تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بوّابات الكهف



كاملة بدارنه
27-11-2010, 05:29 PM
بوّابات الكهف






تجشّأ الضجيج، فاحتوى كلّ تلابيب الصّمت والهدوء. لم أعد أطيق هرطقاته ومن يشاركونه تخمتها. غشيني التّعب، فهربت إلى إحدى التّلال الخضراء الهادئة.


أسير مستحمّا بصابون الهدوء المعطّر بأطايب شذا الطبيعة، ومغتسلا بحبيبات النّدى التي سالت خيوطا لؤلؤيّة.


نظرت مستمتعا ومتنعّما، واذا بي تشنّف أذنيّ نغمات سحرية، انبثقت من أحد الأماكن.


جذبتني ذبذبات الصّوت صوب مصدره... فتحة واسعة وسط التّلة اليانعة النّديّة.


تراءت لي عن بعد، خيالات أشباح تقيم طقسا احتفاليا، وكأن أتباع "أنانا" لا يزالون مقيمين في المكان، محتفلين بوفرة الأمطار...


تابعت المسير حتى بلغت الخيالات التي أصبحت أمام ناظريّ أجسادا . لم يأبهوا بي، اخترقت صفوفهم دون أن يعترضوني، ووجدتني داخل كهف كَثُرَ حرّاسه. لم يكن كهفا اعتياديا. تسلّلت الأنوار عبر دهاليزه مغرية، وجاذبة القادم إليه باتّباع خيوطها. هالني أنّ كومة من العظام والجماجم قابعة في إحدى الزّوايا، فحضرتني صورة أهل الكهف، وملئت منهم رعبا...


بقيت واجما وازددت هلعا عندما ردّد المكان صدى أصوات بشريّة خلتها أرواح مَن قد رقدوا هنا...


لحظات وساد الصّمت، أغرتني الأضواء التي ازداد وهجها بالتّوغل داخل الكهف. وعجبا ما رأيت... أبوابا موصدة كأنّها بوّابات مدن في باطن الأرض. تجرّأت وفتحت أولاها، وإذا بها تواري خلفها أناسا مختلفي الأعمار والهيئات والأجناس ، فأيقنت أنّ ما سمعته، قد انبثق من هنا. لم يرحّبوا بي. علا زعيقهم ثمّ خفت، وانطفأ... كلّمتهم علّني أجد من يفهمني. ران الصّمت لحظات ثم نطق أحدهم صارخا:


نحن المظلومون على هذه الأرض... نحن الذين ألقى بنا أباطرتها على قارعات الطّرق، وكنّا من المنسيين؛ إلّا ما نقشه حبرهم عنّا زورا، على أوراق ملفّات الكذب التي يختزنونها في أدراجهم المتعفنّة؛ ليخرجوها وقتما يشاؤون، لغايات في أنفسهم...


نحن من هدّمت ديارنا، واقتلعت خيامنا، وشرّدت أحلامنا وحياتنا...


يذبحوننا ويكرمون علينا بفتات موائدهم الجشعة، مُتبعين كرمهم منًّا وأذى. فإذا كنت ممّن ألحقوك بنا، فهاك مكانك...


لم أستطع أن أنبس ببنت شفة. تراجعت ووجهي لا يفارق وجوههم، وخرجت وغمامة مشاعري تشوّش عليّ خطوي...


توسّدت الحائط لدقائق مغمض العينين، والضّجيج يشوّشني . فتحت عينيّ فرأيت قبالتي بوّابة، حثّني الفضول على استرداد قواي والتّوجه نحوها؛ عسى أن يكون خلفها مَن هُم أحسن حالا...


جازفت وفتحت البوّابة، فلم أرَ أحدا... تنفست الصّعداء، وقلت سأجلس هنا لأستريح قليلا من عناء ما صادفت.


فجأة، بدأت زمر الأطفال تتوافد نحوي من سرادقات عدّة، وكأنّي بهم يدعونني للدّخول. خطوت خطوتين لمجالستهم؛ إلّا أنّهم استوقفوني، وأردفتهم نساء تباينت أعمارهن، فوقفت وسط بحر متلاطم من الإشعاعات المنبعثة من عيون لم أدرك كُنهَ نظراتها...


تثاقلت رجلاي وخفت أن أقع أرضا؛ لولا تداركتني إحدى النساء، ودعتني لأفترش التّراب... لم أبادر في الكلام خوفا وإرهاقا، فصاحوا بي هم جميعهم:


نحن ضحاياكم أيّها الرّجال... حروبكم التي تتباهون ببطولاتكم فيها، نحن نتحمل أوزارها... أنتم تحاربون وتقتلون وتُقتلون، ونبقى أيتاما وأرامل، نتلقى شفقة الصّدقة، وصدقة الشّفقة؛ لترطيب جفاف العيش الماديّ والرّوحي الذي نحياه...


لا تقتصر بطولاتكم على حروبكم، بل تتعدّاها لتكونوا أبطال القسوة والظلم؛ لكثرة ما أصبحتم تؤمنون بأبغض الحلال، وتتركوننا وأولادنا، نتأرجح بكراسي القضاة كي ينصفونا... حتّى العاشقين منكم لم ينصفوا العشيقات اللواتي وعدوهن بالزّواج. ولما قضوا منّا أوطارهم، تركونا في مهب عواصف الذلّ والقهر، نعيش متحسّرات، ولدموع النّدم والخيبة والتّوبة ذارفات...


ما ذنب أطفال أصلابكم ليواجهوا صلابة صخرة الحياة دون لينِ حضنٍ أو مأوى؟!... ما ؟!....


لم أعد أسمع ...لسََعت الكلمات جلدي وكادت تحرق كلّ كياني؛ لولا بلسم الصّبر الذي مسحته به؛ كي أستطيع الإفلات من غيلان حنقهم وغضبهم...


بدأت بالزّحف حتّى تمكّنت من الخروج، وعصيّ صراخهم تجلدني، وتزيدني رهقا...


ظللت مادّا رجليّ، غير قادر على النّهوض، وتمنّيت أن أغفو لحظات كي تغسل ذاكرتي هذه الشّوائب التي علقت بها، فأخذتني سنة من النّوم؛ لأستفيق بعدها باحثا عن سبيل للخلاص من هذا المكان... لكنّ طمع فضولي أوصلني إلى بوّابة أخرى، مختلفة الحجم والّلون...


تراقصت أفكاري طربا، بعد وجبات الغمّ التي تذوقتها؛ علّها تفوز بما هو أفضل...


لم أدرِ لمَ وجدتني أستأذن في الدّخول هذه المرّة. انتظرت حتى سمعت من يدعوني للدّخول، انبسطت أسارير وجهي بعد تقطيبها المضني، ودخلت...


بيضُ العمائم وسودُها يتداولون فيما بينهم، ويجلسون في إحدى الزّوايا... ذوو العباءات في هرج ومرج، وكأنّ أمرا عظيما يشغلهم، يلوّحون بعكازاتهم، ويبدون غير راضين عمّا تجود به ألسِنة بعضهم.


ألقيت التّحية، فردّوها بأحسن منها، ودعوني للجلوس. غمرني شعور الاطمئنان؛ كَوْني ضيفا دعيت للإكرام...


بادرني أحدهم بالسّؤال:


من أنت؟ وما خطبك؟!


أنا من بلاد الضّجيج والضّجّاجين. أبحث عن السّكينة التي بتّ شغفا بإيجادها... فهل لي بالإرشاد والنّصح، من أصحاب العقول النيّرات التي تغطّيها عمائم الوعظ والمعرفة ؟...


ضحك حتى بدت نواجذه، فاشتعلت وجنتاي خجلا، إلّا أنّه حاول إطفاء اللّهيب بكلماته.


لاعليك بني. سأروي لك ظمأ روحك الباحثة عن جرة السّكينة لتكرع ماءها.


ما تبحث عنه لن تستطيع إيجاده تحت عمائم العارفين كما تعتقد، بل داخل رأسك الحاسر!... فتّش عمّا تبحث عنه داخلك، تجده... فإن أنت عشت السّلام الدّاخليّ، والهدوء عقلا وروحا، فقد فزت وتحقّقت رغبتك. أما إذا لم تُصغِ لهواتفك الدّاخلية التي تدعوك إلى المصالحة مع ذاتك وذوات الآخرين، فأنت خاسر!...


أنت جئت هاربا من ضجيج الآخرين، باحثا عن الرّاحة، لكنّ الضجيج الذي تعايشة، ولدتهُ نفسك التي أجهضت صمتها مكرهة، لتلد لك الضّجيج الذي تبغي، وتدّعي أنك تمقته. أنصحك باسترجاع وإحياء ما أُجهض!


اعترتني الدّهشة بعد تخلصي من الخجل الذي كابدت، وسألته عن حاله وعمّن يجالسهم؛ لأنّي وجدت فيه الفيسلوف الذي تربّع على عرش حضارة الذّات ومكنوناتها.


"نحن مجموعة الحكماء، والعلماء، والمتكلّمين، والموحّدين. لقد كنّا الواعظين والمبلّغين، والمرشدين... فسمعتنا الجموع البشريّة مدّعية إعجابها، ومبدية توقها لتحقيق ما يسمع، وبعدها غرست الخناجر في بطون مبادئنا !


قرأنا على مسامعهم شرائع الرّحمن، وعصارات ذهن الحكماء والعلماء وغيرها.. فدوّنوها في مجلدات مزخرفة، عارضين إيّاها جداريّات يعتزّون بها، وصناديق فضيّة يتباهون بمحتواها، وساروا ويسيرون وفق شريعة الغاب!...


زوّدناهم بما يقدّس إنسانيتهم، ويجعلهم أفضل المخلوقات وأجملها كما خصّهم بارئهم، فجعلوا قيمتهم في الحضيض، ومسخوا جسومهم قرودا متطوّرة!... وكانوا فرحين بما أتاهم به الماسخون!... فخلطوا الحابل بالنّابل، ولم يعودوا يعرفون إلى من يلجأون، وما الذي يقدّسون. وها هم تائهون يشتكون، وفيما استحدثوه متخبطون.


لم نعد نحتمل عشوائيّات صنائعهم وما يحلمون، فغادرناهم وليفعلوا ما يريدون... إنّا ها هنا قاعدون، ولحالهم محزونون؛ لأنّنا نريد لمخزون ينابيع المعرفة الحقّ أن ينفجر، ويغمر ماؤه الأرض وما عليها...


عندما يشتدّ حزننا، يولّد غضبا، فينضخ بعضنا بعضا بقطرات المعرفة، فتقوى وتتدفّق سيولا، وتجلب الضّجيج الذي سمعت وقت الوصول..."


جذبني حديثه الذي طال رغم أنّ زفير الآهات زنّرني، ولم أشعر برغبة جارفة في الخروج مثلما شعرت قبلا.


عرض عليّ المكوث. لكنّ توقي لمعرفة ورؤية ما تبقى من أقسام الكهف حملني على الاستفسار، فأخبرني أنّني ضمن حدود البوّابة الثّالثة، وأنّ في الكهف ثماني بوابات. وفيما أنا منصت لكلامه، علا ضجيج المعرفة ثانية ، وانتشرت شظايا الغضب المفعم بالنّظريات والرّوحانيات وغيرها...


لتسقط بعد ذلك العمائم عن الرؤوس الغضبى. فأيقنت أنّ الحكمة تُغضب ذاتها إذا لم تجد من يسمعها، وأنّ الطّمأنينة إذا لم تجد المكان الملائم لتبسط جناحها، فإنّها تتحوّل زعيقا وغضبا !...


اندفعت خارجا والشّعور بالإرهاق يكاد يطرحني أرضا. صادفت في طريقي البوّابات الأخريات، ولم تكن بي رغبة في دخولها... هرولت إلى أن وصلت الفتحة التي منها ولجت، وإذا المحتفلون على حالهم لا يزالون... اخترقت صفوفهم، وولّيت هاربا من الغضب والغاضبين، والتّأنيب والمؤنّبين، لأجد نفسي في غابة الضّجيج والضجّاجين؛ مشفقا وباحثا عن جنين السّكينة في رحم ذاتي ...

رفعت زيتون
27-11-2010, 05:40 PM
كلمات الغضب والغاضبين والضجيج والضجاجين
ذكرتني بقصة كانت في مقرر أحد صفوف مدارس القدس
ربما لا علاقة لها بهذه القصة ولكن فقط تذكرتها من خلال كلماتك
كانت تتحدث عن حلاق ثرثار وكان ذات يوم يروي قصة إحدى معارك الروس مع اليابانيين
وهو يرسم خارطة المعركة في رأس الزبون فخرج الزبون مغاضبا يصيح
وقد لعن السياسة والسياسيين والروس واليابانيين والناس أجمعين

شكرا أن قرأتُ لك هذا النص الرائع لغة وفكرة
وشكرا أن جعلتني اتذكر أيام المدرسة
.

مجدي محمود جعفر
28-11-2010, 08:55 PM
هذا النص الجميل يمكن أن ندرجه تحت مُسمى ( القصة المقالية ) إذا جازت هذه التسمية، وفية يمزج الكاتب بين تقنية القصة وتقنية المقال، وهذا النص أخذ من المقال لغته المباشره ومن القصة بعدها الحكائي، ويقدم في النهاية العظة أو الحكمة، نص جميل قدم بسلاسة ويسر قضية مُشكل .

كاملة بدارنه
29-11-2010, 01:27 PM
هنيئا لك تذكّر أيام المدرسة فهي من أجمل الأيّام !
شكرا لمرورك ...
تقديري وتحيّتي

كاملة بدارنه
30-11-2010, 10:11 AM
شكرا لمرورك أخ مجدي محمود ، لكن اسمح لي أن أخالفك الرّأي بالنسبة للون الأدبي للقصّة .
لا أعتقد أنّ فيها من عناصر المقالة حتّى وإن كثر فيها السّرد المعلوماتي .
في القصّة رحلة بحث عن الذّات ... وأترك للقارئ حريّة الخوض ...
تقديري واحترامي

آمال المصري
30-11-2010, 08:35 PM
ولوج داخل الذات أرهقني السير معك أستاذة كاملة وشق عليَّ التجول في رحلتك الرائعة ورغم ذلك كنت سعيدة جداً بأسلوبك الحذاقي المسلاق ...تقديري الكبير ... وكل عام وأنت بألف خير

كاملة بدارنه
01-12-2010, 12:12 PM
أهلا بعودتك وإطلالتك البهيّة عزيزتي الأخت رنيم ، وأرجو أن يدثّر الخير كلّ أيّامك ...
شكرا لمرورك ولكلماتك التي أعشق فصاحتها .
تقديري وتحيّتي

ربيحة الرفاعي
08-12-2012, 11:39 PM
فأيقنت أنّ الحكمة تُغضب ذاتها إذا لم تجد من يسمعها، وأنّ الطّمأنينة إذا لم تجد المكان الملائم لتبسط جناحها، فإنّها تتحوّل زعيقا وغضبا !...
نص جميل اللغة مباشر الطرح قصيّ القالب، حمل من الفكر الاجتماعي التوجيهي والحس الإنساني ما جعل المشاهد أخاذة مشوقة

سرني أن عثرت على هذه التحفة الأدبية تحت ركام الصفحات

أهلا بك غاليتي في واحتك

تحاياي

خليل حلاوجي
09-12-2012, 07:04 PM
الحدث كان مغلفاً بالترميز المكثف ... مما جعل الحوار ينطلق إلى آفاق بعيدة تسحب ذهن المتلقي إلى عوالم الكهف ..

وهنا :
يبدو الأمر شائكاً مابين إطالة تحمل ذائقة [ السيرة الاجتماعية ] وتشتت الخاطرة على لسان أبطال القصة !!

/

النص : يظهر بجلاء إبداع كاتبه وهو يستفز وعي القارئ .

بوركتم جميعاً .

براءة الجودي
09-12-2012, 08:41 PM
واااااااااو كاملة , قصتك تحكي أحوال وقضايا تعيشها الأمة
حقيقة ذكرتني بقصة لي كتبتها وأنا بآخر سنة في المتوسطة تشبه ماقرأته هنا وكنت احب ان أدخل في خيالي الكهف لاأعلم لماذا ؟ ^_^
وعندما اشتركوا أهلي بالنت قبل سنوات نشرتها في موقع واحد فقط , واستحيتُ أن أنشرها في مواقع أدبية كبيرة كهذه
وهنا أجدك تحمسيني لأرى رأي الأعضاء فيها , عشت جو القصة شكرا لك ياغالية

كاملة بدارنه
12-12-2012, 07:52 PM
نص جميل اللغة مباشر الطرح قصيّ القالب، حمل من الفكر الاجتماعي التوجيهي والحس الإنساني ما جعل المشاهد أخاذة مشوقة

سرني أن عثرت على هذه التحفة الأدبية تحت ركام الصفحات

أهلا بك غاليتي في واحتك

تحاياي
وسرني هذا الوجود العطر لقراءة كلماتي عزيزتي الأخت ربيحة
شكرا لك وبارك الله فيك
تقديري وتحيّتي

لانا عبد الستار
21-12-2012, 11:36 PM
القصة رائعة مع أنها مباشرة جدا
وموضوعها غير عادي
أحب هذه القصص
أشكرك

نداء غريب صبري
29-01-2013, 04:12 PM
قصة رائعة يخدم طرحها المباشر هدفها النبيل
وتدور احداثها في العقل فقط

شكرا لك أستاذتي كاملة بدارنة

بوركت

كاملة بدارنه
01-02-2013, 12:47 AM
الحدث كان مغلفاً بالترميز المكثف ... مما جعل الحوار ينطلق إلى آفاق بعيدة تسحب ذهن المتلقي إلى عوالم الكهف ..

وهنا :
يبدو الأمر شائكاً مابين إطالة تحمل ذائقة [ السيرة الاجتماعية ] وتشتت الخاطرة على لسان أبطال القصة !!

/

النص : يظهر بجلاء إبداع كاتبه وهو يستفز وعي القارئ .

بوركتم جميعاً .
السّلام عليكم أستاذ خليل
شكرا لك على المرور الكريم ورأيك القيّم
بوركت
تقديري وتحيّتي

سامية الحربي
01-02-2013, 02:37 PM
لا أعرف لماذا أشعر بامتزاج ثلاث قصص : قصة أصحاب الكهف في بطل القصة وهروبه خوفًا على حقيقته التي امتلكها ويريد لها موطن يغرسها فيه و قصة الكونت دي مونت كريستو متمثلا في النسوة و الصبية في قصتك وقصة الخيميائي الذي سافر بحثُا عن أسطورته . أعتقد القصة تحمل أكثر من قراءة و تأويل شكراً جزيلاً على الحكمة القابعة في زواياها. تحياتي وتقديري.

محمد الشرادي
02-02-2013, 12:23 AM
[QUOTE=كاملة بدارنه;557923]

بوّابات الكهف






تجشّأ الضجيج، فاحتوى كلّ تلابيب الصّمت والهدوء. لم أعد أطيق هرطقاته ومن يشاركونه تخمتها. غشيني التّعب، فهربت إلى إحدى التّلال الخضراء الهادئة.


أسير مستحمّا بصابون الهدوء المعطّر بأطايب شذا الطبيعة، ومغتسلا بحبيبات النّدى التي سالت خيوطا لؤلؤيّة.


نظرت مستمتعا ومتنعّما، واذا بي تشنّف أذنيّ نغمات سحرية، انبثقت من أحد الأماكن.


جذبتني ذبذبات الصّوت صوب مصدره... فتحة واسعة وسط التّلة اليانعة النّديّة.


تراءت لي عن بعد، خيالات أشباح تقيم طقسا احتفاليا، وكأن أتباع "أنانا" لا يزالون مقيمين في المكان، محتفلين بوفرة الأمطار...


تابعت المسير حتى بلغت الخيالات التي أصبحت أمام ناظريّ أجسادا . لم يأبهوا بي، اخترقت صفوفهم دون أن يعترضوني، ووجدتني داخل كهف كَثُرَ حرّاسه. لم يكن كهفا اعتياديا. تسلّلت الأنوار عبر دهاليزه مغرية، وجاذبة القادم إليه باتّباع خيوطها. هالني أنّ كومة من العظام والجماجم قابعة في إحدى الزّوايا، فحضرتني صورة أهل الكهف، وملئت منهم رعبا...


بقيت واجما وازددت هلعا عندما ردّد المكان صدى أصوات بشريّة خلتها أرواح مَن قد رقدوا هنا...


لحظات وساد الصّمت، أغرتني الأضواء التي ازداد وهجها بالتّوغل داخل الكهف. وعجبا ما رأيت... أبوابا موصدة كأنّها بوّابات مدن في باطن الأرض. تجرّأت وفتحت أولاها، وإذا بها تواري خلفها أناسا مختلفي الأعمار والهيئات والأجناس ، فأيقنت أنّ ما سمعته، قد انبثق من هنا. لم يرحّبوا بي. علا زعيقهم ثمّ خفت، وانطفأ... كلّمتهم علّني أجد من يفهمني. ران الصّمت لحظات ثم نطق أحدهم صارخا:


نحن المظلومون على هذه الأرض... نحن الذين ألقى بنا أباطرتها على قارعات الطّرق، وكنّا من المنسيين؛ إلّا ما نقشه حبرهم عنّا زورا، على أوراق ملفّات الكذب التي يختزنونها في أدراجهم المتعفنّة؛ ليخرجوها وقتما يشاؤون، لغايات في أنفسهم...


نحن من هدّمت ديارنا، واقتلعت خيامنا، وشرّدت أحلامنا وحياتنا...


يذبحوننا ويكرمون علينا بفتات موائدهم الجشعة، مُتبعين كرمهم منًّا وأذى. فإذا كنت ممّن ألحقوك بنا، فهاك مكانك...


لم أستطع أن أنبس ببنت شفة. تراجعت ووجهي لا يفارق وجوههم، وخرجت وغمامة مشاعري تشوّش عليّ خطوي...


توسّدت الحائط لدقائق مغمض العينين، والضّجيج يشوّشني . فتحت عينيّ فرأيت قبالتي بوّابة، حثّني الفضول على استرداد قواي والتّوجه نحوها؛ عسى أن يكون خلفها مَن هُم أحسن حالا...


جازفت وفتحت البوّابة، فلم أرَ أحدا... تنفست الصّعداء، وقلت سأجلس هنا لأستريح قليلا من عناء ما صادفت.


فجأة، بدأت زمر الأطفال تتوافد نحوي من سرادقات عدّة، وكأنّي بهم يدعونني للدّخول. خطوت خطوتين لمجالستهم؛ إلّا أنّهم استوقفوني، وأردفتهم نساء تباينت أعمارهن، فوقفت وسط بحر متلاطم من الإشعاعات المنبعثة من عيون لم أدرك كُنهَ نظراتها...


تثاقلت رجلاي وخفت أن أقع أرضا؛ لولا تداركتني إحدى النساء، ودعتني لأفترش التّراب... لم أبادر في الكلام خوفا وإرهاقا، فصاحوا بي هم جميعهم:


نحن ضحاياكم أيّها الرّجال... حروبكم التي تتباهون ببطولاتكم فيها، نحن نتحمل أوزارها... أنتم تحاربون وتقتلون وتُقتلون، ونبقى أيتاما وأرامل، نتلقى شفقة الصّدقة، وصدقة الشّفقة؛ لترطيب جفاف العيش الماديّ والرّوحي الذي نحياه...


لا تقتصر بطولاتكم على حروبكم، بل تتعدّاها لتكونوا أبطال القسوة والظلم؛ لكثرة ما أصبحتم تؤمنون بأبغض الحلال، وتتركوننا وأولادنا، نتأرجح بكراسي القضاة كي ينصفونا... حتّى العاشقين منكم لم ينصفوا العشيقات اللواتي وعدوهن بالزّواج. ولما قضوا منّا أوطارهم، تركونا في مهب عواصف الذلّ والقهر، نعيش متحسّرات، ولدموع النّدم والخيبة والتّوبة ذارفات...


ما ذنب أطفال أصلابكم ليواجهوا صلابة صخرة الحياة دون لينِ حضنٍ أو مأوى؟!... ما ؟!....


لم أعد أسمع ...لسََعت الكلمات جلدي وكادت تحرق كلّ كياني؛ لولا بلسم الصّبر الذي مسحته به؛ كي أستطيع الإفلات من غيلان حنقهم وغضبهم...


بدأت بالزّحف حتّى تمكّنت من الخروج، وعصيّ صراخهم تجلدني، وتزيدني رهقا...


ظللت مادّا رجليّ، غير قادر على النّهوض، وتمنّيت أن أغفو لحظات كي تغسل ذاكرتي هذه الشّوائب التي علقت بها، فأخذتني سنة من النّوم؛ لأستفيق بعدها باحثا عن سبيل للخلاص من هذا المكان... لكنّ طمع فضولي أوصلني إلى بوّابة أخرى، مختلفة الحجم والّلون...


تراقصت أفكاري طربا، بعد وجبات الغمّ التي تذوقتها؛ علّها تفوز بما هو أفضل...


لم أدرِ لمَ وجدتني أستأذن في الدّخول هذه المرّة. انتظرت حتى سمعت من يدعوني للدّخول، انبسطت أسارير وجهي بعد تقطيبها المضني، ودخلت...


بيضُ العمائم وسودُها يتداولون فيما بينهم، ويجلسون في إحدى الزّوايا... ذوو العباءات في هرج ومرج، وكأنّ أمرا عظيما يشغلهم، يلوّحون بعكازاتهم، ويبدون غير راضين عمّا تجود به ألسِنة بعضهم.


ألقيت التّحية، فردّوها بأحسن منها، ودعوني للجلوس. غمرني شعور الاطمئنان؛ كَوْني ضيفا دعيت للإكرام...


بادرني أحدهم بالسّؤال:


من أنت؟ وما خطبك؟!


أنا من بلاد الضّجيج والضّجّاجين. أبحث عن السّكينة التي بتّ شغفا بإيجادها... فهل لي بالإرشاد والنّصح، من أصحاب العقول النيّرات التي تغطّيها عمائم الوعظ والمعرفة ؟...


ضحك حتى بدت نواجذه، فاشتعلت وجنتاي خجلا، إلّا أنّه حاول إطفاء اللّهيب بكلماته.


لاعليك بني. سأروي لك ظمأ روحك الباحثة عن جرة السّكينة لتكرع ماءها.


ما تبحث عنه لن تستطيع إيجاده تحت عمائم العارفين كما تعتقد، بل داخل رأسك الحاسر!... فتّش عمّا تبحث عنه داخلك، تجده... فإن أنت عشت السّلام الدّاخليّ، والهدوء عقلا وروحا، فقد فزت وتحقّقت رغبتك. أما إذا لم تُصغِ لهواتفك الدّاخلية التي تدعوك إلى المصالحة مع ذاتك وذوات الآخرين، فأنت خاسر!...


أنت جئت هاربا من ضجيج الآخرين، باحثا عن الرّاحة، لكنّ الضجيج الذي تعايشة، ولدتهُ نفسك التي أجهضت صمتها مكرهة، لتلد لك الضّجيج الذي تبغي، وتدّعي أنك تمقته. أنصحك باسترجاع وإحياء ما أُجهض!


اعترتني الدّهشة بعد تخلصي من الخجل الذي كابدت، وسألته عن حاله وعمّن يجالسهم؛ لأنّي وجدت فيه الفيسلوف الذي تربّع على عرش حضارة الذّات ومكنوناتها.


"نحن مجموعة الحكماء، والعلماء، والمتكلّمين، والموحّدين. لقد كنّا الواعظين والمبلّغين، والمرشدين... فسمعتنا الجموع البشريّة مدّعية إعجابها، ومبدية توقها لتحقيق ما يسمع، وبعدها غرست الخناجر في بطون مبادئنا !


قرأنا على مسامعهم شرائع الرّحمن، وعصارات ذهن الحكماء والعلماء وغيرها.. فدوّنوها في مجلدات مزخرفة، عارضين إيّاها جداريّات يعتزّون بها، وصناديق فضيّة يتباهون بمحتواها، وساروا ويسيرون وفق شريعة الغاب!...


زوّدناهم بما يقدّس إنسانيتهم، ويجعلهم أفضل المخلوقات وأجملها كما خصّهم بارئهم، فجعلوا قيمتهم في الحضيض، ومسخوا جسومهم قرودا متطوّرة!... وكانوا فرحين بما أتاهم به الماسخون!... فخلطوا الحابل بالنّابل، ولم يعودوا يعرفون إلى من يلجأون، وما الذي يقدّسون. وها هم تائهون يشتكون، وفيما استحدثوه متخبطون.


لم نعد نحتمل عشوائيّات صنائعهم وما يحلمون، فغادرناهم وليفعلوا ما يريدون... إنّا ها هنا قاعدون، ولحالهم محزونون؛ لأنّنا نريد لمخزون ينابيع المعرفة الحقّ أن ينفجر، ويغمر ماؤه الأرض وما عليها...


عندما يشتدّ حزننا، يولّد غضبا، فينضخ بعضنا بعضا بقطرات المعرفة، فتقوى وتتدفّق سيولا، وتجلب الضّجيج الذي سمعت وقت الوصول..."


جذبني حديثه الذي طال رغم أنّ زفير الآهات زنّرني، ولم أشعر برغبة جارفة في الخروج مثلما شعرت قبلا.


عرض عليّ المكوث. لكنّ توقي لمعرفة ورؤية ما تبقى من أقسام الكهف حملني على الاستفسار، فأخبرني أنّني ضمن حدود البوّابة الثّالثة، وأنّ في الكهف ثماني بوابات. وفيما أنا منصت لكلامه، علا ضجيج المعرفة ثانية ، وانتشرت شظايا الغضب المفعم بالنّظريات والرّوحانيات وغيرها...


لتسقط بعد ذلك العمائم عن الرؤوس الغضبى. فأيقنت أنّ الحكمة تُغضب ذاتها إذا لم تجد من يسمعها، وأنّ الطّمأنينة إذا لم تجد المكان الملائم لتبسط جناحها، فإنّها تتحوّل زعيقا وغضبا !...
[RIGHT][RIGHT][SIZE=5][FONT=Arial] اندفعت خارجا والشّعور بالإرهاق يكاد يطرحني أرضا. صادفت في طريقي البوّابات الأخريات، ولم تكن بي رغبة في دخولها... هرولت إلى أن وصلت الفتحة التي منها ولجت، وإذا المحتفلون على حالهم لا يزالون... اخترقت صفوفهم، وولّيت هاربا من الغضب والغاضبين، والتّأنيب والمؤنّبين، لأجد نفسي في غابة الضّجيج والضجّاجين؛ مشفقا وباحثا عن جنين السّكينة في رحم ذاتي ... [

أخت كاملة



استغلال جيد لأسطورة المغارة بكونها رمزا لحال البشر و محاولة الحقيقية أي النور من إضاءتها. و حفر واع بداخل ظلامها و محاولات إدخال النور إليها من اطرف عدة قصد تغيير حال الناس بها لكن كل المحاولات ذهبت أدراج الرياح امام قوم يتنكرون للمعرفة و الشرائع و يرفضون كل ضوء و يفضلون البقاء في ظلمة الجهل . اليأس من إصلاح امورهم دفع الآنزواء و اللجوء إلى الذات بحثا عن السكينة.
نص عالم اخت كاملة التعليق عليه يحتاج إلى كثير من الوقت.
تحياتي

محمد الشرادي
02-03-2013, 09:32 PM
هذه المساهمة كتبت من طرف الأخ نقوس المهدي، و قد قمت بنشرها هنا نيابة عنه.


بحكي جذاب مفعم بعجائبية السرد ينفتح نص " بوّابات الكهف " للأديبة كاملة بدرانة على هوامش الحياة الأكثر هشاشة، وبحمولة من التفاصيل الإنسانية الصغيرة في حدها الواهي بين الفقر والألم والعزلة والضياع والموت والاغتراب، وعبر رحلة محفوفة بالأسئلة والقلق الوجودي الأكثر إمعانا في غرائبيته بالرغم من أنها تبدو ظاهريا كالحلم في أعماق المجهول والاحتمال.. هذا ما يدفع البطل لاختراق آفاق الغيب والولوج للقبو بحثا عن السكينة المنشودة بعد ان ضجر من تفاهات وهدر الآدميين ولغطهم وضجيجهم، للهروب إلى عالم مغاير مليء بالهيولى وبالأشباح والمخلوقات الهلامية الأكثر غموضا وضجيجا ورعبا وتوثرا لكنه مفعم بالحكمة وبالأسئلة الفلسفية العميقة حول كنه الحياة وأسرارها، وبتوفر أكثر الحلول نجاعة لمستقبل العالم ومشاكله الممضة والغامضة

لابد من الاشارة الى حكاية شعبية تكون الفكرة الأساسية لهذا النص السردي الممتع والتي تتحدث عن أميرة أبيح لها ان تدخل كل غرف احد القصور ما خلا غرفة واحدة لكن الفضول يدفع بالأميرة إلى خرق المحظور. وكانت هذه المجازفة بداية لقلق وجودي لم يبرد الا بفتح تلك الغرفة ..

يتوفر هذا النص إضافة الى عمق التجربة وبراعة التصوير وسعة الخيال، على لغة أدبية شفيفة ومتينة، استطاعت أن تنقل الينا جانبا من جوانب الحياة بكل اضطراباتها في تتابع منطقي هائل.. وبعيدة عن التقريرية. ذلك ان الكتابة في جوهرها هي استعادة للواقع وإعادة إنتاجه في حضرة تعدد القراءات من شخص لاخر، والنص السردي الذي لا يهتم مبدعه باللغة والبيان هو لامحالة نص نصف ميت. والأديب الجيد والصانع الماهر هو ذلك المرء الذي لايكون راضيا على انجازاته، ويسعى دوما لاجتراح الأفضل منها.. وخلق لغته المتميزة وتقنيته الخاصة وأسلوبه المائز الذي يشكل فائض القيمة والرأسمال الأدبي والإبداعي على حد سواء.. لهذا نجحت القاصة في التوفيق بين سمو الشكل وبراعة المضامين وباللغة الأدبية الخالية من اية تقريرية ورتابة، أو توظيف عشوائي للأحداث

خلود محمد جمعة
10-09-2014, 09:35 AM
الضجيج مع الوحدة تدفع بنا للهروب الى كهف الذات علنا نجد الإجابات المعلقة
بعرض ذكي ومدهش طرحت الكاتبة المشكلة والحل
أشرعت الأبواب للأسئلة وفتحت مساحات للتأمل في الواقع ومواجهة الحقيقة المغيبة لنعرف ماهية أنفسنا و نرى الصورة الواضحة للأشياء بأبعادها المتعددة علنا نجد الأجابة في أنفسنا
بلغة بليغة وصور عميقة وسرد شائق وأسلوب مدهش أدخلتنا الأديبة الرائعة في كهف أنفسنا وكهف حاضرنا فخرجنا بقصة أخرى هي البحث عن الذات وفتح الأبواب المغلقة بمفاتيح العلم والمعرفة
شكراّ سيدتي على كل ما يتحفنا به حرفك
تقديري وكل المودة :nj: