تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ساعات نقدية مع الادب الاسلامي/ تابع الحلقات "مميز جداَ"



رمضان عمر
24-05-2004, 08:26 PM
في الادب الاسلامي-ساعة مع شعراء الدعوة
ساعة مع الأدب الإسلامي
قد يحتاج منظرو الأدب الاسلامي الى وقفات جادة مع دلالة المصطلح ليقف على قدمين راسختين أمام طغيان الرفض العلماني المسيطر على أفق الثقافة الرسمية في العالمين الغربي والعربي.
ولا أقل من ايجاد ارضية تراثية خصبة تؤطر لهذا التصور وتحدد معالمه ، وترسخ جذوره ..وفق رؤية نقدية واضحة .. ولا أقصد هنا نوعا من التأصيل الفقهي ؛ فليس ذلك من مهمة حامل لواء الفن والثقافة .. وإن اعتمد في منطلقاته على ما اقره الشرع ؛ فيمتثل بما يرضي الإله ويعزف عن مخالفته.
ولعلي اجد من تمام العزم ان أضرب بجذور هذا البحث الى ساحة البعث الأول الذي شكل امكانية افتراضية لنشوء هذا المصطلح .. ولا اريدك ان تغيب عن مباشرة القصد ؛ فأقول اني سأنقلك الى واحة الاسلام الخالدة في عهدها الذهبي أمام مدرسة محمد بن عبد الله * صلى الله عليه وسلم- لا لأحدثك عن عظيم سيرته وجلال قدره ، وما أحوجني وإياك للتمتع بذلك ؛ بل لأسير معك في قراءة تسجيلية نقدية لمعالم النص الاسلامي المتشكل في دوحة الاسلام الأولى … راسما-بذلك- معالما كالشم الرواس في حركة الادب مهما زاغ بصر المؤرخ .. وكسرت ريشته.
ولا أظنك تجهل أعلام النص المقاتل في معارك الاعلام الفنية في تاريخ الدعوة الأُول : من أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة … ولا أظنك تجهل تاريخ المعارك النقائضية بين هؤلاء وقرنائهم من قريش : أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن الزبعري وضرار بن الخظاب … ولا أظنك تنكر –مهما شط بك الرفض – ان ثمة معركة أدبية حمي وطيسها بين الفئتين جعلت المتابع يقرأ من وراء السطور دلالات تتجاوز حدود التفريق الديني في نسبة المتخاصمين الى فئة الايمان أو الكفر .. بل لعل نوعا من الدراسة النقدية المميزة للنص الاسلامي في معسكر الفئة المؤمنة قد حُددت معالمه من خلال طبيعة النص المقال في هذه المعركة .
ولن ادعك واجما امام عبارات التنظير في رحلة الاستكشاف النوعية في وضع تصور نقدي شامل حول طبيعة النص الاسلامي في حلقات اسأل الله ان يعينني على اكمالها .. بل سأنقلك الى عالم النص لتنهل من معين حسان ما يروي ظمأك وتقر به بلابلك … وساطوف بك مع كعب … وقد أقف معك على نساء الاسلام ورواحة مؤتة.
ولعلك واجد فيَّ طول المقام مع حسان دون غيره ؛ فذلك لأن حسان اسهل الثلاثة نصا وأشملهم قولا وأقربهم الى تمثيل المرحلة التي نحتاج اليها لتكون جذرا عميقا لما نزعم وندعو
لقد حارب حسان المشركين بقلمه .. وحاربهم كعب بقلمه ولسانه .. ورضي الرسول عن كعب .. وقال فيه: انت تحسن صفة الحرب(( انظر الاغاني ، 16)وأنشده مرة فقال : "هذا أشد عليهم من وقع النبل" ورائعته التي قالها في الخندق ردا على ضرار بن الخطاب تقربه من منزلة وتجعل له مكانة في قلوبنا كنقاد، وفيها يقول:
وسائلة تسائل ما لقينا ولو شهدت راتنا صابرينا
غير ان في شعره ما ذكرت لك من غريب اللفظ وحوشيه؛ غرابة لا تنسجم مع ذوقنا العصري في القرن الواحد والعشرين ولك علي حق ان اثقل اذنيك ببعض غريبه فاعذر في الاقحام ، يقول مجيبا ابن الزبعرى يوم الخندق :
أبقى لنا حدث الحروب هدية من خير نحلة ربنا الوهاب
بيضاء مشرفة الذرة ومعاطنا حمى الجذوع غزيرة الأحلاب
كالوب يبذل جمها وحفيلها للجار وابن العم والمنتاب
ونزائما مثل السراح نما بها علف الشعير وجزة المقضاب

ولعلك تسائل عن سر هذا الاستشهاد بأبيات لا تمثل بحال من الأحوال صورة الأدب الذي أدعو إليه ولعلك ستقول : لا أجد فرقا بين هذه الابيات وأبيات أخرى لامرئ القيس أو لبيد أو عنترة إذا ما السر في هذا الاستشهاد ؟ أقول : إن الأدب بصفته الفنية هو أدب مهما كان قائله ولا ننكر على الأدباء أقوالهم من حيث الفن وقد نتشابه معهم بيد أننا سنختلف حينما تبدأ عملية التوظيف في معركة المساجلة الفكرية ومن هنا فأنني أدعوك لقراءة هذه الأبيات من قصيدة كعب ذاتها بعد أن تجاوزت هذا الاستهلال الذي شابه في رأيك شعراء الجاهلية :
ومواعظ من ربنا نهدي بها بلسان أزهر طيب الأثواب
عرضت علينا فاشتهينا ذكرها من بعد ما عرضت على الأحزاب
حكما يراها المجرمون بزعمهم ويفهمها ذووا الألباب
ألا ترى أنك ستوافقني الرأي بأن هذه الأبيات قد حسمت فرضية الجدل القائم بين طبيعة الشعر وماهيته وهذا ما أريد أن أصل بك إليه بأن الأدب الإسلامي يتمايز عن غيره في غاياته ومضامينه . ولأجل هذه الغايات يشجع شعراء الدعوة ويحضهم على قول الشعر فكان كعب قاسيا وسليطا على مشركي مكة ويهودي المدينة وله في اليهود أبيات جميلة أنقل لك منها أجاب به يهوديا في يوم خيبر :
قد علمت خيبر أني كعب وأنني متى تشب الحرب
ماض على الهول جريء صلب معي حسام كالعقيق عضب
لكن حسان بن ثابت كان أقذع منه هجاء لقريش وأشد منه إيلاما لدهاقنتها مما قدمه على صاحبه عند رسول الله عليه وسلم وجعله شاعر الدعوة الأول
كان حسان لسانا صارما في تصديه للمشركين كما قال عن نفسه
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الذلاء
يروى عنه صلى الله عليه وسلم فقال أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن ، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن ، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى وفيه ورد ما اشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهجهم فإنه سيعينك عليم روح القدس ( أنظر ، طبقات فحول الشعراء ص 217 ج1 ، الأغاني ج4 ص 143 ،145 )
حسان بن ثابت يمثل ظاهرة الأدب الإسلامي بكل خصائصها الفنية …………. ومضامينها المعرفية في صدق التعبير عن التجارب التي عاشتها الدعوة الإسلامية وفي صدق التعبير الفني الرائق في جلال العبارة ورقة التصوير وحسن التخلص ،؛ إذا فأدب الدعوة الإسلامية منوط بقيمتين لا انفصام بينهما قيمة تاريخية تصور واقع الدعوة وترسم معالم حياتها الفكرية وتبلور منهجها الثقافي وقيمة فنية أدبية تصوغ معالم النص المهذب في جلال العبارة ورقة التصوير .
ولعلي أستأذنك أخي القارئ في أن تسير معي وأسير بك في رحلة فنية تحليلية مع واحدة من قصائد حسان الشعرية نتفيأ ظلالها ونتعرف على معالم الإبداع فيها فنخلص إلى ما نريد من تحديد معالم النص الإسلامي القويم ( فنقيس من خلال ذلك ما أراده المبدعون في عصرنا من تصور حول مفهوم الأدب الإسلامي على ما أبده اولئك الفطاحل من نص تأسيسي لحركة أدبية ناشئة في مدرسة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه:
عفت ذات الأصابع فالجواء الى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر تعفِّيها الروامس والسماءُ
هذه المقدمة الطللية مع أبيات أخر مماثلات … هي بداية نصنا الذي اخترناه .…وضد قال حسان قصيدتة هذه قبيل فتح مكة .. وقد تناول النقاد هذه المقدمة بالنقد والتحليل وقالوا فيما قالوا : ما كان لحسان وقد اصبح مسلما ان يذكر الطلل ويمدح الخمر وبعضهم وشكك في أن يكون حسان قد قال هذه الأبيات بعد إسلامه ورأوا فيها ما يمكن أن يعود ألى النحل الذي أصاب قصائد حسان بعد إسلامه وبعضهم زعم أن هذا المقطع من قصيدته قد قاله حسان في جاهليته ثم بنى عليه همزيته التي نحن بصددها ، وبعضهم قال أن حسان قد انتهج في هذه القصيدة نهجا تقليديا في ما تعارف عليه العرب من سمت القصائد واستهلالها بالوقوف على الأطلال وبكاء الديار وأنا لا أريد أن أقحم نفسي في جلبة الأخذ والرد بيد أنني سأنقلك معي إلى صلب الموضوع لتقرأ في تؤدة من بديع حسان في فن الوصف وجمال التصوير ورقة المقارعة . وهل للمقارعة رقة ، نعم ، إذا كانت تلك المقارعة الواقعية تسند بنص استعلائي متفوق كنص حسان حين يقول :
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأسنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطراة تلطمهن بالخمر النساء
فأما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعين الله فيه من يشاء
ولا إخالك تنكر علينا هذا الاستمتاع بوضوح العبارة وقرب المأخذ والمباشرة في التعبير وإن بدا لك بإن النص الرائق هو النص المعمم أو المعمى على رأي الحداثيين فنحن نرى من خلال تصورنا للأدب الإسلامي أن الوضوح في غير ركاكة هو غاية مرجوة لتصل دلالات النص إلى الأذهان فتشنفها وكيف نطالب أنفسنا بتبجيل النص المعقد وهذا كتاب ربنا جلت صورته ورقت عبارته ويسره الله للذكر فهل من مدكر ، وقبل أن أودعك وتودعني أحب أن تقرأ معي هذه الأبيات التي تصور مشهد الدفاع عن أصحاب المنهج القويم وتقنن لفلسفة الانتماء فالشاعر لم يعد عبدا للعبارة كما كان في الجاهلية بل تحول إلى منافح من خلال الكلمة يسير كما تريده الدعوة أن يسير ولا يراوح مكانه إلى مزاجية يعبث بها فهو يحب ما يحب صاحب الدعوة ويكره ما يكره .
وقال الله قد أرسلت عبدا يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به وقومي صدقوه فقلتم ما نجيب وما نشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء
هجوتَ محمدا فأجبت عني وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء

د. سلطان الحريري
25-05-2004, 02:22 PM
أخي الحبيب رمضان عمر:
إن الحديث عن مصطلح الأدب الإسلامي من الأحاديث الشجية، ولذا بات لزاما علينا أن نعمقه في هذه الأيام ، ولعل واحتنا من المنابر التي تنادي بذلك، ولابد إذا من وقفة حقيقية على المستوى الفكري الذي ينعكس على حقل الأدب الذي لابد أن نكون فاعلين في صياغته، وسنجد ردود فعل سلبية ، ولكننا في المقابل سنجد استجابات خيرة، وإن كانت بطيئة حيية، سأتابع الموضوع، وسأكون من الفاعلين فيه إن شاء الله..
أشكرك أخي الحبيب على جميل طرحك..
ودمت مبدعا

رمضان عمر
25-05-2004, 09:49 PM
ساعة أخرى مع حسان بن ثابت
اجتمعت أقوال نقدة الشعر على تقديم حسان على أترابه الثلاثة من الانصار وقد ذكرت لك ذلك وبينته … فكان حسان يفضلهم .. في ثلاث : فهو شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر الرسول في الاسلام وشاعر اليمن بعد الفتح …
وعده الأصمعي من الفحول .. بيد أنه اشار الى قضية دعتنا الى افراد ساعة ثانية معه ؛ إنها قضية النحل ولين شعره في الاسلام كما يذكرون.. وقد علل الأصمعي هذه الظاهرة في شعر حسان بقوله :" الشعر نكد لا يقوى إلا في الشر ؛ فإذا دخل في الخير ضعف ولان.
ولك أيها القارئ الكريم ان تأخذ بهذا القدر من الاستدلال … وترضى بهذا التعليل وتسلم لهؤلاء العمالقة بمطلق الراي .. وتعفي ذهنك من مكابدة البحث
ولك ،ايضا، أ ن تنتظر فنسمعك في القرن الواحد والعشرين ما يخالف حدود ظنك ويتجاوز معالم معرفتك ؛ فما نراه في حسان بعد إسلامه غير ما يراه الأصمعي .. فهل لك أن تسير معنا إلى حيث نريد أن نصل بك ، فتسمع منا كما سمعت للأصمعي .
ولا أ ريد أ ن أعرض لما عرض له الأقدمون من شأن النحل -على شاعر الإسلام- فذلك أمر أرى فيه ما يرتئون وأقبل ما يقبلون,
أما أن حسان شاعر فحل فذلك أمر لا يتمارى فيه ناقد…. ولا يختلف فيه اثنان ، يقول عمرو بن العلاء :" حسان أشعر أهل المضر.. وقال الأصفهاني : " حسان فحل من فحول الشعراء.. وقد سمع النابغة الذبياني شعر حسان فقال له : إنك لشاعر.. وكذلك شهد الأعشى .
وأنت لو أتيت حسان من أي ناحية أردت لوجدته شاعراً… أجاد المدح والرثاء والوصف والهجاء.
ولئن قارنت بين حسان -وهو من المخضرمين - والحطيئة المخضرم ،ايضاً، قد تجد في الحطيئة جزالة اللفظ ، وفخامة العبارة ، بيد أنك لن تجد سماحة الطبع ورقة التصوير وأخلاقية الفن ؛ فأين الحطيئة الذي ينضح باللؤم وقذاعة اللسان من شاعر الحق وصوت المصطفى الاعلامي.
وما يعنيني- هنا - مناقشته يطال قضيتين لهما علاقة بشعر حسان الإسلامي ، وما يتبع ذلك من قضيتي " اللين والضعف" والتي اسميهما أنا خصائص أسلوبية توافق ما يدعو اليه منهج الاسلام .. ولعلك تنتظر مني توضيحا يليق بمقام البحث ويهيئ الذهن لعملية ابداعية في الفهم والاستقبال.
أقول ، لعل ما تقوله عن الجطيئة بانه كان تلميذا لزهير صاحب مدرسة الصنعة وهي مدرسة الفن الخالص في عرفنا ..( وهم أولئك الذين يعتقون الشعر ويثقفونه حتى يخرح الينا في ابهى حلة بعد عام كامل .. وهؤلاء وأمثالهم اقدر على حسن السبك والديباجة من شعراء النقائض والحروب المطبوعين على سجية المباشرة كما في قضية حسان)
… أقول ان الفن بوصفه فن يقتضي نوعا من الابداع المطبوع ولا يعقل ان تكون عملية الخلق الصناعي سمة تفرض نفسها على النص ،، فالنص المطبوع في عرفنا القادر على التشكل الفطري وفق الجاجات السريعة في أريحية عبقة هو الأقدر على ابراز حالات الصدق ودلالات الانفعال ومهارات الابداع ؛ ألا ترى انك تشعر بشيء من الغرابة وانت تتت بع نصا قضى فيه صاحبه ساعات من التحسين الشكلي ليخرج لك بشيء عرفه القدماء بالتعقيد اللفظي ….وتتهيج مشاعرك وتانس نفسك لندفق العواطف في شكلها العفوي السادر في ثوب الرصانة المطبوعة التي تريح النفس وتدفع بالنص الى عالم الاريحية في نص ساقه صاحبه في يسر ورقة دون ركاكة وحوشية
إن ما أخذه النقاد على شعر حسان شيء من هذا الذي ذكرته لك من سماحة الطبع، ورقة التصوير وكان القوم –ما زالوا –على صلة بجلافة الصحراء وصلافتها ؛ فظنوا الخير كله في الغريب الصعب .. ولو انك رجعت معي الى السر الجوهري في تفضيل عمر لزهير على غيره لعلمت ان الاسلام غير في طباع بعضهم ونشر بين اعلامهم معالم المنهج الجديد فكان وضوح العبارة والبعد عن الحوشي والغريب هو ديدن التنافس وموطن التفوق … يقول عمر معللا اعجابه بزهير: لأنه كان لا يعاظل ولا يفحش في القول ولا يذكر الرجل الا بما هو فيه
هذا هو المعيار النقدي الجديد الذي فرضه دين السماء على طباع القوم فهاجت به مشاعرهم ورضيت بذلك نفوسهم وسمحت دلالات النص عندهم
اذن حسان جزل في جاهليته وإسلامه ولا يعقل ان يكون الاسلام بعظمته ؛… الاسلام الذي جاء العرب بكتاب مبين .. فحارت به العقول ووجمت أمامه الطاقات .. لا يعقل ان يكون هذا النمط الكتابي الجديد الذي دعا دهاقنة القوم لوسمه بالسحر والكهانة وما ذلك الا لبليغ قوله وقوة تاثيره .. ولو نظرنا الى سمات النص القراني لرايناها تخالف القوم في معايرهم وسمتهم ؛ فقد مال النص القراني الى اليسر والوضوح وتمشى مع طبيعة النفس وسحية اللغة فابتعد عن الغريب فكان قريب الماخذ حلو الديباجة متدفق العاطفة قوي التاثير ، تنساب موسيقاه عذبة ، و تتعانق فيه الفواصل عناقا ينم عن اريحية تحلو وتعلو .. ولم يصدر عن القوم المجبولين على الغرابة الا اذعان واعلان لمنهج السهولة واليسر . فاليسر في عبقية التصوير، فن واللين في جمالية التصوير فن ولا حاجة للزعم ان كل سهل مشين وكل صعب رصين .
كان حسان في راينا من الصنف الثاني الذي رضيه القران ولعل حسان قد تأثر بهذا النص الالهي المنزل العظيم فاقتدى حيث اراد ، واقتفى المنهج الوسطي في التعبير
فانظر اليه في سماحة طبعه وحسن تخلصه؛ حين ينتقل بك من التشبيب الى ذكر الحبيب:
فدع الديار وذكر كل خريدة بيضاء انسة الحديث كعاب
واشكو الهموم الى الاله وما ترى من معشر متالبين غضاب
كيف يزعم زاعم ان وراء هذه الرقة وحسن التخلص لين وركاكة وانظر اليه وقد خضعت له عناق الكلم فقادها رضية حيث اشتهى الى موطن الضرب والصراع :
حتى اذا وردوا المدينة وارتجو ا قتل النبي ومغنم الاسلاب
وغدوا علينا قادرين بايدهم ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم وجنود ربك سيد الارباب
لعله من السهل ان يصل بك التقدير الى تحديد المشهد الذي صوره حسان من قصة الاحزاب وما حل بهم من عواصف وقلب القدور , ولعلي أراك هنا تحث الخطى لت قول بأن ما أوردته لك من السهل القريب المطبوع ولكنني اتحسس مواطن ذوقك فاجدك قد اكبرت هذا الطبع ورضيت من حسان بما أتى ولا أحسب انك ستقول كما قال الاصمعي أن حسان في هذه القصيدة قد خرج عن سماحة الشعر وجزالة اللفظ واحسب انك ستقول ما كان للاصمعي أن يزعم زعمه فها انا ذا ارى في هذا الشعر ما يشنف الاذن وينعش القلب ويقر العين
ارأيت كيف انني قدمت لك من حسن التعليل ما يثبت لك ان الامور لا تؤخذ كما أراد لها القوم
واختم بهذه الكلمات العبقة من شعر حسان في رثاء عمر الفاروق رضي الله عنهم أجمعين:
رؤوف على الادنى غليظ على العدا أخي ثقة في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله سريع إلى الخيرات غير قطوب
ولعلك تلمز هنا بطرف خفي؛ تريد أن تذكرني بتلك الآية العظيمة في حق محمد وأصحابه ( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ………)
ولعلك قائل أيضا بأن حسان تأثر بتلك الآية بيد أنني أقول لك أيضا ألا تلمح معي أن حسان قد تمثل منهج الفاروق في خاصيتيه العظيمتين: الصدق الفني والصدق الأخلاقي؛ فلم يمدح الفاروق الا بما هو فيه ولم يثقل نصه بأي حوشي أو غريب

د. سمير العمري
27-05-2004, 10:23 PM
زدنا أخي الكريم رمضان فهذا الحديث ذو شجون ويؤكد ما ندعو إليه من شحذ حد الحرف كما السيف سلاحاً ننتصر فيه لأمتنا لا يكون أحدهما على حساب الآخر.

ولعلي أجد أن ارتباطاً وثيقاً بين موضوعك هذا وموضوع أخي د. سلطان بخصوص دولة الشعر وتأثيره ودوره في الوجدان العربي.


تحياتي ومتابعتي
:os:

رمضان عمر
27-05-2004, 10:34 PM
لربما كانت حكاية الإبداع الفني للأدب الإسلامي التي بدأت تقرع آذان الموحدين في العصر الحديث، واحدة من التطورات الفكرية الممنهجة في أساليب الدعوة الجديدة .
ولا يستطيع عاقل أن يقلل من دور الأداء الفني المنوط بالداعية المبدع في نشر الدعوة والذود عن الفكر، إن امتلكت تلك الكلمات مصداقية وقدرة على التأثير ؛ وهذا ما كان يجب أن يلفت نظر العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ لما في ذلك من أهمية قصوى في عصر التواصلات الثقافية المرعبة.
وأكاد أسارع إلى إزالة اللبس وتحديد القصد لما أنا مشير إليه في هذا الصدد ،إذ أن مجال العمل الثقافي يعد نمطا رئيسا في فلسفة التربية الإسلامية التي تصبو إلى نشر الفكر الإسلامي، وجمل العامة والخاصة إلى ولوج عالم المعرقة الدينة، والاندماج بهذا الطرح الإسلامي المميز ؛ والكلمة المعبرة واحدة من أسباب الإقناع التي تقود إلى حقل المعرفة المنشود.
من هنا، فأن ثمة حاجة ملحة لوجود أدب إسلامي منافح عن الحق قادر على المواكبة والتميز .
نعم، نحن بحاجة إلى عملية تجريدية خالصة لنعبر-من خلالها- عالم الفن من بابه الواسع متبوئين مكانة مرموقة ضمن مساحة الفن العالمي الممكن .
وأكاد أزعم أن شيئا من تلك القدرات الفنية الخارقة في ميدان الإبداع الإسلامي الملتزم لم تجد لها موضعا موازيا لتلك الإمكانات الهائلة مع شعراء الجانب الآخر؛فإبداع ا لعاملين في الحقل الإسلامي –كما ونوعا –لم يزل ضمن دائرة التواضع.
ومن هنا ،فإن الضرورة الإلزامية ،تدفع باتجاه إفراز نوع من الأدب المقابل.
ومن هنا تأتي هذه الحلقات التي سأطوف من خلالها بين القديم والحديث علي استطيع ان اضع القارء الكريم على بداية الطريق في بناء تصور نقدي حول مفهوم الادب الايلامب التب اسال الله ان يعينني على اكمالها وان اكون اهلا لهذا العمل الكبير الشاق وارجو من اخواني ان لا يبحلوا علي بالنصح والمشاركة والله من وراء القصد وهو على كل شيء قدير

رمضان عمر
02-06-2004, 08:22 AM
:

قراءات في الأدب الفلسطيني المقاوم

رمضان عمر




الفصل الأول:

أعلم، مسبقاً، أن طَرْقَ موضوع الأدب المقاوِم، في زمن تداعت - فيه- الأكلَة على قصعتها، وسُيِّست مفاهيم النقد والأدب؛ لتنسجم مع تطورات "الواقعية السياسية العالمية"؛ مغامرة نقدية محمومة، ومسيرة شائكة عصية، تجدف عكس تيارات التجديد المزعومة؛ من شأنها أن تفتح أبواباً.. أراد لها قراصنة النقد الموجَّه أن تبقى موصدة.

وكنت أعلم، أيضاً، أن مزاجية النقد "الدبلوماسية" التي تشكلت عبر إمكانات نمطية هائلة، ستفرض نوعاً من الإلزام النصي المقروء؛ سواءٌ أكان ذلك في عالم الإيداع الفني أم في عالم النقد الأدبي الخالص؛ وستقلل من قدرات هذا النص الاختراقية.

ومن هنا، فإن مجرد التفكير في طرح هذا الموضوع - على الرغم من وضوح دلالاته، وشرف غاياته، وسلامة مساربه- يثير في النفس مكامن القلق، ويطرح عليها أسئلة ثقيلة، تلخصها عبارة فطرية قلقة: هل تستطيع ذلك؟…

ولا أنكر على النفس هذا التموج الذهني والقلق النفسي؛ فمعركة النقد حامية الوطيس، وقادة المحاور، شانها شأن سائر المعارك التاريخية الكبرى؛ خصوصاً، إذا كان الموضوع الجدلي في الخصومات النقدية سياسي الواجهة.

فالقضية النقدية التي نفرش لها بساط البحث، سياسية المعامع ، أيديولوجية المقاطع، ومهما حاول المعارضون سلخ التصورات الفكرية والسياسية والفلسفية عن النصوص الأدبية المخلوقة؛ فإن طبائع الإنتاج وحقائق الوجود تفرض نوعاً من الإلزام "السيو فكري" في دراسة النص الأدبي المكتوب، وتستدعي نوعاً من القراءات الظلالية حول خلفيات النص المبدع.

عندما يتناول أديب مرموق نصاً أدبياً… يخرج فيه عن هموم الجمع إلى قضايا الذات البحتة؛ فإن النقد المنصف لا ينكر على الأديب ذلك الفعل، بيد أن السؤال المتمرد الذي يقف للنص في آخر سطر يخرج به الكاتب من نصه، سينتصب شامخاً ليقول للكاتب: لماذا…. ؟

ومن هنا لم يستطع النقد الحديث في بدايات القرن المنصرم أن يتصور تلك المزاجية الشوقية؛ عندما غص شعر "شوقي" بمدح أقطاب العائلة الخيدوية الحاكمة بعشرات النصوص، ثم إذا ما جاءت قضية وطنية عليها إجماع شعبي واسع ليمر عليها مرور الكرام ويطرقها على عكس ما تشتهي الجماهير؛ فيقول في الزعيم العربي المشهور أحمد عرابي:

صغير في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يـا عرابي؟

نعم، قد يقول قائل: من حق شوقي أن يقول ما يريد، ويعبر عن آرائه الخاصة في الأحداث السياسية أو الاجتماعية أو الحياتية؛ بيد أن النقد لن يكون ساذجاً ليقبل بهذه البساطة, التعليل.

وكذلك، حين نتابع النصوص الدرويشية الأخيرة, منذ غزو لبنان حتى يومنا هذا؛ فإننا نلمح تمرداً جذرياً على التاريخ الدرويشي المشكل لقصيدة الشعر المقاوم في ذاكرة التاريخ الأدبي للشعر الفلسطيني المعاصر؛ فمنذ أن كتب درويش ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً"؛ داخلاً من خلاله في عملية بناء تجربة شعرية جديدة؛ تبلور الذات، وتؤرخ للسيرة، وتنسلخ من الطبيعة الشعرية المقاومة انسلاخاً يفصل بين عهدين؛ والنقد الفلسطيني يقف حائراً أمام جدليات النص المتغير؛ مما جعل النقاد ينظرون إلى تلك النصوص على أنها تطورات فنية لمجنون التراب المتيم بالوطن وكأنهم - بتوددهم ذلك للشاعر الكبير- يعلنون عن ضعف قدراتهم الاستقلالية، وعجز إرادتهم النقدية؛ لأن الشاعرية الدرويشية في نظرهم أكبر من أن تنالها أقلامهم المتواضعة، قهم لا يتناولون من النصوص الدرويشية إلا ما يرفع مصافهم أمام الكبراء ويرضي عنهم أصحاب السيادة والسلطان.

وقد عمق هذا التناول الدرويشي لموضوع الشعر الذاتي، وذلك التحول الجذري من الهم الجماعي إلى بناء شخصية المتنبي (لكن ليس في بلاط سيف الدولة بل من خلال عبق الشهداء وصفصاف الأرض)، الهوة بين النص الدرويشي في عصر القصائد الوطنية والنص الدرويشي المحدث في باحات مدرسة ما بعد الحداثة، لتصبح هالة التطور الجمالي في النص الإبداعي المكتوب آخر إيمان ثقافي تقر له بلابل درويش الشعرية؛ فكان سرير الغريبة بموضوعه العاطفي وخصوصياته الدرويشية ووحدة قصائده الموضوعية - بعد أن استقامت للشاعر لذة الاستقرار من خلال قصيدة الوطن والمقاومة- ليؤكد ذلك التحول الشمولي، ولا ننتظر كثيراً حتى يتأكد هذا الانطباع بصورته النهائية عندما ندخل في جدارية الموت وبناء الأنا الشاعرية من خلال النص الذي أراد له درويش أن يكون نصاً فوقياً مقدساً:

أنا الرسالةُ والرسولُ

أنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ

سأصير يوماً ما أريدُ. (1)

أنا لا ألوم درويش على هذه الانزوائية، ولا أنكر عليه ذلك الرونق الساحر الذي يجعلني أعاود الكرة بعد الكرة في كل نص درويشي جديد أقرأه فليس بيني وبين الرجل خلاف جمالي، بيد أنني لا أتوقع منه غير ذلك "حين يبحث لنفسه عن موقعية فنية، داخل الإبداع الذاتي". ولا تظللني الدهشة، أيضاً، حينما أتابع انهماكه في بناء سلطته الشعرية بعيداً عن النص المقاتل؛ فدرويش نفسه طالب الجمهور أن يعذره ويسمح له بهذا الانزلاق الذي يسعى إليه مستفيداً من "مسطبة الفعل المقاوم"، بيد أنني أنكر على النقاد اعتبار درويش رمزاً فريداً للشعر المقاوم وقراءة وحيدة لفلسطين التاريخ والحاضر.

فدرويش نفسه، أعلن عن نفسه أنه: "يتكلم شعراً ولا ينحدث عن عملية السلام، وشعره يسعى إلى الخروج عن دوره في تمثيل الجماعة شعرياً أو بالطريقة التقليدية؛لأنه - كما يزعم- في مرحلة ثقافية حساسة؛ لذلك فعلى المفردات أن تكون دقيقة". (2)

تلك المرحلة الثقافية الحساسة، التي لا تسمح للنقد أن يعطيها توصيفاً أبعد من دلالاتها الفردية على شخصية درويش الشاعر والإنسان، وليست أبداً وصفاً لثقافة درويش الرمز والمقاومة؛ ولا ثقافة فلسطين التاريخ والكيان؛ فدرويش بشاعريته العملاقة يمكن اعتباره رمزاً للهالة الشعرية الجمالية، بيد أنه - من حيث دلالة الشخصية على الفعل المقاوم- فرد من أفراد الأقلية في التعبير عن فلسفة الجمع بين واقعية الحل السلمي وجدلية الصراع المختزل في دلالة الواقع الفلسطيني المرير، هذا الخلط الساذج بين الشعرية العملاقة والانتمائية المحتملة هي التي جعلته يدلي بهذا الاعتراف الخطبر - دون أن يثير ذلك في أذهان ناقديه مواطن الاستغراب:

"وأنا أَعتَبِرُ نفسي وريثاً لكلّ هذه الثقافات، ولا أتضايق، البَتَّةَ، في التصريح بِوُجود جزءٍ يهوديّ فِيَّ. لا أستطيع أن أتَصَوَّر امتلاكاً حصرياً لهذه الأرض. أنا أَرُدُّ على الإسرائيليين الذين يَدّعون أنهم يمثلون امتداداً لِمَملكة إسرائيل بالقول بأني امتدادٌ للكنعانيين. لا أريد أن أقول إنني كنت هنا قَبلَهُم، أنا أقول فقط: أنا منتوجُ كلّ هذا وأَقْبَلُهُ وأضطلع به". (3)

رمضان عمر
03-06-2004, 09:29 AM
محمود درويش يريد لنفسه مقاسات ثقافية خاصة تناسب المرحلة وتسمح - له- ببناء هالته الشعرية من خلال متطلبات المرحلة، وهي مقاسات تخالف الأصول الدينية والقومية وحتى السياسية لجمهوره القارئ؛ فهو من الناحية الدينية أوغل في النص المسيحي، وتخفف من أثر الثقافة الإسلامية في شعره، بل عبث في غير موضع بقداسة الكلمات الدينية.

يقول: "لديَّ كُلُّ الأسباب التي تدفعني لاعتبار المسيح صديقاً شخصياً. إنّه ابنُ البلد، فهو من "الناصرة" في الجليل. ثمّ إن رِسَالَتَه بسيطةٌ جداً، رسالةُ السلام والعدالة. فهو في أَمثالِهِ (القصص القصيرة ذات المدلول الأخلاقي، والتي تَرِدُ بشكل أكبر في الأناجيل الأربعة), يتحدث كما لو كان شاعراً. فهو في حدّ ذاته حالةً شعرية: يريد تَدجين السجّان من خلال مُهَامَسَتِهِ، بل وحتى معانقته، فهو يُواجِهُ العنفَ بالرِقَّة. إنه صديقُ الضعفاء، والمحرومين، والمنعزلين. وهو في هذا رمزٌ للتسامُح ولِوَحْدة البشرية. وأخيراً، هو صورةُ المعاناة. وبما أنه كذلك، فهو يُلهِمُنَا ويمنحُنَا الشجاعة. لأنّ الشعب الفلسطينيَّ، اليومَ، هو الموضوعُ على الصليب بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي. لقد أصبحَ موتُ الفلسطينيّ مسألة غير مهمة مثلها مثل النشرة الجوية (الطقس)، وغزوُ أمريكا، التي وضعت نفسها فوق القانون، للعراق لم يعمل إلاّ على إضفاء القداسة على وضعية الاحتلال". (4)

وعن السبب الذي يجعل درويش يذكر المسيح أكثر مما يذكر النبيّ محمد (ص)، يقول: "لأني أُحِسُّ بأني أستطيع أن أتَحدَّثَ عن أحدهما بِحُرّيّة، بينما أَشْعُر كما لو أنَّه توجد رِقَابَةٌ مَا حين أتحدث عن الآخَر. وبما أنّه تمّ قبول الفصلُ بين الدينيّ والسياسيّ في المسيحية، فإنه يبدو سَهْلاً مُحَاوَرَةُ المسيح. لقد استطاع الفنّانون أن يُصوّروا المسيحَ أشقَرَ، أَسْمَر أو أسودَ، ولكني لا أستطيعُ أنْ أتَخَيَّل "محمداً" إلاّ عربيّاً". (5)

هذا التصور الديني الذي شكل جزءاً واسعاً من ثقافة درويش أثر على المساحة الثقافية الوطنية في قصائده المتأخرة؛ وخصوصاً، حينما غدت الساحة الفلسطينية رهينة التأثير المباشر للصحوة الإسلامية التي يختلف معها درويش، وتحولت -معها- مصطلحات الفعل البطولي السائد من الفعل الطروادي المذبوح "الضحية المطلقة" التي تغني بها درويش في أحمد الزعتر وماجد أبو شرار إلي جهادية الشكل الأصولي في بطولات يحي عياش وفتحي الشقاقي.

لا يستطيع درويش أن يتناول الفعل المقاوم بواجهته الإسلامية التي تقود معركة الوجود بين ترهات العهد القديم المزورة وحقائق الإسلام المزلزلة؛ وهو النقيض المباشر لهذه الصحوة؛ إذاً فإن كان الوطن يعني عبق الشهادة فلا مكان لدرويش في هذه المعادلة.

ومن هنا كان التناقض في الانتمائية الدرويشية لقصيدة المقاومة حين تعارضت تلك القصيدة مع بطولات الإسلاميين؛ فعزف عنها بطريقته الخاصة:

"أنتَ كشاعر فلسطينيّ، شَاهِدٌ على مأساة شعبِكَ وكذلك شاهد على الإيمان بالإنسانية. وكلمة "شَاهِد" هي المعنى الأول لكلمة "شَهِيد". والذين يقومون بعمليات – انتحارية- يُطْلَق عليهم أيضاً "شُهَدَاء". كيف يمكن أن نكون شهيداً ونتسبَّبَ في موت أشخاص أبرياء؟"

يجيبُ محمود درويش: "كذلك في القرآن، كلمة "شهيد" تعني أيضاً "شَاهِد". يوجد خلطٌ في تحديد العمليات الانتحارية. وهنا لا يتعلّق الأمرُ بـ"شهداء" ولكن بـ"انتحاريين" Kamikazes. وفي الحروب، يوجد انتحاريون kamikazes في كلّ الأطراف. إنّ كلمة "شهيد" كلمة مفتوحةٌ جداً. المسيحُ ومحمد الدُرّة والشعب العراقيّ الذي هَلَك تحت القنابل "الذكيّة" الأمريكية"، هم شهداء، لأنهم يَشْهَدون بإنسانيتهم في وجه الرُّعب والبربرية. الانتحاري Kamikaze، في نظري، هو من يمنح حياتَهُ من أجل قضية يعتقد أنها عادلةٌ. أنا أَدَنْتُ، ولم أَكُن الوحيدَ، العمليات الانتحارية kamikazes التي تَسْتَهْدِف مَدَنِيّين. الإسلاميون يَرُدّون بالقول: إنّ الإسرائيليين يقتلون هُم أيضاً مدنيين (فلسطينيين). وجوابي هو: ليس علينا أن نفعل مثلهم (الإسرائيليين)، لأننا إن فَعلْنَا مثلهم، فما هو الفرقُ بين الجلاّد والضحية؟". (6)

هذه الثقافة الفلسطينية التي لفعت عدداً من الشعراء اليسارين الذين عرفتهم الساحة الفلسطينية خلال عقود أربعة - شهدت غياباً شبه كلي لأصحاب الفكر الإسلامي عن دور النشر ومحافل الثقافة والأدب - وعرفتهم الأقلام النقدية على أنهم شعراء المقاومة ثم لما انقلبت الموازين وهبت موجة الفكر الإسلامي المعاصر لم يعد بوسعهم متابعة النهج الشعري "المقاوم" في ظل تحول الراية من يد اليسار الثقافي إلى أدبيات الفكر الإسلامي المجاهد.

ومن هنا لم يستطع درويش أن يتناول من صفحة الإبداع الاستشهادي غير محمد الدرة؛ لأن تناول عياش وطوالبة ورائد الكرمي وصلاح شحادة هدمٌ جريء للثقافة التغريبية التي آمن بها درويش في مدرسة التعايش مع (الإسرائيليين)!

حتى قصيدتا "محمد الدرة"، و "عابرون في كلام عابر" لم تكونا مصادر طمأنينة لدرويش بل كانتا هماً فرضته حاجة الجمهور المراقب، مما دعاه إلى الاعتذار عن الأولى والوعد بحذفها، والمراوغة السياسية في الحديث عن الثانية؛ يقول درويش:

"أنا متورط مع محمد الدرة، داخلياً، وليس بمعنى المطالبة الخارجية. يمكن أن نكون هناك إصغاء إلى مطالب خارجية. وهذا أمر موجود في لا وعيي، وفي وعي أي واحد فينا، لكن هذا الموضوع لا يشكل أسلوبية جديدة، ولن يغير مشروعي الشعري الذي أتابعه. فأنا أعرف ما لدي". (7)

رمضان عمر
04-06-2004, 01:12 PM
وقد يتصور القارئ أن قصائد درويش التي نتحدث عنها هي من النوع الثقيل الذي يقلق الاحتلال ويزلزل أركانه؛ ذلك وهم تبدده نظرة عاجلة إلى إحدى القصيدتين التي تمثل النمط الدرويشي في الشعر " المقاوم" أعني طروادية المشهد المأسوي الذي يتعاطف معه إنسانياً دون التدخل المباشر في إنشاء قصيدة الفعل المقاوم فهو هنا يتحدث عن المأساة دون تناول المشهد الإبداعي في ثورة الأقصى التي كان محمد أثراً من آثارها:

أيها المارون بين الكلمات العابره

منكم السيف - ومنا دمنا

منكم الفولاذ والنار - ومنا لحمنا

منكم دبابة أخرى - ومنا حجر

منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر

وعلينا ما عليكم من سماء وهواء

فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا

وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا

وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء..

وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء! (8)

وكذلك حين تناول في ديوانه الأخير (حالة حصار) - الصادر في إبريل 2002عن دار رياض الريس - موضوعاً قد ينظر إليه للوهلة الأولى على أنه عودة للشعر المقاوم وانعكاس لواقع الحياة الجمعية المؤلمة، لم يثلج صدور متابعيه إذ سرعان ما تبددت هذه الملاحظة حينما نكتشف أن محمود درويش محاصر بـ (الهالة) وليس محاصراً بـ (الحالة) وتلك حالة حصاره. فدرويش منذ وقت بعيد يسعى ليكون بعيداً عن القصيدة المناسباتية، والقصيدة الوطنية كما يطرحهما السائد الشعري، وقد حاصر نفسه بإيجاد المعادلة الفنية من أجل خلق النص الشعري "الحقيقي الذي لا يرسف بالقيد" - على حد تعبيره -، نص يُحلّق بجناح الشعر والفن دون أن يثقله الموضوع، أو يهبط به هبوطاً قسرياً.

رمضان عمر
12-06-2004, 11:01 AM
إذن درويش كتب أخيراً النص الذي يريده وتخلص من عقدة المطالبة الجماهرية واستراح لذاته عندما خلا ميدان الوطن من فرسان اليسار وأصبح المجد فيه لسواعد النص المجاهد مما جعله يعزف عن النقد السياسي عزوفاً يحمل في ثناياه كبرياء الواصلين واستغناء المتنفذين:

"فما لا يعنيني نوعان من النقد: النقد المدرسي الذي يبسط الدلالة ولا يميز بين صورة الشيء وطيفه، ويشرح القصيدة شرحاً بلاغياً مدرسياً، هنا استعارة وهنا كناية وهنا معنى وهنا مبنى.. إلخ. والنقد الثاني الذي لا يعنيني هو النقد السياسي المباشر الذي يفسر الأندلس بأنها مؤتمر مدريد، ويخلط بين غرناطة 1492 وأوسلو 1993". (9)

ومن خلال الرسالة التي أرادها درويش لنفسه كشاعر وصل إلى ما يصبو إليه وانتظر ساعة الحسم في قول النقد ما تشتهي أذنه أن تسمع؛ فهو فوق النقد عندما يكون النقد نقداً تنقيبياً والنقد ذراعه الأيمن حينما يخرج النقد ليقول: هذا هو درويش!!

أقول ليست لنا خلافات جوهرية مع النص الدرويشي الذي نحترمه ونقدره – على الرغم من أننا نجد أن لنا حقا في محاكمة النص الإنساني المبدع بغض النظر عن قائله؛ فكل يأخذ منه ويرد!

إذاً فالموضوع عندنا هو النص المكتوب بغض النظر عن كاتبه. لماذا طرق في هذه اللحظة الزمنية ولم يطرق في لحظات أخر؟ ولماذا كانت الذات عالية أمام ضجة الفعل السياسي؟ كيف يعقل أن تمر أقلام العمالقة الموهوبين على قضايا الأمة مروراً لا يسمح لها ولو بالتفاتة قصيرة!!

ولماذا كان الشعر الفلسطيني المقاوم هو العنوان الأوضح في المرحلة الثورية الاشتراكية بينما تصبح الذاتية الغامضة والرومانسية الجنوحة هي موضوعات الإبداع في عصر العولمة والانفراد السياسي للقطب الواحد.

ومن هنا، نستطيع أن نقول: إن موضوع الأدب المقاوم يعود ليطرح نفسه ثانية أمام إبداعات الأدباء المشهورين ممن يعيشون داخل الواقع السياسي المرير وينأون بكتاباتهم عن ملامسة هذا الواقع وإدلاء دلوهم فيه وهو كذلك يقف أمام تلك الدراسات النقدية التي استجابت لتطبيع النقد والأدب سياسياً.

على درويش
17-06-2004, 02:15 PM
بداية اشكر أخى الكريم على هذه الوجبة الثقافية الدسمة والتى ينبنى عليها ثقافة نقدية جيدة لشعراء المنتدى ولكن سؤالى الان أين هذا الدرويش فى تعبيره عن القضية الفلسطينية من الشاعر أحمد مطر
شكرا اخى الكريم

رمضان عمر
17-06-2004, 03:33 PM
لماذا لا يتناول النقد النص الدرويشي بكافة الدالات الممكنة في إطار التطورات الشعرية؟ لماذا تسلط الأضواء على الشعرية الدروشية المتألقة وتترك قضايا التحول المغولة لتصل إلى غاياتها المروعة خارج نطاق المراقبة النقدية.

أنا - كغيري- من الذين تابعوا النص الدرويشي من بداياته, وجدت كما وجد الآخرون تألق العبارة الشعرية واكتمال النمط المراد وانفراد النص الدرويشي بما يمكنه من دخول عالم التميز الجدير. هذا إذا كنا نتحدث عن الشكل الجمالي المجرد فانا يروقني درويش كما راقني من قبل دانتي وجوتيه وإقبال والمتنبي وامرؤ القيس والمعري, في قدرتهم على الصياغات الفريدة شكلاً مع التمايز في الدالات الفكرية والخلفيات الفلسفية لدى المتنافسين.

عندما أقرأ درويش وأقارن بين زمنين لا أستطيع أن أقف على مجرد التطور الفني في قصيدة ما بعد الحداثة؛ فمن الطبيعي أن تتطور التجربة الشعرية لدى شاعر اكتملت له أدوات النص الإبداعي بعد سنوات نافت على الأربعين.

كانت الحلقات المشكلة للتجربة الأولى في النصوص الدرويشية تؤكد حقيقة موضوعية واحدة هي أن لا ثقافة بدون مقاومة ولا مقاومة بدون ثقافة، وكانت القصيدة الدرويشية تبنى على فلسفة التحدي القائم على جدلية الإصرار والمواجهة: (10)

سنخرج من معسكرنا

ومنفانا

سنخرج من مخابئنا

ويشتمنا أعادينا

هلا … همج…. عرب

نعم عرب ولا نخجل. (11)

هذه الثورية القومية التي حولت الوطن سابقاً - عند درويش- إلى حالة ذهنية استقطبت كافة الرموز لتكون واجهة القصيدة الفلسطينية المتكررة، ويصبح الشعر المقاوم - من خلالها- نمطاً مميزاً للقصيدة الفلسطينية الفاعلة، وعلى نفس الوتيرة الصوتية كان يصرخ سميح القاسم:

ربما تطعم لحمي للكلاب

ربما تلقي على قريتنا

كابوس رغب

يا عدو الشمس

لكن لم أساوم

وإلى أخر نبض

في عروقي سأقاوم. (12)

نعم كان هناك نص مقاوم عند درويش وإيمان بالفعل المقاوم، أيضاً، إيمان يصل إلى حد الاعتقاد الراسخ الذي يعتبر الخروج على هذه الشاكلة الشعرية نوعاً من الخيانة المرفوضة.

يقول درويش في إحدى مقالاته: "إن رفض القتال العادل معناه رفض الحرية والتحرر" فهل قرر شعراء المقاومة أن السعي إلى الحرية والتحرر يستحق التنديد ورفض المقاومة المسلحة". (13)

عمر رمضان
24-11-2005, 01:54 PM
ساعة مع قصيدة التفعيلة

تمهيد.
حظي فن الشعر – لدى قدماء العرب- بمكانة رفيعة علية ، جعلت منه ديوانهم الأوحد، وسجلهم الأمجد ، ومعيارهم الحضاري الذي تقاس مقامات القبائل ؛ حتى ضربت من اجله القباب
، وتنافست على منازله الأعراب ، وعلقت روائعه في أقدس مكان عرفوه ، ونما فيهم نمو الابن المدلل الذي تراقبه العيون ، وترعاه القلوب ، وتسهر على راحته أم رءوم حنون، فقوي به العود ، واستوى به الزرع؛ لفرط حسن الرعاية ؛ حتى لازمته قداسة شكلية؛ فرضت على قصاده سننا لا انفكاك عن ملازمته، ولا مجال لمخالفته ، وقد سماه بعض أشياخ نقدة الشعر "عمود الشعر"؛ تشبيها له بعمود الخيمة التي لا تنتصب شامخة إلا به ، وقيدوه بالوزن، والقافية ، وفخامة اللفظ ، وحسن التخلص ، ودقة الوصف ، وجمال التشبيه. وكان لزوم منهجهم في بناء القصيدة فريضة على كل شاعر ؛ فبدؤوا بالأطلال فوقفوا عليها ، وأناخوا عند عرصاتها مطاياهم ، وذرفوا فوق فلفلها عبرات ذكرياتهم ، ثم رحلوا مع الناجيات القلاص ، واعتوروا الصحراء ، حيث الوحش ن والمها ، والوعل، والريم ، والشيح، والزعفران؛ فوصفوا ما ألمت به ذاكرة التسجيل من مفردات جادت بها البوادي القفار . وتوارث الخلف منهج السلف ، وحفظوا لهم تراثهم البديع، الذي رسموه بسماحة الفكر المطبوع المتأمل في فضاءات الجزيرة .
وقد علل النقاد سر ذلك التشكل الصارم لبنية القصيدة التقليدية – لدى القدماء- بجملة من المسببات ؛ لعل من أبرزها: التركيبة الجغرافية- المعيشية [1]، التي اعتمدت على مبدأ التنقل والترحال لطلب الكلأ والماء في قلب صحراء قاحلة ، والظروف الاجتماعية القبلية التي صاغت طبيعة العقل العربي؛ وقد اثر هذا العامل- عدم الاستقرار - في حياتهم سياسيا واجتماعيا ونفسيا وفكريا وفنيا ، وكان حظ بناء القصيدة من هذا التأثير وافيا جليا .
أما النظام القبلي- الاجتماعي- فهو نتيجة حتمية لحاجة القوم إلى الوحدة في مجابهة قسوة الطبيعة .. والصمود في معركتهم المصيرية ( البقاء أو الفناء ) ، وهذا النظام الصارم فرض منهجية في التعامل الفني مع التركيبة الشعرية للنص؛ فكان الوقوف على الطلل ، وبكاء الديار، ووصف الرحلة والبيداء، وكل ما له علاقة بهذا المجتمع الصحراوي ، وكان المدح الذي اعتبر أس الموضوعات الشعرية ، والرثاء الذي عكس مرارة العيش في ظل الثارات المتكررة في تاريخ العرب ؛ كل ذلك لا ينفصل عن منهج القوم في التفكير ؛ يقول الدكتور محمد غنيمي هلال:
" كان الشاعر الجاهلي – لأنه من قوم ألفوا الرحلات والأسفار والانتقال من دار إلى دار – يتخيل انه في رحلته إلى الممدوح وغيره رأى رسوم منازل الأحباب ، بعد نزوحهم عنها ، فتهيج أشواقه ، وتثير أطلالها بقايا الحب في نفسه ؛ فيقف على الآثار باكيا ومسلما ومتسائلا، ثم يصف ما حظي في عهد الصبا من مدح أو فخر أو غيرهما [2]".
وكذا- أيضا -وجد فن الغزل تسلية للنفس ولازمه في كثير من الأحيان فن الفروسية شحذا للهمة ، فهذا عنترة العبسي يُذكر في المعمعان عندما تشعر القبيلة بحاجتها للطاقة الدفاعية والقوة البشرية ، أما هو فيذكر الحب بين خفق القنا وطعن البنود ؛ ليتشكل المشهد من خلال تينك النظرتين ؛ ألا تراه فوق صهوة جواده يبعث ورقة اعتراف وشهادة نجاح إذ يقول:
هلا سالت القوم يا بنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى واعف عند المغنم
ولا يختلف عن عنترة أترابه من فحول المعلقات ؛ فهذا امرؤ القيس يقترب من بيت عنترة :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
فجاوزت أحراسا إليها ومعشرا علي حراصا لو يسرون مقتلي
نعم اختلطت الفروسية بالعشق وانسجم كل ذلك مع حاجة القوم لأدوات المجابهة في معركتهم مع الصحراء ، فإذا ما جاء الموت ، وعبروا بالرثاء إلى عالم المجهول رايتهم صرعى يتخبطون ، ويهيمون على وجوههم :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تترك يعمر فيهرم
الناقة حاضرة هنا في نسيج متكامل يرسم مشهد الاستدعاء في معركة البقاء .
واذا كنا قد لامسنا شيئا من التفسير المنطقي لطبيعة البنية الشكلية للقصيدة العمودية ، فان الحديث عن الموضوعات الشعرية ، والأساليب الإبداعية في بناء القصيدة لن يبتعد كثيرا عن المسبب الأساسي فيما ذهبنا إليه ؛ وهنا نستطيع أن نقول : إن سر الغنائية في الشعر العربي والبعد عن الفلسفة والتحليل والرمزية والعقلية ينسجم- أيضا- مع طبيعة التشكل العقلي والنفسي للعرب ؛ حيث جاءت القيم التعبيرية واضحة صريحة ؛ تخدم الهدف العام من بناء القصيدة؛ فبناء القصيدة لم يكن أبدا ترفا فكريا، بل سلاحا معنويا يتقدم على كثير من أسلحة القوم المادية ، وقد فهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - هذه الدلالة في طبيعة القوم فاستخدمها نصرة للدعوة ، وحث حسان قائلا: اهجهم وروح القدس معك.
أما انعدام الوحدة الموضوعية في بناء القصيدة القديمة فذلك أمر يبرره وجود تلك الوحدة النفسية ، أو حدة الصراع ، وهي وحدة فكرية تنسجم مع طبيعة القوم ، وتخدم الهدف العام من بناء القصيدة .
وإذا كنا قد اعترفنا بان الطبيعة الفنية للقصيدة الجاهلية تنسجم مع التركيبة الجغرافية والاجتماعية والعقلية للعرب فن أي تطور في حياتهم سيحدث نوعا من التغيير في بنية القصيدة الشعرية.
وهذا هو الذي حدث بالفعل ، عندما انعتق العرب من قمقم البداوة وفتحت لهم الأرض وأناخت تحت أقدامهم كل الحضارات ؛ فبدأت معركة من نوع آخر معركة فنية خالصة ، بين الحديث والقديم بين الأصالة والتجديد ، انتصر في نهايتها التيار الحضري ، وبقي منهج القدماء تراثا لا ينقاس عليه، ولن نطيل في هذا لمقاوم لان الذي نريده غير هذا الطارئ الشكلي الخفيف في مثل قول أبي نواس
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
فالخمر التي أرادها آن تحل مكان الدمن لن تؤسس لمنهج فني في بناء القصيدة ؛ غير أنها تنبئ عن حاجة فنية تنسجم مع علاقة الشعر بواقع التجديد ، وهناك أمثلة لا تحصى تناولها النقاد في قضايا التجديد ، سواء أكان ذلك في الشكل أم في المضمون، ونحن لن نقف عندها لننتقل إلى العصر الحديث ، حيث موضوعنا الأساسي" وقفة مع شعر التفعيلة".
الحداثة والتجديد
عنوان الحداثة هو التطور والتغيير ، غير آن هذا التطور لا يمكن آن يكون واحدا في أذهان من يعترفون به ؛ ففهم المفكر الإسلامي للتطور قد لا ينسجم بالضرورة مع ما فهمه هيجل وماركس وانجلز من مفكري الغرب ؛ فبعض الحداثيين- في الغرب – ربط التطور بالطبيعة آو التركيب البشري، والبعض الأخر أهمه الجانب الإنساني الاجتماعي أو الفكري العقلي ، ومن هنا فقد مرت المدارس الأدبية – كما يرى هيجل – بنوع من الانسجام مع طبيعة الشعوب التي ظهرت فيها؛ كالرمزية في الشرق والكلاسيكية لدى الرومان واليونانيين ، والرومانسية في انجلترا [3].
والشعر مهما اختلفت مواقع تشكله فان نسقا عاما يجمعه ، وسمات محددة تفرق بينه وبين النثر ، حتى لدى الأوروبيين حيث اختلاف المنبع والثقافة؛ يقول هيجل:
" إن التمثل الشعري للعالم يختلف عن التمثل النثري، فقد نكون أمام نثر شعري أي نثر فيه ملامح التمثل الشعري ن لكننا لا نكون أمام تمثل شعري حقيقي ما لم يكن للشعر أدواته ، ووسائله الخاصة : كالقافية ، والإيقاع ، والوزن ن والميلودي ، والهارموني . لكن أي استخدام خاطئ لأي أداة من الأدوات الشعرية ، يجعل منافسة النثر يتفوق عليه ، وكي لا يضيع الشعر في ثنايا النثر المنظوم آو النثر الشعري آو النثر العادي ؛ عليه ان يتحاشى كل غاية غريبة عن الفن ن وعن المتعة الفنية [4]".
وارتباط الحداثة بالتغيير والتطور يسقط ارتباطها بالجمال ؛ فلا علاقة بين الحداثة والجمال ، ولا علاقة- أيضا – بينها وبين العظمة أو القوة ، فقد يكون نتاج الحداثة جميلا أو قبيحا . وبهذا المقياس ليس من الضروري أن نقبل بالمعادلة المغلوطة في اعتبار المحافظة قبح والتجديد جمال ؛ حتى الغرب أنفسهم الذين لا تربطهم بالأصالة روابط جمة ؛ فسرعان ما يستجيبون لكل جديد وينخلعون منه للذي هو أجَّد؛ لا يعترفون بمطلق التميز للحديث ؛ فهناك حشد ضخم من كبار شعراء الغرب دعوا إلى الواقعية في الشعر والبعد عن التعقيد وحاربوا الإفراط في الحداثة ، منهم : روبنسون جيفرز ، ووبيتر فريك ، ودونالد ديف [5] .
وفي هذا يقول روبنسون جيفرز :الشعر في المستقبل سينبذ الاتجاهات المسيطرة في الشعر المعاصر ، وسيضع الشاعر نصب عينيه أن " رامبو" كان شابا ذا عبقرية فائقة مثلا ولكن نحبه تقليديا.......إنني اعتقد أن شاعرنا سيترك جانبا هذا الادعاء العلمي ، وسيهجر ضروب البلاغة ، وسيحطم هذا الغموض الذي يسيطر على الشعر الحديث ، وسيكون شعره طبيعيا ، لا تكلف فيه ، يعبر عما يريد دون التواء وانحراف أو لجوء إلى زخرف لفظي ، وسيكون من أهدافه أن يعبر عن روح العصر [6]"
أما بيتر فيرك أستاذ التاريخ في إحدى الجامعات الأمريكية يقول :
" في هذا العصر المضطرب القلق لم يبق لنا من تراثنا السياسي آو الفني يمكن طرحه ، أرى أن الثقافة المعاصرة لا يحفظها سوى التمسك بالقديم ، وطرح هذه الاتجاهات الحديثة المبهمة جانبا [7]"
نعم المعركة بين القديم والحديث موجودة في كل عصر وفي كل ملة ، وهي معركة لا ينتصر فيها طرف على طرف انتصارا مطلقا ، بل هي معيار توازني لاختلاف الأمزجة ، ومن هنا لا يمكن لطرف إقصاء الأخر ، أو انهاء مدة صلاحيته . وإذا كان هذا هو حال الغرب؛ فان المعركة لدى الشرق أوضح وأوسع؛ فقضية الاستجابة السريعة لما جد ليست بالسهلة لدى قوم لهم تاريخ تحفه القيم، وتسوره المبادئ وتحرسه العقائد الصارمة ؛ فموضوع التجديد لن يمر عابرا كطيف إذا اشتهاه سامر اقر به القاصي والداني .
ومن هنا بقي الشعر الحديث بعيدا عن ساحات القبول لدى أوساط واسعة للعلل التي ذكرناها، وبقيت صيحات التجديد تجابه بجدر قوية عاتية ؛ وهذا لا يمنع الاعتراف بنجاح تلك الدعوات ، وهو لا يمنع- أيضا - الاعتراف بتعدد الصيحات ، وذلك موضوعنا الذي نريد أن نصل إليه ؛ فما كل شعر حديث بغريب عن الذائقة العربية ، وان بدا كذلك لأول وهلة ، وما كل أصحاب تلك الدعوات ذائبين في الغرب ، حملوا بضاعة الأعداء ليغرقوا بها أسواقنا وعقولنا .
وقفة مع شعر التفعيلة
وإذا كان موضوع شعر التفعيلة واحدا من نتاجات العصر الحديث ، بل معلما من معالم التلاقح الثقافي ، والتأثر بالآداب الغربية- لارتباطه بطيعة البنية الأسلوبية عندهم ؛ إلا أن ذلك لا ينفي إمكانية تأقلمه- تأقلما جزئيا- مع المزاجية الشرقية ، بل لعل جذورا تاريخية تشهد بإمكانية وجود مثل هذا اللون - شكلا على الأقل – فقد أورد الباقلاني في كتابه " إعجاز القران " قصيدة منسوبة لابن دريد ، جاء فيها :
رب اخ كنت به مغتبطا
اشد كفي بعرى صحبته
ممسكا مني بالود ولا
احسبه بغير العهد
ولا يحول عنه ابدا
ما حل روحي حسدي [8]
وكذا نقل عبد الكريم الدجيلي ، من كتاب وفيات الأعيان، اشطرا منسوبة إلى أبي العلاء المعري ، جاء فيها :
أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم
إلى منزلنا الحالي
لكي نحدث عهدا بك يا خير الإخلاء [9]
أما الموشحات والمسمطات والمخمسات والرباعيات فهي أمثلة واضحة لقبول فكرة التجديد في الشكل لدى العرب ، ولا اعتقد أن القضية الأسلوبية قد مثلت حاجزا منيعا أمام فكرة القبول آو الرفض مما ورد في شعر التفعيلة ، إلا إذا نظرنا إلى البدايات التي ظهرت فيها قصيدة التفعيلة والطريقة التي سوقت بها والأعلام الذي حملوا لوائها من الشعراء ،فالإسلاميون ، وعلى رأسهم سيد قطب- رحمه الله- نظروا إلى الفنون من خلال منهج يحكم الإسلام فيه حركة التطور، مهمته الرئيسية هي تغيير الواقع ، وهذا الهدف لا يتعارض مع التصورات الفنية ، بل قد يلتقي التصور الإسلامي للأدب فكريا مع بعض النظرات ؛ فالمنهج التاريخي لتفسير الأدب قد يلتقي إلى حد ما مع المنهج الإسلامي ؛ فالمحور الذي تدور عليه حركة التطور في الفكرة الإسلامية ، هو تطوير البشرية ، ودفعها إلى الانطلاق والارتفاع ، والى الخلق والإبداع [10].
بل لعلنا نثبت هنا ما يمكن اعتباره سندا للتوجه الإسلامي المنفتح ثقافيا ؛ عندما نتحدث عن تجربة باكثير وريادته لشعر التفعيلة ، خصوصا في ترجماته التي ترجم فيها لشكسبير وغيره،
فالأدب الإسلامي لا يقف وجلا أما الظاهرة الفنية الإبداعية ما دامت القيمة التعبيرية للنص قد ضمنت سلامة الغاية ، فهو "لا يحارب الفنون ذاتها ، ولكنه يعارض بعض التصورات والقيم التي تعبر عنها هذه الفنون ، ويقيم مقامها – في عالم النفس- تصورات وقيما أخرى قادرة على الإيحاء بتصورات جمالية إبداعية ، وعلى إبداع صور فنية أكثر جمالا وطلاقة ، تنبثق انبثاقا ذاتيا من طبيعة التصور الإسلامي ، وتتكيف بخصائصه المميزة [11]".
والشكل الفني الذي يتقبله المنهج الإسلامي في النقد ، هو ذلك الشكل الذي يحتفظ للذائقة الشعرية بابجدياتها ولا يخلط الأوراق ولا يعبث بمقومات الجملة الشعرية الأساسية كالوزن وسلامة اللغة وجمال ها ، أما تلك الصيحات الهدامة التي أرادت أن تحطم كل موروث ، تحت دعوى التجديد والحداثة ؛ فلم تميز بين نثر وشعر ونادت بالعامية لتكون بديلا عن الفصحة ورفضت أساليب العربية وقبلت كل عبث نحوي ولغوي وأسلوبي فهي مرفوضة ولا يمكن قبولها في أي حال من الأحوال ؛ فنحن لسنا مطالبين بقبول نص عبثي بمجرد كتابة عبارة ديوان شعر على غلافه ، واعتبار ذلك توسعا وسماحة ؛ إذ كيف لي أن – مثلا ان ارتب بعض السطور النثرية في شكل قصيدة حديثة ثم أقول إن ما أقدمه هنا شعرا، وبينه وبين الشعر ما بين الثرى والثريا ، وهنا سأختار لك نصا نثريا ثم أصوغه في شكل القصيدة الحديثة ؛ فاقرأ معي وتأمل إن كنت تجد فيه إيقاعا أو وزنا أو أي دلالة على الشعرية غير طريقة الطباعة:
"عندما أرنو إلى عينيك الجميلتين
احلم بالغروب بين الجبال
والزوارق الراحلة عند المساء
واشعر أن كل كلمات العالم طوع بناني
فهنا على الكرسي العتيقة
ذات الصرير الجريح [12]
فلو إن الأستاذ الماغوط كتب لنا هذه المقطوعة بهذه الطريقة ، ثم قال لنا ما قدمته لكم هو من الشعر الحر ، هل نستطيع آن نقول آن ما قدمه هنا شعرا ، الحقيقة أن الماغوط لم يفعل ذلك ولكن الآن قارن معي بين هذه المقطوعة النثرية وبين مقطوعة أخرى أرادها صاحبها شعرا وقل لي كيف تستطيع أن تفرق بين نصه وما أثبته لك من نص الماغوط .
والآن اقرأ معي هذا النص من ديون شعر ثم قارن بينه وبين ما نقلته عن الماغوط ، فهل أنت واجد من فوارق الفن ما يقدم النص الثاني على انه شعر:
أكاد أشم عبق الماسة الوضاءة
وهي تذهل عتمة المحيط .
والظلمة قلب بحجم الكوكب، كثيف،
له لزوجة الدم البارد
وبلادة الحسابات
واقفز فوق صمت الأعماق الرخوة،
علي أجد صلابة تلك الماسة
لأخط عليها،
واخذ موقعي
وزينة قوتي
لأقذف هذا الوحل بعيدا
في هيولى الفراغ الكوني [13].

نعم ، هناك شعر حر نعترف به إذا ما استوت في النص كل مقومات الشعرية وعلى رأسها الإيقاع والإبداع الفني في بناء الشكل الشعري الجديد .
وإذا كنت قد تأملت ما نقلته لك من ديوان المتوكل ، فليتك تنتقل معي إلى لافتات مطر حيث البساطة والرقة والتدفق والإيقاع

فـكرت بـأن أكتب شعراً
لا يـهدر وقـت الـرقباء
لا يـتعب قـلب الـخلفاء
لا تـخشى مـن أن تنشره
كــل وكـالات الأنـباء
ويـكون بـلا أدنى خوف
فـي حـوزة كـل القراء
هـيـأت لـذلك أقـلامي
ووضـعت الأوراق أمامي
وحـشـدت جـميع الآراء
ثـم.. بـكل رباطة جأش
أودعـت الصفحة إمضائي
وتـركت الصفحة بيضاء!
راجـعت الـنص بـإمعان
فـبدت لـي عـدة أخطاء
قمت بحك بياض الصفحة..
واسـتغنيت عـن الإمضاء
ومن هنا، فمن حقنا أن نتحدث عن سمات فنية تقنن لهذا النمط الشعري معالم تشكله ، وتغلق الباب أمام العابثين ؛ كي يقفوا عن حدود تلك السمات، وأول هذه السمات الوزن الشعري ، فالشعر الحر الذي نقبله هو ما التزم موسيقيا بالأوزان المعروفة ، وفق أسلوب السطر الواحد دون التزام بعدد التفعيلات في السطر، وهو بهذا التصنيف يكون قد اعتمد عروضيا على وحدة التفعيلة ؛ فمثلا لك أن تأتي بتفعيلة فاعلاتن من الرمل ، مرة أو اثنتين أو أكثر بما يخدم سطرك الشعري ، وهو بذلك لن يقيد بعدد من التفعيلات . ولان الشعر الحر هو شعر السطر؛ فان القافية ستحدد بناء على رؤية الشاعر في نسج المقاطع الشعرية التي يمكن تمثيلها بالفقرة التي تختم بقافية تحدد طبيعة الروي في القصيدة ، والقافية ليست واحدة بل هناك تنويع في القوافي يتناسب مع حاجة المقطع الكامل من الحروف المناسبة .
ولست خبيرا بعلم العروض- وان كنت اكتب الشعر العمودي - غير أنني -هنا - أتحدث عن الذائقة الشعرية ، التي تجعل الأذن تصافح النص الشعري بأريحية ، دون أن تشعر بأنك خرجت عن طبيعة الشعر وسجيته ، نعم في هذه الحديقة الحديثة يمكننا التجوال وإعادة التشكيل الفني وفق نظام القصيدة الجديدة ، أما أن نزعم بان كلام سطر وفق هوى هو من الشعر فتلك مصيبة المصائب .

الحواشي:
[1] انظر ، محمد زكي العشماوي ، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، بيروت ،1969، ص128
[1] محمد غنيمي هلال ، النقد الادبي الحدبث ، بيروت ،1973،ص185
[1] انظر ، حنا عبود ، الحداثة عبر التاريخ، 1989،ص12
[1] المرجع السابق ، ص12
[1] انظر donyhou .poetry and the new conservatism.the London magazine. April1956
[1] انظر ، محمود سمرة ، مقالات في النقد الأدبي ، ، ص27
[1] المرجع السابق ص، 31
[1] نازك الملائكة ، قضايا الشعر المعاصر ن ط8ن بيروت ، 1992،ص10
[1] المرجع السابق ص11
[1] انظر ن سيد قطب ، النقد الأدبي أصوله ومناهجه ، دار الشروق ن بيروت نط5ن 1983،ص102 وما بعدها
[1] المرجع السابق ،صص104
[1] من كتاب محمد الماغوط ، حزن في ضوء القمر
[1] المتوكل طه، ديوان "الرمح على حله " ، ن رام الله ،2004، ص55