المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة التونسية



عبد الرحيم صادقي
29-01-2011, 02:29 AM
حدثنا أبو القاسم قال: التقيتُ بزين الهاربين عن غير ميعاد، بعد فساد العمران وخراب البلاد. وكان لا يدري أني على علمٍ بما وقع، وأن سقوطه أثلج قلوب الرُّضَّع. فابتدرته بالسؤال ساخرا، أجئت حاجا أم معتمرا؟ قال: بل حاج إن شاء الله، تركتُ الأهل والإِرْفاه. سائلا المَولى القبول، نابذا دنيا الفضول. فقلت: لكنَّ الزمن ليس موسم حج وأجور، أم اختلطت عليك الأيام والشهور؟ فقال: إنَّا مَعاشِر السلاطين، ابتلانا الله بأمر الدنيا والدين. وإنَّا في مقامٍ سوى مقام الرعيَّة، ولذا قَدِمتُ إلى هنا تَقيَّة. لا تكفينا الأشهرُ المعلومات، وقد حَفَّت دُنيانا المُغرِيات. فأنا بين تَخْلِية وتَحْلِية، أرجو درجة سَنِيَّة. ولِثقل الأمانة وكثرة المكاره، وطول الشواغل وتَتَالي التوافه، فإنَّا لِما ترى نبتدرُ بالأعمال، عسى تصلُحُ بنا الأحوال. أمَا بَلَغك قول أبي الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم=وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها=وتصغر في عين العظيم العظائم
قلت: لقد صيَّرَتْكَ النوائبُ أبا الحكم، ولقد سُدْتَ فأثقلتَ وأنت القَشْعَم. حتى كنتَ أثقلَ من رَضْوَى، وأَنْشَبَ من عَدْوَى. ثم قلت: ومن أين لك هذا الفقه؟ أمن الثعالبي أم ابن عاشور، أم أنت الفقيه وحالك مستور؟ أأدركتَه في الصادقية أم في الزيتونة؟ أم هو فيضُ زيارتك الميمونة؟
قال: أحَسَداً أن أطَلْنا المقامَ خاشعين، في تَلاءِ الصادق الأمين؟ فلَنبقيَنَّ على ذلك عاكفين، حتى يأتينا اليقين. فلا بد للسلطان من قُربة وأَوْبة، ولقد شقِي من لا ذكرَ له ولا توبة.
وإذا كانت النفوس كبارا=تعبت في مرادها الأجسام
ألا ما أصدقَ شاعرنا! فلكأنه إيَّانا يعني.
قلت: أيّ دين هذا يا حاج؟ ما أراه إلا دين الحلاج. أما بلغك قوله:
للناس حج ولي حج إلى سكني= تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
كنتُ أظنُّك على فقه سَحنون، لكنْ أيُؤْلَف بين الضب و النون؟!
ثم قلت: أمَا كنتَ حاجا إلى باريس بادِيَ الرأي؟ أمَا غادرتَ جرجيس إلى باريس؟ أم قيل لك إن الصعود هذا العام إلى إيفيل، لا إلى عرفات بلا دليل؟ ولقد أُبْصِرْتَ تَطُوف بقصر الإيليزي، قبل أن تدع الطواف يا عزيزي، أفأذِن لك قاسم الجليزي؟ أمَّا الطواف فأدَّيتَه في الطائرة، لكنهم لفظوك كما تُلْفَظ العاهرة. ولو حططتَ الرِّحَالَ لشربتَ من "السين" بلا نَدَم، وأنَّى يَبْلُغُ في دينك السينَ ماءُ زمزم؟ ولقد سُمِعْتَ في السماء تقول: لبَّيك باريس لبيك، عبدُك الآن بين يديك! لكنْ أفِدْني مِن أين كان الإحرام؟ مِن لِيون أم من نوتردام؟ قال: إنما ضللتُ الطريق، وسوء الظن لا يليق. قلت: عذرا أبا الدوانيق! طارتْ بك العماليق!
قال أبو القاسم ثم سألته: فكيف سيرَتُك في الناس؟ قال: ليس غير العدل والقسطاس. قلت: هذا وقد تفرَّقَتْ رعيتُك شذَر مذَر! وغادر الصلحاء والعلماء، وأهل الحَصَافة النبهاء. وخَلَتْ من أهلها القيروان، وقصَدَ الناسُ وسلات وزغوان؟ وآخرون آثرُوا الوِديان، ملاق وسجنان، ونبهانة ومليان، والجباس وودران؟
قال: كذب مُحَدِّثُك. إنها والله أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها. قلت: فهل أخذتَ بحقها؟ قال: أرجو ذلك والله المستعان. قلت: فما للضَّيم حلَّ بسيدي بوسعيد؟ وما للنار شبَّت بسيدي بوزيد؟ ألستَ قد حظَرْتَ الجوامع، يا خليفة ابن نافع! ولقد بلَغَنا أنك حكمتَ بالسيف وملكتَ بالقهر، وأطلتَ بقرطاج وطبرقة السَّهَر. وأطلقتَ في الناس يدَ الحَلاَّقة، سادِراً على صَولةٍ من حمَاقة. ما أراك الآن إلا تغنيها: "الليل يا ليلى يعاتبني". فهَلاَّ سلَّمتَ على قرطاج، قصرِ الرِّيع والخرَاج؟!
قال: مَن أَعْلمَك بذلك؟ قلتُ: أحمد بن عروس، وخلائق كُثر ونفوس.
قال: جئتُ أرضَ الحرمين تائبا، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. قلت: بل جئتَ فارا ذليلاً وأيَّ ذِلَّة.
زِحْليلاً تَحُثُّ الخُطى في بَهْدَلة. جئتَ بعدما أبرمْتَ أمراً جَمَخ، فقيل يداك أوْكَتا وفُوكَ نَفَخ. يا أجبنَ من صافِر! ويا أخسَّ من حافر!
قال: على رِسْلك يا هذا! بل أنا العزيز بخيام العزيز نزل. قلت: ثَأْطَة مُدَّت بماء. ذَلَّ قومٌ أوَوْا مُحْدِثا.
ثم قلت: قد عَلِمنا أنه لا علم عندك فنسألك عنه، وإنما نسألك عن مالك، فمِن أين اكتسبته وفِيمَ أنفقته؟
قال: مَن أنت وَيْحَك؟ قلت: أنا مبعوث السماء إليك، أنا الشابّي.
قال: أأنت القائل:
إذا الشعب يوما أراد الحياة=فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي=ولا بد للقيد أن ينكسر
قلت: هو أنا. قال: وما رسالتك؟ قلت: هما اثنتان: كتابٌ من عند من حرَّم الظلم على نفسه، وكتاب من مظلوم هو عنده الآن يُقاضيك. قال فهات الأول! قلت: أما الأول، ففيه أن الله يُمهل ولا يهمل. ولقد طوَّعَت لك نفسُك قتلَ المستضعفين، وعثتَ في الأرض فسادا وفتنتَ المؤمنين. فانتظر الزقوم والصديد، إن بطش ربك لشديد!
قال أبو القاسم: فارْتعَدَ الرئيسُ لِهَوْل الوعيد، فبَان أنه عبدٌ يأكل القديد. ثم امْتُقِعَ لونُه ثم فَقَع، وشرِق بِريقه فما بلَع، ثم قال: فالثاني؟ قلتُ: هو من عند البوعزيزي. قال: أولَقِيتَه؟ قلتُ: أجل. قال: فما خطبُه؟ قلت: يقول لك لو كنتُ أعلم أن اشتعال الجسد، يوقظُ الهِمَم لَفعلْتُها منذ أمد. ووالله ودِدْتُ لو أني أبعث من جديد، فأعيدها حتى يتحررَ الشيخُ والوليد. فعلتُها يائساً لسْتُ هَدَادة، أَسألُهُ الصَّفحَ ورشادَه، ولأُعيدَنَّها مُقْدِما أرجو الشهادة.
قال زين الهاربين: أتُحرِّضُ علَيَّ السوقة والرعاع؟ قلتُ: رُوِيَ أن المنصور ألحَّ عليه ذبابٌ فطلب مقاتل بن سليمان فسأله لِمَ خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبَّارين. أفيُذِلُّك الذباب، يا ابن التراب، وتَعْلو على الأتراب؟ والله لقد فقتَ السفاح وبلَغتَ ما لم يبلغ، فإنه على تعجُّلِه إلى سفك الدماء كان جوادا بالمال، ولقد سفكتَ وجوَّعتَ العيال. فما منهم إلا عَسيف أو أسيف، أو متسولٌ طالبُ رغيف، وأنت في لبس القطيفة وأكل القطيف. ما ضرَّك لو أشركت أهل القطيف؟ أمَا علمت أن العدل أساس الملك؟ وهلاَّ أضأت لهم فيَقدحوا لك؟ أم نسيتَ أنْ بالأرض وَلَدَتْك أمُّك؟ أمَا علمتَ أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء يا أجْفى من الدهر، ويا أحَرَّ من الجمر؟ ما أرى قولَ صنَّاجةِ العرب إلا فيك نزل:
تبيتون في المَشتى ملاءً بطونكم=وجاراتُكم غرثى يبِتْنَ خمائصا
قال أبو القاسم: ثم وَلَّيْتُ عنه وقلتُ عِش ذليلا!
قال: إلى أين؟ قلت: إلى حيث لا يوجد أمثالُك. حجٌّ مبرور!

:0014:

فاطمه عبد القادر
29-01-2011, 05:06 PM
ثم قلت: أمَا كنتَ حاجا إلى باريس بادِيَ الرأي؟ أمَا غادرتَ جرجيس إلى باريس؟ أم قيل لك إن الصعود هذا العام إلى إيفيل، لا إلى عرفات بلا دليل؟ ولقد أُبْصِرْتَ تَطُوف بقصر الإيليزي، قبل أن تدع الطواف يا عزيزي، أفأذِن لك قاسم الجليزي؟ أمَّا الطواف فأدَّيتَه في الطائرة، لكنهم لفظوك كما تُلْفَظ العاهرة. ولو حططتَ الرِّحَالَ لشربتَ من "السين" بلا نَدَم،



السلام عليكم أخي عبد الرحيم
جميل اسلوبك الساخر ,,ومميز ,,وممتع
حبذا لو تفاديت الكلمات القديمة التي تحتاج للقواميس!! فليس كل قارئ يفهمها ,,وهدفنا جميعا أن يفهم المتلقي ما نريد قوله,
والحمد لله أن اللغة العربية غنية جدا وكثيرة المترادفات.
هذا إذا أردت أنت ,,لأن رأيي يظل رأيا لا غير .
زين الهاربين //رائع هذا الوصف ,,وانشاء الله سنرى الكثير من الهاربين قريبا
ولكنه لو لم يكن من قامعي الشعوب,, ومصاصي الدماء ,,وعبد لأسياد في باريس أو لندن أو واشنطن وتل أبيب,, لما رأيناه رئيسا من الأصل
وهل مثله غير جدير بالثقة,, أو بحب شعبه,, أو على الأقل جاء بإرادة الشعب,, ليحكم ويعدل,,ويخدم الوطن وأهله,يصبح رئيسا لبلد مثل تونس ,,
وهل عقمت النساء في تونس ؟؟ليكون هذا .
المسألة أكبر أخي بكثير !!
هو لم يفعل بكم إلا ما جاء من أجله فقط,, وبحماية من وضعه استمر هذا الزمن
شكرا لك أيها الأخ العزيز
بارك الله فيك
وأهلا بك بيننا في الواحة
ماسة

أماني عواد
29-01-2011, 07:10 PM
الاستاذ عبد الرحيم صادقي

مقامة رائعة واسلوب قصصي جذّاب وممتع
فقط لو انك قمت بتحديد المفردات الغير متداولة لتفسيرها والوقوف على معناها لننهل من معين اللغة اكثر فتزداد معرفتنا بها

دمت بالف خير
تقديري واحترامي

محمد رامي
29-01-2011, 07:12 PM
تمهلت مطولاً أمام هذة اللوحة الجميلة
لذا استوقفتني وانا في نشوة المطالعة
سلمت أناملك
تحيتي

ربيحة الرفاعي
29-01-2011, 10:13 PM
مقامة بديعة حملت لغة ماتعة ومعان رائعة وفكرة نافعة أزهرت وزها نوّارها

ونص ما أحلاه في شأن وقفت أمامه الدنيا محملقة مشدوهة

متعة كانت قراءتي هنا

دمت بألق

زهراء المقدسية
29-01-2011, 10:25 PM
فقيل يداك أوْكَتا وفُوكَ نَفَخ
نعم نعم

وعلى أنفسهم جنوا

رائع ما قرأت

سلمت وتحية للشعب التونسي

عبد الرحيم صادقي
30-01-2011, 12:57 PM
:noc:السيد محمد رامي، والسيدات فاطمة عبد القادر، أماني عواد، ربيحة الرفاعي، زهراء المقدسية
شكرا على تفاعلكم، وأحسن الله إليكم.
الأخت فاطمة جاء في مشاركتك ما يلي: "حبذا لو تفاديت الكلمات القديمة التي تحتاج للقواميس!! فليس كل قارئ يفهمها ,,وهدفنا جميعا أن يفهم المتلقي ما نريد قوله". هذه الملاحظة تواجهني كلما نشرت مقامة على الشبكة. والرد يكون دائما أن الأمر مقصود للمحافظة على أصول هذا الفن العربي القديم، حيث تطغى اللغة الجزلة والمحسنات البديعية. وهذا الغرض اللغوي والبلاغي مقصد في فن المقامة، من بين مقاصد أخرى. دمت متألقة.
خالص التحيات للجميع، ودمتم موفقين