تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الطموح المدمر ..قصة قصيرة



د.جمال مرسي
03-06-2004, 10:26 AM
font=Arial]الطموح المدمر[/font]
بقلم د. جمال مرسي

كان النهار قد انتصف حينما أهابت مضيفة الطائرة المتجهة إلى فيينا ـ عبر مكبرات الصوت الداخلية ـ بركابها أن يلزموا أماكنهم و أن يربطوا أحزمة الأمان استعدادا للإقلاع .
امتثل أحمد للنداء على الفور و هو يهمس لنفسه هكذا يجب أن يكون الالتزام .. من هنا يبدأ.. من الطائرة .

و لما كانت هذه هي المرة الأولى التي يستقل أحمد فيها طائرةً مبتعداً عن وطنه فلقد بدا مرتبكا و هو يربط حزام الأمان إلى ان اقتربت منه إحدى المضيفات هامسة بصوت رقيق :اسمح لي أن أساعدك سيدي .

نظر أحمد لها بطرفٍ خفي و دون ان ينطق ببنت شفة اسلم عنان نفسه ليدها و هي تعلمه بحكمة و لباقة كيف يربط الحزام. وبدون أن يقصد فلقد لمست يده يدها فسرت القشعريرة في بدنه سريان الكهرباء و تسمرت عيناه فلم تحركا ساكنا حين وقعتا في أسر عينيها الخضراوين .

كان احمد جادا في دراسته متفوقا فيها لإحساسه مع أمه بالمسؤولية الملقاة على عاتقيهما بعد وفاة أبيه
و لكنه كان عجولاً لا يصبر على شئ و يتمنى الوصول إلى غايته في أسرع وقت ممكن .
و كان زملاؤه في كلية الهندسة يلقبونه بالأستاذ " نشا أفندي " لأنه كان قليل الاختلاط بهم فلا يكلم أحداً إلى من أرنبة انفه إذ كان يشعر بأنه أفضل منهم جميعا رغم الفارق الاجتماعي الكبير بينه و بينهم .

فلقد نشأ أحمد في أسرة فقيرة مات عائلها و لم يترك لها إلا معاشا ضئيلاً تتقاضاه والدته التي اضطرت للعمل سراً عند أحد الأثرياء كي يتم ابنها البكر تعليمه و يحقق أمل أمه في أن يكون مهندساً كبيراً .

و لقد كان أحمد يحتل إحدى غرفتي المنزل المتواضع الذي تركه له والدهم بالإيجار بينما كان اخوته الثلاثة يقطنون مع أمهم في الغرفة الأخرى .
اما زملاؤه في الجامعة فقد كانوا من الطبقات الراقية ( الهاي لايف).. و كان مصروف الواحد منهم في اليوم يعادل المعاش الشهري الذي تركه لهم أبوه .

أثر ذلك سلباً في شخصية أحمد و سبب له عقدة نقص أخذ معها يحقد على زملائه
و يحسدهم و لكم تمنى ان يتخرج سريعا فيمتلك الفيلا و السيارة الفارهة و شركة المقاولات الضخمة و حينئذ يأتيه هؤلاء لطلب وظيفة فيفعل لا لشئ إلا ليرغم أنوفهم .
أوصلته هذه الحالة من عدم الرضا إلى التمرد على أوضاع أسرته وكان برغم بره بأمه إلا أنه كان ساخطاً على تلك المعيشة و كثيرا ما كان يقول لها :
يبدو إننا مكتوب علينا أن نعيش في الوحل و نموت فيه .
.. سامحك الله يا ولدي ، ألا تصبر ، ألا تقنع بحكم الله ؟ هكذا كانت والدته تقول له دوماً فما كان عليه إلا أن يصبر و لكن على مضض .

ظل أحمد سابحاً في بحر ذكرياته إلى أن قاطعته المضيفة من جديد :
.. هل من خدمة أخرى أؤديها لك يا سيدي ؟
.. نعم من فضلك ، هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها إلى فيينا التي يسمونها عاصمة الحب و الجمال.
هل تعرفين احداً يمكنه مساعدتي في الحصول على عمل يليق بي ..فأنا أحمل بكالوريوس الهندسة بتقدير امتياز و لكني ضقت ذرعاً في الحصول على عمل و لهذا قررت السفر .
.. حسناً ، هذه البطاقة تحمل اسمي و رقم هاتفي في فيينا ..سأمكث بها ثلاثة
أيام ، حاول الاتصال بي فربما تجد الحل عندي . إلى اللقاء .

شعر أحمد بقلبه يرقص بين أضلاعه حتى ليكاد يقفز من بينها فيستقر فوق بطاقتها
التي تحمل اسمحا و توقيعها .. ماهي أحمد .

يا الله .. لكم هو جميل اسم ماهي .. و لكن أي صدفةٍ هذه التي جمعت اسمها و اسمي في بطاقة واحدة ، كيف ستساعدني ؟ ، و لماذا ، و هي لم ترني إلا مرة واحدة كواحد من مئات الركاب الذين يمرون عليها كل رحلة .
أتراني أوقعتها في حبي بنظرة ساحرة تماما كما فعلت هي بي ؟ أتراها شعرت بنفس الرعشة التي شعرت بها حين لامست يدي يدها .
هكذا راح احمد يتحدث إلى نفسه و تكاد شفتاه المرتجفتان باسمها تفضح هذا الحوار الداخلي .

كانت الطائرة قد ارتفعت عاليا إلى عنان السماء و أحمد لا يزال غارقا في بحر أحلام عميق ، تارة في الفيلا و السيارة و الشركة و تارة أخرى في تلك المضيفة الحسناء التي خفق لها قلبه من أول نظرة ، و أخيرا في أمه التي طالما ترجته إلا يسافر و أن يصبر فيرتقي درجات السلم في وطنه سلمةً سلمة خيراً له من بلاد
الغرب التي ينظر فيها للعربي نظرة دونية فاقتطعت من قوتها و قوت اخوته و باعت أثاث منزلها لتوفر له ثمن تذكرة السفر .

كانت الأحلام تأخذه بعيداً بعيداً إلى أن أفاق هذه المرة على صوتٍ ينطلق من مكبرات الصوت و لكنه كان لقائد الطائرة الذي حاول ان يكون ثابت الجأش و هو يدلي برسالته الصوتية للركاب :
.. حضرات السادة الركاب ، نرجو التزام الهدوء و ربط أحزمة الأمان جيداً
فقد نضطر إلى الهبوط لحدوث عطل في أحد محركات الطائرة .
سنوافيكم بالتطورات أولاً بأول .

و ما أن انتهى قائد الطائرة من رسالته الصوتية حتى ساد الهرج و المرج بين الركاب . فقد شعروا أن الطائرة قد تسقط بهم في أي وقت ، فتتحطم بمن فيها .
أما أحمد فلم يكن بأحسن حال منهم .. راح يحدث نفسه من جديد :
ربما تكون هذه هي الرحلة الأولى و الأخيرة في حياتي . نعم إنها رحلة الطموح المدمر التي طالما حدثتني عنها أمي.
سقطت من عينه دمعة فوق بطاقتها ، و راح يتمتم : ليتني أطعتها ، ليتني أطعتها.

و دمتم[/QUOTE]

اميمة الشافعي
05-06-2004, 05:56 AM
دكتور جمال

شكرا لك على هذه القصة التى نجد متشابهاتها

دائما فى مثل هذا الوسط لا اقصد الاجتماعى ولكن اقصد الفكرى

حسد وحقد واحلام يقظة تدمرهم

واحيانا تدمر من حولهم بلاذنب الا انهم حولهم

وهذه ايضا هى الدنيا من دنا لها اشاحت بوجهها عنه

ومن طلقها سعت وراءه

تحياتى لك

د. سمير العمري
06-10-2004, 01:13 PM
أخي د. جمال:

محاولة مميزة للسرد القصصي أهنئك عليها.

فيها توفرت عناصر جميلة أهمها الترابط والسلاسة التي جعلتني أقرأها بانسيابية. ربما احتاجت لجرعة أكبر من التشويق التي ظهرت بشكل باهر في آخر أسطر القصة.


تحياتي وتقديري
:os:

عدنان أحمد البحيصي
19-10-2004, 08:45 AM
اخي جمال


رائعة ودمت مبدعا

ريان الشققي
12-11-2004, 08:11 PM
عزيزي الدكتور جمال
قصة عادية فيها حكمة إجتماعية، توفرت فيها العناصر، والتشويق ليس في أوجّه، ونقطة التنوير يمكن أن تكون على مستوى نفسي أعلى أي أعمق بدلالات غير مباشرة بدلا من المباشرة المباشرة.
هذا رأيي وأنت تعرف أنني لست ناقدا ولكن أقول رأيي بالقليل الذي أعرفه من هذا اللون من العلم أي النقد الأدبي.
بوركت وإلى الأمام كما نرجو أن نرى منك محاولات قصصية أخرى فاعقد العزم
كل عام وأنت والواحة العزيزة واعضاؤها بخير
تحياتي
ريان

فاطمة المزروعي
26-12-2004, 09:46 AM
تحية صباحية جميلة ..
قصتك أستاذي تعرض قضية مهمة، وهي قضية الغربة والبحث عن وطن آخر ..
فالكثير منا يظن أن البعد عن الأوطان، والذهاب إلى أوطان أخرى هو الحل لهذه المشاكل الاجتماعية والظروف المالية ..
في القصة لمسة عاطفية تثير القارئ ..
كان بإمكانك أستاذي أن تخرج القصة بأسلوب أكثر إثارة ، وبنهاية مشوقة ..
ولكنها جميلة ..
وأعجبتني ..

ناديه محمد الجابي
27-03-2017, 12:33 PM
الطموح هو الوقود الذي يساعد على الوصول إلى طريق النجاح
ولكن عندما يكون الطموح لا محدود قد يتحول إلى مرض نفسي اجتماعي يدمر صاحبه
سرد شائق لقصة ذات فكرة ، ومتقنة الحبكة
دمت بكل خير. :001: