المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العجوز والشعب



عبد الرحيم صادقي
08-02-2011, 11:45 PM
أدرك العجوز منذ زمن أن قواه بدأت تَخِر، وأن الزمن فعل فيه فِعلَه. لكن شيئا ما في باطن العجوز كان يحدثه بأن ريعان الشباب ما زال ولا حال. روحٌ تتمثل للعجوز بشرا سويا تقول: أنت قادر على مواصلة الدرب، فإياك والرضوخ! لكن العجوز ما عاد الآن قادرا على تحمُّل صدى كلامه، وهو يرى أضغاث أحلامه تتهاوى أمام عينيه حلما حلما. أتُراه الآن سيقاوم؟ أتُراه سيُسْلِم الزمام أخيرا؟ شعبُه يهتف الآن عاليا: ارحل! ارحل! نسائم الحرية تنبعث من الميدان فيستبشر الناس بغدٍ ليس فيه قرح. الصرخات تدوي في جنبات القصر، والهتاف يصم الآذان. فإن يَكذِبِ السمعُ أفيُنْكَرُ رأيُ العين؟ فها هو ذا من شُرفته يرى الحشود تحتل المكان، واصلةً الليل بالنهار، لا تكل ولا تمل. وميدان التحرير نفسُه يتهادى على نغمات الصرخات: ارحل! ارحل! أيتها القاهرة ما أقساك! لحنٌ واحد يسود المكان. وسمفونية القاهرة تتغنَّجُ على هاذِ الأمواج البشرية. ها هي موجةٌ الآن قادمة، لطمت القصر فارتجَّ، وارتج العجوز. غمغم العجوز: موجةُ خيرٍ ورُشد. شدَّ الزمام إليه بقوة، ثم بدَتِ الموجة تتراجع وهدأ الميدان. لا ثقة للعجوز في هدوئه، فرُبَّ هدوء سبق العاصفة. لم يخب تنبؤ العجوز، فها هي الموجة تعود من جديد. وفي سيرها تنضم إليها موجات أُخَر. تتلاحم الموجات، ويقف العجوز مشدوها أمام الطوفان. يمكن أن تكون آخر رَجَّة. يمسك الزمامَ بكلتا يديه، يجذبه إليه في شدة، ثم ينكفئ انكفاءة المُستعد. التطم الطوفان بالقصر. تصدَّعت الجدران، وارتج الإيوان، وتخلخلت الأعمدة. قال العجوز: غيثٌ وبركة.
أطل العجوز من شرفته ثانية فرأى الأمواج في جَزْر. استلقى على عرشه عسى يَنعَمُ باستراحة المحارب. ليتها تدوم! وبينما العجوز على حاله تلك، استعاد في طرفة عين أيّامَه المنصرمة. سيلٌ من الأسئلة يتدفق. ما الذي حدث؟ أكنتُ مخطئا حقا؟ كيف؟ لا يمكن. أخطأتُ كل هذا الزمن؟ لا يُعقل. لماذا لم يُنَبِّهْني أحد؟ كانوا مخطئين مثلي؟ لا أفهم. لكن أين كانت هذه الحشود؟ لماذا الآن؟ ثم ذَكَر ما أقرأه إميل زولا في يفاعه: " إن أخرستَ الحقيقة ودفنتها تحت الأرض فسوف تنمو وتُنْبِت". الحقيقة؟ أأصابني الخَرَف؟ كنتُ أعرفه إذن. لكن بيل كوسبي يقول: "إذا أصابك الخرف فلن تعرف ذلك". لا، لا. حتما هم المُخطئون. هؤلاء السوقة والرعاع لا فَهْمَ لهم ولا عقل. إنهم لا يتبَيَّنُون صالح الأمة، ولا ما يضر أو ينفع، ولا يَمِيزون حقا من باطل. لا ريب أن الأمر كذلك.
فجأة قطع هدير الأمواج على العجوز خواطرَه. أطلَّ من الشرفة ثم استمسك بعرشه. هدير الموج يصُكُّ السمع. جعل العجوز أصابعه في أذنيه، فسقط الزمام. التطمت الأمواج بالقصر فاندكَّ فكان هباء منبثا. استفاق العجوز على وقع الأقدام. نادى الجموعَ وهي ترفُسُه جيئةً وذهابا: آمنتُ أنه ما غالب أحدٌ الشعبَ إلا غلبَه.
:pr:

نادية بوغرارة
08-02-2011, 11:57 PM
جميلة جدا ،

لخصت الماضي و الحاضر و المستقبل في قالب مسرحي هزلي مشوق .

أحيانا يجب أن يداس الباطل بالأرجل ليرى حقيقة باطله بوضوح.

شكرا لك .

عبد الرحيم صادقي
09-02-2011, 12:08 AM
تحياتي الأخت نادية. تلقفت القصة قبل أن تنزل إلى الأرض. أحييك على المتابعة.

نادية بوغرارة
09-02-2011, 12:24 AM
تحياتي الأخت نادية. تلقفت القصة قبل أن تنزل إلى الأرض. أحييك على المتابعة.

========

النص الجميل تتسابق إليه الأقلام لتتلقفه بالترحاب و إبداء الإعجاب .

سعيدة لأنني كنت الأسبق .

:hat:

آمال المصري
16-11-2011, 07:58 AM
آمنتُ أنه ما غالب أحدٌ الشعبَ إلا غلبَه.

نعم أديبنا المكرم ومازالت للمسرحية فصول لم يُعلن عنها أو ربما لم تُكتب بعد
نص جميل صيغ بأسلوب مشوق يحاكي الواقع
تحيتي الخالصة

زهراء المقدسية
17-11-2011, 04:48 PM
آمنتُ أنه ما غالب أحدٌ الشعبَ إلا غلبَه.
الأستاذ الكريم عبد الرحيم

ما زلت أبحث عن الرئيس العربي العاقل
أقر أن أعقلهم (مع أنه ليس بعاقل) هو الأول يليه الثاني

أما الآخرون فيصرون على الإقرار بغلبة الشعوب ولكن بعد فوات الأوان
سنة الله فيهم ليروا القصاص الحق من مقهوري ومظلومي شعوبهم

تحية وتقدير

عبد الرحيم صادقي
17-11-2011, 08:31 PM
آمنتُ أنه ما غالب أحدٌ الشعبَ إلا غلبَه.
نعم أديبنا المكرم ومازالت للمسرحية فصول لم يُعلن عنها أو ربما لم تُكتب بعد
نص جميل صيغ بأسلوب مشوق يحاكي الواقع
تحيتي الخالصة


ولك التحية والتقدير أختي رنيم
أما عما تبقى من فصول المسرحية الهزلية، فاجعل اللهم آخرها خيرا، فقد أصبحت هزلية ومملة أكثر من المتوقع.
دامت لك المسرات

عبد الرحيم صادقي
17-11-2011, 08:43 PM
الأستاذ الكريم عبد الرحيم
ما زلت أبحث عن الرئيس العربي العاقل
أقر أن أعقلهم (مع أنه ليس بعاقل) هو الأول يليه الثاني
أما الآخرون فيصرون على الإقرار بغلبة الشعوب ولكن بعد فوات الأوان
سنة الله فيهم ليروا القصاص الحق من مقهوري ومظلومي شعوبهم
تحية وتقدير


حقا ليس فيهم رجل رشيد
ولا يرشد أحد منهم إلا حين الغرغرة
فهل يتعظ الآخرون؟ فإن العاقل من اتعظ بغيره
عرفاني واحترامي أختي زهراء

رعد حيدر الريمي
17-11-2011, 09:12 PM
جميل لكن كان عندي تنبيه حول استخدام كلمة عجوز فهي لا تطلق إلا على المرأءة أم الرجل يطلع عليه شيخ او هرم او شائب أم القصة بهي جميلة ومعناها رهيب

عبد الرحيم صادقي
17-11-2011, 10:32 PM
جميل لكن كان عندي تنبيه حول استخدام كلمة عجوز فهي لا تطلق إلا على المرأءة أم الرجل يطلع عليه شيخ او هرم او شائب أم القصة بهي جميلة ومعناها رهيب


تحياتي أخي رعد
جاء في "اللسان": ويقال للرجل عَجُوز وللمرأَة عَجُوز.
و في القاموس المحيط:
والعَجوزُ: الإِبْرَةُ، والأرضُ،...، والشيخُ، والشيخةُ،...
شكرا لمرورك أخي
تحياتي

ربيحة الرفاعي
30-11-2011, 10:46 PM
لماذا لا تأتي هذه الـ " آمنت" إلا بعد فوات الأوان؟
ولماذا يتذرعون بـ "لماذا لم يُنَبِّهْني أحد؟ كانوا مخطئين مثلي؟ لا أفهم" ؟
لم تكن الحقيقة غائبة يوما عنهم، لكنهم "... جعلوا أصابعم في آذانهم واشتغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكبارا"
ولم يكن الشعب غائبا بما يعاني من فسادهم وبطانتهم وجورهم وطغيانهم، لكنهم ظنوا أن المزيد من الخوف والقمع يحقق لهم المزيد من الأمان، وغاب عنهم أن أن الضغط يولد انفجارا

رصدت الواقع على ساحة الصحوة العروبية بمهارة

تحيتي

عبد الرحيم صادقي
02-12-2011, 08:42 PM
لماذا لا تأتي هذه الـ " آمنت" إلا بعد فوات الأوان؟
ولماذا يتذرعون بـ "لماذا لم يُنَبِّهْني أحد؟ كانوا مخطئين مثلي؟ لا أفهم" ؟
لم تكن الحقيقة غائبة يوما عنهم، لكنهم "... جعلوا أصابعم في آذانهم واشتغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكبارا"
ولم يكن الشعب غائبا بما يعاني من فسادهم وبطانتهم وجورهم وطغيانهم، لكنهم ظنوا أن المزيد من الخوف والقمع يحقق لهم المزيد من الأمان، وغاب عنهم أن أن الضغط يولد انفجارا
رصدت الواقع على ساحة الصحوة العروبية بمهارة
تحيتي


ليس للطغاة سلاح غير القمع والتخويف، ولولاه لسحلوا ثم ألقوا كالجيف النتنة
شكرا لمرورك أختي ربيحة

د. سمير العمري
26-11-2012, 05:09 PM
لا خلاف على روعة حرفك ورقي أسلوبك ، وأنت هنا رصدت وأرخت لمرحلة مهمة وضمنت النص رأيك في بعض أمر ورأي غيرك في بعض آخر ، ولكن النص على جماله لا يمكن أن يمثل قصة أو أن ينتسب بحال للفن القصصي وإنما هو خاطرة أدبية لحالة سياسية.

دمت بخير وعافية!


تحياتي

نداء غريب صبري
02-12-2012, 12:10 AM
رصد صادق للواقع سيعرف بمثله أولادنا تجربتنا التي سنقدم لهم بها حياة كريمة وحرية
وسعرفون كيف داست الأقدام كل الطغاة

قصة جميلة جدا أخي

شكرا لك

بوركت

لانا عبد الستار
03-01-2013, 07:40 PM
تأريخ راصد للحدث بلغة رائعة ومهارة أدبية
هذا جميل جدا
أشكرك