تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شمس الليل



فتحي العابد
03-12-2010, 08:44 PM
بسم الله الرحمان الرحيم

شمس الليل

وحيدة فتاة من دمي ولحمي.. مات أبوها وانقطعت عن الدراسة، فهربت بلا وعي إلى إيطاليا..

إيطاليا التي يحلم بها العشرات مثلها، منحتها إقامة شرعية رغم أن وجودها فيها غير شرعي..

وبعد نفاد صبرها من كثرة الوعود، والحلم بالمستقبل المضيء.. جالت في مدينة بالارمو، بحثا عن عمل شريف يحفظ لها ماتبقى من كرامتها المهدورة.. حتى حفظت تلك الشوارع الفارعة كل تقاسيم وترانيم تلك الفتاة.. وهي تدندن عازفة دموعها إيقاع تلك التواشيح والمواويل الحزينة على أنغام الموسيقى العربية المترسخة في مخيلتها..

تراكم دينها ليصل الأمر حد المساومة على شرفها، هكذا فاجأها زوج أو عشيق المرأة التي أتت بها إلى إيطاليا، رغم أن هاته المرأة التي من بلدها هي من ضمنت لها استخراج أقامة مؤقتة أصبحت فيما بعد طويلة المدى.. وأسكنتها عندها.. فكم مرة سألت نفسها عن ماهية ذلك الرجل من بلدها أيضا، الذي لا وقت لدخوله كما لا يوجد وقت لخروجه.. ورائحة الكحول والمشاريب تملأ المكان.. وغالبا مايكون سكران.. لكن الآن لا يهم، لم يعد عندها فرق، الأمر الذي جعلها تتوسل العمل لكل من ترى فيه إمكانية مساعدتها..

وجد لها بعض الطيبون عملا ألا وهو الإعتناء بسيدة مسنة، وافاها الأجل بعد أسبوع من عملها لديها، حتى أنها لم تحصل حتى على أجرة ذلك الأسبوع.. وكلما أزدادت حدة المساومة كلما توسلت وتسولت كل البشر حتى الحشر طلبا لرزق حلال يكفيها، ويخول لها دفع المبلغ المهول لتلك المرأة مقابل إتيانها بها إلى إيطاليا، بعدما افتكت منها كل أوراق الثبوتية التي بحوزتها رهينة.. وإلا سقطت في الرذيلة..

وأخيرا حن عليها القدر لتجد عملا عند سيدة صاحبة سلسلة من المطاعم في بالارمو، مطلقة وأم لولد في العشرين من عمره مصابة بمرض غير معروف.. لتموت بعد أربعة أشهر، لتعود وحيدة لمواصلة رحلة الألف مصيبة ومصيبة..

إحتقنت كل دماء الكون في وجهها.. إزدحمت كل الكلمات على عتبة لسانها.. تجمع كل ظلام اليابسة في عينيها.. تشظت قواها.. وتشتت بصرها وبصيرتها.. وفاضت دموع يأسها الجبان.. حاصرها ذلك الرجل الحشرة.. استجدته فرصة أخيرة فلم تفلح في إقناعه.. فوجدت نفسها وفي لحظة الإصطدام الحاد بعد أن تعالت همسات التوسلات إليه حد الصراخ مستجدية فرصة أخيرة.. وجدت نفسها تهوي بين ذراعيه كحمامة مكسورة الجناحين ساقطة في فخ المصير، مستسلمة لعدم إمتلاكها خيارات أخرى..

هي خيرة، حنونة، لم تكن مثالا في الإستقامة.. ولكنها من تلك اللحظة أصبحت ذيلا في الدعارة.. مرددة المثل القائل: "باع دارو وكرا عند جارو"، أي من يتنازل عن أعز مايملك مرة يمكن له أن يتنازل مرات..

بدأ إسمها يلمع بين زوار الليل لجمالها وكثرة تزينها واختيار ثيابها الجذابة التي ترى على نور السيارات من بعيد.. فأطلق عليها إسم "شمس الليل".. بعد أن استسلمت إلى حياة الرذيلة..

تذكرت وأنا أطالع وأراقب تلك الفتاة الآتية من وراء البحار، وهذه الكنية الجديدة التي التصقت بها كالقرادة ـ اليراعة ـ تلك الحشرة التي قص علي عمي قصتها وأنا صغير حين سألته عن اسمها، وسبب ضوئها في ظلام الليل.. فأجابني بأن إسمها شمس الليل، تنير الطرقات للضالين..

ربما عمي لا يعرف حقيقة إسم تلك المخلوق العجيب فسمّاها شمس الليل.. أو ربما أحرجته بسؤالي وقتها عن سر نور تلك الكائنات الصغيرة، التي تصدر الضوء ليلا، ثم تنقطع، ثم تعيد اللمعان، وهكذا.. فأسكتني بذاك الجواب. ولو بحثت عن سبب هذا اللمعان الذي تصدره تلك المخلوقات وما الغرض منه؟ لما وجدت جوابا شافيا.. بل من الغريب أنه حتى العلماء مندهشين من ضوء اليراعة، لأن هناك عدة أمور لا يستطعون تفسيرها بالنسبة لهذا الضوء.. وأما عن الغرض من هذا الضوء في اليراعة، فمنهم من قال أن الفائدة منه هو مساعدة اليراعة على أيجاد الذكور.. وهذا تماما ماتفعله شمس الليل عندما تلبس تلك الألبسة الشبه عارية.. العاكسة لضوء السيارات، التي تمتاز بها هي وحدها من دون الأخريات مثلها.. الذي هو بمثابة إنذار للذكور الباحثة عن أنثى ليلا.. حتى تتعرف في الظلام على شمس الليل الواقفة على قارعة الطريق.. فلو وقفت مدة من الوقت لرأيت شمس الليل تظلم الطرقات للمهتدين.. وتنير الرصيف للغاوين.. أي هي تظهر ثم تختفي بمجرد أن تجد "زبونا".. ثم تعيد اللمعان بمجرد أن تطفأ لزبونها ماتبقى له من بصيرة، بعد أن يتركها تتمايل عائدة لممارسة بغائها الليلي..

سألت ذات مرة إن كانت خائفة من أن يعرفها أحد ويخبر ذويها بما أنها في مدينة يسكنها كثير من العرب؟ قالت: إن كان هناك من يعرفني.. فلن يقول شيئا.. لأننا في الهوا سوا.. هو يشتري وأنا أبيع..

سألت أحدهم يعرف تضاريس جسمها جيدا بعدما أكد لي أنها فتاة تساعد الناس، وأنه هو كذلك يحاول مساعدتها بإعطاها أكثر مما تطلب: لم تحاول تبرير عملك..؟ وتأخذ ما يمكنك من متعة الفتاة..؟ ولا أظنها متعة إنما هي خيبة، تتصرف بكل قذارة يمكن أن يفرضها وضع كهذا..

ألا تفكر بعد قضاء حاجتك أنك لست بأفضل من تلك العاهرة...؟ أنت قذر.. أنت تافه..

ألست أنت جزء من من ذلك كله..؟ ألم ترى فيها إحدى شخصياتك الغارقة في المستنقع.. التافهة..؟

ألم تشعر بفجأة الندم بعد عملك السيء ذلك..؟ ألم يكن ضميرك يوخزك..؟ لم تصرف المال الذي آتاك الله على متعة مؤقتة..؟

من العاهرة..؟ هل هي تلك الفتاة التي باعت جسدها..؟ أم أنت الذي جاء إلى مكان كهذا..؟ وأنثى كتلك..؟

نظر إلي، لكنه لم يكن قادرا على قراءة تلك التساؤلات..

عادت شمس الليل في عطلة قصيرة إلى بلدها بعدما أضحت متأرجحة بين القهر والتقهقر.. لكنها وسط أمواج الرذيلة، لم تنس جيرانها وأقاربها مغدقة عليهم المال، غير مكلفين أنفسهم عناء السؤال عن كثرة تلك الأموال التي تأتي بها.. ربما خوفا من جواب يصدمهم.. أو خشية من توقف تلك العطايا عند معرفة الحقيقة.. أو ربما هم فقط لا يهمهم الأمر مادامت بعيدة عنهم.. معتقدة هي أنها تقوم بما يمكن وصفه بغسيل الشرف.. تشعر من خلال تلك المساعدات بما يشبه المخدر للضمير.. وبقيت على هذا المنوال سنوات تقدم خطوة وتأخر أخرى.. بين التوبة والتطبع.. مرة توصلها نفسها اللوامة إلى اليقين، بأنها غارقة في وحل الرذيلة حد النخاع ولهذا يلزمها التطهر.. وتارة تقنع نفسها الأمارة أنه بغاء من أجل البقاء...

تسأل نفسها مرة ومرات عند محاولة تبرير صنيعها: ألم يغلق الشرف كل أبوابه بوجهها الشاحب من الوجعين: وجع الفجيعة في والدها، ووجع الغربة..؟ ألم يخذلها وطنها بكل مافيه ويتركها فريسة للضياع..؟ ألم يكتفي كل الشرفاء من حولها بدور المتفرج، وكأنها ممثلة على خشبة مسرح..؟ ألم تتوسل حد التسول عملا شريفا..؟ ألا يكفي الشمس والقمر وشوارع بالارمو التي خاطتها طولا وعرضا حتى حفظت كل آهاتها شهود عدل..؟ هل ستتخلى عنها دموعها عند ربها حين تسأل لماذا لم تسعى للرزق الحلال..؟ ألم تكن شاهدة عليها تلك الدموع التي خطت خارطة أحزانها على خدودها الذبلى، وكانت دليلها في كل طرق وحارات وأزقة ودكاكين الحلال..؟

ألا تشفع لها هذه وتلك وهؤلاء وأولائك وهم كثر..؟

وبعد تلاوة كل هذه التبريرات ظهر كل يوم، تخلد إلى النوم وكأنها أتمت صلاتها، لتصحو على ليل عهر جديد...

محمد الشحات محمد
04-12-2010, 02:54 AM
أعجبني هذا التراسل بين اسمها الذي أطلقه المبدع عليها ، و هو يحمل عدة معاني"وحيدة" ، و بين حشرة الليل "يراعة"

بدأ النص بهذا الاسم "وحيدة" كأحد التبريرات التي تتلوها على نفسها ظُهر كل يوم ، أو كأداة تنبيه لها أنها مهما تمنح الآخرين سواء المال أو الشرف ، فلن يحملُ عنها أحد من وزْرها شيئا

"شمسُ الليل" لقب لصورة مقلوبة تتضمن في اسمها المُكوّن من مضاف و مضاف إلية مدى التناقض ، و هذا التناقض هو المحور الرئيسي الذي ارتكزت عليه القصة ، ما بين فضيلة و رزيلة .. ، أو مابين التوسل للعمل الشريف و رفض الآخرين التعاون معها .. ، و حتى الرمز في موت السيدتين التي عملت عندهما بعد أسبوع ثم بعد أربعة أشهر يُوحي بأن الموت قائم لا محالة ، و كان يوجب عليها أن تتذكّر ، و خصوصاً أن سبب وفاة صاحبة العمل الثانية كانت لمرض غير معروف ، و كأن الجهل بنوع المرض هنا يؤكد كذلك عدم التشخيص السليم للقضايا ، أو ربما لسبب غير شريف كان ينبغي إغفاله

لفت نظري أن الكل لا يسأل عن مصدر الأموال لأسباب عديدة في النص ، و يقابلها كذلك حتى لوسألوا ، أو عرف سلوكها الأقارب ، فسيكون التصرف هو الصمت ، و ذلك لأنها تُمثل أحد طرفي التجارة كبائعة ، و الآخرون يمثلون الطرف الثاني "المُشتري" ..!
كما وُفق المبدع في تصوير أن "شمس الليل" تُطفئ من بقي في بعض من بصيرة حتى إذا ماتمّ لها ذلك تبحثُ عن ضحية أخرى ، أو زبون جديد
جميل كذلك هذا التناص بين مَن اعتاد البيع ، و بين مَنْ باع داره ثمّ فكّر في بيع دار جاره !

كذلك تشبيه هذا المتخفّي الذي لا يلتزم بموعد بأنه "السكران" ، و كأنه تناسى الموت ، و غفل عن كتاب الصلاة الموقوت

............

و بهذا المعنى الظاهر في القصة ، فإن أمثال هذه الشمس الليلية كثيرات ، و لكنّهنّ كالموتى مع الأحياء ، و ضمن المجندّات في الجيش الشيطاني الذي تمطّى في ظل غياب القدوة ، و انتشار السكّر ، و عدم الالتزام

كما أن الشرف -الذي باعته هذه "العاهرة" إلى المتواطئ المُشتري- يُمكن اعتباره رمزاً للأرض الواقعة بين يدي المغتصبين وسْط تصفيق المتواطئين الذين يكتفون بالصمت أو الشجب أو حتى تغافل الأسئلة ، و انتهاك حقوق الأجوبة و المواثيق

..............

تحية لك أخي/ فتحي العابد

لما أمتعتنا بهذه القصة المؤلمة ، و قلّبتَ علينا الجراح ،
و لأنك قمتَ إبداعاً بهذه المهمّة و أثرها في نفوسنا و أوعجت أوعجاعنا ، لذلك سأشكركَ كثيراً ، و إن كنتُ أرجو إعادة النظر في بعض مواضع اللغة التي تأثرت -ربما- بـ "شمس الليل" الكيبوردية


تقبل مروري ، و لك فائق الحب

آمال المصري
04-12-2010, 10:26 AM
وماذا ننتظر ممن فرت للغرب وحيدة دون معين
لن أبرئ وحيدة مما اقترفت من تفسخ خلقي
فعندنا في مصر مثل شهير يقول :( تجوع الحرة ولاتأكل بثديها )
تناولت أستاذي قضية شائكة لإحدى مشكلات شبابنا اليوم
وهي الفرار للخارج من أجل العمل , وجاء النص خاصاً بحواء فكانت الفكرة جديدة
سرد ماتع بأسلوب لابأس به
كنت أتمنى الاعتناء أكثر بالمفردة ومراجعة النص ليظهر في حلة أبهى
تقديري الكبير

فتحي العابد
05-12-2010, 08:41 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
شكرا أستاذ محمد شحات
لقد شخصت القصة تشخيصا أعجبني واخجلني
المؤلم ياأستاذ أمثالهن كثر أراهن في المحاكم وفي مراكز الشرطةن وهذا الواقع المزري والمحزن يتحمل وزره أولي الأمر فينا

فتحي العابد
05-12-2010, 08:45 PM
شكرا استاذة رنيم مصطفى
لو كنت هنا لغيرتي نظرتك لواقع العرب ولااقول لألتمستي لشمس الليل عذر لأنه لاعذر لها، ولكن لرأيت الواقع بأعين مختلفة، ومن زوايا عدة

سامية الحربي
07-01-2014, 09:29 PM
هي "شمس الليل" بجمالها الظاهر الذي تقتات عليه الحشرات. هي ضحية و مذنبة تستحق الشفقة و العتاب.زرت أحد البلدان العربية الفقيرة فرأيت جميلات يتراقصن في الشوارع على أنغام موسيقى صاخبة و حارسها هو والدها و أخوها يسترزق بهن, فعلمت لماذا أطت السماء و أقفرت الأرض, فعجلت برحلتي إلى تركيا ورأيت الحشمة والعفة هالات نور تتكاثر و الخنا محبوس في قناطير فعلمت لماذا فُتحت السموات و عمرت الأرض . قصة جميلة جدا بتوصيفها و تسليطها الضوء على واقع مرير. رزق الله نساء المسلمين ورجالهم العفة. تحياتي وتقديري.

فتحي العابد
08-01-2014, 11:24 AM
شكرا لك أيها الغصن
نعم تلك البلاد العربية التي زرتيها هي من بين تلك البلدان التي ترسل بناتها ليس للرقص وإنما لأشياء اكبر..
حفظ الله بنات ونساء المسلمين

كاملة بدارنه
10-01-2014, 07:27 PM
تدرّج نحو الرّذيلة حتّى الانغماس والالتصاق بها!
عرضت مشكلة خطيرة تواجه قليلي الحيلة في العيش الكريم، ولكن الدّولة التي تحترم مواطنيها لا تجعل الجوع ينهش شرفهم
سرد جاذب
بوركت
تقديري وتحيّتي

فتحي العابد
11-01-2014, 09:52 PM
شكرا أستاذة بدرانه
متى كانت دولنا تحترم مواطينها؟
تقودنا بالنار والحديد

ربيحة الرفاعي
28-01-2014, 06:41 PM
خاطئة وضحية
وحصاد متوقع لغرس الحنظل في أرض المرار
في مشهد ليس مستغربا رغم ثقله وبشاعته عالج الكاتب موضوعا هاما من قلب الواقع المعاش

دمت بخير

تحاياي

فتحي العابد
28-01-2014, 08:15 PM
شكرا أستاذة رابحة
المشهد درامي إلى حد التمثيل

ناديه محمد الجابي
28-01-2014, 08:58 PM
غرفت لنا من الواقع قصة حياة إحدى فتيات الليل وأمثالها كثيرات
ربما أرغمتها الظروف في البداية , ولكن يظل باب التوبة مفتوح لمن أراد
ولكنها استمرأت الكسب الحرام واستطابت تلك الحياة العفنة .
سبك جميل حمل فكرة موجعة بسرد شائق, وأداء قصي ماتع.

فتحي العابد
29-01-2014, 09:20 PM
شكرا أستاذة نادية
واقع للأسف أراه كل يوم

نداء غريب صبري
22-04-2014, 12:04 AM
قصة جميلة ومحزنة
ولكن من لا يتجنب الضياع يستحقه

شكرا لك أخي

بوركت