المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لحية / قصة قصيرة/ حمادي بلخشين



حمادي بلخشين
13-02-2011, 01:57 PM
لحية!


كان صديقي الجزائري يودعني في مطار هوّاري بو مدين، حين لفت نظرنا حشد من المسافرين قد اجتمع حول أحد المكاتب.. دفعنا الفضول للإنضمام الى الحشد الصارخ، خصوصا بعد أن كثر اللّغط و أرتفع الضجيج و كثرت التعليقات... حين وصلنا الى بؤرة التوتّر، بدا لنا شيخ طويل اللحية، متين البنيان، وقور الهيئة، حادّ النظرات.. كان يضرب المكتب بقبضته، في حين ظلّ الموظف معتصما بهدوء و برودة دم لا يليقان أبدا بجزائريّ مثله!

همس لي صديقي :

ــ ذلك هو القائد ونيسي بوعلاّم..

ـــ...

ـــ أكبر و أهمّ مجاهد جزائريّ بقي على وجه الأرض.

وصلنا صوت الموظف الشاب و هو يقول بهدوء:

ـــ يا بابا الله يهديك.. قلت لك أحلق لحيتك إذا أردت الذهاب الى الحج!

صاح ونيسي بوعلاّم كما يليق بجزائري وقع إغضابه:

ــ كيف تقول لي" الله يهديك أحلق لحيتك"، هل يعني أن الله ليس هاديني ما دمت باللحية؟!

ــ يا بابا قلت لك لا بدّ أن تحلق لحيتك إذا حبّيت تمشي للحج!

خبط ونيسي بوعلام المكتب بيده الضخمة ثم صاح سائلا:

ـــ علاش أحلق لحيتي؟ هل نحن في الدنمارك وإلاّ في السّويد.

ـــ ...

ـــ ألسنا أمّة محمد؟

ردّ عليه الموظف بكل لطف:

ــ يا بابا، نحن لسنا في الدنمارك ولا في السويد، نحن في الجزائر، لكن المطلوب منك حلق لحيتك!

ــ ليش احلق لحيتي موش اللّحية سنة سيدنا المصطفى؟

ــ يا بابا سنة سيدنا المصطفى على الرأس و العين، لكن وزير الداخلية قال لا بد لحجّاج بيت الله أن يحلقوا لحاهم بداية من هذا العام!

ــ علاش؟ هل أخذ وزير الداخلية وكالة أمواس الحلاقة، فأرد تجربتها في لحية و نيسي بوعلاّم؟!

دوّت عاصفة من الضحك بين الحضور.

ــ يا بابا ما تعطلناش، إما تروح تحلق لحيتك وإلا السّفر ممنوع.

ضرب ونيسي بو علام الأرض بعكازته ثم صاح معارضا:

ــ لكنني أريد الذهاب لبيت الله دون أن أحلق لحيتي.

ــ يا بابا قلت لك ممنوع.

ـــ ممنوع أحج؟

ــ لا يا بابا، ممنوع أن تذهب باللحية!

ــ "سا في دير"(1) ممنوع أحجّ !.. ما دام أنا نحبّ نمشي نحج بلحيتي!

ــ يا بابا أنا أخبرتك و أنت حرّ، تمشي و إلاّ ما تمشيش!

التفت القايد ونيسي بوعلام الى الحضور الذين تكاثروا حوله، ثم قال متعجبا:

ــ و الله يا جماعة هذه آخر الدنيا.

ـــ ...

ـــ الدولة تركت المواطنين بلا مياه صالحة للشرب وبلا إنارة وبلا أنابيب صرف صحّي و تجري وراء لحية ونيسي بو علاّم!



كثر اللغط و التعليقات في حين بدأ بقية الحجاج يتذمرون من التعطيل الذي أوهن بنيانهم، خصوصا و ان معظمهم قد بلغ من الكبر عتيّا .

لم يهتم ونيس بوعلام بمن كان حوله، بل ألتفت الى الموظف ثم سأله:

ــ بالله جاوبني... هل أن لحيتي تقـلقكم الي هذا الحدّ حتى تطالبونني بحلقها؟!

ابتسم الموظف ثم أجاب بهدوء :

ــ يا بابا الله يهديك، هذه تعليمات واضحة من سيادة وزير الداخلية.

ــ و هل أن تعليمات وزير الداخلية تقتضي باش يحلّق le commandant ونيسي بوعلاّم لحيتو؟

ــ لا يا بابا، القانون عام لكل الناس، القايد ونيسو بوعلام أوغيره.

أمسك القايد ونيسي بوعلام بلحيته البيضاء ثم صــاح في الموظف الشابّ :



ــ هل تعرف كم عمر هاته اللحية؟

ــ يا بابا الله يطوّل لنا في عمرك و في لحيتك، نحن مأمورون، و واجبنا تطبيق القانون .

قال القايد ونيسي بو علام غير آبه بما قاله الموظف الشاب:

ــ يا ولدي هاته اللحية عمرها ستين عاما!

ثم وهو يلتفت الي الحضور الذين ازداد عددهم:

ـــ La France و ما أدراك ما La France ما قدرتشي تحلق لحية الكومندان ونيسي بو علاّم

ـــ ...

ــــ لا الجنرال Jacque Massu ولا الجنرال Maurice Challe قدروا باش يحلقو لحية Le commandant ونيسي بو علاّم

ــــ ...

ـــ و اليوم يحبّ وزير داخلية كان فرخ يمشي بلا سروال حين كنت أقود الرجال من جبل الى جبل ومن واد الى واد، باش يحلقها لي؟!

فجأة ظهر ضابط شاب كان يمشي كديك منفوش الريش:

صاح في الموظف :

ــ ما هذا الصّراخ ... مالذي يحدث هنا؟

ــ حضرة الملازم، هذا المواطن يريد الحج بلحية.

نظر الضابط الى ونيسي بوعلام ثم صاح فيه:

ــ هل تريد ان نعمل قانونا خاصا بسيادتك؟

ردّ ونيسي بو علام بصيحة اشد منها:

ــ اعمل لروحك قانون نصراني، أما قانون" أعفوا اللّحى" فقد جاء به الوحي منذ 14 قرنا!

قال الضابط الشاب وهو يدفعه بقلة أدب:

ــ هيا روح... روح يا شيبة النحس، و إلاّ سأرميك في الحبس!

تضاعف غضب الكومندان و نيسي بوعلام، صاح في الضابط الشاب:

ــ كيف تقدر ترميني في الحبس و أنا Le commandant ونيسي

بو علام

ـــ ...

ـــ روح إسأل عليّ باباك كان ما تعرفنيش!

صاح به الضابط الشاب وهو يجره من يده:

ـــ تعال شوف... سأرميك في الحبس و أرمي باباك.

أمام دهشة الجميع، و بسرعة لا تتوقع من شيخ في مثل سنه، أنحنى ونيسي بوعلام قليلا، ثــم أمسك برجلي الضابط، رفعه عاليا ثم ضرب به الأرض!.. ما كاد الملازم المسكين يستقرّ على اليابسة، حتى أستقبله الشيخ بقصفة عكاز وقعت بين لوحتي ظهره، شفعها بأخرى على فخذه، ثلّثها بأخرى على مؤخرته، كل ذلك و الشيخ يصيح بين كل ضربتين :

ــ آنا باش نزور النبيّ ( ضربة)، و إلاّ ستار أكاديمي ( ضربة)، حتى أحلق لحيتي( ضربة)؟!



إنقسم الحضور بين ضاحك لكلام الشيخ، و متشف لما لقيه الضابط المتعجرف، وآسف لما يحدث من نزاع جزائري ـ جزائري. أمّا أنا فقد كان عليّ إدراك طائرتي قبل وصول الميلودراما الجزائرية الى نهايتها.



في مساء نفس اليوم، وحين كلمني صديقي الجزائري للإطمئنان على سلامتي، كان أول ما سألته عنه: الكومندان و نيسي بوعلام.

قال لي صديقي ضاحكا:

ــ كل ما غاب عنك، كانت بعض ضربات أخرى تلقاها الضابط قبل ان تحلّ قوات الأمن لتأخذ الشيخ الى إدارة المطار.

ـــ...

ـــ من حسن حظ الكومندان ونيسي بو علاّم، أن مدير المطار كان يكن له محبة و تقديرا كبيرين، فقد كان الأخير نجل مجاهد جزائري عمل طويلا تحت إمرة الكومندان و نيسي بو علام!

ـــ ...

ـــ المهمّ في القضية، أن الكومندان ونيسي بوعلام قد سافر الى البقاع المقدسة وهو موفور الصحّة... و اللحية أيضا!



أوسلو 29/8/2009

(1) هذا يعني ( فرنسية)

كاملة بدارنه
13-02-2011, 07:04 PM
تسلم يده ونيسي بو علام ... اليد التي اعتادت صفع العدوّ ، وحاربت الظلم ، ورفعت راية الانتصار ، لن ترضخ لأيّ متكبّر،يفعل ويتلو ما لقّن من أوامر سلطويّة ، حتّى ولو كان مواطنا !
لقد أعجبني ما فعله بالضابط؛ لأنّني توقّعت ذلك ، ولم يخيّب هذا البطل ظنّي !
شكرا أستاذنا بلخشين على هذه القصّة الرّائعة الهادفة ، التي تبذر بذور الاحترام لأناس يجب الّا يغيبوا عن الذّاكرة .
تقديري وتحيّتي

خالد الجريوي
13-02-2011, 07:50 PM
ـــ الدولة تركت المواطنين بلا مياه صالحة للشرب وبلا إنارة وبلا أنابيب صرف صحّي و تجري وراء لحية ونيسي بو علاّم!


سؤال مهين لقوانين مضحكة بالفعل ؟؟

سلم يدا العم ونيسي

وسلمت يداك أيها القدير

تقديري

حمادي بلخشين
05-03-2011, 02:00 PM
شكرا اخي خالد على المرور
لك كل الود و التقدير و عظيم الإمتنان

عبدالغني خلف الله
05-03-2011, 02:42 PM
ميلودراما رائعة بالفعل عزيزى حمادى ..أعجبتنى لباقة موظف المطار وصبره على سعادة القومندان ونيسى بوعلام ..ومسكين حضرة الملازم فلو أنه علم بأنه يخاطب أحد رموز استقلال أرض المليون شهيد لما أساء التصرف معه وبهذه المناسبة إليك هذه الطرفة ..كانت لجنة الإنترفيو قد حسمت موقفها بتعيين شخص ما وتعمدت توجيه أصعب الأسئلة للمتقدمين لتلك الوظيفة بيد أن أحدهم كان يجيب على كل سؤال يوجه إليه وعندما يئسوا منه قالو له ما هى أرض المليون شهيد .. قال لهم الجزائر بالطبع ..قالوا له أذكر اسمائهم وعناوينهم ..هذا مع تحياتى .

حمادي بلخشين
12-03-2011, 08:02 AM
استاذي عبد الغني
شرفني مرورك و تعليقك و طرفتك
ذات مرة اضطر السادات الي رمي راكب زائد من طائرته الخاصة كان معه شنودة و شعراوي سال شعراوي كم عدد اهل الصين يا مولانا قال مليار يا ريس فالتفت السادات الي شنودة وقال له يمكن تسميّهم
لك كل الحب و الإكبار

آمال المصري
30-04-2011, 02:23 PM
أن تقوم القيامة ولا تقعد من أجل لحية في الحين الذي تنتشر فيه مظاهر الفساد بشتى صوره لشيء مثير للضحك
نص رائع راقي فكرة وسردا وقد أصاب هدفا
أديبنا الرائع ...
تقديري الشديد لحرفك
ولكم باقة من نور

حمادي بلخشين
01-05-2011, 07:38 PM
الأخت الفاضلة رنيم اسعدني مرورك و تعليقك القيم لك كل الحب و التقدير

سامح محرم السعيد
01-05-2011, 08:02 PM
أستاذ/ حمادي... مساء الياسمين

أنا اعشق هذا السرد القصصي " أبو دم خفيف " والإنسيابية في التعبير.. ولاسيما إذاكان واقعياً..

فالحياة مسرح كبير ونحن أبطال هذا المسرح .. وليس كل أديب يستطيع التعبير والوقوف علي هذا المسرح ..

لكنك أجدتَ صديقي ببراعة,,

تقديري واحترامي وطوق الياسمين

حمادي بلخشين
02-05-2011, 10:55 AM
شكرا اخي الفاضل سامح على مرورك الكريم و توقيعك القيم لك كل الود و خالص التحية ولأدبك كل التقدير

نزار ب. الزين
10-05-2011, 08:28 PM
أخي المبدع حمادي
قرأتها قبل اليوم فأعجبت بها
و قرأتها اليوم فازددت إعجابا
أسلوب ساخر ممتع
وتضمين بارع للنواقص الخدمية الأساسية
و إشادة رائعة بمجاهد لعله الوحيد
الذي لا زال على قيد الحياة
سلم يراعك باسقا و دام نبع عطائك
نزار

أماني عواد
10-05-2011, 10:10 PM
الاستاذ حمادي بلخشين


نتوق دائما لسماع حكايات الشجاعة والبطولة. و ونيسي بو علام صنف من البشر اتمنى ان لا تنقرض

قصة رائعة جدا سلمت يداك

حمادي بلخشين
17-05-2011, 09:50 PM
استادى الفاضل نزار
شرفتني بحضورك الكريم كما شرفني كثيراوضع بعض قصصي المتواضعة ضمن مختارات موقعكم الجميل فلك الشكر في ذا و ذاك
اعزك الله و اسبغ عليك عافيته
تحياتي و تقديري

حمادي بلخشين
17-05-2011, 09:56 PM
الأخت الكريمة أماني
حياك الله
ها نحن نعيش حلما عربيا جميلا متصلا تتراى لنا فيه صور ابطال جدد ينشدون الحرية و الإنعتاق فلا خوف من انقراض امثال الونيسي بوعلام
تقبلي فائق التقدير و خالص التحية

ربيحة الرفاعي
11-12-2012, 09:42 PM
ترى أكان الضابط ليورط نفسه في هذا الموقف لو علم أن ونيسي بوعلام من أبطال ثورة تحرير الجزائر؟

سرد جميل حكى بسخرية حرفه معاني الإباء والشمم، ورسم بإشاراته مشهدا بديعا وحمل رسالة راقية الهدف والأسلوب
أفضل النصوص معفاة من توريط المحكية رغم حماسي للهجات المغاربية الجميلة

شكرا لجميل حرفك أديبنا
وأهلا بك في واحتك

تحاياي

د. سمير العمري
24-12-2013, 09:06 PM
حين تهدر كرامة الكرام على أيدي الصغار والجهلاء ، وحين لا يحفظ قدر من أفنوا عمرهم في سبيل قضية أمة ، وحين يخلع المرء ثوبه وتنزع عنه حيائه ودينه وأخلاقه فإن هذه مؤشرات ضياع وترد.
أنت قاص رائع حمادي تملك روعة القص بأسلوب المدرسة الواقعية الهادفة ، وهذه القصة فيها الكثير من العبر المهمة.

تقديري

نداء غريب صبري
18-03-2014, 02:53 PM
قصة جميلة تحكي عن البطولة والفروسية في زمن لم يعد لها فيه وجود
(إلا من رحم ربي)

شكرا لك اخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
01-09-2019, 06:35 PM
سلمت يد ذلك المجاهد الكبير ( ونيسي بو علام) وسلم فكره ورأيه
الذي لم يجعله يرضخ لقوانين جائرة.
قصة مدهشة بجمال حوارها، ودقة تصويرها، وعميق مدلولها
ساخرة، ماتعة، محبوكة وهادفة
سلمت يداك.
:nj::sb::sb::010: