكأننى أخشى عليها أن تتمزق بين أصابعى وبدأها بعبارة : العزيز وهبه ..
أيها الوغد اللئيم ..
وكانت تلك عبارته الأثيره لديه عندما يعتب علىّ فى أمر ما وتمضى الرسالة صاعدة هابطة , وأحياناً تتداخل الكلمات فى الكلمات والسطور فى السطور , حدثنى عن الحياة , فهمه لها وطموحاته فيها , وعن الموت والمرض والمعاناة وعن الأشخاص الذين أحبهم وأحبوه ولم يترك شاردة أو واردة إلا وأعطاها حقها من التعليق , فى إفاضة قل أن تتهيأ لشخص يوشك أن يغادر هذه الحياة .. وأوصانى بأشياء وأشياء وكنت أقرأ وتنساب الدموع من عينىّ , فلا أكاد أرى الحروف فأتوقف عن القراءة , وبعد أن أجفف دمعى أعاود من جديد , ومن ثم أذوب فى حالة من الحزن والفزع لا تخطر على بال .. وظللت على تلك الحالة حتى آذان الفجر .
* * * *

عبدالغني خلف الله
22-12-2010, 08:08 AM
الحلقة السادسة والعشرون
ألقيت بثقل أحزانى لفقد كمال على فوزيه , فكنت أمضى معها الساعات الطوال , وأزورهم بالمنزل وفى ذات صباح وجدتها وقد إسودت جفونها , وغاضت الدماء من على وجهها , ألحقنى يا وهبه أنا حأموت قالتها وهى تدارى دموعها , ما الخبر يا فوزيه ؟..
- لقد طلبونى فى المحكمة ..
- محكمة .. من هم ؟
- أعمام عفراء .. ألم أقل لك يا وهبه , إنهم بمجرد أن علموا بزيارتكم لنا , وأحسوا أننا ماضون فى طريقنا المرسوم للزواج أحالو حياتنا إلى جحيم , كانوا يحضرون كل يوم لأخذ عفراء , ولم أكن أتصور أن القسوة ستصل بهم إلى درجة طلبى فى المحكمة , عفراء يا وهبه هى حياتى هى كل ما أملك فى هذه الدنيا , إننى لا أنام وأضع عفراء فى صدرى حتى الفجر ولا أدعها تفارق عينىّ لحظة واحدة .. إننى سأصاب بالجنون يا وهبه .. هل تقبل أن تتزوج مجنونة , لقد عينوا محامى معروف بفظاعته فى الحصول أمر المحكمة بالحضانة ..
من منا يواسى من , ومن منا يهدئ روع من ؟! أعلم أن فوزيه لو وضعت فى محك الأختيار بينى وبين عفراء لاختارت عفراء , ويبدو أن الأمور ستسير فى هذا الأتجاه .. يا للخسران المبين , ولكن كم يبلغ عمر عفراء .. ؟
* * * *
توجهت إلى القضائية بمجرد إستلامى لشهادة التخرج وتقدمت بطلب للألتحاق بالجهاز القضائى , وحاولت تجنب الذهاب الى المصلحة بعد أن أخذت إجازتى السنوية وظللت أداوم على الأتصال بالمكتب التنفيذى للسيد رئيس القضاء , وبعد إستكمال كل الأجراءات المعتاده قبلونى بالقضائية وأحالونى للعمل تحت التمرين بمكتب قاضى الجنايات بالقسم الشمالى , وقد إستقبلنى زملائى الجدد إستقبالاً رائعاً , وكان المكان بمثابة خلية نحل لا تهدأ ولا تتوقف .. يوميات تحرى .. إعترافات قضائية وأقوال محتضرين بالمستشفيات وحضور جلسات القضايا المدنية والتحقيقات القضائية وأشياء أخرى لا تدع لك الفرصة كى تنظر لمن حولك وبينما نحن منهمكون فى مراجعة البلاغات المعروضة للمعلومية لفت إنتباهى إسم غاده على أورنيك البلاغ الأول بتهمة الشروع فى الانتحار , تجمد الدم فى عروقى واقشعر بدنى وأنا أجوس خلال التفاصيل , ومن مكانى ذاك توجهت دون ابطاء نحو المستشفى ووجدتها بين الوعى واللاوعى , وقد أجروا لها عملية غسيل للمعدة , وعُلقت غابةٌ من المحاليل الوريدية فوق رأسها .. إنتبهت إلى وجودى بقربها على السرير فأغمضت عينيها لبعض الوقت وكأنها ترفض مواجهتى ثم نظرت إلى , وقد إرتسمت إبتسامة شاحبة على فمها , حاولت أن تتكلم , ولكننى طلبت منها الاَ تفعل .. كانت نظراتها تفصح عّما بداخلها من شجن , ثم إغرورقت عينياها بالدموع وسالت على وجهها حتى بللت الوسادة .. لماذا فعلت هذا يا غاده ؟! همست فى عينيها إذا كنا نحن وزوجك والعالم لا نساوى بالنسبة لك شئ فما ذنب أطفالك ..
حدثتها برفق وبحنو وحاولت جاهداً إعطائها دفع معنوية جديدة , وعلمت من فوزية فى ثانى يوم عبر الهاتف أن البوليس لم يجد أى شئ ضد غاده , فتمت تبرئتها وأحالة زوجها للمحاكمة مع بقية المتهمين فما كان منه الا أن طلق غادة وهو فى الحراسة وأمر بطردها من المنزل , وتحت تأثير تلك الظروف المؤسفة ضعفت غاده وشرعت فى الأنتحار بإبتلاع أقراص كثيرة من (( الأسبرين )) ..
ولكن الشئ الذى شغل بالى وأنا أغادر المستشفى دخول السيد مصطفى المدير الأسبق , وقد بدأت على وجهه علامات الأنزعاج الشديد ..
* * * *

عبدالغني خلف الله
23-12-2010, 07:45 AM
الحلقة السابعة والعشرون
تعقدت الأمور بالنسبة لى وفوزيه , وأصر أعمام عفراء على إقتيادها للمحكمة ما لم تعلن عدولها عن رغبتها فى الزواج منى ومن ثمَ الزواج بواحد منهم , وكانو ثلاثة .. إثنان منهما متزوجان والثالث تاجر كبير فى السوق , وكانوا يقدمونه كخيار أوحد ثم عندما يلاحظون رفض فوزية القاطع له سيما وأنه سئ السمعة وزير نساء معروف , يخيرونها بين الإثنين بحجة الأشراف على تربية طفلة شقيقهم الراحل .
* * * *
طلبت النقل للعمل بالأقاليم , وكانت لحظات الفراق قاسية على الحاجة والوالده وهى ترانى أغادر عشها لأول مره فى رحلة مجهولة المصير ولم يفت علىّ أن أسطر رسالة طويلة لفوزية قبل سفرى لأعفيها من التزامها نحوى , بعد أن أصبح إرتباطنا محفوفاً بمخاطر جمه , أذ توصلت إلى قناعة تامه بأنه من الانسب لفوزيه الا تجازف بفقدان طفلتها التى هى أحوج إليها منى , وبينما كنت أهم بدخول صالة السفريات الداخلية بالمطار أعلن عن قيام الطائرة المتجه إلى بورتسودان وكنت أنا فى طريقى إلى مدينة الأبيض فاذا بى وجهاً لوجه مع السيد مصطفى وهو يتأبط ذراع غاده , وقد بدأت عليهما علامات الرضا والسعادة , سلمت عليهما وبدون أن أنتظر أى توضيحات هنأتهما على الزواج وودعتهما على أمل أن أسمع عنهما كل خير وفيما كانت الطائرة تغوص بعيداً فى الفضاء أغمضت عينى على صورة الأستاذه منى دون سواها , وأستحوزت على أقطار نفسى بأناقتها وجمالها ورصانتها وسمتها المهيب وسرحت فى البعيد البعيد محاولاً إسترجاع كل تفاصيل الأوقات الحلوة التى إلتقيتها فيها , وكانت صورتها وهى تتمزق أمام خطيبها على الهاتف تلحَ على إلحاحاً شديداً فى إستبقائها ربما لأنها اللحظة الوحيدة التى تجردت فيها أمامى من شخصيتها كقاضى وأهرقت فيها أحزانها وإحباطها كأنثى جريحة ثم عدت إلى بهو الطائرة وتفرست فى الوجوه الصامتة وهى تعايش اللامكان وأيقنت إن لا أحد يملك زمام أمره فى هذه الحياه .
* * * *

عبدالغني خلف الله
24-12-2010, 02:06 PM
الحلقة الثامنة والعشرون
إقتربنا من مدرج المطار , أو هكذا أخطرنا المايكروفون وهو يطلب منا عدم التدخين والتأكد من ربط الاحزمة , وكان لنفس الفتاة التى قدمت لنا محاضرة فى إجراءات السلامة التى لم أستوعب منها شئ . وهمست فى سرى (( فأل الله ولا فألك )) أنا شخصياً لو حدث شئ بالطائره لا سمح الله فسوف أتأكد من شئ واحد هو أننى أردد الشهادة وبعد ذلك لا شئ يهم , أعجبت بشجاعتها لكونها مضيفة تأكل عيشها من الطيران بين السماء والأرض كل يوم , ألا يعرف الخوف سبيلاً إلى قلب هذه الجميلة , الطائرة تتأرجح يمنة ويسرة وهى تصوب أنفها نحو المدرج , وتشجعت قليلا رغم خوفى الشديد من النظر عبر النافذة , ووجدت كل شئ قد إكتسى بالخضرة حتى سطوح المنازل إعشوشبت وكأنها حدائق بابل المعلقة , وأرضية المطار هى الأخرى معشوشبة كحقل .. هل قلت تونس الخضراء .. لا بل قل الأبيض الخضراء وتونس المخضرة لا أكثر ..
حملنا حقائبنا وتوجهنا نحو المستقبلين وضجة النساء والأطفال تسد الأفق , لا بد أن كل مواطنى الأبيض بالمطار ؟ نعم .. قالها مولانا بشرى وهو يستقبلنى بضحكة عريضة ويهنئنى بسلامة الوصول , أخذنى إلى حيث تقف عربة المحكمة ولاحظت أن الباب مقفول , بـِ ( ترباس شباك ) .. العربة الوحيدة الصالحة للعمل هى عربة كبير القضاء قالها مولانا بشرى وكأنه يعتذر لى عن شكل العربة التى أقلتنا من المطار وحتى داخل المدينة , سوف تعجبك الأبيض يا مولانا عبد الوهاب دون أدنى شك , فهى مدينة تخطئ قليلاً ليلاً وتتوب كثيراً نهاراً , فهى نصف ملاك ونصف شيطان , فكل قادم إليها يجد فيها الأجواء التى تناسبه فأنت هنا إن شئت التعبد , فأنى إلتفت ستجد مسجداً أو زاويه , وإن شئت (( الهجيج )) كما يقولون فأطراف المدينة تضج بالمبتهجين على طريقتهم الخاصه , وهنالك الأدباء والشعراء والصحفيون .. عالم يضج بالتناقضات .. وحتى لا أصادر منك متعة الأكتشاف سأتركك تشكل رأيك فيها لوحدك ...
سألته عن دكتور (( ضمره )) زميلى فى الدراسة وقد علمت أنه يعمل هنا , وكذلك بهاء الدين تاجر بهذه الناحية وهو من أبناء حينا .. والذى فيما سمعت قد أثرى ثراءً عظيماً جراء عمله فى التجارة ,
- دكتور ضمره ها ..ها .. تعرف دكتور ضمره ؟
- نعم .. قلتها فى تردد ... ومن لا يعرف دكتور ضمره لأنه ألّذ ( شخصية ) عندنا يا مولانا ...
- أى (( لذاذة )) تلك التى ينفرد بها ضمره الطالب المتجهم .. القراى , إنه أكبر (( book worm)) فى دفعتنا , ومن كثرة المذاكرة كان فى حقيبته نصف دسته نظارات .
* * * *

عبدالغني خلف الله
25-12-2010, 08:19 AM
الحلقة التاسعة والعشرون
آويت إلى الفراش مبكراً بعد عشاء مهول من حيث الأصناف ردئ من حيث الأخراج , فقد طبخة إثنان من السجناء المضامين المحكوم عليهم بالمؤبد سألت أحدهم مداعباً .. وإسمه جادو
- الدجاجة دى قطعتها بإيدك أم بسكين ؟
- بسكين يا مولانا وأخرج سكينه من جفيرها المرصع بالفضة ..
- الله !! من أين إشتريت هذه السكين يا جادو ؟
- أسكت ساى يا مولانا السكين دى سبب التأبيدة الواقع فيها دى ..
كيف ؟! شجعته على الأستمرار فى الحديث ...
- أصلو محمد طاهر ود عمى سارح بالإبل معاى ,,, وكنا داك الليلة ... وتركته يفضفض ما فى قلبه من أشجان ... حسرات وندم , قتل إبن عمه من أجل سكين .. القتل يقع أحياناً دون سبب , وألتقط جادو القفاز وحدثنا عن رجل أسماه لنا وقال أنه وزميل له ركبا راحلة وراحا يجوبان الأصقاع وعندما يصلان أى قرية , يؤذن زميله فى الناس قائلاً (( يا ناس الحلة هذا فلان إبن فلان أرجل راجل فى البلد وعاوز ( مشاكل ) ... لو فيكم أشجع منه يطلع ليهو )) فيقولون له أذهب إلى قرية كذا وأسأل عن فلان إبن فلان فيذهبان فيقال لهما إن فلاناً هذا فى الزراعة أو مسافر , فيسميان لهما شخصاً آخر , وظلوا على هذه الحالة ردحاً من الزمن وأخيراً قالت لهم إمرأة فى إحدى القرى (( فلان إبن فلان أشجع من عشرة من أمثالكم , وهو يعمل مع أولئك النفر فى نظافة البئر التى أمامكم , فإذا أردتم حتفكم فأذهبوا إليه , وعندما إقتربا من القوم وأفصحا عن مرامهما , قالوا لهم إنتظرا لحظة , ودنا أحدهم من حافة البئر وأخبره أن شخصاً ما إدعىَ أنه أشحع منك وهو بإنتظارك لينازلك فى عقر دارك , هتف الرجل من الداخل : يتحدانى أنا ... أرميا لى بالحبل سريعاً وعندما إستلم الحبل لفه حول عنقه بدلاً عن وسطه من شدة تعجله للعراك , وطلب منهم أن يسحبوا الحبل إلى أعلى .. وعندما أخرجوه كان ميتاً تلقاء تلهفه شنقاً, قال الرجل الشرير لزميله لو خرج حياً لقضى علينا هكذا إبتدأ مولانا بشرى مداخلته بينى وبين المضمون .. الناس هنا لديهم حميه عجيبة مثلاً أحدهم قتل الآخر لأنه حين أراد مغادرة المجلس مستأذناً للأنصراف قال له زميله ... إتفضل ( مكانك أفيد لنا منك ) فما كان منه إلا أن إستدار وسدد له طعنة قاتلة أودت بحياته , وآخر قتل صديقه لخمسه قروش لا أكثر ماطله فى ردها ...
ولكن لماذا يا مولانا كل هذا التهور , إنها مناسبات الأسواق .. فلكل قرية أو مدينة يوم يجتمع فيه الناس يبيعون أو يشترون وفى هذه الأسوق تتولد الخناقات .
* * * *

عبدالغني خلف الله
26-12-2010, 07:54 AM
الحلقة الثلاثون
صورة أمي أفقدتنى صوابى وكان الرذاذ يزركش الكون فى ذلك الصباح المبلل , وأنا أقاوم كل رغبة فى الخروج من تحت البطانية , تخيلتها وهى(( تقلى )) البن كعادتها فى مثل هذا الوقت , ورائحته المميزة تنداح عبر غرف المنزل .. هكذا الوالدة , برنامجها اليومى غير قابل للتغيير , أول شئ تفعله بعد صلاة الصبح إعداد القهوة بكل طقوسها وثوابتها , وكأن لها جذور فى قبيلة ( البجا ) بشرق السودان , شقيقتى كسولة لا تصلح لفعل شئ وهى أكثر إنسان فى الدنيا بإستطاعته التهرب من العمل فهى إن كلفتها الوالدة بتوضيب الخضروات تأخذ منها هذه المهمة خمسة ساعات على الأقل وبذلك تضمن أنها لن تكلف بشئ آخر , وإن طلبت منها الوالدة (( عواسة )) الكسرة فهى لا تعرف (( العواسة)) ولديها حساسية من الدخان أما إذا قلت لها سنذهب للزيارة , زيارة أى ناس من الأهل فسوف تلاحظ أنها قد تحولت إلى بلدوزر ...
وفكرت بالإتصال بالزملاء بالمصلحة لأطمئن عليها وقد مضى علىّ وقت طويل وأنا أحدق فى سقف المنزل الذى بناه الأنجليز , لعلهم كانو يتوقعون غارات الألمان تدهمهم فى هذا الجزء من العالم ...
تجولت فى الحديقة المتواضعة والتى تحتوى صنف واحد أخضر وريقاته بنفسجية , لو سألت احد العاملين بالبساتين لقال لك إن إسمه ( هبسكس كمارا أو بتوليا سمبا رمبا ) .. أما إذا سألتنى فسأقول لك أنه موجود بكل مدرسة وكل داخلية وميدان عام تماماً كما ( العوير ) , توقفت لدى التلفون الأسود الخالى من الأرقام ولا أقراص له .. رفعت السماعة وجاوبنى صوت هامس من الجانب الآخر ..
(( الترنك )) : صباح الخير يا مولانا ؟ ولكن كيف عرفت أننى بالذات أطلبك يا آنسة ؟ عفواً إذا سألت يعنى .. ؟! الموضوع بسيط يا مولانا فأنت حين ترفع السماعة يضئ الرقم الخاص بهاتفك أمامى فى البورد .. إعتذرت بأننى حديث العهد بالبلد , وقد وصلت البارحة فقط , همست فى رقة متناهية : لا عليك يا مولانا ... وأتمنى أن تعجبك ( الأبيض ).. وتبادلنا بعض عبارات المجاملة , وكان صوتها يغرى بعدم التفريط فيه , فسألتها عن كل ما أود أن اعرفه عن المدينة وكانت بين الحين والأخر تستأذننى (( لحظة خليك معاى ... نعم يا (أم روابه )أدخل على بثلاثة ... نعم يا ( سودري) أدخل على بإثنين ... )) ثم تعود لى مرة أخرى , طلبت منها أن توصلنى برقم الأستاذه منى فى المصلحة , فاعتذرت لى فى أدب جم بأن الخطوط مع الخرطوم معطلة اليوم .. لم أحزن كثيراً وتقبلت الأمر كشئ متوقع , وعلمت منها أن إسمها أمانى وهى ستكون طوال هذا الأسبوع فى الخدمة صباحاً , شكرتها ووضعت السماعة وبينما أنا أتوجه نحو الحمام كنت أدندن بصوت مسموع : الأمانى العذبة تتراقص حيالى ....
* * * *

عبدالغني خلف الله
27-12-2010, 09:46 AM
الحلقة الواحدة والثلاثون
كبير القضاء رابض فى مكتبه كأنه أسد عجوز وهو رجل له أُسلوبه الخاص فى عمله كقاضى , إذ يؤمن بأن القاضى يجب أن يظل بعيداً تماماً عن المجتمع حتى يتمكن من إصدار أحكامه دون محاباه لذلك حين دعانا لتناول الأفطار فى منزله الفخم , لم يكن هنالك من الأشخاص سوانا أنا ومولانا بشرى , قدم لى محاضرة فى الأخلاق وسلوكيات المهنه (( Ethics of job)) خرجت من فمه وكأنه تشرشل , من أين لهؤلاء الناس بهذه الأنجليزية التى يتحدثونها كما يتنفسون وبنطق يعجز عنه شكسبير , وأخطر من هؤلاء أرباب المعاشات .. تجد الواحد منهم جاثٍ أمام طاحونة ويحدثك عن (( آرثر كونان دويل )) لكنك حين تراه تشك بأنه يعرف كيف يفك الخط .
* * * *
يبدو أننى سأغادر خانة القاضى إلى خانة المحامى فى أقصر وقت ممكن , فأنا لم أخلق لكل هذه الصرامة , وكل هذا الأنزواء .. معقول أعيش بدون حب .. إننى كشجرة الجميزة العتيقة تحتاج للماء فى كل المواسم , ووظيفتى كقاضى ستقيدنى بإمور لا قِبل لى بها , وهذه الكتابة الكثيرة والحيثيات التى لا تنتهى ... محامى شاطر ذلك هو البديل الأمثل ... لم أجد كثير عناء فى العثور على دكتور ضمره , إقتحمت عليه مكتبه بالمستشفى ووجدت أمامه فتاه رائعة الجمال , وبعد السلام والأحضان والأسئله عن كل شئ فطن إلى (( افروديت )) الواقفة أمامه وقدمها لى سستر منال ... وهبه صديقى اللدود من الثانوى .. إستأذنته منال فى الأنصراف , وعلمت فى ما بعد أنها محط أنظار جماهير (الأبيض) إلا أنها تنأى عن الجميع كسيف مغروز فى قلب الصحراء , وتقول عيناها الذكيتان لكل من يتجاسر ويدنو منها .. إحترس ممنوع الأقتراب .. قابل للألتهاب .

عبدالغني خلف الله
28-12-2010, 11:28 AM
الحلقة الثانية والثلاثون
عندما دخلت على بهاء الدين فى دكانه الذى يتوسط سوق الأبيض لم يتعرف علىَ من أول وهله وبرغم ذلك سلم على سلاماً حاراً وأكثر من ترديد عبارة الجماعة كيف ؟ وفرت عليه معاناة التذكر عندما تكون أمام تاجر عقله ممتلئ بحسابات الربح والخسارة وعرّفته بنفسى .. ود الحاجة .. ومرة أخرى أخذنى بالأحضان , وقلت له الآن عبد الوهاب أو وهبه مفهوم يا بهاء ؟ .. وماذا تعمل فى الأبيض .. نقلت للعمل بالأبيض .. وفى أى مصلحة .. المديرية ؟ لا .. بل القضائية أنا الأن القاضى الجزئى ..
- قاضى , قاضى عديل ؟!
- نعم يا بهاء .. لكن يامولانا .. تعلثم ويبدو أنه لم يكن مهيئاً لهذه المفاجأة , لقد تركنى وأنا موظف فى الدرجة العاشرة ألف ممتدة .. كمال (( الله يرحمه )) يسميها (( Group ten extended)) وكان لا ينفك يحتج على بطء الترقيات من درجة لدرجة , وكان طموحه أن يكون موظفاً فى (( D.X)) ولكن ياكمال ما دخل ماركات العربات فى درجات الخدمة المدنية .. إعتدل فى جلسته وقال لى بلهجة المعلم .. شوف يا أفندى ما أصلوا فى درجات بتركب عربات .. وفى درجات بتركبك الهواء .. أررركب الهواء .. !! ياكمال .. حاسب قلبت المكتب خشبة مسرح .. بالمناسبة دى يا صديقى طبعاً معظم الممثلين أصحابك .. صاح ؟!! نعم .. نعم .. ممكن تقول ليهم يمثلوا بدون زعيق وضجيج .. وأنت معظم المدراء .. مدراء عليك .. صاح .. نعم .. نعم .. ممكن تقول ليهم ما يصرخوا فينا .. وأمضيت سحابة ذلك النهار مع بهاء , إذ أننى لم أستلم عملى بصفة رسميه , وكان جرس التلفون يرن بإستمرار وهو يرد على هذه ويقول لتلك أن بهاء غير موجود بعد أن يغير صوته وبين الفينة والفينة يهمس الساعى الذى يعمل معه فى إذنه بأن فتاة بالفرندة تريد محادثته , ويستأذن منى ويخرج للتحدث إليها , ثم يعود بإنفعالات شتى وفقاً لوضعية الفتاة على خارطة إهتماماته , ثم أجرى عدداً من المكالمات التلفونيه مع أصدقائه يخبرهم بأن أبن عمته القاضى قد وصل الابيض ويدعوهم للعشاء اليوم .. حتى قبل أن يأخذ موافقتى .
* * * *
فاجأتنى أمانى عند الظهيره عبر الهاتف وقالت لى فى رقة متناهيه : كلم الخرطوم يا مولانا .. وكنت قد أعطيتها رقم هاتف منى , وأمسكت بالسماعة وأعصابى مشدودة وظل الجرس يرن بلا هواده دون أن تحدث معجزة فترفع الأستاذة منى سماعة التيلفون , عادت إلى أمانى مجدداً وقالت إن الرقم لا يرد ... هل لديك رقم آخر ؟ وبعد تردد شديد أعطيتها رقم فوزية فى المكتب السرى , فوزيه رفعت السماعة كأنها تنتظر مكالمة من أحد وعندما تعرفت على صوتى جُن جنونها وصارت تردد وهبه ما معقول مولانا مامعقول ... سألتها عن أحوالها فبكت ولم تستطيع الرد على أى سؤال ثم وفجأة إتخذت قراراًخطيراً دون سابق تمحيص .. إسمعى يا فوزيه ... إعتبرى ما كتبته لك فى خطابى لاغياً , وأننا مازلنا مخطوبين لبعض , وكنت أتحدث وحدى وكأننى أحاور الجدار الذى ينتصب أمامى , وأنا أرتجف من الأنفعال , سآخذ إجازة محلية فى أقرب وقت لتقديم الشبكة , وعندما وضعت السماعة تذكرت أننى لم أسألها عن الوالدة ولا حتى تلميحاً بالرغم من أنها كانت وراء المحادثة أصلاً ...غايتو البنات دول !!!

مصطفى السنجاري
28-12-2010, 12:45 PM
** أحداث شيقة وحوار ممتع
لم أقرأ كل الرواية
لكن ما قرأته أعطاني فكرة عن الرواية
رواية ممتعة ولغة محكمة
وراءها قلم يمتلك أدواته
تحية حب وتقدير

عبدالغني خلف الله
28-12-2010, 03:23 PM
أشكرك عزيزي الغالي الشاعر مصطفي السنجاري القادم من العراق الشقيق ..كلماتك مزدانة بالرقة والعذوبة وكأنها غسلت قبل أن تكتب بماء دجلة والفرات ..تحياتي وسلامي لكل نبتة وكل نخلة وكل ذرة من تراب نينوي ..سلمت وحفظ الله العراق من كل سوء .

عبدالغني خلف الله
30-12-2010, 07:32 AM
الحلقة الثالثة والثلاثون
كانت ليلة صاخبة بحق , أعد لها بهاء الدين إعداداً رهيباً فقد تابعته منذ الصباح , وهو يهئ مكان الحفل على المصطبة الأسمنتية التى إمتشقت باحة المنزل , وكان الأستاذ (( نظام )) كما يسمونه يوجه العمال يمنة ويسرة , وقد أسماه الموظفون بهذا الأسم لتخصصه فى إعداد السهرات وتنظيمها , بدءاً بمسرح السهرة وإنتهاء بذبح الخراف بمستوى يفوق زوجات الموظفين .. سهر القوم وغنوا وشربوا وطعموا , وأرسلوا النكات والتعليقات , وكنت أجلس بينهم كحجر تدحرج من قمة الجبل , ليسكن فى قارعة الطريق , فارق الهواء الطلق والسكون المطلق واستقر حيث الضجيج والغبار , وتسللت دون أن يلاحظ غيابى أحد وتوجهت إلى غرفتى بالمنزل وقد وجدت مولانا بشرى وهو يأز المكان أزاً بشخيره القوى , أكلت قطعة من الجبن وشربت كوباً من الماء المثلج , أنا الذى مدت الموائد هكذا أحسن ... إذا لم أعد كما فى الماضى ملكاً لنذواتى فأنا أمثل العدالة وأمسك بمعايير العدل فكيف أسمح لنفسى بشرب الخمر أو مخاصرة بائعات
الهوى ...
* * * *
وبحثت عن النوم , أين هو ؟ ولم يهرب منى وكنت فيما مضى الخالى من الشجن .. أرهقتنى الأوهام والتراهات ورمت بى الأقدار فى حضن العذاب تنهدات فوزيه تؤرقنى وصورة الأستاذة منى تعترينى وكمال يوحشنى كأمى .. كل الذين أحببتهم باتوا هم مثار عذابى وتعذيبى وليت الأمر يتوقف عند هذا أو ذاك وهذه أو تلك , من منهم لا يعذبنى , غاده التى أسعدتنى ثم عادت فخذلتنى أم سميرة التى أخذوها من أمام نظرى كأى جارية أم الأستاذة منى ؟ والتى كم أتمنى أن يصل الأمر بينها وبين خطيبها الدكتور صلاح لدرجة القطيعة حتى تلوح ولو مجرد بارقة أمل فى الوصول إلى مراسيها الستعصية , أم فوزيه الموزعة على مسامى والمتوزعة بينى وبين عفراء , أم ماريا الساحرة المسافرة بل حتى سستر منال بزركشاتها الأسطورية , وأمانى بوشوشاتها التى ترجنى رجاً كاعصار لا يرحم , وأين أنا من جميع هؤلاء ؟ .. لك الله أيها القلب المطعون حتى الهذيان ...
* * * *

عبدالغني خلف الله
31-12-2010, 01:33 PM
الحلقة الرابعة والثلاثون
إنتهت الضيافة كأروع ما يكون رحلة شبابية منقطعة النظير إلى حدائق ( البان جديد) بدعوة من دكتور ضمره إلتقيت فيها على عكس ما توقعت بشباب من الجنسين مثقف بمعنى الكلمة, ومنهم تفهمت عشق ( نزار قباني ) لدى زيارته إلى المدينة , عندما وجد نسخ روايته بحقائب تلاميذ المدارس فأسماها مدينة الشعر , كذلك حفلات شاى هنا وهناك , فالناس هنا يحتفون بكل قادم للعمل بغض النظر عن نوع المهنة التى يؤديها .. فى يوم الخميس سهرت مع (( أم كلثوم )) وهى تغنى بالمسرح القومى بأم درمان عبر الراديو , هذه ليلتى وحلم حياتى ... بين ماضٍ من الزمان وآت , الهوى أنت كله والأمانى , فأملأ الكأس بالغرام وهات , بعد حين يبدل الحب دارا والعصافير تهجر الأوكارا وديار كانت قديماً ديارا , سترانا كما نراها غفارا ... إذن الشاعر مثلى يخشى تسرب الأيام من بين أيدينا كتسرب الماء من بين أصابع الأيدى , وهاجس الزمن يلحُّ علّى إلحاحاً شديداً بأن أستعجل الزواج من فوزيه , إذ كيف يحتضن الأنسان الفراغ واللاشئ .. وتلك الرقيقة فى متناول اليد ... كأنى بها تردد مع أم كلثوم ... سوف تلهو بنا الحياة وتسخر .. فتعال أحبك الآن أكثر .
* * * *
إنهمكت بكل حواسى فى عملى كقاضى , لا سيما وعدد القضاء فى الأبيض لاشئ قياساً بالكم الهائل من القضايا , ومن خلال عملى طبقت منهجى الذى أومن به فى الحياة ... السماح والستر والرأفه , وكنت فى الماضى أتعجب من المقوله المشهورة :
: " Laws are made to be broken (
وسرعان ما شاع إسلوبى فى الأحكام , فإذا بكل المحامين يتمنون ان تنظر القضايا التى يترافعون فيها بواسطتى , لكننى فى الوقت ذاته ما كنت لأفرط فى حقوق متخاصم لصالح آخر عندما تتعلق الحقوق بالافراد ولم اكن ألق بالاً لحقوق الدولة المنصوص عليها ضمناً فى القوانين فى حالة تعارضها مع الظروف الانسانية وقد ساعدنى كبير القضاء فى زيادة حصيلتى من المعرفة والتجارب واكتشفت أنه موسوعة متحركة فى مجال القوانين , واطلاعاته الواسعة على خصائص المجتمعات بالسودان سواء بالريف او الحضر برغم معاناته كثيراً من الامراض ( كالسكرى ) فهو بالكاد يشرب الشاى بدون سكر ولا يأكل اللحوم بحجة انها تزيد من آلام ( القاوت ) وأشياء مثل الكولسترول فى الدم .. هل هى ثقافة جديدة وفدت الينا ام مصائب حلت بنا .. فانا لوحدثت الوالدة عن مثل هذه الاوهام لضحكت حتى وقعت على قفاها .. المرحوم كمال قال إن أحد أقاربه مريض بالسكرى وعندما فحص حالته آخر مرة وجد عنده ( سبعة صلايب ) .. غادة كانت حاضرة فسألته بتهكم ليه اصلو كنيسة القديس ( جرجى زيدان ) ؟! .. كمال رد عليها بسخرية لاذعة .. جورجى زيدان يا متخلفه , هل توجد كنيسة بهذا الاسم , جورجى زيدان هذا كاتب مصرى يا آنسه , يوم داك فى الرحلة عندما سألوك عن كاتبة عربية تعجبين بها .. قلت احسان عبد القدوس .. الحقيقة لا وقت لديك للثقافة وانت تبعزقين المرتب الشهري بين محلات ( الجوهرة ) وكوافير مدام ريرى ...
غادة لم تستسلم وردت عليه بجملة من الاسئلة .. انت تفهم شنو فى الكنائس والاناجيل وإلا اتحداك ان تقرأ لى آيه واحدة من التوراة أو الإنجيل .. كمال تلغثم وأُسقط فى يده , وواصلت غادة ضغطها عليه واخرجت جنيهاً من حقيبتها وتحدته قائلة : هذا الجنيه عشانك اذا قرأت آية الكرسى .. وانتهت الجولة لصالح غادة وهمهم كمال بكلام غير مفهوم وهو يغادرنا , ما معناه ان وجوده بهذه المصلحة لا يشرفه فى شئ ...

عبدالغني خلف الله
31-12-2010, 01:37 PM
عفواً .. زار الشاعر المعروف ..الشاعر الجميل نزار قباني ..مدينة الأبيض منتصف الستينات وفوجيء بمعظم شباب المدينة وهم يحفظون قصائده وأشعاره ويطلبون منه قراءتها عليهم من علي منصة المسرح بعناوينها فأطلق عليها عبارة ( عروس الرمال ومدينة الشعر والشعراء) ..لذا لزم التنويه مع الشكر .

عبدالغني خلف الله
01-01-2011, 08:58 AM
الحلقة الرابعة والثلاثون
خرجت من المحكمة لاجد مظروفاً بحجم المخدة موضوعاً على درج مكتبى ومن الوهلة الأولى بدأ وكأنه مرسل من خارج السودان ولعله كان على عنوان المصلحة وهاهو يرسل الى عنوانى بالابيض فضضته بحب إستطلاع وتوجس وكانت فرحتى كبيرة إذ كان الخطاب من زميلى بالجامعه نجم الدين عثمان وقد ارسله من السعوديه , وقد حكى لى كيف انه تزوج من سامية بعد التخرج مباشرة وان والدها المسئول الكبير بالجيش قد اوجد له عملاً بإحدى الشركات بمدينة جدة وهو قد صار محل ثقة كبيرة بالنسبة لصاحب الشركة وكان سعودياً شهماً جم التواضع كما وصفه لى واوضح لى كيف انه تمكن من اقناعه بتعيين مستشار قانونى للشركة ولم يكن ليجد أفضل منى لهذا المنصب , وكان عملياً جداً اذ ارسل لى مع المظروف عقد عمل براتب شهرى لا بأس به وامتيازات اخرى ترضى تطلعاتى على الاقل فى هذه المرحلة , ووجدت فى هذا العرض الذى هبط علىَ من السماء فرصة فى الزواج من فوزية , ومن ثمَ اصطحابها معى وطفلتها عفراء والخروج بهما من دوامة المضايقات التى يحاصرهم بها اعمام عفراء وقعت على العقد بالموافقة وأعدته بخطاب رقيق أشكر فيه صديقى اللدود نجم الدين الكارثه , وابتدرت الخطاب بعدد من الاقوال المأثورة رداً على صفحة كاملة من الحكم والاقوال جاءت فى صدر رسالته , وكانت هناك فقرة فى العقد تشير الى سريانه بمجرد توقيعى عليه مع مهلة اسبوعين لاستلام العمل ...
كانت مفاجأة حقيقية للجميع خاصة مولانا بشرى ودكتور ضمرة والذين كانوا يحتفلون بحضورى للابيض فى حفلات وداع صغيره وغير مرتبة , وعندما وصلت الخرطوم ودخلت على الحاجة الوالدة بدت وكأنها فى حلم .. اخذتنى بحنان الام الرؤوم الذى لا تشوبه شائبة وأغرقت وجهى بالدموع وشعرت ساعتها اننى مهما اشتاق لهذه الرائعة فلن يكون اكثر من ارهاص أمام عاصفة من المحبة ...
* * * *
هل سأصبر حتى الغد لاذهب الى فوزية ؟ لا داعى للتمثيل يا وهبة وحتى لو أن الساعة هى الثامنة مساء فأنت فى مهمة تاريخية بالنسبة لك تؤكد فيها عزمك على الزواج من فوزية وتحدد المواعيد حتى تكون وهى بجده فى الموعد الذى ينص عليه عقد العمل ,كان سرورها عظيما وجلست امامى كحمامة بيضاء وفى حجرها تكومت عفراء كقطة سيامية ولعلها ادركت بحسها الطفولى ان هذ الغريب الذى قطع (( نومتها )) يمثل الكثير بالنسبة للماما , لعلها فوجئت بالوتيرة التى تتسارع بها الامور .. زواج ؟ فى اسبوع ؟ وسفر للسعودية مع عفراء .. وبالرغم من عظم المسئولية الجديدة لم تنس ان تخبرنى وهى تزفنى حتى الباب بأن السيد مصطفى زوج غادة يرقد طريح الفراش فى حالة صعبة وهو أقرب للمشلول , وتعود قصة مرضه الى ابنته فاطمة التى حينما عادت من شهر العسل المطول مع زوجها , فوجئت بغادة وهى تحتل مكان والدتها , فدار بينهما نقاش حاد اتهمت فيه فاطمة غادة بأنها انتهازية .. وانها وانها .... ثم اشتبكت معها بالايدى فى معركة هائلة كانت الغلبة فيها لفاطمة , ومنيت غادة المسكينة بـ ( علقة ) رهيبة .. وعندما عاد السيد مصطفى من مشوار له خارج المنزل , وجد غادة فى حالة يرثى لها , وقد انبثقت الدماء من وجهها الذى مزقته فاطمة بأظافرها فلم تتمالك أعصابه المفاجأة خاصة بعد أن علم ان المتسبب هو أبنته فاطمة ودخل فى ( كوما ) طويلة افاق منها وهو فى حالة مزرية من الضعف والإنكسار وخيبة ألامل ....
* * * *

ربيحة الرفاعي
01-01-2011, 05:28 PM
طقس شتائي وتجمع أسري
وسماء منهلة
وحلقات بديعة متوالية بتسارع

وبالكاد نتمكن من المتابعة أمام هذا التسارع
لكننا نحرص عليه

عبدالغني خلف الله
02-01-2011, 10:48 AM
أسعد كثيراً بأن أكون بينكم وكل الأعضاء الأعزاء والزوار الكرام ..هذامع ثابت وفائي وولائي لكم .

عبدالغني خلف الله
02-01-2011, 10:49 AM
الحلقة الأخيرة
هل سأقصر فى الواجب ...؟ إن زيارتك لمنزل السيد مصطفى واجب تمليه عليك اسس العرفه والملح والملاح ... حتى أن فوزية هى التى إقترحت عليك ذلك .. كنت اطمئن نفسى حتى اجد المسوق الاخلاقى فى زيارة غادة على هامش معاودة زوجها .. هل فى هذا شئ ؟ أم انه الجرح القديم الذى يأبى أن يندمل حتى مع وجود الرائعة فوزية والتجربة والتعقل الذى ران عليك وانت تؤدى وظيفتك كقاضى ...
كانت عيناها وهى تستقبلنى عند الباب تقولان لي( اهو أنت كدا يا وهبة )... لا تنسانى ولا تترك لى الفرصة لنسيانك ولكنك كالعهد بك تظهر فى وقت الشدة ثم تذوب فى بحر الحياة العريض فلا نعرف لك أثر ....
شكرنى السيد مصطفى على الزيارة وسألنى عن أسماء بعينها فى الابيض يمتون له بصلة قرابة وكانو من كبار التجار هناك ... وفى لطف شديد رجانى .. ان كان ذلك لا يأخذ من وقتى الكثير ان استقبل ( ماريا) ابنته العائده من المانيا بالمطار مساء نفس اليوم .. وان امهد لمرضه لديها .. وطبعاً وافقت على القيام بهذه المهمة , لقد جاءت فى الوقت المناسب خاصة بعد سفر شقيقها الى امريكا حيث يعمل , ولو انها فترة اجازة قصيرة تعود بعدها لمواصلة دراستها .. ولم أجد اى صعوبة فى التعرف عليها ضمن القادمين , وكنت قد تصورت انها سوف تنزل من سلم الطائرة وهى ترتدى ( جينز ) ممزق ومتسخ وتنتعل حذاء حتي الركبة وقميص كابويات كأى سائحة ولكننى سررت عندما وجدتها وقد جاءت بالثوب السودانى وباحتشام يفوق الخيال , وكأنها ملاك يهبط الى الارض , وجانب من القران الكريم بدا واضحاً من ( الهاندباق ) .. لعلها كانت تتلو كتاب الله اثناء ساعات الرحلة الطويلة من فرانكفورت حتى الخرطوم .. وهل بغير ذكر الله تطمئن القلوب ؟ !
عرفتها بنفسى واخذتها الى عربة والدها التى كانت بانتظارها مع السائق وهونت عليها مرض والدها , ولدى درج باب منزلهم تركتها وانا لا اكاد اواجه صفحة وجهها الذى يبرق مثل ( يراعة ) فى امسية خريفية ...
* * * *
سارت إجراءات سفرنا جنباً الى جنب مع اجراءات الزواج واجراءات اخرى ... هى قضية حضانة عفراء وكسبنا كل شئ .. كسبنا بمنطق الحاجة الماسة لدى عفراء لامها وهى فى هذه السن ... وكان عرساً خرافياً حضره الاهل من الجزيرة بخيلهم وخيلائهم .. ومرة اخرى والطائرة تستدير فوق الخرطوم باتجاه مدينة ( جده ) , اكتحلت عيناى برؤية تلك الربى الحبيبة الى نفسى اذ لربما يطول الغياب هذه المرة .

تمت بحمد الله

سامي عبد الكريم
03-01-2011, 07:53 PM
رواية بديعة أحببت موضوعها وتداعيات الحدث بواقعيتها وملامستها الأكيدة لقضايانا اليومية

أنت روائي رائع أستاذنا الكبير

جزاك الله خيرا

عبدالغني خلف الله
06-01-2011, 05:47 PM
شكراً لوجودك بالقرب مني طوال هه الرحلة الواقعية التي شكلت مجتمع الستينات بالسودان .. وقد نُظمت العديد من الندوات حولها ..وقد لخص الناقد الكبير عزالدين مرغني دراسته النقدية في إحدي أمسيات الخرطوم بهذه الكلمات :
(إذا كانت رواية عمارة بعقوبيان تمثل فمة الإبداع في السرد فإن رواية تمزق نمثل قمة الإبداع في متعة الإطلاع ..) ورأيك هذا أعتز به كثيراً لأنه تماهي مع رؤية ذلك الناقد الضخم .هذا مع تحياتي .