المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صنم من تراب



عبد الرحيم صادقي
01-03-2011, 09:47 PM
سكان جزيرة قازان يعبدون صنما من تراب. يسجدون له سجدتين عند شروق الشمس، ويسبحون بحمده سائر اليوم. وهم يقيمون موسما للصنم كل عام، وتلك مِلَّتُهم. لكن سكان الجزيرة كانوا يجهلون أن الصنم من تراب. ذلك أن بلدة رومية هي من يصنع الصنم ويُزخرِفه بأروع النقوش، ثم يُطلَى الصنم بأبهى الصِّبَاغ، وتُلقَى عليه بُردة مرصعة بالذهب واللجين، ثم يوضع فوق رأس الصنم إكليل من الماس.
وكان أحد الرعية إذا أقام صلواته للصنم يضطر لخفض بصره من شدة النور المنبعث من التاج. أما إذا أصَرَّ أحدُهم على التحديق في الصنم فسرعان ما يغشاه النور، ثم ينقلب إليه بصره خاسئا وهو حسير. وللصنم حراس غلاظ شداد، حتى إذا سوَّلَت لأحدهم نفسُه الاقتراب منه وَكَزوهُ وكزةً أَلْزَمَتْه مكانه. وأنى له الدُّنُوُّ منه وبينه والصنم حُجَّاب وكَتَبة، ومِلْء القصر حيث الصنم عبيد وأقيان وبأيديهم أسِنَّةٌ وأسل؟
لكن أحد المَكَرَة تَنَبَّهَ وهو يؤدي صلاته على أن النور لا ينبعث من التاج، وإنما هو انعكاسٌ لشعاع شمس الشروق المتسرب مِن ثُقبٍ صُمِّمَ بدقة بالغة، وبراعة وتَفَنُّنٍ على أحد جُدُر القصر. ولذلكم ليس في دين القوم إلا صلاة الشروق. قلَّبَ الماكرُ الأمرَ، وفَكَّرَ في ما عساهُ يُدْنيه من الصنم فيتعرَّف حقيقتَه. ثم فكَّرَ وقَدَّر، فوقع على حيلة لم تخطر بِبالِ إنسِي ولا جان. إنه البَيْلَسان، نَعَم البيلسان. فالبيلسان سائل لم يَشُمَّهُ أحدٌ إلا أخذته سِنَة.
وفي اليوم الموالي، توجَّهَ الماكرُ تِلقاءَ القصر وقد سدَّ مِنخَرَه بقطن فلا يكاد يُرى، وعَزَم على ألا يتنفس طيلة مكثه بين يدي الصنم إلا عن طريق فمه. وبينا هو في سجدته فتح قارورة البيلسان، فإذا بالحُجَّاب والعبيد وقد أخذهم النعاسُ عند أول نَشَق. دنا العابد من الصنم على عجل ورفع بردته، وتلمسه فإذا به من حجر. ثم حفر عند وَرِكِه الأيسر، وأخذ حَصَيَاتٍ وطار مع الريح.
وفي صباح الغد كان العابد الآبق لا يلتقي أحدا من أهل الجزيرة إلا حدثه بما كان من أمره، وأرَاهُ ما معه من حصيات، شهادةَ حقٍّ أن الرَّبَّ المعبود ليس إلا صنما من طين. ثم إن الناس تجرؤوا على فعل ما فعله الآبق، وكان مما جرَّأهم على ذلك أن سدَنَة المعبد وحراس القصر وحُجَّابَه، كان لا يبوح أحدُهم بما يَجِدُهُ من غَفْوٍ دون أدنى مدافعة، خشيةَ أن تلحقَهُ لعنةُ الرب. ولم يكُن لِيُحَدِّثَ الآخرين بذلك مخافة أن ينكشف أمرُ نعاسه في حضرة الرب، فتسرع بالخبر عيون القصر تَزَلُّفاً وقُربى. وللقصر عيونه التي لا تنام. فلقد كان يظن كل حارس أنَّ غَفْوَتَهُ أمرٌ يحدث له خاصة. وعادةُ الحراس التكتم، ولا ثقة لبعضهم ببعض.
استمر الناس يدخلون على الرب فرادى حتى لا ينكشف أمرهم، ويقومون بما قام به أول عبد آبق. وفي الليل وبينا هم في سمرهم يتنادرون وقد اتخذوا ربهم هُزُؤاً، كان الآبق يَسْلُو بما معه من حصيات الوَرِك الأيسر للرب المعبود. دام أهل الجزيرة على هذه الحال قرابة عام، فلَم يبق في الجزيرة أحد إلا وقد علم أن الرب صنم من تراب. ولما انتشر الخبر اليقين، هوى الصنم فأصبح هشيما تذروه الرياح.
:sm:

نادية بوغرارة
01-03-2011, 10:45 PM
كثيرة هي الأوهام التي يكفي نبشها لكي تظهر الحقيقة ،،،،

شكرا لك على هذه المميزة قصا و رمزا .

تقبل مروري .

:os:

عبدالغني خلف الله
02-03-2011, 06:33 AM
أستاذ عبدالرحيم ..السلام عليكم ورحمة الله تعالى ورحمة الله تعالى وبركاته ..
هذا عصر الأصنام الترابية عزيزنا الفاضل ..صنم اسمه الذهب كثيرون يقدسونه لحد العباده ..صنم اسمه الزعيم ..أصنام ثقافية جثمت فوق صدور الأجيال الطالعة من الكتاب الشباب ..لكن النقاد يسبحون صباح مساء بهم ويحرقون البخور فى محراب كل واحد منها ..لكن كل هذه الأصنام ستصبح خارج إطار الحاضر بعزيمة وإصرار القادمين الجدد ..شكراً لهذا النص الماتع .

كاملة بدارنه
02-03-2011, 03:28 PM
كلّ باطل إلى زوال ، وكلّ صنم إلى تحطيم
شكرا لك أستاذنا على هذا النّص المتعدّد الدّلالات والتّأويلات ... فلكَ أسلوب في السّرد جذّاب وبحبكة قويّة ، ولغة منتقاة
استمتع كثيرا بقراءة نصوصك
دام لك نهر الإبداع دفّاقا
تقديري وتحيّتي

عبد الرحيم صادقي
02-03-2011, 07:10 PM
ولا بد من سقوط الأوهام وهماً وهما، فإن الحقيقة تأبى أن تتعايش مع الوهم. الأخت نادية شكرا على مرورك. تحياتي.

عبد الرحيم صادقي
02-03-2011, 07:29 PM
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته. الأخ الفاضل عبد الغني، هو عصر الأصنام حقا، تتعدد الأصنام والوهم واحد. لكن دوام الحال من المحال. لك مني التحية والتقدير.

عبد الرحيم صادقي
02-03-2011, 07:35 PM
الأخت كاملة، إن كان في تلكم النصوص ما يمتع فذلكم فضل من الله تعالى، نشكره ونحمده عليه. تقبلي مني التحية. أسعدني مرورك.

خالد الجريوي
02-03-2011, 08:00 PM
رمزيه رائعه
وسرد شيق
بارك الله في هذا اليراع
وذاك الفكر النير

وتقديري

عبد الرحيم صادقي
02-03-2011, 08:17 PM
وفيك بارك الله الأخ خالد، شكرا على الاهتمام. تحياتي.

زهراء المقدسية
02-03-2011, 10:42 PM
وكل الأصنام إلى زوال

مهما طال عليها الأمد

والخوف كل الخوف على من أدمن الحياة

مع الأصنام...

قصة رمزية رائعة أستاذ عبد الرحيم

تقديري الكبير

عبد الرحيم صادقي
02-03-2011, 11:32 PM
وكل الأصنام إلى زوال

مهما طال عليها الأمد


ما في ذلك ذرة شك الأخت زهراء، وإنما هي أيام تَمِيز الخبيث من الطيب. كل التحية والتقدير.

زينب وليد
03-03-2011, 05:02 AM
رائع ... بارك الله فيك

عبد الرحيم صادقي
03-03-2011, 08:00 PM
الأخت زينب، وفيك بارك الله. سعدت بمرورك.

ربيحة الرفاعي
09-03-2011, 02:34 PM
لقد تكشف سر حرفة أهل رومية
وما عاد لاجتهادهم في زخرفة أصنامهم تلك من جدوى ولا اثر
ولا بقي لأي من أصنامهم تلك مهابة
وها هي تهوي الواحد تلو الآخر، تسقط عنها البرد المرصعة، وتنتزع عن رؤوسها التيجان لتحمل هشيمها الرياح إلى حيث شاءت، إلا رومية ..
فهي تتنكر للأصنام حال سقوطها

نص بديع ورمزية عالية التكثيف قوية الدلالات
تسحرنا نصوصك أيها الكريم

دمت بألق

عبد الرحيم صادقي
09-03-2011, 03:43 PM
الأخت ربيحة، انكشف زيف الأصنام، ونسأل الله تعالى أن يكشف زيف رومية صانعة الأصنام. سعدت بمرورك الطيب، تقبلي مني التحية.

أماني عواد
09-03-2011, 10:33 PM
الاستاذ عبد الرحمن صادقي

قصة رائعة جدا تهاوى بها الصنم تماما كما تتهاوى بعض المثل التي نبالغ في تغليفها
والامر هنا يحتاج وقفة جادة هل الغاية تبرر الوسيلة؟
فقد جمع هذا الصنم الترابي الناس للصلاة وهي غاية رائعة فهل ستبرر هذه الغاية وسيلة الخداع ؟
ويبقى السؤال اي الحالين كان اصلح؟
قبل الكشف ام بعده؟

نحتاج كثيرا للدراسة الميدانية عن ما آلت اليه الحال بعد كشف مثل هده الحقائق
ما خطر بذهني امام تلك القصة الرائعة بعض قصص الاطفال التي كان الكبار يلقونها على مسامعنا بقصد تحسين سلوكنا .
ربما كانت طريقة وقائية مؤقتة خدمتنا فترة بعد ذلك فقدت فاعليتها تماما كعمل الامصال ذات وباء


دمت بود

عبد الرحيم صادقي
10-03-2011, 12:08 AM
الأوهام كثيرة في حياتنا، ولقد ابتلينا بتقديس الأشخاص أيما ابتلاء، لكن لا يصح إلا الصحيح. الأخت أماني، سعدت بمرورك. لك مني التحية.

د. سمير العمري
23-11-2012, 08:32 PM
أظنها إلهاما من تشاقط أصنام الأمة واحدا فواحدا ولكن الأصنام ليست مجرد زعامة بل هناك الكثير من الأصنام التي ينصبها كل شخص يعبدها ولا يؤمن إلا أنه على الحق المبين حتى يتبين له أنه ليس أكثر من تراب تذروه الرياح.

الأسلوب جاء بمباشرة واضحة ولكن بأداء ذكي ولغة راقية.

دمت بخير وعافية!


تحياتي

نداء غريب صبري
10-01-2013, 07:51 AM
أصنام تحكمنا
وأصنام نؤمن بها ونعتنقها
وأصنام نعجب بها ونقلدها
وكل الأصنام ستسقط لأن الناس استيقظوا

قصة رائعة

شكرا لك اخي

بوركت

آمال المصري
11-05-2013, 08:02 AM
كثيرة هي الأصنام التي نحني لها هاماتنا, والأقنعة التي تعتلي وجوه من نقتدي بهم
قرأت النص يرمي للحكام العرب الذين خار جبروتهم أمام صرخة حق تبعتها الثورات العربية التي أطاحت برؤوس الفساد
النص رائع برمزيته وفكرته وسرده الماتع
بوركت أديبنا واليراع المبدعة
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

عبد الرحيم صادقي
17-05-2013, 01:03 AM
أظنها إلهاما من تساقط أصنام الأمة واحدا فواحدا ولكن الأصنام ليست مجرد زعامة بل هناك الكثير من الأصنام التي ينصبها كل شخص يعبدها ولا يؤمن إلا أنه على الحق المبين حتى يتبين له أنه ليس أكثر من تراب تذروه الرياح.


هو كما قلت أيها الفاضل العمري
كم من الأصنام التي تحتاج إلى هدم
بعضها في ذواتنا، وبعض آخر حوالينا.
دمت بخير وعافية

عبد الرحيم صادقي
17-05-2013, 01:05 AM
أصنام تحكمنا
وأصنام نؤمن بها ونعتنقها
وأصنام نعجب بها ونقلدها
وكل الأصنام ستسقط لأن الناس استيقظوا


وفيك بارك الله نداء
تحياتي وتقديري
دامت لك العافية

عبد الرحيم صادقي
17-05-2013, 01:22 AM
كثيرة هي الأصنام التي نحني لها هاماتنا, والأقنعة التي تعتلي وجوه من نقتدي بهم

نحتاج عملا دؤوبا وجهدا مضاعفا لنطيح بالأصنام التي تحفنا
حتى إنها لتكاد تحجب الأفق
تحياتي وتقديري
ودمت في رعاية الله أختي آمال

ناديه محمد الجابي
28-08-2017, 06:27 PM
يلبسواالكفر بلباس الدين، ويغلفوا الباطل بغلاف الحق
ولكن كل الأصنام تنهار وتتفكك بمجرد تعرضها للكشف بنور الحق
فتنهار كل الأكاذيب وتنفضح.
قصة مكثفة المعاني ورمزية رائعة وسرد شيق
دام هذا الإبداع الزاخر بالحكمة والبهاء.
:hat::hat: